الإنباء في تاريخ الخلفاء

أمير المؤمنين الراشد باللَّه
هو أبو جعفر، المنصور بن المسترشد باللَّه. بويع له بالخلافة في يوم الاثنين مستهلّ ذي الحجة سنة تسع وعشرين وخمس مائة. وأخذ البيعة على الناس وزيره جلال الدين أبو الرضا محمد بن أحمد بن صدقة «693» وأستاذ داره ناصح الدولة أبو عبد الله ابن الكافي «694» بن جهير. وبايعه عمومته [114 أ] وعمومة أبيه ثم إخوته ثم أهل بيته ثم أهل العلم والجند ثم الناس على طبقاتهم.
واجتمع عليه من كان تفرّق من غلمان أبيه وأقطع العراق واستدعى زنكي من الشام وداود بن محمد من أذربيجان وبوزابه «695» من بلاد فارس وجمع ببغداد ثلاثين ألف فارس وعوّل على قصد السلطان مسعود والأخذ بثار أبيه. وحين عرف السلطان مسعود باجتماع هؤلاء قصدهم في سبعة آلاف فارس فتخاذلوا ووقع بأسهم بينهم واستشعر كل واحد منهم من الآخر وأخذ زنكي طريق الشام وداود بن محمد طريق أذربيجان وبوزابه كان نازلا على النهروان فلما رأى ذلك منهم أخذ طريق فارس وبقي الخليفة الراشد باللَّه في ثلاثة آلاف فارس من خواصّه «696» ، فبات بعدهم ليلة واحدة ببغداد وأخذ طريق الموصل ودخل السلطان مسعود إلى بغداد وفي صحبته شرف الدين الزينبي فاستشاره السلطان مسعود في أن يقصد الخليفة بنفسه ويترضّاه ويعيده إلى بغداد فهوّن أمره عليه وقال: أنا أكفيك هذا الأمر. وجمع القضاة والفقهاء وألزمهم أن يشهدوا على الراشد باللَّه بشرب النبيذ، ولا والله ما كان واحد منهم قد رآه يشرب الماء، فشهدوا خوفا من الصفع وخلعوه بالفسق «697» ثم دخل الزينبي على ختنه الأمير أبى عبد الله، محمد بن المستظهر باللَّه وألبسه سوادا ومنطقة وعمّمه على رصافية وأخرجه إلى دار العامة وأدخل الخلق إليه وقال: بايعوا أمير المؤمنين وتقدّم السلطان مسعود ومعه أخوه سلجوق شاه [114 ب] وقبّلا الأرض وبايعا فما توقّف بعدهما أحد.

(1/222)


وأما الراشد باللَّه فإنه قصد الموصل ونزل [في] دار الإمارة فأقام بها أياما ثم خرج منها وضرب مضاربه بالمغرفة «698» تحت تلّ العقارب وسار منها بعد أيام إلى نصيبين وبعدها إلى سنجار وطلب من الأرتقية أن ينجدوه ونفذ إلى مسعود بن قلج أرسلان وإلى الملك محمد الدانشمند «699» يطلب منهم المدد فلم ينجده أحد فعاد إلى الموصل وسار منها إلى أذربيجان ودخل مراغة وبقي بها أياما في تربة أبيه. وكان قد كاتب أتابك منكوبرس «700» بفارس فجاء حتى وصل إلى حدود أذربيجان فلقيه السلطان مسعود فكسره وقدّمه فضرب عنقه واشتغل العسكر بالنهب وبقي السلطان مسعود في شر ذمة قليلة فخرج عليه بوزابه من الكمين وحمل عليه فانهزم وبلغت هزيمته إلى أرّجان وأسر كل أمير كان معه وقتل الكل بحيث ما استبقى منهم واحدا. وكان فيهم محمد بن أتابك قراسنقر وصدقة بن دبيس فحين قدّم محمدا ليضرب عنقه بكى وتذلّل له وسأله أن يهب له دمه فقال صدقة بن دبيس: يا مخنّث أتذل لهذا الكلب؟
فالتفت إليه بوزابه وقال له: اسكت يا مؤاجر فقال له دبيس: العرب لا يكون فيهم مؤاجر وإنما هذا شيء خصّ به الأتراك، فأمر بهما فقتلا جميعا «701» .
ثم نفذ إلى الخليفة يدعوه فسار الخليفة من مراغة ولقيه على باب همذان والتحق بهم خوارزم شاه وكل عسكر كان بالجبال [و] خوزستان وقصدوا أصفهان ونزلوا على بابها أياما وعوّلوا على قصد [115 أ] بغداد وأراد الخليفة الّذي ببغداد وهو المقتفى لأمر الله- رضى الله عنه- أن يهرب إلى البطائح، واستدعى المظفر بن حمّاد أمير البطائح وأعدّ السفن تحت الدار ينتظر هجومهم عليه حتى يهرب.
ثم إن الراشد باللَّه ركب على باب أصفهان ليتنزّه في ثلاثين ألف فارس وذلك في شهر رمضان سنة إحدى وثلاثين وخمس مائة وعاد ولما دخل السرادق وانصرف كل واحد من العسكر إلى مضاربه وثب عليه جماعة كانوا في ركابه وعلوه بالسيوف ووقعت الصيحة في العسكر وتفرّقوا أيدي سبإ، فأما دواد فعاد إلى عمه وطلب منه الصّلح وتصالحا وأقطعه عمه أذربيجان وسار إليها. وأما بوزابه فعاد إلى بلاد

(1/223)


فارس. وأما خوارزم شاه فعاد إلى خراسان وقتله الملاحدة في تلك السنة في صحن دار السلطان سنجر.
ودفن الراشد باللَّه- رضى الله عنه- في جامع شهرستان. وكانت سنّه ثلاثين سنة وكان هو الثلاثين من بنى العباس. وكانت خلافته سنة وثمانية أشهر. وكان أشقر الشعر أشهل العينين ربع القامة كأبيه المسترشد باللَّه.

(1/224)


أمير المؤمنين المقتفى لأمر الله
هو أبو عبد الله، محمد بن المستظهر باللَّه، بويع له في اليوم الثالث من رحيل الراشد باللَّه إلى الموصل، وهو يوم الثلاثاء سابع عشر ذي الحجة سنة ثلاثين وخمس مائة. وأمه أم ولد اسمها «ست السادة» ، وتولّى أخذ البيعة له على الناس السلطان غياث الدنيا والدين أبو الفتح [115 ب] مسعود واخوه سلجوق شاه وشرف الدين أبو القاسم على بن طراد الزينبي.
واستوزر شرف الدين المذكور وكل من كان على عمل أقرّه على عمله. ثم جرت بينه وبين شرف الدين الزينبي المذكور أمور نسبه فيها إلى مواطأة الأتراك عليه فاستشعر الزينبي منه وهرب والتجأ إلى دار السلطان ثم أصلح بينهما ثم عزله «702» بعد ذلك ورتّب مكانه غرس الدولة ولد الزعيم بن جهير ولقّبه «نظام الدين» «703» وما تمشّى له أمر في الوزارة فاستأذن في الحج ثم عاد ولزم بيته.
فاستوزر الخليفة بعده أبا القاسم عليّ «704» بن صدقة بن عليّ بن صدقة ولقّبه «قوام الدين» ولم تطل مدته وعزله.
واستوزر أبا المظفر يحيى «705» بن محمد بن هبيرة الفزاري ولقّبه «عون الدين» وكان كافيا يملأ العين والقلب، وكان كاتبا بليغا فصيحا عالما بالنحو واللغة والفقه والأحاديث والقرآن العظيم المجيد وتفسيره، وصنّف كتبا في ذلك كله. وكان حسن التدبير للأمور والسياسة محبّا لأهل العلم كثير الميل إلى أرباب الصلاح والدين، ولو أخذت في ذكر مناقبه وحسن سيرته لجاءت مجلدات عظيمة ولم أقدر أستقصى على بعضها ولم يسمع بأن كان لبني العباس وزير مثله قبله ولا بعده «706» رضى الله عنه وأرضاه-.
وفي سنة أربع وخمسين وخمس مائة غرقت بغداد الغرق الثاني «707» .
وتوفى المقتفى لأمر الله- رضى الله عنه- في مستهلّ شهر ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمس مائة وصلّى عليه [ولده] المستنجد باللَّه ودفن في داره سنة ثم نقل إلى الترب بالرصافة [116 أ] . وانقضت أيام المقتفى لأمر الله- رضى الله عنه-.

(1/225)


أمير المؤمنين المستنجد باللَّه
هو أبو المظفر، يوسف بن المقتفى لأمر الله. بويع له في يوم الاثنين ثانى ربيع الأول سنة خمس وخمسين وخمس مائة وهو اليوم [الثالث] من وفاة أبيه بعد الجلوس للعزاء على العادة وتولى أخذ البيعة على الناس عون الدين أبو المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة وزير أبيه وابن رئيس الرؤساء «708» أستاذ داره، ودخل إليه الفقهاء والقضاة وسائر أرباب الدولة والمناصب. وكان عمه الأمير هارون بن المستظهر باللَّه واقفا.
وكان يوما مشهودا.
واستوزر المستنجد باللَّه عون الدين أبا المظفر يحيى بن محمد بن هبيرة وزير أبيه.
ومات الوزير عون الدين المذكور في جمادى الآخرة سنة ستين وخمس مائة.
وكانت وفاة سديد الدولة ابن الأنباري قبله بسنة وذلك في سنة تسع وخمسين وخمس مائة.
ولبعدى عن العراق وطول غيبتي عنها لم أتحقق من أخبارها شيئا أؤرخه والله تعالى العالم بما يتجدّد بعد ذلك، والحمد للَّه أولا وأخيرا وباطنا وظاهرا، والصلاة على سيدنا محمد النبي وآله وأصحابه وأزواجه الطاهرين الأكرمين الطيبين، صلاة دائمة أبدا سرمدا إلى يوم الدين وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وكان الفراغ منه على يد العبد الفقير إلى الله أبو بكر بن عبد الله [عرف بابن الجوخى؟] في الرابع من شهر شوال سنة اثنتين وثمانين وست مائة، أحسن الله خاتمتها ورحم من دعا له بالمغفرة [1] [116 ب] .
__________
[1] ف: «وكان الفراغ من نسخه في العشرين من ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وست مائة» .

(1/226)