الإنباء في تاريخ الخلفاء

أمير المؤمنين المهتدي باللَّه «340»
[هو] محمد بن الواثق ويكنى [أبا] عبد الله، وأمه أم ولد اسمها «قرب» .
وحين وصل من بغداد إلى سامراء فوافاها يوم الأربعاء تاسع وعشرين رجب سنة خمس وخمسين ومائتين وأرادوا أن يبايعوه في اليوم المقدم ذكره، قال: لا أفعل حتى أسمع بأذني خلع المعتز نفسه فالمثل السائر: «لا يجتمع فحلان في شول ولا سيفان في غمد» «341» ، فأدخلوه إليه فسلّم عليه بالخلافة وجلس بين يديه، فقالوا له: ارتفع، قال: لا ارتفع إلّا أن يرفعني الله بخلافته. ثم قال له: يا أمير المؤمنين خلعت أمر البرّية عن عنقك طوعا ورغبة، وكل من كانت لك في عنقه بيعة فهو بريء منها؟
فقال من الخوف: نعم! فقال: خار الله لنا ولك يا أبا عبد الله. ثم ارتفع حينئذ إلى صدر المجلس وبايعه الناس واستوزر أبا صالح جعفر بن احمد بن عمّار «342» .
وكان المهتدي زاهدا ورعا صوّاما قوّاما، لم تعرف له زلّة «343» . وكان سهل الحجاب كريم الطبع يخاطب أصحاب الحوائج بنفسه ويجلس للمظالم بنفسه. وكان يلبس القميص الصوف الخشن تحت ثيابه على جلده. وكان يقول: لو لم يكن الزهد في الدنيا والإيثار لما عند الله من طبعي لتكلّفته وتصنّعته فإن منصبي يقتضيه فإنّي خليفة الله في أرضه والقائم مقام رسوله النائب عنه في أمته، وإني «344» لأستحي أن يكون لبني مروان عمر بن عبد العزيز وليس لبني العباس مثله وهم آل الرسول- صلّى الله عليه وسلم- وبه ألزم وإليه أقرب. وكان الناس [60 أ] يروون عن سفيان الثوري أنه كان يقول: «الخلفاء الراشدون خمسة، ويعدّ فيهم عمر بن عبد العزيز» «345» . ثم أجمع الناس في أيام المهتدي من فقيه ومقرئ وزاهد وصاحب حديث أن السادس هو المهتدي باللَّه.
واتفق أنه سمع يوما، وهو بأعلى القصر يشرف على الناس وهم لا يرونه، رجلا يقول لرجل: نصبت ميزاب سطحك في ملكي؟ بيني وبينك أمير المؤمنين، فسجد وبكى ورفع رأسه وقال: الحمد للَّه الّذي أرانى الدنيا هكذا، هذا والله قد طيّب عليّ الموت.

(1/133)


وحكى «346» أن رجلا من الرملة تظلّم إلى المهتدي من عاملها فأمر بإنصافه وكتب له كتاب إليه فأخذه المهتدي ووقّع فيه أسطرا بخطه وختمه بيده وسلّمه إلى الرجل وهو يدعو له. ورأى الرجل في ذلك المجلس أشياء من هذا الفن وشاهد من رحمة المهتدي وبرّه بالرعية وتولية أمورهم بنفسه ما لم ير مثله فاستخفّه الطرب لذلك حتى سقط مغشيّا عليه فنهض المهتدي يعاينه بنفسه فلما أفاق قال له: ما شأنك؟ أبقيت لك حاجة؟ قال: لا والله ولكنى ما رجوت أن أعيش حتى أرى هذا العدل. قال له: كم لزمك منذ خرجت من بلدك؟ قال: أنفقت عشرين دينارا قال المهتدي: إنا للَّه! كان الواجب علينا أن ننصفك وأنت في بلدك ولا نحوجك إلى تعب وكلفة وإذ لم يتّفق ذلك فهذه خمسون دينار من بيت مال المسلمين فإنّي لا أملك مالا فخذها لنفقتك قادما وراجعا واجعلنا في حل من تعبك وتأخّر حقك. قال: فبكى الرجل حتى غشي عليه ثانيا وأجهش بعضهم بالبكاء [60 ب] وبهت البعض فقال واحد من الجماعة:
يا أمير المؤمنين أنت والله كما قال الأعشى:
حكّمتموه فقضى بينكم ... أبلج مثل القمر الزاهر
لا يقبل الرشوة في حكمه ... ولا يبالي غبن الخاسر «347»
فقال المهتدي: أما أنت فأحسن الله جزاءك، وأما أنا فما رويت هذا الشعر ولا سمعت به ولكنى أذكر قول الله عز وجل: «ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا وإن كان مثقال حبّة من خردل أتينا بها وكفى بنا حاسبين» فما بقي في المجلس إلا من استغرق في الدعاء والبكاء جهده ودعا له بطول العمر ونفاذ الأمر.
وللبحترى فيه قصيدة «348» بديعة يصف فيها زهده وسيرته ولبسه للصوف وأوّلها:
إذا عرضت أحداج ليلى فنادها ... سقتك غوادى المزن صوب عهادها
أما لبثة تقضى لبانة عاشق ... بها أو يروّى هائم باتئادها

(1/134)


وددت وهل نفس امرئ بملومة ... إذا هي لم تعط الهوى من ودادها
«349» لو أن سليمى أسجحت أو لو أنه ... أعير فؤادي سلوة من فؤادها
وأحسد أن تسرى إلى من الهوى ... عقابيل تعتاد الجوى باعتيادها
فكم نافسوا في حرقة إثر فرقة ... تعجّب من أنفاسها وامتدادها
وفي ليلة بعنا لطارق شوقنا ... كرى أعين مطروقة بسهادها
غدا المهتدي باللَّه والغيث ملحق ... بأخلاقه أو زائد في عدادها
حمدنا به عهد الليالي وأشرقت ... لنا أوجه الآمال بعد اربدادها [61 أ]
إذا كرّت الآمال فيه تلاحقت ... مواهب مكرور الأيادي معادها
وقد أعجز العذال أن يتداركوا ... لهى تسبق الألحاظ قبل ارتدادها
سرت تتبغاه الخلافة رغبة ... إليه بأوفى قصدها واعتمادها
إمام إذا أمضى الأمور تتابعت ... على سنن من قصدها أو سدادها
متى يتعمّم بالسحاب تلث على ... كفيّ لها يجتاز إرث اسودادها
وإن يتقلد ذا الفقار يضف إلى ... شجاع قريش في الوغى وجوادها
له عزمة ما استبطأ الملك نجحها ... ولا استعتب الأيام ورى زنادها
إذا شوهدت بالرأي بان اختيارها ... وإن غاب ذو الرأى اكتفت بانفرادها
رشيدية في نجرها واثقية ... يرى الله إيثار التقى من عتادها
وما نقلت منه الخلافة شيمة ... وقد مكّنته عنوة من قيادها «350»
وما مالت الدنيا به حين أشرقت ... له في تناهى حسنها واحتشادها
قال البحتري: فلما بلغت إلى قولي:
لسجادة السجّاد أحسن منظرا ... من التاج في أحجاره واتّقادها
وللصوف أولى بالأئمة من سبا ... الحرير وإن راقت بصبغ جسادها «351»
استحسن هذين البيتين.
قال البحتري: فلما فرغت من إنشاد القصيدة قال لي: والله لقد أحسنت في تينك

(1/135)


البيتين، إلا أننى علمت أنك قصدت بهما المعتز وما كنت أحب أن تنشدهما على الملأ فأنسب إلى سماع غيبة أهلي وأنت إلى قلة المحافظة وسوء العهد وليس لي مال أصلك به ولا أرى لك في بيت مال المسلمين حقّا ولكنى أفعل معك [61 ب] فعلا آخر، وأمر بإحضار أهله وأقاربه وقال لهم: أبو عبادة خطيب بيتنا وشاعر دولتنا وليس في يدي شيء سوى الأموال التي في بيت مال المسلمين وهي وديعة في يدي والله يسألنى عنها يوم القيامة ويحاسبني عليها فأجيزوا أبا عبادة عنى، فجمعوا لي بينهم في الحال مائة ألف درهم. فقال المهتدي: يا أبا عبادة والله ما ملكت عشرها قط ولا أملكه إن شاء الله.
وكان بايكباك التركي في أيامه قد خرب الدنيا ونهب العالم وقتل الرعية، وشكى ذلك إليه فأمره دفعات بالكفّ عن ذلك فلم يقبل فأمر بقتله وجرى على لسانه أن قال:
أريد قلع هؤلاء الأتراك وتطهير الدنيا منهم. فاجتمع الأتراك كلهم وخرجوا عليه وقصدوه بسامراء فخرج إليهم إلى الميدان في نحو من عشرة آلاف فارس كلهم ترك وبعضهم عرب وبعضهم مولّدون وبعضهم مغاربة وكانوا هم في نحو من سبعين ألفا فحاربهم فكسروه لأن الأتراك الذين كانوا في عسكره غدروا به وانضموا إليهم «352» ، وانهزم ودخل وفي حلقه مصحف معلّق والبردة على كتفيه إلى بيت رجل من أهل سامراء يعرف بابن جميل فدخلوا خلفه وقالوا: اخلع نفسك فما فعل فأخذ أحدهم خصاه في يده وجعل يمرسها ساعة فمات «353» . وكان قصيرا عريض المنكبين واسع الجبهة طويل اللحية. وكان مولده بالقاطول.
فأما وزراؤه: فأولهم جعفر بن محمود [الإسكافي] وأبو صالح [جعفر بن أحمد] ابن عمّار، وسليمان بن وهب «354» .

(1/136)


أمير المؤمنين المعتمد على الله
[62 أ] هو أبو العباس، أحمد بن جعفر المتوكل وأمه أم ولد يقال لها «فتيان» «355» .
بويع له في اليوم الّذي مات فيه المهتدي، في رجب سنة ست وخمسين [ومائتين] .
وزر له عبيد الله بن يحيى بن خاقان «356» بعد أن امتنع فألزم ودبّر الأمور وأحسن التدبير وتوسّع في الإنفاق من ماله حتى مات وعليه ست مائة ألف دينار وذلك لخلو الخزائن من المال. ولم يكن للمعتمد من الخلافة سوى الاسم والتدبير إلى وصيف وبغا. والشاعر فيهما يقول:
وملك مستعبد ... بين وصيف وبغا
يقول ما قالا له ... كما تقول الببغا «357»
وتغلّب آخر الأمر على الدولة أبو أحمد الموفق أخو المعتمد، وساس الأمور أحسن سياسة وأصلح العالم بعد ما فسد وله الحق العظيم على الإسلام بما رابط الزنج أربع عشرة سنة، فإن صاحب الزنج خرج وأخذ البصرة وبنى عشر مدن حواليها ولولا الموفق لذهب ملك بنى العباس وملك الناس الزنج إلى يومنا هذا وكان له من النجدة والشهامة وكبر الهمة ما فاق به أهل بيته من إخوته وعمومته وكان يسمّى السفاح الثاني «358» لأن السفاح كان ابتداء الدولة وهذا أيضا ابتداء الدولة وقد أشرفت على الزوال. وكان ابنه المعتضد يسمّى المنصور الثاني لشجاعته ودهائه وخبرته بالأمور، وسيجيء ذكره. وولّى وزارته أبا الصقر إسماعيل بن بلبل الشيباني «359» ، ولم يبق للمعتمد على الله تصرف في أمر من الأمور وإنما كان مستهترا بالشرب لا يبرح من الجوسق [62 ب] بسامراء ولا يخرج منه إلا إلى متصيّد أو متنزّه حتى إنه بعد في الصيد إلى نواحي الشام وكان الموفق يرابط الزنج بالبصرة فسمع بذلك فوقع على البريد إلى إسحاق بن كنداجيق «360» والى الشام أن يمنعه من العبور عليه ونفذ إلى العسكر الذين معه يأمرهم أن يعيدوه فأعادوه صاغرا إلى سامراء «361» . وحين قتل صاحب الزنج تلقّب بالناصر لدين الله، وكان بلى بشيء لو بلى به المنصور أو المأمون

(1/137)


لبعل به «362» . فمن جملة ما بلى به ما كان أخوه منهمكا فيه من العشرة وترك النظر في أمور المسلمين وكان يحتاج أن يتولّى ذلك بنفسه. ومن جملة ذلك: خروج صاحب الزنج «363» واستيلاؤه على قطعة كبيرة من بلاد الإسلام، فلما أراحه الله منه وأظفره به، خرج عمرو بن الليث «364» بفارس وكرمان واحتاج إلى قصده بنفسه وانتزاعها من يده، ثم بعد ذلك عصى أحمد بن طولون عليه بمصر، هذا كله مع ذهاب الأموال وفراغ الخزائن وتضاعف النفقات فحسم هذه المواد وقهر هؤلاء كلهم ودانت له الدنيا وأصلحها بعد فسادها.
وفي سنة إحدى وستين ومائتين ولى المعتمد على الله ابنه العهد ولقّبه «المفوض إلى الله» «365» . وفي سنة ثمان وسبعين اشتدت علّة الموفق وكان ابنه أحمد محبوسا فأخرجه القواد من الحبس فدخل عليه فحين رآه أدناه وقبّله وأومأ إليهم أن يكون هو بعده «366» أمين الدنيا، ثم أراد أن يكلّمه فقال: أحمد، ومات وذلك في ليلة الخميس لثمان ليال بقين من صفر من هذه السنة ودفن [63 أ] بالرصافة وقام ابنه أحمد مقامه.
وحكى «367» أحمد بن الموفق قال: رأيت في منامي وأنا محبوس أمير المؤمنين عليّ بن أبى طالب- عليه السلام- يقول لي: أمر الخلافة يصل إليك فاعتضد باللَّه وأكرم أولادي. قال: فانتبهت ودعوت الخادم الّذي كان بخدمتي في الحبس وأعطيته فص خاتم كان في يدي لا نقش عليه وقلت له: امض إلى الحكّاك وقل له ينقش عليه:
المعتضد باللَّه أمير المؤمنين فقال لي: يا سيدي هذه مخاطرة بالنفس مع أبيك وعمك، أين نحن من الخلافة وأين الخلافة منّا وإنما غاية مأمولنا أن نتخلص من هذا الحبس ونشم الهواء وتسلم لنا نفوسنا. فقلت له: لا تهذ وامض وافعل ما آمرك به فإن أمير المؤمنين عليّا ولّاني الخلافة وهو لقّبنى المعتضد باللَّه. فمضى وعاد إليّ بعد ساعة والفصّ معه وعليه مكتوب «المعتضد باللَّه أمير المؤمنين» بأوضح خط وأبينه، فقلت له: اطلب لي دواة وكاغدا فجاءني بهما فجعلت أقسّم الدنيا. وأرتب الأعمال وأولّي العمال والولاة وأصحاب الدواوين، فبينا أنا في ذلك جاء القوم وأخرجونى.

(1/138)


وبعد موت الموفق أبى أحمد بأيام، دخل أحمد بن الموفق على عمه المعتمد على الله بسامراء وقصّ عليه المنام وقال: إن لم تخلع ابنك من العهد برضاك فأنا أخلعه بعدك فإن أمير المؤمنين عليّا- كرم الله وجهه- ولّانى هذا الأمر. فخلع ابنه وولّاه العهد بعده.
وقدم المعتمد بغداد ونزل بالقصر الحسنى «368» الّذي هو اليوم دار الخلافة ومات به في رجب سنة تسع وسبعين ومائتين وكان موته [63 ب] بعد موت الموفق بسنة وكان أسنّ من الموفق بستة أشهر. والبحتري لم يدرك خلافة المعتضد وإنما أدرك إمارته. ورثى الموفق بالنونية وهي:
نسعى وأيسر هذا السعي يكفينا ... لولا تطلّبنا ما ليس يعنينا
نروض أنفسنا أقصى رياضتها ... على مواتاة دهر لا يواتينا
إن أنت أحببت أن تلقى ذوى أسف ... على فقيدهم فاحلل بوادينا
رزية من رزايا الدهر شاغلة ... لناصر الدين عن أن ينصر الدينا «369»
وكان الخليفة بالحقيقة في زمان المعتمد هو الموفق الناصر لدين الله، ولم يكن للمعتمد منها إلا الاسم.
أما وزراء المعتمد «370» : فأولهم عبيد الله بن يحيى بن خاقان، وثانيهم الحسن بن مخلد ثم سليمان بن وهب ثم إسماعيل بن بلبل ثم صاعد بن مخلد ثم إبراهيم بن المدبر، هؤلاء كلهم إنما كان يوليهم الموفق ومرجعهم إليه.

(1/139)