الأخبار الطوال

مروان بن محمد
واستدف الملك لمروان بن محمد، واعطاه اهل البلدان الطاعة، ثم ان العصبية وقعت بخراسان بين المضرية واليمانيه.
وكان سبب ذلك، ان جديع بن على المعروف بالكرمانى كان سيد من بأرض خراسان من اليمانيه، وكان نصر بن سيار متعصبا على اليمانيه، مبغضا لهم، فكان لا يستعين بأحد منهم، وعادى أيضا ربيعه لميلها الى اليمانيه، فعاتبه الكرماني في ذلك.
فقال له نصر: ما أنت وذاك؟
قال الكرماني: انما اريد بذلك صلاح امرك، فانى اخاف ان تفسد عليك سلطانك، وتحمل عليك عدوك هذا المطل، يعنى المسودة [1] .
قال له نصر: أنت شيخ قد خرفت.
فاسمعه الكرماني كلاما غليظا، فغضب نصر، وامر بالكرمانى الى الحبس، فحبس في القهندر، وهي القلعة العتيقة.
__________
[1] المسودة هم العباسيون، لسواد أغطية رءوسهم.

(1/351)


فغضب احياء العرب للكرمانى، فاعتزلوا نصر بن سيار، واجتمع الى نصر المضرية، فطابقوه وشايعوه.
وكان للكرمانى مولى من أبناء العجم، ذو دهاء وتجربه، وكان يخدمه في محبسه، وكان الكرماني رجلا ضخما عظيم الجثة، عريض ما بين المنكبين، فقال له مولاه:
اتوطن نفسك على الشده والمخاطره حتى اخرجك من الحبس؟
قال له الكرماني: وكيف تخرجني؟
قال: انى قد عينت على ثقب ضيق، يخرج منه ماء المطر الى الفارقين، فوطن نفسك على سلخ جلدك لضيق الثقب.
قال الكرماني: لا بد من الصبر، فاعمل ما اردت.
فخرج مولاه الى اليمانيه، فواطاهم، ووطنهم في طريقه، فلما جن الليل، ونام الاحراس اقبل مولاه من خارج السور، فوقف له على باب الثقب، واقبل الكرماني حتى ادخل راسه في الثقب، وبسط فيه يديه حتى نالت يداه كفى مولاه، فاجتذبه اجتذابه شديده، سلخ بها بعض جلده، ثم اجتذبه ثانيه حتى انتهى به الى النصف، فإذا هو بحية في الثقب، فنادى الكرماني مولاه: بذبخت، مار مار اى حيه قد عرضت، فقال مولاه: بكز بكز اى عضها، ثم اجتذبه الثالثه، فاخرجه، فقال لمولاه: أمهلني ساعه، حتى افيق، ويسكن ما بي من وجع الانسلاخ.
فلما رجعت الى الكرماني نفسه نزل من ذلك التل، واتى بدابه ركبها حتى انتهى الى منزله، واجتمعت اليه الأزد، وسائر من بخراسان من اليمانيه، وانحازت ربيعه معهم.
وبلغ نصر بن سيار الخبر، فدعا بصاحب الحبس فضرب عنقه، وظن ان ذلك كان بمواطاة منه.

(1/352)


ثم قال لسلم بن احوز المازنى، وكان على شرطه: انطلق الى الكرماني، فاعلمه: انى لم ارد به مكروها، وانما اردت تأديبه لما استقبلني به، ومره ان يصير الى آمنا، لاناظره في بعض الأمر.
فصار سلم اليه، فإذا هو بمحمد بن المثنى الربعي جالسا على الباب في سبعمائة رجل من ربيعه، فدخل عليه، فابلغه الرسالة، فقال الكرماني: لا، ولا كرامة، ما له عندي الا السيف.
فابلغ ذلك نصرا.
فأرسل نصر بعصمه بن عبد الله الأزدي، وكان من خاصته، فقال له: انطلق الى ابن عمك، فآمنه، ومره ان يصير الى آمنا، لاناظره في بعض ما قد دهمنا من هذا العدو.
فقال الكرماني لعصمه، حين ابلغه رساله نصر: يا ابن الخبيثة، وما أنت وذاك؟
وقد ذكر لي عمك، انك لغير ابيك الذى تنسب اليه، انما تريد ان تتقرب الى ابن الأقطع يعنى نصرا اما لو كنت صحيح النسب لم تفارق قومك، وتميل الى من لا رحم بينه وبينك.
فانصرف عصمه الى نصر، وابلغه قوله.
ثم ان الكرماني كتب الى عمر بن ابراهيم، من ولد أبرهة بن الصباح، ملك حمير، وكان آخر ملوكهم، وكان مستوطنا الكوفه، يسأله ان يوجه اليه بنسخه حلف اليمن وربيعه، الذى كان بينهم في الجاهلية، ليحييه، ويجدده، وانما اراد بذلك ان يستدعى ربيعه الى مكانفته.
فأرسل به اليه.
فجمع الكرماني اليه اشراف اليمن وعظماء ربيعه، وقرأ عليهم نسخه الحلف.
وكانت النسخه:
بسم الله العلى الأعظم، الماجد المنعم، هذا ما احتلف عليه آل قحطان وربيعه

(1/353)


الاخوان، احتلفوا على السواء السوا، والأواصر والإخاء، ما احتذى رجل حذا، وما راح راكب واغتدى، يحمله الصغار عن الكبار، والاشرار عن الاخيار. آخر الدهر والأبد، الى انقضاء مده الأمد، وانقراض الآباء والولد، حلف يوطأ ويثب، ما طلع نجم وغرب، خلطوا عليه دماهم، عند ملك ارضاهم، خلطها بخمر وسقاهم، جز من نوصيهم اشعارهم، وقلم عن أناملهم اظفارهم، فجمع ذلك في صر، ودفنه تحت ماء غمر، في جوف قعر بحر آخر الدهر، لا سهو فيه ولا نسيان، ولا غدر ولا خذلان، بعقد موكد شديد، الى آخر الدهر الابيد، ما دعا صبى أباه، وما حلب عبد في أناة، تحمل عليه الحوامل، وتقبل عليه القوابل، ما حل بعد عام قابل، عليه المحيا والممات، حتى ييبس الفرات، وكتب في الشهر الأصم [1] عند ملك أخي ذمم، تبع بن ملكيكرب، معدن الفضل والحسب، عليهم جميعا كفل، وشهد الله الأجل، الذى ما شاء فعل، عقله من عقل، وجهله من جهل.
فلما قرئ عليهم هذا الكتاب تواقفوا على ان ينصر بعضهم بعضا، ويكون امرهم واحدا.
فأرسل الكرماني الى نصر: ان كنت تريد المحاربة فابرز الى خارج المدينة. فنادى نصر في جنوده من مضر.
وخرج، فعسكر ناحيه من الصحراء، وفعل الكرماني مثل ذلك. وخندق كل واحد منهما في عسكره، ويسمى ذلك المكان الى اليوم الخندقين.
ووجه الكرماني محمد بن المثنى، وأبا الميلاء الربعيين، في الف فارس، من ربيعه، وامرهما ان يتقدما الى عسكر نصر بن سيار.
فاقبلا، حتى إذا قاربا عسكره قال نصر لابنه تميم:
اخرج الى القوم في الف فارس من قيس وتميم.
__________
[1] الشهر الأصم: هو رجب، وسمى بذلك في الجاهلية لعدم سماع السلاح فيه.

(1/354)


فانتخب الف فارس، ثم خرج، فالتقوا، واقتتلوا، وحمل محمد بن المثنى الربعي على تميم بن نصر، فتضاربا بسيفيهما، فلم يصنع السيفان شيئا، لكمال لامتيهما، فلما راى محمد بن المثنى ذلك حمل بنفسه على تميم، فعانقه، فسقطا جميعا الى الارض، وصار محمد فوق تميم، فانحنى على حلقه بالسيف، فذبحه.
وقال نصر بن سيار يرثى ابنه تميما:
نفى عنى العزاء وكنت جلدا ... غداه جلى الفوارس عن تميم
وما قصرت يداه عن الأعادي ... ولا اضحى بمنزله اللئيم
وفاء للخليفة وابتذالا ... لمهجته يدافع عن حريم
فمن يك سائلا عنى فإني ... انا الشيخ الغضنفر ذو الكليم
نمتنى من خزيمة باذخات ... بواسق ينتمين الى صميم
قالوا: فمكثوا بذلك عشرين شهرا، ينهض بعضهم الى بعض كل ايام، فيقتتلون هويا، ثم ينصرفون، وقد انتصف بعضهم من بعض.
وشغلهم ذلك عن طلب ابى مسلم واصحابه حتى قوى امره، واشتد ركنه، وعلن شانه في جميع كور خراسان.
فقال عقيل بن معقل الليثى لنصر بن سيار: ان هذه العصبية قد تمادت بيننا وبين هؤلاء القوم، وقد شغلتك عن جميع اعمالك، وضبط سلطانك، وقد اظلك هذا العدو الكلب، فأنشدك الله ان تشام [1] نفسك وعشيرتك، قارب هذا الشيخ يعنى الكرماني بعض المقاربة، فقد انتقض الأمر على الامام مروان بن محمد.
فقال نصر: يا ابن عم، قد فهمت ما ذكرت، ولكن هذا الملاح قد ساعدته
__________
[1] يعنى ان تأخذ بهم نحو الشام.

(1/355)


عشيرته، وظافرتهم على امرهم ربيعه، فقد عدا من اجل ذلك طوره، فلا ينوى صلحا، ولا ينيب الى أمان، فانطلق يا ابن عم ان شئت، فسله ذلك، وأعطه عنى ما اراد.
فمضى عقيل بن معقل حتى استاذن على الكرماني، فدخل فسلم.
ثم قال له:
انك شيخ العرب وسيدها بهذه الارض، فابق عليها، قد تمادت هذه العصبية بيننا وبينكم، وقد قتل منا ومنكم ما لا يحصيه احد، وقد أرسلني نصر إليك، وجعل لك حكم الصبى على ابويه، على ان ترجع الى طاعته، لتتآزرا على إطفاء هذه النار المضطرمة في جميع كور خراسان، قبل ان يكاشفوا يعنى المسودة.
قال الكرماني: قد فهمت ما ذكرت، وكنت كارها لهذا الأمر، فأبى ابن عمك يعنى نصرا الا البذخ والتطاول حتى حبسنى في سجنه، وبعثني على نفسه وقومه.
قال له عقيل: فما الذى عندك في إطفاء هذه النائرة [1] ، وحقن هذه الدماء؟
قال الكرماني: عندي من ذلك ان نعتزل انا وهو الأمر، ونولي جميعا امرنا رجلا من ربيعه، فيقوم بالتدبير، ونساعده جميعا، ونتشمر لطلب هؤلاء المسودة قبل ان يجتمعوا، فلا نقوى بهم، ولو احلب عليهم معنا جميع العرب.
قال عقيل: ان هذا ما لا يرضى به الامام مروان بن محمد، ولكن الأمير نصرا يجعل الأمر لك، تولى من شئت، وتعزل من شئت، وتدبر في هؤلاء المسودة ما شئت، ويتزوج إليك، وتتزوج اليه.
قال الكرماني: كيف يتزوج الى. وليس لي بكفء؟
قال عقيل: اتقول هذا لرجل له بيت كنانه؟
__________
[1] النائرة: الحقد والعداوة، تقع بين القوم.

(1/356)


قال الكرماني: لو كان من مصاص [1] كنانه ما فعلت، فكيف وهو ملصق فيهم؟ فاما قولك، انه يجعل الأمر الى، اولى، واعزل من اريد، فلا، ولا كرامة، ان أكون تبعا له، او اقاره على السلطان.
فانصرف عقيل الى نصر، فقال: انك كنت بهذا الملاح ابصر منى.
ثم اخبره بما دار بينهما كله.
فكتب نصر بن سيار، الى الامام مروان بن محمد، يخبره بخروج الكرماني عليه، ومحاربته اياه، واشتغاله بذلك عن طلب ابى مسلم واصحابه، حتى قد عظم امرهم، وان المحصى المقلل لهم يزعم، انه قد بايعه مائتا الف رجل، من اقطار خراسان، فتدارك يا امير المؤمنين امرك، وابعث الى بجنود من قبلك يقو بهم ركني، واستعن بهم على محاربه من خالفني.
ثم كتب في اسفل كتابه:
ارى تحت الرماد وميض جمر ... ويوشك ان يكون له ضرام
فان النار بالعودين تذكى ... وان الشر مبدؤه كلام
وقلت من التعجب، ليت شعري ... اايقاظ اميه أم نيام؟
فان يقظت، فذاك بقاء ملك ... وان رقدت، فانى لا الام
فان يك أصبحوا، وثووا نياما ... پفقل قوموا، فقد حان القيام
فلما وصل كتابه الى مروان كتب الى معاويه بن الوليد، بن عبد الملك، وكان عامله على دمشق، ومروان حينئذ بمدينه حمص، يأمره ان يكتب الى عامله بالبلقاء [2] ، ان يسير الى الحميمه [3] ، فيأخذ ابراهيم بن محمد بن على، فيشده وثاقا، ويرسل به اليه.
__________
[1] مصاص القوم: اصل منبتهم.
[2] ارض بالشام.
[3] بلد من اعمال عمان في اطراف الشام كانت منزل بنى العباس.

(1/357)


فاتى ابراهيم، وهو جالس في مسجده، فلف راسه، وحمل الى مروان، واتبعه من اهل بيته عبد الله بن على، وعيسى بن موسى بن على، ونفر من مواليه.
فلما دخل على مروان قال له: ما هذه الجموع التي خرجت بخراسان تطلب لك الخلافه؟
قال له ابراهيم: ما لي بشيء من ذلك علم، فان كنت انما تريد التجنى علينا فدونك وما تريد.
ثم بسط لسانه على مروان، فامر به، فحبس.
قال الهيثم: فأخبرني ابو عبيده، قال: كنت آتى ابراهيم في محبسه، ومعه فيه عبد الله بن عمر بن عبد العزيز، فاسلم عليه، وأظل عامه نهاري عنده، وربما جننى الليل عنده، فأبيت معه، فبينا انا ذات ليله عنده، وقد بت معه في الحبس، فانا نائم في سقيفه فيه، إذ قيل، مولى لمروان، فاستفتح الباب، ففتح له، فدخل ومعه نحو من عشرين رجلا من موالي مروان، فلبثوا ساعه، ثم خرجوا، ولم اسمع لأحد صوتا.
فلما اصبحت دخلت البيت لاسلم عليها، فإذا هما قتيلان، فظننت انهما خنقا.
ولما قتل ابراهيم بن محمد خاف اخواه: ابو جعفر، وابو العباس على أنفسهما، فخرجا من الحميمه هاربين من العراق، ومعهما عبد الله، واسماعيل، وعيسى، وداود بنو على بن عبد الله بن عباس، حتى قدموا الكوفه، ونزلوا على ابى سلمه الداعي، الذى كان داعيه أبيهما، محمد بن على بأرض العراق.
فانزلهم جميعا دار الوليد بن سعد، التي في بنى أود، والزمهم مساورا القصاب، ويقطينا الابزارى، وكانا من كبار الشيعة، وقد كانا لقيا محمد بن على في حياته، فامرهما ان يعينا أبا سلمه على امره.

(1/358)


وكان ابو سلمه خلالا [1] ، فكان إذا امسوا اقبل مساور بشقه لحم، واقبل ابو سلمه بخل، واقبل يقطين بالابزار، فيطبخون، ويأكلون.
وفي ذلك يقول ابو جعفر:
لحم مساور، وخل ابى سلمه ... وابزار يقطين، وطابت المرقه
فلم يزل ابو العباس، وابو جعفر مستخفين بالكوفه الى ان قدم قحطبه بن شبيب العراق.
قالوا: وبلغ أبا مسلم قتل الامام ابراهيم بن محمد، وهرب ابى العباس، وابى جعفر من الشام، واستخفاؤهما بالكوفه عند ابى سلمه.
فسار من خراسان حتى قدم الكوفه، ودخل عليهما، فعزاهما بأخيهما، ابراهيم الامام.
ثم قال لأبي العباس: مد يدك ابايعك.
فمد يده، فبايعه.
ثم سار الى مكة.
ثم انصرف إليهما.
فتقدم اليه ابو العباس، الا يدع بخراسان عربيا لا يدخل في امره الا ضرب عنقه.
ثم انصرف ابو مسلم الى خراسان، فجعل يدورها، كوره كوره، ورستاقا رستاقا، فيواعدهم اليوم الذى يظهرون فيه، ويأمرهم بتهيئه السلاح والدواب لمن قدر.
قالوا: ولما اعيت نصر بن سيار الحيل في امر الكرماني، وخاف ازوف ابى مسلم كتب الى مروان:
__________
[1] يمتهن بيع الخل.

(1/359)


يا ايها الملك الوانى بنصرته ... قد آن للامر ان يأتيك من كثب
اضحت خراسان، قد باضت صقورتها ... وفرخت في نواحيها بلا رهب
فان يطرن، ولم يحتل لهن بها ... يلهبن نيران حرب أيما لهب
فلما وصلت هذه الأبيات الى مروان كتب الى يزيد بن عمر بن هبيرة عامله [1] على العراقين، يأمره ان ينتخب من جنوده اثنا عشر رجلا، مع فرض يفرضه بالعراق من عرب الكوفه والبصره، ويولى عليهم رجلا حازما، يرضى عقله واقدامه، ويوجه بهم الى نصر بن سيار.
فكتب يزيد بن عمر بن هبيرة الى مروان: ان من معه من الجنود لا يفون باثنى عشر ألفا، ويعلمه ان فرض الشام افضل من فرض العراق، لان عرب العراق ليست لهم نصيحه للخلفاء من بنى اميه، وفي قلوبهم احن.
ولما أبطأ عن نصر الغوث اعاد الى مروان:
من مبلغ عنى الامام الذى ... قام بأمر بين ساطع
انى نذير لك من دوله ... قام بها ذو رحم قاطع
والثوب ان انهج فيه البلى ... اعيى على ذي الحيله الصانع
كنا نداريها، فقد مزقت ... واتسع الخرق على الراقع
فلم يجد عند مروان شيئا.

ظهور دعوه ابى مسلم
وحان الوقت الذى واعد فيه ابو مسلم مستجيبيه، فخرجوا جميعا في يوم واحد من جميع كور خراسان حتى وافوه، وقد سودوا ثيابهم، تسليا على ابراهيم بن محمد بن على بن عباس الذى قتله مروان، فكان أول من ورد عليه من القواد،
__________
[1] في الأصل محو مكان ما بين الحاصرتين.

(1/360)


وقد لبس السواد، اسيد بن عبد الله، ومقاتل بن حكيم، ومحقن بن غزوان، والحريش مولى خزاعة، وتنادوا: محمد، يا منصور. يعنون محمد بن على بن عبد الله ابن عباس. وهو أول من قام بالأمر، وبث دعاته في الافاق.
وانجفل الناس على ابى مسلم من هراة، وبوشنج، ومرو الروذ، والطالقان، ومرو، ونسا، وابيورد [1] ، وطوس [2] ، ونيسابور، وسرخس، وبلخ، والصغانيان، والطخارستان، وختلان، وكش [3] ، ونسف، فتوافوا جميعا مسودى الثيابا، وقد سودوا أيضا انصاف الخشب التي كانت معهم، وسموها كافر كوبات [4] .
وأقبلوا فرسانا، وحماره، ورجاله، يسوقون حميرهم ويزجرونها، هر مروان، يسمونها مروان، ترغيما لمروان بن محمد، وكانوا زهاء مائه الف رجل.
فلما بلغ نصر بن سيار ظهور ابى مسلم سقط في يديه، وخاف على نفسه، ولم يامن ان ينحاز الكرماني في اليمانيه، والربعيه اليهم، فيكون في ذلك اصطلامه، فاراد ان يستعطف من كان مع الكرماني من ربيعه.
فكتب اليهم، وكانوا جميعا بمرو:
ابلغ ربيعه في مرو وإخوتها ... ان يغضبوا قبل ان لا ينفع الغضب
ما بالكم تلحقون الحرب بينكم ... كان اهل الحجا عن فعلكم غيب
وتتركون عدوا قد أظلكم ... ممن تأشب، لا دين ولا حسب
ليسوا الى عرب منا، فنعرفهم ... ولا صميم الموالي، ان هم نسبوا
قوما يدينون دينا ما سمعت ... عن الرسول، ولا جاءت به الكتب
__________
[1] مدينه بخراسان تقع بين سرخس ونسا.
[2] مدينه تشتمل على بلدتين بالقرب من نيسابور، بها قبر هرون الرشيد، وعلى بن موسى الرضا في بستان كان له بها، وكان بينهما وبين نيسابور قصر عظيم بناه بعض التبابعه لما قصد الصين، وراى ان حرمه وكنوزه وذخائره.
[3] قريه من قرى اصفهان.
[4] كذا في الأصل، وصوابه كافر كوباد اى مضرب الكافر.

(1/361)


فمن يكن سائلي عن اصل دينهم ... فان دينهم ان تقتل العرب
فلم تحفل ربيعه بهذه الأبيات.
وبلغ أبا العباس الامام، وهو مستخف بالكوفه ان أبا مسلم لو اراد ان يصطلم عسكر نصر والكرماني لفعل، غير انه يدافع الحرب، فكتب اليه يؤنبه في ذلك.
وكان ابو مسلم يحب ان يستميل احد الرجلين، ليفصم به شوكه الآخر، فأرسل الى الكرماني، يسأله ان ينضم اليه، لينتقم له من نصر بن سيار، فعزم على المسير اليه، واقبل ابو مسلم في عساكره الى ارض مرو، فعسكر على سته فراسخ من المدينة.
وخرج اليه الكرماني ليلا في نفر من قومه، فاستامن لجميع اصحابه، فامنهم ابو مسلم، واكرم الكرماني، فأقام معه، وشق ذلك على نصر بن سيار، وايقن بالهلكة.
فكتب الى الكرماني يسأله الرجوع اليه، على ان يعتزلا، ويوليا الأمر رجلا من ربيعه، يرضيانه، وهو الأمر الذى كان ساله اياه.
فاصغى الكرماني الى ذلك، وتحمل ليلا من معسكر ابى مسلم، حتى انصرف الى معسكره، واسترسل الكرماني الى نصر، فلما أصاب منه غره دس عليه من قتله.
ويقال: بل وجه اليه نصر رجلا من قواده في ثلاثمائه فارس، فكمنوا له ليلا عند منصرفه من معسكر ابى مسلم، فلما حاذاهم، وهو غافل عنهم، حملوا عليه، فقتلوه.
وبلغ ذلك أبا مسلم فقال لا يبعد الله غيره، لو صبر معنا لقمنا معه، ونصرناه على عدوه.

(1/362)


وقال نصر في ظفره بالكرمانى:
لعمري، لقد كانت ربيعه ظافرت ... عدوى بغدر حين خابت جدودها
وقد غمزوا منى قناه صليبه ... شديدا على من رامها الكسر عودها
وكنت لها حصنا، وكهفا، وجنه ... يؤول الى، كهلها، ووليدها
فمالوا الى السوءات، ثم ... وهل يفعل السوءات الا مريدها؟
فاوردت كرمانيها الموت ... كذاك منايا الناس يدنو بعيدها
قالوا: ولما قتل الكرماني مضى ابنه على من خندقه الى ابى مسلم، فسأله ان يطلب له بثار ابيه.
فامر قحطبه بن شبيب ان يستعد، ويسير حتى ينيخ على نصر في خندقه، فينابذه الحرب، او ينيب الى الطاعة.
فسار قحطبه، فبدا بالمدينة، فدخلها، واستولى عليها، وارسل الى نصر يؤذنه بالحرب.
فكتب نصر الى ابى مسلم، يسأله الامان، على ان يدخل معه في امره، فأجابه الى ذلك، وامر قحطبه ان يمسك عنه.
فلما أصاب نصر من قحطبه غفله تحمل في حشمه وولده، وحاشيته ليلا، فخرج من معسكره من غير ان يعلم اصحابه، وسار نحو العراق، وجعل طريقه على جرجان، فأقام بها، فمرض فيها، فسار منها الى ساوه [1] ، فأقام بها أياما ثم توفى بها.
فاستامن جميع اصحابه واصحاب الكرماني الى ابى مسلم الا أناسا كرهوا امر ابى مسلم، فساروا من مدينه مرو هرابا، حتى أتوا طوس، فأقاموا بها.
__________
[1] وهي ساوى، مدينه في بلاد فارس الوسطى، واقعه على الطريق بين قزوين والقرم، وقد ضربها المغول سنه 1220، وكان سكانها سنيين على مذهب ابى حنيفه، والان كلهم شيعيون.

(1/363)


وان أبا مسلم استولى على خراسان، واستعمل عماله عليها.
فكان أول من عقد له منهم زنباع بن النعمان، على سمرقند، وولى خالد بن ابراهيم، على طخارستان، وولى محمد بن الاشعث، الطبسين [1] ، ثم وجه اصحابه الى سائر تلك البلاد، وضم الى قحطبه بن شبيب أبا عون، مقاتل بن حكيم العكي، وخالد بن برمك، وحارثة بن خزيمة، وعبد الجبار بن نهيك، وجهور بن مراد العجلى، والفضل بن سليمان، وعبد الله بن النعمان الطائي، وضم الى كل واحد من هؤلاء القواد صناديد الجنود وابطالهم.
وامر قحطبه ان يسير الى طوس، فيلقى من قد اجتمع بها من جنود نصر بن سيار، والكرماني، فيحاربهم حتى يطردهم عنها، ثم يتقدم، قدما قدما، حتى يرد العراق.
فسار قحطبه حتى إذا دنا من طوس هرب أولئك الذين قد كانوا تجمعوا بها، فتفرقوا، وسار قحطبه من طوس الى جرجان، فافتتحها.
وسار منها الى الري، فواقع عامل مروان عليها، فهزمه، ثم سار من الري الى أصبهان حتى وافاها، وبها عامر بن ضباره، من قبل يزيد بن عمر، فهرب منه، ودخلها قحطبه، واستولى عليها.
ثم سار حتى اتى نهاوند، وبها مالك بن ادهم الباهلى، فتحصن أياما، ثم استامن الى قحطبه، فآمنه، فخرج اليه، وسار قحطبه حتى نزل حلوان، فأقام بها.
وكتب الى ابى مسلم يعلمه خبره، وان مروان بن محمد قد اقبل من الشام حتى وافى الزابين [2] فأقام بها في ثلاثين ألفا، وان يزيد بن عمر بن هبيرة قد استعد بواسط.
__________
[1] كورتان بخراسان.
[2] كوره على نهر بقرب واسط.

(1/364)


فأتاه كتاب ابى مسلم، يأمره ان يوجه أبا عون العكي في ثلاثين الف فارس من ابطال جنوده الى مروان بن محمد بالزابين، فيحاربه، ويسير هو في بقية الجنود الى واسط، فيحارب يزيد بن عمر، ليشغله عن توجيه المدد الى مروان.
ففعل قحطبه ذلك.
وبلغ مروان فصول ابى عون اليه بالجيوش من حلوان فاستقبله، فالتقيا بشهرزور، فاقتتلوا، فانهزم اهل الشام حتى صاروا الى مدينه حران.
قال الهيثم: فحدثني اسماعيل بن عبد الله القسرى، أخو خالد بن عبد الله قال:
دعانى مروان عند وصوله الى حران، وكنت اخص الناس عنده، فقال لي:
يا أبا هاشم وما كنانى قبل ذلك.
فقلت: لبيك يا امير المؤمنين.
قال: ترى ما قد نزل من الأمر، وأنت الموثوق برايه، فما ترى؟.
قلت: وعلا م اجمعت يا امير المؤمنين؟.
قال: اجمعت على ان ارتحل بأهلي، وولدى، وخاصه اهل بيتى، ومن اتبعنى من اصحابى حتى اقطع الدرب، واصير الى ملك الروم، فاستوثق منه بالأمان، ولا يزال يأتيني الخائف من اهل بيتى وجنودي حتى يكثف امرى، واصيب قوه على محاربه عدوى.
قال اسماعيل: وذلك، والله، كان الرأي له عندي، غير انى ذكرت سوء اثره في قومى، ومعاداته إياهم، وتحامله عليهم، فصرفت الرأي عنه.
وقلت له: يا امير المؤمنين، اعيذك بالله، ان تحكم اهل الشرك في نفسك وحرمك، لان الروم لا وفاء لهم.
قال: فما الرأي عندك؟
قلت: الرأي ان تقطع الفرات، وتستقرى مدن الشام، مدينه مدينه، فان لك بكل مدينه صنائع ونصحاء، وتضمهم جميعا إليك، وتسير حتى تنزل ببلاد مصر، فهى اكثر اهل الارض مالا، وخيلا، ورجالا، فتجعل الشام امامك،

(1/365)


وإفريقية [1] خلفك، فان رايت ما تحب انصرفت الى الشام، وان تكن الاخرى اتسع لك المهرب نحو إفريقية، فإنها ارض واسعه، نائيه منفرده.
قال: صدقت، لعمري، وهو الرأي.
فسار من حران حتى قطع الفرات، وجعل يستقرى مدن الشام، فيستنهضهم، فيروغون عنه، ويهابون الحرب، فلم يسر معه منهم الى قليل.
وسار ابو عون صاحب قحطبه في اثر مروان حتى انتهى الى الشام، وقصد دمشق، فقتل من أهلها مقتله عظيمه، فيهم ثمانون رجلا من ولد مروان ابن الحكم.

نهاية بنى اميه
ثم عبر الشام سائرا نحو مصر حتى وافاها، واستعد مروان فيمن كان معه، من اهل الوفاء له، وكانوا نحوا من عشرين الف رجل، وسار مستقبلا أبا عون حتى التقى الفريقان، فاقتتلوا.
فلم يكن لأصحاب مروان ثبات، فقتل منهم خلق، وانهزم الباقون، فتبددوا، وهرب مروان على طريق إفريقية، وطلبته الخيل، فحال بينها وبينه الليل، فعبر مروان النيل في سفينه، فصار في الجانب الغربي، وكان منجما [2] ، فقال لغلامه:
انى ان سلمت هذه الليلة رددت خيل خراسان على اعقابها حتى ابلغ خراسان.
ثم نزل، ودفع دابته الى غلامه، وخلع درعه، فتوسدها، ونام لشدة ما قد كان مر به من التعب، ولم يكن معه دليل يدله على الطريق، وخاف ان يوغل في تلك المفاوز، فيضل.
__________
[1] تذكر إفريقية في كتب التاريخ العربي، ويقصد بها بلاد شمال إفريقية.
[2] له دراية بعلم النجوم والفلك.

(1/366)


واقبل رجل من اصحاب ابى عون، يسمى عامر بن اسماعيل في طلب مروان، حتى اتى المكان الذى عبر فيه مروان، فدعا بسفينه، فجلس فيها، وعبر، فانتهى به السير الى مروان، وهو مستثقل نوما، فضربه بالسيف حتى قتله.
قالوا: ولما بلغ محمد بن خالد بن عبد الله القسرى، وكان مستترا بالكوفه في بجيله، موافاه قحطبه بن شبيب حلوان بجموع اهل خراسان جمع اليه نفرا من اشراف قومه، ثم ظهر، ودعا لأبي العباس الامام، فطلبه زياد بن صالح، عامل يزيد بن عمر، فاجتمع اليه قومه، فمنعوه، وقاموا دونه.
وبلغ ذلك يزيد بن عمر بن هبيرة، فامد زياد بن صالح بالرجال، واجتمع الى محمد جميع من كان بالكوفه من اليمانيه والربعيه، فهرب زياد بن صالح حتى لحق بيزيد بن عمر بواسط.
وكتب محمد بن خالد الى قحطبه، وهو بحلوان، يسأله ان يوليه امر الكوفه، ويبعث اليه عهده عليها، ففعل.
فاتى المسجد الأعظم في جمع كثير من اليمانيه، وقد أظهروا السواد، وذلك يوم عاشوراء من المحرم سنه اثنتين وثلاثين ومائه [1] .
وقال محمد بن خالد فيما كان من قتله الوليد بن يزيد بن عبد الملك:
قتلنا الفاسق المختال لما ... اضاع الحق، واتبع الضلالا
يقول لخالد الا حمته ... بنو قحطان ان كانوا رجالا
فكيف راى غداه غدت عليه ... كراديس يشبهها الجبالا [2]
الا ابلغ بنى مروان عنى ... بان الملك قد اودى، فزالا
وسار يزيد بن عمر بن هبيرة الى الكوفه يريد محمد بن خالد، فدخل محمد على
__________
[1] الموافق اغسطس من سنه 749 م.
[2] الكردسه بالضم عظيمه من الخيل، وكل عظمين التقيا في مفصل، والكردوسان قيس ومعاويه، ابنا مالك بن حنظله.

(1/367)


ابى سلمه الداعي، فاخبره بفصول ابن هبيرة نحوه، وتخوفه ان لا يقوى بكثرة جموعه.
فقال له ابو سلمه: انه قد كان منك من الدعاء الى الامام ابى العباس ما لا ينساه لك، فلا تفسد ذلك بقتلك نفسك، ومن معك، ودع الكوفه، فإنها في يديك، وسر بمن معك حتى تنضم الى قحطبه.
قال محمد: لست بخارج من الكوفه حتى ابلى عذرا في محاربه ابن هبيرة.
فاستعد بمن كان معه بالكوفه من اليمن وربيعه، وسار مستقبلا لابن هبيرة حتى التقى.
فنادى محمد بن خالد من كان مع ابن هبيرة من قومه: تبا لكم، انسيتم قتل ابى خالد، وتحامل بنى اميه عليكم، ومنعهم إياكم اعطياتكم؟ يا بنى عم، قد أزال الله ملك بنى اميه، وادال منهم، فانضموا الى ابن عمكم، فان هذا قحطبه بحلوان في جموع اهل خراسان، وقد قتل مروان، فلم تقتلون أنفسكم؟
وان الأمير قحطبه قد ولانى الكوفه، وهذا عهدي عليها، فليكن لكم اثر في هذه الدولة.
فلما سمعوا ذلك مالوا اليه جميعا، ولم يلق مع ابن هبيرة الا قيس وتميم.
فلما راى ذلك ولى منهزما بمن معه حتى وافى واسط، ووجه في نقل الميرة [1] إليها، واستعد للحصار.
وانصرف محمد بن خالد الى الكوفه، فخطب الناس، ودعا لأبي العباس، وأخذ بيعه اهل الكوفه.
واقبل قحطبه من حلوان حتى وافى العراق، فنزل دمما [2] وهي فيما بين بغداد والأنبار وذلك قبل ان تبنى بغداد، وانما كانت قريه، يقوم بها سوق في كل شهر مره، فأقام معسكرا بها.
__________
[1] الطعام.
[2] كانت قريه كبيره على فم نهر عيسى قرب الفرات.

(1/368)


فقال على بن سليمان الأزدي يذكر محمد بن خالد وسبقه الى الدعاء الى بنى هاشم:
يا حاديينا بالطريق قوما ... بيعملات كالقسى رسما [1]
تنجو باحواز الفلاة مقدما ... الى امرئ اكرم من تكرما
محمد لما سما وأقدما ... ثار بكوفان بها معلما
في عصبه تطلب امرا مبرما ... حتى علا منبرها معمما
اكرم بما فاز به وأعظما ... إذ كان عنها الناس كلا نوما
وان قحطبه عند مسيره الى العراق استخلف على ارض الجبل يوسف بن عقيل الطائي، واقبل ابن هبيرة حتى صار على شاطئ الفرات الغربي، وهو في نحو من ثلاثين الف رجل.
واقبل قحطبه حتى نزل في الجانب الشرقى، فأقام ثلاثا، ثم نادى في جنوده، ان اقحموا خيلكم الماء، فاقتحموها، وقحطبه امام اصحابه.
ولما عبر اصحاب قحطبه قاتلهم ابن هبيرة، فلم يقم لهم، فانهزم حتى اتى واسطا، فتحصن فيها، وفقد قحطبه بن شبيب فلم يدر اين ذهب.
ويزعم بعض الناس ان فرسه غاص به فغرق، وتولى امر الناس ابنه الحسن بن قحطبه.
ولما تحصن ابن هبيرة بواسط خلف الحسن بن قحطبه عليه بعض قواده في عشرين الف رجل، وسار نحو الكوفه، وقد أخذها محمد بن خالد، فوافاها الحسن بن قحطبه، وبها الامام ابو العباس.
__________
[1] اليعمله الناقه النجيبه المعتملة المطبوعه، والجمل يعمل، وناقه عمله بينه العماله فارهة.

(1/369)