الأخبار الطوال

ابو جعفر المنصور
فلما وصل ابو جعفر الى ذات عرق في منصرفه أتاه نعى الامام ابى العباس [1] ، فأقام بمكانه حتى وافاه ابو مسلم، فاخبره بوفاه ابى العباس.
فخنقت أبا مسلم العبرة [1] ، وقال: رحم الله امير المؤمنين، إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ.
فقال ابو جعفر: انى قد رايت ان تخلف اثقالك ومن معك من جنودك على، فيكونوا معى، وتركب أنت في عشره نفر البريد حتى ترد الأنبار، فتضبط العسكر، وتسكن الناس.
قال ابو مسلم: افعل.
فركب في عشره نفر من خاصته، وسار بالحث الشديد حتى وافى العراق، وانتهى الى مدينه ابى العباس بالأنبار، فوجد عيسى بن على بن عبد الله بن عباس قد دعا الناس الى بيعته، وخلع ولايه العهد عن ابى جعفر.
فلما رأوا أبا مسلم مالوا معه، وتركوا عيسى.
فلما وافى ابو جعفر اعتذر اليه عيسى، واعلمه انه انما اراد بذلك ضبط العسكر، وحفظ الخزائن، وبيوت الأموال.
فقبل ابو جعفر منه ذلك، ولم يؤاخذه بما كان منه.
واجتمع الناس، وبايعوا المنصور أبا جعفر.
ثم أتاه انتقاض الشام، وقد كان ابو العباس استعمل عليها عمه عبد الله بن على، فلما بلغه وفاه ابى العباس دعا لنفسه، واستمال من كان معه من جنود خراسان، فمالوا معه.
فلما بلغ أبا جعفر ذلك قال لأبي مسلم ايها الرجل، انما هو انا او أنت، فاما ان تسير الى الشام فتصلح امرها، او اسير انا.
__________
[1] رطوبة مؤثره في الأصل مكان ما بين الحاصرتين.
[1] رطوبة مؤثره في الأصل مكان ما بين الحاصرتين.

(1/378)


قال ابو مسلم، بل اسير انا.
فاستعد، وسار في اثنى عشر ألفا من ابطال جنود خراسان حتى إذا وافى الشام انحاز اليه من كان بها من الجنود جميعهم، وبقي عبد الله بن على وحده.
فعفا ابو مسلم عنه، ولم يؤاخذه بما كان منه.
وكانت خلافه ابى العباس اربع سنين وسته اشهر.
وان أبا جعفر عند مسير ابى مسلم نحو الشام وجه يقطين بن موسى في اثر ابى مسلم، وقال: ان تكن هناك غنائم فتول قبضها.
وبلغ ذلك أبا مسلم، فشق عليه، وقال: ان امير المؤمنين لم يأتمنى على ما هاهنا حتى استظهر على بامين. ودخلته من ذلك وحشه شديده.
ولما بلغ المنصور اصلاح الشام كره المقام بمدينه ابى العباس التي بالأنبار، فسار بعسكره الى المدائن، فنزل الى المدينة التي تدعى الرومية وهي من المدائن على فرسخ، وهي المدينة التي بناها كسرى انوشروان، وأنزلها السبى الذى سباه من بلاد الروم، فأقام المنصور بتلك المدينة.
وان أبا مسلم انصرف فاخذ على الفرات حتى وافى العراق على الأنبار، وجاز حتى وافى كرخ بغداد [1] ، وهي إذ ذاك قريه، ثم عبر دجلة من بغداد، وأخذ طريق خراسان، وترك طريق المدائن.
وبلغ ذلك أبا جعفر.
فكتب الى ابى مسلم: اريد مناظرتك في امور لم يحتملها الكتاب، فخلف عسكرك حيث ينتهى إليك كتابي، فاقدم على.
فلم يلتفت ابو مسلم الى كتاب المنصور، ولم يعبأ به.
وكان مع المنصور رجل من ولد جرير بن عبد الله البجلي، واسمه جرير بن يزيد بن عبد الله، وكانت له خلابة، وتات في الأمور، ومكيده.
فقال له ابو جعفر: اركب البريد حتى تلحق أبا مسلم، فتحاول رده الى،
__________
[1] مكان بين المصراة ونهر عيسى، اتخذ سوقا، ورتب فيه كل صنف موضعه، وذلك ان أبا جعفر المنصور لما بنى مدينه بغداد امر ان تجعل الاسواق في طاقات المدينة بإزاء كل باب سوقا، ثم أشير على المنصور باخراج الاسواق من المدينة حتى لا يوافى الجواسيس من الاطراف بعلة التجارة فيتجسسون الاخبار، فامر ببناء السوق خارج المدينة، وسمى الكرخ لذلك.

(1/379)


فانه قد مضى مغاضبا، ولا آمن افساده على، وتات في رده بافضل التاتى.
فسار الرجل حتى لحقه في بعض الطريق، وقد نزل بعض المنازل بعسكره، فدخل عليه مضربه.
فقال:
ايها الأمير، اجهدت نفسك، واسهرت ليلك، واتعبت نهارك في نصره مواليك، واهل بيت نبيك حتى إذا استحكم لهم الأمر، وتوطد لهم السلطان، ونلت امنيتك فيهم تنصرف على هذه الحال، فما تقول الناس؟ الا تعلم ان ذلك مطعنه عليك، ومسبه، في حياتك، وبعد وفاتك؟.
فلم يزل به حتى عزم على الانصراف معه الى المنصور، وخلف عسكره بمكانه ذلك.
وسار منصرفا في الف فارس من افاضل من كان معه من جنود خراسان والقواد، وقد كان ابو مسلم يقول: ان المنجمين أخبروني ان لا اقتل الا بالروم.

قتل ابى مسلم الخراسانى
حتى وافى أبا جعفر بالرومية، فدخل عليه، فقام اليه ابو جعفر، وعانقه، واظهر السرور بانصرافه.
وقال له: كدت تمضى من قبل ان أراك، وافضى إليك بما اريد، فقم، فضع عنك ثيابك، وانزل حتى يذهب كلال السير عنك.
فخرج ابو مسلم الى قصر قد اعد له.
ونزل اصحابه حوله.
فمكث ثلاثة ايام، يغدو كل يوم الى ابى جعفر، فيدخل على دابته، حتى ينتهى الى باب المجلس الذى فيه الامام، فينزل، ويدخل اليه، فيجلس عنده مليا، فيتناظران في الأمور.
فلما كان في اليوم الرابع وطن له ابو جعفر عثمان بن نهيك، وكان على حرسه،

(1/380)


وشبث بن روح، وكان على شرطته، وأبا فلان بن عبد الله، وكان على الخيل، وامرهم ان يكمنوا في بيت الى جنب المجلس الذى كان فيه.
وقال لهم: إذا انا صفقت يدي ثلاثا فاخرجوا الى ابى مسلم، فبضعوه.
وامر الحاجب إذا دخل ابو مسلم ان يأخذ عنه سيفه.
واقبل ابو مسلم، فدخل، وأخذ الحاجب سيفه.
فدخل مغضبا، وقال:
يا امير المؤمنين، فعل بي ما لم يفعل بي مثله قط، أخذ السيف من عاتقى.
قال ابو جعفر: ومن اخذه لعنه الله؟ اجلس، لا عليك.
فجلس، وعليه قباء اسود خز، ووضع له متكئا، ولم يكن في البيت غيرهما.
فقال ابو جعفر:
ما اردت بمضيك نحو خراسان قبل لقائي؟
قال ابو مسلم:
لأنك وجهت في اثرى الى الشام أمينا في احصاء الغنائم، اما وثقت بي فيها؟.
فاغلظ له ابو جعفر الكلام.
فقال:
يا امير المؤمنين، انسيت حسن بلائي، وفضل قيامي، واتعابى نفسي ليلى ونهاري؟ حتى سقت هذا السلطان إليكم.
قال ابو جعفر:
يا ابن الخبيثة، والله لو قامت مقامك أمه سوداء لاغنت غناك، انما تأتي لك الأمور في ذلك بما أحب الله، من اظهار دعوتنا اهل البيت، ورد حقنا إلينا، ولو كان ذلك بحولك وحيلتك وقوتك ما قطعت فتيلا، الست يا ابن اللخناء الذى كتبت الى تخطب عمتي آمنه بنت على بن عبد الله؟ وتزعم في كتابك انك ابن سليط بن عبد الله بن عباس، لقد ارتقيت مرتقى صعبا.

(1/381)


فقال ابو مسلم:
يا امير المؤمنين، لا تدخل على نفسك الغم والغيظ بسببي، فانى اصغر قدرا من ان ابلغ منك هذا.
فصفق ابو جعفر بكفيه ثلاثا، وخرج عليه القوم بالسيوف.
فلما رآهم ابو مسلم ايقن بالأمر، فقام الى ابى جعفر، فتناول رجله ليقبلها، فرفسه ابو جعفر برجله، فوقع ناحيه، فأخذته السيوف.
فقال ابو مسلم. اما من سلاح يحامى به المرء عن نفسه.
فضربوه حتى خمد.
وامر به ابو جعفر، فلف في بساط، ووضع ناحيه من البيت.
وقد كان ابو مسلم قبل دخوله على ابى جعفر قال لعيسى بن على: ادخل معى الى امير المؤمنين، فانى اريد معاتبته في بعض الأمور.
فقال له عيسى: تقدم فانى على اثرك.
فاقبل عيسى حتى دخل على ابى جعفر، فقال:
يا امير المؤمنين، اين ابو مسلم؟
قال ابو جعفر: ها هو ذاك ملفوف في ذلك البساط.
قال عيسى: اقتلته؟ انا لله، فكيف تصنع بجنوده؟ وهؤلاء قد جعلوه ربا.
فامر ابو جعفر فهيئت الف صره، في كل صره ثلاثة آلاف درهم.
واحس اصحاب ابى مسلم بالأمر، فصاحوا، وسلوا السيوف، فامر ابو جعفر بتلك الصرر، فقذفت اليهم مع راس ابى مسلم.
وصعد عيسى بن على الى اعلى القصر، وقال:
يا اهل خراسان، انما كان ابو مسلم عبدا من عبيد امير المؤمنين، وجد عليه، فقتله، فليفرخ روعكم، فان امير المؤمنين بالغ آمالكم.

(1/382)


فترجل القوم وتناولوا تلك الصرر، كل واحد صره، وترك الراس مقذوفا.
ثم ان أبا جعفر وضع لأصحاب ابى مسلم العطاء، ووجه الأموال الى عسكر ابى مسلم حيت خلفه، فاسنى لهم العطاء، وكتب كتابا، فقرئ عليهم، يبسط فيه آمالهم، واجزل صلات القواد والاشراف منهم، فارضاهم ذلك.
واستدفت الخلافه لأبي جعفر المنصور سنه ثمان وثلاثين ومائه [1] ، فوجه عماله الى اقطار الارض.

مدينه بغداد
وان أبا جعفر أحب ان يبنى لنفسه وجنوده مدينه ليتخذها دار المملكة.
فسار بنفسه يرتاد الاماكن حتى انتهى الى بغداد، وهي إذ ذاك قريه يقوم بها سوق في كل شهر، فاعجبه المكان، فخط لنفسه وحشمه ومواليه وولده واهل بيته المدينة، وسماها مدينه السلام، وبنى قصره وسطها الى المسجد الأعظم.
ثم خط لجنوده حول المدينة، وجعل اهل كل بلد من خراسان في ناحيه منها منفرده، وامر الناس بالبناء، ووسع عليهم في النفقات، وامر، فحفر نهر الفرات من ثمانية فراسخ، وفوهه النهر من دمما [2] ، فأجرى الى بغداد ليأتي فيه مواد الشام والجزيرة، كما تأتي مواد الموصل وما اتصل بالموصل في دجلة، وكان بناؤه إياها في سنه تسع وثلاثين ومائه [3] .
ثم ان أبا جعفر حج بالناس سنه اربعين ومائه، وجعل منصرفه على مدينه الرسول، فوضع لأهلها العطاء، فاسنى لهم في الرزق وفرق فيهم الجوائز.
ومضى نحو الشام قاصدا لبيت المقدس حتى وافاها، فأقام بها شهرا، ثم سار الى الرقة، فأقام بها بقية عامه ذلك، ثم سار من الرقة حتى وافى مدينه السلام، فأقام بها حولا كاملا.
__________
[1] سنه 755 م.
[2] قريه كبيره على فم نهر عيسى، قرب الفرات، وقد خربت.
[3] سنه 756 م

(1/383)


الراونديه
ثم سار منها سنه اثنتين واربعين ومائه نحو البصره حتى وافاها، فبلغه ان الراونديه [1] تداعوا، وخرجوا يطلبون بثار ابى مسلم، وخلعوا الطاعة، فوجه اليهم خازم بن خزيمة، فقتلهم، وبددهم في الارض، ثم عقد لمعن بن زائده من البصره على اليمن، واقام عامه ذلك بالبصرة.
وزعموا ان عمرو بن عبيد دخل اليه، فلما رآه ابو جعفر صافحه، واجلسه الى جانبه، فتكلم عمرو، فقال:
يا امير المؤمنين، ان الله قد أعطاك الدنيا بأسرها، فاشتر نفسك من الله ببعضها، واعلم ان الله لا يرضى منك الا بما ترضاه منه، فإنك لا ترضى من الله الا بان يعدل عليك، وان الله لا يرضى منك الا بالعدل في رعيتك، يا امير المؤمنين، ان من وراء بابك نيرانا تاجح من الجور، وما يعمل من وراء بابك بكتاب الله ولا بسنه رسول الله، يا امير المؤمنين: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ، إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ، حتى اتى على آخر السورة [2] ، ثم قال: ولمن عمل والله بمثل عملهم.
قالوا: فبكى ابو جعفر.
فقال ابن مجالد: مه يا عمرو، قد شققت على امير المؤمنين منذ اليوم.
قال عمرو: من هذا يا امير المؤمنين؟
قال: هذا اخوك ابن مجالد.
قال عمرو: يا امير المؤمنين ما احد اعدى لك من ابن مجالد، ايطوى عنك النصيحه، ويمنعك من ينصحك؟ وانك لمبعوث وموقوف ومسئول عن مثاقيل الذر من الخير والشر.
__________
[1] الراونديه فئه تنسب الى احمد بن يحيى بن اسحق الراوندي المتوفى سنه 303 هـ وقد كان معتزليا، ثم صار شيعيا، ثم تغير الى الزيغ والإلحاد، وله مؤلفات تمثل ذلك الاضطراب الذى تقلب فيه تاريخ الإلحاد في الاسلام للدكتور عبد الرحمن بدوى.
[2] الآية رقم 6 من سوره الفجر.

(1/384)


قال: فرمى ابو جعفر بخاتمه، وقال:
قد وليتك ما وراء بابى، فادع أصحابك، فولهم.
قال: ان اصحابى لن يأتوك حتى يروك قد عملت بالعدل، كما قلت بالعدل.
ثم انصرف.
وسار ابو جعفر من البصره سنه ثلاث واربعين نحو الجبل حتى وافى مدينه نهاوند، وقد كان بلغه طيبها، فأقام بها شهرا.
ثم انصرف حتى اتى المدائن، فأقام بها بقية عامه ذلك، وعقد منها لخزيمه بن خازم على جميع طبرستان، حتى إذا آن أوان الحج خرج منها حاجا سنه اربع واربعين ومائه، ونزل الربذة [1] ، فلما قضى حجه انصرف، ولم يدخل المدينة.
وفي ذلك العام خرج عليه محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن على بن ابى طالب ع، الملقب بالنفس الزكيه، فوجه اليه ابو جعفر عيسى بن موسى بن على في خيل، فقتل رحمه الله، وخرج اخوه ابراهيم بن عبد الله بن الحسن بن الحسن، فقتل رضوان الله عليهم.

موت ابى جعفر المنصور
وفي سنه ثمان وخمسين ومائه حج ابو جعفر، فنزل الابطح على بئر ميمون، فمرض بها، وتوفى غداه السبت، لست خلون من ذي الحجه.
فأقام الحج للناس في ذلك العام ابراهيم بن محمد بن يحيى بن محمد بن على بن عبد الله بن عباس، وصلى على ابى جعفر عيسى بن موسى، فكانت خلافته عشرين سنه، وتوفى وله ثلاث وستون سنه، ودفن باعلى مكة.
__________
[1] الربذة قريه قرب المدينة المنوره، وبها قبر ابى ذر الغفاري، وقد خرجها القرامطة سنه 319 هـ.

(1/385)