الإنباء في تاريخ الخلفاء

أمير المؤمنين الأمين
هو أبو عبد الله، محمد بن هارون وأمه زبيدة، واسمها أمة العزيز وإنما زبيدة لقب وقع عليها وهو أن جدّها المنصور كان يحبها وكانت بيضاء سمينة فكان يقبّلها ويرقّصها ويقول لها: أنت زبيدة، فعرفت بذلك. وكنيتها أم جعفر، ولم يتول الخلافة هاشمي الأبوين إلا عليّ بن أبى طالب، أمير المؤمنين- صلوات الله عليه وسلامه- ومحمد الأمين. فإن أم أمير المؤمنين عليّ بن أبى طالب- كرم الله وجهه- فاطمة بنت أسد بن هاشم «173» . وأم محمد الأمين، زبيدة بنت جعفر بن المنصور.
ووصلت الخلافة إلى محمد الأمين قبل وصول الفضل بن [31 أ] الربيع مع رجاء الخادم «174» كان نفذه الفضل من الطريق فوصل ليلة الخميس النصف من جمادى الآخرة فكتم الأمين هذا الخبر يوم الخميس وتحوّل ليلة الجمعة من قصر الخلد إلى مدينة المنصور وأظهر وفاة الرشيد يوم الجمعة وخطب بالناس وصلّى بهم الجمعة. ولما خطب حمد الله وأثنى عليه ونعى الرشيد وعزّى نفسه وعزّى الناس عنه ثم أخذ البيعة له بالخلافة ثم نزل من المنبر «175» وما عاد رقاه بل اشتغل بلذّاته وأخذ ينهمك في الشرب وأساء التدبير في جميع الأمور حتى نفذ إلى المأمون يسومه النزول عن الرىّ وعن بعض كور خراسان التي كان أبوه في حياته ولّاه إياها. ثم نكث العهد الّذي عاهد أخاه عليه فجعله من العهد وبايع بالعهد لولده موسى وكان طفلا «176» . ثم نفذ إلى المأمون يأمره بالقدوم عليه فما امتثل أمره فنفذ إلى محاربته عليّ بن عيسى بن ماهان في أربعين ألف مقاتل. وكانت زبيدة تحب المأمون لنجابته وعقله وبرّه بأهله فنفذت إلى عليّ ابن عيسى بن ماهان قيدا من ذهب وقالت «177» : إن ابني محمدا الأمين أمرك أن تجيئه بعبد الله المأمون مقيدا وأنا أعزّه وهو عندي بمنزلة محمد فإذا قبضت عليه فلا تقيّده بقيد من حديد بل بهذا. قال: السمع والطاعة. ثم خرج من بغداد يطلب خراسان وحين سمع المأمون بذلك ندب لمحاربته طاهر «178» بن الحسين فلقيه بالريّ فكسر طاهر عليّ ابن عيسى واستباح عسكره وقتله. وكتب إلى المأمون على البريد رقعة [31 ب]

(1/89)


لطيفة فيها: «كتبت هذه الرقعة ورأس عليّ بن عيسى بين يدىّ وخاتمه في إصبعي وأنا منه لخبر لا معتدّ بأثر» «179» فحين وصلت الرقعة إلى المأمون وقرأها استحسن بلاغته واختصاره وقال لمن كان حاضرا عنده: سيجيء كتاب الفتح في طوامير ولا يكون فيه هذه البلاغة. وكان كما قال.
وحين نفذ الرأس إلى المأمون [كتب] يستأذنه فيما يعتمده بعد ذلك [ف] أمره المأمون أن يتوجّه إلى بغداد ويأتيه بأخيه محمد الأمين مقيدا كما أمر الأمين عليّ بن عيسى أن يعتمده في حقه. وحينئذ صعد المأمون المنبر وكان بمرو وخلع أخاه وذكر نكثه وغدره وفسقه وفجوره ودعا إلى نفسه فبايعه الناس. وكتب إلى طاهر بن الحسين عهدا بولاية خراسان وسائر بلاد المشرق وعقد له لواء ذا شعبتين ولقبه ذا اليمينين «180» .
وفيه يقول الشاعر:
يا ذا اليمينين وعين واحدة ... نقصان عين ويمين زائدة
وحين وصل الخبر بهزيمة [عليّ بن] عيسى وأسره وقتله إلى محمد الأمين وتوجه طاهر بن الحسين إلى بغداد كان على شاطئ دجلة يصطاد سمكا مع جماعة من الخدم وكان فيهم خادم يسمى «كوثرا» كان يعشقه. فقال: دعوني من صداع العسكر ومن هزم منهم ومن قتل، كوثر اصطاد ثلاث سمكات وما اصطدت إلا سمكتين «181» .
وفي هذا الخادم يقول الأمين:
ما يريد الناس من صب بمن يهوى كئيب [32 أ] ... أظلم الناس الّذي يلحى محبّا في حبيب
كوثر ديني ودنياي وسقمي وطبيبي «182»
ولما كان بعد أيام قلائل جاء طاهر بن الحسين وحاصر الأمين ببغداد، ودرست محاسن بغداد في ذلك الحصار واستولى طاهر على جميع محال بغداد ولم يبق شيء سوى الخلد الّذي كان الأمين ينزل فيه وهو مع ذلك لا يفيق من الشراب لحظة.
حكى «183» أن كوثرا خرج يوما يبصر الحرب فوقع فيه سهم فجاء إلى الأمين والدم

(1/90)


يسيل على وجهه فقام إليه يقبّل موضع الجرح ويمسحه بكمه ويقول:
ضربوا قرّة عينىّ ... ومن أجلى ضربوه
أخذ الله لقلبي ... من أناس أوجعوه
ثم قال للمغنين غنوا بها، ثم أراد أن يتمها أربعة فاعتاصت القافية عليه فاستدعى الفضل بن الربيع وقال له: من على بابنا من الشعراء؟ فقال: والله ما أعلم أن أحدا بقي عندنا منهم إلا عبد الله بن أيوب التيمي وهو على باب القصر. قال: فقل له يجيز هذين البيتين. فخرج إليه الفضل وأمره أن يجيز البيتين فأجازهما ببيتين آخرين وقال:
من رأى الناس له الفضل عليهم حسدوه ... مثل ما قد حسد القائم بالملك أخوه «184»
فاستحسنها ثم قال: والله هذا خير مما أردت. ثم قال: سلوه هل جئت على الظهر أو في الماء؟ فقال: لا بل على الظهر. قال: وكم كان معك حمل؟ قال: [32 ب] ثلاثة. قال: أوقروها له دراهم ففعل ذلك. قال التيمي: واتفق أنى بعد قتل الأمين قصدت المأمون بخراسان فلما دخلت عليه ووقعت عينه في عيني قال: هيه يا تيمى:
مثل ما حسد القائم بالملك أخوه
قلت له: اسمع يا أمير المؤمنين تمامها وارتجلت في الحال:
نصر المأمون عبد الله لما ظلموه ... نقضوا العهد الّذي كانوا قديما أكّدوه
لم يعامله أخوه بالذي أوصى أبوه
قال: فاستحسن بديهتى ووصلني «185» .
ثم إن الأمين حين ضاق به الأمر أرسل إلى طاهر بن الحسين يطلب منه الأمان ويسأله أن يؤمّنه ليمضي إلى أخيه المأمون فينزل على حكم أخيه «186» ، فكان جوابه بل تنزل وفي حلقك ساجور أو تنزل على حكمي. فلما سمع الأمين جوابه قال: لا والله

(1/91)


لا أنزل على حكم عبد السوء العاض بظر أمه وما أبالى وقعت على الموت أو وقع الموت عليّ وخرج «187» من وقته إلى منظرة كانت له على دجلة وقال: ادعوا لي عمى إبراهيم ابن المهدي فدعوه له فقال له: يا عم قد عوّلت في بكرة غد أن أخرج وأسلّم نفسي إلى هرثمة، وكان من جملة قواد المأمون الواصلين في صحبة طاهر، وإنما يحملني على تسليم نفسي إليه لأني آمن على روحي إذا كنت عنده فهو يحملني إلى أخى فيرى رأيه في أمرى ولست آمن على روحي إذا حصلت عند الأعور. فقال له [33 أ] عمه إبراهيم: فراسل هرثمة وأعلمه بأنك تخرج إليه ليكون مستعدا لخروجك. فنفذ إلى هرثمة يعلمه بذلك فأظهر له السرور بانضمامه إليه وأمّنه على نفسه وقال: أنا أقف في حراقتى على باب القصر مما يلي دجلة، فاخرج وانزل معى لأحملك معى إلى خيمتي.
ثم قال الأمين «188» : باللَّه يا عم ما ترى هذه الليلة وصفاء الجو فيها وحسن القمر على دجلة فلو وافقتني فشربنا ونمنا وإلى غد ألف فرج. فقال له إبراهيم: الرأى لك.
فأمر بإحضار الشراب وتناول رطلا ثم قال لإبراهيم: يا عم غنّنى لأشرب على غنائك فقال إبراهيم: ليس عودي معى. فقال: أحضر جارية تضرب عليك؟ فقال إبراهيم:
نعم. قال: فأحضر جارية اسمها ضعف فجاءت تحمل عودا فحين رأيتها تطيّرت من اسمها للحال التي كنّا عليها ثم أمرها فضربت وغنّيت ثم أمرها بالغناء فاندفعت تغني:
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوما بكسرى مرازبه
فإن لا يكونوا قاتليه فإنه ... سواء علينا ممسكاه وضاربه «189»
فاغتاض الأمين وتطيّر وقال لها: غنّى غير هذا، فاندفعت تغنّي:
أبكى فراقهم عيني فارقها ... إن التفرّق للأحباب بكّاء
ما زال يعدو عليهم ريب دهرهم ... حتى تفانوا وريب الدهر عدّاء
فقال لها الأمين: يا مشئومة كيف وقعت إلى هذا؟ غنّنى غيره فاندفعت تغني:
أما ورب السكون والحرك ... إن المنايا سريعة الدّرك
ما اختلف الليل والنهار ولا ... دارت نجوم السماء في فلك [33 ب]

(1/92)


إلا بنقل النعيم من ملك ... عات بسلطانه إلى ملك
وملك ذي العرش دائم أبدا ... ليس بفان ولا بمشترك
فضجر منها وكان بين يديه قدح بلّور اسمه زب رباح «190» وكان يحبه ويحب الجارية حبا شديدا فضربها به فانكسر وأدمى ساقها وتنغّص عليه عيشه وما كان فيه وقال: يا عم هذا والله آخر مدتي ومنتهى أيامى. قال إبراهيم: فقلت: الله، الله، بل الله يكفيك كل محذور، وإذا بصوت من ذلك الجانب من دجلة يخاطب آخر ويقول له: «قضى الأمر الّذي فيه تستفتيان» فقال: يا عم أسمعت؟ قلت: لا يا سيدي ما سمعت شيئا.
ولما كان في عشية اليوم الثاني دخل خادم إليه وقال له: الأمير هرثمة قد جاء في الحراقة ووقف بإزاء القصر فقام وحوله جواريه وخدمه وأولاده يبكون وهو يبكى حتى خرج من باب القصر فعطش واستسقى ماء فلم يكن هناك ما يسقى فيه الماء فجاءوا بكوز مكسور الرأس فشرب منه ونزل إلى حراقة هرثمة وسلم نفسه إليه. وكان خبره وخبر تنفيذه إلى هرثمة قد نمّ إلى طاهر فأنفذ عدة حراقات مشحونة بالرجال وأوقفهم في طريقه ليأخذوه من هرثمة فحين بعدت حراقة هرثمة عن باب القصر قليلا عارضهم أصحاب طاهر وتمسكوا بالحراقة ليأخذوا الأمين وتجاذبوا وتناوشوا فغرقت حراقة هرثمة.
فحكى «191» أحمد بن سلام، صاحب المظالم ببغداد، قال: كنت مع محمد الأمين في الحراقة فلما غرقنا وكان قد جننا الليل، سبحت وصعدت [34 أ] بعد الجهد الجهيد وكان الزمان باردا فلما صرت على الساحل وإذا برجل خراسانى من أصحاب طاهر قد وضع حبلا في عنقي وهو يجرنى وأنا حافى وهو يركض بالفرس فأجهدنى وعنّاني.
فقلت له: أيها الإنسان مالك في قتلى من حاجة وأنا رجل من أبناء النعم وما تعوّدت المشي على هذه الصفة التي تعاملني بها فأردفنى خلفك واحملني إلى حيث تشاء فإذا كان من الغد افتديت نفسي منك بعشرة آلاف دينار. فلما سمع ذلك منى أردفنى وراءه وحملني إلى دار لا أعرفها وأقعدنى في بيت منها وأغلق الباب عليّ ومضى وبقيت أرتعد

(1/93)


من البرد فبينا أنا على تلك الحالة إذ سمعت جلبة وإذا بقوم يدخلون الدار فطالعت من خصاص الباب وإذا بقوم معهم شموع ومشاعل وبأيديهم الأسلحة ومحمد الأمين بينهم عريان كان قد خرج من الماء وأسروه كما أسرونى إلا أنهم لا يعرفونه فجاءوا به إلى البيت الّذي كنت فيه وفتحوا الباب وأدخلوه إليّ وأنا قد رأيته وهو لا يراني لظلمة البيت الّذي كنت فيه ثم أغلقوا الباب ومضوا فسمع في البيت حسا فكأنه أنس بذلك وقال: من تكون؟ قلت: عبدك، قال: أيّ العبيد أنت؟ قلت: أحمد بن سلام. قال: تقدم إليّ فإنّي أجد وحشة فتقدّمت إليه ثم قال لي: قد بقي عليّ الوتر وأنا أصلّيه الآن. فقام ليصلي فإذا بالجماعة قد عادوا وهم يقولون بالفارسية «پسر زبيدة، پسر زبيدة» «192» فلما سمع آيس من نفسه ثم جاءوا إلى البيت الّذي كنا فيه وفتحوه فلو أنه ثبت [34 ب] في مكانه لما عرفوا أينا الأمين إلا أنه لما رآهم أخذ مخدة كانت في البيت يتترس بها ويقول:
يا قوم إني ابن عم رسول الله وابن الرشيد وأخو المأمون. فقال أحدهم: لك نطلب وضربه على المخدة فسقط على وجهه فأكب عليه وذبحه من قفاه وأخذ رأسه وخرج وتركونى ما طعمت غمضا من هول ما رأيت. فلما كان وقت الصبح جاء الخراساني الّذي أسرنى وقال لي: أين أسيرى؟ قلت: أنا هو، قال: تكذب. أنت هرّبته وقعدت مكانه. قلت له: يا هذا ألست كنت وعدتك بعشرة آلاف دينار؟ فأنا أسلّمها إليك اليوم وهبنى كنت هو أو غيره. فلما سمع ذلك منى قال لي: يا هذا أسيرى البارحة كان شابا وأراك شيخا فمددت عيني نحو لحيتي وتأمّلتها وإذا قد وخطني الشيب من هول ما رأيت تلك الليلة وعرف الرجل صدق قولي فقال لي: قم امض لحال سبيلك وقد جعلتك في أوسع الحل من المال والله لا كنت سببا لأن أجمع عليك بين الفقر والشيب «193» .
ثم إن طاهر أخذ رأس الأمين ونفذه إلى مرو إلى المأمون فأدخلوه إليه على ترس وعنده ذو الرئاستين الفضل بن سهل وزيره. فقال المأمون: إنّا للَّه، أمرناهم أن يأتوا به أسيرا فأتوا به عقيرا «194» . فقال له الفضل: يا أمير المؤمنين إنه قد كان ما كان فاحتل لنا في العذر وحينئذ تمثل المأمون بهذين البيتين:

(1/94)


شفيت النفس من حمل ابن بدر ... وسيفي من حذيفة قد شفاني [35 أ]
فإن أك قد بردت بهم غليلى ... فلم أقطع بهم إلا بنانى «195»
ثم بكى، فقال له الفضل: ما يبكيك يا أمير المؤمنين؟ قال: تذكّرت لمحمد مع عقوقه قليل برّه، أمر لي الرشيد يوما بمائة ألف دينار وأمر له بمائتي ألف ولم يعلم بذلك فبادرت فبشّرته بها فقال: يا أخى لعل في نفسك شيئا من تفضيلي عليك قد جعلتها بأسرها لك جزاء بشارتك لي فصرف الثلاث مائة ألف إليّ. فقال له الفضل: يا أمير المؤمنين كيف تحمد على بذل مال من سمح بسفك الدماء ونقض العهد والميثاق وآثر الغدر على الوفاء؟ فقال المأمون: ذلك هو الّذي يسلّينى عنه.
وكان مولد الأمين بالرصافة سنة إحدى وسبعين ومائة. وقتل ليلة الأحد لخمس بقين من المحرم سنة ثمان وتسعين ومائة. وعمره ثمان وعشرون سنة، وكان جميلا لم يكن في زمانه أصبح وجها منه، وكان أقنى أنزع طويل القامة والعنق، أبيض الوجه أسود العينين أسود الشعر بعيد ما بين الكتفين متواضعا في كلامه وجلوسه، سخيّا بكل ما يملك. وفيه يقول عليّ بن الجهم في قصيدته المزدوجة التي ذكر فيها الخلفاء بأسرهم «196» :
وبايعوا محمد الأمينا ... فنكثوا البيعة أجمعينا
وأمّنوه ثم قتلوه ... ما هكذا عاهدهم أبوه
ثم انقضت أيام الأمين. وحكى «197» شيخ كان يتردد إلى يحيى بن خالد وهو في الحبس. قال: قال لي يوما يحيى بن خالد: قتل هارون أولادي والله [35 ب] ليقتلنّ ولده. واستباح حريمي والله ليستباحن حريمه. وكنت أستبعد هذا وأقول من يقتل ولده ويستبيح حريمه إلى أن جاء طاهر ونهب دار هارون وقتل ولده محمدا وأخرج جواريه وحرمه حافيات حاسرات، فصحّ عندي ما قاله يحيى وصدقت قول القائل «198» :
من ير يوما يربه ... والدهر لا يغتر به
[قضاة الأمين: إسماعيل بن حمّاد [بن] أبى حنيفة [و] أبو البختري] [1] «199» .
__________
[1] ما بين الأقواس لم يرد في نسخة فاتح ولعله من إضافات أحد الذين وقع الكتاب بأيديهم ولعل هذه الإضافات حدثت في النسخة التي منها انتسخت نسخة لا يدن. انظر المقدمة.

(1/95)


أمير المؤمنين المأمون
هو أبو العباس، عبد الله بن هارون الرشيد. وأبو العباس كنيته كنّاه بها أبوه فأما هو فإنه تكنّى بعد موت أبيه بأبي جعفر وهي كنية الرشيد وكنية المنصور.
وأمه أم ولد كانت طبّاخة واسمها «مراجل» وأصلها من باذغيس، وكان أكبر من الأمين وكانت زبيدة بقيت مع الرشيد مدة لم تحبل فشكا ذلك إلى بعض خواصه فقال:
يا أمير المؤمنين نبّه رحمها بإحبال بعض جواريك. فدخل يوما إلى المطبخ فرأى مراجل المقدم ذكرها فجذبها وجامعها ونفذ إلى زبيدة من يعلمها بذلك. ونفذ إليها بعد أيام من يخبرها بأن مراجل حبلت. فلما كان بعد أيام قلائل حبلت زبيدة بالأمين «200» .
وتقلّد المأمون الخلافة وسنه سبع وعشرون سنة، وكان مولده ببغداد في الليلة التي استخلف فيها الرشيد وهي ليلة النصف من ربيع الأول سنة سبعين ومائة. ولم تلبث أمه بعد ولادته إلّا قليلا وماتت وهو طفل فصيّره الرشيد في حجر الجوهري «201» [36 أ] مولاهم فأرضعته زوجة سعيد، ثم كبر فأدّبه أبو محمد اليزيدي «202» وجمع له الرشيد الفقهاء والمحدثين من الآفاق فبرع وفاق في سائر العلوم على سائر أبناء جنسه وعصره وكان يسمى نجيب بنى العباس، وكان الرشيد معجبا به شديد الحب له. وكان إذا رآه يصطنع الناس بأقواله وأفعاله ورأى محمد بن زبيدة يشتغل بجمع المال وبنى الدور والقرى يتمثّل بهذا البيت:
يبنى الرجال وغيره يبنى القرى ... شتّان بين قرى وبين رجال
وكانت زبيدة تعاتبه دائما وتقول: أنت تحب عبد الله أكثر من ابني. فقال لها يوما وقد ذكرت له ذلك: تريدين أن أعرفك الفرق بين محمد وبين عبد الله؟
قالت: الأمر لك. فدعا «203» خادمين وقال لأحدهما: امض إلى محمد واجلس عنده وانبسط في الحديث ثم قل له في أثناء كلامك: يا سيدي إذا أفضت الخلافة إليك ماذا تصنع معى؟ وقال للآخر: امض إلى عبد الله واجلس عنده وتحدّث معه وقل له في أثناء حديثك مثل هذا وأعد عليّ ما يكون في جوابه فمضيا ولبثا ساعة وعاد

(1/96)


الخادم الّذي نفذه إلى محمد فقال له الرشيد: هات ما عندك، قال: يا أمير المؤمنين دخلت على محمد وعنده جماعة من المطربين والمساخر والصفاعنة والمخانيث وهو يشرب وهم يتصافعون ويتشاتمون وهو يضحك فجلست وتحدّثت كما أمرتنى ثم قلت له في أثناء كلامي: يا سيدي إن أفضت الخلافة إليك ما تصنع بى؟ فقال لي: [36 ب] أعطيك كذا [و] كذا ألف دينار وأقطعك الضيعة الفلانية وأفعل معك وأصنع.
وبيناهم في الحديث جاء الخادم الآخر، فقال له الرشيد: هات ما عندك قال:
يا أمير المؤمنين دخلت على عبد الله فرأيت مجلسه مغتصّا بالفقهاء والشعراء والقرّاء وأصحاب الحديث وهو يفاوضهم فصبرت حتى تقوّض المجلس ودنوت منه ودعوت له وقلت: يا سيدي أرى والله مخايل النجابة عليك وإني لأشمّ من أعطافك روائح الخلافة فإن أفضت إليك فماذا تصنع معى؟ فلما سمع هذا الكلام منى استشاط غضبا وأخذ دواة كانت بين يديه فرماني بها وقال: بل يطيل الله بقاء أمير المؤمنين ويديم دولته ويمدّ في عمره ويجعلنا فداه. ويلك قد جئت تبشّرني بموت أبى وتطلب منى عند ذلك مراعاتى لك وإحساني إليك؟ لا أرانا الله يومه وقدّمنا قبله «204» . فلما سمع الرشيد جوابهما وزبيدة أيضا تسمع قال لها: أتلومينني على الميل إلى عبد الله أكثر من محمد؟ والله ثم والله لولا مراقبتى لك وإشفاقي على قلبك لخلعت محمدا من العهد وقدمت عبد الله عليه.
وحين سافر الرشيد إلى الشام ولّاه الرقة وظهر من شهامته ما حمد أثره فيه.
وحين غزا الرشيد في سنة تسعين ومائة وهي غزاة هرقلة استصحبه معه وبان من شجاعته وإقدامه وتدبيره ما أدهش الناس.
وكانت بيعته بالخلافة ببغداد بعد قتل الأمين لأنه كان قد تسمّى بها وهو بخراسان لما وصله الخبر بقتل عليّ بن عيسى بن ماهان [37 أ] .
ولما قتل الأمين وبويع المأمون ببغداد بالخلافة نفذ طاهر بن الحسين إليه مع

(1/97)


رأس الأمين ولديه عبد الله وموسى والبردة والقضيب والخاتم. وحين رأى المأمون ولدى الأمين ضمّهما وقبّلهما وأكرم مثواهما وأحضر الفقهاء والقضاة وزوّجهما ابنتيه.
وفي هذه السنة نفذ المأمون من خراسان جابر بن الضحاك وفرناس الخادم إلى المدينة لإحضار عليّ «205» بن موسى بن جعفر بن محمد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبى طالب- رضوان الله عليهم أجمعين- فوصل إليه وهو بمرو فنهض له وأجلسه معه على السرير وولّاه العهد من بعده وضرب الدراهم والدنانير باسمه وكتب إلى الآفاق ببيعته وخلع السواد ولبس الخضرة الأسمانجونية، وزوّجه المأمون ابنته أم حبيب. وتزوج المأمون بورّان بنت الحسن بن سهل زوّجه إياها عمّها الفضل بن سهل وزير المأمون، كل ذلك في يوم واحد. وكان الفضل بن سهل وأخوه الحسن منجمين مجوسيين، كانا يدوران القرى ومعهما زنبيل فيه الأصطرلاب وقوت يقتاتان به فأفضى أمرهما إلى أن صار أحدهما وزير المأمون وهو الفضل وصار أخوه الحسن أمير العراق وهما من قرية من سواد واسط يقال لها فم الصّلح «206» .
وحين عقد المأمون البيعة بالعهد لعلىّ بن موسى الرضا قال له: يا أمير المؤمنين إن هذا الأمر لا يتم فأعفنى منه فلم يعفه. ولما وصل توقيع المأمون إلى بغداد بالبيعة لعلىّ ابن موسى الرضا شق ذلك على بنى [37 ب] العباس وقالوا: إن تمت البيعة لعلىّ ابن موسى فهو لا يعهد إلى عباسي قط وإنما يعهد إلى ولده أو إلى أحد من أهل بيته.
فاجتمع أمرهم على شق العصا على المأمون وخلعه من الخلافة فخلعوه وبايعوا بالخلافة إبراهيم بن المهدي الأسود المعروف بابن شكلة ثم لإسحاق بن موسى الهادي بولاية العهد بعده وذلك في المحرم سنة اثنتين ومائتين، واتصل الخبر بالمأمون فندم على ما كان صدر منه. واتفق أن المأمون في يوم عيد أمر عليّ بن موسى الرضا على باب مرو بالخروج والخطبة والصلاة بالناس، فخرج وعلى بدنه قميص أبيض وعلى رأسه قطعة كرباس «207» بيضاء وهو يمشى بين الصفوف ويقول: اللَّهمّ صلّ عليّ وعلى أبويّ

(1/98)


آدم ونوح، اللَّهمّ صلّ عليّ وعلى أبويّ إبراهيم وإسماعيل، اللَّهمّ صلّ عليّ وعلى أبويّ محمد وعليّ، فحين شاهده عسكر المأمون وهو على هذه الحال ترجّلوا كلهم وسجدوا له ووافقوه رجالة إلى المصلّى. وفي تلك الساعة دخل بعض قواد المأمون على المأمون وأخبره بصورة الحال فهاله الأمر وخاف أن تخرج الخلافة من يده في حال حياته، فنفذ من ردّ عليّ بن موسى قبل أن يصل إلى المصلّى وخرج هو وخطب بالناس.
واتفق في عقيب ذلك وفاة عليّ بن موسى فنفذ المأمون إلى بغداد وطيّب قلوب بنى العباس وأعلمهم برجوعه عما كان عليه من بيعة عليّ بن موسى وأخبرهم بموته وطلب من إبراهيم أن يخلع نفسه فما فعل فسار [38 أ] المأمون بنفسه إلى العراق.
وحين وصل إلى سرخس قتل الفضل بن سهل وزيره بها في الحمام. ويقال: إن المأمون ألّب عليه والله أعلم بجلية الحال «208» . وأراد المأمون أن يدفع عن نفسه هذه التهمة لئلا ينسب إلى قلة الحفاظ وسوء العهد فقلّد أخاه الحسن بن سهل الوزارة بعده ودخل بنفسه على أمه فعزّاها عنه وقال لها: إن ذهب أحد بنيك فقد بقي الابن الآخر، وأومأ إلى نفسه. فقالت: يا أمير المؤمنين كيف لا أبكى على ابن جعل لي ابنا مثلك «209» ؟
وكان قدوم المأمون إلى بغداد في رابع عشر صفر سنة أربع ومائتين ولباسه ولباس أصحابه الخضرة. ولما رأى نفرة بنى العباس من الخضرة خلعها وعاد إلى السواد فما بقيت الخضرة إلا ثمانية أيام. وحين دخل المأمون واستقر ببغداد قصد دار زبيدة وعزّاها عن أخيه وبكى معها بكاء شديدا ولعن طاهرا كيف أقدم على قتله. ثم سألته أن يتغدّى عندها ففعل وأخرجت إليه جواري محمد ابنها يغنونه، فغنّته إحداهنّ:
هم قتلوه كي يكونوا مكانه ... كما غدرت يوما بكسرى مرازبه
فإن لا يكونوا قاتليه فإنه ... سواء علينا ممسكاه وضاربه
فوثب المأمون مغضبا، فقالت له زبيدة: يا أمير المؤمنين حرمني الله أجره إن كنت علّمتها أو دسست إليها. فصدّقها وتعجّب من ذلك الاتفاق «210» .

(1/99)


وجلس يوما جلوسا عاما فدخل عليه عمه إبراهيم «211» [38 ب] بن المهدي فقال:
السلام عليك يا أمير المؤمنين فقال له: لا سلام عليك يا إبراهيم فقال له: على رسلك يا أمير المؤمنين لقد أصبح ذنبي فوق كل ذنب كما إن عفوك فوق كل عفو، فقال له المأمون: إن هذين أشارا عليّ بقتلك، وأومأ إلى الحسن بن سهل الوزير وإلى ولده العباس بن المأمون، فقال: يا أمير المؤمنين والله لقد نصحاك وما غشّاك ولكنك إن قتلتني كنت قد عاقبتني على ذنب قد عاقبت عليه الناس قبلك وإن عفوت عنى فقد عفوت عن ذنب ما عفى عنه أحد قبلك. فقال المأمون: إن من الكلام ما يفوق السحر وإن كلام عمى منه، يا عم قد عفوت عنك. وأمّنه على نفسه وماله «212» .
وكان المأمون يقول: إني أحب العفو حتى أخاف أن لا أؤجر عليه، ولو علم الناس حبي للعفو لتقربوا إليّ بالذنوب «213» . وصار إبراهيم بن المهدي بعد ذلك من ندمائه والمتخصصين بخدمته، وكان يداعبه ويقول له: أنت الخليفة الأسود فقال له إبراهيم يوما: يا أمير المؤمنين أما سمعت قول سحيم «214» عبد بنى الحسحاس الأسود:
أشعار عبد بنى الحسحاس قمن له ... يوم الفخار مقام الأصل للورق
إن كنت عبدا فنفسي حرّة كرما ... أو أسود الخلق إني أبيض الخلق
وأنا أقول لك: «والشعر لإبراهيم» :
ليس يزرى السواد بالرجل الندب ... ولا بالفتى الأريب الأديب
إن يكن للسواد فىّ نصيب ... فبياض الأخلاق منك نصيبي [39 أ]
فاستحسن البيتين ووصله.
واختفى الفضل بن الربيع من المأمون والمأمون يتطلبه ويطرح عليه الأعين وذلك لما كان في نفسه منه عند موت الرشيد ولأنه هو الّذي ألبّ عليه بنى العباس ببغداد حتى بايعوا إبراهيم وحسّن لإبراهيم فعله، وفي آخر الأمر ظفروا به وجاءوا به إلى المأمون فلما وقعت عليه عين المأمون قام وسجد ثم رفع رأسه وقال «215» : أتدري

(1/100)


لم سجدت؟ قال: نعم، قال: لماذا؟ قال الفضل: شكرا للَّه على أن أظفرك بعدوّك.
قال: لا والله بل شكرا للَّه تعالى كيف رزقني حلما أعفو به عن جرم مثلك «216» .
امض لحال سبيلك فقد عفوت عنك، ثم أمر فردّ عليه ما كان قد قبض في الديوان من أملاكه وخلع بعد ذلك عليه وأحسن إليه.
ثم إن المأمون أراد أن يبنى ببوران وكان قد أمهرها ألف ألف دينار، فقال أبوها للمأمون: يا أمير المؤمنين تجعل مهرها أن تبنى بها في قريتنا بفم الصّلح «217» فأجابه إلى ذلك. وأمر المأمون بعد ذلك لها بألف ألف دينار فأمر الحسن بن سهل فنثرت على العسكر يوم وصول المأمون إلى فم الصّلح.
وحكى «218» بعض وكلاء المأمون قال: انحدر في جملة المأمون إلى فم الصلح ثلاثون ألفا من الغلمان الصغار والخدم الصغار والكبار وسبعة آلاف جارية. وكان من يتبعهم يزيد على مائتي ألف نفس سوى سفن العسكر أربعة آلاف شبارة كبار وصغار فكنا نجري على ستة وثلاثين ألف ملاح.
وحين وصل المأمون إلى فم الصلح عرض العسكر [39 ب] الّذي انحدر معه فكان أربع مائة ألف فارس وثلاث مائة ألف راجل. وكان الحسن بن سهل كل يوم يذبح في مطبخه ثلاثين ألف رأس من الغنم ومثليها من الدجاج وأربع مائة بقرة وأربع مائة فرس وأربع مائة جمل مدة مقامهم هناك ونفد الحطب من الرحال والآجام وأشجار الكروم فصاروا يعمدون إلى الخيم الكبار ويضربون النفط في أعمدتها وآلاتها من الأخشاب ويوقدونها تحت القدور «219» ، وجاف المعسكر من نتن كبود الحملان والدجاج وصار من ذلك على باب القرية مثل الجبل العظيم حتى احتاج الحسن بن سهل إلى أن نفذ إلى البوادي ومكارية القرى فأحضروا الجمال والبغال والحمير ونقلوا ذلك من موضعه في مدة ثلاثة أشهر ورموا به إلى دجلة وأراحت حافة دجلة إلى حد لم يمكن شرب الماء منها أياما عدة وكانت هذه الدعوة تسمى دعوة الإسلام. وحين بنى المأمون ببوران نثروا «220» من سطح دار الحسن بن سهل على العسكر بنادق عنبر

(1/101)


فاستركّ «221» الناس ذلك وقالوا: في مثل هذا العرس ينثر بنادق عنبر؟! وإذا بصائح يصيح من السطح: كل من وقعت بيده بندقة فليكسرها وكل ما وجد فيها فهو له.
فكسر الناس البنادق و [وجدوا] في وسط كل بندقة رقعة وفي الرقعة مكتوب ألف دينار وفي أخرى خمس مائة وهكذا إلى مائة، وفي بعضها فرس وفي بعضها قرية وفي بعضها عشرة أثواب من الديباج أو خمسة [40 أ] وأقل أو أكثر وفي بعضها بستان وفي بعضها غلام وفي بعضها جارية، فكل من وقعت بيده رقعة حملها إلى الديوان وأخذ ما فيها. ولما كان ساعة الزفاف جلست بوران على حصير منسوج من الذهب، ودخل «222» المأمون عليها ومعه عماته وعدة من نساء بنى هاشم فنثر الحسن بن سهل عليهما ثلاث مائة لؤلؤة وزن كل واحدة مثقال فما مدّ أحد يده إليه فقال المأمون لعماته:
أكرمن أبا محمد بلقطة ومدّ يده فأخذ منه واحدة فحينئذ مدوا أيديهم ولقطوه.
وقال المأمون: قاتل الله أبا نواس كأنه كان حاضرا مجلسنا هذا حيث قال في وصف الخمرة:
كأن صغرى وكبرى من فواقعها ... حصباء درّ على أرض من الذهب
ثم إن الحسن بن سهل بنى للمأمون في أيام كونه بفم الصلح القصر المعروف بالحسنى «223» بالجانب الشرقي. وحين عاد المأمون من فم الصلح وبوران في صحبته نزل به وهو اليوم دار الخلافة ومن ذلك اليوم انتقل الخلفاء من الجانب الغربي إلى الجانب الشرقي. وامتدت أيام المأمون إلى سنة ثماني عشرة ومائتين.
فلما كان في هذه السنة غزا الروم وقهرهم وأخذ حصونهم وسبى ذراريهم وعاد من الغزو وأقام أياما بطرسوس وأعجبه المكان. ولما دخل رجب من هذه السنة خرج يوما إلى متنزه على باب طرسوس فرأى ماء جاريا وأشجارا مشتبكة ونسيما رقيقا، فقال لأصحابه: ننزل ونتغدّى [40 ب] ها هنا. فقالوا: الصواب ما يراه أمير المؤمنين. فنزل ونزلوا وأمر فحمل الغداء إليه إلى ذلك الموضع فحين توسط الأكل قال: إن نفسي تطالبنى الآن برطب جنيّ ويكون أزاذ، فقالوا: يا أمير المؤمنين نحن في بلاد الروم من أين يكون ها هنا رطب أزاذ؟ فقال: نفسي كذا تطلب وهكذا تشتهي. فبينا هم في الحديث إذا سمعوا قعقعة جلاجل البريد الواصل

(1/102)


من بغداد وإذا على البريد أربع كنثات «224» من الخوص ملؤها رطب أزاذ عهده ببغداد أربعة أيام ما تغيّر كأنه جنيّ في تلك الساعة من النخلة. فقدمت بين يديه فأكل منها. وكان ينعى نفسه في تلك الأيام ويقول: ملكت الدنيا وذلت لي صعابها وبلغت آرابى منها ويذكر وصول الرطب في ذلك اليوم ويقول: أظنه آخر عهدي بأكل الرطب، وكذلك كان فإنه مرض بعد أيام وعهد إلى أخيه أبى إسحاق، محمد بن الرشيد «225» . ولما كان في يوم الثلاثاء السادس عشر من رجب، اشتدت علّته وكان نازلا في دار خاقان المفلحي خادم الرشيد المرابط بطرسوس. فأمر أن يفرش له الرماد وينقل عن الفرش التي كان نائما عليها ويوضع على الرماد عريانا ففعل به ذلك، وكان يتقلب على الرماد ويقول: يا من لا يزول ملكه «226» ارحم من زال ملكه. وتوفى من ساعته- رحمه الله- وكان عمره ثمان وأربعين سنة وأربعة أشهر، وصلى عليه أخوه أبو إسحاق المعتصم [باللَّه] ودفن في داره المعروفة بالإمارة بطرسوس المعروفة [41 أ] أيضا بخاقان المفلحي، وفيه يقول الشاعر «227» :
هل رأيت النجوم أغنت عن المأمون أو عن ملكه المأنوس ... خلفوه بعرصتي طرسوس مثلما خلفوا أباه بطوس
أما وزراء المأمون: فأولهم الفضل «228» بن سهل، ذو الرئاستين، ثم أخوه الحسن بن سهل، ثم أحمد بن أبى خالد الأحول، ثم أبو جعفر، أحمد بن يوسف «229» ، ثم أبو عباد ثابت بن يحيى «230» ، ثم محمد بن يزداد «231» .
[قضاته «232» : الواقديّ، ثم محمد بن عبد الرحمن المخزومي، ثم بشر بن الوليد، ثم يحيى بن أكثم.
كتّابه: الفضل بن سهل، ثم أخوه الحسن، ثم أحمد بن أبى خالد الأحول «233» ، ثم أبو جعفر [أحمد] بن يوسف «234» ، [ثم ثابت بن] يحيى، [ثم محمد بن يزداد] [1] وانقضت أيام المأمون- رضى الله عنه-.
__________
[1] ما بين الأقواس لم يرد في نسخة فاتح ولعله من إضافات أحد الذين وقع الكتاب بأيديهم في النسخة التي انتسخت نسخة لا يدن منها.

(1/103)