الإنباء في تاريخ الخلفاء

أمير المؤمنين المقتدر باللَّه
[72 أ] هو أبو الفضل، جعفر بن المعتضد، بويع له يوم الأحد لثلاث عشرة ليلة خلت من ذي القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين. وأمه أم ولد روميّة اسمها «شغب» وكان سنّه ثلاث عشرة سنة. واختلفوا في بلوغه. و [لما] كان وقت فراغهم من أمر المكتفي ودفنه بادر صافى «409» الحرمي لاحدار المقتدر من بيته بالجانب الغربي بالموضع المعروف بدار ابن طاهر وحمل معه شبّارة وأجلسه فيها وأحدره فاجتازوا على دار الوزير العباس بن الحسن، وكانت داره على شاطئ دجلة، فلما حاذوا الدار خرج العباس ووجوه أصحابه بالشموع يتوقّعون أن يدخل المقتدر إلى داره ليكون أخذ البيعة بها فخاف صافى الحرمي من حيلة فصاح بالملّاحين فما عرجوا بل انحدروا وجها واحد إلى الحسنى «410» . وحين دخل الحسنى صلّى أربع ركعات وجلس على السرير وحضر الوزير والقواد وبايعه الناس. وتولّى حجبته نصر القشوري.
وكان أول حادث حدث في أيامه قتل الوزير العباس بن الحسن «411» وكان الوزير قد سمع أن جماعة من القوّاد يريدون الفتك به إذا ركب إلى دار السلطان.
وكان إذا كرر ذلك عليه يتمثّل بهذا البيت:
زعم الفرزدق أن سيقتل مربعا ... أبشر بطول سلامة يا مربع
وكان شيخ الكتّاب وزمام الدواوين كلها في أيام المقتدر وفي أيام المكتفي وفي أيام المعتضد عليّ [بن عيسى] بن داود [بن] الجراح «412» ، فدخل ابن الجراح يوما على الوزير العباس بن الحسن وخوّفه وقال له: قد عزم [72 ب] الجماعة على الفتك بك وكل واحد منهم قد صار رأسا بنفسه لصغر سنّ الخليفة فقال له الوزير:
هذا تقوله من خور طبعك وضعف قلبك، وهب كان الأمر على ما ذكرت كيف أخاف من هؤلاء الذين تذكرهم والحسين بن حمدان يسايرنى ويركب معى كل يوم.
وكان لقضاء الله وقدره هو الّذي قتله. فإنه ركب يوما إلى دار السلطان وكان المقتدر في ذلك اليوم قد ركب إلى الحلبة ليضرب بالصوالجة وتأدّى الخبر إلى صافى الحرمي بما

(1/153)


عزم عليه القوم فبادر إلى المقتدر وهو بالحلبة فأعلمه بذلك وأدخله سالما إلى الدار وتأدّى مثل ذلك إلى الوزير فلم يرتقع به «413» وسار على عادته من ناحية الثريا والعساكر تسايره وعلى يمينه الحسين بن حمدان وعلى شماله فاتك المعتضدي، فلما بلغ إلى مكان يعرف بمقسم الماء «414» سلّ الحسين بن حمدان سيفه وضربه ضربة حلّ بها عاتقه فقال له: فاتك أيّ شيء تفعل؟ فثنى به وعاد وضرب الوزير ثانية وثالثة وضربه بعده وصيف بن سوارتكين فسقط ميتا ووقع النهب في دوره وما يليها من دور العامة «415» . وكان لذلك سببان «416» :
أحدهما: تغلّبه على الخلافة لصغر سنّ المقتدر وقلة اكتراثه بالجند.
والثاني: أنه كان عشق جارية للحسين بن حمدان وراسلها في أن تحضر عنده وكتب إليها رقاعا بخطه وعرضتها الجارية على سيدها وكانت أم أولاده ومقرّبة عنده فاحتقد ذلك عليه مع أشياء لا يحسن ذكرها «417» .
وحين صلّيت الظهر قصدوا بأسرهم دار عبد الله بن المعتز وبايعوه [73 أ] وحضرت صلاة المغرب ولا يشك أحد في تمام الأمر له «418» وضربت النوبة على بابه وسمعت أيضا أصوات دبادب من دار السلطان تضرب للمقتدر وكذلك ضربت النوبة من الجانبين في صلاة العتمة وصلاة الفجر من يوم الأحد. لأن بيعة ابن المعتز كانت وقت الظهر من يوم السبت وسمّى نفسه «المنتصف باللَّه» واستوزر محمد بن داود ابن الجراح «419» . وكان قد تخلّف في دار السلطان مع المقتدر سوسن الحاجب وصافى الحرمي ومؤنس الخازن ومؤنس الخادم المعتضدي وعدّة من الغلمان. وأما سائر الجند من العرب والترك وغيرهم وسائر الكتّاب والقضاة فكلهم أصبحوا ومضوا إلى دار الخليفة المنتصف باللَّه أبى العباس عبد الله بن المعتز «420» .
وكان ابن المعتز دبّر في الليل وقسّم الجند قسمين: قسم يقصدون الدار من جانب الماء وقسم يقصدون الدار من جانب البر إن امتنع المقتدر والجماعة الذين في الدار عن تسليمها.

(1/154)


وفي بكرة يوم الأحد وجّه الوزير إلى صاحب خزانة الكسوة [يأمره] بتنفيذ البردة والقضيب والخاتم فجاء الرسول يقول: إن مولانا المقتدر قد لبسها. فلما بلغ ذلك إلى ابن المعتز التفت إلى من حوله من الكتّاب والقضاة والأجناد وقال: قد آن للحق أن يتضح وللباطل أن يفتضح. فقال له محمد بن خلف المعروف بوكيع «421» :
أمير المؤمنين أعزّه الله كما قال أبو العتاهية لجده المهدي:
أتته الخلافة منقادة ... إليه تجرّر أذيالها
فلم تك تصلح إلا له ... ولم يك يصلح إلا لها
وأنشده الأبيات إلى آخرها. ثم قال ابن المعتز: ادعوا لي الحسين بن حمدان فدعوه فقال له: تركب إلى الحسنى فقال: الأمر لأمير المؤمنين. فقال له: قدّم قوما يركبون من جهة الماء في السفن ليشغلوهم ونركب نحن من البر وتقدّم قبلي قال:
الأمر لك. وخرج الحسين وأمر قوما من الجند بالركوب في الحراقات والزبازب لقصد الدار من ناحية الماء فتكاسلوا تهاونا لمن بالدار وركب هو من ناحية الحلبة فرأى ما لا يعدّ من العامة حول الدار بالأسلحة يعاونون من بها وقد قويت قلوبهم بهم وخرجوا يناوشون أصحاب الحسين بن حمدان فحاربهم ساعة فأصابه حجر مقلاع شجّ وجهه وسهم في جنبه فكرّ راجعا إلى داره ليشدّ جراحته وكان هو مقدم الجيش فلما رآه العسكر كذلك كرّوا راجعين وانهزموا. وقصد داره وشدّ جراحته ودخل إليه إنسان من عسكره فأعلمه أنه لم يبق من العسكر أحد حول الدار وأن الغلبة للعامة وأن المقتدر قد ركب، فقام الحسين بن حمدان وركب وحده وأخذ طريق سامراء عائدا إلى ولايته «422» وهي الموصل ثم إن العامة تكاثروا ورموا من كان قد بقي من العسكر بالأجر وصاحوا: المقتدر باللَّه يا منصور. وسمع ابن المعتز الضجة فقال: ما الخبر؟ دخل ابن حمدان الحسنى؟ ثم قال: قدّموا الفرس لأركب فقيل له: إن ابن حمدان قد هرب على وجهه والجند قد تبدّدوا فقال: العامة معنا أو علينا؟ فقالوا له: بل علينا، فأنشد هذا المصراع:
ليس يومى بواحد من ظلوم
[74 أ]

(1/155)


يعنى أن عامة بغداد كانوا عونا على أبيه المعتز في نوبة للمستعين. ثم قربت منه الأصوات حتى قربوا من داره ورموها بالمقاليع فأراد أن يأخذ لنفسه من جانب الماء فاطلع على الروشن فرأى ما أراد أن يفعله هو قد فعله أصحاب المقتدر وإذا بنحو خمس مائة قطعة من السفن تقبل مصعدة إلى داره من نحو دار السلطان وفيها الدبادب والبوقات والغلمان بالعدّة والأسلحة وجماعة من النفّاطين بالزراقات والمقدّم عليهم غريب خال المقتدر. فحين رآهم نحب قلبه وأيقن بالهلاك وجعل من بقي من الناس عنده في الدار يتسلمون واحدا واحدا ويخلطون أنفسهم بالعامة وبعضهم رمى بنفسه إلى الماء فسبح ونجا. وجاء القوم وأخذوا عبد الله بن المعتز وأحدروه إلى دار السلطان على أقبح حال «423» .
قال أبو بكر، محمد بن يحيى الصولي في كتاب الأوراق: كنت واقفا تحت دار السلطان في جملة النظّارة وأنا أراه وقد أخرجوه من الشبارة التي كان فيها وعليه جبّة مصمت تبنية وهو حافى وكان سوسن الخادم واقفا على باب الماء فصفعه صفعة وقع على وجهه فلعنه كل من حضر وقالوا له: الّذي يراد به أكثر من هذا فما معنى هذه الإهانة؟ وأدخل الدار ولفّ في كساء وشدّ طرفاه حتى اختنق وحمل إلى داره ودفن بها. وكان آدب بنى العباس وأشعرهم وأعرفهم بالفقه والأحاديث والقرآن، إلا أن حرفة الأدب أدركته «424» .
وخلع المقتدر على أبى الحسن عليّ بن محمد بن موسى بن الفرات وقلّده الوزارة يوم الاثنين الثاني والعشرين من ربيع الأول سنة خمس [74 ب] وتسعين ومائتين وركب في الخلع والناس معه إلى داره.
وفي يوم الأربعاء رابع ذي الحجة قبض المقتدر باللَّه على ابن الفرات وعلى جميع أسبابه وقلّد الوزارة أبا عليّ محمد بن عبيد الله بن يحيى بن خاقان المعروف بدق صدره «425» وخلع عليه وقلّده سيفا وانصرف إلى منزله بباب الشماسية والقوّاد بين يديه. وولى ابنه عبد الله بن محمد خلافة أبيه في الوزارة.

(1/156)


وفي سنة إحدى وثلاث مائة عاد عليّ بن عيسى بن الجرّاح من مكة، شرّفها الله تعالى، وقبض المقتدر على الخاقانيّ وابنه وولى عليّ بن عيسى الوزارة «426» .
في سنة أربع وثلاث مائة قبض المقتدر على عليّ بن عيسى في ذي الحجة وأعاد ابن الفرات إلى الوزارة وهي وزارته الثانية. ويقال «427» إنه حين خلع عليه بالغداة زاد في آخر النهار في ثمن الشمع والكاغد والثلج في كل من قيراط لكثرة استعماله لها وكان يخرج في كل يوم إلى دار العامة من الثلج أربعون ألف من سوى ما كان لخاصته وبيت شرابه.
وفي سنة ست وثلاث مائة قبض على ابن الفرات واستدعى حامد بن العباس من واسط، وكان واليا عليها فقلّد الوزارة وأضيف إليه عليّ بن عيسى لتنفيذ الأمور وفيهما قيل:
ذاك سواد بلا وزير ... وذا وزير بلا سواد «428»
وفي سنة إحدى عشرة وثلاث مائة قبض على حامد بن العباس وأعيد ابن الفرات إلى الوزارة وهي وزارته الثالثة ونفى حامد بن العباس إلى واسط فدسّ عليه ابن الفرات من قتله بالسم «429» .
وفي أيام حامد بن العباس صلب [75 أ] الحسين بن منصور الحلّاج بعد ما ظهرت منه أمور اقتضت إباحة دمه فصلبوه بفتوى قاضى القضاة أبى عمر «429» وجماعة الفقهاء. وكان جماعة من أهل بغداد يحتفظون ببوله في القوارير وبنجاسته في البراني. وكان من جملة هؤلاء القوم نصر «430» القشوري الحاجب وعدّة من خواص الدار. وظهرت له فضائح لا يحسن ذكرها «431» .
وفي سنة اثنتي عشرة وثلاث مائة قبض على ابن الفرات في ربيع الأول وولى مكانه أبو القاسم عبد الله «432» بن أبى عليّ الخاقانيّ وهرب المحسن بن الفرات واختبأ عند امرأة فظفروا به وحملوه إلى دار السلطان وقطعوا رأسه ووضعوه بين يدي أبيه ثم حزّوا رأس أبيه وحملوا الرأسين إلى المقتدر «433» .

(1/157)


[قيل لمّا ورد الحسين بن حمدان إلى بغداد مع مؤنس وشهر على جمل فدوّروه جميع البلد وعلى رأسه البرنس امتنع ولده عن وضع البرنس على رأسه فقال الحسين: ألبسه يا بنى فإن أباك ألبس البرانس أكثر هؤلاء الذين تراهم. ونصبت القباب بباب الطاق وركب أبو العباس بن المقتدر وبين يديه نصر الحاجب ومعه الحربة وخلفه مؤنس وعليهم السواد. ولما صار الحسين بن حمدان بسوق يحيى قال له رجل من الهاشميين:
الحمد للَّه الّذي أمكن منك. فقال الحسين: والله لقد امتلأت صناديقى من الخلع والألوية وأفنيت أعداء الدولة وإنما أصار بى إلى ما ترى الخوف على نفسي وما الّذي نزل بى إلا دون ما سينزل بالسلطان إذا فقد من أوليائه مثلي. وبلغ به الدار ووقف بين يدي المقتدر ثم سلّم إلى بدر الحرمي [75 ب] فحبسه في حجرة في الدار] [1] «434» .
وفي سنة سبع عشرة وثلاث مائة شغب الجند على المقتدر باللَّه وكان رئيسهم نازوك وكبسوا الدار عليه وذلك لاستيلاء أمه على الدولة فهربت أمه وأولاده وهرب هو ودخل دار مؤنس المظفر خادم المعتضد وكان شيخ الدولة ومقدمها فدخلوا وراءه وألزموه الخلع فخلع نفسه وقصدوا دار الأمير أبى منصور محمد بن المعتضد باللَّه وهو أخوه فحملوه إلى دار السلطان وبايعوه بالخلافة وتسمّى ب «القاهر باللَّه» . وبعد ذلك بيومين طالب الجند بأرزاقهم وقصدوا الدار وشتموا نازوك فأغلظ عليهم في القول فقتلوه ودخلوا وأخرجوا القاهر من الدار وردّوه إلى داره ومضوا كلهم رجّالة إلى دار مؤنس وأخذوا المقتدر على رءوسهم وحملوه إلى دار السلطان وجدّدوا له البيعة. فيقال: ما رئي ولا عهد أن خليفة خلع دفعتين وعاد إلى الخلافة إلا المقتدر باللَّه. وكان من جملة من واطأ نازوك على فعله وحسّن له خلع المقتدر أبو الهيجاء بن حمدان فحين أعادوا المقتدر وكان في الدار وخاف على نفسه انهزم إلى باب الماء ليهرب فتبعوه وقطعوه «435» . واستولى مؤنس المظفر على الدولة وخلاله الجو وصار أمير الأمراء واستشعر منه المقتدر واستشعر هو أيضا من المقتدر وخرج مغاضبا «436»
__________
[1] ما بين العاضدتين [] لم يرد في نسخة فاتح فلعله من الإضافات التي أشرنا إليها في ما سبق.

(1/158)


وذلك في سنة عشرين وثلاث مائة وضرب مضاربه بباب الشماسيّة وبقي أياما ينتظر أن يترضّاه المقتدر فلم يلتفت إليه فنفذ إليه بخادم اسمه بشرى برسالة فاعتقله المقتدر وحبسه ولم ير مؤنس [76 أ] للصلح وجها فتمّ إلى الموصل وكتب الخليفة إلى بنى حمدان يولّيهم على مؤنس فحاربوه ونصره الله تعالى عليهم ووصل (سعيد) بن حمدان هاربا إلى بغداد مع جماعة من أهله فخلع عليه المقتدر وأكرمه.
وكان المقتدر قد استوزر الحسين «437» بن القاسم بن عبيد الله بن سليمان فعزله واستوزر أبا الفتح الفضل «438» بن جعفر بن الفرات فتقلّد الوزارة على أمور مضطربة وقلّة جند وعدة ونفاد الأموال. ثم إن مؤنس قصد مصر وجمع خلائق من البربر «439» وسار بهم مع جند الشام وديار بكر الذين تبعوه بعد هرب بنى حمدان يريد الحضرة. وحين قرب من بغداد ركب المقتدر في يوم الأربعاء لثلاث خلون من شوال وحوله عساكره وألوية الملك وأعلامه بين يديه والبردة على كتفيه والقضيب في يده وحوله كل عالم وزاهد ببغداد في أيديهم المصاحف والناس يدعون له، فلما انتهى إلى باب الشماسية وقف هناك وعبّأ الجيش أحسن تعبئة ونفذهم إلى حرب مؤنس فعادوا منهزمين وأسر هارون بن غريب خال المقتدر وأحمد بن كيغلغ وصافى النصري «440» .
وكان المقتدر واقفا على تلّ مع نفر قليل وفيهم ابنا ياقوت الحاجب وابنا رائق.
فقالوا: نحمل على ابن يلبق؟ وكان هو وأبوه من جملة من خرج مع مؤنس، فحملوا عليه فاقتطعتهم الخيل وفرّقت بينهم وبين المقتدر فبقي مع عدة من الخدم فأدركه عليّ ابن يلبق- لعنه الله- فحين رآه ترجّل وقبّل الأرض ثم أومأ بعينه إلى بربرى كان معه أسود فضرب المقتدر ضربة [76 ب] أبان بها رأسه عن بدنه وحمل رأسه على ذبابة سيفه وجاء به مع عمامته إلى مؤنس، فلما رأى رأسه وعمامته لطم على وجهه وبكى وبقيت جثّته مرميّة على الأرض إلى أن اجتاز شوكى فرأى عورته مكشوفة فغطّاه بحشيش، ولا يعرف له قبر «441» وكان سنّه يوم بويع له ثلاث عشرة سنة وشهرا واحدا، ويوم قتل ثمان وثلاثين وشهرا وخمسة أيام. فكانت خلافته أربعا

(1/159)


وعشرين سنة وأشهرا. ولم يل الخلافة من اسمه جعفر إلا هو وجده المتوكل وقتلا جميعا- رحمة الله عليهما-.
وفيه يقول ابنه الراضي [باللَّه] يرثيه:
بنفسي ثرى ضاجعت في تربه البلى ... لقد ضم منك الغيث والليث والبدرا
فلو أن حيّا كان قبرا لميّت ... لصيّرت أحشائى لأعظمك القبرا
ولو أن عمري كان طوع مشيئتى ... وساعدني المقدار قاسمتك العمرا
«442» وقال يرثيه ويذكر حاله في حبس القاهر:
عصيت الهوى وعدمت الودادا ... وأبلى الجديدان منى الجديدا
وقد كنت دهرا أطيع الهوى ... وأجرى مع اللهو شأوا بعيدا
فحرمت كأسى على لذّتى ... وأزمعت عن كل لهو صدودا
أبعد إمام الهدى أرتجي ... سلوّا وأبغى لعيني هجودا
وقد ظل بين سيوف العدي ... صريع الفلاة وحيدا فريدا
كأن لم يكن قط في جحفل ... يغيض العدي ويجر الجنودا
يعزّ على ملك قد ثوى ... بأنى أقاد أسيرا وحيدا [77 أ]
وأفرشت خدي لوطء العدي ... وأفرش أهلي لأجلى الخدودا
فيا ليت ركبا إلينا نعوك ... نعونا إليك وتعطى الخلودا «443»

(1/160)


أمير المؤمنين القاهر باللَّه
لما قتل المقتدر أرادوا كلهم مبايعة محمد بن المكتفي وقالوا: هو أتم الجماعة عقلا.
فقال مؤنس: الخزائن فارغة والأجناد يطالبون بالأرزاق وليس في أيدينا شيء وأخاف أن ينتقض الأمر علينا، والقاهر كنّا أقعدناه في الخلافة وتسمّى بها مرة فإن شغّب الجند وطلبوا الأموال هدّدونا به. ونحن إذا أقعدنا القاهر استرحنا. فقالوا له:
الصواب ما تراه.
واتفق أن القاهر ومحمد بن المكتفي ناما في تلك الليلة في مضارب مؤنس فقال القاهر بالليل لمحمد بن المكتفي: أنا فقير وما لي شيء فتولّها أنت، فقال له: أنت شيخي وعمّى وقد ولّيت هذا الأمر مرة فأنت أحق به منى «444» . وبايعوا لهذا القاهر بالخلافة في يوم الخميس في مضارب مؤنس. وانحدر القاهر إلى الدار ومعه مؤنس والعسكر كلهم.
وأم القاهر جارية اسمها «قبول» «445» .
وقلّد الحجبة عليّ «446» بن يليق وقلّد إمارة الأمراء لمؤنس وقلّد الشرطة ببغداد ليلبق. ثم إن يلبق ومؤنس وعليّ بن يلبق ضيّقوا على القاهر جدّا وما كانوا يرونه إلا بعين تابع لهم «447» . وكانوا يوكلون بالدار من يعلمهم بأحواله. وما كان القاهر قد طاب له ما فعلوا بأخيه من قتله وهتك حرمة الخلافة.
وقلّد القاهر وزارته أبا عليّ، محمد «448» بن عليّ بن مقلة، وكان العامة يرجفون بأن القاهر [77 ب] يريد الفتك بقتلة المقتدر واستشعروا هم منه واضطرب الجند ببغداد لدخول القرامطة مكة وهدم الكعبة. ووصل الخبر بأنهم قلعوا الحجر الأسود وحملوه إلى هجر وإنهم قتلوا سبعين ألف مسلم في الحرم وطمّوا بئر زمزم بالقتلى وانقطع طريق الحج «449» .
فلما كان في يوم الأحد ثانى شعبان سنة اثنتين وعشرين وثلاث مائة جاء عليّ

(1/161)


ابن يلبق الحاجب على العادة إلى الدار فنفذه القاهر إلى أبيه وإلى مؤنس يقول لهم:
قدّموا حضوركم لندبّر في أمر القرامطة فحضروا فلما حصلوا في الدار أمر بالقبض عليهم وأمر فقطع رأس عليّ بن يلبق وقدّم بين يدي أبيه في طست ثم قطع رأس أبيه وجعلا جميعا في طست وأمر فجرّ مؤنس إلى البالوعة وذبح كما تذبح الغنم والقاهر يقول له:
يا معيوب يا مخرق الأسفل أنت تقدم على قتل الخلفاء؟ ثم أخرجت رءوسهم وبين أيديهم الدبادب والبوقات فطيف بها في البلد ومناد ينادى: «هذا جزاء من أقدم على هتك حرمة الخلافة. فما بقي أحد إلا لعنهم وأحرق العامة أبدانهم وحملت رءوسهم إلى خزانة الرءوس «450» فوضعت فيها.
وفي هذا اليوم مات الإمام أبو بكر بن دريد الأزدي «451» - رحمه الله-.
ولما دخل رمضان من هذه السنة شغّب الجند وطلبوا الأرزاق فأعطوا شيئا فسكنوا ورجعوا راضين وجرى الأمر على ذلك إلى جمادى الأولى من سنة ثلاث وعشرين وثلاث مائة. وفي يوم السبت ثانى جمادى [الأولى] اجتمع أبو محمد، الحسن بن أبى الهيجاء بن حمدان وهو الّذي تلقّب أخيرا بناصر الدولة [78 أ] وهو أخو سيف الدولة الأكبر وواطأ جماعة من الغلمان الساجيّة والحجريّة وأحاطوا بالدار ووكلوا بالأبواب وطلبوا القاهر فهرب منهم ففتّشوا عليه وإذا به فوق حمّام وعلى رأسه شرّب قصب وعليه غلالة كتان «452» . فقال له بعضهم: انزل، فقال: ما أنزل ففوّق سهما وقال له: إن لم تنزل رميتك، ولم يكن له مفرّ فنزل فمسكوه وقالوا له:
اخلع نفسك. وتبادر قوم إلى الدار التي كان فيها الأمير أبو العباس بن المقتدر محبوسا فأخرجوه منها وأجلسوه على سرير أبيه وأدخلوا إليه القاهر حتى بايعه بالخلافة وسملوه بعد ذلك.
فكانت خلافته سنة ونصفا.
ووزر له: أبو على، ابن مقلة، ثم بعده أحمد بن الخصيب «453» .

(1/162)