الأخبار الطوال
الخوارج
قالوا: وفي سنه ثمانين تفاقم امر الازارقه الخوارج، وانما سموا ازارقه
برئيسهم نافع بن الأزرق.
وكان أول خروجهم في اربعين رجلا، وفيهم من عظمائهم نافع بن الأزرق،
وعطية بن الأسود، وعبد الله بن صبار، وعبد الله بن اباض، وحنظله بن
بيهس، وعبيد الله بن ماحوز، وذلك في سلطان يزيد.
وعلى البصره يومئذ عبيد الله بن زياد، فوجه اليهم عبيد الله اسلم بن
ربيعه في الفى فارس، فلحقهم بقرية من الاهواز تدعى آسك [1] مما يلى
فارس، فواقعهم، فقتلت الخوارج من اصحاب ابن ربيعه خمسين رجلا، فانهزم
اسلم، فأنشأ رجل من الخوارج يقول:
األفا مؤمن منكم زعمتم ... ويهزمكم بأسك اربعونا؟
كذبتم، ليس ذاك كما زعمتم ... ولكن الخوارج مؤمنونا
هم الفئة القليله قد علمتم ... على الفئة الكثيره ينصرونا
أطعتم امر جبار عنيد ... وما من طاعه للظالمينا
__________
[1] بلد من نواحي الاهواز، قرب ارجان.
(1/269)
فاغتاظ ابن زياد من ذلك، فكان لا يدع
بالبصرة أحدا ممن يتهم براى الخوارج الا قتله، حتى قتل بالتهمة والظنه
تسعمائة رجل.
ولم يزل يتفاقم امر الخوارج، ويتحلب اليهم من كان على رأيهم وهواهم من
اهل البصره حتى كثروا بعد موت يزيد، وهرب عبيد الله بن زياد من العراق.
وخاف اهل البصره الخوارج على انفسهم، ولم يكن يومئذ عليهم سلطان،
فاجتمعوا على مسلم بن عبيس القرشي، ووجهوا معه خمسه آلاف فارس من ابطال
البصره، فسار اليهم، فلحقهم بمكان يسمى الدولاب [1] فالتقوا واقتتلوا،
وصبر بعضهم لبعض، حتى تكسرت الرماح وتقطعت السيوف، وصاروا الى
المكادمة، فقتل مسلم بن عبيس، وانهزم اصحابه.
فقال رجل من الأزد:
قد رمينا العدو إذ عظم الخطب ... بذى الجود مسلم بن عبيس
فانظروا غير مسلم بن عبيس ... فاطلبوه من حيث اين وليس [2]
لو رموا بالمهلب بن ابى صفره ... كانوا له كاكله حيس [3]
وكان المهلب يومئذ بخراسان على ولايتها.
فخاف اهل البصره حين قتل مسلم بن عبيس خوفا شديدا من الخوارج، فاختاروا
عثمان بن معمر القرشي، وانتدب معه زهاء عشره آلاف رجل من ابطالهم، فسار
بهم عثمان في طلب الخوارج، فلحقهم بفارس، فاقتتلوا، فقتل عثمان، وانهزم
اصحابه.
فكتب اهل البصره الى عبد الله بن الزبير يعلمونه انه لا امام لهم،
ويسالونه ان يوجه اليهم رجلا من قبله يتولى الأمر.
__________
[1] من قرى الري.
[2] اى من حيث هو ولا هو.
[3] الحيس تمر يخلط بسمن ومخيض غنم، فيعجن شديدا، ثم يندر منه نواه.
(1/270)
فوجه اليهم الحارث بن عبد الله بن ابى
ربيعه المخزومي، فقدم البصره، وتولى الأمر بها، فدعا وجوه اهل البصره،
فاستشارهم في رجل يوليه حرب الخوارج، فكلهم قالوا: عليك بالمهلب بن ابى
صفره.
وقام رجل من اهل البصره يعرف بابن عراده، فانشده:
مضى ابن عبيس مسلم لسبيله ... فقام لها الشيخ الحجازي عثمان
فارعد من قبل اللقاء ابن معمر ... وابرق، والبرق الحجازي خوان
ولم ينك عثمان جناح بعوضة ... واضحى عدو الدين مثل الذى كانوا
وليس لها الا المهلب انه ... مليء بأمر الحرب، شيخ له شان
إذا قيل من يحمى العراقين أومأت ... اليه معد بالاكف، وقحطان
فذاك امرؤ ان يلقهم يطف نارهم ... وليس لها الا المهلب انسان
حرب المهلب مع الخوارج
فقال الأحنف بن قيس للحارث بن عبد الله: ايها الأمير، اكتب الى امير
المؤمنين عبد الله بن الزبير، وسله ان يكتب الى المهلب بان يخلف على
خراسان رجلا، ويسير الى الخوارج، فيتولى محاربتهم. فكتب.
فلما انتهى كتابه الى عبد الله بن الزبير كتب الى المهلب:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله امير المؤمنين الى المهلب بن ابى
صفره، اما بعد، فان الحارث بن عبد الله كتب الى يخبرني ان الازارقه
المارقه قد سعرت نارها، وتفاقم امرها، فرايت ان اوليك قتالهم لما رجوت
من قيامك، فتكفى اهل مصرك شرهم، وتؤمن روعتهم، فخلف بخراسان من يقوم
مقامك من اهل بيتك، وسر حتى توافى البصره، فتستعد منها بافضل عدتك،
وتخرج اليهم، فانى أرجو ان ينصرك الله عليهم، والسلام.
فلما وصل كتابه الى المهلب خلف على خراسان.
(1/271)
واقبل حتى وافى البصره، فصعد على المنبر،
وكان نزر الكلام وجيزه، فقال:
ايها الناس، انه قد غشيكم عدو جاحد، يسفك دماءكم، وينتهب أموالكم، فان
أعطيتموني خصالا اسالكموها قمت لكم بحربهم، واستعنت بالله عليهم، والا
كنت كواحد منكم لمن تجتمعون عليه في امركم.
قالوا: وما الذي تريد؟
قال: انتخب منكم أوساطكم، لا الغنى المثقل، ولا السبروت [1] المخف،
وعلى ان لي ما غلبت عليه من الارض، والا اخالف فيما ادبر من رأيي في
حربهم، واترك ورأيي الذى أراه، وتدبيرى الذى ادبره.
فناداه الناس: لك ذلك، وقد رضينا به.
فنزل من المنبر، واتى منزله، وامر بديوان الجند، فاحضر، فانتخب من
ابطال اهل البصره عشرين الف رجل، فيهم من الأزد ثمانية آلاف رجل،
وبقيتهم من سائر العرب، وولى ابنه المغيره مقدمته في ثلاثة آلاف رجل.
وسار حتى اتى الخوارج، وهم بنهر تستر [2] ، فواقعهم، فهزمهم، حتى بلغوا
الاهواز، فقال زياد الأعجم في ذلك:
جزى الله خيرا، والجزاء بكفه ... أخا الأزد عنا ما أذب واحربا
ولما رأينا الأمر قد جد جده ... والا توارى دوننا الشمس كوكبا
دعونا أبا غسان، فاستك سمعه ... واحنف طأطأ راسه، وتهيبا
وكان ابن منجوف لكل عظيمة ... فقصر عنها حبله وتذبذبا
فلما رأينا القوم قد كل حدهم ... لدى حربهم فيها دعونا المهلبا
__________
[1] الفقير.
[2] اعظم انهار خوزستان، بنى عليه سابور الملك شاذروان بباب تستر، حتى
ارتفع ماؤه الى المدينة، لان تستر على مكان مرتفع من الارض، وهذا
الشاذروان كان من عجائب الابنيه، طوله ميل، مبنى بالحجارة المحكمه،
والصخر واعمده الحديد.
(1/272)
واقام المهلب بالجسر بعد ان هزم الخوارج
اربعين يوما، ثم ارتحل سائرا في آثارهم.
فبلغ ذلك نافع بن الأزرق، فأقام بالاهواز حتى وافاه المهلب، فواقعهم
بمكان يسمى نسلى [1] ، فقاتلهم يوما الى الليل، واصابته ضربه في وجهه،
أغمي عليه منها، فقال الناس قتل الأمير، فازدادوا لذلك حنقا وجدا،
وقتلوا من الخوارج بشرا كثيرا، وقتل رئيسهم نافع بن الأزرق، وانهزمت
الخوارج نحو فارس.
وبلغ اهل البصره ان المهلب قتل، فرج المصر باهله، وهم أميرهم الحارث
ابن ابى ربيعه ان يهرب، فكتب اليه رجل من بنى يشكر:
أيا حار، يا ابن السادة الصيد، هب لنا ... مقامك، لا ترحل ولم يأتك
الخبر
فان كان اودى بالمهلب يومه ... فقد كسفت في أرضنا الشمس والقمر
وما لك من بعد المهلب عرجه ... وما لك بالمصرين سمع ولا بصر
فدونك، فالحق بالحجاز، ولا تقم ... ببلدتنا، ان المقام بها خطر
وان كان حيا كنت بالمصر آمنا ... وكان بقاء المرء فينا هو الظفر
وقال رجل من بنى سعد:
الا كل ما ياتى من الأمر هين ... علينا يسير عند فقد المهلب
فان يك قد اودى فما نحن بعده ... بامنع من شاء عجاف لاذؤب [2]
نعوذ بمن ارسى ثبيرا مكانه ... ومرسى حراء والقديد وكبكب [3]
من الخبر الملقى على الحور حذرها ... ويشجى به ما بين بصرى ويثرب
__________
[1] موضع بالاهواز قرب مناذر.
[2] جمع ذئب.
[3] الكبكب كجعفر جبل بعرفات خلف ظهر الامام إذا وقف.
(1/273)
فاقبل البشير الى اهل البصره بسلامه
المهلب، فاستبشروا بذلك، واطمأنوا، واقام أميرها بعد ان هم بالهرب.
فقال رجل من بنى ضبة:
ان ربا انجى المهلب ذا ... الطول لأهل ان تحمدوه كثيرا
لا يزال المهلب بن ابى صفره ... ما عاش بالعراق أميرا
فإذا مات فالرجال نساء ... ما يساوى من بعده قطميرا [1]
قد أمنا بك العدو على المصر ... ووقرت منبرا وسريرا
وقال رجل من الخوارج في قتل نافع بن الأزرق:
شمت المهلب، والحوادث جمة ... والشامتون بنافع بن الأزرق
ان مات غير مداهن في دينه ... ومتى يمر بذكر نار يصعق
والموت امر لا محاله واقع ... من لا يصبحه نهارا يطرق
فلئن منينا بالمهلب انه ... لأخو الحروب وليث اهل المشرق
ولعله يشجى بنا ولعلنا ... نشجى به في كل ما قد نلتقي
بالسمر نختطف النفوس ذوابلا ... وبكل ابيض صارم ذي رونق
فيذيقنا في حربنا، ونذيقه ... كل مقالته لصاحبه ذق
وبلغ عبد الله بن الزبير ما كان من عزم عامله بالبصرة على الهرب،
فعزله، وولى أخاه مصعبا، فسار مصعب حتى قدمها، وتولى امر جميع
العراقين، وفارس والاهواز.
__________
[1] القطمير شق النواة او القشرة التي فيها، او القشره الرقيقه بين
النواه والتمرة.
(1/274)
ولما قتل نافع بن الأزرق اجتمعت الخوارج،
فولوا على انفسهم عبد الله ابن ماحور [1] ، وكان من نساكهم.
وبلغ ذلك المهلب، فسار من الاهواز في طلبهم حتى وافاهم بمدينه سابور من
ارض فارس، فالتقوا، فاقتتلوا، وانهزمت الخوارج في آخر النهار حتى
انتهوا الى مكان يدعى كركان [2] واتبعهم المهلب، فوافاهم، فالتقوا به
في يوم شديد المطر، فقاتلهم، فهزمهم، فأخذوا نحو كرمان [3] فلم يزل
المهلب يسير في طلبهم من بلد الى بلد، ويواقعهم وقعه بعد وقعه طول ما
ملك عبد الله بن الزبير الى مقتله، وخلوص الأمر لعبد الملك بن مروان.
فلما استدف الأمر لعبد الملك، وولى الحجاج العراقين استبطأ المهلب في
استئصال الخوارج، وظن انه يهوى مطاولتهم، فبعث اليه عبد الأعلى بن عبد
الله العامري، وعبد الرحمن بن سبره، وقال لهما احملاه على مناجزة القوم
وترك مطاولتهم.
فقدما عليه، فأخبراه بما بعثا له، فقال لهما:
أقيما حتى تعاينا ما نحن فيه، فان الحجاج أتاه السماع فقبله، وأتاه
العيان فرده، وقد حملني على خلاف الرأي، وزعم انه الشاهد وانا الغائب.
ثم سار نحو الخوارج فلحقهم بأداني ارض كرمان، فواقعهم، وامامه ابنه
المفضل، فقتل رئيس الخوارج عبد الله بن ماحور، وانهزموا حتى توسطوا ارض
كرمان، وولوا على انفسهم رجلا من نساكهم، يسمى قطري بن الفجاءه.
ثم ان المهلب انصرف الى بلد سابور، فوافاهم يوم النحر، فخرج بالناس الى
المصلى.
__________
[1] في الأصل: ماحوز.
[2] مدينه مشهوره بين طبرستان وخراسان.
[3] ولايه مشهوره، وناحيه معمورة، ذات بلاد وقرى، ومدن واسعه، وهي بلاد
كثيره النخل والزرع، ومن مدنها المشهوره جيرفت.
(1/275)
فبينا هو يخطب الناس على المنبر، وقد صلى
بهم إذ اقبلت الخوارج، فقال: سبحان الله، افي مثل هذا اليوم يأتوننا؟
ما ابغض الى المحاربة فيه، ولكن الله تعالى يقول: الشَّهْرُ الْحَرامُ
بِالشَّهْرِ الْحَرامِ، وَالْحُرُماتُ قِصاصٌ، فَمَنِ اعْتَدى
عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ [1] ثم نزل عن المنبر، ونادى في
اصحابه، فركبوا واستلاموا، واستقبلوا الخوارج، فحملت عليهم الخوارج،
وامامهم عظيم منهم يسمى عمرو القنا وكان من فرسانهم، وهو يرتجز:
نحن صبحناكم غداه النحر ... بالخيل امثال الوشيج تسرى [2]
يقدمها عمرو القنا في الفجر ... الى اناس لهجوا بالكفر
اليوم اقضى في العدو نذرى
ثم اقتتلوا، وصبر بعضهم لبعض، وكثرت بينهم القتلى، فلم يزل كل فريق
منهما على مكانه حتى حال بينهم الليل، وانحازت الخوارج الى كازرون [3]
.
وسار اليهم المهلب فواقعهم بكازرون، فاسرع المهلب في الخوارج، فتفرقوا
[4] في تلك الوقعه، وصاروا سياره، وخرجوا الى تخوم اصطخر، واتبعهم
المهلب.
فتواقف الفريقان، وحمل بعضهم على بعض، وامام الخوارج رجل يرتجز:
حتى متى يتبعنا المهلب ... ليس لنا في الارض منه مهرب
ولا السماء، اين اين المذهب؟
__________
[1] سوره البقره الآية: 194.
[2] الوشيج: شجر الرماح.
[3] مدينه بفارس بين البحر وشيراز، ويقال انها هي دمياط الأعاجم، وكلها
قصور وبساتين ممتدة عن يمين وشمال.
[4] في الأصل: فرقوا.
(1/276)
فلما سمع قطري ذلك بكى، ووطن نفسه على
الموت، وباشر الحرب بنفسه، وهو يرتجز:
حتى متى تخطئنى الشهاده ... والموت في أعناقنا قلاده
ليس الفرار في الوغى بعاده ... يا رب زدني في التقى عباده
وفي الحياه بعدها زهاده
فاقتتلوا يومهم حتى حال بينهم الليل.
ومضى قطري في اصحابه نحو جيرفت [1] ، وهم بالهرب الى كرمان، فقال رجل
من اصحابه:
أيا قطري الخير ان كنت هاربا ... ستلبسنا عارا وأنت مهاجر
إذا قيل قد جاء المهلب اسلمت ... له شفتاك الفم، والقلب طائر
فحتى متى هذا الفرار مخافة ... وأنت ولى، والمهلب كافر
ولما رات الخوارج نكول قطري عن الحرب، وما هم به من الفرار خلعوه عنهم،
وولوا عبد ربه وكان من نساكهم، فسار بهم الى قومس [2] ، فأقام بها.
المهلب والحجاج
وان الحجاج كتب الى المهلب:
اما بعد، فقد طاولت القوم وطاولوك، حتى ضروا بك ومرنوا على حربك،
ولعمري لو لم تطاولهم لا نحسم الداء وانفصم القرن، وما أنت والقوم
سواء، ان
__________
[1] مدينه بكرمان، من اعيان مدنها وأنزهها، بها نخل وفواكه، قال سهيل
بن عدى:
ولم تر عيني مثل يوم رايته ... بجيرفت من كرمان اوهى واحقرا
[2] تعريب كومس: كورة كبيرة واسعة، بها مدن وقرى ومزارع في ذيل جبل
طبرستان، قصبتها دامغان، بين الري ونيسابور، ومن مدنها بسطام.
(1/277)
خلفك رجالا واموالا، والقوم لا رجال عندهم
ولا اموال، ولن يدركك الوجيف [1] بالدبيب، ولا الجد بالتعذير، وقد بعثت
إليك عبيد الله بن موهب، ليأخذك بمناجزه القوم وترك مطاولتهم، والسلام.
فلما قدم عبيد الله بن موهب على المهلب بكتاب الحجاج كتب اليه في
جوابه:
اما بعد، فانه أتاني من قبلك رجلان، لم أعطهما على الصدق ثمنا، ولم
احتج مع العيان الى التقدير، ولم يكذبا فيما انباك به من امرى وامر
عدوى، والحرب لا يدركها الا المكيث، ولا بد لها من فرجه يستريح فيها
الغالب، ويحتال فيها الغالب، ويحتال فيها المغلوب، فاما ان انساهم
وينسونى فهيهات من ذلك، والقوم سدى، فان طمعوا أقاموا، وان يئسوا
هربوا، فعلى في مقامهم القتال والحرب، وفي هربهم الجد والطلب، وانا إذا
طاولتهم شاركتهم في رأيهم، وإذا عاجلتهم شركونى في رأيي، فان خليتني
ورأيي فذاك داء محسوم وقرن مفصوم، وان عجلتنى لم اطعك ولم اعصك، وكان
وجهى إليك باذن منك، وانا اعوذ بالله من سخط الأمراء ومقت الأئمة،
والسلام.
فلما قرأ الحجاج كتابه كتب الى المهلب: انى قد رددت الرأي إليك، فدبر
ما ترى، واعمل ما تريد.
فلما أتاه كتاب الحجاج بذلك نشط لطلب الخوارج.
وسار في طلبهم الى ارض قومس، فهربوا منه، فاتوا جيرفت وتحصنوا في مدينه
هناك، فخرج خلفهم، وحاصرهم في تلك المدينة حتى أكلوا خيلهم.
وامر المهلب ابنه يزيد ان يقيم عليهم أياما، ثم يخلى لهم عن الباب،
فإذا خرجوا واصحروا اتبعهم.
وتنحى المهلب فعسكر على خمسه فراسخ، واقام عليهم يزيد أياما، ثم خلى
لهم عن الباب، فخرجوا، واتبعهم المهلب.
__________
[1] الوجيف: ضرب من سير الإبل والخيل.
(1/278)
فسار في طلبهم يومين حتى لحقهم، فوقفوا له،
فاقتتلوا يوما كله، ثم غدوا في اليوم الثانى على الحرب، فناداهم عبد
ربه: يا معشر المهاجرين، روحوا بنا الى الجنه، فان القوم رائحون الى
النار.
فاطعنوا بالرماح حتى تكسرت، واضطربوا بالسيوف حتى تقطعت، ثم صاروا الى
المعانقه، فترجل المهلب في حماته، وحمل عليهم، وهو يتلو قول الله عز
وجل: وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ، وَيَكُونَ الدِّينُ
لِلَّهِ [1] .
فلم يزالوا يقتتلون حتى حال بينهم الليل، ثم غدوا على الحرب، وقد كسرت
الخوارج جفون سيوفهم، وحلقوا رءوسهم، فاقتتلوا، فقتل عبد ربه، وجميع
ابطاله، ولم يبق الا ضعفاؤهم، فدخلوا في عسكر المهلب، وانضم كل رجل الى
عشيرته من اصحاب المهلب.
فنزل المهلب عن فرسه، وقال الحمد لله الذى ردنا الى الأمن، وكفانا
مئونه الحرب، وكفى امر هذا العدو.
ووجه بشر بن مالك الحرسى الى الحجاج يبشره بالفتح، وكتب معه كتاب
الظفر.
فلما وصل الكتاب الى الحجاج وجه به الى عبد الملك، وقام بشر بن مالك،
فأنشأ يقول:
قد حسمنا داء الازارقه الدهر ... ، فاضحوا طرا، كال ثمود
بطعان الكماة في ثغر القوم ... وضرب يشيب راس الوليد
كلما شئت راعنى قطري ... فوق عبل الشوى أقب عنود [2] .
معلما يضرب الكتيبة بالسيف ... ، وعمرو «كالنار ذاتِ الْوَقُودِ»
__________
[1] سوره البقره الآية: 193.
[2] عبل الشورى اى قوى اليدين والرجلين والفرس الأقب هو الضامر البطن
والعنود من الإبل والدواب المتقدمة في السير
(1/279)
وكتب الحجاج الى المهلب يأمره بالقدوم
عليه.
فسار حتى قدم على الحجاج، فاستقبله الحجاج، واظهر بره وإكرامه، وامر له
بالجوائز والصلات، وامر لولده وكانوا سبعه المغيره، وحبيب، ويزيد،
والمفضل، ومدرك، ومحمد، وعبد الملك، وعبد الله، واكرم اصحاب المهلب.
قتل قطري بن الفجاءه
ولحق قطري بالري، فوجه الحجاج سفيان بن الأبرد حتى اتى الري، وعليها
اسحق بن محمد بن الاشعث، فركب معه في مائه فارس من جنده، وسارا حتى
لحقاه، وهو في مائه فارس بتخوم طبرستان، فنزل عن دابته، ونام متوسدا
يده، ثم استيقظ، وقال لعلج [1] . من أهلها: ايتنى بشربه من ماء. فأتاه
بالماء، ولحقه القوم، فقتلوه قبل ان يشرب ذلك الماء، واحتز راسه، واخذه
سفيان بن الأبرد، وانصرف الى الحجاج، فرمى بالراس بين يديه، فوجه
الحجاج بالراس الى عبد الملك.
ولايه خراسان
واقام المهلب بعد انصرافه بالبصرة في منزله حتى وافاه عهده من عند عبد
الملك على خراسان، فسار إليها فمكث عليها خمس سنين، ثم مات.
فجعل عبد الملك امر خراسان الى الحجاج، فاقر الحجاج عليها يزيد ابن
المهلب.
وكان يزيد اجمل ولد المهلب جمالا واكملهم عقلا، وافضلهم رايا، واذربهم
لسانا، وكان المهلب استخلفه عليها عند وفاته، فمكث عليها أعواما، ثم
عزله الحجاج، واستعمل عليها قتيبة بن مسلم، فافتتح كل ما وراء النهر،
ولم يزل هناك الى ان هاج به اصحابه، فقتلوه.
__________
[1] العلج: الرجل الشديد الغليظ، وقيل هو من خرجت لحيته، واشتد بدنه،
او هو الرجل من كفار العجم
(1/280)
وافضى الملك بعد ذلك الى الوليد بن عبد
الملك، ثم الى سليمان بن عبد الملك، فولى سليمان على العراق خالد بن
عبد الله القسرى، فولى خالد أخاه اسد بن عبد الله خراسان، فلم يزل بها
حتى ظهر فيها دعاه الامام محمد بن على بن عبد الله بن عباس.
العراق بعد موت يزيد
قالوا، ومات يزيد بن معاويه، وعبيد الله بن زياد بالبصرة، فكتب اليه
الحارث بن عباد بن زياد بهذه الأبيات:
الا يا عبيد الله قد مات من به ... ملكت رقاب العالمين يزيد
اتثبت للقوم الذين وترتهم؟ ... وذاك من الرأي الزنيق بعيد [1]
وما لك غير الأزد جار فإنهم ... اجاروا اباك، والبلاد تميد
فتعجب عبيد الله من راى ابن أخيه، وكان ذا راى.
ثم ان عبيد الله دعا بمولى له يسمى مهران، وكان يعدل في الدهاء والأدب
والعقل بوردان غلام عمرو بن العاص، وهو الذى ينسب اليه البراذين
المهرانية، فقال يا مهران:
ان امير المؤمنين يزيد قد هلك، فما الرأي عندك؟
فقال مهران: ايها الأمير، ان الناس ان ملكوا انفسهم لم يولوا عليهم
أحدا من ولد زياد، وانما ملكتم الناس بمعاويه، ثم بيزيد، وقد هلكا،
وانك قد وترت الناس، ولست آمن ان يثبوا بك، والرأي لك ان تستجير هذا
الحى من الأزد، فإنهم ان اجاروك منعوك، حتى يبلغوا بك مأمنك، والرأي ان
تبعث الى الحارث بن قيس، فانه سيد القوم، وهو لك محب، ولك عنده يد،
فتخبره بموت يزيد، وتسأله ان يجيرك.
__________
[1] الزنق بضمتين: العقول التامة.
(1/281)
فقال عبيد الله: اصبت الرأي يا مهران.
ثم بعث من ساعته الى الحارث بن قيس، فأتاه فاخبره بموت يزيد، واستشاره،
فقال:
المستشار مؤتمن، فان اردت المقام منعناك معاشر الأزد، وان اردت
الاستخفاء اشتملنا عليك حتى يسكن عنك الطلب، ويخفى على الناس موضعك، ثم
نوجه معك من يبلغك مأمنك.
فقال عبيد الله: هذا اريد.
فقال له الحارث: فانا اقيم عندك، الى ان تمسى ويختلط الظلام، ثم انطلق
بك الى الحى.
فأقام الحارث عند عبيد الله.
فلما امسى واختلط الظلام امر عبيد الله ان توقد السرج في منزله ليلته
كلها، ليظن من يطلبه انه في منزله، ثم قام فلبس ثيابه، واعتم بعمامته
وتلثم.
فقال له الحارث: التلثم بالنهار ذل، وبالليل ريبه، فاحسر عن وجهك، وسر
خلفي، فان المقدم وقاية للمؤخر، فسار.
فقال للحارث: تخلل بنا فداك ابى وأمي الطرق، ولا تأخذ بنا طريقا واحدا،
فانى لا آمن ان يطلب اثرى.
فقال الحارث: لا باس عليك، ان شاء الله، فاطمئن.
ثم سارا هويا.
فقال للحارث: اين نحن؟.
قال: في بنى مسلم.
قال: سلمنا ان شاء الله.
ثم سارا جميعا ساعه، فقال: اين نحن؟.
قال الحارث في بنى ناجيه.
قال: نجونا ان شاء الله.
ثم سارا حتى انتهيا الى الأزد، واقحم الحارث بعبيد الله دار مسعود بن
عمرو،
(1/282)
وكان رئيس الأزد كلها بعد المهلب بن ابى
صفره، وكان المهلب في هذا الوقت بخراسان بعد.
فقال الحارث لمسعود: يا ابن عم، هذا عبيد الله بن زياد، قد اجرته عليك
وعلى قومك.
قال مسعود: اهلكت قومك يا ابن قيس، وعرضتنا لحرب جميع اهل البصره، وقد
كنا أجرنا أباه من قبله فما كانت عنده مكافاه.
وكان سبب اجارتهم زيادا، ان على بن ابى طالب رضى الله عنه، في خلافته
ولى زيادا البصره عند خروجه الى صفين، وانما كان يعرف بزياد بن عبيد،
فوجه معاويه الى البصره عامر بن الحضرمى في جمع، فغلب على البصره، وهرب
منه زياد، فلجا الى الأزد، فأجاروه، ومنعوه حتى ثاب الناس الى زياد،
واجتمعوا، فطرد عامر بن الحضرمى عن البصره، واقام على عمله فيها.
ثم ان مسعود بن عمرو ادخل عبيد الله دار نسائه، وافرده في بيت من
بيوته، ووكل به امرأتين من خدمه، وجمع اليه قومه، فاعلمهم ذلك.
ولما اصبح الناس، واستحق عندهم الخبر أتوا داره، فاقتحموها ليقتلوه،
فلم يصادفوا فيها أحدا، فانطلقوا الى الحبس، فكسروه، واخرجوا من كان
فيه، وبقي اهل البصره تسعه ايام بغير وال.
فاتفقوا على عبد الله بن الحارث بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب بن
هاشم، فولوه امرهم لصلاحه، وقرابته من رسول الله ص، فتولى الأمر، وقام
بالتدبير.
ولما اتى على عبيد الله ايام، وامن الطلب، قال لمسعود بن عمرو، والحارث
بن قيس: ان الناس قد سكنوا، ويئسوا منى، فاعملا في إخراجي من البصره
لألحق بالشام.
(1/283)
فاكتريا له رجلا من بنى يشكر أمينا هاديا
بالطريق، وحملاه على ناقه مهريه [1] ، وقالا لليشكرى: عليك به لا
تفارقه حتى توصله الى مأمنه بالشام.
فخرج، وخرجا معه مشيعين له في نفر من قومهما ثلاثة ايام، ثم ودعاه
وانصرفا.
قال اليشكري: فبينا نحن نسير ذات ليله إذا استقبلنا عير وحاد يحدو
فيها، ويقول:
يا رب، رب الارض والعباد ... العن زيادا، وبنى زياد
كم قتلوا من مسلم عباد ... جم الصلاة خاشع الفؤاد
يكابد الليل من السهاد
فلما سمع عبيد الله ذلك فزع، وقال: عرف مكاني.
فقلت: لا تخف، فليس كل من ذكرك يعلم موضعك.
ثم سرنا فاطرق طويلا، وهو على ناقته، فظننت انه نائم، فناديته: يا
نومان.
فقال: ما انا بنائم، ولكنى مفكر في امر.
قلت: انى لأعلم الذى كنت مفكرا فيه.
فقال: هاته اذن.
قلت: ندمت على قتلك الحسين بن على، وفكرت في بنائك القصر الأبيض
بالبصرة، وما انفقت عليه من الأموال، ثم لم يقض لك التمتع به، وندمت
على ما كان من قتلك الخوارج من اهل البصره بالظنه والتوهم.
قال عبيد: ما اصبت يا أخا بنى يشكر شيئا مما كنت مفكرا فيه، اما قتلى
الحسين فانه خرج على امام وأمه مجتمعه، وكتب الى الامام يأمرني بقتله،
فان كان ذلك خطا كان لازما ليزيد، واما بنائى القصر الأبيض، فما فكرتي
__________
[1] نوع من الإبل ينسب الى حي مهره بن حيدان.
(1/284)
في قصر بنيته للإمام بامره وماله، واما قتلى من قتلت من الخوارج فقد
قتلهم قبلي من هو خير منى، على بن ابى طالب رضى الله عنه. غير انى فكرت
في بنى ابى، وأولادهم، فندمت على تركي اخراجهم من البصره قبل وقوع ما
وقع، وفكرت في بيوت الأموال بالكوفه والبصره الا أكون فرقتها وبددتها
في الناس عند ما ورد على من وفاه الخليفة، فكنت اكتسب بذلك حمدا في
الناس وذكرا.
قلت: فما تريد ان تصنع الآن؟
قال: ان وافيت دمشق، وقد اجتمع الناس على امام دخلت فيما دخلوا فيه،
وان لم يكونوا اجتمعوا على احد كانوا غنما، قلبتها كيف شئت. |