الإنباء في تاريخ الخلفاء
أمير المؤمنين المعتصم باللَّه
هو أبو إسحاق، محمد بن هارون الرشيد، ولد بالرافقة «235» في شعبان سنة
ثمان وسبعين ومائة، واسم أمه ماردة وقيل ماريّة من مولدات الكوفة. وهو
أول من أضاف اسم الخلافة إلى اسم الله عز وجل.
بويع بالخلافة يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رجب سنة ثماني عشرة
ومائتين، وبعد ذلك بأيام اجتمع جماعة الجند وشغّبوا وتحدّثوا في بيعة
العباس بن المأمون وأظهروا خلاف المعتصم ومضوا بأسرهم إلى مضارب العباس
فخرج إليهم وقال لهم: أيّ شيء تريدون منى؟ قالوا: نبايعك بالخلافة،
قال: أنا قد بايعت عمى ورضيت به وهو كبيرى وعندي بمنزلة المأمون
فانصرفوا خائبين «236» .
ورحل المعتصم [41 ب] من بلاد الروم ودخل بغداد في شهر رمضان من هذه
السنة وأحمد بن أبى دؤاد معه يسايره، وأقرّه على ما كان عليه في زمان
المأمون من قضاء القضاة. وجلس على السرير الّذي في صدر الإيوان الكبير
الّذي من دار الخلافة وكانت فيه صورة العنقاء وكان السرير من ذهب مرصّع
بأنواع الجواهر، كان من جهاز بوران بنت الحسن بن سهل. ووضع على رأسه
تاجا فيه الدر اليتيم، وهو أول خليفة تتوّج وما رأى الناس أحسن من ذلك
اليوم، واستأذن إسحاق بن إبراهيم الموصلي في الإنشاد فأذن له فأنشد
قصيدة أولها:
يا دار غيّرك البلى فمحاك ... يا ليت شعرى ما الّذي أبلاك
فتطيّر المعتصم وجعل الناس يتغامزون ويتعجّبون كيف خفي ذلك على إسحاق
مع فضله ونبله وما كان يومأ إليه به فإنه لم يكن في زمانه فقيه ولا
شاعر ولا مقرئ ولا راو للأحاديث ولا نسّابة ولا نحوىّ ولا لغويّ يدانى
إسحاق في ذلك الفن الّذي تفرّد به، وكان الغناء أقل فضائله ومع ذلك
فإنه فاق فيه على كل من بعده «1236» .
وكان إسحاق بن إبراهيم يقول: أنا أول من بيّن عهد الواثق للناس فإن
المعتصم بقي مدة في الخلافة لم يعهد إلى أحد من أولاده وكنت قد حلفت
أننى لا أغنى إلا لخليفة
(1/104)
أو لولىّ عهد، فاستدعاني يوما هارون بن
المعتصم، وهو الواثق، فلما حضرت عنده قال لي: أحب أن تغنّينى فامتنعت
فنفذ إلى المعتصم وشكاني فأحضرنى المعتصم [42 أ] وقال لي: ويلك يا
إسحاق بلغ من أمرك أنك تتكبّر على هارون؟ فقلت: يا أمير المؤمنين إني
حلفت أنى لا أغنى إلا لخليفة أو لولىّ عهد. فقال: امض وغنّ له فلا شيء
عليك. فعلم الناس أنه قد ولّاه العهد.
وفي سنة عشرين ومائتين جرى على الإمام أحمد بن حنبل «237» - قدس الله
روحه ونوّر ضريحه- ما جرى من الإخراق والحبس. وإنما حثّ المعتصم على
ذلك وحمله على ما فعل به أحمد بن أبى دؤاد لأنه كان معتزليّا وكان
الإمام أحمد- رضوان الله عليه- إمام السنّة. وحين أحضره المعتصم بين
يديه سلّم وتكلّم بكلام أعجب الناس، ثم قال في أثناء كلامه: يا أمير
المؤمنين إن لآبائى سبقا في هذه الدعوة فليسعني ما وسع أصحاب رسول
الله- صلّى الله عليه وسلم- من السكوت والرضى من جميعهم بأن القرآن
كلام الله. فقال له ابن أبى دؤاد: أتقول إن الله خالق كل شيء أم لا؟
فقال الإمام أحمد- رضوان الله عليه-: بلى الله خالق كل شيء قال له:
القرآن شيء أم لا شيء؟
قال الإمام أحمد: القرآن أمر الله وقد فرّق الله تعالى بين خلقه وأمره
فقال- عزّ وجل-:
«لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ ... » 7: 54 فالتفت المعتصم إلى ابن أبى
دؤاد وقال: ذكرتم أن الرجل عامي وأراه يذكر بيتا قديما وشهد له كل من
حضر بأنه من سراة بنى شيبان، ثم قال:
وذكرتم لي أنه جاهل وما أراه إلا معربا فصيحا، وأكرمه وأنعم عليه. وكان
الإمام أحمد بن حنبل- رضوان الله عليه- إلى أن مات يثنى على المعتصم
ويذكر فعله به ويترحّم عليه.
وقيل: لما مات الإمام أحمد [42 ب]- رضى الله عنه- صلّى عليه ألف ألف
وستمائة ألف رجل وأسلم وراء نعشه أربعة آلاف ذمي من هول ما رأوا.
وفي سنة ثلاث وعشرين ومائتين كان المعتصم بسامراء بعد بنائه القصر
المعروف بالجوسق «238» جالسا فيه فجاء كتاب على البريد من ثغر الروم
يذكر أن ملك الروم تطرق إلى نواحي الإسلام ومدّ يده إلى بعض القرى وأنه
أسر منها جماعة وأنه كان
(1/105)
في جملة الجماعة امرأة هاشمية. وأنها صاحت:
«وا معتصماه» فحين قرأ الكتاب نهض من ساعته وعبر إلى الجانب الغربي
وأمر العسكر فخرجوا وسار ليلته والعساكر تتلاحق به وكان في مقدمته
إيتاخ في أربعين ألف فارس أمره أن لا يركب أحد من عسكره إلا أبلق لأن
ملك الروم لما سمع قول الهاشمية «وا معتصماه» أمر بتقييدها وقال: نفذى
إلى المعتصم حتى يركب الأبلق ويخلصك من يدي. وحين وصل إلى أنقرة خرّبها
وأحرقها، واجتاز بين أنقرة وعمّورية بدير وعلى سطح الدير راهب قد أتت
عليه السنون، فكلّمه وهو لا يعرفه فقال له: يا راهب كم أتى عليك من
العمر؟ قال:
رأيت المسيح بن مريم، فقال له المعتصم: هل وجدت في كتب الملاحم التي
تكون عندكم أن مدينة عمّورية يفتحها أحد من المسلمين؟ قال: حيث كتبت
الملاحم ما كان أحد من المسلمين وإنما رأيت في كتب الملاحم أنه لا
يفتحها إلا أولاد الزنا.
فقال المعتصم: الله أكبر، عسكري كلهم الأغلب عليهم الأتراك والأتراك
كلهم أولاد الزنا فإنه ليس بينهم شريعة ولا [43 أ] سياسة «239» ، ثم
سار متوجها إليها ونزل بها أياما قلائل وأحرقها وهدم سورها وجاء
بأبوابها إلى بلاد الإسلام ونصب منها مصراعين على الرقة ومصراعين على
باب من أبواب دار الخلافة ببغداد وهما إلى الآن موجودان «240» . وحين
دخل إليها قصد في الحال البيعة الكبيرة وكسّر الأصنام وصلّى بالناس
التراويح هناك، وكان دخوله إليها في رمضان، وأخذ ملك الروم أسيرا وطلب
منه الهاشمية وأمر بإحضارها على الحالة التي كانت عليها فأحضرت تحجل في
قيودها، فحين وقعت عينه عليها قام على قدمه وقال: لبّيك، لبّيك يا بنت
العم أجبت دعوتك في أربعين ألف أبلق.
وكان المعتصم أميّا لا يحسن الخط والكتابة، وفي خلافته تعلّم أن يكتب
العلامة على التوقيعات فكانت تلك العلامة أحسن من خط كل خليفة تقدّمه.
وكان السبب في أنه ما كان يحسن الكتابة أنه كان في المكتب مع إخوته
ومعهم جماعة من الخدم الصغار فتوفى أحد الخدم الذين كانوا معهم في
المكتب فقال المعتصم: استراح والله
(1/106)
من الكتّاب، فسمع الرشيد بذلك فقال: وكأن
أبا إسحاق يشقّ عليه الكون في المكتب إلى حد يفضل عليه الموت، أخرجوه
من المكتب «241» فلي أولاد عدة فإن كان فيهم واحد لا يحسن الخط جاز.
وحكى محمد بن عبد الملك الزيات «242» قال: لقد رأيت عجبا لما بايع أهل
بغداد لإبراهيم بن المهدي وبايعه جماعة بنى العباس بايعه أبو إسحاق
المعتصم في [43 ب] جملة القوم وقبّل ركابه فأمر له بعشرة آلاف درهم، ثم
لما عاد المعتصم من بلاد الروم واستقر بدار الخلافة بايعه بنو هاشم
وجماعة من أهل الحل والعقد فركب يوما فجاء إبراهيم وقبّل ركابه في ذلك
الموضع الّذي قبل هو فيه ركاب إبراهيم. فقال المعتصم:
حمّروها له فأعطى عشرة آلاف دينار.
وحكى محمد بن عبد الملك الزيات قال: كنت أيام حداثتي مع أبى في معصرة
الزيت فجرى بيني وبين أبى كلام في شيء فقال: اخرج من بيتي واطلب رزقا
لنفسك فأخذتني الحميّة وكنت أقول الشعر فقصدت الحسن بن سهل وامتدحته
فأمر لي بعشرة آلاف درهم فأخذتها وصرفتها في مصالحي واشتغلت بالأدب
وبرعت في صناعة الكتابة وترقّت بى المراتب إلى الوزارة «243» .
وكان «244» القاضي أحمد بن أبى دؤاد ولد حائك ترقّت به المراتب إلى أن
صار قاضى قضاة العالم وصار يتحكم في الدول ويولّى الوزراء وولاة
الأمصار ويعزلهم.
ولقد خرج المعتصم باللَّه يوما ليتنزه وكنّا نسايره، أنا على يمينه
وأحمد بن أبى دؤاد على شماله، فتبسم المعتصم وقال: رحم الله الرشيد،
[رحم الله الرشيد] هكذا يكررها دفعات، فقلنا له: يا أمير المؤمنين
يرحمه الله ويطيل عمرك، هل تذكّرت من أحواله شيئا؟ قال: إي والله،
أخذنى يوما في حجره وكنت صغيرا وقبّلنى، وكان يحبني حبا شديدا، وضرب
بيده على كتفي وقال لي: أنت يا أبا إسحاق تكون أمير السفل، فلما رأيتك
الآن [44 أ] على يميني وأنت ابن زيات ورأيت القاضي على شمالي وهو ابن
نسّاج ذكرت قوله فترحّمت عليه «245» .
(1/107)
وفي سنة سبع وعشرين ومائتين استشعر المعتصم
من ابن أخيه وهو العباس ابن المأمون فأمر فلفّ في دواج سمّور وشد طرفاه
فاختنق فيه «246» .
حكى محمد بن عبد الملك الزيات بعد وفاة المعتصم قال: ما رأيت أشهم من
المعتصم ولا أشجع منه ولا أقوى قلبا وعهدي به يوم حريق عمّورية وهو أول
من قفز إلى النار كأنه عقاب كاسر. وكان يمدّ يده إلى الأترج الأخضر في
رءوس الشجر وهو مجتاز مستعجل فيأخذ من كل أترجّة نصفها في يده من غير
أن يكسر الغصن ولا يميله.
وكان يضع السيوف المسللة في الميدان على الأرض ويجرى بالفرس فكلما قرب
من واحد منها مال إليه وأخذه بذبابه بين أصابعه ثم رماه من يده حتى إذا
قرب من الآخر فعل به مثل ذلك الفعل. وكان يعالج الحجر فيه أربعمائة رطل
بالكبير. وكان يكون أبدا في يده عمود حديد عوض المقرعة فيه ثلاثون رطلا
بالشامي. وكان في بكرة كل يوم إذا وقف يتعمّم يلقمه خادم السنبوسك
«247» فعدوا عليه إلى أن فرغ من التعميم مائة وخمسين سنبوسكة.
وحكى محمد بن عبد الملك الزيات قال: أذكر يوما والمأمون جالس على سرير
الخلافة وأبو إسحاق أخوه واقف بين يدي السرير إذا انفلت سبع من
السباعين وقطع السلاسل ودخل الدار وكان الناس وقوفا بين يدي المأمون
سماطين فهربوا [44 ب] كلهم ولم يثبت أحد ونهض المأمون من السرير ليهرب
مع القوم فتعلّق ذيله في قائمة السرير فبقي معلّقا وقصده الأسد فبادر
المعتصم وتلقى الأسد بنفسه وليس معه سلاح فلكمه في وجهه فخسف جبهته
ووقع الأسد في صحن الدار وركبه المعتصم وأخذ يركله برجله إلى أن استرخى
وضعف ثم قام من فوقه وأخذ يدوسه حتى قتله، إلا أن يد المعتصم التي لكم
بها جبهة الأسد انفركت عن ساعده قليلا إلى أحد الجوانب فأمر المأمون
بإحضار طبيب يعالجها على عجلة لتعود إلى مكانها بسرعة. فلما حضر الطبيب
ورآها قال: أيها الأمير تأمر جماعة يمسكونك فإنّي أحتاج إلى جذب يدك عن
تلك الجهة التي مالت إليها وربما آلمك ذلك ولم تثبت له فتضطرب فلا يتم
لي ما أريد من معالجتك. فقال: وليس إلا هذا؟ قال: نعم وبعد ذلك أضمدها
بضماد يقوّى المفصل.
(1/108)
فعمد المعتصم إلى أسطوانة صخر كانت في
الدار فلكمها بيده في غير الجهة التي لكم بها الأسد فعادت يده إلى
مكانها «248» .
وكان المعتصم هو الثامن «249» من ولد العباس، لأنه محمد بن هارون
الرشيد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن عليّ بن عبد الله بن العبّاس،
وكان الثامن من الخلفاء لأن أولهم السفاح ثم المنصور ثم المهدي ثم
الهادي ثم الرشيد ثم الأمين ثم المأمون ثم المعتصم، وملك ثماني سنين
وثمانية أشهر وثمانية أيام.
وحكى المنجّمون أنه توفى في اليوم التاسع على ثماني ساعات من النهار.
وخلّف [45 أ] ثمانية بنين وثماني بنات، وخلّف في بيت المال ثمانية آلاف
ألف دينار وثماني مائة ألف ألف درهم. وكانت فتوحاته ثمانية:
ولما دخلت سنة ثمان وعشرين ومائتين، مرض واشتدت علّته. قال زنام الزامر
«250» : قال لي المعتصم، وهو مريض، تركب معى في السفينة حتى نتنزّه
ساعة؟
فقلت: الأمر لك يا سيدي، فركبت معه وكان كلما اجتاز على الأبنية التي
بناها بسامرّاء بكى، ثم قال لي: يا زنام ازمر لي هذا الصوت:
يا منزلا لم تبل أطلاله ... حاشا لأطلالك أن تبلى
لم أبك أطلالك حاشاك بل ... بكيت عيشي فيك إذ ولّى
فجعلت أزمر وهو يبكى ويقول: ذهبت الحيل، أأوخذ أنا وحدي من بين هذا
الخلق «251» ؟
وكان سبب بناء «252» المعتصم مدينة سامراء أنه كان عسكره المقيمون
بالحضرة لا يفارقونه سبع مائة ألف فارس وضاقت بهم بغداد وتنزّلوا على
الناس في دورهم حتى هلك عدة أطفال تحت أرجل الخيل من شدة الزحمة في
الأسواق. فخطب المعتصم يوما على منبر الرصافة فقام إليه شيخ وقال: مالك
يا أبا إسحاق لا جزاك الله عن الجوار خيرا أيتمت أولادنا ورملت نساءنا
بإسكانك هؤلاء العلوج بين أظهرنا، والله لنقاتلنك بما لا قبل لك به،
فلم يتغيّر ومضى في خطبته. ولمّا نزل وصلى طلب الرجل وظن أنه هرب وإذا
به واقف بإزائه فالتفت إليه غير مغضب وقال له: يا شيخ صدقت
(1/109)
فيما قلت وأنا أريحكم من هؤلاء العلوج ومن
نفسي أيضا [45 ب] ولكن بماذا كنت تقاتلني بما لا قبل لي به؟ فقال له
الشيخ: بسهام الليل يا أبا إسحاق، قال:
صدقت. ومن ساعته رحل من بغداد إلى الموضع الّذي بنى فيه سامراء. وأمر
ببناء المدينة وأسكن العسكر بها وطولها سبع فراسخ وهي الآن باقية
وأبنيتها جديدة إلا أنها خالية، دخلت من باب من أبوابها أول النهار
وخرجت من الآخر بعد الظهر فكانت هي منزلنا في ذلك اليوم.
وتوفى المعتصم بها لثمان بقين من ربيع الأول من سنة سبع وعشرين
ومائتين، [1] وكان مولده في سنة ثمان وسبعين ومائة، وكان عمره ثمان
وأربعين سنة، ودفن بسامراء وصلّى عليه ابنه هارون الواثق.
قال محمد بن عبد الملك الزيّات «253» :
قد قلت إذ غيبّوك واصطفقت ... عليك أيدي التراب والطين
لا يجبر الله أمة فقدت ... مثلك إلا بمثل هارون
أما وزراؤه: فأولهم الفضل بن مروان «254» ، وبعده أحمد بن عمّار «255»
، وبعده محمد بن عبد الملك الزيات «256» .
[قضاته: أحمد بن أبى دؤاد «257» .
ابتداؤه: في رجب لاثنتي عشرة ليلة بقيت منه لثمان عشرة ومائتين
بالبدندون «258» .
انتهاؤه وموته: في ربيع الأول لاثنتي عشرة ليلة خلت منه بسرّ من رأى،
ودفن بالجوسق وصلّى عليه ابنه هارون ويكنى أبا إسحاق.
عمره: سبع وأربعون سنة.
حاجبه: وصيف التركي.
نقش خاتمه: سل الله يعطيك.
كتّابه: الفضل بن مروان، ثم أحمد بن عمّار، ثم [محمد بن] عبد الملك
الزيّات] [2] .
__________
[1] «وتوفى المعتصم ... سنة سبع ... » وسبق له ان قال سنة ثمان ... كما
هو مشهور.
[2] ما بين العاضدتين [] من الإضافات التي أشرنا إليها في ما سبق. لا
حظ التناقض بين المتن والإضافات هنا.
(1/110)
أمير المؤمنين الواثق باللَّه
[46 أ] هو أبو جعفر، هارون بن المعتصم باللَّه، بويع له يوم الخميس
لسبع بقين من ربيع الأول سنة سبع وعشرين ومائتين، وأمه جارية اسمها
«قراطيس» رومية.
ووقّع إلى بغداد إلى واليها الأمير إسحاق بن إبراهيم المصعبي «259»
ليأخذ البيعة على الناس ببغداد فأخذها في يوم السبت «260» وجلس الواثق
للناس جلوسا عاما للهناءة فدخل إليه الشعراء وكان فيهم على بن الجهم
فأنشده «261» :
وثقت بالملك الواثق باللَّه النفوس ... ملك يشقى به المال ولا يشقى
الجليس
أسد تضحك عن شدّته الحرب العبوس ... أنس السيف به واستوحش العلق النفيس
يا بنى العباس يأبى الله إلا أن تروسوا
وكان الواثق شاعرا أديبا كريما حليما حافظا لأشعار العرب، عارفا
بالغناء، يدعى المأمون الصغير. وكان المأمون يجلسه وأبوه المعتصم واقف.
وهو ربّاه. وكان يقول للمعتصم: يا أبا إسحاق لا تؤدّب هارون فإنّي أرضى
أدبه. وكان قد تبنّى به «262» حتى كان يعلّمه الأدب والخط بنفسه ويقرئه
القرآن بنفسه. وكانت أحواله كلها وتصاريفه شبيهة بأحوال المأمون. وكان
الواثق لبلاغته يصعد المنبر ويرتجل الخطب على البديهية من غير أن يروّى
فيها.
ومن شعره في إنسان من أهل بيته:
أنت الوضيع بنفسه لا بيته ... ما أنت من أعلى العيوب بسالم [46 ب]
ولكل بيت دقة وقمامة ... تلقى وأنت قمامة من هاشم «1262»
وكان أكرم الناس طبعا وأجود الخلق بالمال، أما كرم طبعه فيدل عليه ما
حكى عنه المسدود «263» المغنى وكان أخشم لا يشم شيئا ولذلك سمى
المسدود. قال: كان الواثق على عينه اليمنى كوكب صغير قلّ ما كان يظهر
إلا لمن يقرب منه فاتفق يوما
(1/111)
أن عملت أبياتا أولها:
من المسدود في الأنف إلى المسدود في العين
وغنّيت بها وذكرت اسمه فيها فأوصلها بعض من يعاندني إلى سمعه فدخلت
عليه يوما فقال لي، وهو يضحك: أنت يا مسدود أحب هؤلاء كلهم إليّ
للمناسبة التي بيننا، أنت في أنفك وأنا في عيني فمتّ فزعا فمازحنى
وبسطنى وقال لي: لم تخاف منى؟
أترى حلمي لا يسع للذنوب الكثيرة فكيف لمثل هذا؟ ويحك ألست تربية
المأمون؟
والله يا مسدود لقد جئت بها حلوة وسوف تبقى بعدنا على الدهر ولكن أعفنى
من أخرى فالمؤمن لا يلدغ من جحر مرتين، وإذا أردت أن تمجن فاستطرد
بغيري.
وأما سخاوته، فيدل عليها ما حكاه إسحاق «264» بن إبراهيم الموصلي بعد
وفاة الواثق قال: كنت في أيام الواثق قد علت سنى وضعف بصرى وكان ديوان
الراتب على الخلفاء قبله سوى الجوائز التي كانت تصلني في النواريز
والأعياد وفي أعراسهم وأفراحهم سوى ما كان يصلنى من أتباعهم وخدمهم،
خمسين ألف درهم. فقيل له:
وكم كان يكون كلما يصل [47 أ] إليك من الوجوه كلها؟ فقال: أربع مائة
ألف درهم.
قال: فلما ضعف بصرى في أيام الواثق لزمت بيتي ببغداد فكان الواثق يأمر
والى بغداد من قبله وهو الأمير إسحاق بن إبراهيم بن مصعب بإيصال ديواني
إليّ ما نقصني منه شيئا. فاتفق في بعض السنين أن ذكروني في مجلسه
وقالوا: قد بقيت فيه بقية حسنة فلو أمرت بإحضاره لحصل لك به أتم أنس.
فنفذ إليّ قاصدا من سامراء يستحضرني وتوقيعا إلى إسحاق بن إبراهيم
بإزاحة علّتى في كل ما أحتاج إليه فامتثلت أمره وصرت إليه وأقمت عنده
شهرا ثم إنه عنّ له أن يتصيد فخرج وخرجنا معه وكان يتصيد في نواحي
عكبرا فلما وصلنا إلى عكبرا وقربنا من بغداد ذكرت أولادي واشتقت إليهم
فقلت له: يا أمير المؤمنين قد حضرني بيتان قال: هاتهما فأنشدته:
طربت إلى الأصيبية الصغار ... وهاج لي الهوى قرب المزار
وأبرح ما يكون الشوق يوما ... إذا دنت الديار من الديار «265»
(1/112)
فأذن لي في المسير وأمر لي بمائة ألف درهم
خارجة عن مرسومى. ولما كان العام القابل نفذ إليّ فشخصت إليه وبقيت
عنده شهرا ثم استأذنته في أن أدخل مع القضاة بالسواد وأصلّى يوم الجمعة
معه في المقصورة فقال: يا أبا محمد ولا كل هذا ولكنى اشتريت هذا منك
بمائة ألف درهم ولا تحسبها المائة ألف التي أصلك بها عند عودتك فهذه
خارجة عنها، وأمر لي بمائتي ألف درهم. وقال يوم توديعه: يا إسحاق [47
ب] قد قلت بيتين في فلان الخادم، وكان يحبه، وقد صنعت فيهما لحنا من
خفيف الرمل وأريد أن تسمع الشعر واللحن فقلت له: الأمر لك، فأخذ العود
وغنّى:
يا ذا الّذي بعذابي ظل مفتخرا ... هل أنت إلا مليك جار إذ قدرا
لولا الهوى لتجازينا على قدر ... وإن أفق منه يوما واحدا سترى «266»
فسمعت والله ما لم أسمع مثله فصاحة وطيبا فقلت له: يا سيدي أنت والله
تغنّى أطيب منى فماذا تصنع بى وودّعته وانحدرت إلى بغداد وكان آخر عهدي
به.
ومات الواثق بعلة الاستسقاء في ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين ومائتين،
وهو ابن ثمان وثلاثين سنة «267» ، ودفن بقصره المعروف بالهارونى
بسامراء، وصلّى عليه قاضى القضاة أحمد بن أبى دؤاد، وكانت خلافته خمس
سنين وستة أيام.
وحكى محمد بن عبد الملك الزيات قال: كان في مرضه يهذى بالشعر لاستجابة
خاطره له. فاتفق أن دخل عليه في مرضه الحسن بن وهب كاتب إنشائه وكان قد
تأخر عنه أياما لأنه كان مستهترا بالشرب، فلما رآه أنشد:
خدمة الواثق والكاسات في أيدي الملاح ... ليس يلتامان فاختر خدمة أو
كاس راح
وحين توفى، كان وزيره ابن الزيات وديوان الخراج إلى عمر بن فرج الرّخجى
«268» وديوان البريد إلى الفضل بن مروان. وابن أبى دؤاد [48 أ] قاضى
القضاة، والحسن بن وهب «269» كاتب الإنشاء، وعارض الجيش أشناس
المعتصمى، ووالى
(1/113)
العراق إسحاق بن إبراهيم بن مصعب «270» .
وفيه يقول وزيره ابن الزيات يرثيه:
سقى قبرك الهاطل المسبل ... وجادت له الديم الحفّل
وأسكنك الله خلد الجنان ... وجاورك المصطفى المرسل
فقد بنت منّا على حاجة ... وهل يدفع القدر المنزل «271»
[حكى «272» عن عليّ بن الحسين الإسكافي قال: دخل إيتاخ «273» إلى
الواثق ليعرف هل مات أو لا فلما دنا منه نظر إليه الواثق بمؤخر عينه
ففزع إيتاخ فرجع القهقرى إلى أن وقع سيفه في ملبن الباب فاندلق وسقط
إيتاخ على قفاه هيبة منه لنظره.
قال: فلم تمض ساعة حتى مات فعزل في بيت ليغسل فيه فجاء جرذ فأكل عينه
التي نظر بها إلى إيتاخ فكثر تعجّب من رأى ذلك، أن تكون العين التي فزع
إيتاخ من لحظها له حتى تراجع وانكسر سيفه وسقط على قفاه يأكلها جرذ بعد
ساعة] [1] .
وانقضت أيام الواثق باللَّه- رحمة الله عليه-.
__________
[1] ما بين العاضدتين [] لم يرد في نسخة فاتح فلعله من الإضافات التي
أشرنا إليها في ما سبق.
(1/114)
|