الإنباء في تاريخ الخلفاء

أمير المؤمنين القائم بأمر الله
هو أبو جعفر، عبد الله بن القادر [باللَّه] بويع له في اليوم الثاني من وفاة القادر وأخذ البيعة على الناس المرتضى أبو القاسم الموسوي أخو الرضى، ونظام الحضرتين أبو الحسن الزينبي «556» نقيب النّقباء، وقاضى القضاة الحسين «557» بن عليّ بن ماكولا، وحضر الأمير أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر وبايع «558» .
ووصل الخبر إلى بغداد بموت الظاهر لإعزاز دين الله بمصر في سنة سبع وعشرين وأربع مائة وتولّى بعده [ولده] أبو تميم معدّ وتلقّب بالمستنصر باللَّه «559» .
وفي سنة إحدى وثلاثين وأربع مائة انتشر التركمان في بلاد الإسلام، وكان [93 أ] الناس يسمّونهم الغز. وجاء طغرلبك إلى الرىّ وملك الجبال وطبرستان وحاصر أصفهان وأخذها من قرامرز بن رستم الديلميّ وأعطاه يزد عوضها «560» .
وكان قد جلس في ملك غزنة مكان مسعود بن محمود [ابنه] مودود بن مسعود «561» ...... وفي هذه السنة، وصل الخبر إلى العراق بوفاته واستيلاء جغري بك على جميع بلاد خراسان.
ثم إن الأمور ببغداد اختلّت وصار كل جندي فيها رأسا بنفسه وانقطعت موارد الأموال باستيلاء الخوارج على أكثر بلاد الإسلام. وتقدم بحضرة الخليفة ببغداد أبو الحارث أرسلان البساسيري وصار أمير الأمراء. وجرت بينه وبين الوزير رئيس الرؤساء، أبى القاسم عليّ «562» بن الحسين بن المسلمة منافسة على الأمور وصارا عدوّين.
وكان رئيس الرؤساء صدرا يملأ العين منظرا وفضلا وبراعة وسياسة وعقلا وتدبيرا، وحين استشعر رئيس الرؤساء من البساسيري راسل التركمان السلجوقية وكتب كتابا إلى أبى طالب بن ميكائيل يخاطبه فيه بالأمير الجليل ركن الدولة، ويحسّن له دخول الحضرة، وفر البساسيري بذلك فاستشعر ومرّ هاربا إلى الشام

(1/188)


وأقبل ركن الدولة السلجوقي يريد بغداد. فحين وصل [إلى] النهروان، وهو في خمسين ألف فارس، خرج رئيس الرؤساء لاستقباله وذلك في يوم الأحد ثامن شهر رمضان سنة سبع وأربعين وأربع مائة، وكان معه الملك الرحيم أبو نصر خسرو فيروز «563» ، وهو آخر من بقي من بنى بويه، ولم يكن إليه حلّ ولا عقد. وحين وصلوا إلى نهربين «564» استقبلهم عميد الملك «565» ، أبو نصر الكندري [93 ب] وزير ركن الدولة يطلب صوب البلد، فلما رأى موكب رئيس الرؤساء والعساكر خلفه والقضاة والأشراف والخطباء ووجوه بغداد بالسواد والمناطق عن يمينه وشماله والجنائب تقاد بين يديه وأكثر من مائة جوق من المقرءين يقرءون بين يديه هاله ذلك وتقدّم للسلام عليه. وحين وقعت عينه عليه ترجّل ظنّا منه أن رئيس الرؤساء يترجّل له فما فعل، فلما رأى ذلك منه قدّم جنيب من جنائبه وقال: ركن الدولة حيث علم أنك خرجت لاستقباله أمرنى باستقبالك وقد أمر بأن تقدّم لك هذه الجنيبة فنزل رئيس الرؤساء عن فرسه وركب الجنيبة. وإنما كانت الجنيبة لعميد الملك وأراد بذلك الحيلة على رئيس الرؤساء لينزل فيراه الناس من بعد فيعتقدون أنه ترجّل له، ثم تسايرا إلى أن وصلا إلى ركن الدولة. وحين دخل عليه رئيس الرؤساء نهض وأجلسه معه على سريره وقال له رئيس الرؤساء: يا ركن الدولة إن الله- تعالى- أعطاك الدنيا بأسرها فاشتر نفسك منه ببعضها. فقال: إنما قصدت هذا الجانب لثلاثة أمور: أحدها: لأقبّل العتبة الشريفة النبويّة وأنتمي إلى خدمتها. والثاني:
لأحجّ إلى بيت الله تعالى وأفتح طريق الحج من صوب العراق. والثالث: لأقصد مصر وأنتزعها من يد الخارج الّذي بها وأقيم الدعوة على منابرها لبني العباس. ثم عاد رئيس الرؤساء وأخبر الخليفة بذلك.
ولما كان في اليوم الثاني، دخل ركن الدولة على القائم بأمر الله وهو جالس من وراء شبّاك [94 أ] وحين رآه سجد سبع مرات وأمر له بكرسي صغير فوقف عليه. وكان الخليفة يخاطب عميد الملك وهو يترجم عليه. وخرج من حضرة الخليفة

(1/189)


ونزل دار مؤنس المظفر التي كان ينزلها من يتولّى إمارة الأمراء. ولقّبه الخليفة ب «ركن الدين ملك الإسلام والمسلمين، برهان أمير المؤمنين» .
وفي هذه السنة توفى قاضى القضاة أبو عبد الله، محمد «566» الدامغانيّ- رحمة الله عليه-.
وفي يوم الخميس لثمان بقين من المحرم سنة ثمان وأربعين وأربع مائة عقد الخليفة عقدا على خديجة «567» المدعوّة أرسلان خاتون بنت الأمير جغري بك والى خراسان، وهو أخو ركن الدولة، وكانت خديجة هذه مسمّاة لابن الخليفة ذخيرة الدين «568» . وكان ولىّ عهد المسلمين، وكان قد جرى بين الخليفة وبينهم في ذلك مراسلات قبل دخولهم بغداد، واتفق موت ذخيرة الدين قبل دخولهم فخطبها الخليفة لنفسه. وحين توفى ذخيرة الدين كانت له جارية حامل فوضعت في جمادى الأولى سنة ثمان وأربعين وأربعمائة ابنا سمّى عبد الله وكنّى أبا القاسم ولقّب بعدّة الدين وعمدة الإسلام والمسلمين وأقيم اسمه على المنابر مقام اسم أبيه وهو المقتدى بأمر الله.
ومات القاضي أبو الطيب الطبري «569» وقاضى القضاة أبو الحسن الماوردي «570» في سنة خمسين وأربع مائة قبل عود البساسيري إلى بغداد بأيام.
أما البساسيري فإنه انضم إليه نور الدولة أبو الأغر دبيس بن عليّ بن مزيد الأسدي وقريش بن بدران صاحب الموصل وديار ربيعة. وكاتب المستنصر يحسّن له [94 ب] ما في نفسه من قلع دولة بنى العباس وإزالة ملكهم ويطلب منه العساكر والعدّة. فجاءته العساكر تتقاطر وأمدّوه بالأموال والأسلحة وأقيمت الدعوة للمستنصر باللَّه بالموصل والشام ونقلوا جميع المنابر ببلاد الشام وديار ربيعة من يسار القبلة إلى يمينها وتظاهروا بالأعلام البيض وانضاف إليهم كل عسكر كان بين الموصل ومصر إلا نصر الدولة أحمد «571» بن مروان فإنه افتدى نفسه منهم بالأموال بعد ما أقام الدعوة للمستنصر وخوطب من حضرته بالأمير الأجلّ عزّ الدولة وعمادها، ذي الصرامتين سعد الدين، مولى أمير المؤمنين.

(1/190)


وحين تكامل جمعهم بسنجار عوّلوا على قصد بغداد فوصل الخبر إلى بغداد بذلك فنفذ السلطان طغرلبك جماعة العسكر مع الأمير قتلمش ابن عمه لمحاربتهم واتفق اللقاء في رمضان من سنة ثمان وأربعين وأربع مائة على باب سنجار فانكسر جيش السلطان وانهزم الأمير قتلمش وبلغت هزيمته إلى همذان وكانت الهزيمة ليلة عيد الفطر.
ونفذ البساسيري الفيوج والرسل إلى مصر يخبر بالفتح، ونفذ أسلاب الأتراك وخيلهم وأعلامهم إلى المستنصر فوقع ذلك منه أوفى موقع. وسحبوا الأعلام السود على التراب منكوسة في أسواق القاهرة وزيّنوا البلد أياما. وفي ذلك يقول ابن حيّوس:
عجبت لمدّعى الآفاق ملكا ... وغايته ببغداد الركود
يصول على رعاياها اعتداء ... ويحجم كلما صلّ الحديد [95 أ]
يدبّره ابن مسلمة سفاها ... برأي غيره الرأى السديد
وأعجب منهما سيف بمصر ... تقام له بسنجار الحدود «572»
وحين وصل هذا الخبر إلى بغداد ركب ركن الدولة ودخل دار القائم بأمر الله في أحسن زيّ وتعبئة وبين يديه الأمراء من الأتراك والعرب والديلم. فخرج رئيس الرؤساء إلى صحن الدار لاستقباله فدخل البهو، وهو مجلّل بستور الديباج السود وفي صدره سبنية «573» سوداء مسبلة فكشفت وإذا بالخليفة وراءها على سدّة عالية ارتفاعها من الأرض سبعة أذرع وعليه السواد والمنطقة وهو معمّم على رصافية وبردة النبي- صلّى الله عليه وسلم- على كتفيه وخاتمه في إصبعه وهو حلقة فضة عليها فصّ غروى أسود مربّع نقشه سطران: «لا إله إلا الله محمد رسول الله» والقضيب الخيزران في يده والخدم على طبقاتهم وقوف وفي أيدي بعضهم الشموع وفي أيدي الباقين مجامر البخور من الطّيب. وحين رفعت الستارة ووقعت عين ركن الدين على القائم أكبّ على الأرض يقبّلها فعل ذلك مرارا عدّة. وكان بين يدي الشبّاك كرسي خشب وكان رئيس الرؤساء واقفا عليه، فقال له الخليفة: خذ إليك ركن الدين فنزل رئيس الرؤساء

(1/191)


وأخذ بيده ورقّاه وأوقفه معه على الكرسي ثم قال الخليفة: ومنصور بن محمد، يعنى عميد المملك، فصعد أيضا ووقف معهما. ثم قال القائم بأمر الله لرئيس الرؤساء:
يا عليّ قل لركن الدين: أمير المؤمنين! [95 ب] حامد لسعيك شاكر على فعلك معتدّ بخدمتك، أنس بقربك وقد ولّاك جميع ما ولّاه الله من بلاده وردّه إليه من أمر عباده فاتق الله تعالى في ما ولّاك واعرف نعمته عندك، فقبّل الأرض ودعا وقال: أنا عبد أمير المؤمنين ووليّه. ثم أسبلت السبنيّة وجيء بالخلع وأفيضت عليه وهي سبعة أقبية سود بزيق واحد وعمامة مسكيّة وتاج مرصّع فيه قطعتان ياقوت كبار حول كل قطعة خمس عشرة حبّة كبار، وسوّر وطوّق وكان شيخا قد بلغ السبعين «574» ، وكان أقرع فأثقله الطوق والسّواران وكان يعانيهما بجهد جهيد.
وأمر الخليفة له بثلاثة ألوية: أحدها لواء الحمد أسود مكتّب بالذهب والآخران أحمران بكتابة صفراء. وكتب له عهد بولاية الدنيا بأسرها وخوطب فيه ب «شاهنشاه ملك المشرق والمغرب» وأمره الخليفة بالتوجّه نحو البساسيري. وكانت هديّته للخليفة في ذلك اليوم خمسين غلاما أتراكا على خيول بسيوف ومناطق محلّاة وعشرين رأسا من الدواب والآلات مصاغة مرصعة قوّمت بخمسين ألف دينار، وخمس مائة ثوب أنواعا من كل جنس، وخرج من فوره وسار نحو البساسيري. وكان البساسيري بالرحبة.
وحين سار ركن الدين متوجّها إلى صوب الرحبة ومعه أخوه إبراهيم ينال، وهو أخوه لأمه، وصله الخبر في بعض الطريق بأن إبراهيم كاتب البساسيري وصاحب مسر فاستشعر منه ركن الدين واستشعر هو أيضا. ولما قربوا من البساسيري وصاحب مسر فاستشعر منه ركن الدين واستشعر هو أيضا. ولما قربوا من البساسيري وتوعدوا للقتال [96 أ] عاد إبراهيم ينال إلى وراء طالبا صوب العراق ومعه نصف العسكر فتجبّنت قلوب الباقين وعاد ركن الدين منهزما من غير حرب ولكن خوفا من أخيه أن يسابقه إلى همذان ويدخلها ويستولى على المملكة. وكان من العجائب أن ركن الدين سار من نصيبين إلى همذان في ثمانية أيام ودخلها قبل أخيه إبراهيم بعد ما عطبت خيله وتقطع أصحابه. وحين دخلها كان في نفر قليل، وأدركه إبراهيم فاحتمى ركن الدين بالبلد فحاصره إبراهيم.

(1/192)


ولما اتصل الخبر بالبساسيري وقريش بن بدران هجما على بغداد في هذه السنة وهي سنة خمسين [وأربع مائة] ووصلا إليها في مستهل ذي القعدة فقاتلهما العامة ومن تخلّف ببغداد من الجند أياما ثم عجزوا عنهما ودخلا بغداد في سادس ذي القعدة وأمر جا العسكر في القتل والنهب وأغلقت أبواب دار الخلافة فجاء قريش بن بدران وقصد الدار وكان الخليفة ورئيس الرؤساء على برج في ركن باب النوبي «575» ، فاطلع رئيس الرؤساء وصاح بقريش: يا علم الدين! أمير المؤمنين يستدعيك، فدنا من الباب فقال له: إن الله تعالى قد أتاك رتبة لم يؤتها أمثالك فإن أمير المؤمنين يطلب منك الذمام على نفسه وأهله وأصحابه فقال قريش: أمير المؤمنين قد أذمّ الله له، فقال رئيس الرؤساء: ولى، قال: ولك، قال: فأين الذّمام؟ فخلع عمامته وأخرج قلنسوة كانت تحتها ورماها إليهم وقال: هذا الذمام. فأمر الخليفة ففتح الباب ونزل ومعه رئيس الرؤساء وجماعة من الخدم وسلّموا أنفسهم إليه، فحين رأى الخليفة طيّب نفسه وأمّنه [96 ب] مشافهة ووعده بالجميل وكانت مخاطبته له: «يا شريف» .
وسمع بذلك البساسيري، وكان نازلا بالجانب الغربي، فاغتاظ ونفذ إلى علم الدين يقول: ما هذا الأمان الّذي انفردت به دوني؟ وقد كنّا تعاهدنا على أن لا يستبد أحد منّا بشيء دون رضى أصحابه، فأجابه قريش ب: إني ما عدلت عن ما استقر بيننا، والخليفة فما بينك وبينه عداوة، عدوّك ابن المسلمة فخذه إليك وأنا آخذ الخليفة وقد كنا شرطنا أن نتساوى في القسمة في كل شيء نظفر به والآن واحد لي وواحد لك فرضى البساسيري بذلك. ووجّه علم الدين برئيس الرؤساء إلى البساسيري- لعنه الله-.
فلما وقعت عليه عينه قال: مرحبا بمدمّر الدولة ومهلك الأمم ومخرّب البلاد ومبيد العباد، تعال يا ابن الكافرة، فقال له رئيس الرؤساء: ملكت فاسجح، فجعل البساسيري يكرر قوله: «ملكت فاسجح» . ثم التفت إليه وقال له: أنت ملكت فما أسجحت بل صادرت وعاقبت وقتلت وأنت صاحب قلم فكيف أعفو عنك وأنا

(1/193)


صاحب سيف؟ ثم إني أسألك عن شيء آخر، هب أن جرمي كان مما لا يغفر، فما كان جرم حرمي وأطفالى وعيالي وبناتي حتى نكلت بهم وكشفت ستر الله عنهم؟
وأيّ ذنب كان لجوارىّ حتى علقتهنّ بثديهنّ وقد جئت الآن تستعفينى من هذه الجرائر وأنا رجل جندي صاحب سلاح فإذا كنت ما أبقيت [عليّ] فلم أبقى عليك؟ وأمر به فسوّد وجهه وأركب حمارا ومعه على الحمار نفّاط يصفعه بقطعة جراب وداروا به في الأسواق والدبادب والبوقات [97 أ] تضرب بين يديه. ثم أمر فعلّق كلاب في حلقه وصلب على شاطئ دجلة وذلك بعد أن ألبسه جلد ثور وترك قرونه على رأسه فبقي يتحرك ويضطرب إلى آخر النهار ومات في عشية ذلك اليوم «576» وفيه يقول ابن نحرير الكاتب «577» :
أقبلت الرايات مبيضة ... يقدمهن الأسد الباسل
وولّت السوداء منكوسة ... ليس لها من ذلة شائل
انظر إلى الباغي على جذعه ... والدم من أوداجه سائل
ثم حطّ جسده بعد ثلاثة أيام وأحرق.
ثم جرى في أمر الخليفة بين قريش والبساسيري خلاف، فقال البساسيري: لا بد من تنفيذه إلى مصر وتسليمه إلى المستنصر باللَّه ليرى فيه رأيه فقال علم الدين: بل يعتقل في بعض القلاع حتى يموت. وخاف الخليفة أن يغلب البساسيري على قريش فقام من الخيمة التي كان معتقلا فيها وقصد خيمة قريش بن بدران وقال له: لقد أعطيتنى الذّمام على أن لا أفارقك وأن لا تخرجني من بغداد وهذا الدخول إلى خيمتك الآن أمان ثان فاللَّه الله أن تسلّمنى إلى غيرك فهذا غير معهود في ذمام العرب ولا مألوف في المروءة والطريقة. فقال له قريش: لا بأس عليك والصواب في ما دبّرته في أن تنفذ إلى بعض القلاع «578» . وإنما كان مقصود قريش تسكينه بذلك وإلا فقد كان قريش يعلم أنه إذا خرج من بغداد وسلّم إلى من يحتفظ به، أن البساسيري ينفذ من يأخذه في بعض الطريق وينفذه إلى مصر. والخليفة خاف أن يسلّم إلى [97 ب] المستنصر

(1/194)


فيفعل به بمصر ما فعل البساسيري برئيس الرؤساء ببغداد.
وحين أيس الخليفة من قريش وعلم أنه لا بد من أن يسلّم إلى من يحتفظ به في بعض الحصون التفت إليه وقال له: يا قريش لا شدّ الله لك حزاما. ونهض وعاد إلى خيمته وسلّم إلى مهارش «579» المستحفظ بقلعة الحديثة ليحفظه عنده وكان أمر بذلك في الظاهر وقيل له في الباطن: تحمله إلى مصر وتسلّمه إلى المستنصر. فحين خرج به مهارش من بغداد، وكان مهارش يرجع إلى دين وتألّه ومروءة وذمام، فقال له:
يا مولانا كن على أتم ثقة أن رأسي يمضى دونك وإني لا أسلّمك إلى عدوّ قط ولقد خار الله تعالى لك وللمسلمين ولذرية بنى العباس بكونك عندي. ثم حمله إلى قلعته وخدمه الخدمة التامة.
ثم إن طغرلبك بقي في الحصار بهمذان وأخوه إبراهيم ينال على بابها يحاصره فاتصل الخبر بإبراهيم أن خاتون زوجة طغرلبك توجّهت في تلك الأيام من بغداد إلى همذان ومعها عميد الملك ومعهم أموال الدنيا ظانّين أن الغلبة لزوجها طغرلبك. وخاف إبراهيم أن يتصل بها خبر زوجها في بعض الطريق فتعود إلى بغداد فنفذ جماعة من العسكر لأخذ الطريق عليها. وحين انفصلوا من معسكره بباب همذان وتسامع بقية العسكر بذلك لم يبق منهم إلا القليل والباقون تبعوا العسكر المنفذ إلى صوب العراق لطلب الغارة. فلما خف جمعه خرج طغرلبك مع العسكر الذين كانوا معه في البلد وشباب همذان فكبسوا إبراهيم ونهبوا معسكره وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وهرب [98 أ] هو وحده إلى قزوين. وكان ذلك كله بتدبير السيد أبى هاشم العلويّ «580» ومعاونته، وعرف له السلطان ذلك وولّاه رئاسة همذان.
ثم إن ركن الدين خرج وضرب مضاربه على باب البلد والتحقت به العساكر من كل فج. ووصلت خاتون على جملة السلامة لأن العسكر المنفذ لأخذ الطريق عليها سمعوا بهذا الخبر على مرحلتين من همذان فبعضهم هرب وقصد إبراهيم وبعضهم استأمن إلى السلطان.

(1/195)


ثم إن السلطان ركن الدين قصد أخاه بقزوين وظفر به وقتله. ووصل إليه في تلك الأيام ابن أخيه من خراسان وهو محمد بن داود بن ميكائيل وهو المعروف بألب أرسلان وجعله ولىّ عهده.
ولم يكن بعد فراغه من أمر إبراهيم شغل إلا قصد العراق، فتوجّه إلى بغداد ونفذ إلى مهارش يطلب الخليفة فسار مهارش في خدمة الخليفة إلى صوب بغداد، والتقوا كلهم على ماء النهروان.
وحين أحسّ البساسيري بوصولهم وكان والى بغداد من قبل المستنصر هرب إلى حلة نور الدين دبيس بن عليّ بن مزيد. وخرج كل من كان ببغداد من صغير وكبير إلى النهروان لتلقّي الخليفة والسلطان وخلا البلد في تلك الليلة وهي ليلة الخميس الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة إحدى وخمسين [وأربع مائة] . ولما كان وقت إسفار الصبح ركب القائم بأمر الله وركن الدين بين يديه وعلى رأسه الغاشية وجماعة الأمراء والقواد والعساكر وأهل البلد كلهم رجّالة وكان يوما مشهودا، وذلك لأنه لم يكن فارسا سوى الخليفة والباقون [98 ب] كلهم رجّالة مشاة. ثم إن الخليفة قال لركن الدين: اركب يا أبا طالب، فقبّل الأرض وما ركب، فقال له ثانيا: اركب يا أمير الجيش، فقبّل الأرض ولم يركب، فقال ثالثا: اركب يا ركن الدين، فقبّل الأرض وركب. وحين قربوا من البلد عاد وترجّل وأخذ الغاشية على رأسه إلى أن دخل الخليفة الدار، وحين وصل إلى باب الحرم التفت إليه وقال: ارجع يا ركن الدين شكر الله سعيك ورسوله- صلّى الله عليه وسلم- وأمير المؤمنين، وعاد ونزل بدار عضد الدولة، التي هي اليوم دار المملكة «581» .
ومن العجائب أن دخول البساسيري إلى بغداد وإخراج الخليفة من داره كان في هذا اليوم من شهر ذي القعدة وهو اليوم الّذي دخل فيه.
وفي اليوم الثاني من الدخول رتّب الحشم في الدار والحواشي والحراس والبوّابون على العادة وعاد من كان بعد منهم أو استتر وفرشت الدواوين وجلس الكتّاب على

(1/196)


العادة كأنهم ما أصيبوا. وجاء عميد الملك إلى ديوان الخليفة لتقرير الأمور وإقرار ما يختص بديوانه من البلاد وجرى في ذلك كلام طويل فقال عميد الملك: أمير المؤمنين قد ولّى ركن الدين من وراء بابه وركن الدين هو الّذي أعاد هذه الدولة بعد ما زالت وقد كان بجكم قرر للراضى باللَّه لنفقة داره في كل يوم خمس مائة دينار وكذلك توزون في أيام المتقى وكان الباقي يصرف إلى العسكر وأمير المؤمنين ليس له عسكر سوانا ولا حاجة به إلى أكثر من خمس مائة دينار في كل يوم. فقيل له:
هذا [99 أ] لا يكفى، فقال: نجعلها ألفا، فقيل له: ولا يكفى فإن أمير المؤمنين يحتاج إلى تشريفات وخلع وصلات للملوك والأمراء والقضاة والأشراف وسائر طبقات الناس، وما زالوا به حتى قرر للخليفة كل يوم ألفى دينار، فقيل له: ويجب أن تقرر بذلك بلادا أو ضياعا يختارها الخليفة فاختاروا ما يكون ارتفاعه في كل سنة سبع مائة ألف دينار وعشرين ألف دينار وكتبوا بذلك السجلات وأشهدوا عليه الشهود.
واستدعى الخليفة أبا الفتح بن دارست «582» من بلاد فارس واستوزره وفتحت الدواوين على العادة وعاد أمر الخلافة إلى أوفى ما كان عليه.
وأما قريش فذبح على فراشه «583» في هذه السنة وهي سنة [إحدى وخمسين] «584» وأربع مائة لا يدرى من ذبحه واستجاب الله تعالى فيه دعوة القائم بأمر الله.
وحين أسر القائم حمل ولد ولده، ذخيرة الدين إلى حرّان، وكان طفلا فاحتفظوا به هناك وراعوه وخدموه أوفى خدمة «585» ، ثم لما عاد الخليفة إلى مستقر عزّه أعادوه إليه وبقي القائم بأمر الله تعالى إلى أن بلغ هذا الصبىّ مبلغ الرجال وصار ولىّ العهد وبقيت الخلافة إلى الآن في أعقابه.
ثم إن السلطان ركن الدين طغرلبك أراد أن ينحدر بنفسه إلى حلة نور الدين أبى الأغر دبيس بن مزيد الأسدي لطلب البساسيري فجاء إليه سرايا بن منيع وقال:
اعطونى ألفى فارس لأمضى إلى الكوفة وآخذ على البساسيري طريق الشام وأخاف إن أحسّ بحركتكم إليه هرب إلى الشام وقصد مصر وتقوّى بالعساكر ثم عاد إلى

(1/197)


العراق بعد خروجكم عنه فنفذ السلطان ركن الدين طغرلبك معه [99 ب] أزدمر الحاجب ونوشروان [ربيبه] «586» وكمشتكين دواتي عميد الملك في ثلاثة آلاف فارس فصادفوه منفصلا عن حلة دبيس بن مزيد قاصدا إلى الشام فحاربوه وكسروه ووقعت فيه طعنة فسقط، فنزل كمشتكين العميدي وحزّ رأسه ونهبوا عسكره وجاءوا برأسه فطيف به في البلد والدبادب والبوقات تضرب بين يديه ونصب على باب دار الخليفة سنة كاملة.
وماتت أم القائم بأمر الله في ذلك اليوم وكانت عجوزا قد أنافت على المائة وكان ذلك في اليوم الخامس عشر من ذي الحجة سنة إحدى وخمسين وأربع مائة.
وفي سنة ثلاث وخمسين وأربع مائة رغب السلطان طغرلبك في التزويج بمريم أخت «587» القائم بأمر الله وكان كل واحد منهما قد أناف على السبعين «588» وإنما أراد بذلك التبجّح والتفاخر على أبناء جنسه. وكان بباب تبريز فنفذ الخليفة إليه في إتمام الوصلة ابن المحلبان فتكلّفوا له أمورا عظيمة ونثروا أموالا جمّة.
وفي يوم الخميس ثالث عشر شعبان سنة أربع وخمسين وأربع مائة قام عميد الملك أبو نصر محمد بن منصور الكندري بباب تبريز وأخذ توقيع الخليفة بالوكالة في أمر التزويج «589» وقرأه على السلطان طغرلبك وفسّره له وعقد النكاح على مقتضى التوقيع وكانت نسخة التوقيع:
«بعد حمد الله تعالى والصلاة على رسوله- صلّى الله عليه وسلم- وذكر آثاره وآثار أهل بيته، ثم إن أمير المؤمنين نصر الله تعالى ألويته وأنفذ في المشارق والمغارب كلمته لما اتضح لدى شريف سدّته وبمقر العزّ [100 أ] من سامى حضرته من ولائك يا أبا نصر محمد بن منصور مولى أمير المؤمنين، ومخالصتك ووثق به من دينك وأمانتك وتحقّق جميل سعيك في الخدمة الشريفة ومناصحتك، رسم أعلى الله مراسمه أن يجعل أمر هذه الوصلة الشريفة المقدسة إليك وزمام تدبيرها بيديك وأن يعوّل في أمرها عليك وأن تجرى ما تبرمه من هذا الأمر الشريف موضعه

(1/198)


والعقد العظيم موقعه على سنة الرسول- صلّى الله عليه وسلم- على أربع مائة درهم ودينار واحد مهر سيدة النساء فاطمة البتول، ليعلم الكافة من العامة والخاصة تنزّه أمير المؤمنين- رضوان الله عليه وعلى آبائه الطاهرين- عن التلبّس بحطام الدنيا. وأن مكان شاهنشاه المعظم، ملك المشرق والمغرب ركن الدين أمتع الله به لا يوازيه شيء من الأشياء» . وبعد هذا كلام لم يحضرني الآن «590» . فغلب البكاء على السلطان عند ذلك وعلى أكابر الحاضرين وجرى أمر عظيم رقّق القلوب.
ثم سلّمت إليه ببغداد بعد امتناع شديد من تسليمها وذلك في الخامس عشر من صفر سنة خمس وخمسين وأربع مائة، وكان معها من الفرش والآلات والجواهر والأواني سوى ما صرف إلى الحجاب وحواشي الدار ما قوّمه الثقات بألفي ألف دينار. وكان يدخل عليها وهي جالسة على السرير فيخدمها ويقبّل الأرض بين يديها وينصرف. وأخذها معه إلى حلوان ثم أعادها من هناك.
وقصد الرىّ في هذه السنة وهي سنة خمس وخمسين وأربع مائة ومات بها في رمضان، وأخذ عميد الملك أبو نصر محمد بن [100 ب] منصور الكندري بعده البيعة للأمير مشيّد الدولة أبى القاسم سليمان «591» بن دواد، وكان يلقّب بأمير الأمراء، وهو ابن أخيه الأصغر. ثم بعد أيام وصل ابن أخيه الأكبر من خراسان وهو الأمير ألب أرسلان «592» بن داود فانحلّ أمر هذا الصبىّ واستولى ألب أرسلان على الأمر واحتقد ذلك على عميد الملك، وجاءه اللواء والعهد من بغداد بالسلطنة ولقّب ب «ملك المشرق والمغرب، عضد الدولة القاهرة العباسية» . وأقرّ عميد الملك على الوزارة ثم قبض عليه وحبسه في دار عميد خراسان واستصفى أمواله ثم نفذه إلى قلعة، وأمر فقتل بها «593» .
واستوزر بعده أبا عليّ، الحسن بن عليّ بن إسحاق الطوسي ولقّبه «قوام الدين نظام الملك صدر الإسلام شمس الكفاة سيد الوزراء رضى أمير المؤمنين» وكان لهذا الصدر من الخيرات في بلاد الإسلام من المدارس والقناطر والرباطات والوقوف

(1/199)


ما هو موجود إلى الآن يشهد لنفسه. وفتح الله تعالى على يديه الفتح الّذي عزّ به الإسلام بباب منازجرد «594» سنة ثلاث وستين وأربع مائة وأسر ملك الروم. وكان الثغر على باب خوى «595» ففتحوا بذلك الفتح نحوا من مائتي مدينة حتى صار الثغر على باب القسطنطينية «596» . واستشهد «597» هذا الصدر على أيدي الملاحدة بباب نهاوند في العاشر من رمضان سنة خمس وثمانين وأربع مائة، وكانت مدة وزارته ثلاثين سنة منها عشر سنين للسلطان ألب أرسلان وعشرون سنة لولده جلال الدولة، أبى الفتح ملك شاه.
ومات القائم باللَّه- رحمة الله عليه- في سنة سبع [101 أ] وستين وأربع مائة.
وكانت خلافته خمسا وأربعين سنة. وقبل وفاته بسنة واحدة كان غرق بغداد «598» .

(1/200)


أمير المؤمنين المقتدى بأمر الله
هو أبو القاسم، عبد الله بن ذخيرة الدين أبى العباس محمد بن القائم بأمر الله.
ولما مات جدّه القائم بأمر الله جلس أكابر الدولة والدين للعزاء بباب الفردوس «599» وحضر الفقهاء والقرّاء والأجناد على طبقاتهم وصلّى عليه المقتدى، وصلّى بهم صلاة العصر من وراء السبنية ودفن في الدار وفي صبيحة اليوم الثاني والثالث جلسوا للعزاء. وفي اليوم الثالث وقعت البيعة للمقتدى بأمر الله وكتبت الكتب ببيعته إلى الآفاق. وأمه حبشيّة تعرف بالأرجوانية «600» وكانت تقيّة زاهدة صوّامة كثيرة المروءة والصدقة محبّة لأهل الستر والصلاح.
وكان المقتدى بأمر الله شهما شجاعا ذا بصيرة وجدّ، وكان يرجع إلى فضل وافر وعقل كامل. وكان نفذ إلى ديار بكر لطلب فخر الدولة أبى نصر محمد بن محمد ابن جهير وزير بنى مروان فلما حضر استوزره «601» ولم يكن كما سمع عنه ولا كان فيه فضل ولا كفاية وإنما ستر نقصه بكثرة المال فإنه فرق في مدة قريبة سبع مائة ألف دينار وخدم الخليفة ببعضها والباقي انصرف إلى حواشي داره وخدمه ثم إلى العسكر الواردة إلى حضرته ثم إلى الشعراء والقضاة والطارقين من أهل العلم وغيرهم «602» .
وحكى جماعة شاهدوا طبقة في داره التي أمر ببنائها بحرم [دار] [101 ب] الخلافة فكان على طبقة كل يوم مائة صحن في كل صحن عشرة أرطال لحم وكان راتبه كل يوم ألف رطل لحم هذا سوى الشوايا والدجاج والحلواء والفاكهة. وكان يفصّل في يوم النيروز مائة وعشرين جبّة ويلفّق «603» مائة وعشرين عمامة ثم يلبس في كل ثلاثة أيام جبّة وعمامة ويخلعها، ولم يعهد أنه وقع على جسده قميص أو رفيقه يومين بل يجدّد ذلك كل يوم، وأكثر هذه النعمة إنما أظهرها ببغداد بعد انفصاله عن ديار بكر. ثم عزله الخليفة، واستوزر مكانه أبا شجاع، محمد «604» بن الحسين الروذراوريّ، وكان كاتبا بليغا، وله الشّعر الحسن والرسائل البديعة ونثره أجود من نظمه وخطّه أجود منهما. وكان له معرفة بعلم الأدب والحساب والفقه، وكان راوية للأخبار متألّها متديّنا لا يظلم

(1/201)


ولا يشرب الخمر ولا يلبس الحرير، ولم تطل مدّته في الوزارة لأن فخر الدولة بن جهير قصد السلطان جلال الدولة أبا الفتح ملك شاه ومعه أولاده الثلاثة وهم عميد الدولة أبو منصور وزعيم الرؤساء أبو القاسم «605» والكافي جهير.
وكان نظام الملك معتقدا فيهم مراعيا لهم فزوّج بنت بنته «606» وهي بنت رئيس جرجان من عميد الدولة وكان اسمها «صفيّة» ونفذ إلى الخليفة المقتدى بأمر الله يلزمه بعزل الوزير أبى شجاع وتولية عميد الدولة مكانه ولم يكن للخليفة بدّ من إجابة سؤاله، فعزل الوزير أبا شجاع وولّى عميد الدولة. وفيه يقول القائل «607» :
قل للوزير إذا باهى برتبته ... كل البريّة واستعلى بمنصبه [102 أ]
لولا صفيّة ما استوزرت ثانية ... فاشكر حرا صرت مولانا الوزير به
ثم إن الوزير أبا شجاع حج وجاور بالمدينة وكان هو بنفسه يتولّى خدمة التربة الشريفة المقدسة، وكان يكنسها كل يوم، وجمع من ترابها ما عمل منه لبنة وأمر أن توضع إذا مات تحت خدّه ففعل به ذلك، وتربته بالبقيع- رحمة الله عليه ورضوانه- «608» .
ثم ولى نظام الملك فخر الدولة بن جهير ديار بكر ونفذ معه العساكر فسار إليها وفتحها وأزال ملك بنى مروان ظنّا منه أن ذلك يبقى عليه وعلى عقبه. وبعد مدة يسيرة عزل عنها وولّى مكانه القوام أبو على التكشى «609» .
وكان يتفاخر ويقول: أنا إذا قمت لبعض شأنى بادر وزير الخليفة لتقديم نعلى يعنى عميد الدولة ولده. وكان في عميد الدولة من الكبر وقلة المبالاة بالناس ما لم يكن في أحد قبله من الوزراء ولا من الخلفاء «610» .
حكى إنسان من كتّاب واسط يعرف بابن العرمرم قال: صحبته من أصفهان إلى بغداد وكنت أتوكّل له وأخدمه في خاصّه فما كان يأمرني إلا مكاتبة أو مراسلة وما كان يشافهنى بشيء إلا في الندرة. ونفذ إليّ يوما وقال: إذا رفعت إليّ قصة لصاحب حاجة فكتبت على رأس القصة «يتعهّد» فأعطه عشرة دنانير، وإن كتبت

(1/202)


«يتفقد» فأعطه خمسة دنانير، فإن كتبت «يراعى» فأعطه ثلاثة دنانير فإن هذه المقادر لا أكتبها بخطي. قال: فلما وصلنا إلى بغداد شكوت ما جرى عليّ منه في الطريق إلى بعض خدمه المختصين به فأوصل ذلك إليه فقال [102 ب] :
أو يستزيدنى هذا الأحمق في إيناسي له وكلامي معه وقد تكلّمت معه من باب أصفهان إلى بغداد أربع عشرة كلمة؟ وإذا به عدّها وأنا أظنّه يكذب فإنّها لم تبلغ هذا القدر.
وكان له فرّاش، له في خدمته السنين الطويلة ما فاتحه قط، فصبّ يوما على يده ماء حارّا فقال لخادم كان بين يديه: ادع بحاجب فدعا بحاجب فلما حضر قال للحاجب:
مره يمزجه فأمره فمضى الفرّاش ووضع المسينة من يده وحلف بالطلاق الثلاث: إنني لا خدمت هذا الرجل أبدا. قيل له: ولم؟ قال: لي قريب من ثلاثين سنة في خدمته وقد استنكف أن يأمرني بمزج الماء فاستدعى الحاجب وأمره ليأمرنى، وخرج وما عاد إلى داره.
وفي «611» سنة خمس وسبعين [وأربع مائة] سار الشيخ الإمام أبو إسحاق الشيرازي رسولا «612» من المقتدى إلى السلطان ملك شاه بعد أن أوصله الخليفة إليه وفاوضه شفاها وشكا من العميد أبى الفتح ابن أبى الليث «613» شفاها ووصل [إلى خراسان] وناظره الإمام أبو المعالي الجويني «614» ، وكان في صحبته من أكابر تلامذته الشاشي وابن قنان والطبري وكان معه جمال الدولة عفيف الخادم «615» وإليه تنسب المكارم، وعاد الشيخ أبو إسحاق إلى بغداد والقلوب إلى حضرته متعطّشة والعيون من غيبته مستوحشة، ثم توفى- قدس الله روحه- ليلة الأحد الحادي والعشرين من جمادى الآخرة سنة ست وسبعين وأربع مائة، ورتّب مؤيد الملك «616» أبا سعد المتولي «617» مدرسا فلم يرض نظام الملك وجعل التدريس للشيخ الإمام أبى نصر الصبّاغ «618» صاحب كتاب الشامل والمحتوى على الفضائل، فاتفق [103 أ] خروج مؤيد الملك وخرج معه المتولّي وعاد متولّيا في رتب السمو متعلّيا وقد نعت ب «شرف الأمة» ، وكان من أكابر الأئمة.

(1/203)


واتفقت وفاة أبى نصر بن الصبّاغ في تلك السنة يوم الخميس النصف من شعبان وفقده عادة عادية الزمان، وبقي المتولّي متولّيا إلى أن توفى سنة ثمان وسبعين [وأربع مائة] في شوال، وأصبحت ولاية العلم بغير وال.
ودرّس «619» بعده الشريف العلويّ الدبوسي «620» ، أبو القاسم وعاد العلم إلى المعالم وتوفى ثالث عشر جمادى الآخرة سنة اثنتين وثمانين [وأربع مائة] .
وفي «621» ثالث محرم هذه السنة ولّى الإمام أبو بكر الشاشي وكان في المدرسة «622» التي بناها تاج الملك ببغداد.
وفي محرم سنة ثلاث وثمانين [وأربع مائة] جلس عبد الله الطبري بمنشور نظام الملك «623» متولّيا للتدريس متحرّيا معاني الشريعة بالتأسيس.
ثم وصل بعده القاضي أبو محمد، عبد الوهاب [الشيرازي] «624» للتدريس بالنظاميّة أيضا، وتقرر أن يدرس هذا يوما والطبري يوما ليزيد العلم بتحريهما فيضا «625» .
وفي سنة أربع وثمانين [وأربع مائة] قدم الإمام أبو حامد الغزالي للتدريس في النظامية وكان للعلم بحرا زاخرا وبدرا زاهرا وأشرقت غرايبه في المشرقين والمغربين وملأت حقائب الملوين وأثقلت غوارب الثقلين، ولم يزل واحد عصره وهو بنور علمه ثالث القمرين] «526» .
وفي سنة ثلاث وثمانين وأربع مائة أمر السلطان جلال الدولة أبو الفتح ملك شاه ابن ألب أرسلان أن تبنى المدينة الجديدة «627» تحت دار المملكة ببغداد ونقل أهل البلد كلهم إليها وحوّط عليها سورا محكما هو باق إلى الآن، وجعل بغداد سرير الملك وسام الخليفة [103 ب] أن يتحول عنها إلى مكة أو إلى المدينة فلم يمكنه الوزير نظام الملك.
وأما وفاة نظام الملك المذكور فإنه قتل على يد الملاحدة في عاشر يوم من رمضان قبل أن يفطر بتأليب من جماعة «628» . والموفّق النظامى «629» يقول في مرثيته له التي أولها:

(1/204)


مصاب أصاب جميع الأمم ... فأثّر في عربها والعجم
ويستطرد فيها بذكر الجماعة بقوله:
وشارك عثمان في قتله ... فكل بقتلته متّهم
وبادر جلال الدولة مسرعا إلى بغداد فوصلها في شوال وطلب من الخليفة المقتدى بأمر الله أن يترك عليه بغداد وينتقل عنها إلى حيث أراد، إما المدينة أو مكة أو البصرة أو أصفهان فاختار أصفهان، وكان في عمل الآلات والتهيؤ للمسير. ولما كان اليوم السادس عشر من شوال سنة خمس وثمانين وأربع مائة توفى السلطان جلال الدولة أبو الفتح ملك شاه بن ألب أرسلان. قيل: مات موتا طبيعيّا، وقيل: مات مسموما على يد خردك الخادم، والله أعلم بجليّة الحال.
وتوفى الإمام المقتدى بأمر الله، أبو القاسم عبد الله في المحرم سنة سبع وثمانين وأربع مائة وهو ابن تسع وثلاثين سنة. وكانت خلافته تسع عشرة سنة وشهورا.

(1/205)