الإنباء في تاريخ الخلفاء
أمير المؤمنين المعتضد باللَّه
هو أبو العباس [أحمد] بن الأمير الموفق الناصر لدين الله، أبى أحمد،
طلحة ابن جعفر المتوكل على الله.
بويع للمعتضد يوم الاثنين ثالث رجب من سنة تسع وسبعين ومائتين وله سبع
وثلاثون سنة لأن مولده كان في ربيع الأول سنة أربعين ومائتين، وأمه أم
ولد اسمها «ضرار» «371» .
وكان المعتضد باللَّه أكمل الناس عقلا وأعلاهم همّة، حلب الدهر أشطره
وعاقب بين شدته ورخائه. وكان مقداما عادلا سخيّا، اجتمع فيه من محاسن
[64 أ] الشّيم ومكارم الأخلاق ما تفرق في جماعة من أهل بيته وما كان
يقر في دار الملك بل قطع أيامه بالأسفار في شرق الأرض وغربها لغزو
الكفار أو لقمع الخوارج.
وكان قد أبطل المضارب الكبار. وكانت غزواته شبيهة بالكبسات. وكان [قد]
أمر جميع عسكره أن يستصحب كل واحد منهم تحت ركابه الزاد والماء
والمقدحة والحراق. وكان يقول: ما أقصد أحدا على غفلة باسم الخلافة إلا
هاله أمرى. وكان إذا قصد ثغرا أو عدوّا لا يعرف له خبر قبل وصوله إليه.
وكان يبقى عليه القباء السنة والأقل والأكثر لا ينزعه عن بدنه. وكان
يقول: أن الّذي أصلحت الدنيا بعد ما فسدت ورددت ملك بنى العباس بعد ما
ذهب، وكان صادقا في قوله.
وذكر مناقبه لا يتسع لها مجلدات، إلا أننى أذكر من ذلك ما يحتمل هذا
المختصر.
حكى «372» أن تاجرا عامل بعض الأمراء أيام المعتضد باللَّه فمطله فشكا
ذلك إلى بعض أصدقائه فقال له: عليك بفلان الخياط إمام المسجد الفلاني
فهو يستخرج لك الحق منه. قال: فقصدت الخياط وسلّمت عليه وشرحت له حالي
وسألته في استخلاص حقي فقال: حبّا وكرامة ونفذ معى إليه رقعة لطيفة
فعرضتها عليه فتغيّر وجهه ثم أمر فسلّم إليّ المال في الحال فأخذته
ووضعته في بيتي وعدت إلى الخيّاط
(1/140)
وقلت له: يا سيدي ما الّذي كان في رقعتك
إلى هذا التركي وو الله ما أنت إلا ساحر فإنّي قد تشفّعت إليه بكل كبير
من أركان الدولة وما نفعني ذلك شيئا. فقال [64 ب] لي: أليس قد وصل إليك
حقك؟ قلت: بلى! قال: فما لك ولهذا؟ قلت: والله ما أفارقك أو تخبرني.
قال: أنا رجل مؤذّن وأصلى بالناس في هذا المسجد فخرجت ليلة على عادتي
لغلق الباب فرأيت غلاما تركيّا سكران وهو يجاذب امرأة ويجرّها وهي
تستغيث وهو لا يتركها فتقدّمت إليه وتشفّعت إليه في أمرها فلم يقبل منى
واجتمع أهل المحلة واجتهدوا بكل حيلة أن يخلصوها من يده فلم يقدروا على
ذلك وأخذها وأدخلها إلى بيته فصعدت المنارة وأذّنت وهذا المسجد كما
تراه ملاصق لدار الخلافة فسمع المعتضد باللَّه أذانى ولم يكن وقت
الأذان وكان بعد جالسا ما نام. فبينا أنا بعد على رأس المنارة وإذا
بخادم يطلبني ويقول: أجب أمير المؤمنين فقلت: السمع والطّاعة فأخذني
وحملني إلى الخليفة وهو جالس فقبّلت الأرض ووقفت. فقال لي:
ما هذا الأذان في غير وقته؟ قلت: يا أمير المؤمنين إنما هذا شيء قصدته
تعمّدا لتسمعه وعلمت من همتك العالية أنك لا تغفل السؤال عن مثله فإذا
سألتني عنه أخبرتك بسببه. قال: هات ما عندك، فقصصت عليه القصة فأمر في
الحال فأحضر التركي وأمر به فجعل في غرارة مملوءة نورة ودقّ بمداق حتى
اختلطت عظامه بها ورمى به في دجلة. وقال لي: كلما شاهدت منكرا أخبرنى
به والعلامة بيني وبينك الأذان في غير وقته. وقد تسامع الناس بذلك فكل
من كانت له حاجة يقصدني فأؤذّن في غير وقت الأذان فيسمع المعتضد
فيحضرني ويسألنى عن سبب [65 أ] الأذان فأخبره بحال صاحب الحاجة فيأمر
بقضاء حاجته. وحين قصدتني شاكيا من غريمك كتبت إليه رقعة أقول فيها:
«تعطيه حقه أو أؤذّن؟» فأعطاك حقّك.
ومن جملة ما يحكى عن سياسة المعتضد باللَّه وعدله، أنه لما سافر إلى
بلاد فارس اجتاز بقراح «373» بطيخ وإذا جماعة من الغلمان الأتراك قد
تناولوا منه عدة وصاحب القراح يستغيث وهم غير مكترثين به فحين وقعت
أعينهم على المعتضد رموا ذلك من
(1/141)
أيديهم وتهاربوا فوقف مكانه وأمر بهم فشدّت
أيديهم وأرجلهم وضرب كل واحد منهم مائة مقرعة وهو يقول لهم: يا أولاد
الزنا أنتم زرعتموه، أنتم سقيتموه، أنتم تؤدّون خراجه، أليس هذا ملك
هذا الإنسان، أليس هو الّذي تعب فيه وحرثه وسقاه وأدّى خراجه؟ أما كان
في نعمتي عليكم سعة فتشترون ذلك منه؟ حتى جئتم تأخذونه مجانا؟ وذلك
الرجل واقف يضج بالدعاء له ويسأل في الغلمان وهو لا يجيب سؤاله ثم
التفت وقال له: كم عليك من الخراج كل سنة؟ قال: كذا وكذا درهما، فأمر
بأن يوقع له برفع الخراج عنه ثلاث سنين وقال له: اجعلني في حلّ مما صدر
منهم فهو بالحقيقة منى وأنا المطالب به في الآخرة والمعاتب عليه في
الدنيا. ثم سار حتى إذا وصل إلى المنزل أمر بالغلمان فصلبوا بعد أن أمر
أن تلثّم وجوههم. ولما عاد من تلك السفرة إلى بغداد أمر بقتل طبيبة
أحمد «374» بن الطيب وكان زنديقا. فقال له:
يا أمير المؤمنين إذا لم يكن لك بد من قتلى فلا تقتلني بالسيف فقال له
[65 ب] المعتضد:
فيما ذا؟ قال: تأمر أن أطعم كبابا وأسقى شرابا فإذا سكرت فصدت من كلتى
يدي إلى أن يستصفى دمي حتى لا أتألم بالموت. قال: لك ذلك، ثم أمر بما
سأل فيه، فحين فصد من كلتى يديه أصابته الصفراء وقام كالمجنون من أول
ذلك المجلس الّذي كان فيه إلى آخره يومه أجمع ولم يتألم أحد بالموت
كتألمه وما نفعه طبّه.
وحكى «375» ابن حمدون النديم «376» قال: كان له أصحاب أخبار يرفعون
إليه كل ما يجرى في الأسواق فرفع إليه بعض أصحاب الأخبار أن إسكافا قال
لقطّان، وقد طالبه بدين كان له عليه وكان يمطله به، ما بقي للمسلمين من
ينظر في أحوالهم «377» .
قال ابن حمدون: وكنا في مجلس الأنس فحين قرأ الرقعة احمرّت وجنتاه
وقامت عيناه في رأسه وقال: هاتم سوادي ومنطقتي وسلاحي فجاءوا به فلبس
السواد وتمنطق وتقلّد سيفا وأخذ في يده حربة وأمر بالقواد فأدخلوا إلى
المجلس الّذي كان يجلس فيه للسلام. وخرج فجلس على السرير وقال لبدر
الحاجب الكبير: عليّ بفلان الإسكاف فما كان بأسرع من أن جاءوا به، فلما
رأى المعتضد ارتعد وأبلس. فقال له المعتضد:
(1/142)
ويلك ما الّذي قلت اليوم لفلان القطّان؟
فلم يحره جوابا وأعاد عليه القول ثانيا فقال: يا مولانا ما قلت شيئا،
قال: كذبت بل قلت له: ليس للمسلمين من ينظر في أمورهم. ثم قال المعتضد
له: ويلك فإن كان الأمر كما قلت فأين أنا وأيّ شيء شغلي؟
فسقط الإسكاف على وجهه مغشيّا عليه [66 أ] ونهض المعتضد ثم أمر أن
ينتصف له من خصمه.
قال ابن حمدون: وكنا لما قام قد تبادرنا نحو المجلس الّذي خرج إليه
ونحن ننظر ما يجرى من خصاصات الأبواب. فلما نهض بادرنا مسرعين وجلسنا
في الموضع الّذي كنا فيه ومضى وخلع السواد والمنطقة وعاد إلينا فوقع
علينا كلنا الضحك فقال: ممّ تضحكون؟ فقلنا بأسرنا: يا مولانا رجل دائص
عامي «378» يجرى بينه وبين عامي آخر كلام في السوق كان يمكنك حيث أردت
حسم المادة في مثله أن تأمر أقل غلمان الحجاب بزجره وكان ذلك يكفى،
فقمت بنفسك ولبست سوادك وشهرت سلاحك وخاطبته بنفسك وقد كان في بعض هذا
بلاغ ومقنع. فقال: ليس الأمر كما تظنون فإن العوام إذا أمرجوا في مثل
هذا القول تجسّروا على أمثاله وتناقلته الألسن واشتهر عنى في البلاد
فحسم مادته أول الأمر أشبه بالحزم وإنما تولّيت خطابه بنفسي ليعلم
الخاصة والعامة أن مثل هذا الأمر الحقير لا أهمله ولا أكله إلى وزير
ولا إلى حاجب فيكون مراقبتهم لي وخوفهم منى في الأمور الكبار أشد
وأعظم. قال: فحين سمعنا كلامه لم يبق فينا إلا من ضجّ بالدعاء له
والرغبة إلى الله تعالى في إدامة دولته.
وحكى «379» ابن حمدون قال: كنّا يوما عنده ونحن على مجلس المنادمة فوضع
خادم له رقعة بين يديه فقرأها ثم أمر بالدواة فأحضرت وأخذ درجا وكتب
فيه ونحن نرى ما يكتبه: «عامل كرج «380» أهمل أمر عمله حتى دخل
ديلميّان إلى مدينته في يوم كذا، اسم كل واحد منهما وحليته كذا [66 ب]
وقد نزلا في موضع كذا فساعة وقوفه على هذا التوقيع يقبض عليهما
وينفذهما مقيّدين على خيل البريد والسلام» .
ثم قال للخادم: احمل هذا التوقيع إلى الديوان ومرهم بتنفيذه على
البريد. قال:
(1/143)
فتواقحت عليه وقلت: يا مولانا وإن دخل
ديلميّان إلى كرج أو عشرة من الديالم ماذا يكون؟ قال: أقول لك ماذا
يكون؟ قلت: نعم قال: إذا دخل اليوم ديلميّان ولم يتعرّض لهم دخل غدا
أربعة وصاروا بعد غد مائة وصعب على والى البلد إخراجهم فتمكّنوا وربما
أخرجوه واستولوا على مدينة من مدن المملكة وإذا استولى خارجي على مدينة
قوى على غيرها بها وإذا أهملت مثل ذلك أفضى الأمر إلى أن ينازعونى على
هذا السرير الّذي ورثته من آبائي. فقلت له: يا أمير المؤمنين أنت أعرف
بوجه المصلحة والله أعلم حيث يجعل رسالاته.
قال ابن حمدون «381» : وكنت قد حلفت أيمانا بالمصحف والطلاق كلما يحصل
لي من القمار لا أصرفه إلا في القمار أو في ثمن نبيذ أو إلى جذر «382»
مطرب فاتفق أنى لعبت يوما مع المعتضد بالنرد فغلبته ألف دينار ثم لعبنا
ندبا آخر فغلبته ألف [دينار] أخرى ثم هكذا حتى غلبته سبعة أنداب في كل
ندب غلبته ألف دينار وقلت له: أريد المال فالتفت عنى فأعدت القول عليه
فقال لي: يا أحمق وأنت تتوقّع الآن منى سبعة آلاف دينار؟ قلت: نعم!
قال: والله ما يكون هذا أبدا. قلت له:
أتضغوا؟ قال: نعم والتفت إلى الحاضرين وقال لهم: اشهدوا عليّ أنى قد
ضغوت «383» . ثم قام وصلّى فلما فرغ من الصلاة [67 أ] عاد إلينا وأمر
فحمل من الخزانة سبعة آلاف دينار فصبّت على نطع بين يديه وقال لي: يا
ابن حمدون، قلت:
لبّيك! قال: كنت سمعت منك أنك حلفت بأيمان لا مخلص لك منها أن كل ما
يحصل لك بالقمار لا تخرجه إلا في القمار وفي ما يشبه ذلك ولو أنى
أعطيتك هذا المبلغ بالقمار لما أمكنك صرفه إلا في القمار وإنما ضغوت
عليك وتفرقنا عن ذلك المجلس لأدفعه إليك هبة منى وصلة فتصرفه في ثمن
قرية يعود عليك دخلها وأيضا حتى لا يحكى عنى أنى قامرت في سبعة آلاف
دينار من بيت مال المسلمين. قال: فقمت وقبّلت البساط ودعوت له وأخذتها
واشتريت بها قرية كما أمرنى تغل في كل سنة ألف دينار «384» .
(1/144)
قال «385» : وكان قد أمرنا إذا رأينا شيئا
ننكره أن نقوله له وإن أطلعنا له على عيب واجهناه به. فقلت له يوما،
ونحن على مجلس أنس: يا مولانا، في قلبي شيء أردت سؤالك عنه منذ سنين.
قال: ولم أخّرته إلى هذه المدة؟ قلت: استصغاري لنفسي وهيبة الخلافة
منعانى عن ذكره. قال: قل ولا تخف. قلت: ذلك اليوم حين اجتزت في بلاد
فارس وأمرت بضرب الغلمان وحبسهم قد كان ذلك كافيا فلم أمرت بصلبهم وما
اعتمدوا ما يستوجبون عليه القتل؟ قال: أو تحسب أن المصلّبين كانوا هم
الغلمان؟ وبأىّ وجه كنت ألقى الله تعالى يوم القيامة لو صلبتهم جزاء
على غصب البطيخ وإنما أمرت بإخراج أقوام من قطّاع الطريق قد وجب عليهم
القتل وأمرت بأن يلبسوا أقبية الغلمان وقلانسهم «386» إقامة للهيبة في
قلوب العسكر حتى [67 ب] إذا علموا أنى إذا كنت أصلب أخصّ غلماني على
غصب بطيخ فكيف أكون مع غيرهم في غصب ما زاد على ذلك؟ وإنما أمرت عند
صلبهم بتلثيمهم ليتستّر الأمر على الناس. ثم قال لي: أبقى عندك شيء؟
قلت: لا، قال: بلى والله أرى في وجهك كلاما، قلت: أقول عن إذنك؟ قال:
قل، قلت: أحمد بن الطيّب طبيبك وخاصك وغرس دولتك لم قتلته؟ قال: ويلك
إني كنت سمعت أنه زنديق ولم أصدّق ذلك عليه فجاءني في خلوة يدعونني إلى
دين الزندقة فقلت له: إني ابن عم رسول الله- صلّى الله عليه وسلم-
وقائم في مقامه وخليفة الله في أرضه فإذا تزندقت من أكون؟
فأخذ يراجعني ويلحّ عليّ ففعلت به ما فعلت ولم أعلم أحدا بسبب ذلك حتى
لا يكون ذلك عارا على أعقابه واحتملت ما عليّ في ذلك من قلة الوفاء
وسوء العهد وقد أحوجتنى الآن إلى ذكره واكتم أنت ذلك أيضا عليه.
وقال «387» ابن حمدون: ما رأيت في عمري أقوى قلبا ولا أشجع من المعتضد.
انفرد يوما عن العسكر وكنت معه لا ثالث لنا فلما بعدنا عن الخيم وصرنا
في وسط الصحراء خرج علينا الأسد وقرب وقصدنا فقال لي: يا ابن حمدون
أفيك خير؟ قلت:
(1/145)
لا يا سيدي قال: ولا تلزم لي فرسي؟ قلت:
بلى! فنزل عن فرسه ولزمتها وتقدم إلى الأسد وأنا أراه وجذب سيفه فوثب
الأسد عليه ليلطمه فتلقّاه بضربة وقعت في جبهته فقسمها نصفين ثم وثب
الأسد وثبة أخرى إلا أنها كانت أضعف من الأولى فتلقّاه بضربة أخرى أبان
بها يده ثم رام أن يثب [68 أ] أخرى فصار المعتضد وراءه وركبه ورمى
بالسيف عن يده وأخرج سكّينا كانت في وسطه فذبحه من قفاه ثم قام وهو
يمسح السكين والسيف بشعر الأسد وعاد وركب فرسه وقال: إياك أن تخبر بهذا
أحدا فإنما قتلت كلبا.
قال ابن حمدون: وإلى أن مات المعتضد والله ما تحدّث بهذا ولا قال يوما
على صحو ولا سكر إني قتلت الأسد ولا عاتبني على ترك معاونتى له ولا
أظهر لي تغيّرا.
وقد كان المعتضد يستشعر من عبد الله بن المعتز وأراد القبض عليه وحبسه
فقال له وزيره عبيد الله بن سليمان بن وهب: يا أمير المؤمنين إن عبد
الله بن المعتز لا يحدّث نفسه بالخلافة وإنما همته في شعر ينظمه أو
كتاب يصنّفه وليس موضعا للاستشعار منه حتى قال فيه عبد الله بن المعتز:
رب أستبقيك نفس ابن وهب ... وسميعا قد دعوت مجيبا
رب خطب كان منه مجّنى ... فوقى الخوف وجلّى الكروبا
لست ما عشت ألين لدهر ... بل ألاقيه عبوسا قطوبا
رب ليل نمته وابن وهب ... ساهر يطرد عنى الخطوبا «388»
وفي سنة ثمان وثمانين ومائتين مات عبيد الله بن سليمان وولّى المعتضد
ابنه القاسم بن عبيد الله مكانه. ولابن المعتز يرثيه من كلامه:
قد استوى الناس ومات الكمال ... وقال صرف الدهر أين الرجال
هذا أبو القاسم في نعشه ... قوموا انظروا كيف تزول الجبال
يا حارس الملك بآرائه ... بعدك للملك ليال طوال [68 ب]
وفي هذه السنة وقع المعتضد إلى الأمير إسماعيل بن أحمد بن سامان واليه
بما وراء النهر
(1/146)
بقصد عمرو بن الليث الخارجي بخراسان فقصده
وتلاقيا على شط جيحون فكسره الأمير إسماعيل وأخذه أسيرا ونفذ به إلى
الحضرة «389» وكان قبل ذلك قد نفذ عمرو رسولا إلى بغداد بالتحف
والهدايا للمعتضد وأركان دولته ليزول عنه اسم العصيان وكان في جملة ذلك
الحمل مما أهداه إلى الخليفة جمال. فحين جيء به أسيرا أمر [المعتضد]
فأركب جملا وشهر في الأسواق والدبادب تضرب بين يديه وكان ذلك الجمل مما
أهداه إلى الخليفة. وفي ذلك يقول أبو الحسن عليّ بن الفهم «390» :
ألم تر هذا الدهر كيف صروفه ... يكون يسيرا أمره وعسيرا
وحسبك يا ابن الليث نبلا وعزة ... تروح وتغدو في الجيوش أميرا
حباهم بأجمال ولم يدر أنه ... على جمل منها يقاد أسيرا
وكان ابن الليث صفارا من أهل فارس تغلّب على خراسان وأخذها من بنى طاهر
حتى نفذ المعتضد إلى الأمير إسماعيل بن أحمد فكفاه أمره ولمحمد «391»
بن بسّام فيه، وقد أركب الجمل وسوّد وجهه وكان يرفع يده إلى السماء
ويدعو بكلام لا يسمعه أحد:
أيها المغترّ بالدنيا أما أبصرت عمرا ... مقبلا قد ركب الفالج بعد
الملك قسرا
رافعا كفّيه يدعو الله إسرارا وجهرا ... أن ينجّيه من القتل وأن يعمل
صفرا [69 أ]
وكان المعتضد يستحسن قول سلم الخاسر في موسى الهادي: «موسى المطر غيث
بكر» ، ويقول: هذا صعب لأنه كلما تحرك القائل لحقته القافية، فقال يحيى
ابن عليّ المنجّم يمدحه «392» :
طيف ألمّ بذي سلم بين الخيم ... يطوى الأكم يشفى السقم
ثم انصرم فلم أنم شوقا وهم
(1/147)
ومنها في المدح:
أحمد لم سد الثلم حوى الهمم ... وما احتلم جلّى الظلم
رعى الذمم حمى الحرم ... له النعم مع النقم فالخير جم
إذا ابتسم والماء دم إذا انتقم
ولما دخلت سنة تسع وثمانين ومائتين مرض المعتضد من كثرة أكل الصحناء
والكوامخ والسموك «393» المملّحة ومات في يوم الجمعة التاسع عشر من
ربيع الآخر من هذه السنة، ودفن في بغداد بدار محمد بن عبد الله بن طاهر
«394» . وكان ابن خمس وأربعين سنة. وكانت خلافته تسع سنين وتسعة أشهر.
وقال فيه ابن عمه عبد الله ابن المعتز يرثيه «395» :
يا دهر ويحك ما أبقيت لي جلدا ... وأنت والد سوء تأكل الولدا
يا ساكن القبر في غبراء مظلمة ... بالطاهريّة مقصى الدار منفردا
أين الجيوش التي قد كنت تصحبها ... أين الكنوز التي أحصيتها عددا
أين السرير الّذي قد كنت تملؤه ... مهابة من رأتها عينه ارتعدا
أين الأعادي الّذي ذللت صعبهم ... أين الليوث التي صيّرتها نقدا
أين الوفود على الإيوان عاكفة ... ورد القطا صفو ماء جال واطردا
أين القصور التي شيّدتها فعلت ... ولاح فيها سنا الإبريز واتّقدا
أين الجنان التي تجرى جداولها ... وتستحثّ إليها الطائر الغردا [69 ب]
أين الوصائف كالغزلان رائحة ... يسحبن من حلل موشيّة جددا
أين الملاهي وأين الراح تحسبها ... ياقوتة كسيت من فضة زبدا
أين الجياد التي حجّلتها بدم ... وكن يحملن منك الضّيغم الأسدا
أين الرماح التي غذّيتها مهجا ... مذ مت ما وردت قلبا ولا كبدا
أين السيوف وأين النبل مرسلة ... يصبن ما شئت من قرن وإن بعدا
أين المجانيق أمثال الفيول إذا ... رمين حائط حصن قائما قعدا
(1/148)
أين الوثوب على الأعداء مبتغيا ... صلاح
ملك بنى العباس إذ فسدا
قد انقضيت فلا عين ولا أثر ... حتى كأنك يوما لم تكن أحدا
وله فيه من أخرى:
ألست ترى موت العلى والمحامد ... وكيف دفنا الخلق في قبر واحد
وللدهر أيام تسيء عوامدا ... ويحسنّ إن أحسنّ غير عوامد
وأما وزراء المعتضد باللَّه: فهم عبيد الله «296» بن سليمان بن وهب،
وكان يرمى بالأبنة، وابنه القاسم «397» بن عبيد الله وكان كذلك وكان
جده سليمان بن وهب من المشهورين بهذه العلّة، وفيهم يقول الشاعر:
إذا رأيت بنى وهب بمنزلة ... لم تدر أيهم الأنثى من الذكر
قميص أنثاهم ينقدّ من قبل ... وقمص ذكر انهم تنقد من دبر «398»
[1] وفي سليمان بن وهب خاصة يقول الشاعر:
يا من يقلب طومارا وينشره ... ماذا بقلبك من حب الطوامير
شبّهت شيئا بشيء أنت تأمله ... طولا بطول وتدويرا بتدوير [70 أ]
وفيه أيضا قيل:
إن في الديوان شيخا ... يشتهي في الاست داخل
يا سليمان بن وهب ... في حرام المتغافل
وكان الحاجب الكبير وقائد الجيش في أيام المعتضد باللَّه بدر «399»
المعتضدي ويكنى أبا النجم.
وانقضت أيام المعتضد باللَّه- رحمة الله عليه-.
__________
[1] الأبيات لدعبل الخزاعي وهي في ديوانه وأوردها الجرجاني الثقفي في
المنتخب من كنايات الأدباء (القاهرة 1326/ 1908) 47.
(1/149)
أمير المؤمنين المكتفي باللَّه
هو أبو محمد، عليّ بن المعتضد باللَّه. وأمه جارية تركية اسمها «ججك»
«400» .
بويع له بعد وفاة أبيه بيومين ولم يل الخلافة بعد النبيّ- صلّى الله
عليه وسلم- من اسمه عليّ إلا عليّ بن أبى طالب- صلوات الله عليه-
والمكتفي باللَّه «401» . وكان أبوه، حين اشتدت علّته، سئل في أن يعهد
إلى أحد فقال: والله ما أسمّى لها أحدا ولقد كفاني ما تقلّدت منها
فبايعوا من شئتم. فأجمعوا على المكتفي.
وحين استقرّ في الخلافة أكرم أهله ووصلهم وسائر بنى هاشم وخلع على عبد
الله ابن المعتز وأمره أن يركب إلى المواكب في سواد وبسيف بحمائل ففعل
ما أمره به ثم أراده لمنادمته فاعتذر «بأن بى سلس البول وإني أحتاج إلى
القيام في كل يوم دفعات ولا يليق ذلك بمجالس الخلفاء» .
وكان المكتفي يجلس للمظالم بنفسه وردّ حقوقا كثيرة.
وكان بدر المعتضدي مستشعرا من المكتفي ببلاد الجبل لمنافسة كانت بينهما
في أيام المعتضد فكتب إليه المكتفي كتابا بيده «402» هذه نسخته:
«أمتعنى الله ببقائك، ثق باللَّه عز وجل وبما لك عندي [70 ب] فإنّي
عالم بنيّتك واثق بأمانتك ولا تستشعر مما كان بيننا فإن تلك كانت حال
منافسة وهذه حال خلافة وأنا أحق من عبد الملك بن مروان بقول الأخطل:
شمس العداوة حتى يستقاد لهم ... وأعظم الناس أحلاما إذا قدروا
فلما قرأ خطّه طابت نفسه وبادر إلى بغداد فلما وصل إلى النهروان أوقف
له القاسم ابن عبيد الله الوزير من اغتاله وقتله وحسّن ذلك للمكتفى
لأنه كان غالبا على أمره.
ومن أعجب الأشياء أن المعتضد باللَّه لما مات عبيد الله بن سليمان
ذكروا عنده جماعة للوزارة فقال بدر، وكان هو المعتضد على الحقيقة: يا
أمير المؤمنين القاسم عبدك وربيب نعمتك ونشؤ دولتك وفيه كفاية وله دربة
بالعمل، ولو راعيت حق أبيه مع كفايته لكان أولى من غيره وردّد عليه
القول حتى استوزره على كره منه. فلما خرج بدر
(1/150)
من حضرة المعتضد باللَّه قال المعتضد لمن
حضر: والله ما يقتل بدرا سوى القاسم فكان كما قال «403» . وحين جيء
برأس بدر إلى المكتفي وأظهر القاسم أنه كان عدوّا لدولته قال يحيى بن
عليّ المنجّم تقربا إلى قلب القاسم:
بعدا لمن لا يشكر الإنعاما ... ويرى لمولاه عليه ذماما
أولى الأنام بأن يهان ويسلب ... الإكرام من لا يعرف الإكراما
لم يدر لما أرضعته درّها ... الدنيا بأن مع الرضاع فطاما
ولم تطل بعده مدة القاسم بن عبيد الله فإنه توفى في سنة إحدى وتسعين
[71 أ] ومائتين وانتشر موته في دولة المكتفي. وكان «404» إذا التفت إلى
وزيره بعده وأصحابه ينشد:
ولما أبى إلا جماحا فؤاده ... ولم يسل عن ليلى بمال ولا أهل
تسلّى بأخرى غيرها فإذا التي ... تسلّى بها تغرى بليلى ولا تسلى
وولى المكتفي بعده العباس بن الحسن.
وحكى «405» محمد بن يحيى الصولي في كتاب الوزراء، قال: لقد رأيت عجبا،
كنّا في عزاء القاسم وفيه جميع أهل بغداد وأركان الدولة وأرباب المناصب
وفي الجملة العباس بن الحسن، فحين صلّينا عليه وأردنا الانصراف تقدّم
العباس بن الحسن إلى ولديه فقبّل يديهما، ولما كان قريبا من الظهر
استوزر المكتفي العباس بن الحسن وجلس في الديوان ينظر إلى بعد العصر ثم
نهض وعاد إلى العزاء وكان القاسم قد دفن في داره فمضى لزيارة القبر
فتلقّاه ولدا القاسم وقبّل كلّ واحد منهما يده، هذا في يوم واحد وما
طالت المدة.
وحكى الصولي قال: ما رأيت أكرم من المكتفي، كنّا يوما بين يديه فقال
ليحيى ابن عليّ المنجّم «406» : يا يحيى باللَّه عليك كيف أشرت على أبى
أن يولّى العهد غيري وقلت في ذلك شعرا؟ فحلف واجتهد وقال: يا سيدي لقد
كذب عليّ وكيف كنت أقول ذلك؟ ألست القائل لمولانا المعتضد لما سار إلى
آمد في قصيدة طويلة أولها:
(1/151)
ينتثر الدرّ من تكلّمها ... ويلمع البرق من
تبسّمها
وقلت فيها [71 ب] :
إن عليّا علا بهمّته ... حيث الثريا في بعد أنجمها
حكى أباه بفضله وغدا ... من العرى آخذا بأحزمها
فقال له: يا يحيى قلت له ذاك أولا وحيث لم يصغ إلى كلامك قلت هذا ولست
محتقدا عليك بذلك ولا أريد أن أجازيك على ذلك بسوء، معاذ الله أن يكون
عندي من المسألة ما لا أحتمل به مثل هذا وإنما ذكّرتك به لأمر لك بصلة
في مقابلته فإنه ما أساء إليّ أحد إلا أحسنت إليه وأمر له بخمسين ألف
درهم.
ومات المكتفي باللَّه في يوم السبت ثانى عشر ذي القعدة [من] سنة خمس
وتسعين ومائتين ودفن في دار محمد بن عبد الله بن طاهر. وقيل «407» له
في مرضه: لو وكلت بعبد الله بن المعتز ومحمد بن المعتمد، قال: ولم؟ قيل
له: لأن الناس يرجفون بهما للخلافة بعدك فتستظهر لئلا يخرج الأمر من
أخيك جعفر، فقال: هل سمعتم من أحدهما أنه أحدث علينا خلافا؟ فقيل له:
لا، فقال: فأىّ ذنب لهما بإرجاف الناس لهما بهذا الأمر؟ أليس هما من
أولاد الخلفاء؟ فلا تعرضوا لهما.
وكان وزيره حين مات العباس بن الحسن «408» ، وحين دخل عليه ورآه ميتا
تمثّل ببيتى أعشى همدان:
وما تزوّد مما كان يجمعه ... سوى حنوط غداة البين في خرق
وغير نفحة أعواد تشب له ... وقلّ ذلك من زاد لمنطلق (408)
وانقضت أيام المكتفي- رحمة الله عليه-.
(1/152)
|