الأخبار الطوال

الوليد بن يزيد
فلما استخلف الوليد بن يزيد امر صاحب شرطه سعيد بن غيلان بأخذ خالد بالمال الذى عليه من بقايا خراج العراقين والبسط عليه، وقال: اسمعنى صياحه.
فاقبل سعيد بن غيلان الى خالد وهو في منزله، فاخرجه، فانطلق به الى السجن، فعذبه يومه ذلك بألوان العذاب، فلم يكلمه خالد بحرف.
وقال الاشعث بن القينى فيما نال خالدا:
الا ان خيرا الناس نفسا ووالدا ... اسير قريش عندها في السلاسل
لعمري، لقد اعمرتم السجن خالدا ... واوطاتموه وطأة المتثاقل
فان تحبسوا القسرى لا تحبسوا اسمه ... ولا تحبسوا معروفه في القبائل
وقدم يوسف بن عمر الثقفى بمال العراقين على الوليد، فجلس الوليد للناس، واذن لهم إذنا عاما.
فتكلم زياد بن عبد الرحمن الضمرى، وكان معاندا لخالد، فقال: يا امير المؤمنين، على محاسبه خالد بخمسه آلاف الف درهم، فسلمه الى.
فأرسل الوليد الى خالد وهو في السجن ان زياد بن عبد الرحمن قد اعطى بمحاسبتك خمسه آلاف الف درهم، فان صححتها لنا، والا دفعناك اليه.
فأرسل له خالد: ان عهدي بالعرب لاتباع، وبالله لو سألتني ان اضمن لك هذا، ورفع عود من الارض، ما فعلت.
فلما راى الوليد بن زيد تقاعد خالد بما عليه من المال امر به، فسلم الى يوسف ابن عمر، وقال: انطلق به الى العراق، واستاده جميع ما عليه من المال.

(1/347)


فحمله يوسف بن عمر معه الى واسط [1] ، فكان يخرجه كل يوم ويعذبه، ثم يرده الى الحبس، فاخرجه ذات يوم، وقال: ما هذا التقاعد يا ابن المائقه [2] .
فقال له خالد: ما ذكرك الأمهات، لعنك الله؟ والله لا اكلمك بكلمة ابدا.
فغضب يوسف بن عمر من ذلك، فوضع على خالد المضرسه [3] ، وجعل يعذبه بها حتى قتله، فدفنه ليلا في عباءه كانت عليه.
فأنشأ الوليد بن يزيد:
الم تهتج فتذكر الوصالا ... وحبلا كان متصلا فزالا
بلى، فالدمع منك له سجال ... كماء الغرب ينهمل انهمالا
فدع عنك ادكارك آل سعدى ... فنحن الاكثرون حصى ومالا
ونحن المالكون الناس قسرا ... نسومهم المذلة والنكالا
ونوردهم حياض الخسف ذلا ... وما نالوهم الا خبالا [4]
وطئنا الاشعرين بكل أرض ... ولم يك وطؤنا ان يستقالا
وكنده والسكون قد استعاذوا ... نسومهم المذلة والخبالا
شددنا ملكنا ببني نزار ... وقومنا بهم من كان مالا
وهذا خالد فينا قتيلا ... الا منعوه ان كانوا رجالا
ولو كانت بنو قحطان عربا ... لما ذهبت صنائعه ضلالا
ولا تركوه مسلوبا أسيرا ... نحمله سلاسلنا الثقالا
ولكن المذلة ضعضعتهم ... فلم يجدوا لذلتهم مقالا
فلما سمع من كان باقطار الشام من اليمانيه هذا الشعر انفوا أنفا شديدا، فاجتمعوا من مدن الشام، وساروا نحو الوليد بن يزيد.
__________
[1] موضع بين البصره والكوفه.
[2] الموق هو الحمق في غباوة.
[3] حجر غليظ جدا خشن الوطء.
[4] الخبال هو الهلاك والعناء.

(1/348)


وبلغ الوليد مسيرهم، فامر بمحمد بن خالد بن عبد الله فحبس بدمشق.
واقبلت اليمانيه، وخرج اليهم الوليد بمضر مستعدا للحرب، فالتقوا، واقتتلوا، وأثخنت اليمانيه القتل في مضر، فانهزمت مضر، وأخذوا نحو دمشق، ودخل الوليد قصره، فتحصن فيه.
واقبلت اليمانيه حتى دخلت دمشق، واخرجوا محمد بن خالد من محبسه، وراسوه عليهم.
فأرسل محمد بن خالد الى ابن عم الوليد بن يزيد، وهو يزيد بن الوليد بن عبد الملك، فجاء به، فبايعوه جميعا، وارسل الى اشراف المضريين، فبايعوه طوعا وكرها.
وخلعوا الوليد بن يزيد، فلبث مخلوعا أياما كثيره، وهو خليع بنى اميه.
يزيد بن الوليد
فقام يزيد بن الوليد بالخلافة، ووضع للناس العطاء، وفرق في اليمانيه الصلات والجوائز.
واقبل محمد بن خالد الى قصر الوليد بن يزيد، وامر بالاوهاق [1] ، فالقيت في شرف القصر، وتسلقوا، فعلوه، ونادوا: يا وليد، يا لوطي، يا شارب الخمر، ثم نزلوا اليه، فقتلوه.
واستدف [2] الملك ليزيد بن الوليد.
وان محمد بن خالد وجه منصور بن جمهور في خيل الى العراق، وامره ان يقصد الى مدينه واسط، فيأخذ الناس بالبيعه ليزيد بن الوليد، فإذا بايعوا دعا بيوسف بن عمر، فضرب عنقه.
__________
[1] الحبال جمع وهق.
[2] استتب واستقام.

(1/349)


فسار منصور بن جمهور، فبدا بالكوفه واخذهم بالبيعه ليزيد بن الوليد، فلما بايعوا سار منها الى واسط، فاجتمع اليه الناس، فبايعوا ليزيد، فلما فرغ دعا بيوسف ابن عمر، فقال له:
أنت القاتل سيد العرب خالد بن عبد الله؟
قال يوسف: كنت مأمورا، وما لي في ذلك من ذنب، فهل لك ان تعفيني من القتل، وأعطيك ديتي عشره آلاف درهم، فضحك منه، ثم حمله حتى اتى به محمد بن خالد بالشام، فقال له محمد:
اما زعمك انى كنت مأمورا فقد صدقت، وقد قتلت قاتل ابى، وانما اقتلك بعبده غزوان، ثم قدمه، فضرب عنقه.
فملك يزيد بن الوليد سته اشهر، ثم مات.

ابراهيم بن الوليد
وقام بالملك من بعده اخوه ابراهيم بن الوليد، فبايعه الناس بالشام، وجميع الافاق، وجعل ولى العهد من بعده عبد العزيز بن الحجاج بن عبد الملك بن مروان، واستعمل على العراق يزيد بن عمر بن هبيرة، فسار ابن هبيرة حتى نزل المكان الذى الى اليوم يسمى قصر ابن هبيرة وبنى فيه قصرا، واتخذ ذلك المكان منزلا له ولجنوده.
قالوا: وان المضرية تلاومت فيما كان من غلبه اليمانيه عليها، وقتلهم الخليفة الوليد بن يزيد، فدب بعضهم الى بعض، واجتمعوا من اقطار الارض وساروا حتى وافوا مدينه حمص [1] ، وبها مروان بن محمد بن مروان بن الحكم، وكان يومئذ شيخ بنى اميه وكبيرهم، وكان ذا ادب كامل وراى فاضل، فاستخرجوه
__________
[1] بلد مشهور في الإقليم الشمالي من الجمهورية العربية المتحده، في طرفه القبلي قلعه حصينة على تل عال كبير، بين دمشق وحلب، في نصف الطريق، وقد سمى باسم من احدثه، وهو حمص ابن مكنف العمليقى، وبه قبر خالد بن الوليد.

(1/350)


من داره، وبايعوه، وقالوا له: أنت شيخ قومك وسيدهم، فاطلب بثار ابن عمك الوليد بن يزيد.
فاستعد مروان بجنوده في تميم، وقيس، وكنانه، وسائر قبائل مضر، وسار نحو مدينه دمشق.
وبلغ ذلك ابراهيم بن الوليد، فتحصن في قصره.
ودخل مروان بن محمد دمشق، فاخذ ابراهيم بن الوليد وولى عهده عبد العزيز ابن الحجاج فقتلهما، وهرب محمد بن خالد بن عبد الله القسرى نحو العراق حتى اتى الكوفه، فنزل في دار عمرو بن عامر البجلي، فاستخفى فيها، وعلى الكوفه يومئذ زياد بن صالح الحارثى، عاملا ليزيد بن عمر بن هبيرة.