الإنباء في تاريخ الخلفاء
الدولة العباسيّة القاهرة
زادها الله تمكينا وإعزازا إلى يوم القيامة أول من بويع له منهم
بالخلافة وهو مستتر خوفا على نفسه [10 ب] من بنى أمية:
محمد الإمام،
وهو محمد بن عليّ بن عبد الله بن العباس، وكان لعلىّ بن عبد الله ابن
العباس ثمانية بنين وهم: محمد وعبد الله وصالح وسليمان وعيسى وداود
وإسماعيل وعبد الصمد. وعبد الصمد هو الّذي دخل القبر برواضعه ما سقط له
سن بتّه «59» .
وحين بويع محمد بالخلافة وانتشر أمره بخراسان وكان واليها نصر بن سيّار
من قبل مروان الحمار، كتب إلى مروان:
من مبلغ عنى الإمام الّذي ... قام بأمر بيّن ساطع
إني نذير لك من دولة ... قام بها ذو رحم قاطع
والثوب إن أنهج فيه البلى ... أعيا على ذي الحيلة الصانع
كنا نداريها فقد مزقت ... واتسع الخرق على الراقع «60»
فحين قرأ مروان الأبيات وقّع إلى عامل الكوفة بتطلب محمد بن على فوجده
فقبض عليه ونفذه إلى مروان فبقي في حبسه إلى أن مات، وكان قد قال
للداعي وهو أبو مسلم:
إن تمّ عليّ أمر فالأمر بعدي إلى ابني إبراهيم. فلما مات دخل أبو مسلم
على إبراهيم ابن محمد وهو مستتر بالكوفة فبايعه وبث الدعاة بخراسان ولم
يذكر اسمه خيفة من أن يتم عليه ما تمّ على أبيه. وإنما كان الدعاة
يدعون إلى الإمام الهادي من آل محمد.
ثم إن أصحاب الأخبار بالكوفة رفعوا إلى مروان خبر إبراهيم فنفذ إلى
والى الكوفة يأمره بطلبه فتطلبه فوجده في بيت مستترا فأخذه ونفذه إلى
دمشق ومات أيضا في حبس مروان [11 أ] وبقي أبو مسلم متحيّرا لا يدرى
ماذا يصنع فدخل الكوفة وإبراهيم بعد حىّ في حبس مروان، واستخبر عن إخوة
إبراهيم وهم أبو العبّاس عبد الله
(1/57)
وأبو جعفر عبد الله فدلّه بعض شيعتهم على
رجل باقلاني وقال: هو يعرف أحوالهم.
فقصد الباقلاني فحين رآه عرف أنه الداعي إلى آل محمد وقال له: أريد
وديعتي التي عندك.
فقال له الباقلاني: قم معى وتسلّمها وقام من دكانه ومضى معه إلى بيته
وأنزله إلى سرداب مظلم وهما فيه فسلّم عليهما وتحدث معهما في أمر
الخلافة وأنه إن حدث بالإمام إبراهيم في الحبس حادث فالإمام بعده من
يكون؟ فقال أبو العباس: أنا، وقال أبو جعفر: أنا. فقال: الآن بعد ما
اختلفتما فلا بدّ من الرجوع إلى الإمام ليعين على أحدكما. وخرج «61» من
عندهما ومضى راجلا إلى دمشق ووقف لمروان في الميدان يدعو له ويسأله أن
يجمع بينه وبين إبراهيم بن محمد. فقال له مروان: وما لك وله؟
فقال أبو مسلم: يا أمير المؤمنين إني امرؤ فقير ولى عيال وكان في يدي
شيء أعود به على عيالي فدخلت الكوفة بنيّة الحج فأودعته عند إبراهيم بن
محمد وهو في حبسك وما أظنه يستحل مالي ولا شك أنه قد سلّمه من إنسان أو
وضعه في مكان. وأسأل أمير المؤمنين أن يأمر بالجمع بيني وبينه لأسأله
عنه. فقال مروان لبعض حجابه:
امض به إلى الحبس واجمع بينه وبين إبراهيم واحفظ ما يجرى بينهما
وأعلمنى به.
فمضى معه إلى أن دخلا على إبراهيم فسلّم عليه أبو مسلم فرد عليه السلام
[11 ب] فقال له أبو مسلم: وديعتي التي أودعتها عندك عند من هي حتى
أتسلّمها منه؟ فقال له إبراهيم: وديعتك عند ابن الحارثية وكانت أم
السفاح، ريطة بنت عبيد الله بن عبد الله الحارثية. فقام وخرج ومضى
الحاجب وأخبر مروان بما جرى بينهما. ورحل أبو مسلم عن فوره من دمشق
فلما كان في بعض الطريق وصلته وفاة إبراهيم في الحبس فجاء حتى قدم
الكوفة وقصد دكان الباقلاني ووقف بإزائه فحين رآه عرفه وقام معه وجاء
به إلى ذلك السرداب فدخل إليه وهما فيه فعزّاهما عن إبراهيم وقال:
أيكما ابن الحارثية؟
فقال أبو جعفر: أخى. وقال أبو العباس: أنا. فقال لأبى العباس: مدّ يدك
بايعتك على كتاب الله وسنّة رسول الله وسيرة الشيخين أبى بكر وعمر،
قبلت؟ قال: قبلت ذلك. فقال أبو مسلم: يا أبا جعفر بايع أخاك فمدّ إليه
يده وبايعه واحتقدها أبو جعفر
(1/58)
على أبى مسلم وكانت هذه أول ما حصل في نفسه
منه وأتبعها أبو مسلم بأمور أخرى أكّدت العداوة بينه وبينه حتى كان من
أمره ما كان وسيأتي ذكره.
وخرج أبو مسلم في يومه من الكوفة ومضى على وجهه إلى خراسان وقد قوى بها
أمر المسوّدة جدا وانتشرت الدعوة العبّاسية إلى أن صار في كل بلد من
شيعة بنى العباس من يحمل السلاح أضعاف ما فيه من جند مروان فضلا عن
العوام والرعاع فتواعدوا على قتل ولاة بنى أمية في سائر بلاد خراسان في
يوم واحد. وذلك في مستهل ربيع الآخر سنة [12 أ] اثنتين وثلاثين ومائة.
فثاروا في ذلك اليوم وقتل أهل كل بلد واليهم وصعدوا بالسواد إلى
المنابر وخطبوا للإمام أبى العباس الهادي المهدي من آل محمد ووصل الخبر
إلى مروان على البريد من العراق. فكتب إلى أمير الكوفة يأمره بقتل كلّ
من يظفر به من ولد العباس فتطلبهم فلم يجد أحدا وأعماه الله عن بيت
الباقلاني وذلك لما أراده الله تعالى من نصرة دينه وردّ الحق إلى
مستحقّه ومستوجبه. ثم إن المسوّدة بخراسان اجتمعوا في سبعين ألف فارس
وسبعين ألف راجل يحملون الرايات السود وذلك بمرو في جمادى الأولى وأبو
مسلم قائدهم ومقدمهم. وقصدوا العراق وحين أحسّ بقدومهم أصحاب مروان
تهاربوا ودخل أبو مسلم الكوفة في جمادى الآخرة سنة اثنتين وثلاثين
ومائة. وقصد دكان الباقلاني على عادته واصطحبا إلى السرداب وهما فيه
على ما عهدهما فهنأهما بتمام الأمر وظهر من كان استتر من عمومتهما
وجاءوا بأجمعهم إلى الجامع بالكوفة فأخذ أبو مسلم «62» بيد أبى العباس
ورقّاه المنبر ثم قال: يا أهل الكوفة ما رقى على منبركم هذا خليفة إلا
أمير المؤمنين عليّ بن أبى طالب وهذا الإمام بعده. وصعد عمه داود بن
عليّ وأخوه أبو جعفر على أربع درج من المنبر «63» ووقفا هناك. وتكلم
داود بن عليّ قبل السفاح «64» وقال: الحمد للَّه والصلاة على نبيّه
محمد وآله، إنّا والله ما خرجنا لنبنى [12 ب] عندكم قصرا ولا لنحفر في
أرضكم نهرا ولا لنسير سيرة الجبابرة، والآن عاد الحق إلى نصابه وطلعت
الشمس من مطلعها وأخذ القوس باريها وصار
(1/59)
السهم إلى النزعة ورجع الحق إلى مستقره،
إلى أهل بيت نبيكم وورثته أهل الرأفة والرحمة. ثم قام أهل خراسان واحدا
واحدا وأهل الكوفة بجملتهم وكل من كان مجاورا للكوفة من البوادي
لمبايعة أبى العباس. فيقال إنه وضع يده في يد أربع مائة ألف إنسان. ثم
في أثناء ذلك قام أعرابى «65» فأنشد:
دونكموها يا بنى هاشم ... فجدّدوا من آيها الطامسا
دونكموها فالبسوا تاجها ... لا تعدموا منكم لها لابسا
لو خيّر المنبر فرسانه ... ما اختار إلا منكم فارسا
والملك لو شوور في ساسة ... ما اختار إلا منكم سائسا
ونزل أبو العباس من المنبر وخرج من الجامع إلى المضارب السود التي
حملها أبو مسلم من خراسان برسمه وعسكروا بباب الكوفة ثم اشتوروا في قصد
الشام وأشار أبو مسلم أن الإمام لا يقصد الشام بنفسه بل ينفذ العسكر
ويقيم بموضعه إلى إن يقيّض الله الفتح على أيدي أوليائه. وكان الرأى ما
أشار به. ثم اشتوروا فيمن يكون مقدما على الجيش فقال أبو العباس «66» :
من لها فداه أبى وأمى؟ فقال عمه عبد الله ابن عليّ: أنا لها يا أمير
المؤمنين. فشكره على ذلك، واستحسن الجماعة ذلك منه.
وسار عبد الله بن عليّ في سبعين ألف [13 أ] فارس وراجل ولقي مروان على
الزاب وكان من الأمر ما قدمنا ذكره. ثم إن أبا العباس بقي في الخلافة
أربع سنين وستة أشهر.
(1/60)
[خلافة] السفاح
هو أبو العباس، عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن العباس. بويع
له في سنة اثنتين وثلاثين ومائة في جمادى الآخرة وتوفى في أول ذي الحجة
سنة ست وثلاثين ومائة. وكان وزيره أبو سلمة الخلال، وقائد جيشه أبو
مسلم، وكان على شرطته عبد الجبار بن عبد الرحمن الأزدي، وعلى قضائه عبد
الرحمن بن أبى ليلى، وحاجبه أبو غسّان، صالح بن الهيثم. وأبو سلمة
الخلال قتل في أيامه. وإنما أبو مسلم دسّ عليه من قتله لأنه جرى بينه
وبين أبى مسلم ملاحاة في أمر من الأمور فقال له أبو مسلم: هذه الدولة
أنا أظهرتها فإن لزمت معى ما يلزمه التابع للمتبوع وإلا أعدتها فاطمية
«67» . ثم ندم أبو مسلم على ما بدر منه وخاف أن يوصله أبو سلمة إلى سمع
السفاح. وكان أبو سلمة يسمر عند السفاح إلى هزيع من الليل فأوقف له أبو
مسلم جماعة تحت ساباط وبأيديهم السيوف فلما عبر هناك قطعوه إربا وفيه
يقول القائل:
إن الوزير وزير آل محمد ... أودى فمن يشناك كان وزيرا
ولما مات السفاح صلى عليه عمه عيسى بن عليّ ودفن بالموضع الّذي مات فيه
بالأنبار وسنّه أربع وثلاثون سنة. وكان آخر ما [13 ب] تكلم به: «إليك
يا رب لا إلى النار» .
وكان نقش خاتمه: «الله ثقة عبد الله وبه يؤمن» .
(1/61)
|