الأخبار الطوال

 [خلافة بني العباس]

مبايعه ابى العباس
فأظهر أبا العباس، واقبل به حتى دخل المسجد الأعظم، واجتمع له الناس، فصعد المنبر، فحمد الله واثنى عليه، وصلى على نبيه، ع، ثم ذكر انتهاك بنى اميه المحارم، وهدمهم الكعبه، ونصبهم عليها المجانيق، وما أبدعوا من خبيث السير، ثم نزل.
فاكثر الناس له من الدعاء، واقبل نحو دار الإمارة، فنزلها.
وامر الحسن بن قحطبه بالانصراف الى واسط، والإناخة بيزيد بن عمر بن هبيرة.
فسار الحسن وحاصر يزيد أشهرا كثيره.
قال الهيثم بن عدى: بويع لأبي العباس بالخلافة، ولأبي جعفر بولاية العهد من بعده، في رجب، من سنه اثنتين وثلاثين ومائه [1] .
فلما استدف لأبي العباس الإمرة ولى أبا سلمه الداعي جميع ما وراء بابه، وجعله وزيره، واسند اليه جميع أموره، فكان يسمى وزير آل محمد، فكان ينفذ الأمور من غير مؤامره.
وبلغ ذلك أبا مسلم وهو بخراسان، فدعا مروان الضبي، وكان احد قواده، وقال له: انطلق الى الكوفه، فاخرج أبا سلمه من عند الامام ابى العباس، فاضرب عنقه، وانصرف من ساعتك، ففعل الضبي ذلك.
فقال الشاعر يرثى أبا سلمه:
ان الوزير وزير آل محمد ... اودى فمن يشناك كان وزيرا [2] .
ثم ان الامام أبا العباس راى ان يوجه أخاه أبا جعفر المنصور الى واسط، ليتولى
__________
[1] الموافق فبراير سنه 750 م.
[2] شناه اى ابغضه.

(1/370)


محاربه ابن هبيرة، فوجهه، وكتب الى الحسن بن قحطبه يعلمه ان العسكر عسكره، وانه أحب ان يكون اخوه المتولى للامر.
فلما وافى ابو جعفر واسطا تحول الحسن بن قحطبه عن سرداقه، وخلاه بما فيه له، فنزله ابو جعفر بحريمه وحشمه.
وكتب ابو جعفر الى قواد يزيد بن عمر واشراف من العرب، يستميلهم بالاطماع، وينبههم على حظوظهم، ويعرفهم انصرام دوله بنى اميه، فأجابوه جميعا.
وكان أول من اجابه وانحرف اليه زياد بن صالح الحارثى، وكان عامل ابن هبيرة على الكوفه، واخص اصحابه عنده، وقد كان ابن هبيرة ولاه حراسه مدينته بالليل، ودفع اليه مفاتيح أبوابها.
قال الهيثم: فحدثني ابى، قال: لما هم زياد باللحوق بابى جعفر ارسل الى، وكان وصى ابى، فكنت ادعوه أبا وعما، وقد كان رسوله أتاني عند اختلاط الظلام، يأمرني بالمصير اليه، فأتيته، فخلا بي، وقال:
يا ابن أخي، انك لست ممن اكتمه شيئا، وقد أتاني كتاب ابى جعفر، يدعوني الى اللحوق به، ويبذل لي على ذلك منزله سنيه، واعلم في كتابه انه راع للخئوله وكانت أم ابى العباس حارثيه.
قال والدى: فقلت له، يا عم، ان لابن هبيرة ايادى جميله، واكره لك الغدر به.
فقال: يا ابن أخي، انا من اشكر الناس له، غير انى لا ارى ان اقيم على ملك، قد انقضت قواه، ووهت عراه، وانا لابن هبيرة اليوم عند ابى جعفر انفع منى له هاهنا، وأرجو ان يصلح الله امره بي وعلى يدي، فاقم عندي الى وقت خروجى لاسلم لك المفاتيح.
فاقمت عنده.
فلما مضى ثلث الليل امر غلمانه، فحملوا اثقاله، وأسرجوا دوابه، ثم ركب،

(1/371)


وخرج من منزله، وانا امشى معه، حتى انتهى الى باب المدينة الذى يلى دجلة، وكانت المفاتيح معه، وامر الاحراس ان يفتحوا الباب، وقال لهم: اريد الخروج لاستطلاع بعض الأمور، وانا منصرف بعد ساعه.
ثم خرج، وأمرني باغلاق الباب وأخذ المفاتيح.
فقال لي فيما بيني وبينه: إذا اصبحت فانطلق بالمفاتيح حتى تدفعها الى ابن هبيرة من يدك الى يده، واعلمه انى له هناك افضل منى له هاهنا، ثم ودعني، ومضى، وانصرفت الى منزلي.
فلما اصبحت اتيت باب قصر الإمارة، فاستأذنت على ابن هبيرة.
فقال لي الحاجب: هو قاعد في مصلاه، لم يقم عنه.
قلت: اعلمه انى أتيته في مهم.
فاذن لي.
فدخلت، وهو قاعد في محرابه، وعليه كساء بركانى [1] معلم، فسلمت عليه بالإمرة.
فرد السلام.
وقال: مهم.
فحدثته بأمر زياد بن صالح، فدمعت عيناه.
وقال: بمن تثق اليوم بعد زياد، وتوليتي اياه الكوفه، وبري به؟
فقلت: ايها الأمير: ان الله ربما جعل في الكره خيرا، وأرجو ان ينفعك الله بمكانه هناك.
فقال: لا حول ولا قوه الا بالله.
ثم قال: يا غلام، على بطارق بن قدامه القسرى.
فدخل عليه، وانا جالس عنده، فدفع اليه تلك المفاتيح.
__________
[1] الكساء البركاني هو ذو اللون الأسود.

(1/372)


وقال: يا طارق، انى قد اخترتك لحراسة هذه المدينة على جميع أصحابك من خاصتنا، فكن كنحو ثقتي بك.
ولما طال على ابن هبيرة الحصار بعث الى المنصور يسأله الامان، فأرسل اليه:
ان اردت ان أومنك على حكم امير المؤمنين ابى العباس فعلت.
فشاور ابن هبيرة نصحاءه، فأشاروا عليه ان يفعل.
فأرسل الى ابى جعفر يعلمه: انى راض بذلك.
فكتب اليه ابو جعفر ذلك بخطه، واشهد على نفسه بذلك القواد.
فخرج ابن هبيرة الى ابى جعفر في نفر من بطانته، فدخل عليه، وهو في سرادقه، وحول السرادق عشره آلاف نفر من اهل خراسان مستلئمين في السلاح، فامر ابو جعفر بوساده، فجلس عليها قليلا، ثم نهض، ودعى له بدابته، فركب، وانصرف الى منزله، وفتحت أبواب المدينة، ودخل الناس بعضهم في بعض.
قالوا: واحصى ما في الخزائن من الأموال والسلاح، وما بقي من الطعام والعلف الذى كان ابن هبيرة قد ادخر، واعد للحصار، فكان المال ثلاثة آلاف الف درهم، ومن السلاح شيء كثير، وطعام ثلاثين الف رجل، وعلف عشرين الف راس من الدواب سنه.
وان أبا جعفر كتب الى ابى العباس يخبره بخروج ابن هبيرة على حكمه، ويسأله ان يعلمه الذى يرى فيه.
فكتب ابو العباس: لا حكم لابن هبيرة عندي الا السيف.
فلما انتهى الكتاب بذلك الى ابى جعفر كتمه عن جميع الناس.
وقال لحاجبه: مر ابن هبيرة إذا ركب إلينا الا يركب الا في غلام واحد، ويدع عنه هذه الجماعات.
فلما كان من غد ركب ابن هبيرة الى ابى جعفر في موكب عظيم.

(1/373)


فقال له سلام الحاجب: أبا خالد، كأنك انما تأتي ولى العهد مباهيا، ولا تأتيه مسلما.
قال ابن هبيرة: ان كنتم كرهتم ذلك لم آتكم الا في غلام واحد.
قال: فلا تأتنا الا في غلام واحد، فانى لم اقل ذلك استخفافا بحقك، الا ان اهل خراسان ينكرون كثره من يركب معك.
فكان ابن هبيرة بعد ذلك لا يأتيهم الا في غلام واحد، فيدخل، ويسلم، وينصرف.
ثم ان أبا جعفر قال للحسن بن قحطبه: اجمع إليك أبا بكر العقيلي، والحوثره بن سهل، ومحمد بن بنانه، وعبد الله بن بشر، وطارق بن قدامه، وسويد بن الحارث المزنى، وهؤلاء كانوا قواد يزيد بن عمر، فإذا اجتمعوا عندك فاضرب أعناقهم، وائتنى بخواتيمهم، ووجه حرسا يحرسون ابن هبيرة، لانفذ فيه امر الامام ابى العباس.
فانطلق الحسن بن قحطبه، فانفذ امره في أولئك، وأتاه بخواتيمهم.
قال: فما نطق منهم احد عند قتله، وما كان منه جزع ولا امتناع.
فلما كان في اليوم الثانى دعا ابو جعفر خازم بن خزيمة، وابراهيم بن عقيل، فقال لهما: انطلقا في عشره نفر من الحرس حتى تدخلا على ابن هبيرة فتقتلاه.
فاقبلا حتى دخلا عليه عند طلوع الشمس، وهو جالس في مسجده في القصر مسند ظهره الى المحراب، ووجهه الى رحبه القصر.
فلما نظر اليهم قال لحاجبه: يا أبا عثمان، احلف بالله ان في وجوه القوم لشرا.
فمضى ابو عثمان مستقبلا لهم، وقال لهم: ما تريدون؟.
فبعجه ابراهيم بن عقيل بالسيف، فقتله، وقام ابراهيم ابنه في وجوه القوم، فقتل، ثم قام ابنه داود في وجوههم، فقتل، ثم قام كاتبه عمرو، فقتل.

(1/374)


وأقبلوا نحو ابن هبيرة، فلما دنوا منه حول وجهه الى القبله، وسجد، فضربوه بأسيافهم حتى خمد.
ثم انصرفا الى ابى جعفر، فأخبراه بذلك، فامر ابو جعفر مناديا، فنادى ايها الناس، أنتم آمنون الا الحكم بن عبد الملك بن بشر، ومحمد بن ذر، وخالد بن سلمه المخزومي.
قال الهيثم: فحدثني ابى قال: قال محمد بن ذر، فضاقت على الارض برحبها، فخرجت ليلا من مدينه واسط على قدمي، وانا اقرا آيه الكرسي، فما عرض لي احد من الناس حتى نجوت، فلم أزل خائفا حتى استامن لي زياد بن عبد الله من الامام ابى العباس، فآمنني.
قال وهرب الحكم بن عبد الملك الى كسكر، فاستخفى بها.
وضاقت بخالد بن سلمه المخزومي الارض، فاتى باب ابى جعفر المنصور ليلا، فاستامن له، فآمنه.
ثم نودى ايها الناس، أنتم جميعا آمنون، يا اهل الشام، ألحقوا بشامكم، ويا اهل الحجاز، ألحقوا بحجازكم، فسكن الناس، وآمنوا، واطمأنوا.
واستعمل المنصور على واسط الهيثم بن زياد الخزاعي في خمسه آلاف من اهل خراسان، ثم انصرف بسائر الناس حتى قدم على الامام ابى العباس، وهو بالحيرة.
ثم ان الامام سار من الحيرة في جموعه حتى اتى الأنبار، فاستطابها، فابتنى بها مدينه باعلى المدينة عظيمه لنفسه وجموعه، وقسمها خططا بين اصحابه من اهل خراسان، وبنى لنفسه في وسطها قصرا عاليا منيفا، فسكنه، واقام بتلك المدينة طول خلافته، وتسمى الى اليوم مدينه ابى العباس.
ثم ان أبا العباس وجه أخاه أبا جعفر المنصور الى خراسان، وامره ان ياتى

(1/375)


أبا مسلم، فيناظره في بعض الأمور، ووجه معه ثلاثين رجلا من وجوه القواد، وفيهم الحجاج بن ارطاه الفقيه، واسحق بن الفضل الهاشمى.
فلما قدم المنصور على ابى مسلم لم يبالغ ابو مسلم في بره وإكرامه، ولم يظهر السرور التام بقدومه.
فانصرف الى ابى العباس، وقال: لست بخليفه ما دام ابو مسلم حيا، فاحتل لقتله قبل ان يفسد عليك امرك، فلقد رايته وكأنه لا احد فوقه، ومثله لا يؤمن غدره ونكثه.
فقال ابو العباس: وكيف يمكن ذلك، ومعه اهل خراسان؟ وقد اشربت قلوبهم حبه، واتباع امره، وايثار طاعته.
فقال ابو جعفر: فذاك والله احرى ان لا تامنه، فاحتل له.
فقال ابو العباس: يا أخي، اضرب عن هذا، ولا تعلمن رأيك في ذلك أحدا.
وان أبا العباس قال ذات يوم للحجاج بن ارطاه، وقد خلا معه: ما تقول في ابى مسلم؟
فقال: يا امير المؤمنين، ان الله تعالى يقول في كتابه: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا.
قال ابو العباس: امسك، فقد فهمت ما اردت.
ثم ان أبا مسلم وجه محمد بن الاشعث بن عبد الرحمن أميرا على فارس.
وراى ابو العباس ان يستعمل عليها عمه عيسى بن على، فعقد له عليها، وامره بالمسير إليها.
فلما قدم عيسى على محمد بن الاشعث ابى ان يسلم اليه.
فقال له عيسى: يا ابن الاشعث، الست في طاعه الامام ابى العباس؟
قال: بلى، غير ان أبا مسلم أمرني الا اسلم العمل الى احد من الناس.

(1/376)


قال عيسى: فإنما ابو مسلم عبد الامام، وان الامام لا يرضى ان يرد امره.
قال محمد: دع عنك هذا، لست اسلم العمل إليك الا بكتاب ابى مسلم.
فانصرف عيسى الى ابى العباس، فاخبره ذلك، فكظم، وامر عمه بالمقام عنده، فأقام.
وان أبا مسلم عقد للمغلس بن السرى على ارض طخارستان حتى وافاها، فخرج اليه منصور مستعدا للحرب، فالتقوا، فاقتتلوا، فكان الظفر للمغلس، وهرب منصور في نفر من اصحابه حتى وقعوا في الرمال، فماتوا عطشا.
واقام المغلس على باب بلاد السند.
وان أبا مسلم كتب الى الامام ابى العباس يستاذنه في القدوم عليه، والمقام عنده الى أوان الحج ليحج، فاذن له ابو العباس في ذلك، فسار ابو مسلم حتى إذا قارب الامام امر ابو العباس جميع من كان معه بالحضرة من القواد والاشراف ان يستقبلوه، فاستقبل بالكرامه، وترجل له الاشراف والقواد.
واقبل حتى وافى مدينه ابى العباس، فانزله معه في قصره، ولم يال جهده في بره وإكرامه، حتى إذا حان وقت الحج استاذنه في الحج.
فقال له ابو العباس: لولا ان أخي أبا جعفر قد عزم على الحج لوليتك الموسم، فكونا جميعا.
قال ابو مسلم: وذاك أحب الى.
ثم خرجا.
فكان يرتحل ابو جعفر، وينزل ابو مسلم حتى وافيا مكة، فقضيا حجهما، وانصرفا.

(1/377)