الإنباء في تاريخ الخلفاء

أمير المؤمنين المستظهر باللَّه
هو أبو العباس، أحمد بن المقتدى بأمر الله. بويع له في رابع المحرم سنة سبع وثمانين وأربع مائة، وهو اليوم الثالث من وفاة أبيه بعد الجلوس [103 ب] للعزاء على العادة.
وكان مولده بدار الخلافة سنة سبعين وأربع مائة. وكانت أمه تركية «630» ولم ير في زمانه أصبح وجها منه.
وحين دخل عليه أهل الحلّ والعقد للبيعة وسائر وجوه الأشراف والأجناد والقضاة، كان الوزير عميد الدولة «631» واقفا بين يدي سدّته ومعه قاضى القضاة أبو الحسن عليّ «632» بن محمد الدامغانيّ ونقيب النّقباء أبو القاسم عليّ «633» بن طراد الزينبي وبايعه الخلق كافة.
وحكى شرف الدين، نقيب النّقباء، قال: لما بايعه حجّة الإسلام أبو حامد، محمد ابن محمد الغزالي- قدّس الله روحه- تلجلج وتوقّف فسألته بعد ذلك عن السبب في في توقّفه مع ما أعرفه من جرأة لسانه، فقال لي: والله لقد عنيت «634» في نفسي كلاما ألقاه به عند البيعة فلما وقعت عيني عليه بهتّ لجمال صورته فانقطع خاطري.
وجرت أموره كلها على السداد، وكان مشغولا بشأنه محبّا للترفّه والتنعّم، آخذا من لذّات الدنيا بأوفر الأنصباء، ولم يكن يشره إلى أموال الرعيّة ولا يطمع لا في صغير ولا في كبير وكانت الدنيا والعراق خاصة في أيامه هادئة والعين نائمة وأمور دولته مستقيمة، إلا أنه احتقد على عميد الدولة بن جهير أشياء كان يعامله بها أيام أبيه، فحين أفضت الخلافة إليه أقرّه على الوزارة ثم قبض عليه بعد ذلك وأدخله حمّاما وسمّر عليه حتى مات فيه، وحين فتحوه رأوه ميتا وقد وضع أنفه على مسيل الماء كأنه يستنشق منه الهواء فنقلوه من الحمّام إلى مكان آخر وألبسوه ثيابا وأدخلوا عليه جماعة من القضاة والمعدلين حتى يشهدوا بما رأوا من [104 أ] حاله وأنه لا أثر فيه وأنه مات حتف أنفه، ودخل في الجملة أخواه، الزعيم والكافي، فصاح الكافي:

(1/206)


يا أخى يا أبا منصور! قتلوك أو متّ؟ كذا يردّدها دفعات ثم التفت إليهم وقال:
ما أراه يجيبني؟ فصفع مكانه بالنّعال، فيقال: إن خمس مائة خادم خلعوا مداساتهم وخفافهم وصفعوه بها فوقع ميتا، ولم يعهد قبله من مات هذه الموتة. وكان الناس يقولون: قتل الكافي قتل العقارب.
وأما الزعيم فما زاد على أنه بكى وقال: يرحمك الله يا أبا منصور، ما زالت بك المراقبة حتى قتلتك. وحكى الزعيم للناس في تلك الساعة قال: هذا أخى من أمى وأبى ونحن مشايخ والله ما رأيت قدمه مكشوفة إلى ساعتي هذه. وحمله وواراه ودفنه في تربته المعروفة به في شارع قراح بن رزين «635» .
واستوزر الخليفة السديد أبا المعالي «636» العارض لجيش السلطان ملك شاه ولقّبه «عضد الدين» ولم يكن له أمر وإنما كان يدبّر الأمور ولىّ الدولة أبو المعالي «637» ابن المطّلب، صاحب ديوان الزمام.
وفي سنة ثمان وثمانين وأربع مائة عزل المستظهر السديد أبا المعالي «637» ، ابن المطّلب، صاحب ديوان الزمام.
وفي سنة ثمان وثمانين وأربع مائة عزل المستظهر السديد أبا المعالي واستوزر الزعيم أبا القاسم عليّ «638» بن فخر الدولة ولقّبه «قوام الدين» .
وفي سنة إحدى وخمس مائة استوزر السلطان محمد «639» بن ملك شاه أحمد «640» بن نظام الملك ولقّبه «قوام الدين» وهو لقب أبيه- رحمه الله- فنقل الخليفة لقب وزيره الزعيم من قوام الدين إلى «مجير الدين» .
وفي هذه السنة قتل سيف الدولة أبو الحسن صدقة «641» [بن] «642» بهاء الدولة أبى كامل منصور وحمل [104 ب] رأسه إلى بغداد وطيف به في الأسواق وأخذ ابنه دبيس أسيرا واختفى منصور ابنه الآخر وهرب بدران ابنه الأكبر إلى مصر.
وفي سنة خمس وخمس مائة عزل أحمد بن نظام الملك عن الوزارة ورتّب الخطير محمد بن أحمد مكانه.
وفي سنة سبع وخمس مائة مات الزعيم بن جهير واستوزر الخليفة ولد الوزير أبى شجاع، ربيب الدولة المعروف بالقيراطى ولقّبه «نظام الدين» «643» .

(1/207)


وفي سنة ثمان وخمس مائة أمر السلطان محمد بذكر اسم ابنه محمود على المنابر بعد اسمه وضرب الدنانير والدراهم باسمه وجعله ولىّ عهده. وكان يخطب للخليفة المستظهر باللَّه ثم لولىّ عهده، عمدة الدنيا والدين وعدة الإسلام والمسلمين أبى منصور الفضل بن أمير المؤمنين ثم لصنوه وأخيه وشقيقه وتاليه ذخيرة الدنيا والدين أبى الحسن عبد الله ابن أمير المؤمنين ثم بعد ذلك لمحمد بن ملك شاه ثم لابنه محمود.
ونفذ السلطان محمد إلى خراسان يخطب من أخيه سنجر ابنته لمحمود ولده فنفذها إليه إلى أصفهان مع خاتون أم سنجر وهي أم محمد أيضا.
ونفذ السلطان محمد يطلب من الخليفة أن ينفذ وزيره وجماعة أركان دولته إلى أصفهان لتلقى المدد القادم من خراسان فخرجوا كلهم، الوزير الربيب نظام الدين ونقيب النّقباء شرف الدين الزينبي ونقيب العلويّين مجد الدين عليّ «644» بن المعمر وظهير الدولة أبو طاهر بن الخرزي «645» صاحب المخزن وأمير الحاج يمن القائمي «646» . ولم يبق في دار الخلافة سوى المستظهر باللَّه وقاضى القضاة عليّ بن محمد الدامغانيّ ينفذ الأمور [105 أ] في الديوان نيابة عن الخليفة.
وحين وصلوا إلى أصفهان وانقضى أمر العرس عادوا إلا الوزير فإن السلطان محمد استوزره «647» . وكان عودهم في رمضان من سنة إحدى عشرة وخمس مائة.
وفي هذه السنة توفى السلطان محمد بن ملك شاه بأصفهان، وفي ربيع الأول سنة اثنتي عشرة توفى المستظهر باللَّه- رحمه الله- بعلّة الاستسقاء. وحين اشتدت به العلّة في الليلة التي مات فيها قال: ادعوا لي ولىّ عهد المسلمين فجاءوا بأبي الحسن ففتح عينه فرآه فقال: ما أريد هذا أريد أخاه الأكبر، وكان ميل الجماعة إليه لأنه كان صاحب لهو وهزل، وكان المسترشد- رحمه الله- صاحب جدّ، فخلوه ساعة ثم اقتضاهم فقالوا:
قد ثقل وهو لا يعلم ما يقول ولا يفرّق بين الأخوين فجاءوا بأبي الحسن ثانيا، فقال:
لست أريد هذا، أريد أبا منصور الفضل ابني الأكبر فلما رأوا الجد منه مضوا وجاءوا به فحين رآه استدناه وقبّل بين عينيه وقال له: يا عزيزي أنا ماض إلى جوار الله تعالى

(1/208)


وسعة رحمته فارفق بأهلك وأحسن السيرة في رعيّتك وانظر في ما وصل إليك واعلم أنك مسئول عن القليل والكثير في آخرتك والله خليفتي عليك ومات في تلك الساعة- رحمه الله-.
وكان الأمير أبو منصور من منتصف ذلك اليوم قد ملأ الدار بالخيّالة والرجّالة بالأسلحة التامة واستظهر على الأبواب وأركب الغلمان الأتراك يدورون في البلد.
وحين عرف أخوه أبو الحسن ذلك وتحقّق موت أبيه خاف على نفسه «648» واستوحش مما جرى في تلك الليلة [105 ب] فقصد روشن التاج «649» مما يلي دجلة وصادف منه موضعا مظلما خاليا فشدّ طرف عمامته في الدرابزين وتسرّح إلى شاطئ دجلة ونزل في سميرية فيها ملّاح يعرف بابن المراكبي فعرّفه نفسه وقال له: اجدف وما كان بعد ساعة إلا وهو في المدائن فصعد إلى دار أبى مضر العلويّ النقيب «650» وطلب منه خيلا ورجالا وركب فصبّح الحلة.
وكانت خلافة المستظهر باللَّه- رحمة الله عليه- خمسا وعشرين سنة، وكانت سنّه يوم مات اثنتين وأربعين سنة.

(1/209)


أمير المؤمنين المسترشد باللَّه
هو أبو منصور، الفضل بن المستظهر باللَّه فحل بنى العباس ونجيبهم وفاضلهم وكاتبهم وأشجعهم. بويع له بعد موت المستظهر- رحمه الله- بثلاثة أيام وذلك بعد الفراغ من العزاء على الرسم والعادة. وكانت بيعته في صبيحة يوم الخميس السادس والعشرين من ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وخمس مائة. وتولّى أخذ البيعة على الناس القاضي الأكمل ذو الحسبين أبو القاسم عليّ «651» بن نور الهدى أبى طالب الزينبي وشرف الدين نقيب النّقباء ذو الفخرين أبو القاسم عليّ بن أبى الفوارس طراد بن محمد الزينبي. وقرّر أمر الوزارة على ربيب الدولة نظام الدين وكان بأصفهان وابنه ينوب عنه ببغداد ولقبه «عضد الدين شمس الدولة» .
وكان مولد المسترشد باللَّه في يوم الاثنين سابع شعبان سنة ست وثمانين وأربع مائة في حياة المقتدى [106 أ] جده.
ثم لما وصل الخبر إلى بغداد بموت الوزير الربيب نظام الدين بأصفهان استوزر الخليفة عميد الدولة أبا عليّ بن صدقة «652» ولقّبه «جلال الدين صدر الوزراء، صفيّ أمير المؤمنين» . وكان كاتبا بليغا فصيحا كريما كافيا يملأ العين والقلب. وكان له رواء ومنظر وسكينة وكان حسن التدبير للأمور محبّا لأهل العلم كثير الميل إلى أرباب الصلاح والدين.
وفي أول وزارته مات قاضى القضاة عماد الدين أبو الحسن عليّ «653» بن محمد الدامغانيّ فرتّب الخليفة في منصبه الأكمل «654» ابن نور الهدى ولقّبه «فخر الدين» وجعله قاضى القضاة شرقا وغربا وقبض على أبى طاهر بن الخرزي صاحب المخزن وصادره ثم أطلقه وأعاده إلى شغله ثم افتقدوه من داره وأصبح والناس يتطلّبونه فما عرف له خبر إلى الآن. ويقال: إنهم اغتالوه بحيلة تمّت عليه والله أعلم بجليّة الحال.
ورتّب في مكانه القاضي فخر القضاة ابن السيبي «655» ولقّب ب «خالصة الدولة»

(1/210)


وقلّد الخليفة أبا الفتوح حمزة «656» بن طلحة، ابن دايته «657» ، الحجبة الخاصة والشرطة بجانبي مدينة السلام والمظالم ولقّبه ب «الأجلّ أثير الدولة» . ثم بعد ذلك بسنة نقله من الحجبة إلى المخزن وزاد في ألقابه «كمال الدين عضد الإسلام» وقدّمه حتى جعله في درجات الوزراء واستحجب مكانه ضياء الدولة أبا الفضل هبة الله «658» ابن محمد بن الحسن بن الصاحب ولقّبه ب «الأجلّ مجد الدين قوام الإسلام» .
وأما ما كان من أمر مغيث الدنيا والدين أبى الثناء محمود بن السلطان [106 ب] غياث الدنيا والدين أبى شجاع محمد بن ملك شاه فإنه حين توفى أبوه في سنة إحدى عشرة وخمس مائة بأصفهان وأجلسوه على سرير الملك، استوزر الربيب نظام الدين «659» وزير أبيه، وحين مات الربيب المذكور في ذلك العام استوزر عز الدين، مشرف الممالك المعروف بالكمال عليّ بن أحمد بن عليّ السميرمى «660» ولقّبه «نظام الدين» واجتمع عليه عسكر الدنيا من العراق والجبال والشام ولقي بهم عمّه سنجر بن ملك شاه فانهزم محمود على باب ساوة وكرّ راجعا إلى أصفهان ثم تقرّر الصلح بينهما على أن يخاطب سنجر بالسلطان الأعظم سلطان السلاطين، ومحمود بالسلطان الأعظم سيد السلاطين وأن يقرّر على محمود ولاية العراق والجبال والشام سوى همذان والرىّ وساوة وخوى وأشياء اقتطعوها من أصفهان كانت في زمن السلطان محمد مقطعة لأمه، وسوق الغنم وسوق الظباء ببغداد ومبلغ ذلك كله في كل سنة ثلاث مائة ألف دينار «661» ، وأن يتسمّى محمود باسم السلطنة وتضرب له النوب الخمس وينفرد عن العسكر بالمضارب الحمر والرايات السود. وحين وقع الصلح زوّجه عمه السلطان معزّ الدنيا والدين أبو الحارث سنجر بن ملك شاه المذكور بابنته «مهملك خاتون» وعاد إلى خراسان «662» .
وأما ما كان من أمر الأمير أبى الحسن عبد الله بن المستظهر باللَّه فإنه حين قدم الحلة وبها دبيس «663» بن سيف الدولة صدقة خيّره بين المقام عنده ليكون في خدمته أو الانتزاح ليزيح علّته في جميع ما يحتاج إليه من العدّة والسلاح [107 أ] والكراع

(1/211)


فاختار الرحيل وطلب منه العسكر فأزاح علّته وضرب له سرادقا من الديباج وعدة خيم من الديباج وخدمه بألف ثوب من الأنواع ونفذ معه ألفى فارس فانحدر إلى واسط وملكها وملك جميع البلاد السفلى واجتمعت عليه العساكر وقويت شوكته.
وكان أول أمره يخطب لنفسه بعد أخيه فلما قوى خلع الطاعة وخطب لنفسه بالخلافة ولقّب نفسه «المستنجد باللَّه» . واضطرب الناس ببغداد وقامت القيامة على المسترشد باللَّه وخاف أن يقصد بغداد وهي خالية من العسكر ويستولى على الأمر وكان السلطان محمود مشغولا بعمّه لا يتفرغ لإنجاده. فنفذ الخليفة إلى دبيس بن صدقة وبذل له إن جاء بأخيه ثلاثين ألف دينار. فطلب أن يكون في جملته من بحضرة الخليفة من العسكر فنفذ المسترشد باللَّه معه الأمير نظر «664» في خمس مائة فارس، وقصده دبيس ولم يلقه بنفسه حياء لأنه كان ضيفه ونزيله فنفذ العسكر مع الأمير نظر وتخلّف دبيس فمضوا وهجموا عليه وحاربوه وكسروه ومرّ هاربا فتبعه بدوي برمح فقال له: ويلك أنا أمير المؤمنين، فقال له البدوي: أمير المؤمنين قاعد على روشن التاج ببغداد.
ثم لحقه الأمير نظر فترجّل وقبّل الأرض وقبّل ركابه وأخذ بعنان فرسه وأدخله سرادقه واحتاط عليه وحمله إلى بغداد وأدخل إليها ليلا في الزبزب والوزير جلال الدين والنقيب شرف الدين وقاضى القضاة الأكمل وجماعة أرباب المناصب في خدمته وصعد من الزبزب إلى داره واحتاطوا [107 ب] عليه كجارى العادة في أمثاله.
وقد كان استوزر الرئيس أبا دلف بن زهمويه «665» الكاتب فأسروه معه. وفي صبيحة تلك الليلة خلع المسترشد باللَّه، أمير المؤمنين، على وزيره جلال الدين الجبّة الممزج على العادة والفرجيّة النسيج فوقها والعمامة والمركب اليشم على فرس أدهم والكوس والعلم وركب من باب الحجرة والخلع عليه وأرباب المناصب كلهم مشاة بين يديه حتى انتهى إلى داره بباب العامة.
وفي تلك الساعة أمر الخليفة فأخذ ابن زهمويه المقدّم ذكره وألبس قميصا أحمر

(1/212)


وسراويل صفر وعلّق في أذنيه أربع بصلات وألبس في رجليه نعلان من الخشب وترك على رأسه برنس قد علّقت فيه التواسيم وأذناب الثعالب والفار الموتى وأركب على جمل وجعل ذنب الجمل في يده وأركب خلفه نفّاط يصفعه بجراب وسوّد وجهه وضربت الدبادب والبوقات بين يديه في الأسواق والصبيان يدبدبون بالصوانى والأطباق وبعضهم بالخزف المكسّر ويصيحون:
أيا وزير الوزرا ... كذا تقاد الأسرا
ثم لما طيف به جميع البلد حطّوه من الجمل إلى الحبس وخنقوه في الليل.
ثم إن دبيس بن صدقة طالب المسترشد باللَّه بالمال الّذي كان وعد به فماطله ودافعه فأمرج أصحابه في نواحي الخليفة ونهب السواد وأحرق الغلّات وركب يوما إلى الميدان فجرى بينه وبين الأمير علم الدين عفيف كلام فقال له دبيس: والله لأنقضنّ الدار حجرا حجرا [108 أ] وما أنا بدون البساسيري، قال له ذلك وتم على وجهه إلى الحلة. وبلّغ عفيف ما سمع إلى الخليفة فنفذ الخليفة إلى همذان واستدعى بالسلطان محمود فوصل في أسرع مدة وذلك في ربيع الأول سنة أربع عشرة وخمس مائة.
وحين وصل النهروان خرج الوزير جلال الدين وجماعة أرباب المناصب لاستقباله على العادة ودخل البلد وجلال الدين على يمينه وقيصر الخادم «666» على يساره، وكان أتابكه، وما تركه الخليفة يستقر ببغداد إلا أياما ونفذه إلى الحلة لدفع دبيس عن العراق وذلك بعد أن خلع عليه وطوّقه وسوّره وتوّجه وخلع على وزيره نظام الدين السميرمى وعلى جماعة أرباب دولته وعلى سائر الأمراء الذين كانوا في جملته.
وحين توجهوا إلى الحلة وقربوا منها هرب دبيس عنها طالبا طريق ديار بكر وقصد إلى حميّه الأمير نجم الدين إيلغازي بن أرتق «667» فوصل إليه وهو متوجّه إلى غزاة الكرج منجدا للملك طغرل وكان المسلمون في قريب من مائة ألف فارس فلحقهم شؤم دبيس فهزموا وقتل بعضهم وأسر بعضهم ودخل بتلك الواقعة على الإسلام من الخلل ما صعب تلافيه. فإنّهم تجرءوا على محاصرة تفليس وأخذوها من أيدي المسلمين وأخذوا عدة حصون تجاورها «668» .

(1/213)


ثم إن السلطان محمود بعد ذلك قصدهم وعاد بالعجز. وما أظن ذلك كله بعد قضاء الله تعالى إلا لشؤم دبيس.
وحكى جماعة من الثقات: أنه حين هرب في تلك السنة من الحلة كان [108 ب] معه ألف مولّد في وسط كل واحد هميان فيه ألف دينار كانت رزق الكرج ومضى منه هذا المال وانقلع بيته وخسر من الحلة في كل سنة ألف ألف وسبع مائة ألف وخمسين ألف دينار، كل هذا لأجل ثلاثين ألف دينار لجّ مع الخليفة في طلبها وباع بها دينه ومروءته وذمام العربية، فلا جرم ما حصلت له [من الأمور] ولا بقي عليه ما كان فيه، وصار مشردا طريدا تتقاذف به العراق وخراسان وسائر بلاد الإسلام.
ثم لما عجز عن الخليفة التحق بالأفرنج ورفع الصّليب على رأسه وشدّ الزنار ودعاهم إلى حصار حلب وجاء معهم ونزل عليها حتى كفى الله المسلمين أمره وأجراهم على جميل عوائده.
وأما الكرج فإنّهم لما فتحوا تفليس وذلك في سنة ست عشرة وخمس مائة مضى السلطان محمود لاستخلاصها ووزيره شمس الملك عثمان «669» بن نظام الملك. و [لما] وصل إلى شروان عجز عنهم وتقدّم ملك الكرج دمطرى بن داود عدة مراحل ونفذ إليه رسولا وقال له: قد سمعت عنك أنك قلت أنا أمضى وأقلع بيت داود، وابن داود قد تقدّم إليك خمسين فرسخا، فإن كنت رجلا فتقدّم إليه خمسة فراسخ ولولا أنك صاحب تخت وتاج وقد جرت عوائدنا بحفظ حرمة الملوك وإلا لهجمت عليك وأسرتك فاذهب بحرمتك ولا تحدّث نفسك بعد هذا بقصدي، فعاد متوجها إلى بلاد الإسلام.
وحين انقطعت أخباره عن العراق لإيغاله في بلاد الكرج وجد دبيس فرصة فهجم على الحلة ودخلها من طريق الشام [109 أ] وملكها واجتمع عليه في أسبوع واحد من الأعراب ما لا يحصى عدده، وخاف المسترشد باللَّه من مثل نوبة البساسيري فنفذ قسيم الدولة آقسنقر البرسقي «670» لدفعه قبل أن يستفحل أمره، فسار إليه في

(1/214)


خمسة آلاف لابس فهزمهم دبيس ونهبهم وعادوا عراة حفاة إلى بغداد فحينئذ أمر الخليفة بمكاتبة الأطراف واستدعى أصحابها فقدم عليه السعدية من واسط وزنكي بن آقسنقر من البصرة وطغان رسلان من ديار بكر وبنو صلتق وبنو بوقة وقفجاق التركماني «671» وإخوته واجتمع ببغداد اثنا عشر ألف فارس وظهر الخليفة بنفسه يوم الجمعة بعد الصلاة وهو اليوم الرابع والعشرون من ذي الحجة سنة ست عشرة وخمس مائة. وعزل وزيره جلال الدين واستوزر قوام الدين أحمد «672» بن نظام الملك وغيّر لقبه وجعله «نظام الدين» وسار إلى الحلة والعساكر في جملته وكسر دبيس وفرّق جمعه وقتل على دم واحد ستة آلاف بدوي. ومضى دبيس على وجهه آخذا طريق الشام «673» .
وكان قد خرج مع الخليفة من بغداد نحو من ثلاثين ألف شاب بعضهم بالسلاح وبعضهم رماة البندق وبعضهم بأيديهم المقاليع. وحين انهزم دبيس قتل من عسكره الذين قتلوا، والأتراك اشتغلوا بالنهب، وهؤلاء الرجّالة ما اشتغلوا بشيء سوى أسر الأعراب فأسروا أكثر من خمسين ألف بدوي وأخلوا منهم البلد والقرى والصحراء وجاءوا بهم إلى بغداد وكانوا يشوّهون بهم ويقطعون أوصالهم وهم أحياء [109 ب] وربما قالوا لأحدهم أيّ شيء تريد أن نطبخك فلا يجيبهم فيعاقبونه ويعذّبونه بأنواع العذاب حتى يقول من تحت العذاب: حصرمية أو سكباج أو هريسة أو أيّ شيء فيطبخونه ذلك اللون ويرمونه للكلاب.
وكان هؤلاء الأسرى كلهم رجّالة فبعضهم يقاتل وبعضهم يضرب بالدف بين الصفّين وكانوا يصيحون بصوت واحد: العنوا زقلى ومقلي، والعنوا شيخ الضلالة.
فلما أسروا استخبروهم عن هذه الأسامي فقالوا: كنّا نعنى بزقلى أبا بكر وبمقلى عمر، وبشيخ الضلالة عثمان. ووجدوا في أكثر خيمهم جربا مملوءة من الأيور الخشب فقيل لهم: ما تصنعون بهذه؟ قالوا: أعددناها لنسائكم حتى إذا كسرنا الخليفة وقتلناه ودخلنا بغداد ونهبناها فكل من كانت شابة افترشناها وكل من كانت عجوزا دسسنا هذه فيها.

(1/215)


وحكى بعضهم قال: لما التقى الجمعان نظر دبيس فرأى الخليفة على تل ومعه السواد من القضاة والفقهاء والقرّاء والأشراف فقال: لعلّهم سمعوا أن عندي إملاكا فقد جاءوني بهذه الطيالسة والله لأنسينّ الكشاخنة «674» نوبة البساسيري ولأجعلنّ لحاهم كلها براجم وما استتم كلامه حتى نصر [هم] الله عليه ثم أنزل سكينته على خليفته وأشياعه وأجراهم على جميل عوائده فهزموهم بإذن الله. والتفت المسترشد باللَّه إلى وزيره وقال له: هذا بيمن نقيبتك يا نظام الدين.
وعاد الخليفة من تلك الوقعة ودخل بغداد في يوم الأحد عاشر المحرم سنة سبع عشرة وخمس مائة. فكان مضيّه وعوده في سبعة عشر يوما [110 أ] .
[وفي سنة عشرين وخمس مائة عزم السلطان مغيث الدنيا والدين أبو الثناء محمود ابن ملك شاه على دخول بغداد «675» ، فنفذ إليه المسترشد بسديد الدولة ابن الأنباري «676» يقول له: إن العراق بعد ما خرّبها دبيس بن صدقة لا تفي بى وبكم فإما أنا أو أنتم، وعندي عساكر وأحتاج إلى الإنفاق عليهم ومعكم عساكر والبلاد خراب لا تفي بالجميع فعاد الجواب: لا بد من الدخول. وتردّد سديد الدولة دفعات من بغداد إلى همذان في هذا المعنى وما أجابوه. وصار العامة يغنّون في الأسواق:
يا جلال الدين ذا شرح يطول ... وابن الأنباري فما يرجع رسول
والقرايا كلها صارت تلول ... تزرع الكرّ وتحصد كارتين
ولما علم الخليفة بهجومهم على البلد خرج من داره في ذي الحجة سنة عشرين وخمس مائة وعسكر بالجانب الغربي وخطب في يوم عيد النحر وصلّى بالناس [110 ب] وجاء السلطان محمود ونزل بالجانب الشرقي، ثم وقع الصلح بينهم في المحرم سنة إحدى وعشرين وخمس مائة.
وفي رجب سنة اثنتين وعشرين وخمس مائة مات الوزير جلال الدين أبو عليّ ابن صدقة. واستوزر الخليفة شرف الدين أبا القاسم عليّ بن طراد الزينبي ولقبه معزّ الإسلام عضد الإمام سيد الوزراء، صدر الشرق والغرب.

(1/216)


وفي شوال سنة خمس وعشرين وخمس مائة توفى السلطان مغيث الدنيا والدين أبو الثناء محمود «677» بن ملك شاه بن ألب أرسلان واستولى المسترشد باللَّه على جميع ما كان للأتراك بالعراق وأقطعها. ونفذ إقبال «678» خادمه المعروف بجمال الدولة إلى الحلة وأمّره على بلاد بابل وضم إليه عشرة آلاف فارس من العرب والترك والأكراد وطوّقه وسوّره ولقّبه حسام الدين، سلطان الأمراء ملك العرب.
وجاء إلى طاعته صاحب فارس وجاءته العساكر من الشام وديار ربيعة، وانضم إليه من التركمان والأعراب والأكراد خلق لا يحصى، ووقعت الهيبة في قلوب الملوك.
وفي سنة ست وعشرين وخمس مائة قصد السلطان معزّ الدنيا والدين أبو الحارث سنجر بن ملك شاه بن ألب أرسلان العراق ونزل بكشك همذان ورتّب ابن أخيه طغرل مكان محمود وأراد قصد بغداد فقبّحوا له قصد الخليفة. وقيل: إن خوارزم شاه لم يساعده على ذلك وكان هو جمرة العسكر فعاد السلطان إلى خراسان «679» .
وفي رجب من هذه السنة اجتمع رأى دبيس بن صدقة وزنكي بن آقسنقر صاحب الموصل على قصد بغداد «680» ، فانحدروا إليها في اثنى عشر ألف فارس، فخرج المسترشد باللَّه إليهما بنفسه ولقيهما بنفسه ولقيهما بتل عقرقوف وكان يوما مشهودا فإنه لم يبق في البلد صغير ولا كبير إلا خرج وضاع العسكر بين الخلق وأخرجوا كل ربعة ومصحف في البلد ونشروا المصاحف وأخذوها على أيديهم مفتّحة يقرءون فيها بين الصفّين ووقعت الهزيمة على زنكي ودبيس وقتل منهم نحو من ثلاثة آلاف من الأكراد وأسر الباقون وعاد الخليفة إلى داره] «681» [111 أ] مظفرا منصورا.
وقبض على وزيره شرف الدين أبى القاسم ابن طراد الزينبي وصادره على مائتي ألف دينار.
واستوزر مكانه شرف الدين نوشروان «682» بن خالد في رجب سنة سبع وعشرين وخمس مائة.
وفي شعبان من هذه السنة توجّه المسترشد باللَّه نحو الموصل وكان نزوله على بابها

(1/217)


في شهر رمضان وهرب زنكي بن آقسنقر وأقام بسنجار واستخلف بالموصل جغر ابن يعقوب والملكين ولدى السلطان محمود وهما ألب أرسلان وفروخ شاه «1682» وأقام الخليفة على باب الموصل إلى ثالث ذي الحجة ما حصل له من النزول عليها إلا سماع الشتيمة وانخراق الهيبة. ورحل عنها في ثالث ذي الحجة عائدا إلى بغداد ودخلها في يوم عرفة.
وفي سنة ثمان وعشرين وخمس مائة توجّه القاضي ابن الشهرزوريّ «683» من الموصل إلى بغداد ومعه التحف والهدايا والخيل والسلاح يطلب الصلح فخرج خط الخليفة إلى الديوان في جواب ذلك الإنهاء الّذي أنهاه الوزير شرف الدين نوشروان «بل أنتم بهديتكم تفرحون، ارجع إليهم فلنأتينّهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنّهم منها أذلّة وهم صاغرون» فأعاد الوزير القول وكرّر الشفاعة فرضى الخليفة عنه وقبل عذره بشرط أن يكون ابنه غازى دائما على الأبواب في ألف فارس فالتزم هذا الشرط ونفذه مع ألف من التركمان جمعهم ابن الكرباوى «684» له من نواحي البوازيج «685» ، وبعد دخوله بعشرة أيام لم يبق منهم أحد وصار ابن زنكي يدور وحده في الأسواق.
وفي جمادى الآخرة من هذه السنة [111 ب] عزل المسترشد باللَّه نوشروان ابن خالد عن الوزارة وأعاد شرف الدين الزينبي إليها.
وقبض على نظر أمير الحاج وصادره على ثمانين ألف دينار وحبسه.
وفي سنة تسع وعشرين وخمس مائة «686» وصل السلطان مسعود بن محمد بن ملك شاه إلى بغداد هاربا من أخيه طغرل فأكرمه الخليفة وخلع عليه وطوّقه وسوّره ونفذ معه جماعة من عسكره لدفع أخيه «687» . فحين وصلوا إلى النهروان جاء الخبر من همذان بموت الملك طغرل فجدّ مسعود في السير إلى همذان ودخلها واستولى على الملك واستوزر شرف الدين نوشروان بن خالد «688» .
وخاف المسترشد أن يتمكّن مسعود في المملكة فيقصد الحضرة ويستولى عليها فأخرج المسترشد باللَّه مضاربه إلى الثريّا في شعبان من هذه السنة المذكورة واجتمع معه

(1/218)


خلائق من العرب والترك والأكراد والتركمان وقصد همذان فحين وصل إلى كرمانشاه وصله الخبر بأن السلطان غياث الدنيا والدين أبا الفتح مسعود بن ملك شاه متوجّه نحوه ومحدّث نفسه بدفعه ومحاربته فحينئذ استدعى المسترشد باللَّه الوزير شرف الدين أبا القاسم عليّ بن طراد الزينبي وكمال الدين أبا الفتوح حمزة بن طلحة صاحب المخزن وسديد الدولة بن الأنباري وجماعة من خواصّ دولته ووجوه أجناده وقوّاده وقال لهم: كنّا نظن أن هؤلاء القوم لا يحاربون الله ورسوله بإشهار السيوف في وجوهنا وقد بلغنا قصدهم لنا وتوجههم نحونا بنيّة المحاربة. وكان ألقى إلى سمعنا أنّا إذا جاوزنا حلوان تتقاطر [112 أ] عساكر الدنيا إلينا وقد بان لنا أن الأمر بالضد من ذلك فإن كل من كنّا نظنه ينضاف إلينا قد انضاف إليهم وصار معهم. ثم معنا عسكر ثقيل والخزائن فارغة وإن أمرجناهم في أموال المسلمين خفنا عواقب الظلم.
فقال له شرف الدين الزينبي: يا مولانا ها هنا موضع الاستشارة، قد كنّا أشرنا عليك وأنت ببغداد أن تلزم سرير ملكك ولا تجعل هؤلاء خصومك فإنّهم يرون أنفسهم بعين عبيدك وأتباعك فلم تقبل وحيث خرجت ووصلت إلى هذا المكان وقد بقي بيننا وبين القوم مرحلة فليس الصواب إلا أن تصمّم العزم على لقائهم والنصر من عند الله تعالى.
وكان هذا الحديث يوم السبت عاشر شهر رمضان سنة تسع وعشرين وخمس مائة، فلما كان صبيحة يوم الأحد ركب الخليفة بنفسه ورتّب الميمنة والميسرة، ونشروا الأعلام وضربوا الدبادب والبوقات وكانوا على تلك الهيئة إلى وقت الظهر وما جاءهم أحد فقالوا هرب العدوّ وتباشروا وطابت نفوسهم وأصبحوا يوم الاثنين وفعلوا مثل فعلهم يوم الأحد وساروا صفّا واحدا والخليفة في القلب مع أتراك بغداد والقرّاء وأصحاب السواد والسلاحية الخاصة وشرف الدين عن يمينه وكمال الدين عن يساره والجنائب تنقاد بين يديه وهم لا يظنون أن أحدا يثبت بين أيديهم. فلما تعالى النهار أمر الخليفة بضرب سرادق أسود فضرب ظنّا منه أن هذه النوبة تكون مثل نوبة

(1/219)


الحلة أو نوبة عقرقوف، ثم علت غبرة فتأمّلوها وإذا بالعسكر قد خرج من [112 ب] لحف الجبل من عدة مواضع وقرب بعضهم من بعض ووقعت العين في العين وحمل من كان في ميمنة الخليفة فكسر ميسرة السلطان، ثم حملت ميمنة السلطان فكسرت ميسرة الخليفة ولما رأى أصحاب ميمنة الخليفة أن الميسرة قد انكسرت نكصوا على أعقابهم هاربين وبقي القلب فغدر جماعة ممن كان فيه والتحقوا بعسكر السلطان. وقيل للخليفة: أنج بنفسك فقال: مثلي لا يهرب إما لحد ضيّق أو ملك الدنيا وحمل بنفسه مع الشرذمة التي بقيت معه، فحين حمل عليهم أحاطوا به فحصل في وسطهم فقبض آيدغمش أمير باز «689» على عنان فرسه وأدخله إلى دهليز سرادق كان ضرب للخليفة لينزل فيه. ولما كمل ضرب الخيم ونزلوا أركب من هناك وأدخل سرادق السلطان فحين رآه قام قائما وقبّل الأرض بين يديه وقال له: يا مولانا أليس الله تعالى كان قد أغناك عن هذا؟ وهب [أنك] احتويت على ملك الدنيا أكان يمكنك المقام بكل مكان تستولى عليه أو تقيم بمدينة الملك وتولّى عليها غلمانك الذين ربما نصحوك وربما خانوك وقد تأدّى إليك ما تمّ على الخلفاء قبلك من غلمانهم، ونحن كنا عبيدك وطوع أمرك وجدّنا أعاد هذه الدولة بعد ما ذهبت فما الّذي حملك على ما فعلت؟ والآن أقم أياما عندي حتى أسير في ركابك إلى بغداد وأدخلك دار الخلافة وآخذ الغاشية على رأسي بين يديك كما أخذها طغرلبك بين يدي جدّك القائم بأمر الله. ولم يتكلّم الخليفة بشيء إلا أنه قال: «كل ذلك في الكتاب مسطور» . وبقي الخليفة معتقلا معه كل يوم يركب [113 أ] في المحفّة ويوكل به الأمير الّذي يكون تلك الليلة في النوبة إلى أن وصلوا إلى باب مراغة فأمر السلطان مسعود فخيّط للخليفة سرادق أسود ونصب فيه تخت وعليه دست وركب الخليفة من سرادق السلطان والسلطان راجل بين يديه وجماعة الأمراء حتى انتهى إلى السرادق الأسود ودخل إليه فارسا ونزل على التخت واجتمع عليه من كان تفرّق من أصحابه وكانوا على عزم المسير إلى بغداد.
فلما كان يوم الخميس تاسع عشر ذي القعدة سنة تسع وعشرين وخمس مائة قدم

(1/220)


يرنقش الفخرى «690» رسولا من عند السلطان معزّ الدنيا والدين أبى الحارث سنجر ابن ملك شاه وهو يومئذ بخراسان إلى الخليفة المسترشد باللَّه وإلى السلطان غياث الدنيا والدين أبى الفتح مسعود بن محمد بن ملك شاه فلم يبق في المعسكر إلا من خرج لاستقباله وخلت الخيم فجاء شاب إلى باب سرادق الخليفة وقال لشريف كان على باب السرادق: أوصل هذه القصة إلى الخليفة فأخذها من يده ودخل ليسلّمها إلى خادم فدخل وراءه فلما أحسّ به عاد يمنعه من الدخول فأخرج سكّينا كانت معلقة بسير في كمه فضربه بها فسقط ثم صاح وإذا بخمسة عشر نفسا في أيديهم السكاكين فخرقوا بها شقاق السرادق وصاحوا: الحج، الحج وقصدوا الخركاه التي كان فيها الخليفة فقام في وجوههم ابن سكينة المقرئ «691» وكان أستاذه الّذي لقّنه القرآن وقال:
ويلكم هذا مولانا، قالوا: له نطلب وضربوه سكّينا سقط ميتا على باب الخركاه لأنه كان شيخا ضعيفا. وكان الخليفة حين [113 ب] رآهم قال: شهيد والحمد للَّه.
ولما قتلوا ابن سكينة دخلوا عليه الخركاه فأخذ دورباشا وضرب به واحدا منهم وثنى وثلث فوقع الملعون على وجهه وصاح برفقائه: قتلني فدخل بعده شيخ عليه صدرة زرد تحت ثيابه فضرب الخليفة فتترّس منه بمصحف كان عنده وضربه الخليفة بالدورباش فصرعه فجاء آخر من ورائه فضرب عينه اليمنى بنصاب السكّين فأسالها على خدّه وما وقع على الأرض حتى وقعت فيه ثلاث عشرة ضربة. ووقعت الصيحة في العسكر فما أقدم أحد على القرب منهم إلا أنهم قطعوا أطناب الخيمة حتى وقعت عليهم ثم رموا بالسهام فقتلوا منهم سبعة وهرب الباقون. ولفّ الخليفة في السندسة التي كانت تحته ودفن بدار الإمارة بمراغة فهي الآن تربته «692» .
ووصل الخبر إلى بغداد في عشية يوم الجمعة السابع والعشرين من ذي القعدة من السنة وهي سنة تسع وعشرين وخمس مائة. وجلس الناس للعزاء على العادة ثلاثة أيام ثم في ضحوة اليوم الثالث بايعوا ولده بالخلافة.
وانقضت أيام المسترشد باللَّه- رضوان الله عليه- عاش سعيدا ومات شهيدا.

(1/221)