الأخبار الطوال
خلافه عبد الملك بن
مروان
وامتنع عمرو بن سعيد من البيعه، ومات مروان، وله ثلاث وستون سنه، ثم
ملك عبد الملك بن مروان سنه ست وستين، فخرج عمرو بن سعيد بن العاص
عليه، فصار اهل الشام فرقتين: فرقه مع عبد الملك، وفرقه مع عمرو بن
سعيد.
فدخلت بنو اميه واشراف اهل الشام بينهما حتى اصطلحا، على ان يكونا
مشتركين في الملك، وان يكون مع كل عامل لعبد الملك شريك لعمرو بن سعيد،
وعلى ان اسم الخلافه لعبد الملك، فان مات عبد الملك فالخليفه من بعده
عمرو بن سعيد، وكتبا فيما بينهما كتابا، واشهدا عليه اشراف اهل الشام.
وكان روح بن زنباع من اخص الناس بعبد الملك بن مروان، فقال له، وقد خلا
به يوما: يا امير المؤمنين، هل من رأيك الوفاء لعمرو؟
قال: ويحك يا ابن زنباع، وهل اجتمع فحلان في هجمة قط الا قتل أحدهما
صاحبه؟
وكان عمرو بن سعيد رجلا معجبا بنفسه، متهاونا في امره، مغترا باعدائه.
قتل عمرو بن سعيد بن العاص
ثم ان عمرا دخل على عبد الملك يوما، وقد استعد عبد الملك للغدر به،
فامر به، فاخذ، فاضجع، وذبح ذبحا، ولف في بساط.
واحس اصحاب عمرو بذلك، وهم بالباب، فتنادوا، فاخذ عبد الملك خمسمائة
صره، قد هيئت، وجعل في كل صره ألفا درهم، فامر بها، فاصعدت الى اعلى
القصر، فالقيت الى اصحاب عمرو بن سعيد مع راس عمرو، فترك اصحابه الراس
ملقى، وأخذوا المال، وتفرقوا.
فلما اصبح عبد الملك أخذ من اصحاب عمرو ومواليه خمسين رجلا، فضرب
أعناقهم، وهرب الباقون، فلحقوا بعبد الله بن الزبير.
(1/286)
وفي ذلك يقول قائلهم:
غدرتم بعمرو يال مروان ضله ... ومثلكم يبنى البيوت على الغدر
فرحنا، وراح الشامتون بقتله ... كان على أكتافنا فلق الصخر
وما كان عمرو عاجزا، غير أنه ... اتته المنايا بغته، وهو لا يدرى
كان بنى مروان إذ يقتلونه ... بغاث من الطير اجتمعن على صقر [1]
قالوا: ولما خرج عبيد الله من البصره شاع بها ان عبيد الله كان عند
الأزد، فاقبل رجل من الخوارج ليلا، فجلس لمسعود بن عمرو، فلما خرج
لصلاة الفجر، وثب عليه بسكين فقتله.
فاجتمعت الأزد، وقالوا: والله ما قتله الا بنو تميم، ولنقتلن سيدهم
الأحنف بن قيس.
فقال الأحنف لقومه: ان الأزد قد اتهموكم في قتل صاحبهم، وقد استغنوا
بالظن عن اليقين، ولا بد من غرم عقله [2] .
فجمعوا الف ناقه، ووجهوا بها الى الأزد وكانت ديه الملوك فرضيت الأزد،
وكفوا.
وقوى امر عبد الله بن الزبير، واعطاه اهل الكوفه الطاعة.
فولى الكوفه عبد الله بن مطيع العدوى.
ووجه أخاه مصعب بن الزبير الى البصره، وامر عبد الله بن مطيع بمكاتبته.
ووجه عماله الى اليمن، والبحرين، وعمان، وسائر الحجاز.
ودانت لابن الزبير البلدان الا الشام ومصر. فان مروان بن الحكم كان
حماهما.
وانحلبت على ابن الزبير الأموال، فهدم الكعبه وجدد بناءها، وذلك في
__________
[1] البغاث مثلثه: طائر ضعيف من شرار الطير، لونه اغبر. ومن امثله
العرب، ان البغاث بأرضنا يستنسر، اى من جاورنا عز بنا.
[2] العقل الديه.
(1/287)
سنه خمس وستين، ولف الحجر الأسود في حرير
وجعله في تابوت وختم عليه، واستودعه الحجبة مع جميع ما كان معلقا في
الكعبه من ذهب وجوهر، ولما بناها ادخل الحجر في البيت.
فلما قتل ابن الزبير نقضها الحجاج، واعاد بناءها على ما كان، فهى على
ذلك الى اليوم.
الدعوة الى العلويين
قالوا: وان المختار [1] بن ابى عبيد الثقفى جعل يختلف بالكوفه الى شيعه
بنى هاشم، ويختلفون اليه، فيدعوهم الى الخروج معه والطلب بدم الحسين،
فاستجاب له بشر كثير، وكان اكثر من استجاب له همدان، وقوم كثير من
أبناء العجم الذين كانوا بالكوفه، ففرض لهم معاويه وكانوا يسمون
الحمراء وكان منهم بالكوفه زهاء عشرين الف رجل.
وكان على الكوفه يومئذ من قبل عبد الله بن الزبير عبد الله بن مطيع،
فأرسل ابن مطيع الى المختار: ما هذه الجماعات التي تغدو وتروح إليك؟
فقال المختار: مريض، يعاد.
فلم يزل كذلك حتى قال له نصحاؤه: عليك بابراهيم بن الاشتر، فاستمله
إليك، فانه متى شايعك على امر ظفرت به، وقضيت حاجتك.
فأرسل المختار الى جماعه من اصحابه، فدخلوا عليه، وبيده صحيفه مختومه
بالرصاص.
فقال الشعبى: وكنت فيمن دخل عليه، فرايت الرصاص ابيض يلوح، فظننت انه
انما ختم من الليل، فقال لنا: انطلقوا بنا حتى ناتى ابراهيم ابن
الاشتر.
__________
[1] كان خروج المختار في صفر سنه 66 سبتمبر 685.
(1/288)
قال: فمضينا معه، وكنت انا ويزيد بن انس
الأسدي، واحمر بن سليط، وعبد الله بن كامل، وابو عمره كيسان، مولى
بجيله، الذى يقول الناس: قد جاوره ابو عمره، وكان من بعد ذلك على شرط
المختار.
قال الشعبى: فأتينا ابراهيم بن الاشتر، وهو جالس في صحن داره، فسلمنا
عليه، فتناول يد المختار، واجلسه معه على مقعده كان عليها.
وتكلم المختار وكان مفوها، فحمد الله واثنى عليه، وصلى على النبي ص، ثم
قال:
ان الله قد اكرمك، واكرم اباك من قبلك بموالاة بنى هاشم ونصرتهم،
ومعرفه فضلهم، وما اوجب الله من حقهم، وقد كتب إليك محمد بن على بن ابى
طالب يعنى ابن الحنفيه هذا الكتاب بحضره هؤلاء النفر الذين معى.
فقال القوم جميعا: نشهد ان هذا كتابه، رأيناه حين كتبه.
ثم ناوله، ففتحه وقراه، فإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من محمد بن على الى ابراهيم الاشتر، اما بعد،
فان المختار بن ابى عبيد على الطلب بدم الحسين، فساعده في ذلك، وآزره
يثبك الله ثواب الدنيا، وحسن ثواب الآخرة.
فلما قرأ ابراهيم بن الاشتر الكتاب قال للمختار:
سمعا وطاعه لمحمد بن على، فقل ما بدا لك، وادع الى ما شئت.
فقال المختار: اتأتينا، او نأتيك في أمرنا؟
فقال ابراهيم: بل انا آتيك كل يوم الى منزلك.
قال الشعبى: فكان ابراهيم بن الاشتر يركب الى المختار في كل يوم في نفر
من مواليه وخدمه.
قال الشعبى: ودخلتنى وحشه من شهاده النفر الذين كانوا معى، على انهم
رأوا
(1/289)
محمد بن الحنفيه حين كتب ذلك الكتاب الى
ابراهيم بن الاشتر، فاتيتهم في منزلهم رجلا رجلا، فقلت:
هل رايت محمد بن الحنفيه حين كتب ذلك الكتاب؟
فكل يقول: نعم، وما انكرت من ذلك؟
فقلت في نفسي: ان لم استعملها من العجمي، يعنى أبا عمره، لم اطمع فيها
من غيره.
فأتيته في منزله، فقلت:
ما أخوفني من عاقبه امرنا هذا ان ينصب الناس جميعا لنا، فهل شهدت محمد
بن الحنفيه حين كتب ذلك الكتاب؟
فقال: والله ما شهدته حين كتبه، غير ان أبا اسحق يعنى المختار عندنا
ثقه، وقد أتانا بعلامات من ابن الحنفيه، فصدقناه.
قال الشعبى: فعرفت عند ذلك كذب المختار، وتمويهه، فخرجت من الكوفه حتى
لحقت بالحجاز، فلم اشهد من تلك المشاهد شيئا.
قالوا: وكان على شرطه عبد الله بن مطيع بالكوفه اياس بن نضار العجلى،
وكان طريق ابراهيم بن الاشتر إذا ركب الى المختار على باب داره، فأرسل
الى ابراهيم: انه قد كثر اختلافك في هذا الطريق، فاقصر عن ذلك.
فاخبر ابراهيم المختار بما ارسل اليه اياس، فقال له المختار: تجنب ذلك
الطريق، وخذ في غيره. ففعل.
وبلغ اياسا ان ابراهيم بن الاشتر لا يقلع عن اتيان المختار كل يوم،
فأرسل اليه:
ان امرك يريبني، فلا ارينك راكبا، ولا تبرحن منزلك، فاضرب عنقك.
فاخبر ابراهيم المختار بذلك. واستاذنه في قتله، فاذن له.
وان ابراهيم ركب في جماعه من اهل بيته وما يليه، وجعل طريقه على مجلس
اياس، فقال له اياس:
(1/290)
يا ابن الاشتر، الم آمرك الا تبرح من
منزلك؟
فقال له ابراهيم: أنت والله ما علمت احمق.
فقال للجلاوزه: نكسوه.
فانتضى ابراهيم سيفه، وشد على اياس، فضربه حتى قتله. ثم حمل على
الجلاوزة، فانحرفوا عنه، ومضى ابراهيم.
وبلغ عبد الله بن مطيع الخبر، فامر بطلب ابراهيم، ووجه الى منزله.
وبلغ ذلك المختار، فوجه الى ابراهيم بمائه فارس، فلما وافوه حمل على
اصحاب ابن مطيع، فانهزموا عنه، فاقبل ابراهيم نحو دار الإمارة، ووافاه
المختار في سبعه آلاف فارس.
فتحصن ابن مطيع في القصر، وبعث الى الحرس والجند.
فوافاه منهم نحو ثلاثة آلاف رجل، فنادى يا لثارات الحسين فوافاه زهاء
عشره آلاف رجل ممن بايعه على الطلب بدم الحسين.
وفي ذلك يقول عبد الله بن همام:
وفي ليله المختار ما يذهل الفتى ... ويزويه عن رود الشباب شموع
دعا، يالثارات الحسين فاقبلت ... كتائب من همدان بعد هزيع
ومن مذحج جاء الرئيس ابن مالك ... يقود جموعا اردفت بجموع
ومن اسد وافى يزيد لنصره ... بكل فتى ماضى الجنان منيع
وخرج ابن مطيع من القصر، واجتمع اليه الجنود، ونهد [1] اليه المختار في
اصحابه، وعلى مقدمته ابن الاشتر، فالتقوا، فاقتتلوا، فقتل من اصحاب ابن
مطيع بشر كثير، فانهزموا.
وبادر ابن مطيع الى القصر، فتحصن فيه في طائفه من اصحابه، واقبلت همدان
حتى تسلقوا القصر بالحبال من ناحيه دار عماره بن عقبه بن ابى معيط.
__________
[1] نهض.
(1/291)
فلما راى ابن مطيع ضعفه عن القوم سال
الامان على نفسه ومن معه من اصحابه، فأجابه المختار الى ذلك، فآمنه.
فخرج ابن مطيع، واظهر المختار إكرامه، وامر له من بيت المال بمائه الف
الف درهم، وحفظ فيه قرابته من عمر بن الخطاب، وقال له: ارحل إذا شئت.
ثم ان المختار غلب على الكوفه ودانت له العراق وسائر البلاد الا
الجزيرة والشام ومصر، فان عبد الملك قد كان حماها، ووجه عماله في
الافاق.
فاستعمل عبد الرحمن بن سعيد بن قيس الهمدانى على الموصل، ومحمد بن
عثمان التميمى على اذربيجان، وعبد الله بن الحارث أخا الاشتر على
الماهين وهمذان، ويزيد ابن معاويه البجلي على أصبهان وقم وأعمالها،
وابن مالك البكراوى على حلوان [1] وماسبذان، ويزيد بن ابى نجبه الفزارى
على الري ودستبى، وزحر بن قيس على جوخى. وفرق سائر البلدان على خاصته.
وولى الشرطه كيسان أبا عمره، وامره ان يجمع الف رجل من الفعله
بالمعاول، وتتتبع دور من خرج الى قتال الحسين بن على، فيهدمها.
وكان ابو عمره بذلك عارفا، فجعل يدور بالكوفه على دورهم، فيهدم الدار
في لحظه، فمن خرج اليه منهم قتله، حتى هدم دورا كثيره، وقتل أناسا
كثيرا، وجعل يطلب ويستقصى، فمن ظفر به قتله، وجعل ماله وعطاءه لرجل من
أبناء العجم الذين كانوا معه.
ثم ان المختار عقد ليزيد بن انس الأسدي في عشرين الف رجل وقواهم
بالسلاح والعده، وولاه الجزيرة وما غلب عليه من ارض الشام.
فسار يزيد حتى نزل نصيبين.
__________
[1] بلد في العراق، آخر حدود السواد مما يلى الجبال، سميت باسم حلوان
بن عمران بن قضاعه، وكان اقطعه إياها بعض الملوك، وكانت مدينه عامره،
لم يكن بالعراق بعد البصره والكوفه وواسط اكبر منها، وحواليها عيون
كبريتيه ينتفع بها من عده أدواء.
(1/292)
وبلغ ذلك عبد الملك بن مروان، فخرج باهل
الشام فوافى نصيبين، وقاتل يزيد ابن انس، فهزمه، وقتل من اصحابه مقتله
عظيمه.
وبلغ المختار ذلك، فقال لإبراهيم بن الاشتر:
ايها الرجل، انما هو انا وأنت، فسر اليهم، فو الله لتقتلن الفاسق عبيد
الله ابن زياد، او لتقتلن الحصين بن نمير، وليهزمن الله بك ذلك الجيش،
أخبرني بذلك من قرأ الكتاب، وعرف الملاحم.
قال ابراهيم:
ما احسبك ايها الأمير باحرص على قتال اهل الشام، ولا احسن بصيره في ذلك
منى، وانا سائر.
فانتخب له المختار عشرين الف رجل، وكان جلهم أبناء الفرس الذين كانوا
بالكوفه، ويسمون الحمراء.
وسار نحو الجزيرة، ورد من كان انهزم من اصحاب يزيد بن انس، فصار في نحو
من ثلاثين الف رجل.
وبلغ ذلك عبد الملك، فعقد للحصين بن نمير في فرسان اهل الشام، وكانوا
نحوا من اربعين ألفا، وفيهم عبيد الله بن زياد، وفيهم من قتله الحسين:
عمير بن الحباب، وفرات بن سالم، ويزيد بن الحضين، واناس سوى هؤلاء
كثير.
فقال فرات لعمير: قد عرفت سوء ولايه بنى مروان، وسوء رأيهم في قومنا من
قيس، ولئن خلص الأمر، وصفا لعبد الملك ليستاصلن قيسا، او ليقصينهم،
ونحن منهم، فانصرف بنا لننظر ما حال ابراهيم بن الاشتر.
فلما جنهما الليل ركبا فرسيهما، وبينهما وبين عسكر ابراهيم اربعه
فراسخ، وكانا يمران بمسالح اهل الشام، فيقولون لهما: من [1] أنتما؟
فيقولان: طليعه للأمير الحصين بن نمير.
فاقبلا حتى أتيا عسكر ابراهيم بن الاشتر، وقد اوقد النيران، وهو قائم
يعبى
__________
[1] في الأصل: ما أنتما.
(1/293)
اصحابه، وعليه قميص اصفر هروي [1] وملاءه
مورده متوشحا بها، متقلدا سيفه.
فدنا منه عمير بن الحباب، فصار خلفه، وابراهيم لا يابه له، فاحتضنه من
ورائه، فما تحلحل [2] ابراهيم عن موضعه، غير انه امال راسه، وقال:
من هذا؟
قال: انا عمير بن الحباب.
فاقبل بوجهه اليه، وقال:
اجلس حتى افرغ لك.
فتنحى عنه، وقعدا ممسكين بأعنة فرسيهما.
فقال عمير لصاحبه: هل رايت رجلا اربط جأشا، وأشد قلبا من هذا؟ تراه
تحلحل من مكانه، او اكترث لي، وانا محتضنه من خلف.
فقال له صاحبه: ما رايت مثله.
فلما فرغ ابراهيم من تعبئة اصحابه أتاهما، فجلس إليهما، ثم قال لعمير:
ما اعملك الى يا أبا المغلس؟
قال عمير: لقد اشتد غمى مذ دخلت عسكرك، وذلك انى لم اسمع فيه كلاما
عربيا حتى انتهيت إليك، وانما معك هؤلاء الأعاجم، وقد جاءك صناديد [3]
اهل الشام وابطالهم، وهم زهاء اربعين الف رجل، فكيف تلقاهم بمن معك؟
فقال ابراهيم:
والله لو لم أجد الا النمل لقاتلتهم بها، فكيف وما قوم أشد بصيره في
قتال اهل الشام من هؤلاء الناس الذين تراهم معي؟ وانما هم اولاد
الأساورة من اهل
__________
[1] من صنع هراة، بلده بفارس.
[2] اى ما تحرك عن موضعه، وفي نسخه تخلخل.
[3] السادة الشجعان، وجماعات العسكر.
(1/294)
فارس، والمرازبه، وانا ضارب الخيل بالخيل،
والرجال بالرجال، والنصر من عند الله.
قال عمير: ان قومى قيسا. إذا التقى الجبلان غدا في ميسره اهل الشام فلا
تحفل بنا، فانا منهزمون لنكسر الجيش بذلك، فانا لا نحب ظهور بنى مروان
لسوء صنيعهم إلينا معاشر قيس، وانا إليك لاميل.
قال ابراهيم: وذاك.
ثم انصرفا الى معسكرهما.
ولما اصبح الفريقان زحف بعضهم الى بعض، فتواقفوا بمكان يدعى خازر [1]
فنادى ابراهيم بن الاشتر حماه عسكره عليكم بالميسرة، وفيها قيس.
فقال عمير بن الحباب لصاحبه: هذا وابيك الحزم، لم يثق بقولنا وخاف
مكرنا.
وصاح عمير بن الحباب في قيس، يالثارات مرج راهط [2] ، فنكسوا اعلامهم،
وانهزموا، فانكسر اهل الشام.
وحمل عليهم ابراهيم بن الاشتر، فاكثر فيهم القتل، وانهزم اهل الشام،
فاتبعهم ابراهيم يقتلهم الى الليل، وقتل أميرهم الحصين بن نمير وكان من
قتله الحسين وشرحبيل بن ذي الكلاع، وعظماء اهل الشام.
فلما وضعت الحرب أوزارها قال ابراهيم بن الاشتر: انى قتلت في الوقعه
رجلا من اهل الشام، كان يقاتل في اوائلهم قتالا شديدا، وهو يقول: انا
الغلام القرشي. فلما سقط شممت منه ريح المسك، فاطلبوه بين القتلى.
فطلب حتى أصابوه، فإذا هو عبيد الله بن زياد، فامر به ابراهيم، فخر
راسه، فوجه به الى المختار، فوجه به المختار الى محمد بن الحنفيه.
واحتوى ابراهيم بن الاشتر على عسكر الشام، فغنم ما كان فيه.
__________
[1] كوره بين الموصل واربل، على نهير سمى به
[2] المرج الموضع ترعى فيه الدواب، ومرج راهط: ناحيه من نواحي دمشق.
(1/295)
فاتته هند ابنه أسماء بن خارجه الفزارى،
امراه عبيد الله بن زياد، فاخبرته بانتهاب ما كان معها من مالها، فقال
لها:
كم ذهب لك؟
قالت: قيمه خمسين الف درهم.
فامر لها بمائه الف درهم، ووجه معها مائه فارس حتى أتوا بها أباها
البصره.
ودخل عبيد الله بن عمرو الساعدي، وكان شاعرا على ابراهيم بن الاشتر،
فانشده:
الله أعطاك المهابه والتقى ... وأحل بيتك في العديد الأكثر
واقر عينك يوم وقعه خازر ... والخيل تعثر بالقنا المتكسر
من ظالمين كفتهم آثامهم ... تركوا لعافيه وطير حسر
ما كان اجراهم، جزاهم ربهم ... شر الجزاء على ارتكاب المنكر
انى اتيتك إذ تناءى منزلي ... وذممت اخوان الغنى من معشرى
وعلمت انك لا تضيع مدحتي ... ومتى أكن بسبيل خير اشكر
فهلم نحوى، من يمينك نفحة ... ان الزمان الح يا ابن الاشتر
فاعطاه عشره آلاف درهم.
وان ابراهيم بن الاشتر اقام بالموصل، ووجه عماله الى مدن الجزيرة،
فاستعمل اسماعيل بن زفر على قرقيسياء [1] ، وحاتم بن النعمان الباهلى
على حران [2] والرها [3]
__________
[1] في الأصل قرقيسيا، وهي بلد على نهر الخابور عند مصبه، ومنها جانب
على نهر الفرات، فوق رحبه مالك بن طوق.
[2] مدينه قديمه، قصبه ديار مضر، قيل انها أول مدينه بنيت بعد الطوفان،
وكانت منزل الصابئه، وهي مهاجر الخليل ابراهيم ع.
[3] مدينه بأرض الجزيرة في العراق فوق حران.
(1/296)
وسميساط [1] ، وعمير بن الحباب السلمى على
كفرتوثا [2] ، والسفاح ابن كردوس على سنجار [3] ، وعبد الله بن مسلم
على ميافارقين [4] ، ومسلم ابن ربيعه العقيلي على آمد [5] ، وسار هو
الى نصيبين، فأقام بها.
وان المختار كتب الى عبيد الله بن الحر الجعفى، وكان بناحيه الجبل
يتطرف ويغير: انما خرجت غضبا للحسين، ونحن أيضا ممن غضب له، وقد تجردنا
لنطلب بثاره، فأعنا على ذلك. فلم يجبه عبيد الله الى ذلك.
فركب المختار الى داره بالكوفه فهدمها، وامر بامراته أم سلمه، ابنه عمر
الجعفى، فحبست في السجن، وانتهب جميع ما كان في منزله، وكان الذى تولى
ذلك عمرو بن سعيد بن قيس الهمدانى.
وبلغ ذلك عبيد الله بن الحر، فقصد الى ضيعه لعمرو بن سعيد بالماهين،
فاغار عليها، واستاق مواشيها، واحرق زرعها، وقال:
وما ترك الكذاب من جل مالنا ... ولا المرء من همدان غير شريد
افي الحق ان يجتاح مالي كله ... وتامن عندي ضيعه ابن سعيد؟
ثم اختار من ابطال اصحابه مائه فارس، فيهم محشر التميمى، ودلهم بن زياد
المرادى، واحمر طيّئ، وخلف بقية اصحابه بالماهين.
وسار نحو الكوفه حتى انتهى الى جسرها ليلا، فامر بقوام الجسر، فكتفوا،
ووكل بهم رجلا من اصحابه، ثم عبر.
__________
[1] مدينه على شاطئ الفرات في طرف بلاد الروم، وكان بها قلعه، يسكن في
شق منها الأرمن.
[2] في الأصل كفرثونا والصحيح ما ذكر، وهي قريه كبيره، من اعمال
الجزيرة بالعراق.
[3] مدينه مشهوره من نواحي الجزيرة.
[4] اشهر مدينه بديار بكر، وقد بناها الروم.
[5] لفظه رومية، وهي بلد قديم حصين، يحيط باكثره نهر دجلة.
(1/297)
ودخل الكوفه، فلقيه ابو عمره كيسان، وهو
يعس بالكوفه، فقال: من أنتم؟
قالوا: نحن اصحاب عبد الله بن كامل، أقبلنا الى الأمير المختار.
قال: امضوا في حفظ الله.
فمضوا حتى انتهوا الى السجن، فكسروه، فخرج كل من فيه، وحمل أم سلمه على
فرس، ووكل بها اربعين رجلا، وقدمها، ثم مضى.
وبلغ الخبر المختار، فأرسل راشدا مولى بجيله في ثلاثة آلاف رجل، وعطف
عليهم ابو عمره من ناحيه بجيله في الف رجل.
وخرج عليهم عبد الله بن كامل من ناحيه النخع في الف رجل، فأحاطوا بهم.
فلم يزل عبيد الله يكشفهم، ويسير والحجاره تأخذه هو واصحابه من سطوح
الكوفه حتى عبر الجسر، وقد قتل من اصحاب المختار مائه رجل، ولم يقتل من
اصحابه الا اربعه نفر.
وسار عبيد الله حتى انتهى الى بانقيا [1] فنزلوا، وداووا جروحهم،
وعلفوا دوابهم، وسقوها، ثم ركبوا، فلم يحلوا عقدها حتى انتهوا الى سورا
[2] فاراحوا بها، ثم ساروا حتى أتوا المدائن، ثم لحق باصحابه بالماهين.
ولما تجرد المختار لطلب قتله الحسين هرب منه عمر بن سعد ومحمد بن
الاشعث، وهما كانا المتوليين للحرب يوم الحسين، واتى بعبد الرحمن بن
ابزى الخزاعي، وكان ممن حضر قتال الحسين، فقال له: يا عدو الله، اكنت
ممن قاتل الحسين؟
قال: لا، بل كنت ممن حضر، ولم يقاتل.
قال: كذبت، اضربوا عنقه.
فقال عبد الرحمن: ما يمكنك قتلى اليوم حتى تعطى الظفر على بنى اميه،
__________
[1] ناحيه من نواحي الكوفه، كانت على شاطئ الفرات.
[2] مدينه تحت الحله، لها نهر ينسب إليها.
(1/298)
ويصفو لك الشام، وتهدم مدينه دمشق حجرا
حجرا، فتأخذني عند ذلك، فتصلبنى على شجره بشاطئ نهر، كأني انظر إليها
الساعة.
فالتفت المختار الى اصحابه وقال: اما ان هذا الرجل عالم بالملاحم. ثم
امر به الى السجن.
فلما جن عليه الليل بعث اليه من أتاه به، فقال له:
يا أخا خزاعة، اظرفا عند الموت؟
فقال عبد الرحمن بن ابزى: أنشدك الله ايها الأمير ان اموت هاهنا ضيعه.
قال: فما جاء بك من الشام؟
قال: باربعه آلاف درهم لي على رجل من اهل الكوفه، أتيته متقاضيا.
فامر له المختار باربعه آلاف درهم، وقال له: ان اصبحت بالكوفه قتلتك.
فخرج من ليلته حتى لحق بالشام.
ومكث المختار بذلك يطلب قتله الحسين، وتجبى اليه الأموال من السواد،
والجبل، وأصبهان، والري، واذربيجان، والجزيرة ثمانية عشر شهرا، وقرب
أبناء العجم، وفرض لهم ولأولادهم الاعطيات، وقرب مجالسهم، وباعد العرب
وأقصاهم، وحرمهم. فغضبوا من ذلك.
واجتمع اشرافهم فدخلوا عليه، فعاتبوه، فقال: لا يبعد الله غيركم،
اكرمتكم فشمختم بآنافكم، ووليتكم فكسرتم الخراج، وهؤلاء العجم اطوع لي
منكم، واوفى، واسرع الى ما اريد.
قالوا: فدنت العرب، بعضها الى بعض، وقالوا: هذا كذاب، يزعم انه يوالى
بنى هاشم، وانما هو طالب دنيا.
فاجتمعت القبائل على محاربته، وصاروا في ثلاثة امكنه، وولوا امرهم
رفاعة ابن سوار، فاجتمعت كنده، والأزد، وبجيله، والنخع، وخثعم، وقيس،
(1/299)
وتيم الرباب في جبانه مراد [1] ، واجتمعت
ربيعه وتميم، فصاروا في جبانه الحشاشين [2] .
وارسل المختار الى همدان وكانوا خاصته واجتمع اليه أبناء العجم.
فقال لهم: الا ترون ما يصنع هؤلاء؟
قالوا: بلى.
قال: فإنهم لم يفعلوا ذلك الا لتقديمى إياكم، فكونوا أحرارا كراما.
فحرضهم بذلك، واخرجهم الى ظهر الكوفه، فاحصاهم، فبلغوا اربعين الف رجل.
وان شمر بن ذي الجوشن، وعمر بن سعد، ومحمد بن الاشعث، وأخاه قيس بن
الاشعث قدموا الكوفه عند ما بلغهم خروج الناس على المختار وخلعهم
طاعته، وكانوا هرابا من المختار طول سلطانه، لانهم كانوا الرؤساء في
قتال الحسين، فصاروا مع اهل الكوفه، وتولوا امر الناس.
وتاهب الفريقان للحرب، واجتمع اهل الكوفه جميعا في جبانه الحشاشين،
وزحف المختار نحوهم، فاقتتلوا، فقتل بينهم بشر كثير، فنادى المختار: يا
معشر ربيعه، الم تبايعوني؟ فلم خرجتم علي؟
قالت ربيعه: قد صدق المختار، فقد بايعناه واعطيناه صفقه ايماننا،
فاعتزلوا، وقالوا: لا نكون على واحد من الفريقين. وثبت سائر القبائل،
فقاتلوا.
وان اهل الكوفه انهزموا، وقد قتل منهم نحو خمسمائة رجل، واسر منهم
__________
[1] محله بالكوفه، واهل الكوفه يسمون المقبرة جبانه.
[2] يطلق لفظ الحشاشين على فريق من طائفه الاسماعيليه الذين كانوا
يحتلون الحصون الجبليه في الشام وفي غيرها من ربوع المسلمين، ولا
يميزهم عن سائر الاسماعيليه مبدأ خاص بقدر ما يميزهم تحول نظامهم
السياسى الى جماعه سريه يطيع إفرادها ائمتهم طاعه عمياء، وقد اتخذوا
القتل وسيله للتخلص من اعدائهم. دائره المعارف الإسلامية المجلد
السابع، ص 434
(1/300)
مائتا رجل، فهرب اشراف الكوفه، فلحقوا
بالبصرة، وبها مصعب بن الزبير، فانضموا اليه.
وبلغ المختار ان شبث بن ربعي، وعمرو بن الحجاج، ومحمد بن الاشعث مع عمر
بن سعد قد أخذوا طريق البصره في اناس معهم من اشراف اهل الكوفه، فأرسل
في طلبهم رجلا من خاصته يسمى أبا القلوص الشبامي في جريدة خيل، فلحقهم
بناحيه المذار، فواقعوه، وقاتلوه ساعه، ثم انهزموا، ووقع في يده عمر بن
سعد ونجا الباقون.
فاتى به المختار، فقال: الحمد لله الذى امكن منك، والله لأشفين قلوب آل
محمد بسفك دمك، يا كيسان، اضرب عنقه.
فضرب عنقه.
وأخذ راسه، فبعث به الى المدينة، الى محمد بن الحنفيه.
وقال اعشى همدان، وكان من اهل الكوفه:
ولم انس همدانا غداه تجوسنا ... باسيافها، لا اسقيت صوب هاضب [1]
فقتل من اشرافنا في محالهم ... عصائب منهم اردفت بعصائب
فكم من كمى قد ابارت سيوفهم ... الى الله اشكو رزء تلك المصائب
يقتلنا المختار في كل غائط ... فيا لك دهر مرصد بالعجائب
وبلغ المختار ان شمر بن ذي الجوشن مقيم بدستميسان [2] في اناس من بنى
عامر بن صعصعة، يكرهون دخول البصره لشماته اهل البصره بهم، فأرسل
المختار اليهم زربيا، مولى بجيله، في مائه فارس على الخيل العتاق [3] ،
فسار بهم بالحث
__________
[1] الهاضب: المطره.
[2] في الأصل: دست ميسان، وهي كوره بين واسط البصره والاهواز، وقيل
انها الأبله، فتكون البصره منها.
[3] نجائب الحيل.
(1/301)
الشديد، فقطع اصحابه عنه الا عشره فوارس،
فلحقهم وقد استعدوا له، فطعنه شمر، فقتله، وانهزم اصحابه العشرة حتى
لحق بهم الباقون، فطلبوا شمرا واصحابه، فلم يلحقوهم.
ومضى شمر حتى نزل قريبا من البصره بمكان يدعى سادماه فأقام به.
وان قيس بن الاشعث انف من ان ياتى البصره فيشمت به أهلها، فانصرف الى
الكوفه مستجيرا بعبد الله بن كامل، وكان من اخص الناس عند المختار.
فاقبل عبد الله الى المختار، فقال: ايها الأمير، ان قيس بن الاشعث قد
استجار بي واجرته، فانفذ جواري اياه.
فسكت عنه المختار مليا، وشغله بالحديث، ثم قال: ارنى خاتمك، فناوله
اياه، فجعله في اصبعه طويلا.
ثم دعا أبا عمره، فدفع اليه الخاتم، وقال له سرا: انطلق الى امراه عبد
الله بن كامل، فقل لها: هذا خاتم بعلك علامه، لتدخلينى الى قيس بن
الاشعث، فانى اريد مناظرته في بعض الأمور التي فيها خلاصه من المختار،
فادخلته اليه.
فانتضى سيفه، فضرب عنقه، وأخذ راسه، فاتى به المختار، فالقاه بين يديه.
فقال المختار: هذا بقطيفه الحسين.
وذلك ان قيس بن الاشعث أخذ قطيفه كانت للحسين حين قتل، فكان يسمى قيس
قطيفه.
فاسترجع عبد الله بن كامل، وقال للمختار: قتلت جارى وضيفي وصديقي في
الدهر؟
قال له المختار: لله ابوك، اسكت، اتستحل ان تجير قتله ابن بنت نبيك؟
(1/302)
ثم ان المختار دعا بالأسرى الذين اسرهم من
اهل الكوفه في الوقعه التي كانت بينه وبين اهل الكوفه، فجعل يضرب
أعناقهم حتى انتهى الى سراقه البارقى، وكان فيهم، فقام بين يديه، وأنشأ
يقول:
الا من مبلغ المختار انا ... نزونا نزوه كانت علينا
خرجنا لا نرى الاشراك دينا ... وكان خروجنا بطرا وحينا [1]
ثم قال للمختار: ايها الأمير، لو انكم أنتم الذين قاتلتمونا لم تطمعوا
فينا.
فقال له المختار: فمن قاتلكم؟
قال سراقه: قاتلنا قوم بيض الوجوه على خيل شهب.
قال له المختار: تلك الملائكة، ويلك، اما إذ رايتهم فقد وهبتك لهم.
ثم خلى سبيله، فهرب، فلحق بالبصرة، وأنشأ يقول:
الا ابلغ أبا اسحق انى ... رايت الشهب كمتا مصمتات [2]
ارى عيني ما لم ترأياه ... كلانا عالم بالترهات
كفرت بدينكم وبرئت منكم ... ومن قتلاكم حتى الممات
وهرب أسماء بن خارجه الفزارى، وكان شيخ اهل الكوفه وسيدهم من المختار
خوفا على نفسه، فنزل على ماء لبنى اسد يسمى ذروه: في نفر من مواليه
واهل بيته فأقام به.
وهرب عمرو بن الحجاج، وكان من رؤساء قتله الحسين، يريد البصره، فخاف
الشماتة فعدل الى سراف.
فقال له اهل الماء: ارحل عنا، فانا لأنا من المختار، فارتجل عنهم،
فتلاوموا، وقالوا: قد أسأنا.
فركبت جماعه منهم في طلبه ليردوه، فلما رآهم من بعيد ظن انهم من اصحاب
__________
[1] الحين: الهلاك.
[2] الكمته: لون بين السواد والحمرة.
(1/303)
المختار، فسلك الرمل في مكان يدعى البيضه
[1] وذلك في حماره القيظ، وهي فيما بين بلاد كلب وبلاد طيّئ، فقال [2]
فيها، فقتله ومن معه العطش.
ولم يزل أسماء مقيما بذروه [3] الى ان قتل المختار، ودخل مصعب بن
الزبير الكوفه، فانصرف أسماء الى منزله بالكوفه.
ولما تتبع المختار اهل الكوفه جعل عظماؤهم يتسللون هرابا الى البصره
حتى وافاها منهم مقدار عشره آلاف رجل، وفيهم محمد بن الاشعث، فاجتمعوا،
ودخلوا على مصعب بن الزبير.
فتكلم محمد بن الاشعث، وقال: ايها الأمير، ما يمنعك من المسير لمحاربه
هذا الكذاب الذى قتل خيارنا، وهدم دورنا، وفرق جماعتنا، وحمل أبناء
العجم على رقابنا، وأباحهم أموالنا؟ سر اليه، فانا جميعا معك، وكذلك من
خلفنا بالكوفه من العرب، هم أعوانك.
قال مصعب: يا ابن الاشعث، انا عارف بكل ما ارتكبكم به، وليس يمنعني من
المسير اليه الا غيبه فرسان اهل البصره واشرافهم، فإنهم مع ابن عمك
المهلب ابن ابى صفره في وجوه الازارقه بناحيه كرمان، غير انى قد رايت
رايا.
قال: وما رايت ايها الأمير؟
قال: رايت ان اكتب الى المهلب، آمره ان يوادع الازارقه، ويقبل الى فيمن
معه، فإذا وافى تجهزنا لمحاربه المختار.
قال ابن الاشعث: نعم ما رايت، فاكتب اليه، واجعلنى الرسول.
فكتب مصعب بن الزبير الى المهلب كتابا، يذكر له ما فيه اهل الكوفه من
القتل والحرب، ويفسر فيه امر المختار.
فسار محمد بن الاشعث بكتابه حتى ورد كرمان، واوصل الكتاب الى المهلب،
__________
[1] اسم ماء في باديه حلب، بينها وبين تدمر.
[2] القائله: نصف النهار.
[3] ارض بباديه الشام.
(1/304)
وقال له: يا ابن عم، قد بلغك ما لقى اهل
الكوفه من المختار، وقد كتب إليك الأمير مصعب بما قد قراته.
فكتب المهلب الى قطري، وكان رئيس الازارقه يومئذ، يسأله الموادعة الى
اجل سماه، ويكتب بينهما كتابا في ذلك، ويضعان الحرب الى ذلك الأجل.
فأجابه قطري الى ذلك، وكتبا بينهما كتابا وجعلا الأجل ثمانية عشر شهرا.
وسار المهلب بمن معه حتى وافى البصره، فوضع مصعب لأهل البصره العطاء
وتهيأ للمسير.
وبلغ المختار ذلك فعقد لاحمر بن سليط في ستين الف رجل من اصحابه، وامره
ان يستقبل القوم، فيناجزهم الحرب.
فسار احمر بن سليط في الجيوش حتى وافى المذار، وقد انصرف إليها شمر ابن
ذي الجوشن انفه من ان ياتى البصره هاربا، فيشمتوا به، فوجه احمر بن
سليط الى المكان الذى كان متحصنا فيه خمسين فارسا، وامامهم نبطي [1]
يدلهم على الطريق، وذلك في ليله مقمره.
فلما احس بهم دعا بفرسه فركبه، وركب من كان معه ليهربوا، فادركهم
القوم، فقاتلوهم، فقتل شمر وجميع من كان معه، واحتزوا رءوسهم، فاتوا
بها احمر ابن سليط، فوجهها الى المختار، فوجه المختار برأس شمر الى
محمد بن الحنفيه بالمدينة.
وسار مصعب بن الزبير بجماعه اهل البصره نحو المذار، وتخلف عنه المنذر
ابن الجارود، وهرب منه نحو كرمان في جماعه من اهل بيته، ودعا لعبد
الملك ابن مروان.
__________
[1] من الأنباط وهم اهل البطاع بين العراقين.
(1/305)
واقبل مصعب حتى وافى المذار [1] ، وامامه
الأحنف بن قيس في تميم.
وزحف الفريقان، بعضهم الى بعض، فاقتتلوا، فانهزم اصحاب المختار، واستحر
القتال فيهم، ومضوا نحو الكوفه، واتبعهم مصعب يقتلهم في جميع طريقه،
فلم يفلت منهم الا القليل.
فقال اعشى همدان في ذلك:
الم يبلغك ما لقيت شبام [2] ... وما لاقت عرينه بالمذار
اتيح لهم بها ضرب طلحق ... وطعن بالمثقفه الحرار
كان سحابه صعقت عليهم ... فعمتهم هنالك بالدمار
وما ان ساءني ما كان منهم ... لدى الاعسار منى واليسار
ولكنى فرحت وطاب نومي ... وقر لقتلهم منى قرارى
وان مصعبا سار بالجيوش نحو الكوفه، فعبر دجلة، وخرج الى ارض كسكر، ثم
أخذ على حديثه الفجار، ثم أخذ على النجرانية حتى قارب الكوفه.
قتل المختار
وبلغ المختار مقتل اصحابه، فنادى في بقية من كان معه من جنوده، فقواهم
بالأموال والسلاح، وسار بهم من الكوفه مستقبلا لمصعب بن الزبير،
فالتقوا بنهر البصريين، فاقتتلوا، فقتل من اصحاب المختار مقتله عظيمه،
وقتل محمد بن الاشعث، وقتل عمر بن على بن ابى طالب، ع.
وذلك انه قدم من الحجاز على المختار، فقال له المختار:
هل معك كتاب محمد بن الحنفيه؟
__________
[1] بلده في ميسان بين واسط والبصره، بها مشهد عظيم، به قبر عبد الله
بن على بن ابى طالب.
[2] شبام: حي من همدان.
(1/306)
فقال عمر: لا، ما معى كتابه.
فقال له: انطلق حيث شئت فلا خير لك عندي.
فخرج من عنده، وسار الى مصعب، فاستقبله في بعض الطريق، فوصله بمائه الف
درهم، واقبل مع مصعب حتى حضر الوقعه، فقتل فيمن قتل من الناس.
وانهزم المختار حتى دخل الكوفه، وتبعه مصعب، فدخل في اثره، وتحصن
المختار في قصر الإمارة، فاقبل مصعب حتى اناخ عليه، وحاصره اربعين
يوما.
ثم ان المختار قلق بالحصار قلقا عظيما، فقال [1] للسائب بن مالك
الأشعري، وكان من خاصته:
ايها الشيخ، اخرج بنا نقاتل على احسابنا لا على الدين.
فاسترجع السائب، وقال: يا أبا اسحق، لقد ظن الناس ان قيامك بهذا الأمر
دينونه.
فقال المختار: لا، لعمري ما كان الا لطلب دنيا، فانى رايت عبد الملك
ابن مروان قد غلب على الشام، وعبد الله بن الزبير على الحجاز، ومصعبا
على البصره، ونجده الحروري على العروض [2] ، وعبد الله بن خازم على
خراسان، ولست بدون واحد منهم، ولكن ما كنت اقدر على ما اردت الا
بالدعاء الى الطلب بثار الحسين.
ثم قال:
يا غلام، على بفرسي ولامتى.
فاتى بدرعه، فتدرعها، وركب فرسه.
ثم قال: قبح الله العيش بعد ما ارى، يا بواب، افتح.
ففتح له الباب.
__________
[1] محو في الأصل.
[2] العروض: المدينة ومكة واليمن، وقال ابن الكلبى: برد اليمامه
والبحرين وما والاها العروض.
(1/307)
وخرج ومعه حماه اصحابه، فقاتل القوم قتالا
شديدا، وانهزم اصحابه، ومضى هو نحو القصر، وهو في حاميه اصحابه، فدخل
القصر من اصحابه سته آلاف رجل، وبقي مع المختار نحو من ثلاثمائه رجل،
فاخذ اصحاب مصعب عليه باب القصر، فلجا المختار فيمن معه الى حائط
القصر، واقبل يذمر اصحابه، ويحمل.
فلم يزل يقاتل حتى قتل اكثر من كان معه.
فحمل عليه اخوان من بنى حنيفه من اصحاب المهلب، فضرباه بالسيف حتى سقط،
وبادرا اليه، فاحتزا راسه، فأتيا به مصعبا، فأعطاهما ثلاثين الف درهم.
فقال سويد بن ابى كاهل يذكر قتل المختار:
يا ليت شعرى متى تغدو مخيسه [1] ... منا فتبلغ اهل الموسم الخبرا
انا جزرنا عن الكذاب هامته ... من بعد طعن وضرب يكشف الخمرا
ووجه مصعب برأس المختار الى عبد الله بن الزبير مع عبد الله بن عبد
الرحمن.
قال عبد الله: فوافيت مكة بعد العشاء الآخرة، فأتيت المسجد، وعبد الله
ابن الزبير يصلى، قال: فجلست انتظره، فلم يزل يصلى الى وقت السحر، ثم
انفتل من صلاته، فدنوت منه، فناولته كتاب الفتح، فقراه، وناوله غلامه،
وقال:
امسكه معك.
فقلت: يا امير المؤمنين، هذا الراس معى.
قال: فما تريد؟.
قلت: جائزتي.
قال: خذ الراس الذى جئت به بجائزتك.
فتركته، وانصرفت.
__________
[1] جماعه من راكبي الإبل المخيسه وهي التي لم تسرح
(1/308)
سلطان عبد الله بن
الزبير
قالوا: ولما قتل المختار، واستتب الأمر لعبد الله بن الزبير، ارسل الى
عبد الله ابن عباس ومحمد بن الحنفيه: اما ان تبايعاني او تخرجا من
جواري.
فخرجا من مكة، فنزلا الطائف، وأقاما هناك.
وتوفى عبد الله بن عباس بالطائف، وصلى عليه محمد بن الحنفيه.
وخرج محمد بن الحنفيه حتى اتى ايله [1] ، وكتب الى عبد الملك بن مروان،
يستاذنه في القدوم عليه، والنزول في جواره، فكتب اليه: وراءك اوسع لك،
ولا حاجه لي فيك.
فأقام محمد بن الحنفيه عامه ذلك بايله، ثم توفى بها.
وقتل المختار، وابراهيم بن الاشتر عامله على كوره الجزيرة، فكتب الى
مصعب يسأله الامان، وكتب اليه يأمره بالقدوم عليه، فقدم وبايعه، وفوض
مصعب اليه جميع امره، واظهر بره والطافه، ولم تزل السته الآلاف [2]
الذين دخلوا القصر متحصنين فيه شهرين، حتى نفد جميع ما كان المختار
اعده فيه من الطعام، فسألوا الامان، فأبى مصعب ان يعطيهم الامان الا
على حكمه.
فأرسلوا اليه: انا ننزل على حكمك.
فنزلوا عند ما بلغ اليهم الجوع.
فضرب أعناقهم كلها، وكانوا سته آلاف: الفين من العرب، واربعه آلاف من
العجم.
ودعا مصعب بامرأتي المختار، أم ثابت ابنه سمره بن جندب، وعمره بنت
النعمان بن بشير، فدعاهما الى البراءة من المختار، فاما أم ثابت فإنها
تبرات منه، وأبت عمره ان تتبرأ منه.
فامر بها مصعب، فأخرجت الى الجبانة، فضربت عنقها.
__________
[1] مدينه كانت على ساحل البحر الأحمر مما يلى الشام، وهي مدينه اليهود
الذين اعتدوا في السبت، وكان حجاج مصر يجتازونها.
[2] في الأصل: آلاف.
(1/309)
فقال بعض الشعراء في ذلك:
ان من اعجب العجائب عندي ... قتل بيضاء حره عطبول [1]
قتلوها بغير ذنب سفاها ... ان لله درها من قتيل
كتب القتل والقتال علينا ... وعلى المحصنات جر الذيول
وقال سعيد بن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت في ذلك:
الم تعجب الأقوام من قتل حرة ... من المخلصات الدين محموده الأدب؟
من الغافلات المؤمنات بريئة ... من الزور والبهتان والشك والريب
علينا كتاب الله في القتل واجب ... وهن الضعاف في الحجال وفي الحجب
فقلت ولم اظلم، اعمرو بن مالك ... يقتل ظلما، لم يخالف ولم يرب
ويسبقنا آل الزبير بوترنا ... ونحن حماة الناس في البارق الاشب [2]
فان تعقب الأيام منهم نجازهم ... على حنق بالقتل والاسر والحنب [3]
ثم ان مصعب بن الزبير نزل القصر بالكوفه، واستعمل العمال، وجبى الخراج،
فولى البصره عبيد الله بن معمر التيمى، ورد المهلب الى قتال الازارقه.
قالوا: ولما صفا الأمر لعبد الله بن الزبير ودانت له البلدان الا ارض
الشام، جمع عبد الملك بن مروان اخوته، وعظماء اهل بيته، فقال لهم: ان
مصعب بن الزبير قد قتل المختار، ودانت له ارض العراق، وسائر البلدان،
ولست آمنه ان يغزوكم في عقر بلادكم، وما من قوم غزوا في عقر دارهم الا
ذلوا، فما ترون؟.
فتكلم بشر بن مروان، فقال:
يا امير المؤمنين، ارى ان تجمع إليك اطرافك، وتستجيش جنودك، وتضم إليك
قواصيك، وتسير اليه، وتلف الخيل بالخيل، والرجال بالرجال، والنصر من
عند الله.
__________
[1] المرأة العطبول هي الفتيه الجميلة الممتلئة الطويله العنق.
[2] البارق: موضع قرب الكوفه، والاشب: كثير الشجر.
[3] الحنب والتحنيب: اعوجاج في الضلوع.
(1/310)
فقال القوم: هذا الرأي، فاعمل به، فان بنا
قوه ونهوضا.
فوجه رسله الى كور الشام ليجتمع اليه، فاجتمع له جميع اجناد الشام، ثم
سار وقد احتشد، ولم ينزل.
خضوع العراق لجند الشام
وبلغ مصعب بن الزبير خروجه، فضم اليه اطرافه، وجمع اليه قواصيه،
واستعد، ثم خرج لمحاربته، فتوافى العسكران بدير الحانات، فقال عدى بن
زيد بن عدى، وكان مع عبد الملك:
لعمري لقد اصحرت خيلنا ... بأكناف دجلة للمصعب [1]
يجرون كل طويل الكعوب ... معتدل النصل والثعلب [2]
بكل فتى واضح وجهه ... كريم الضرائب [3] والمنصب
ولما نظر اصحاب مصعب الى كثره جموع عبد الملك تواكلوا، وشملهم الرعب،
فقال مصعب لعروه بن المغيره، وهو يسايره:
ادن يا عرو اكلمك.
فدنا منه.
فقال: أخبرني عن الحسين، كيف صنع حين نزل به الأمر؟
قال عروه: فجعلت احدثه بحديث الحسين، وما عرض عليه ابن زياد من النزول
على حكمه، فأبى ذلك، وصبر للموت.
فضرب مصعب معرفه [4] دابته بالسوط، ثم قال:
فان الالى بالطف [5] من آل هاشم ... تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
وان عبد الملك كتب الى رؤساء اصحاب مصعب يستميلهم اليه، ويعرض عليهم
الدخول في طاعته، ويبذل لهم على ذلك الأموال.
__________
[1] اصحرت الخيل: برزت في الصحراء، والأكناف جمع كنف بفتحتين وهو
الجانب.
[2] المقصود بالثعلب طرف الرمح الداخل في جبه السنان.
[3] الضرائب: جمع ضريبه، وهي الطبيعة والسجية، او السيف وحده، كالمضرب.
[4] المعرفة موضع العرف من الفرس.
[5] الطف: موضع قرب الكوفه.
(1/311)
وكتب الى ابراهيم بن الاشتر فيمن كتب.
فاقبل ابراهيم بالكتاب مختوما فناوله مصعبا، وقال:
ايها الأمير، هذا كتاب الفاسق عبد الملك بن مروان.
قال له مصعب: فهلا قراته.
قال: ما كنت لافضه، ولا اقراه الا بعد قراءتك له.
ففضه مصعب، وإذا فيه:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الله عبد الملك امير المؤمنين الى
ابراهيم ابن الاشتر، اما بعد، فانى اعلم ان تركك الدخول في طاعتي ليس
الا عن معتبه، فلك الفرات وما سقى، فانجز الى فيمن أطاعك من قومك،
والسلام.
فقال مصعب: فما يمنعك يا ابن النعمان؟
قال: لو جعل لي ما بين المشرق الى المغرب ما اعنت بنى اميه على ولد
صفيه.
فقال مصعب: جزيت خيرا أبا النعمان.
فقال ابراهيم لمصعب: ايها الأمير، لست اشك ان عبد الملك قد كتب الى
عظماء أصحابك بنحو مما كتب الى، وانهم قد مالوا اليه، فائذن لي في
حبسهم الى فراغك، فان ظفرت مننت بهم على عشائرهم، وان تكن الاخرى كنت
قد أخذت بالحزم.
قال مصعب: اذن يحتجوا على عند امير المؤمنين.
فقال ابراهيم: ايها الأمير، لا امير المؤمنين والله لك اليوم، وما هو
الا الموت، فمت كريما.
فقال مصعب: يا أبا النعمان، انما هو انا وأنت فنقدم للموت.
قال ابراهيم: اذن، والله افعل.
قال: ولما نزلوا بدير الجاثليق [1] باتوا ليلتهم.
__________
[1] الجاثليق رئيس للنصارى في بلاد الاسلام بمدينه السلام، ويكون تحت
يد بطريق أنطاكية، ثم المطران تحت يده، ثم الاسقف يكون في كل بلد من
تحت المطران، ثم القسيس، ثم الشماس.
(1/312)
فلما أصبحوا نظر ابراهيم بن الاشتر، فإذا
القوم الذين اتهمهم قد ساروا تلك الليلة، فلحقوا بعبد الملك بن مروان،
فقال لمصعب:
كيف رايت رأيي؟.
ثم زحف بعضهم الى بعض، فاقتتلوا، فاعتزلت ربيعه، وكانوا في ميمنه مصعب،
وقالوا لمصعب: لا نكون معك ولا عليك.
وثبت مع مصعب اهل الحفاظ، فقاتلوا، وامامهم ابراهيم بن الاشتر، فقتل
ابراهيم.
فلما راى مصعب ذلك، استمات، فترجل، وترجل معه حماه اصحابه، فقاتلوا حتى
قتل عامتهم، وانكشف الباقون عن مصعب.
فحمل عليه عبد الله بن ظبيان، فضربه من ورائه بالسيف، ولا يشعر به
مصعب، فخر صريعا، فنزل واجهز عليه، واحتز راسه.
فاتى به عبد الملك، فخزن عليه حزنا شديدا، وقال: متى تغدو قريش مثل
مصعب؟ وددت لو انه قبل الصلح، وانى قاسمته مالي.
ولما قتل مصعب بن الزبير استامن من بقي من اصحابه الى عبد الملك،
فامنهم.
فقال عبد الله بن قيس الرقيات:
لقد ورد المصرين خزى وذله ... قتيل بدير الجاثليق مقيم
فما صبرت في الحرب بكر بن وائل ... ولا ثبتت عند اللقاء تميم
ولكنه ضاع الذمار فلم يكن ... بها عربي عند ذاك كريم
وكان قتل مصعب يوم الخميس للنصف من جمادى الاولى سنه اثنتين وسبعين [1]
.
فارتحل عبد الملك بالناس حتى دخل الكوفه، فدعاهم الى البيعه، فبايعوه.
ثم جهز الجيوش الى تهامه لمحاربه عبد الله بن الزبير، وولى الحرب قدامه
ابن مظعون، وامره بالمسير.
وانصرف عبد الملك الى الشام.
__________
[1] سنه 691 م
(1/313)
مقتل عبد الله بن
الزبير
ثم وجه الحجاج بن يوسف لمحاربه عبد الله بن الزبير، وعزل قدامه بن
مظعون، فسار الحجاج حتى نزل الطائف، واقام شهرا.
ثم كتب الى عبد الملك: انك يا امير المؤمنين متى تدع ابن الزبير يعمل
فكره، ويستجيش ويجمع انصاره، وتثوب اليه فلاله كان في ذلك قوه له،
فائذن في معاجلته لي.
فاذن له.
فقال الحجاج لأصحابه: تجهزوا للحج.
وكان ذلك في ايام الموسم.
ثم سار من الطائف حتى دخل مكة، ونصب المنجنيق على ابى قبيس [1] .
فقال الاقيشر الأسدي:
لم أر جيشا غر بالحج مثلنا ... ولم أر جيشا مثلنا غير ما خرس
دلفنا لبيت الله نرمي ستوره ... باحجارنا زفن الولائد في العرس [2] .
دلفنا له يوم الثلاثاء من منى ... بجيش كصدر الفيل ليس بذى راس
فالا ترحنا من ثقيف وملكها ... نصل لايام السباسب والنحس [3] .
فطلبه الحاج، فهرب، واناخ الحجاج بابن الزبير.
وتحصن منه ابن الزبير في المسجد.
واستعمل الحجاج على المنجنيق ابن خزيمة [4] ، فجعل يرمى اهل المسجد
ويقول:
خطاره مثل الفنيق الملبد ... نرمي بها عواذ اهل المسجد [5]
__________
[1] ابو قبيس جبل بمكة سمى باسم رجل من مذحج حداد، لأنه أول من بنى
فيه.
[2] زفن كضرب: رقص.
[3] السباسب هي ايام السعانين، والسعانين، او الشعانين: عيد للنصارى
قبل عيد الفصح باسبوع، يخرجون فيه بصلبائهم.
[4] الخثعمى
[5] الخطاره: المقلاع والمنجنيق، والفنيق الفحل المكرم.
(1/314)
فلما اشتد على ابن الزبير واصحابه الحصار،
خرجت بنو سهم من بابهم، فقال ابن الزبير:
فرت سلامان، وفرت النمر ... وقد تكون معهم فلا تفر
وجعل اهل الشام يدخلون عليه المسجد، فيشد عليهم، فيخرجهم من المسجد حتى
رمى بحجر، فأصاب جبهته، فسقط لوجهه، ثم تحامل، فقام، وهو يقول:
فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ... ولكن على أقدامنا تقطر الدما
ثم قال لأصحابه: اخرجوا الى من بالباب، واحملوا، ولا يلهينكم طلبى،
والسؤال عنى، فانى في الرعيل الاول.
فخرج، وخرجوا معه، فقاتل قتالا شديدا حتى قتل عامه من كانوا معه،
واحدقوا به من كل جانب، فضربوه بأسيافهم حتى قتلوه.
فامر به الحجاج، فصلب.
فمر به عبد الله بن عمر، فقال:
رحمك الله أبا بكر، اما والله لقد كنت صواما قواما، غير انك رفعت
الدنيا فوق قدرها، وليست لذلك باهل، وان أمه أنت شرها لامه صدق.
وكان مقتل ابن الزبير يوم الثلاثاء لسبع عشره ليله خلت من جمادى
الآخرة، سنه ثلاث وسبعين [1] .
ولما قتل عبد الله بن الزبير خرج اخوه عروه بن الزبير هاربا من الحجاج
حتى اتى الشام، فاستجار بعبد الملك بن مروان، فاجاره، واظهر إكرامه،
واقام عنده.
فكتب الحجاج الى عبد الملك به ان اموال عبد الله بن الزبير عند أخيه
عروه، فرده الى لاستخرجها منه.
فقال عبد الملك لبعض احراسه:
انطلق بعروة الى الحجاج.
__________
[1] سنه 692 م
(1/315)
فقال عروه:
يا بنى مروان، ما ذل من قتلتموه، بل ذل من ملكتموه.
فتذمم عبد الملك، وخلى سبيل عروه.
وكتب الى الحجاج: اله عن عروه، فلن أسلطك عليه.
فأقام الحجاج بمكة حتى اقام للناس الحج.
وامر بالكعبه فنقضت، واعاد بناءها، وهو هذا البناء القائم اليوم.
وفي ذلك العام توفى عبد الله بن عمر، وله اربع وسبعون سنه. فدفن بذى
طوى [1] في مقبره المهاجرين.
وكان يكنى أبا عبد الرحمن.
وفيها مات ابو سعيد الخدرى، واسمه سعد بن مالك.
وفيها مات رافع بن خديج، وله ست وثمانون سنه، وكان يكنى أبا عبد الله.
سك النقود العربية
قالوا: وامر عبد الملك بضرب الدراهم سنه ست وسبعين، ثم امر بعد ذلك
بضرب الدنانير، وهو أول من ضربها في الاسلام.
وانما كانت الدراهم والدنانير قبل ذلك مما ضربت العجم.
وفي تلك السنه مات جابر بن عبد الله، وله سبع وتسعون سنه.
ابن الاشعث وفتنته
ثم خرج عبد الرحمن بن محمد بن الاشعث بن قيس على الحجاج.
وكان سبب خروجه انه دخل على الحجاج يوما، فقال له الحجاج:
انك لمنظر انى.
قال عبد الرحمن: اى والله، ومخبرانى.
وقام عبد الرحمن، فخرج.
__________
[1] ذو طوى، مثلث الطاء موضع قرب مكة.
(1/316)
فقال الحجاج لمن كان عنده:
ما نظرت الى هذا قط، الا اشهيت ان اضرب عنقه.
وكان عامر الشعبى حاضرا.
وان عبد الرحمن لما خرج قعد بالباب حتى خرج الشعبى، فقام عبد الرحمن
اليه.
فقال له: هل ذكرني الأمير بعد خروجى من عنده بشيء؟
فقال الشعبى: أعطني عهدا وثيقا الا يسمعه منك احد.
فاعطاه ذلك.
فاخبره بما كان الحجاج قال فيه.
فقال عبد الرحمن:
والله لاجهدن في قطع خيط رقبته.
ثم ان عبد الرحمن دب في عباد اهل الكوفه وقرائهم، فقال:
ايها الناس، الا ترون هذا الجبار يعنى الحجاج وما يصنع بالناس؟
الا تغضبون لله؟ الا ترون ان السنه قد أميتت، والأحكام قد عطلت،
والمنكر قد اعلن، والقتل قد فشا؟ اغضبوا لله، واخرجوا معى، فما يحل لكم
السكوت.
فلم يزل يدب في الناس بهذا وشبهه حتى استجاب له القراء والعباد،
وواعدهم يوما يخرجون فيه.
فخرجوا على بكره ابيهم، واتبعهم الناس، فساروا حتى نزلوا الاهواز، ثم
كتبوا الى الحجاج:
خلع الملوك وسار تحت لوائه ... شجر العرى وعراعر الأقوام [1]
فأرسل الحجاج كتابه الى عبد الملك بن مروان.
فكتب عبد الملك في جوابه:
وانى وإياهم كمن نبه القطا ... ولو لم ينبه باتت الطير لا تسرى [2]
اخال صروف الدهر للحين منهم ... ستحملهم منى على مركب وعر
__________
[1] جمع عرور بضم الاول والثانى وهو الاجرب.
[2] القطا: طائر ومفرده قطاة.
(1/317)
قالوا: واهديت لعبد الملك في ذلك اليوم
جاريه إفريقية، أهداها اليه موسى ابن نصير، عامله على ارض المغرب،
وكانت من اجمل نساء دهرها، فباتت عنده تلك الليلة، فلم ينل منها شيئا
اكثر من ان غمز كفها، وقال لها: ان دونك امنيه المتمنى.
قالت: فما يمنعك؟
قال: يمنعني بيت مدحنا به، وهو:
قوم إذا حاربوا شدوا مآزرهم ... دون النساء ولو باتت باطهار
فزعموا انه مكث سبعه اشهر لا يقرب امراه حتى أتاه قتل عبد الرحمن بن
محمد.
ثم ان الحجاج بعث أيوب بن القرية الى عبد الرحمن بن محمد، وقال:
انطلق، فادفعه الى الطاعة، وله الامان على ما سلف من ذنبه.
فانطلق اليه ابن القرية، فدعاه، فابلغ في الدعاء، فقال له عبد الرحمن:
ويحك يا ابن القرية، ايحل لك طاعته مع ارتكابه العظائم، واستحلاله
المحارم؟ اتق الله يا ابن القرية، ووال عباد الله في البريه.
ولم يزل عبد الرحمن بابن القرية يختدعه حتى ترك ما ارسل فيه، واقام مع
عبد الرحمن، فقال له عبد الرحمن:
انى اريد ان اكتب الى الحجاج كتابا مسجعا، اعرفه فيه سوء فعاله، وابصره
قبح سريرته، فامله على.
فقال أيوب: ان الحجاج يعرف الفاظى.
قال: وما عليك، انى لأرجو ان نقتله عن قريب.
فاملى عليه، فكتب:
بسم الله الرحمن الرحيم، من عبد الرحمن بن محمد، الى الحجاج بن يوسف،
سلام على اهل طاعه الله، الذين يحكمون بما انزل الله، ولا يسفكون دما
حراما، ولا يعطلون لله احكاما، فانى احمد الله الذى بعثني لمنازلتك،
وقواني على محاربتك
(1/318)
حين تهتكت ستورك، وتحيرت امورك، فأصبحت
حيران تائها، لهفان لا تعرف حقا، ولا تلائم صدقا، ولا ترتق فتقا، ولا
تفتق رتقا، وطالما تطاولت فيما تناولت، فصرت في الغى مذبذبا، وعلى
الشراره مركبا، فتدبر امرك، وقس شبرك بفترك [1] ، فإنك مراق عراق [2] ،
ومعك عصابه فساق، جعلوك مثالهم، كحذوهم نعالهم، فاستعد للابطال بالسيوف
والعوال [3] ، فستذوق وبال امرك، ويرجع عليك غيك، والسلام.
فلما قرأ الحجاج الكتاب عرف الفاظ ابن القرية، وعلم انه من املائه.
فكتب الى عبد الرحمن في جوابه.
بسم الله الرحمن الرحيم، من الحجاج بن يوسف الى عبد الرحمن بن الاشعث،
سلام على اهل التورع لا التبدع، فانى احمد الله الذى حيرك بعد البصيره،
فمرقت عن الطاعة، وخرجت عن الجماعه، فعسكرت في الكفر، وذهلت عن الشكر،
فلا تحمد الله في سراء، ولا تصبر لأمره في ضراء، قد أتاني كتابك بلفظات
فاجر، فاسق غادر، وسيمكن الله منه، ويهتك ستوره، اما بعد فهلم الى فعل
وفعال، ومعانقه الابطال بالبيض والعوال، فان ذلك احرى بك من قيل وقال،
وَالسَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى، وخشي الله، واتقى.
وان عبد الملك وجه الى الحجاج عشره آلاف رجل من فرسان اهل الشام
لمحاربه عبد الرحمن بن محمد.
فلما قدموا عليه تجهز، وسار نحو عبد الرحمن، فالتقوا بالاهواز،
فاقتتلوا، فانهزم عبد الرحمن، ومضى على وجهه، فمر على رجل من اصحابه
مسلوب حاف، يمشى ويعثر.
__________
[1] الشبر: ما بين اعلى الابهام واعلى الخنصر، والفتر بالكسر ما بين
طرف الابهام وطرف المشيره.
[2] المرق: اكثار مرقه القدر والعرق العظم بلحمه.
[3] الرماح.
(1/319)
فأنشأ عبد الرحمن يقول:
منخرق الخفين يشكو الوجى ... تنكئه اطراف مرو حداد [1]
اخرجه الخذلان عن أرضه ... كذلك من يكره حر الجلاد
ان كان في الموت له راحة ... فالموت حتم في رقاب العباد
فقال الرجل:
فهلا ثبت، فنقاتل معك.
فقال له عبد الرحمن:
اوبمثلك تسد الثغور؟!.
ومضى عبد الرحمن حتى استجار بملك الاتراك، فأقام عنده.
فكتب عبد الملك الى ملك الاتراك، يخبره بشقاق عبد الرحمن، وخلعه
الطاعة، وخروجه عليه، ويسأله ان يرده عليه.
فقال ملك الاتراك لطراخنته [2] :
ان ابن الاشعث هذا رجل مخالف للملوك، فلا ينبغى لي ان آويه، بل ابعث به
الى ملكه، فيتولى من امره ما أحب.
فوجه به مع مائه رجل من ثقاته، فانزلوه في طريقه قصرا في قريه، فرقى
الى ظهر القصر، ورمى بنفسه من السور، فمات.
وان أيوب بن القرية اسر فيمن اسر من اصحاب عبد الرحمن، فادخل به على
الحجاج.
فلما ادخل عليه، قال له:
يا عدو الله، بعثتك رسولا الى عبد الرحمن، فتركت ما بعثت له، وصرت
وزيرا ومشيرا، تصدر له الكتب، وتسجع له الكلام، وتدبر له الأمور.
__________
[1] الوجى: الحفا، او أشد منه، ونكى: جرح، والمرو: حجارة بيض تورى
النار.
[2] جمع طرخان بالفتح وهو اسم للرئيس الشريف.
(1/320)
فقال ابن القرية:
اصلح الله الأمير، كان شيطانا في مسك انسان، استمالني بسحره، وخلبنى
بلفظه، فكان اللسان ينطق بغير ما في القلب.
قال الحجاج:
كذبت يا ابن اللخناء [1] ، بل كان قلبك منافقا، ولسانك مدامجا، فكتمت
امرا اظهره الله، واطعت فاسقا خذله الله، فما بقي من نعتك؟
قال ابن القرية: ذهني جديد، وجوابي عتيد.
قال: كيف علمك بالأرض؟
قال: ليسألني الأمير عما أحب.
قال: أخبرني عن الهند.
قال: بحرها در، وجبلها ياقوت، وشجرها عطر.
قال: فأخبرني عن مكران.
قال: ماؤها وشل [2] ، وتمرها دقل [3] ، وسهلها جبل، ولصها بطل، ان كثر
الجيش بها جاعوا، وان قلوا ضاعوا.
قال: فخراسان.
قال: ماؤها جامد، وعدوها جاهد، بأسهم شديد، وشرهم عتيد، وخيرهم بعيد.
قال: فاليمن.
قال: ارض العرب، ومعدن الذهب.
قال: فعمان.
قال: حرها شديد، وصيدها موجود، وأهلها عبيد.
__________
[1] اللخن محركه: قبح ريح الفرج، والمرأة اللخناء التي لم تختن.
[2] الوشل محركه: الماء القليل.
[3] الدقل: اردا التمر.
(1/321)
قال: فالبحرين.
قال: كناسه [1] بين مصرين، وجنه بين بحرين.
قال: فمكه.
قال: قوم ذوو جفاء، ومن سجيتهم الوفاء.
قال: فالمدينة.
قال: ذوو لطف وبر، وخير وشر.
قال: فالبصره.
قال: حرها فادح، وماؤها مالح، وفيضها سائح.
قال: فالكوفة.
قال: جنه بين حماه وكنه [2] ، العراق تحشد لها، والشام يدر عليها، سفلت
عن برد الشام، وارتفعت عن حر الحجاز.
قال: فالشام.
قال: تلك عروس بين نسوه جلوس، تجلب إليها الأموال، وفيها الضراغمه
الابطال.
قال له الحجاج: ثكلتك أمك، أنت المصدر الكتب لابن الاشعث، الم تعلم انى
لا اصاحب على الشقاق، ولا اجامع على النفاق؟
قال ابن القرية: استبقني ايها الأمير.
قال: لماذا؟
قال: لنبوه بعد هفوة.
قال الحجاج: لا، بل لغدره بعد نكثه، يا غلام، ناولني الحربه.
وقد امسك ابن القرية اربعه رجال فلا يستطيع تحريكا، وهز الحجاج الحربه
ثلاثا.
__________
[1] الكناسة: المرأة الحسناء.
[2] موضعان أولهما بالشام والثانى بفارس.
(1/322)
فقال ابن القرية: اسمع منى ثلاث كلمات، تكن
بعدي مثلا.
قال: هات.
قال: لكل جواد كبوه، ولكل حليم هفوة، ولكل شجاع نبوه.
فوضع الحجاج الحربه في ثندوه ابن القرية، ودفعها حتى خالطت جوفه، ثم
خضخضها [1] ، وأخرجها، فاتبعها دم اسود.
فقال الحجاج:
هكذا تشخب أوداج الإبل.
وفحص ابن القرية برجليه وشخص بصره، وجعل الحجاج ينظر اليه حتى قضى.
فحمل في النطع [2] .
فقال الحجاج:
لله درك يا ابن القرية، اى ادب فقدنا منك، واى كلام رصين سمعنا منك.
ودخل بعد ذلك انس بن مالك.
فقال له الحجاج:
هيه يا انس، يوما مع المختار، ويوما مع ابن الاشعث، جوال في الفتن،
والله لقد هممت ان اطحنك طحن الرحى بالثفال [3] ، واجعلك غرضا للنبال.
قال انس: من يعنى الأمير؟ اصلحه الله.
قال: إياك اعنى، اسك الله سمعك.
فانصرف انس الى منزله، وكتب من ساعته الى عبد الملك بن مروان:
بسم الله الرحمن الرحيم، لعبد الله عبد الملك امير المؤمنين من انس بن
مالك،
__________
[1] الخضخضة: تحريك الماء.
[2] النطع: بساط من الأديم.
[3] الثفال ككتاب الحجر الأسفل من الرحى.
(1/323)
اما بعد، فان الحجاج قال لي نكرا، واسمعنى
هجرا، ولم أكن لذلك أهلا، فخذ على يديه، وأعدني عليه، والسلام.
فلما قرأ عبد الملك كتاب انس استشاط غضبا، ثم كتب اليه.
هيه يا ابن يوسف، اردت ان تعلم راى امير المؤمنين في انس، فان سوغك
مضيت قدما، وان لم يسوغك رجعت القهقرى، يا ابن المستفرمة بعجم الزبيب
[1] ، انسيت مكاسب آبائك بالطائف في حفر الابار، وسد السكور [2] ، وحمل
الصخور على الظهور؟ ابلغ من جرأتك على امير المؤمنين ان تعنت بانس ابن
مالك، خادم رسول الله ص ست سنين، يطلعه على سره، ويفشى اليه الاخبار
التي كانت تأتيه عن ربه؟ فإذا أتاك كتابي هذا فامش اليه على قدميك حتى
تأخذ كتابه الى بالرضى، والسلام.
فلما وصل كتاب عبد الملك الى الحجاج قال لمن حوله من اصحابه: قوموا بنا
الى ابى حمزه. فقام ماشيا.
ومضى معه اصحابه حتى اتى أنسا، فاقراه كتاب عبد الملك اليه.
فقال انس: جزى الله امير المؤمنين خيرا، كذلك كان رجائى فيه.
قال له الحجاج: فان لك العتبى، وانا صائر الى مسرتك، فاكتب الى امير
المؤمنين بالرضى.
فكتب اليه انس بالرضى عنه.
ودفعه الى الحجاج، فانفذه الحجاج على البريد الى عبد الملك.
نهاية عبد الملك بن مروان
قالوا: ولما حضرت عبد الملك الوفاة، وذلك في سنه ست وثمانين أخذ البيعه
__________
[1] العجم كل ما كان في جوف ماكول كالزبيب، واستفرمت المرأة بعجم
الزبيب يعنى انها عالجت به فرجها ليضيق.
[2] السكور جمع سكر وهو ما يسد به النهر.
(1/324)
لابنه الوليد، وكان ولده: الوليد، وسليمان،
ويزيد، وهشام، ومسلمه، ومحمد.
ثم قال للوليد: يا وليد، لا الفينك إذا وضعتني في حفرتي ان تعصر عينيك
كالأمة الورهاء [1] بل ائتزر وشمر، والبس جلد النمر، وادع الناس الى
البيعه ثانيا، فمن قال برأسه كذا، فقل بالسيف كذا. ووعك وعكا شديدا.
فلما اصبح جاء الوليد، فقام بباب المجلس، وهو غاص بالنساء، فقال:
كيف اصبح امير المؤمنين؟
قيل له: يرجى له العافيه.
وسمع عبد الملك ذلك، فقال:
وكم سائل عنا يريد لنا الردى ... وكم سائلات والدموع ذوارف
ثم امر بالنساء، فخرجن.
واذن لبنى اميه فدخلوا عليه وفيهم خالد وعبد الله ابنا يزيد بن معاويه
فقال لهما:
يا بنى يزيد، اتحبان ان اقيلكما بيعه الوليد؟
قالا: معاذ الله، يا امير المؤمنين.
قال: لو قلتما غير ذلك لأمرت بقتلكما على حالتي هذه.
ثم خرجوا عنه، واشتد وجعه، فتمثل ببيت اميه بن ابى الصلت:
ليتنى كنت قبل ما قد بدا لي ... في قلال الجبال ارعى الوعولا
فلم يمس يومه ذلك حتى قضى.
وكان سلطانه احدى وعشرين سنه وسته اشهر، وكان له يوم مات ثمان وخمسون
سنه، من ذلك سبع سنين، كان فيها محاربا لعبد الله بن الزبير، ثم صفا له
الملك بعد قتله ابن الزبير ثلاثة عشر سنه ونصفا.
__________
[1] الجاريه الحمقاء.
(1/325)
|