الإنباء في تاريخ الخلفاء
قصّة الكتاب:
بسم الله الرّحمن الرّحيم ترجع معرفتي بكتاب «الإنباء» إلى الصدفة أكثر
منها إلى التدبير فقد وقع بيدي حين كنت أبحث عن شيء آخر فأثار فىّ ميلى
القديم إلى التاريخ العربيّ والإسلامي الّذي كان أول ما درست حين كنت
في دار المعلمين العالية ببغداد فتصفحت المخطوطة ووجدتني منساقا إلى
قراءتها فقرأت الكتاب كله فاستهوانى مؤلفه بأسلوبه الّذي لا يشبه أسلوب
المؤرخين التقليديين فرغبت في إعداده للنشر. وقد زاد في هذه الرغبة
وصول نسخة من كتاب «مختصر التاريخ» لظهير الدين الكازروني أرسلها لي
أخى الكريم الدكتور يوسف عز الدين فوجدت فيه أن الكازروني قد كتب ذيلا
على «الإنباء» وعند ذلك رغبت في معرفة المزيد عن الكتاب ومصنفه فوجدت
أن الأستاذ عباس العزاوى- رحمه الله- قد وعد بنشره في مقاله «العمراني
وتاريخه» المنشور في مجلة المجمع العلمي العربيّ بدمشق سنة 1948،
فأسرعت إلى فهارس الكتب المطبوعة أبحث عنه فإذا هي خواء فاستخرت الله
عز شأنه في نشره، ومنه أرجو العون، ومنه أستمد الحول إنه نعم المولى
ونعم المعين.
لقد ذكر العزاوى في مقاله الآخر عن تاريخ ابن أبى عذيبة المنشور في
العدد 21 من مجلة المجمع العلمي العربيّ بدمشق أنه يمتلك تاريخا مخطوطا
في الدولة العباسية إلى أيام المستنجد باللَّه العباسي لم يعرف مؤلّفه
وأن هذا التاريخ من جملة مراجع نقل ابن عذيبة منها وقال: «فقد كان من
ذلك الحين (توفى ابن أبى عذيبة سنة 856 هـ) مجهولا ولم أتمكن من معرفته
وربما عدت إلى وصفه لعل في القراء الأفاضل من يعرف بمؤلفه» . وبرّ
بوعده وعاد إلى وصفه في مقاله الّذي أشرنا إليه فروى قصة
(1/3)
عثوره على اسم الكتاب واسم مؤلفه من إشارة
عابرة وردت في كتاب مختصر التاريخ للكازروني ومن إشارة أخرى وردت عند
السخاوي في كتابه «الإعلان بالتوبيخ» . وأعاد ذكره في كتابه «التعريف
بالمؤرخين» (المنشور في بغداد سنة 1957، صفحة 129، 248) فقال: «عثرت
على تاريخ العمراني ولم أعثر على التذبيل» ، «وهو (ابن أبى عذيبة) يعول
على مؤرخين عديدين ومن أهم من يستحق الذكر العمراني فإنه اعتمد ما ذكره
من تاريخه للخلفاء العباسيين ولم يصرح باسمه على خلاف عادته في من نقل
عنهم ولعله لم يقف على اسم مؤلفه» . وذكره مرة أخرى في مقاله «من جوامع
بغداد: جامع الخلفاء» (المنشور في مجلة سومر لسنة 1966) فقال: «وتاريخ
العمراني في خزانتي نسختان إحداهما صحيحة ومتقنة» .
وفي مقالة قصيرة عن العمراني وتاريخه قلت: «إن نسخة العزاوى إما أن
تكون نسخة مصورة أو نسخة منتسخة من نسخة ولى الدين أو أن إحداهما في
الأقل كذلك والأخرى انتسخها لنفسه من نسخة لا نعرف مصدرها» [1] لأنه
حين كتب مقاله عن تاريخ ابن أبى عذيبة كان يجهل اسم الكتاب واسم مؤلفه
لأن نسخة ولى الدين لا تحملهما، وصدق ظني حين كتب لي زميلي الدكتور
عيسى سلمان، مدير الآثار العام، ردّا على استفسارى منه: «في خزانة
العزاوى نسخة مصورة «بالفوتغراف» من المكتبة السليمانية بتركيا كتبت
هذه النسخة بخط الثلث سنة 621 هـ، تقع هذه النسخة في 323 صفحة إلا أنها
ناقصة بعض الصفحات وأولها مخروم» .
وهذه نسخة فاتح.
«النسخة الثانية كتبت بخط الثلث كتبها عبد الرزاق فليح البغدادي سنة
1364 هـ عن نسخة مكتوبة في 4 شوال سنة 682 هـ وتقع في 309 صفحات ...
عليها تعليقات وحواش للعزاوى ولها مقدمة» . وشفع رسالته هذه بنسخة
مصورة
__________
[1] مجلة المكتبة التي تصدرها مكتبة المثنى ببغداد، الأعداد 85- 87،
سنة 1972 صفحة: 3.
(1/4)
لمقدمة العزاوى للكتاب فوجدت أنه لم يزد
فيها على ما قاله في مقاله «العمراني وتاريخه» وأنه أورد جملة من
الآراء عن العمراني سوف نتعرض لها فيما بعد. وهذه النسخة مأخوذة
بالتحقيق من نسخة ولى الدين.
ورجوت صديقي أمين قسم المخطوطات في مكتبة جامعة لايدن أن يحاول الحصول
على «ميكروفيلم» لمخطوطتى ولى الدين وفاتح من تركيا فكتب لمكتبة
السليمانية ودامت المراسلة زمنا طويلا جدا، وأخيرا جاءنا الجواب بأن
مكتبة السليمانية سبق لها أن زودت مكتبة جامعة أدنبرة ب «ميكروفيلم»
فأسرعنا بالكتابة إليها وجاء الجواب بأن «الميكروفيلم» يمتلكه الطالب
العراقي بهجت كامل التكريتي الّذي تفضل فأعاره لنا فله أجزل الشكر
والثناء. والأطرف من هذا أننا حصلنا على مصورة نسخة فاتح من الأستاذ
المحقق حمد الجاسر- صاحب مجلة العرب- حيث علمت أنه ينوى نشرها فأخبرني
في رسالة بأنه لا ينوى نشرها وتفضل فأرسل لي مصورته لنسخة فاتح فله
المنّة وجميل الشكر.
وأخيرا شكري العميق وامتنانى الجم لكل من ساعد وأعان على إخراج هذا
الكتاب وأخصّهم بالشكر والثناء صديقىّ بيتر شوردفان كوننكزفلد والدكتور
عيسى سلمان وأخوىّ الدكتور يوسف عز الدين وعبد الإله السامرائي على
عواطفهم الجمة وعونهم الّذي لا ينقطع.
قاسم السيد أحمد السامرائي
(1/5)
المؤرخ المنسىّ
عجيب أن يلف الغموض حياة مؤلف هذا التاريخ النفيس، والأعجب أن يهمله
كتاب التراجم إهمالا لا مبرر له، فلم تعرف له ترجمة في ما لدينا من
مصادر ولم نعثر له على ذكر بالرغم من التنقير الطويل والبحث الكثير.
ولم ينفعنا النص نفسه لأن المؤلف حرص على أن لا يربط بينه وبين ما يؤرخ
وكأنه فعل ذلك عن تعمد وإصرار، ولم تنفعنا الإشارات القليلة هنا وهناك
للتعرف عليه أو استجلاء الغامض من شخصيته، فعسى أن يحظى غيرنا بما لم
نحظ به فيعثر على ترجمته فينجلي الغموض الكثيف الّذي ما زال يحيط
بشخصية هذا المؤرخ المنسي الّذي لم يترك وراءه غير هذا الأثر اليتيم.
ولئن أهمله كتاب التراجم هذا الإهمال الغريب فإنّهم ترجموا ل «على بن
محمد بن على بن أحمد العمراني» الّذي قطع كل من الدكتور مصطفى جواد
والأستاذ عباس العزاوى- رحمهما الله- بأبوّته لمؤرخنا ابن العمراني.
فلنحاول أن نلتمس حياة مؤرخنا من دراسة حياة أبيه الّذي ترجمه كل من:
(1) السمعاني المتوفى سنة 562 هـ في: كتاب الأنساب ورقة 398 ب.
(2) ياقوت المتوفى سنة 626 هـ في: كتاب معجم الأدباء 5/ 412، وقد نقل
ترجمته من تاريخ خوارزم لأبى محمد بن أرسلان.
(3) ابن الأثير المتوفى سنة 630 هـ في: اللباب في تهذيب الأنساب 2/
151- 152. وقد اختصر ترجمة السمعاني.
(4) ابن الفوطي المتوفى سنة 723 هـ في: تلخيص مجمع الآداب في معجم
الألقاب، ترجمة 2246.
(5) الصلاح الصفدي المتوفى سنة 745 هـ في: كتاب الوافي بالوفيات،
مخطوطة نور عثمانية جزء 12.
(1/6)
(6) القرشي المتوفى سنة 775 هـ في: كتاب
الجواهر المضيئة 1/ 378.
(7) السيوطي المتوفى سنة 911 هـ في: كتاب بغية الوعاة صفحة 350- 351.
(8) أبو الحسنات اللكنوي المتوفى سنة 1304 هـ في: كتاب الفوائد البهية
في تراجم الحنفية صفحة 123.
(9) الخوانساريّ المتوفى سنة 1313 في: كتاب روضات الجنات صفحة 485.
من هذه التراجم نستطيع أن نسقط ترجمة السيوطي والخوانساريّ والصفدي
وابن الأثير لأن الخوانساريّ نقل من كتاب الصفدي وكل من الصفدي
والسيوطي نقل من معجم الأدباء. أما ترجمة اللكنوي فليس فيها شيء جديد
يضاف إلى ترجمة ياقوت إلا اسمه المحرف حيث جاء «على بن عبد الله بن
عمران» . أما ترجمة ابن الفوطي فليست بشيء لأنها يمكن أن تلصق بأية
ترجمة دون أن تغير منها شيئا. ولعله نقلها من ترجمة ياقوت. قال فيها:
«من العلماء الأدباء والأفاضل النجباء، كان عارفا بالنحو والأدب
والتفسير وأصول الفقه والكلام والعروض وله في الجميع المعرفة التامة
واليد الباسطة» ولم يزد. أما ترجمة ابن الأثير في اللباب فهي مختصرة من
ترجمة السمعاني.
بقيت لدينا ترجمات كل من السمعاني وابن أرسلان والقرشي. ففي أول هذه
الترجمات يقول السمعاني في نسبة «العمراني» :
«هذه النسبة إلى شيئين أولهما: أهل بيت كبير بسرخس وهو بيت قديم،
والّذي رأيت منهم الرئيس أبا الحسن على بن محمد العمراني السرخسي
قرابتنا [1] .
حظي عند السلطان سنجر بن ملك شاه وارتفع قدره ثم حبس وقتل بمرو بقرية
سنج، وقد تغيّر رأى السلطان عليه في سنة 545 هـ» . وقال السمعاني في
النسبة إلى الشيء الثاني: «والعمرانية قرية بالموصل» . وجاء ذكر
العمرانية هذه عند ياقوت في معجم البلدان فقال: «قرية وقلعة في شرق
الموصل متاخمة لناحية شوش والمرج» .
__________
[1] لم يورد كل من مصطفى جواد وعباس العزاوى هذه الكلمة في ما نقلوا من
ترجمة العمراني.
(1/7)
إن ترجمة ياقوت المنقولة من تاريخ خوارزم
أطول من ترجمة السمعاني وأكثر منها تفصيلا، قال فيها: «على بن محمد بن
على بن أحمد بن مروان العمراني الخوارزمي، أبو الحسن الأديب، يلقب حجة
الأفاضل وفخر المشايخ، مات فيما يقارب سنة 560.
ذكره أبو محمد بن أرسلان في تاريخ خوارزم من خطه فقال: العمراني حجة
الأفاضل سيد الأدباء قدوة مشايخ الفضلاء المحيط بأسرار الأدب والمطلع
على غوامض كلام العرب. قرأ الأدب على فخر خوارزم محمود بن عمر
الزمخشريّ فصار أكبر أصحابه وأوفرهم حظا من غرائب آدابه. لا يشق غباره
في حسن الخط واللفظ ... سمع من فخر خوارزم والإمام عمر الترجماني، ولد
الإمام أبى الحسن على بن أحمد المخى ...
والإمام الحسن بن سليمان الخجنديّ والقاضي عبد الواحد الباقرحى وغيرهم.
وكان ولوعا بالسماع كتوبا وجعل في آخر عمره أيامه مقصورة وأوقاته
موقوفة على نشر العلم وإفادته لطالبيه وإفاضته على الراغبين فيه ...
وكان يذهب مذهب الرأى والعدل ...
وله تصانيف حسان منها كتاب المواضع والبلدان، كتاب تفسير القرآن، كتاب
اشتقاق الأسماء ... » . وذكره ياقوت في معجم البلدان عند كلامه على
مصنفي كتب البلدان فقال: «وأبو القاسم الزمخشريّ له كتاب لطيف في ذلك
(اشتقاق البلدان) ، وأبو الحسن العمراني تلميذ الزمخشريّ وقف على كتاب
شيخه وزاد عليه رأيته» [1] وقد نقل ياقوت منه كثيرا إلى معجمه (انظر
فهرس معجم البلدان تحت اسم: العمراني) .
وأخيرا ترجمه القرشي فقال: «على بن محمد العمراني الملقب فخر المشايخ
أستاذ علاء الأئمة الخياطى» [2] وعلاء الأئمة هذا هو علاء الدين أبو
على، سديد بن أبى سابق
__________
[1] معجم البلدان 1/ 7، وذكر له حاجي خليفة تفسير القرآن 2/ 359،
واشتقاق أسماء المواضع والبلدان 1/ 318، وقال عباس العزاوى إنه يمتلك
أوراقا متناثرة منه (العمراني وتاريخه: 51) .
[2] الجواهر المضيئة 1/ 378.
(1/8)
طاهر الخياطى الخوارزمي المحتسب. قال عنه
ابن الفوطي: «كان جلدا معتبرا لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان عارفا
بالفقه والحديث، عالما بأمور الناس، كان يحفظ كثيرا من كلام السلف» [1]
. وقال عنه الذهبي: «ومن الخياطة شيخ الإسلام علاء الدين سديد بن محمد
الخياطى الخوارزمي، سمع من فخر المشايخ على بن محمد العمراني» [2] .
من كل هذا يتوضح لدينا ما يأتى:
(1) إن العمراني السرخسي كان يمت بصلة القرابة للسمعاني، وأنه كان
رئيسا لسرخس، وأنه توفى بعد سنة 545 هـ لأن السلطان تغير رأيه عليه
فحبس ثم قتل.
(2) إن العمراني الخوارزمي كان فقيها عالما أديبا مفسرا، حنفيا معتزليا
يؤخذ عنه العلم وتوفى في حدود سنة 560 هـ.
فهل نحن أمام شخصيتين مختلفتين تماما وإن تشابهتا في الاسم واسم الأب
والجد واختلفتا في النسبة؟ وهل لهاتين الشخصيتين أية علاقة بمؤرخنا
المنسي؟
ذكر السمعاني وبعده ابن الأثير أن العمراني السرخسي كان ينعت ب
«الرئيس» فلعله كان رئيسا لسرخس في عصر السلطان سنجر بن ملك شاه الّذي
انتهى حكمه عمليا في سنة 548 هـ على أيدي الغز من التركمان [3] ولعل
السلطان تغير رأيه على العمراني السرخسي فحبسه ثم قتله قبل سنة 548 هـ
ومن ثم فإن السلطان سنجر نفسه توفى سنة 552 هـ كمدا وغما على ذهاب
ملكه، والفرق كبير بين سنة 545 هـ وسنة 560 هـ.
لقد وصف كثير من المؤرخين الفترة التي رافقت هزيمة سنجر ووقوعه أسيرا
بأيدي الغز وما تلاها من الأحداث، فقال ابن كثير: «واستحوذ أولئك
الأتراك على البلاد ونهبوها وتركوها قاعا صفصفا وأفسدوا في الأرض فسادا
عريضا وأقاموا
__________
[1] مجمع الآداب ترجمة أرقامها: 1507.
[2] المشتبه 176، وأعاد ابن حجر ما قاله الذهبي في تبصير المنتبه 2/
518.
[3] زبدة النصرة 176، البداية والنهاية 12/ 231، 237.
(1/9)
سليمان شاه ملكا فلم تطل أيامه حتى عزلوه
وولوا ابن أخت سنجر محمود خان وتفرقت الأمور واستحوذ كل إنسان منهم على
ناحية من تلك الممالك وصارت الدولة دولا» [1] .
وزاد العماد الأصفهاني على ذلك فقال: «ثم استولى الأمير أي آبه
بنيسابور وأخذ محمود خان وأعدمه وتولى الأمور وبقي الغز بمرو وبلخ
وسائر البلاد ضالين عن نهج الرشاد عابدين للجور جائرين على سائر
العباد» [2] . وروى السمعاني نفسه شيئا من حوادث تلك الفترة التي امتدت
حتى سنة 555 هـ وإنه شارك في بعض أحداثها فقال في حديثه على سنج: «هي
قرية من قرى مرو على سبعة فراسخ منها..
نزل عسكر الغز لمحاصرة حصن بها شهرا كاملا وكانوا يحاربون أهل الحصن
فلم يقدروا عليها في رجب سنة خمس وخمسين وخمسمائة، ثم حاصروها غير مرة
شهرين وثلاثة إلى أن صالحوها بعد جهد في جمادى الأولى سنة 555 وكنت
المتوسط فيه» [3] .
فإذا افترضنا أن السلطان سنجر لم يقتله فلعل الغز أخذوه وحبسوه ثم
صادروه وقتلوه في حدود سنة 560 هـ لأنه كان متقلدا رئاسة سرخس للسلطان
سنجر والحبس والمصادرة. وإتلاف المهج إذا ذاك لم يكن غريبا. ولو كان
الأمر كذلك لما أغفل السمعاني ذكره وعندها يصبح قول العزاوى متناقضا:
«إننا لا نشعر منه ما يدعو للتنديد بالسلجوقيين وقد عاملوا والده بأقسى
المعاملة ورأى منهم ما رأى فلم يظهر حنقا أو غيظا كأنه بعيد منه أو أنه
لا يمت إليه بصلة» [4] لأنه لم يتعين لدينا ذلك على وجه التحقيق. بيد
أن عبارة السمعاني صريحة في أن السلطان تغيّر رأيه عليه فحبسه سنة 545
هـ ثم قتل بمرو بقرية سنج. فإذا كان العمراني
__________
[1] البداية والنهاية 12/ 231.
[2] زبدة النصرة 284، وانظر أيضا تاريخ أبى الفداء 3/ 28.
[3] الأنساب ورقة 313 أ.
[4] العمراني وتاريخه 62.
(1/10)
السرخسي والد مؤرخنا وكان السلطان سنجر قد
قتله فإن رأى العزاوى يصح تماما لأننا لا نجد في كتاب الإنباء تنديدا
بالسلجوقيين. غير أن هناك عقبة كؤودا تعترضنا في قبول هذا الرأى وهي أن
ابن أرسلان الخوارزمي وهو معاصر له ذكر أن العمراني الخوارزمي توفى في
حدود سنة 560 هـ دون أن يذكر أنه مات في الحبس أو مقتولا مما يوحى أنه
يترجم لشخصية أخرى وإن اتفقت مع الأولى في اسمها وكنيتها واختلفت معها
في إحدى النسبتين ثم زاد على ذلك فقال: «وجعل في آخر عمره أيامه مقصورة
وأوقاته موقوفة على نشر العلم ... » فإذا كان العمراني الخوارزمي هذا
والد مؤرخنا فإنه كان منقطعا للعلم وإفادته حتى وفاته في حدود سنة 560
هـ فهو والحال هذه غير العمراني السرخسي ولهذا لا نشعر من مؤرخنا ما
يدعو للتنديد بالسلجوقيين لأنهم لم يقتلوا أباه.
ومع كل هذه الافتراضات فقد لا تكون له صلة إطلاقا بأىّ منهما، فلعله
أحد العمرانيين الموصليين أو لعله حفيد على بن أحمد العمراني الموصلي
العالم بالحساب والهندسة والّذي قال فيه القفطي: «وكان فاضلا جماعا
للكتب يقصده الناس للاستفادة منه ومنها، يأتى إليه الطلبة من البلاد
النازحة للقراءة عليه. وتوفى في سنة 344 هـ» [1] .
إنه لمن العسير علينا أن نقرر إن كان العمراني السرخسي أو الخوارزمي
[2] والد مؤرخنا لندرة المعلومات المتوفرة لدينا عنه أو عنهما، والأعسر
من ذلك أن نتبين له شخصية ما في كتابه هذا وأن كل ما نستشف منه في
ثنايا كتابه أنه كان مع الخليفة القائم على من يخرج عليه أو يريد به
سوءا ولهذا وسم عمرو بن الليث
__________
[1] تاريخ الحكماء وهو مختصر الزوزنى 233، وانظر الفهرست 1/ 283، تراث
العرب العلمي لطوقان 222.
[2] تحتفظ مكتبة شوارى ملي بإيران بنسخة مخطوطة من كتاب «المحاجاة
بالمسائل النحوية» للزمخشري رواها العمراني الأدبي الخوارزمي وقرأها
على الزمخشريّ ونسخ المخطوطة محمد بن يوسف في رمضان سنة 589 هـ وتعد
الزميلة الدكتورة بهيجة الحسنى تحقيقا للمخطوطة الآن. وهذا دليل على أن
العمراني الخوارزمي كان منقطعا للعلم وهو غير العمراني السرخسي.
(1/11)
ب «الخارجي» لأنه حارب الخليفة ولم يستطع
كتمان حزنه وغضبه حين خلع الراشد باللَّه فقال: «وجمع السلطان مسعود
القضاة والفقهاء وألزمهم أن يشهدوا على الراشد باللَّه بشرب النبيذ ولا
والله ما كان واحد منهم قد رآه يشرب الماء فشهدوا خوفا من الصفع وخلعوه
بالفسق» وصب غضبه على دبيس بن صدقة حين حارب الخليفة. ومع ذلك فهو لم
يتورع من إيراد ما قيل في الخلفاء من هجاء ومنقصة ولم يتعرض للسلاطين
البويهيين والسلاجقة حين خلعوا الخلفاء وسملوهم.
ويمكن أيضا أن نستشف جانبا آخر من شخصية مؤرخنا وهو أنه كان فقيها يميل
إلى أصحاب الفقه من أهل السنة ويطنب في مديح رجالهم كالإمام أحمد بن
حنبل والغزالي وأبى إسحاق الشيرازي والتنوخي القاضي وغيرهم، وأنه لم
يكن معتزليا أو حنفيا فقد أورد شيئا من محنة الإمام أحمد بن حنبل في
خلق القرآن مع المعتصم فقال:
«وإنما حث المعتصم على ذلك وحمله على ما فعل أحمد بن أبى دؤاد لأنه كان
معتزليا وكان الإمام أحمد- رضوان الله عليه- إمام السنة» فلو كان
معتزليا لأعرض عن هذا واستغفر لذنبه إلا أنه لم يستطع كتمان شماتته
بابن أبى دؤاد حين فلج ومات ولهذا نستطيع أن نطمئن إلى نعت ابن
الكازروني له ب «الشيخ الفقيه» . (مختصر التاريخ 244) .
إن موقفه المناصر للإمام أحمد ابن حنبل يوحى أن مؤرخنا كان حنبليا أو
متحنبلا لأنه مدح الإمام أحمد أكثر من مديحه للإمام أبى حنيفة فعله
أظهر هذا الميل إرضاء للوزير عون الدين بن هبيرة الحنبلي وزير المقتفى
والمستنجد بل لعله كان متصلا به حين كان مستقرا ببغداد قبل رحيله عن
العراق لأن الكتاب على ما يظهر قد كتب في الفترة المحصورة بين سنة 555
هـ وهي سنة تولية المستنجد وسنة 560 هـ السنة التي توفى فيها الوزير
ابن هبيرة. فإن قول ابن العمراني في مقدمة كتابه «إلى أن أختم الكتاب
بالأيام المستنجدية» يدل أنه كتبه إذ ذاك والخليفة المستنجد لم يزل بعد
حيا لأنه توفى سنة 566 هـ. فربما ترك العراق إلى بلد لا نعرفه في أول
خلافة
(1/12)
المستنجد لسبب ما نزال نجهله [1] .
وفي الكتاب بعض الإشارات إلى مواضع عمرانية كانت قائمة إذ ذاك وذكر
نفسه مع واحدة منها مثل سامراء ودار المملكة، وباب دار الخلافة الّذي
جاء به المعتصم من عمّورية. ففي كلامه على بناء سامراء وخرابها قال:
«وأمر (المعتصم) ببناء المدينة وأسكن العسكر بها وطولها سبعة فراسخ وهي
الآن باقية وأبنيتها جديدة إلا أنها خالية. دخلت من باب من أبوابها أول
النهار وخرجت من الآخر بعد الظهر فكانت هي منزلنا في ذلك اليوم» . إلا
أنه لم يذكر أن كان قد دخلها منحدرا إلى بغداد أو مصعدا منها، ومتى؟
وهذه الإشارة اليتيمة إن لم توضح لنا زمن قدومه إلى العراق أو خروجه
منه فإنّها تثبت أن مؤرخنا كان في بغداد، يؤيد هذا قوله في نهاية كتابه
«ولبعدى عن العراق» وإنه كان على معرفة ببغداد، فإنه أشار إلى باب دار
الخلافة الّذي جاء به المعتصم من عمّورية ونصبه على باب من أبواب دار
الخلافة فقال. «وهو إلى الآن موجود» ، وهذه الإشارة أوردها الخطيب
البغدادي في تاريخه (3/ 344) فلعله نقلها من تاريخ بغداد وأنه لم يزل
حتى أيامه وبعدها لأن ابن الطقطقى المتوفى في حدود سنة 701 هـ ذكر مثل
ذلك (الفخرى 317) .
وفي إشارة أخرى إلى دار المملكة التي بناها عضد الدولة البويهي قال:
«وعاد (طغرلبك) ونزل بدار عضد الدولة التي هي اليوم دار المملكة» .
وفي إشارة أخرى إلى المدينة التي بناها السلطان ملك شاه بن ألب أرسلان
قال:
«وفي سنة ثلاث وثمانين وأربعمائة أمر السلطان ... أن تبنى المدينة
الجديدة
__________
[1] أما قول العزاوى إنه مال إلى الرحبة وإنه ابن المتقنة فضرب من
الحدس عجيب (العمراني وتاريخه 48) ، وقد رد مصطفى جواد في تعليقاته على
آراء العزاوى دون أن يذكر اسمه. انظر مجمع الآداب 1/ 891 حاشية، 2/ 258
حاشية، تكملة إكمال الإكمال 167 حاشية، مختصر التاريخ 22 قال: «ولم
تعرف لجمال الدين محمد بن على العمراني مؤلف هذا التاريخ النفيس ترجمة.
وقد انتحل له بعض الفضلاء الباحثين من غير تعمد للتزوير ترجمة ابن
المتقنة الرحبيّ الفقيه المشهور» .
(1/13)
تحت دار المملكة ببغداد ونقل أهل البلد
كلهم إليها وحوط عليها سورا محكما هو باق إلى الآن» .
وهذه كلها إشارات لا يمكن حصرها بزمن معين وهي إلى ذلك لا تسعفنا في
التعرف على شيء من حياته في بغداد. فإن المعروف أن طغرلبك وسّع دار
المملكة البويهية التي بناها عضد الدولة فقد جاء في كتاب مناقب بغداد
المنسوب لابن الجوزي ما نصه:
«فأما دار المملكة المختصة بالسلاطين فإنّها كانت بأعلى المخرّم وكانت
دارا لسبكتكين غلام معز الدولة فنقض عضد الدولة أكثرها وأراد أن يعمل
ميدانها بستانا ويأتى بماء من الخالص فشق نهرا في وسطها فبلغت النفقة
خمسة آلاف ألف درهم غير ما أنفق على أبنية الدار. ولما ورد طغرلبك
بغداد في سنة ثمان وأربعين وأربعمائة عمّر هذه الدار وبنى مدينة عند
المخرّم. وتقدم ملك شاه ببناء خانات للباعة هناك وسوق ودروب وبنى
الجامع هناك ثم إن دار المملكة خربت فاستجدها بهروز في سنة تسع
وخمسمائة وحمل إليها أعيان الدولة الفرش الحسنة والأشياء الرائقة
واستدعى القراء والصوفية فقرءوا فيها القرآن ثلاثة أيام متوالية.
فلما كانت سنة تسع عشرة وخمسمائة مرت جارية في الليل وبيدها شمعة فوقعت
النار في الخيش فاحترقت الدار وكان السلطان على السطح فنزل هاربا إلى
سفينة» [1] وأخيرا هدمها الخليفة الناصر لدين الله سنة 583 هـ وعفى
أثرها ولم يبق إلا الجامع المعروف بجامع ملك شاه ليقطع أطماع طغرل
الثالث بن أرسلان شاه السلجوقي الّذي حاول استرداد سلطة السلاجقة على
بغداد.
__________
[1] لا يمكن أن يكون هذا الكتاب لابن الجوزي لأن مؤلفه يذكر سنة 614،
646، و 654 وابن الجوزي توفى في سنة 597 هـ فلعله لابن الفوطي أو أحد
أولاد ابن الجوزي. وعن دار المملكة انظر المنتظم 8/ 169، 9/ 159، تاريخ
أبى الفداء 2/ 211، النجوم 5/ 135 ومقال الدكتور عبد العزيز الدوري في
دائرة المعارف الإسلامية (باللغة الإنكليزية) 1/ 892- 908، دليل خارطة
بغداد 138- 140.
(1/14)
أما الباب الّذي جاء به المعتصم ونصبه على
أحد أبواب دار الخلافة فقد أورد الخطيب البغدادي المتوفى سنة 463 هـ:
«وهو باق حتى الآن منصوب على أحد أبواب دار الخلافة وهو الباب الملاصق
مسجد الجامع في القصر» . وقال ابن الطقطقى: «وهو الآن على أحد أبواب
دار الخلافة ويسمى باب العامة» . ودار الخلافة كما جاءت أخبارها عند
الخطيب والجهشيارى وياقوت وابن الساعي ومؤلف مناقب بغداد [1] هي القصر
الحسنى الّذي كان لجعفر البرمكي الّذي نزل عنه للمأمون ومن ثم صار
للحسن بن سهل ثم لابنته بوران فاستنزلها عنه الموفق أو المعتمد أو
المعتضد على خلاف. وكان المعتضد أول من نزلها فكثرت حولها العمارات ولم
يكن هناك سور حتى سنة 488 هـ حين بنى سور لها فأعاد المسترشد باللَّه
عمارته في سنة 517 هـ وجعل للسور أربعة أبواب. وكان عرض السور اثنتين
وعشرين ذراعا. وتهدم هذا السور في سنة 554 هـ في خلافة المقتفى لأمر
الله لازدياد ماء دجلة وانفتاح القورج فأحاط الماء بالسور فانثلمت منه
ثلم عجزوا عن سدها فاتسعت فتهدم معظم محال بغداد فتقدم المقتفى بعمل
مسناة حول السور فعمل بعضها وتوفى وولى المستنجد فعمل منها قطعة وتوفى
فأكملها المستضيء.
إن قول المؤرخين: «على أحد أبواب دار الخلافة» يعنون أحد أبواب حريم
دار الخلافة قال ياقوت في مادة «حريم» من معجم البلدان: «حريم دار
الخلافة ويكون بمقدار ثلث بغداد وهو في وسطها ودور العامة محيطة به وله
سور يتحيز به، ابتداؤه من دجلة وانتهاؤه إلى دجلة كهيئة نصف دائرة وله
عدة أبواب أولها: من جهة الغرب باب الغربة وهو قرب دجلة جدّا ثم باب
سوق التمر وهو باب شاهق البناء أغلق في أول أيام الناصر لدين الله ابن
المستضيء واستمر إغلاقه إلى هذه الغاية (يعنى سنة 626 هـ) ثم باب
البدرية ثم باب النوبي وعنده العتبة التي تقبلها الرسل والملوك
__________
[1] تاريخ بغداد 1/ 99، كتاب الوزراء والكتاب 216، نساء الخلفاء 71-
78، مناقب بغداد 15- 18 معجم البلدان «التاج» .
(1/15)
إذا قدموا بغداد. ثم باب العامة وهو باب
عمّورية أيضا، ثم يمتد (السور) قرابة ميل ليس فيه باب إلا باب البستان
قرب المنظرة التي تنحر تحتها الضحايا، ثم باب المراتب بينه وبين دجلة
نحو غلوتى سهم في شرق الحريم. وجميع ما يشتمل عليه هذا السور من دور
العامة ومحالها وجامع القصر، وهو الّذي تقام فيه الجمعة ببغداد، يسمى
الحريم. وبين هذا الحريم المشتمل على منازل الرعية وخاص دار الخلافة
التي لا يشركه فيه أحد سور آخر يشتمل على دور الخلافة وبساتين ومنازل
نحو مدينة كبيرة» . وأعاد ياقوت وصفه هذا في كتابه الآخر: «المشترك
وضعا والمختلف صقعا» فقال: « ... ثم باب العامة ويقال لها باب عمّورية»
[1] . من وصف ياقوت لحريم دار الخلافة يتوضح لدينا أن الباب قد نصب على
سور الحريم وليس على أحد أبواب دار الخلافة. وأن دار الخلافة كان لها
سور تتحيز به. قال الخطيب البغدادي:
«ثم استضاف المعتضد إلى الدار مما جاورها كل ما وسعها به وكبّرها وعمل
عليها سورا جمعها به وحصّنها» [2] .
فإذا صح افتراضنا أن ابن العمراني قد نقل هذا الخبر من تاريخ بغداد،
فإن الخطيب البغدادي لم يصرح بأن المعتصم جاء بباب عمّورية ونصبه على
أحد أبواب دار الخلافة وكل ما قاله: «وجاء ببابها إلى العراق وهو باق
حتى الآن منصوب على أحد أبواب دار الخلافة ... » ولا يصح أن ينصبه على
سور بنى بعده في زمن المعتضد باللَّه (بويع سنة 279 هـ وتوفى سنة 289
هـ) ، أو على سور الحريم حيث يوجد باب عمّورية الّذي كان قائما حتى سنة
463 هـ[3] وبعدها. فلعل قول الخطيب «إلى العراق» يعنى «إلى سامراء» ،
ثم نقل هذا الباب من سامراء ونصب على أحد أبواب سور حريم دار الخلافة
بعد أن انتقل الخلفاء من سامراء إلى بغداد واتّخذوا القصر الحسنى دار
الخلافة.
__________
[1] نشر وستنفيلد، كوتنكن- ألمانيا 1846، صفحة 129- 130.
[2] تاريخ بغداد 1/ 99، عيون التواريخ لابن شاكر الكتبي مخطوطة لايدن
ورقة 52 أ.
[3] سنة وفاة الخطيب البغدادي.
(1/16)
|