الإنباء في تاريخ الخلفاء
أمير المؤمنين الراضي باللَّه «454»
هو أبو العباس، محمد بن المقتدر باللَّه، بويع له في يوم الأربعاء لست
خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وعشرين وثلاث مائة. وأمه جارية اسمها
«ظلوم» .
واستحضر عليّ بن عيسى بن الجرّاح وندبه للوزارة فاعتذر بكبر سنّه، ورغب
ابن مقلة في الوزارة وبذل خمس مائة ألف دينار فخلع عليه وقلّد الوزارة.
ونفذ الراضي باللَّه محمد بن ياقوت لمحاربة هارون بن غريب الخال فخرج
لمحاربته وهزمه وقتله وجاء برأسه إلى الراضي فخلع عليه وطوّقه وسوّره
«455» .
وولى الراضي أبا بكر محمد بن رائق إمارة الأمراء ببغداد واستولى على
الدولة وتغيّر الوزير ابن مقلة له وصار خصمه.
وفي سنة أربع وعشرين [وثلاث مائة] صلّى الراضي باللَّه بالناس [78 ب]
في الجامع بدار الخلافة وخطب.
قال أبو بكر الصولي «456» : وكان مؤدّب الراضي، لما فرغ من الخطبة
وانقضت الصلاة وعدت إلى بيتي جاءتني رقعة بخطه وإذا فيها: «يا محمد بن
يحيى وقع عليك طرفي وأنا أخطب وأنت إلى جانب إسحاق بن المعتمد «457»
قريب منى غير بعيد عنى فعرّفني على تحرّى الصدق واتباع الحق كيف ما
سمعت وهل تهجّن الكلام بزيادة فيه أو اختل بنقص منه أو وقع زلل في لفظه
أو إحالة في معناه جاريا في ذلك على عادتك في حال الإمرة غير مقصّر
عنها للخلافة والسلام» ، فكتبت إليه رقعة أذكر فيها:
«إنني ما أحسن وصف ذلك إلا ببيت حسان بن ثابت في جدك عبد الله بن
العباس- صلى الله عليه وعلى سلالته الطيبة الطاهرة- فإنه قال فيه:
إذا قال لم يترك مقالا لقائل ... بمنتظمات لا ترى بينهما فصلا» «458»
وفي سنة خمس وعشرين [وثلاث مائة] قبض الراضي على عليّ بن مقلة لأنه
اتهمه بأنه كاتب بجكم «459» التركي بقصد الحضرة واستيلائه على أمر
الخلافة معاندة لابن رائق، وظفروا بكتاب بخطه إلى مرداويج «460»
الديلميّ الخارجي يحسّن له قصد
(1/163)
الحضرة ويهوّن عليه أمر الخلافة وكان
إماميّا لا يرى خلافة بنى العباس. واتفق رأى الخليفة وابن رائق على إن
قطعت يده «461» على ملأ من الناس وكتب رقعة من الحبس إلى أخيه أبى عبد
الله بيده اليسرى وما تغيّر خطّه عما عهده. وكتب من الحبس رقعة إلى بعض
الكتّاب من أصدقائه «462» :
ترى حرمت كتب الأخلّاء بينهم ... أبن لي أم القرطاس أصبح غاليا [79 أ]
فما كان لو ساءلتنا كيف حالنا ... وقد دهمتنا نكبة هي ما هيا
أخوك الّذي يرعاك عند شديدة ... وكلّا تراه في الرخاء مراعيا
فهبك عدوّى لا صديقي فربما ... يكاد الأعادي يرحمون الأعاديا
وله وهو في الحبس بعد ما قطعت يمينه:
ما طلبت الحياة لكن ... توثّقت بأيمانهم فبانت يميني
كم تحرّيت ما استطعت بجهدي ... حفظ أرواحهم فما حفظوني
ليس بعد اليمين لذّة عيش ... يا حياتي بانت يميني فبيتي «463»
وفي سنة سبع وعشرين تغيّر الخليفة على ابن رائق فاستتر ووصل بجكم إلى
بغداد فولّاه الخليفة إمارة الأمراء وطوّقه وسوّره «464» .
وفي هذه السنة خرج الراضي باللَّه لمحاربة بنى حمدان ومعه الأمير بجكم،
وحين وصلوا إلى تكريت وصل الخبر إليهم بظهور ابن رائق ببغداد واستيلائه
عليها والتحاق أكثر القرامطة به فتمّوا إلى الموصل فهرب بنو حمدان من
الموصل. وكان الراضي يقول: «حصلنا من الخلافة على قصبة الموصل» . ثم
صولح ابن حمدان على مال أدّاه وعاد الخليفة. وتقرر أمر ابن رائق على أن
ولّى الشام والعواصم وقنسرين فسار إليها «465» .
ثم وصل الخبر بظهور بنى بويه «466» الديلم وأنهم ثلاثة إخوة تقاسموا
بلاد الإسلام، وكان الأكبر منهم عماد الدولة أبو الحسن، عليّ بن بويه،
والأوسط ركن الدولة أبو عليّ، الحسن بن بويه، والأصغر أبو الحسين، أحمد
بن بويه. وكانوا أولاد صيّاد.
وجاء الخبر من واسط بأن أحمد بن بويه قصد نواحيها فانحدر [79 ب] إليه
(1/164)
بجكم ونفذ إلى الراضي يقول له: «أمر هذا لا
يجيء إلا بك» . فانحدر الراضي إلى واسط. فحين أحسّ الديلميّ به رجع إلى
الأهواز وعاد الراضي إلى بغداد.
ومات الراضي- رحمه الله- في غرة ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاث مائة.
وكان مولده في رمضان سنة سبع وتسعين ومائتين وكان عمره إحدى وثلاثين
سنة وستة أشهر. فكانت خلافته ست سنين وخمسة أشهر.
وكان أديبا فاضلا شاعرا أحسن الخلق خلقا متواضعا كريم الطبع سخيّا له
وفاء وذمّة وإنما أدركته حرفة الأدب فلم تطل أيامه ولا عمره. ومن محاسن
نظمه قوله:
ضحك الزمان إليّ من اعتاب ... وأعارنى سمعا لبثّ عتاب
سابق بلذّتك الشباب فإنني ... أصبحت فيه مجررا أثوابى
وعلمت أن الدهر حرب شبيبتى ... فخلست في غفلاته آرابى «467»
وقال لما تغيّر لابن رائق:
صغرت عن الأمر الّذي رمت فعله ... فطالعنى بالصغر من كل جانب
وأظهر لي حبّا يطيف به قلى ... كخلّب برق في عراض سحائب
أيقعد لي كيد النساء بمرصد ... وإني فتىّ السن شيخ التجارب «468»
وله أيضا:
سقى الله أطلالا رعيت بها الصبا ... سحابة غيث لا يكف سكوبها
ظعنت وقد خلّفتني نهبة الأسى ... لعلة وجد لا يصاب طبيبها
ليهنك لوعات تردد في الحشا ... وعصيان عين ما تطيع غروبها [80 أ]
وتضييع رأى في اصطناع معاشر ... تسوّد وجه الاصطناع عيوبها
أنا ابن الأولى من هاشم زنت هاشما ... كما زانها العباس قبلي نسيبها
سلى تخبري من كان طفلا ويافعا ... فعزّت به الدنيا وذلّت خطوبها
ألم أطل الأملاك علما وسؤددا ... وتفخر بى شبان فهر وشيبها
وإني إن ضل الغريم غريمها ... وإن أفحم الخطاب يوما خطيبها
(1/165)
وسيفي على أعدائها سيف نقمة ... جريء على
الأعمار في ما ينوبها «469»
وله أيضا:
وسيف ظلام تدرعته ... أهب له يقظا حين هبّا
أأشهر سيفي على نابح ... وأفرش للثأر قردا وكلبا
إذا لا ارتوى من دم حده ... ولا سار بالعدل شرقا وغربا «470»
وله أيضا:
أهوى الفراق وإن رأيت ... الموت في شخص الفراق
لتقارب عند الوداع ... وقبلة عند التلاقي «471»
وله أيضا:
من ذا يقيم دعائم الإسلام ... ويعمّ بالإفضال والإنعام
فينا النبوة والخلافة حكمنا ... ماض كما شئنا على الأيام
أمضى من الأجل المعجّل أمرنا ... يأتيك قبل الفكر والإلهام
لا ينقض الأعداء مبرم أمرنا ... وبنا تمام النقض والإبرام «472»
وأما وزراؤه: فهم أبو على، محمد بن عليّ بن مقلة، وكان وزر للمقتدر
باللَّه [80 ب] ثم للقاهر باللَّه ثم للراضى باللَّه.
وكان «473» لما قطعت يده ينوح عليها ويبكى ويقول: يد كتبت بها كذا وكذا
من المصاحف ونقلت بها كذا وكذا ألف حديث عن رسول الله- صلّى الله عليه
وسلم- ووقّعت بها عن ثلاثة من الخلفاء وتقطع هكذا كما تقطع أيدي
اللصوص.
وفي آخر زمان الراضي بعد موت ابن مقلة استعرضوا ما في خزانة الرءوس
وكانت قد امتلأت بها الخزانة ورموها كلها إلى دجلة وكان بعضها في أسفاط
وبعضها في صناديق رصاص، ووجد في الجملة سفط وفيه رأس ويد ورقعة فيها
مكتوب: «هذا رأس أبى الجمال الحسين بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان
بن وهب وكان وزير المكتفي» ، وهو الوزير بن الوزير بن الوزير بن الوزير
لأن القاسم أباه كان وزير المكتفي والمعتضد
(1/166)
وعبيد الله كان وزير المعتضد وسليمان بن
وهب كان وزير المعتمد. وفي تلك الرقعة مكتوب: «وهذه اليد التي مع هذا
الرأس يد الوزير أبى عليّ بن مقلة وهذه اليد هي التي وقّعت بقطع هذا
الرأس» .
ثم بعد ابن مقلة وزر للراضى عبد الرحمن بن عيسى بن الجرّاح «474» أخو
الوزير عليّ بن عيسى المقدّم ذكره. ثم أبو جعفر الكرخي «475» وكان
قصيرا جدا فقطع لأجله من سرير الخلافة أربعة أصابع ثم سليمان «476» بن
الحسن دفعتين.
(1/167)
أمير المؤمنين المتقى للَّه
هو أبو إسحاق، إبراهيم بن المقتدر باللَّه، بويع له يوم الأربعاء
العشرين «477» من ربيع الأول سنة تسع وعشرين وثلاث مائة. وأمه أم ولد
اسمها «خلوب» [81 أ] .
وحين مات الراضي انحدر المتقى للَّه من داره بدار ابن طاهر من الجانب
الغربي إلى دار السلطان والناس على شاطئ دجلة يدعون له والمقرءون
يقرءون بين يديه.
ولما صعد من الزبزب جلس لحظة على رواق الخورنق وقام وصلّى ركعتين على
الأرض ثم ارتقى السرير وبايعه الناس. وعرضت الوزارة على عليّ بن عيسى
فأباها واعتذر بضعفه وكبر سنّه «478» .
ونفذ الخليفة بجكم إلى قتال الأكراد والديلم بنواحي واسط فمضى وهزمهم
وفي عوده كان يتصيّد وعليه غلالة كتّان فبادره كردى ورماه بحربة فوقعت
في ظهره وخرجت من صدره «479» . ووجد المتقى في دار بجكم أموالا لا تحصى
«480» . فيقال:
إن الآلات والفرش نقل إلى دار الخلافة في السفن والزواريق في مدة
أربعين يوما.
والمال كان ألف ألف وست ومائة ألف دينار هذا سوى ذخائر بجكم التي ضاعت
فإنه كان يحمل الصناديق وفيها الدنانير على البغال ويخرج معها وحده
وعلى كل بغل رجل مسدود العين فإذا بلغ إلى المكان الّذي يريده من
الصحراء فتح أعينهم وأمرهم بدفن الصناديق، ثم عاد وشدّها بيده وأركبهم
على البغال وأعادهم إلى البلد فإذا حصلوا في داره عاد وفتح أعينهم حتى
لا يعلموا أيّ مكان دفنوا تلك الأموال. وكان هذا دأبه مدة ولايته.
وضاعت تلك الأموال كلها ولم يعرف لها خبر «481» .
وكان بجكم من أعقل الناس وأحسنهم تدبيرا ولذلك بلغ إلى ما بلغ. وكان
الخلفاء يعتمدون عليه ويفوّضون أمر دولهم إليه ويقدّمونه على الوزراء.
وكان لا يتكلم [81 ب] إلا بالفارسية وله ترجمان يعرف بمحمد بن ينال
«482» .
واستوزر المتقى أبا عبد الله ابن البريدي عامل واسط «483» ، وتزوّج ابن
الخليفة المتقى، أبو منصور بابنة أبى عبد الله «484» ، ثم استشعر منه
المتقى لأنه كان قد جاء معه
(1/168)
من واسط عشرون ألف من الديلم. فنفذ المتقى
وألّبهم عليه وضمّهم إلى عسكره فانحدر ابن البريدي هاربا إلى واسط
ونهبت أمواله وذخائره وقتل خلق من أصحابه «485» .
واستوزر المتقى أبا إسحاق «486» [1] القراريطي حتى قال الناس: قد
انسحقت الخلافة في أيام المتقى، هو أبو إسحاق وزيره أبو إسحاق وذكروا
جماعة من خواصه اسم كل واحد منهم إما أبو إسحاق أو إسحاق، وذكروا في
الجملة أمه وأنها سحاقة.
ثم إن القراريطي قال للخليفة: لا طاقة لي بالعسكر وإنما أنا كاتب فانظر
في من يدبّر أمر عسكرك فاختار المتقى كورتكين الديلميّ «487» وجعله
أمير الأمراء وطوّقه وسوّره. وهو كان أحد الديلم الذين أصعدوا مع
البريدي من واسط.
وخلع المتقى على بدر الخرشنى واستحجبه وذلك كله في شوال من سنة تسع
وعشرين وثلاث مائة «488» . وورد الخبر بقدوم أبى بكر بن رائق من الشام
إلى الحضرة فاستشعر كورتكين من أن يولّيه المتقى إمارة الأمراء مكانه
لأنه كان تسمّى بها أيام الراضي.
فاستأذن الخليفة في الخروج إليه ودفعه فأذن له قولا باللسان وقلبه مع
ابن رائق، ونفذ إلى ابن رائق يأمره بسرعة القفول. فدخل ابن رائق بغداد
وهرب منه كورتكين ونودي في جانبي بغداد: يا معاشر العامة قد أبحناكم
مال الديلم، فما بقي عيّار ولا ملّاح ولا مكدى [82 أ] إلا وانتهب دورهم
وقتلوا من وجد منهم «489» ونفذ ابن رائق خلف كورتكين من أسره «490» .
وكان العامة إذا أخذوا ديلميّا شوّهوا به، إما قطعوا أذنيه أو يديه أو
أنفه وهو حىّ يرى ما يفعل به. وبعض العيّارين أخذوا جماعة من الديلم
وطبخوهم وأكلوهم وجرى عليهم من النكال ما لم يجر على مخلوق قبلهم. وصار
كل من له في إنسان غرض أو له معه عداوة يقول له: أنت كنت مع الديلم
فإما يقتل أو يصادر، حتى قال الناس كلهم: كان يمكن السلطان أن يبلغ من
الديلم ما يريده بأحسن من هذا الوجه «491» .
وخلع السلطان على أبى بكر محمد بن رائق يوم الثلاثاء لأربع بقين من ذي
الحجة وقلّده إمارة الأمراء وعقد له لواءين: أحدهما على المشرق والآخر
على المغرب وطوّقه
__________
[1] أضف: المنتظم 6/ 318 رواية عن التنوخي.
(1/169)
وسوّره وأنزله دار مؤنس المظفر المعتضدي
«492» .
وكان ابن البريدي حين طرد من بغداد على ذلك الوجه انحدر إلى الأهواز
وكاتب الديلم بنى بويه «493» . وكان أول ظهورهم [أنهم] استولوا على
فارس وكرمان ونفذوا إلى الحضرة بالأموال والتحف وسألوا أن ينفذ إليهم
العهد واللواء بتلك البلاد ولعجز الراضي عن مقاومتهم أقرّهم على ما
استولوا عليه واستفحل أمرهم في أيام المتقى. فلما انصرف ابن البريدي
على ذلك الوجه من بغداد نفذ إليهم يهوّن في أعينهم أمر الخلافة ويحسّن
لهم قصد الحضرة فما أقدموا على ما أراد منهم إلا أنهم أمدّوه بمائة ألف
من الديلم خيّالة ورجّالة وقالوا: إن تمّ على أيديهم فتح كان لنا ولك.
فوصل الديلم إلى واسط ولم يقدم أبو عبد الله بن البريدي على التهجم على
الحضرة فنفذ العسكر [82 ب] مع أخيه أبى الحسين ابن البريدي. فحين
قاربوا بغداد هرب المتقى منهم ومعه ابن رائق إلى ناحية الموصل، واستولى
أبو الحسين ابن البريدي على بغداد. ونفذ إلى الخليفة يقول له: إني عبدك
ويحلف بالأيمان المغلظة إني لا أريد بك سوءا وإنما أربد أن أكون مكان
ابن رائق. ولم ينزل دار الخلافة إعظاما لها بل نزل دار مؤنس التي
ينزلها ابن رائق «494» .
ولما وصل الخليفة إلى الموصل وفيها من قبله الأمير ناصر الدولة بن
حمدان خرج إلى مراحل واستقبله وخدمه الخدمة التامة وعرف أن الخليفة
محتاج إلى بنى حمدان وأنه لا يمكنه أن يغضبهم وهو على تلك الحال ولو
فعلوا فيها ما فعلوا فبادر وفتك بابن رائق لمعاداة كانت بينهم، ولم
يظهر من المتقى إنكار.
وقلّد الخليفة ناصر الدولة إمارة الأمراء مكان ابن رائق وجمع سائر بنى
حمدان وانحدر وهم في جملته إلى بغداد. وكان في جملة ابن البريدي الأمير
أبو الوفاء توزون التركي فغدر بابن البريدي وانضم إلى عسكر المتقى
للَّه وهرب ابن البريدي ودخل المتقى إلى بغداد وخلع على توزون التركي
وطوّقه وسوّره ولقّبه بالمظفر، فشقّ ذلك على ناصر الدولة. وكان يوم
دخول السلطان المتقى للَّه إلى بغداد ضربت مائة قبّة
(1/170)
مجللة بالديباج عبر تحتها كلها وهي طبقات
وفي كل طبقة الأغاني والمساخر والناس على طبقاتهم «495» وزيّن البلد
حتى رئي في دكاكين الصيارف الدنانير موضوعة على الأكسية على هيئة
الحنطة وفيها المكاييل كالقفيز والعشير والكيلجة «496» وما [83 أ] أشبه
ذلك ورئي مثل ذلك في دكاكين الجوهريين وفيها من المكاييل الربع والثمن.
وحكى إنسان للمتقى أن أبواب الحمّامات زيّنت وكانت ستين ألف حمّام فما
كان يخلو باب حمّام من خمسين أو أقل أو أكثر من الأسطال ولا تخلو هذه
الأساطل من واحد أو اثنين ذهب أو فضة، فقيل: لو لم يكن على باب كل
حمّام إلا واحد منها لكان بمدينة واحدة ستون ألف سطل ذهب وفضة فما ظنك
بالأواني التي يكون استعمالهم لها أكثر من استعمالهم للأسطال «497» .
واستوزر المتقى أبا الحسين ولد الوزير أبى عليّ بن مقلة وخرج من دار
السلطان وعليه الخلع وذلك في رمضان سنة إحدى وثلاثين وثلاث مائة «498»
.
وقدّم المتقى للَّه أبا نصر، محمد بن ينال الترجمان وقوّده وأراد أن
يولّيه إمارة الأمراء فخاف من ناصر الدولة. وعلم ناصر الدولة بباطن
الحال فاستشعر وطلب الإذن له في أن يخرج إلى عمله. فأذن له فخرج على
وجه جميل. ثم إن الخليفة حسب ما يحتاج إليه في كل شهر لخرج العسكر
الذين بالحضرة سوى من هو مرابط في المراكز فكان خمس مائة ألف دينار ولم
يكن في الخزائن شيء، وكان يحتاج في مئونة مطبخه كل يوم إلى خمسة آلاف
درهم سوى نفقات الحواشي وسوى كسوته الخاصة وما يحتاج إليه من خلع
وتشريفات وسائر أنواع التجمّل فضمن له توزون التركي «499» أنه يقوم
بذلك إن ولّاه إمارة الأمراء فولّاه ذلك وطوّقه وسوّره فقام بما كان
ضمن على نفسه إلا أنه ضيّق على المتقى جدا واستشعر المتقى منه لغلبته
على الأمر واستبداده [83 ب] بالملك واستشعر أيضا توزون وانحدر إلى واسط
بإذن المتقى لتقرير أمر البلاد السفلى ومحاربة بنى البريدي والديلم
«500» فحين بعد توزون عن بغداد نفذ المتقى
(1/171)
إلى بنى حمدان يستدعيهم فأجابوه وانحدروا
إلى بغداد وضربوا مضاربهم على باب الشماسية. وخرج الخليفة وضرب مضاربه
عندهم ورحل من فوره وترك بغداد ونزل الرقّة وصيّر محمد بن ينال
الترجمان أمير الأمراء وطوّقه وسوّره.
وحين وصل الخليفة إلى الرقّة وكان واليه على مصر أبو بكر محمد «501» بن
طغج سمع بوصوله إلى الشام فجاء إليه ولقيه بالرقّة في العدّة الحسنة
والعسكر الكثير وأهدى له من تحف مصر ولوزيره أبى الحسين بن مقلة ما ملأ
عينهما. ثم أمره الخليفة بالعود إلى عمله فعاد إليه. وكان قد قال
للمتقى: يا مولانا قد فسدت أمور العراق باستيلاء بنى حمدان على طرف
وبنى بويه على طرف وباستشعارك من توزون، فلو جئت إلى مصر وأقمت بها
وأنا كنت أكفيك كل ما تريده. فقال له «502» المتقى: كيف أقيم في زاوية
من الدنيا وأترك باقي الدنيا يخرب؟ هذا لا يمكنني. فعاد وتركه في
الرقّة.
ثم إن توزون راسل المتقى للَّه يستسل ما بقي في نفسه فما التفت إلى
رسالته ونسب ذلك إلى بنى حمدان. ثم إن بنى حمدان اجتمعوا عند المتقى
واشتوروا على جمع العساكر وقصد توزون ولم يطب لهم أن يكون الترجمان
مقدّما عليهم فدخلوا يوما على المتقى وخرجوا من الدار فلما صاروا في
بعض الدهاليز غمز ناصر الدولة أخاه سيف الدولة فاخترط سيفه وضرب به رأس
[84 أ] الترجمان فأبانه عن بدنه. وسمع المتقى الضجة فقال: ما هذا؟
قالوا: سيف الدولة قتل الترجمان فقال كالمغضب: أمس ابن رائق واليوم
الترجمان؟ «503» ولم يطل القصة لحاجته إلى بنى حمدان. ثم إن بنى حمدان
خدموه بأموالهم وأنفسهم وأنسوه الترجمان.
ووصل الخبر من العراق بأن أحد بنى البريدي وهو أبو عبد الله قتل أخاه
الآخر وهو أبو يوسف وأن أمر الديلم قوى بالبلاد السفلى وأن أبا عبد
الله البريدي الّذي كان يقاومهم توفى عقيب قتله لأخيه وأن الأمير أبا
الحسين أحمد بن بويه قصد بغداد وبها توزون وأظهر أن الخليفة المتقى:
«كاتبني وأمرنى بذلك» وأن توزون حاربه وهزمه ومرّ الديلميّ هاربا «504»
.
(1/172)
وقوى أمر توزون ثم تواصلت رسل توزون إلى
الخليفة يطلب منه الصلح «505» وأن يعود الخليفة إلى دار الملك، فشرط
الخليفة عليه أن ينتزح هو إلى واسط حتى يدخل الخليفة بغداد. فقال
توزون: هذا الشرط لا التزمه لأني أريد أن أزيل عنى اسم العصيان فإذا
انتزحت إلى واسط فالناس يرونني بعين عاص وأكون قد شهدت على نفسي بخلع
الطاعة، ولكن إذا استقر في دار الخلافة يأمرني بما شاء حتى أنتهي إلى
أمره. وأحضر الأمير توزون القضاة والعلماء والأشراف وحلف بمحضر من رسول
المتقى على كل ما يريده ووقع الصلح وانصرف الناس مسرورين وذلك في يوم
الاثنين حادي عشر ذي الحجة سنة اثنتين وثلاثين وثلاث مائة «506» .
ولما كان في صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاث مائة صح عزم المتقى على دخول
بغداد فركب توزون إلى دار الخلافة وأمر [84 ب] بتجديد ما يحتاج إلى
تجديده منها وعمارة ما تشعّث فيها وكان يتردّد بنفسه كل يوم دفعات إلى
الدار. وحين قرب الخليفة من بغداد أمر توزون أن تنصب القباب كما نصبت
في المرة الأولى ففعل ذلك وزيّنت بغداد وهو يتولّى ذلك بنفسه ولا يكله
إلى أحد واختاروا لدخول المتقى يوم السبت تاسع عشر صفر سنة ثلاث
وثلاثين وثلاث مائة. وخرج كل من ببغداد من القضاة والأشراف والعامة
والتجار ولم يبق في البلد إلا شيخ مقعد أو زمن. فلما وصلوا إلى السندية
أقاموا هناك ينتظرون وصول المتقى وهو على ستة فراسخ من بغداد. وركب
الأمير توزون في أحسن زيّ وعدّة وحين توثّق الخليفة من توزون صرف جميع
عساكر الشام وبقي في خواصه وخدمه. وحين أشرفت عمارية الخليفة عليهم
قاموا كلهم ودعوا وكبّروا، وكان في عمارية مبطّنة بنمور أهداها إليه
أبو بكر ابن طغج أمير مصر. فلما وقعت عليه عين توزون أكبّ على الأرض
فقبّلها دفعات فقال له المتقى: لا تفعل يا أبا الوفاء ومشى بين يدي
العمارية شوطا بعيدا فقال له:
اركب فركب. فلما قربوا من المضارب، وكان قد ضرب للخليفة سرادق أحمر
ديباج جاء معه من الشام، أحدق ديلم توزون بعمارية الخليفة وعدلوا بها
إلى مضارب توزون
(1/173)
والناس لا يعلمون ما الّذي يريدونه إلى أن
أدخلت العمارية إلى سرادق توزون وضربت الدبادب والبوقات على باب
السرادق وأصحاب الخليفة كلهم وقوف لا يعلمون أين ذهب [85 أ] به وكذلك
كل من خرج لتلّقيه من أهل بغداد «507» . وبيناهم في ذلك إذ خرج الأمير
أبو القاسم عبد الله بن المكتفي من سرادق توزون وعليه القباء الأسود
والمنطقة والعمامة على الرصافية «508» وهو متقلّد سيفا بحمائل فركب
جنيبا من الجنائب التي كانت تقاد بين يدي المتقى للَّه، وكان قد أحضره
توزون ليلا والناس لا يعلمون، وركب الأمير توزون وسايره وهو يقول
للناس: ادعوا لخليفتكم فنزل القوم كلهم وقبّلوا الأرض وبايعوه وسمّى
نفسه «المستكفي باللَّه» ثم سار في صحراء السندية والأمير توزون على
يمينه والعساكر تسايره ونزل في سرادق المتقى وجلس على سريره. ثم رحل من
فوره وركب والأمير توزون يسايره حتى دخل بغداد والخلائق الذين خرجوا
لاستقبال المتقى في صحبته واجتاز تحت تلك القباب التي ضربت للمتقى ودخل
دار الخلافة.
ثم إن الناس سمعوا من بعد ذلك أن عمارية المتقى لما عدلوا بها إلى
مضارب توزون اعتقد المتقى أن توزون يريد بذلك أن يتشرّف بنزول الخليفة
عنده في ذلك اليوم.
فحين دخلت العمارية إلى المضارب ووقعت عين المتقى على ابن عمه أبى
القاسم بن المكتفي ما فطن أيضا بالقصة فاعتقد أنه قد خرج لتلقّيه مع من
خرج إلى أن قال له توزون:
بايع أمير المؤمنين، فقال المتقى: ومن أمير المؤمنين؟ قال توزون: هذا
الّذي تراه فعلم حينئذ أنه قد غدر به وقال: ما أبايعه ولا أخلع نفسي
فأمسكوه وسملوا عينيه في الحال وكانت تلك الدبادب التي ضربت لئلا يسمع
صياحه [85 ب] .
وحين استقر المستكفي باللَّه في دار الخلافة سلّم المتقى إليه فحبسه
وما طاب له ما جرى عليه من توزون ولا سكنت نفسه إلى توزون مع نكثه
الأيمان التي حلفها للمتقى وأسرّ في نفسه ما انتهى أمر توزون إليه.
(1/174)
|