الإنباء في تاريخ الخلفاء

نسخ المخطوطات:
لقد عثرت على خمس نسخ مخطوطة من كتاب الإنباء في تاريخ الخلفاء:
الأولى: في مكتبة جامعة لايدن وأرقامها.
Or.595:
الثانية: في مجموعة فاتح في مكتبة السليمانية باستانبول وأرقامها: 4189.
ومنها «ميكروفيلم» في مكتبة جامعة لايدن أرقامه: 193 بن.
A
الثالثة: في مجموعة ولى الدين في مكتبة بايزيد العمومية باستانبول وأرقامها:
2360.
الرابعة: في المكتبة الوطنية في باريس وأرقامها: 4842 ومنها «ميكروفيلم» في مكتبة جامعة لايدن، أرقامه.
A.185:
الخامسة: نسخة عباس العزاوى. وقد آلت أخيرا إلى مكتبه الآثار في المتحف العراقي. وكل هذه النسخ ترجع إلى مصدرين، أو ربما لمصدر واحد لأن كلّا من نسخة باريس ونسخة العزاوى ونسخة ولى الدين انتسخت من نسخة لايدن، وذلك للأسباب الآتية:
(1) وردت في نسخة لايدن بعض الكلمات المطموسة بفعل الرطوبة وتلاصق بعض أوراقها في مواضع فلم يظهر من بعض الكلمات إلا جزء منها أو حدثت بعض الأخطاء والتصحيفات فنقلها الناسخ كما رآها، مثلا:
(1) جاء في نسخة لايدن: «فإنّي ذاكر في كتابي طرفا من أخبار الدولة القاهرة العباسية فصلا من مناقب ... » . وكانت الكلمة «وفصلا» .
(ب) في الورقة 9 ب جاء: «عضد الدولة فناخسرو أمر أن يبنى» غير معجمة فكتب الناسخ «فباخرو أمر أن يبنى» .

(1/17)


(ج) في الورقة 29 ب ورد البيت الآتي:
ما رعى الدهر آل برمك لما ... أن رماهم بكل أمر فضيع
ويبدو أن ناسخ نسخة لايدن قد نسي الحرف «أن» وعند المقابلة وضعها فوق الراء والميم من «رماهم» فاختلط الأمر على ناسخ نسخة ولى الدين فكتبها هكذا «لماران ماهم» .
(د) في الورقة 116 ب: «وتوفى المقتفى لأمر الله- رضى الله عنه- ...
وصلى عليه «رده» ، والأصل «ولده» لأن الكلمة مطموسة بفعل الرطوبة فنقلها ناسخ نسخة ولى الدين دون أن ينتبه إلى نقصانها.
(2) في الورقة 117 أجاء: «....... واستوزر المستنجد باللَّه عون الدين أبو (كذا) المظفر، يحيى بن محمد بن هبيرة وزير أبيه ومات الوزير عون الدين المذكور في جمادى الآخرة سنة ستين وخمسمائة» .
فكتب ناسخ نسخة ولى الدين: «.... واستوزر المستنجد باللَّه عون الدين المذكور في جمادى الآخرة سنة ستين وخمسمائة» وقد ترك سطرا كاملا سهوا لأن السطر العاشر والحادي عشر يبدءان بكلمة «عون الدين» ثم استدرك خطأه فضرب على السطر الخطأ.
(3) ودليل آخر وهو أن ورقة كاملة سقطت من نسخة لايدن ولعلها سقطت قبل أن تجلد وتضم أوراقها إلى بعضها وهي تقع بين الورقة 110- 111 فلم ينتبه لنقصانها ناسخ نسخة ولى الدين، وقد أضفناها من نسخة فاتح.
(4) إن أحد المتملكين لنسخة لايدن أضاف إلى بعض تراجم الخلفاء مدد خلافتهم بخط ضعيف حديث فنقلها ناسخ نسخة ولى الدين وكأنها من المتن وهي لا توجد في فاتح.
وهناك أدلة كثيرة أخرى أضربنا عن إيرادها والنسخة مع كل هذا يشيع فيها التصحيف ويكثر فيها التحريف مما يوحى أن ناسخها كان يجهل العربية كل الجهل

(1/18)


وإن كتب بها. ولذلك نستطيع أن نقول: إن نسخة ولى الدين قد انتسخت من نسخة لا يدن قبل أو في الفترة المحصورة بين سنة 1055 هـ/ 1645 م- 1076 هـ/ 1665 م لأن فارنر وصل إلى إستانبول سنة 1645 م وتوفى في إستانبول في سنة 1665 م وقد كان يشغل منصب القنصل الفخرى لهولندة لدى الباب العالي [1] . أما متى دخلت نسخة لايدن في حوزة فارنر فإننا لا نستطيع أن نعين ذلك لأن فارنر لم يسجل السنة التي حصل فيها على المخطوطة. بيد أننا نعلم أن هذه النسخة وصلت ضمن مجموعته النفيسة من المخطوطات العربية إلى لايدن في سنة 1668 م لأنه أوصى بإهدائها إلى الجامعة التي درس فيها أيام شبابه.
وفي نسخة ولى الدين يظهر ختم الواقف ولى الدين وهذا نصه: «وقف شيخ الإسلام ولى الدين أفندى بن المرحوم الحاج مصطفى آغا بن المرحوم الحاج حسين آغا سنة 1175» . فقد دخلت هذه النسخة في حوزة ولى الدين فوقفها بعد مائة سنة من وفاة فارنر ووصول نسخة فارنر إلى لايدن، فعلى هذا ولما قدمنا من أدلة نستطيع أن نقول: إن نسخة ولى الدين قد نسخت من نسخة لايدن في القرن العاشر أو الحادي عشر الهجريّ وليس في القرن السابع كما ورد في نهاية المخطوطة.
أما نسخة العزاوى فهي بخط الثلث كتبها عبد الرزاق فليح البغدادي سنة 1364 هـ نقلا من نسخة كتبت في 4 شوال سنة 682 هـ (وهذه النسخة هي بالتحقيق نسخة ولى الدين) وعليها تعليقات وشروح للعزاوى- رحمه الله- وكتب لها مقدمة لا تزيد على ما قاله في مقاله «العمراني وتاريخه» وكان قد أعدها للنشر فلم يتسن له نشرها.
أما نسخة باريس فإنّها أيضا نسخة أخرى انتسخت من نسخة ولى الدين
__________
[1] عن حياة فارنر ونشاطاته التجارية والسياسية والتبشيرية انظر:
P.10.b) Juynboll ,W.M.C.,Zeventiende -bischinnederland ,Utrecht 1931.بن 1954 بن a) Vogel ,J.Ph.iversityofLeiden

,OrientalResearch ,Leiden

(1/19)


في القرن التاسع عشر كتبها أحد الأتراك لأحد المستشرقين فكثرت فيها التصحيفات وعمّها التحريف، ولهذا أهملنا نسخة ولى الدين وما أخذ منها واقتصرنا على نسختي لايدن وفاتح. وإليك التسلسل النسخى للمخطوطات:
أما نسخة فاتح فإنّها تحمل اسم الكتاب ومصنفه «الإنباء في تاريخ الخلفاء، تأليف الشيخ الإمام العالم الع [لامة جمال] الدين محمد بن محمد العمراني» . وتحتوى في أولها على شعر توبة بن الحمير وقد شغل الأوراق 1- 29، وكتاب الإنباء الّذي شغل الأوراق 31 أ- 161 ب، وكتبت النسخة بخط الثلث سنة 621 هـ. أوراقها الأربع الأولى مخرومة ومتهرئة بفعل الرطوبة والإهمال. وهذه النسخة تزيد ورقة كاملة على نسخة لايدن وتنقص عنها ورقة كاملة وتقع الورقة الناقصة فيها بين الورقة 102 ب- 103 ب من نسخة لايدن. ولعل أحسن تعليل لحدوث هذا النقص هو أن الناسخ حين انتهى من نسخ الصفحة التي سبقت الورقة الناقصة وبدلا من أن يصفح صفحة واحدة صفح صفحتين دون أن ينتبه إلى ذلك واستمر في النسخ ولم يكلف نفسه عناء مقابلتها لأنه على ما يظهر كان وراقا يمتهن الوراقة لعيشه.
أما نسخة لايدن، وهي التي اتخذناها مع نسخة فاتح أصلا في تحقيقنا، فتحتوى على 117 ورقة كتبت بخط واضح جميل يقع بين الثلث والنسخ ويرجع إلى عصر المماليك. وجاء في آخرها ما نصه: «وكان الفراغ منه على يد العبد الفقير إلى الله

(1/20)


أبو بكر بن عبد الله (في الحاشية: عرف بابن الجوخى؟) في الرابع من شهر شوال سنة اثنتين وثمانين وستمائة أحسن الله خاتمتها ورحم من دعا له بالمغفرة» .
إضافة إلى اسم الكتاب ومصنفه «كتاب الإنباء في تاريخ الخلفاء، جمع الشيخ العلامة محمد بن على بن محمد العمراني، تغمده الله تعالى برحمته وأسكنه بحبوحة جنته بمنّه وكرمه آمين» . فإن النسخة تحمل جملة من التمليكات والقراءات أقدمها:
«طالع هذا التاريخ المبارك مترحما على مؤلفه وداعيا لمالكه بطول العمر ودوام العزة والارتقاء، فقير عفو الله تعالى عبد الرحمن بن مكية الشافعيّ عفا الله عنه سنة 905» .
وأهم هذه التمليكات: «سعد وتشرف بتملكه العبد الأحقر الراجي أحمد بن سعدى ابن ناجى بمدينة حلب سنة 934» . وقد أضاف هذا التملك في نهاية بعض تراجم الخلفاء المدد التي حكموا فيها وابتدأ هذه الإضافات بترجمة الأمين فكتب: «فكانت خلافته أربع سنين وس ... وثمان أيام رحمه الله» فنقلها ناسخ نسخة ولى الدين بهذه الصورة: «وكان خلافته أربع سنين ومائة وثمان أيام رحمه الله» . وهذه الإضافات التي ألحقها بتراجم الخلفاء ونقلها ناسخ ولى الدين لا تظهر في نسخة فاتح.
والظاهر أن نسخة لايدن كانت في حلب في بداية القرن العاشر الهجريّ فلعلها انتقلت بعد النصف الأول من القرن العاشر إلى إستانبول وهناك أخذت نسخة ولى الدين منها. وفي نسخة لايدن أيضا بعض الإضافات التي لم ترد في نسخة فاتح فلعلها أضيفت إلى النسخة التي نقلت نسخة لايدن منها فأدرجها الناسخ ظنّا منه أنها من المتن وقد حصرت هذه الإضافات بين عاضدتين، ومثل هذا كثير الحدوث في المخطوطات.
لعل المؤرخ ظهير الدين الكازروني، صاحب مختصر التاريخ المتوفى سنة 697 هـ، الّذي نشره مصطفى جواد، أول من عرّف بتاريخ العمراني فقال في ترجمة الإمام الهمام الناصر لدين الله العباسي: «ثم إنه جمع كتابا في الأحاديث النبويّة سماه «روح العارفين» وروى عن شيوخه بالإجازة، وقد ذكرتهم في التذييل على ما ألفه

(1/21)


الشيخ الفقيه محمد بن على بن محمد بن العمراني الّذي ابتدأت فيه بأول ولاية المستنجد وختمته بآخر إمامة المستعصم- قدس الله روحه-» [1] .
فتعيّن لدينا أن هذا التاريخ هو من تصنيف ابن العمراني وأن ابن الكازروني قد ألّف تذييلا عليه، ولو كان ابن العمراني يحمل نسبة غير «العمراني» كابن المتقّنة أو الخوارزمي مثلا لما أغفله ابن الكازروني. وزاد الأمر توكيدا أن ابن الطقطقى المتوفى في حدود سنة 701 هـ كان قد نقل منه وذكر اسم «العمراني المؤرخ» صراحة، ومثله فعل الصلاح الصفدي وابن شاكر الكتبي [2] .
ولعل شمس الدين السخاوي المتوفى سنة 902 هـ آخر من ذكره من المؤرخين القدماء فقال: «وجمع الجمال محمد بن على العمراني الإنباء في تاريخ الخلفاء وذيل عليه ولده سديد الدين يوسف بن المطهر» [3] . وقول السخاوي هذا كان موضع خلاف بين العزاوى ومصطفى جواد- رحمهما الله- فإن مصطفى جواد يرى أن قول السخاوي يجب أن يكون هكذا: «وجمع الجمال محمد بن على العمراني الإنباء في تاريخ الخلفاء وذيل عليه ولده (و) سديد الدين يوسف بن المطهر» [4] .
أما العزاوى فيرى أن النص ناقص مبتور وصوابه أن يكون: «وجمع الجمال محمد بن على العمراني ... [والتذبيل لظهير الدين الكازروني إلى آخر أيام المستعصم باللَّه] وذيل عليه ولده سديد الدين يوسف بن الظهير» [5] . واستطرد العزاوى للتدليل على صحة رأيه هذا فقال: «في أثناء المطالعة لكشف الظنون في مادة (قانون في الطب) عند الكلام على شرح الكليات المسمى توضيحات القانون للسديد الكازروني ... وهو شرح فرغ من تأليفه في ذي الحجة سنة 745 هـ ...
__________
[1] مختصر التاريخ 244.
[2] الفخرى 291، الوافي بالوفيات 2/ 535، فوات الوفيات 5/ 145.
[3] الإعلان بالتوبيخ لمن ذم التاريخ 96 وبالنص في مخطوطة لايدن ورقة 60 ب.
[4] مختصر التاريخ 244 حاشية أرقامها 427، وانظر كذلك 21- 22.
[5] مجلة المجمع العلمي العربيّ بدمشق عدد 23، صفحة 50.

(1/22)


فعرفنا السديد وهو الكازروني فانكشف المغلق وإن لم يذكر في الإعلان بالتوبيخ أنه ابن المؤلف للتذييل. وإنما هو سديد الدين يوسف بن الظهير الكازروني ولم يكن ابن المطهر كما جاء مصحفا في الإعلان ... » [1] والعجيب في الأمر أن يستنتج العزاوى كل هذه النتائج من تشابه اللقب بين الاثنين وأن حاجي خليفة لم يذكر من الاسم إلا «السديدي الكازروني» فأنّى يكون هذا؟ قال حاجي خليفة في عرض كلامه على شروح كتاب «موجز القانون في الطب» لابن النفيس المتوفى سنة 677 هـ:
«ومن شروحه شرح السديدي الكازروني، جمع فيه من القانون وشروحه ... » .
وذكر بروكلمان هذا السديد مع شرّاح موجز القانون في الطب (ملحق 1/ 825) .
وذكر أيضا سديد الدين محمد بن مسعود الكازروني المتوفى سنة 758 هـ وذكر له كتبا في المولد النبوي الشريف وغيره وأشار إلى ولده عفيف بن سديد الكازروني وذكر له كتبا أيضا (ملحق 2/ 262) ولذلك استبعد روزنثال أن يكونا المعنيين في قول السخاوي [2] .
أما مصطفى جواد- رحمه الله- فلم يأتنا بدليل يثبت رأيه هذا كما حاول العزاوى ونرجح أنه أراد سديد الدين يوسف بن زين الدين على بن المطهر الحلي والد جمال الدين الحسن المعروف بالعلامة المتوفى سنة 726 هـ. وقد ذكر ابن المطهر هذا كل من ترجم لولده ومنهم من أفرده بترجمة فلم يؤثر عنه أنه كان مشتغلا بغير الفقه الشيعي وكذلك ولده ولو كان له مثل هذا الذيل لما أغفل ولده أو غيره ذكره. وذكره مستوفى في كتب التراجم الشيعية حيث وصف ب «العلم والفقه» قال صاحب منتهى المقال:
«يوسف بن على، سديد الدين ابن المطهر الحلي والد العلامة، كان مدرسا فقيها عظيم الشأن وهو من مشايخ ولده وقد أكثر من النقل عنه في كتبه. ولما ورد
__________
[1] مقدمة العزاوى الملحقة بنسخته المخطوطة والمحفوظة في مكتبة الآثار ببغداد صفحة 9.
p.410.n.5. [2] بن imHistoriography ,Leiden 1968

(1/23)


نصير الدين الطوسي الحلة وحضر عنده فقهاؤها سأل عن أعلمهم بالأصول فأشاروا إلى سديد الدين وإلى محمد بن جهم» [1] .
ورد في مقدمة العزاوى قوله: «إن نسخة السخاوي التي نوهنا بها هي الموجودة في خزانة لايدن» ، وقد سبق له أن قال مثل هذا في مقاله «العمراني وتاريخه» الّذي أشرنا إليه. ولا ندري كيف قرر العزاوى ذلك فإن نسخة لايدن من «الإعلان» نسخة حديثة ترجع إلى القرن الحادي عشر للهجرة وهي ليست بخط السخاوي وإنما بخط «على بن إبراهيم اليماني بلدا الحنفي مذهبا» وهي مثقلة بالتصحيفات والأخطاء. وقد جاء في الورقة 60 ب ما نصه:
«وجمع الجمال محمد بن على بن عمر (كذا) العمراني الإنباء في تاريخ الخلفاء وذيل عليه ولده سديد الدين يوسف بن المطهر» [2] .
فلربما كان نص السخاوي بهذه الصورة:
«وجمع الجمال محمد بن على بن محمد العمراني الإنباء في تاريخ الخلفاء وذيل عليه الظهير على بن محمد الكازروني من أول خلافة المستنجد إلى آخر أيام المستعصم وذيل عليه ولده سديد الدين يوسف بن الظهير» .
فلعل جملة «وذيل عليه» كانت في أحد السطور وتحتها مباشرة الجملة نفسها فأغفل الناسخ سطرا كاملا حين النسخ ومثل هذا يحدث كثيرا، ثم حدث تصحيف في كلمة «الظهير» فصارت «المطهر» وهما قريبتان من بعضهما في الرسم. وبقي هذا الخطأ ينتقل في كل نسخة تنسخ من الإعلان. وهناك نقطة أخرى وهي أنه قد تعين عندنا أن الظهير كان قد ذيل على تاريخ ابن العمراني وأن ابن العمراني كان ولم يزل مجهولا فكيف ولده إن كان له ولد؟ وأحسب أن السخاوي
__________
[1] الكربلائي، طبعة طهران 1302، صفحة 335، عمل العامل 40، روضات الجنات 171- 174، مجالس المؤمنين 76، لسان الميزان 6/ 319، الدرر الكامنة 2/ 72، 49.
[2] نسخة لايدن أرقامها 677.

(1/24)


قد ذكر اسم ظهير الدين الكازروني كاملا في بداية قوله لذلك لم ير ضرورة في إعادة اسمه كاملا مرة أخرى واكتفى بلقبه لأن القارئ عنده علم بهذا اللقب.
لقد أرخ ابن العمراني للفترة التي امتدت من البعثة النبويّة إلى أول خلافة المستنجد باللَّه سنة 560 هـ وبعدها اعتذر ببعده عن العراق وعدم تحققه مما يؤرخ. وقد حدد ابن العمراني منهجه التاريخي في مقدمته للكتاب فقال: «فإنّي ذاكر في كتابي هذا طرفا من أخبار الدولة العباسية ... وأبتدئ بذكر سيد البشر ... ثم بعده بالأئمة الأربعة ثم من أفضى إليه الأمر بعدهم من بنى أمية إلى أن عاد الحق إلى أهله» .
فذكر نسب النبي- صلّى الله عليه وسلم- ومولده وشيئا من سيرته وأولاده وبناته وأزواجه ثم وفاته وذكر مواليه وأعمامه وعماته لاتصالهم بالعباسيين. ثم انتقل إلى الخلفاء الراشدين وإلى من تولى من بنى أمية. والظاهر أنه لا يعترف بخلافتهم لذلك لم يسمهم بالخلافة وإنما بالملوك إلا أنه حين ذكر مدد خلافتهم قال: «وكانت مدة خلافته ... » فلعله فعل ذلك إرضاء للعباسيين. وقد اختصر تراجم الخلفاء من بنى أمية اختصارا مجحفا فلم يحظ واحد منه بأكثر من بضعة أسطر غير عمر من عبد العزيز فقد حظي منه ب 19 سطرا. ثم ذكر من بويع له بالخلافة في أيام بنى أمية فتوسع قليلا في حوادث ابن الزبير وخروج الحسين بن على- رضى الله عنهم- ومقتله وروى شيئا مما كان يدور في حلقات القصاص من إسلام سبعمائة راهب على رأس الحسين. ثم انتقل إلى ذكر خلافة بنى العباس وأورد كثيرا من الحوادث التي حدثت أثناء حكمهم حتى انتهى إلى خلافة المستنجد باللَّه.
وفي الكتاب ظاهرتان عجيبتان.
أولاهما: أن الكتاب، كما يظهر، قد كتبه العمراني من «الذاكرة» فلعله كان في وضع لم يتيسر معه الحصول على مصادر مدونة حين كتب الكتاب.
وثانيتهما: أن ابن العمراني وقف طويلا عند بعض الحوادث التي اتخذت شكلا أسطوريا عند العوام من الناس فروى ما كان يتناقله العوام وهو ما نطلق عليه الآن

(1/25)


«الإشاعة» . فإذا أصبح الناس ورأوا جثة الرجل الأول في الدولة جعفر البرمكي مصلوبة على جسرى بغداد فلا بد من تعليل وسبب ولا بد من سبب أكبر من إطلاق سراح علوي دون علم الرشيد وهنا جنح الخيال إلى «الشرف» فربطوا مقتل البرمكي بالعباسة واختلفوا لذلك قصة «رومانتيكية» ترضى الفضول وتشبع التطلع. وابن العمراني لم يختلق هذه الإشاعات وإنما وجد غيره من المؤرخين من روى مثل هذه فنقلها عنهم إلا أنه أضفى على الحادثة شيئا من خياله دون أن يخل بها فجاء أسلوبه سهلا حلوا يغرى القارئ بمتابعته.
لا يمكننا أن نقول أن ابن العمراني قد اتبع نظاما معينا يصدق على مؤرخ آخر.
ومع هذا فإننا لا نشك في أنه نقل من تاريخ الطبري والأغاني وتاريخ بغداد وغيرها إلا أنه لم يحاول أن يقلد أيّا من هؤلاء في طريقة عرضه وأسلوب روايته. ولا نشك مرة أخرى في أن جزءا كبيرا من هذا التاريخ نقله ابن العمراني من ذاكرته، ولا بأس أن نورد شيئا من ذلك ونقارنه بما سبقه وقد ذكرت الكثير من ذلك في التعليقات.
(1) جاء في تاريخ بغداد 14/ 10 ما نصه:
«وبعد أن أنشد إسحاق الموصلي قصيدته للرشيد قال: لا تخف إن شاء الله يا فضل أعطه مائة ألف درهم، للَّه درّ أبيات تأتينا بها ما أحسن فصولها وأثبت أصولها.
فقلت: يا أمير المؤمنين كلامك أجود من شعرى، قال: يا فضل أعطه مائة ألف أخرى» .
وجاء في كتاب الإنباء، ورقة 23 أ- 23 ب من مخطوطة لايدن ما نصه:
«فقال لي: لا كيف للَّه درك وللَّه در أبيات تجيء بها ما أحكم أصولها وأحسن فصولها وأقل فضولها. ثم قال: أعطوا أبا محمد مائة ألف درهم. فقلت: يا أمير المؤمنين يحرم عليّ أخذ الجائزة قال: ولم؟ قلت: لأنك مدحتني بأكثر مما مدحتك فكيف يحلّ لي أخذ الجائزة؟ وكلامك والله أحسن من شعرى. فقال: وهذا الكلام والله منك أحسن من شعرك ومن مدحى لك، أعطوه مائة ألف أخرى» .

(1/26)


(2) جاء في كتاب الفرج بعد الشدة 1/ 148 في حكاية رؤيا المعتضد ما نصه:
« ... فدنوت منه فسلمت وقلت: من أنت يا عبد الله الصالح؟ قال: أنا عليّ ابن أبى طالب. فقلت: يا أمير المؤمنين ادع لي. قال: إن هذا الأمر صائر إليك فاعتضد باللَّه تبارك وتعالى واحفظني في ولدى ... فقلت لغلام كان معى في الحبس لم يكن معى غيره من غلماني: إذا أصبحت فامض وابتع لي فصّا واكتب عليه: أحمد المعتضد باللَّه. قال: ثم أخذت أقطع ضيق صدري في الحبس بتصفح أحوال الدنيا وإعمال فكرى في عمارة الخراب ووجه فتح المنغلق فيها وتعيين العمال للنواحى والأمراء للبلدان ثم أخذت رقعة وكتبت فيها بدرا الحاجب وعبيد الله بن سليمان الوزير وفلان أمير البلد الفلاني.
وجاء في كتاب الإنباء ورقة 63 أما نصه:
« ... رأيت في منامي وأنا محبوس أمير المؤمنين عليّ بن أبى طالب- عليه السلام- يقول لي: أمر الخلافة يصل إليك فاعتضد باللَّه وأكرم أولادي. قال: فانتبهت ودعوت الخادم الّذي كان يخدمني في الحبس وأعطيته فص خاتم كان في يدي لأنقش عليه: المعتضد باللَّه أمير المؤمنين، فقال لي: يا سيدي هذه مخاطرة بالنفس من أبيك وعمك، أين نحن من الخلافة؟ وأين الخلافة منا؟ وإنما غاية مأمولنا أن نتخلص من هذا الحبس ونشم الهواء وتسلم لنا نفوسنا. فقلت له: لا تهذ وامض وافعل ما آمرك به فإن أمير المؤمنين عليّا ولّانى الخلافة وهو لقّبنى المعتضد. فمضى وعاد إليّ بعد ساعة والفص معه وعليه مكتوب «المعتضد باللَّه أمير المؤمنين» بأوضح خط وأبينه.
فقلت له: اطلب لي دواة وكاغدا فجاءني بهما فجعلت أقسم الدنيا وأرتب الأعمال وأولى العمال والولاة وأصحاب الدواوين ... » .
هذه بعض الأمثلة وأمثالها كثير، ونحن بعد هذا كله بين أمرين، إما أن ابن العمراني كان يكتب من ذاكرته وأنه كان يحفظ تواريخ بكاملها، وإنه حين كتب كتابه هذا لم تتيسر له المصادر لينقل منها إلى كتابه أو أنه أخذ هذه الروايات من

(1/27)


رواة غير رواة البغدادي والتنوخي فجاءت بهذه الصورة المختلفة في الألفاظ أو أنه تصرف في نقله من المصادر المتوفرة لديه. إلا أن ابن العمراني نفسه صرّح في نقله رسالة القائم بأمر الله إلى عميد الملك الكندري يخوله فيها أن يكون الوكيل في تزويج أخته أو ابنته من طغرلبك فقال بعد أن أورد قسما منها: «وبعد هذا كلام لم يحضرني الآن» . كل هذا وغيره مما يوحى أنه كان يكتب من ذاكرته وليس من نص مكتوب. وهناك أدلة أخرى تؤيد زعمنا هذا وتظهر في الأخطاء التاريخية الواردة في بعض الأخبار التي رواها ومنها:
(1) وقوع اضطراب في التسلسل التاريخي لمقتل كل من الحسين بن عليّ- رضى الله عنه- وعبيد الله بن زياد والمختار بن أبى عبيد ومصعب بن الزبير، فلو كان ينقل من مصدر مدوّن لما وقع في مثل هذا الخطأ. (انظر التعليقات رقم: 50) .
(2) اسم عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر بن أبى طالب الّذي جاء عنده «عبد العزيز» ولما كان الكازروني ينقل من الإنباء فقد وقع في الخطأ نفسه (مختصر التاريخ صفحة 110) . (التعليقات رقم 54، 68) .
(3) في حكاية مقتل جعفر البرمكي قال: « ... ومضى وأنا معه وعبرنا الجسر حتى انتهينا إلى دار الخلافة فدخل من باب الشط ... » فإن المعروف أن جعفر البرمكي قتل بالأنبار بدير العمر وحملت جثته وصلبت على جسور بغداد.
(انظر التعليقات رقم: 154) .
(4) وجاء في ترجمة المهدي: «وسافر المهدي إلى الجبال في سنة ثمان وستين ومائة ووصل إلى ماسبذان واستطاب المكان ... ونفذ إلى أم ولده الخيزران فاستدعاها فقدمت عليه ... فلما كان اليوم الثالث من قدومها حكى على بن يقطين قال: اليوم أكل المهدي وأكلنا معه ثم قال لي: أريد أن أنام ساعة فلا تنبهونى حتى أنتبه لنفسي ومضى ونام ونمنا فانتبهنا بصوت بكائه فجئناه وقلنا: ما أصابك يا أمير المؤمنين؟ قال: بينا أنا نائم إذ رأيت شيخا ... » . فإن ابن العمراني قد خلط بين

(1/28)


رؤيا المهدي التي رآها في قصره بالرصافة وبين موته في ماسبذان. فقد نقل رواية على ابن يقطين التي أوردها اليعقوبي والطبري والخطيب البغدادي وأجمعوا على أنها حدثت في قصره بالرصافة فربطها ابن العمراني بموته ولم يكتف بل أكّد حدوثها بماسبذان فقال: «وما لبث بعد ذلك إلا ثلاثة أيام ... » . فلو كان ينقل من نص مكتوب لما وقع في مثل هذه الأخطاء. (انظر: رقم 108 من التعليقات) .
(5) في موت القاسم بن الرشيد قال: «ومات القاسم في حياة الرشيد» ، فإن القاسم لم يمت في حياة الرشيد وإنما توفى سنة ثمان ومائتين (انظر: رقم 145 من التعليقات) .
وهناك أدلة مثل هذه تجدها في ثنايا التعليقات الملحقة بالكتاب أشرت إلى مواضعها. والظاهرة الأخرى في الكتاب هي شغف ابن العمراني الشديد في رواية ما يدور من قصص اتخذت شكلا أسطوريا عند العوام ففي روايته حوادث قتل الحسين بن على- رضى الله عنهما- أورد رواية أبى مخنف لوط بن يحيى ثم زاد عليها وعلى رواية الطبري المختصرة ولا بأس أن نورد هذه الروايات لنرى مدى التوسع الّذي طرأ على هذه القصة وغيرها:
قال الطبري في حوادث قتل الحسين: « ... فأقبل به (رأس الحسين) ...
فأتى منزله فوضعه تحت إجانة في منزله ... فقالت زوجته: فو الله ما زلت انظر إلى نور يسطع مثل العمود من السماء إلى الإجانة ورأيت طيرا بيضا ترفرف حولها» (حوادث سنة 61) .
وقال أبو مخنف: «فلما جن الليل رفعوا رأس الحسين إلى جانب الصومعة فلما عسعس الليل سمع الراهب دويّا كدوىّ الرعد وتسبيحا وتقديسا واستأنس من أنوار ساطعة فأطلع الراهب رأسه من الصومعة فنظر إلى رأس الحسين وإذا هو يسطع نورا إلى عنان السماء ونظر إلى باب قد فتح من السماء والملائكة ينزلون كتائب ويقولون:
السلام عليك يا ابن بنت رسول الله، السلام عليك يا أبا عبد الله، فجزع الراهب جزعا

(1/29)


شديدا، فلما أصبحوا ... » وتستمر الرواية التي نسبت إلى أبى مخنف حتى تنتهي بإسلام الراهب على رأس الحسين [1] .
وقال ابن العمراني: « ... فاحتز رأسه ووضعه في مخلاة فيها تبن وحمله إلى عبيد الله بن زياد فنفذه عبيد الله على هيئته تلك إلى يزيد ... فلما كان الرسول في بعض الطريق وأجنّه الليل عدل إلى دير فيه رهبان فبات فيه. فحين انتصف الليل قام بعض الرهبان لشأنه فرأى عمودا من نور متصلا بين تلك المخلاة وبين السماء فتقدم إلى المخلاة وفتشها فوجد الرأس فيها فقال: لا شك أن هذا رأس المقتول بكربلاء فمضى وأخبر بقية الرهبان. فحين جاءوا ورأوا تلك الصورة أسلموا كلهم على الرأس وجعلوا الدير مسجدا وكانوا سبع مائة راهب» .
لقد خلط ابن العمراني بين رواية الطبري ورواية أبى مخنف وزاد عليهما ولعل هذه الزيادة ليست من صنعه فلعله روى ما سمع، وليس غريبا أن يصبح الراهب الواحد سبعمائة راهب لأن عنصر إثارة الرغبة في القارئ كان مقصودا ومتعمدا. وإن عنصر المبالغة ليس جديدا في قصة يتداولها العوام ويرويها القصاص في المساجد والطرقات.
ولا بأس أن نروى مثل هذه المبالغة في خبر آخر:
قال الخطيب البغدادي: «حدثنا ... بن يحيى بن معاذ عن أبيه قال: كنت أنا ويحيى بن أكثم نسير مع المعتصم وهو يريد بلاد الروم، قال: فمررنا براهب في صومعته فوقفنا عليه وقلنا: أيها الراهب، أترى هذا الملك يدخل عمّورية؟ فقال: لا، إنما يدخلها ملك أكثر أصحابه أولاد زنا. قال: فأتينا المعتصم فأخبرناه فقال: أنا والله صاحبها، أكثر جندي أولاد زنا إنما هم أتراك وأعاجم» (تاريخ بغداد 3/ 344- 345) .
وروى ابن العمراني: « ... واجتاز بين أنقرة وعمّورية بدير وعلى سطح الدير راهب قد أتت عليه السنون فكلمه وهو لا يعرفه فقال له: يا راهب كم أتى عليك من
__________
[1] مصرع الشين في قتل الحسين. مخطوطة لايدن، ورقة 128 أ. وأبو مخنف مطعون في عدالته.

(1/30)


العمر؟ قال: رأيت المسيح بن مريم. فقال له المعتصم: هل وجدت في كتب الملاحم التي تكون عندكم أن مدينة عمّورية يفتحها أحد من المسلمين؟ قال: حيث كتبت الملاحم ما كان أحد من المسلمين وإنما رأيت في كتب الملاحم أنه لا يفتحها إلا أولاد الزنا. فقال المعتصم: الله أكبر عسكري كلهم الأغلب عليهم الأتراك والأتراك كلهم أولاد الزنا.» .
فقد تحول الراهب الواحد عند أبى مخنف إلى سبع مائة عند ابن العمراني ويحيى ابن معاذ ويحيى بن أكثم أبدلهم ابن العمراني بالمعتصم ليزيد استهواء القارئ وإلا فمن غير المقبول عقلا أن يرى راهب يعيش في زمن المعتصم- المسيح بن مريم وبينهما أكثر من 800 سنة. من كل هذا يمكننا أن نقول إن ابن العمراني قد كتب تاريخه هذا للعوام من الناس وسوقتها فضلا عن خواصها وإنه كان متأثرا، إن لم يكن مشاركا، بحلقات القصاص التي توسعت في عصره إلى درجة كبيرة مما اضطر معها ابن الجوزي المتوفى سنة 597 هـ أن يكتب كتابه «القصاص والمذكرين» للتفريق بين القاص والواعظ والمذكر فقال: «إن عموم القصاص لا يتحرون الصواب ولا يحترزون من الخطأ لقلة علمهم وتقواهم» [1] . فمما لا ريب فيه أن ابن العمراني قد روى ما سمعه من أفواه العوام، وهنا تكمن أهمية هذا الكتاب لأن ابن العمراني كان أمينا في نقل ما كان يدور على ألسنة العوام من الناس وهو بهذا حفظ لنا تفسيرهم لبعض الحوادث التاريخية التي رواها المؤرخون بشكل آخر، فالكتاب كتاب تاريخ «فولكاورى» وسياسى معا. وهو بعد هذا كتاب تاريخ وأدب وسياسة رواه مصنفه بأسلوب فصيح سلس فيه عذوبة وخلابة تقرب كل القرب من لغة متأدبي كتاب الدواوين وهو إلى ذلك ينقل لنا كثيرا من الألفاظ البغدادية الأصيلة التي ما تزال تجرى على ألسنة الظرفاء والمتظرفين من متأدبي بغداد لما فيها من حلاوة في الأدب وطرافة في النكتة وإن كانت لا تخلو من الأدب «المكشوف» .
__________
[1] كتاب القصاص والمذكرين، تحقيق مارلين شفارتز، بيروت 1971، صفحة 10- 11.

(1/31)


ولم يقتصر مؤرخنا على كتب التاريخ وحدها ينقل منها ما يشاء إلى كتابه بل تعداها إلى كتب النوادر والمتعة كنشوار المحاضرة والفرج بعد الشدة للتنوخى ولطائف المعارف وثمار القلوب للثعالبي ودواوين الشعراء وكتب تراجمهم كطبقات الشعراء لابن المعتز والأغاني لأبى الفرج الأصفهاني وغيرها، وقد أشرت إلى ذلك كله في محال ورودها. ثم أورد في كتابه الحوادث السياسية وما دار من دسائس القواد ورؤساء الجند من الأتراك والديالم وخفايا دار الخلافة بأسلوب المؤرخ الواثق مما يروى، وهو في الوقت نفسه كان يحسب لقارئه حسابا فأشفق من ملله من التاريخ السياسي وسرد حوادث السنين كما فعل الطبري وغيره فأورد له في ثنايا كلامه بعض النكت الأدبية والحكايات التي تدور حول الخلفاء وما قيل من شعر في بعض الوزراء مما يغمزون به، ولم ينس أن يورد أنا شيد العامة أو تعليقاتهم إذا ما شهر وزير منكوب أو خارجي مأسور، كقول صبيان بغداد حين شهر ابن زهمويه:
أيا وزير الوزرا ... كذا تقاد الأسرا
أو غناء العامة في أسواق بغداد حين أخفق رسول الخليفة سديد الدولة ابن الأنباري في دفع السلطان محمود بن ملك شاه من دخول بغداد:
يا جلال الدين ذا شرح يطول ... وابن الأنباري فما يرجع رسول
والقرايا كلها صارت تلول ... تزرع الكر وتحصد كارتين
فإن في هذا الغناء من الهجاء الدفين ما لا يخفى على اللبيب. أورد كل ذلك ليطرد السأم عن قارئه وليغريه بالمتابعة، لهذا لا يحسّ القارئ معه بغرابة لما يورد أو نبوّ لما يروى في مكانه.
ومع هذا كله فالكتاب ليس كتابا في النوادر كما شاء دى خويه، مصنف فهرس المخطوطات العربية القديم في لايدن، أن يسميه وتبعه بروكلمان ومنه نقل هلموت رتر هذه التسمية وأضاف: «ومن الكتب التي تعنى بالنوادر أكثر مما تعنى بسرد الوقائع التاريخية» كتاب الإنباء في تاريخ الخلفاء «الّذي كتبه محمد

(1/32)


العمراني في عهد المستنجد باللَّه الّذي تلا المقتفى في الحكم (555 هـ- 566 هـ) وتوجد نسخ من هذا الكتاب في مكتبة فاتح تحت رقم 4189 ومكتبة ولى الدين تحت رقم 2360. ولم يهتم المؤرخون حتى الآن كثيرا بأمثال هذه الكتب غير أنى أعتقد أنها لا تخلو من فوائد لأنها تعطينا صورة حية عن الحياة (كذا: يعنى للحياة) الاجتماعية في بلاطات الملوك لذلك العهد خلافا لأكثر كتب التاريخ التي لا تعنى إلا بسرد الوقائع السياسية والوفيات فحسب» [1] .
من قول رتر هذا نستخلص أنه لم ير الكتاب أو في الأقل لم يقرأه وإنما ردد ما قاله بروكلمان [2] الّذي نقل هذا القول من فهرس دى خويه [3] الّذي قال: «إن الكتاب ذو فائدة قليلة» بيد أنه تراجع عن قوله هذا في الفهرس الثاني له حيث قال:
«إن للكتاب أهمية كبيرة في التعرف على التاريخ الأموي والعباسي بالرغم من وضوح ميل مصنفه للعباسيين واهتمامه الكثير بالحكايات والنوادر وشعر المجون» [4] .
ونقطة أخرى لا تخلو من فائدة في عرضها وهي أن رتر وأمثاله من المستشرقين يرى «أن تحقيق النصوص التاريخية هو عمل «فيلولوجى» وطريقة هذا العمل تطورت في المائة سنة الأخيرة على أيدي محققي النصوص «الكلاسيكية» اليونانية واللاتينية ... الذين يهتمون في هذه الحلقات بإيضاح المتون وفحص اختلاف روايات المتون واستخراج الصحيح منها ... ولما جاء «الفيلولوجى» العربيّ متأخرا عن «الفيلولوجى الكلاسيكى» كان لا بد له من أن يستقى منه ويتبع الطرق التي كشف هو عنها» (مجلة الأبحاث صفحة 359- 361) .
__________
[1] مجلة الأبحاث، السنة 12، الجزء 3، أيلول 1959، صفحة 364- 365، بيروت.
[2] ملحق 1/ 586.
[3] لايدن 1851 صفحة 162.
[4] لايدن 1907 صفحة 48- 49.

(1/33)


وعرضت رأى رتر هذا على صديقي شورد فان كوننكزفيلد، أمين قسم المخطوطات العربية في مكتبة جامعة لايدن، فكتب ما يأتى:
كلمة «فيلولوجى» معناها: الدراسة العلمية الشاملة لأية لغة، وتشمل إطار بنائها وتطور اشتقاقاتها وتاريخ هذا التطور وعلاقة هذه اللغة بغيرها من اللغات ومدلول هذه العلاقة واختلافه بالنسبة لهذه اللغة أو تلك، وإن تحقيق النصوص ليس عملا «فيلولوجيا» فقط وإن كان جزءا مهما منه، أما إن المحقق (ولا أريد أن استعمل «الفيلولوجى» ) العربيّ جاء متأخرا عن المحقق التقليدي (ولا أقول «الكلاسيكى» ) الغربي ففيه أكثر من سؤال لأن دارسى المخطوطات العربية لا يمكن أن يركنوا إلى رأى رتر هذا لأنه من الخطأ الكبير الظن أن العرب، وبقدر ما يتعلق الأمر بتحقيق المخطوطات، كانوا يتّبعون خطى المحققين الغربيين مع أنهم يفعلون ذلك في وقتنا هذا. فإنه على النقيض من ذلك تماما لأن المشتغلين بالمخطوطات العربية يعرفون جيدا كم كان العرب يعنون بإخراج النصوص الصحيحة الموثوقة الثابتة عناية تفوق ما يفعله محققو اليوم من العرب أو المستشرقين، وإليك أمثلة قليلة من كثيرة تجدها في نفائس مخطوطات لايدن العربية:
(1) مخطوطة الألفاظ الكتابية لعبد الرحمن بن عيسى الهمذانيّ (المتوفى سنة 320/ 922) بخط عالم بغداد موهوب بن أحمد بن محمد بن خضر الجواليقيّ (المتوفى سنة 539/ 1144) والغريب أن هذه النسخة لم تستعمل في الطبعات العديدة للكتاب مع أنها قوبلت وصححت على نسخة بخط ابن خالويه نفسه وعلى نسخة سماها الجواليقي «نسخة أخرى» إضافة إلى ذلك فإن الجواليقيّ قابل هذه النسخة مع النسخة التي نقل منها وأصلح كل خطأ حدث فيها وعلقه في الحاشية وهذا الشيء المعهود والمعروف عند العرب وهو ما يسمى ب «المقابلة» . فإن ما فعل الجواليقيّ قبل ثمانية قرون هو بالضبط ما نفعله الآن، وهذا العمل يدور حول تجميع النسخ المخطوطة لأى كتاب ومقابلتها مع بعضها وبالتالي إخراج نص موثوق صحيح منها. (رقم المخطوطة في لايدن. (
OR 1070

(1/34)


(2) مخطوطة كتاب وفيات الأعيان لابن خلكان (المتوفى سنة 681/ 1282) .
الشيء الّذي لا يعرفه كثير من الباحثين هو أن ابن خلكان، وبعد أن أنهى تصنيف الوفيات ودفعها إلى الوراقين، قد احتفظ بنسخة من كتابه هذا فأضاف إليها وأصلح فيها الكثير وقد آلت هذه النسخة أخيرا إلى المتحفة البريطانية (رقمها (
Add.25735 ومن مقارنة هذه النسخة مع النسخ المخطوطة والمطبوعة منها نجد أن نسخة لندن تحتوى على زيادات كثيرة لا توجد في ما لدينا من بعض نسخ الوفيات. وفي لايدن نسخة من الوفيات تشبه تلك التي في لندن إلا أن إضافات نسخة لايدن كتبت بخط حديث مما يعطينا الدليل على أن العرب كانوا على علم بما نسميه اليوم «نقد النص» وأنهم قد عنوا كثيرا بحفظ النصوص وطريقة إخراج أصح نص منها. وهذه النسخة للأسف الشديد لم تستعمل أيضا في نشر كتاب الوفيات حتى الآن. (رقمها. (Acad.193
(3) وهناك دليل آخر أكثر نصوعا وإقناعا وهو «الإجازات» وهذه نراها غالبا ملحقة بالمخطوطات وتعنى أن هذا الكتاب قد قرئ على مصنفه أو راويه فوجده صحيحا فأجاز روايته لغيره وأن هذه الإجازة في حقيقتها ليست كما نسميه اليوم «حقوق الطبع» ولكنها حلقة قوية في سلسلة حلقات نقل النص صحيحا بالرواية (انظر مقال الدكتور صلاح الدين المنجد حول الإجازة) [1] .
(4) من هذه الأمثلة القليلة وأمثالها كثيرة يظهر بوضوح أن العرب قد أوجدوا الأسس والقواعد الأولى لتحقيق النصوص الحديث ولعل أحسن مثال يمكن أن يورد هنا ما نجده في نهاية مخطوطة أشعار الهذليين (رقمها (
OR.549 فقد ورد ما نصه:
__________
[1] إجازات السماع في المخطوطات، مجلة معهد المخطوطات العربية، المجلد الأول الجزء الثاني لسنة 1375/ 1955 صفحة 232- 251.
وانظر كذلك مقالة محمد مرسى الخولي في المجلة نفسها المجلد العاشر، جزء 1، 1964 صفحة 167.

(1/35)


«من أشعار الهذليين عن أبى سعيد السكرى- رحمة الله- والحمد للَّه أولا وآخرا وصلى الله على سيدنا محمد النبي وآله وسلم تسليما، كنت ابتدأت بكتابة هذا الكتاب منذ مدة طويلة فكتبت المجلد الأول وقرأته على شيخنا أبى منصور ابن الجواليقيّ أمتع الله به ثم تركت وعدت إلى الكتابة والقراءة فكان مدة ذلك بضع عشرة سنة آخرها آخر شعبان سنة تسع وثلاثين وخمس مائة وكتب محمد بن على العتّابيّ» .
وفي الزاوية اليسرى من الصفحة كتب:
«كتبته من خط السمسمى وقابلت به نسخة الحميدي وبعضه مقابل بنسخة شيخنا (يعنى الجواليقيّ) التي بخط يده وبغيرها من النسخ الموثوق بها فصحت بحمد الله ومنته» .
وبعد، أيصح لنا أن نقول: إن المحقق العربيّ جاء متأخرا؟.
وكلمة أخيرة: فإن الأرقام المحصورة بين عاضدتين مثل [1 أ] تشير إلى مخطوطة لايدن لأنها أكمل من مخطوطة فاتح وقد استعنت بها على تقويم النص الوارد في نسخة فاتح، أما إذا تعارض النصان فقد اخترت ما رأيته أصوب وأجرى مع المعنى وإنك واجد هذا كله في جريدة اختلاف القراءات.

(1/36)