البدء والتاريخ
الفصل الخامس في ذكر
ابتداء الخلق
قال أنّ الموحّدين في معنى إيجاد الخلق مختلفون لأنّ الله خلق الخلق لا
لاجتلاب منفعةٍ ولا لدفع مضرّة وكلّ فاعل من غير نفع ولا ضرّ فسفيهٌ
غير حكيم قال المسلمون هذا إذا كان الفاعل يلحقه المنافع والمضارّ
فأمّا إذا كان غنيًّا من احتراز منفعةً ممتنعاً من لحوق ضرر فغير سفيه
ولا عابث وقد قامت الدلالة على أنّ البارئ كذلك حكيم غير سفيه ومحال
وجود العَبَث من الحكيم فلا يخلو خلقه من الحكمة وإن خفي علينا وجهه
لعلمنا بأنّ الحكيم لا يفعل ما هو غير حكمة واختلف آراء الناس في ما
لاح لهم من الحكمة في خلقه وإن كان لا يجوز القطع على شيء منه لظنّه
معظم علمه عنهم فقال قوم خلق الله الخلق لجوده ولرحمته إذ الجواد
بإفاضة
(1/115)
الجودُ على المجود عليه يظهر جوده والقادر
بإظهار المقدور يظهر قدرته وقال قوم خلقهم لينفعهم وينفع بهم يعنون
لتعبر [1] المتكلّفون بالمخلوق غير المكلّف وقال قوم ليأمرهم وينهاهم
وقال قوم خلقهم لاستدعاء الشكر والثناء وقيل لعِلم علمّهُ أَنّه يخلقهم
وقال قوم لا نقول شيئاً من ذلك خلقهم لما شاء ولا علم لنا بمشيّته هذا
قول من أقرّ بحدوث العالم وأنّ له مُحدثاً سابقاً له فأمّا من أنكر ذلك
فإنّه احتجّ للقِدَم والإهمال بأنّه لو كان للعالَم صانع أو مدبّر ناظر
لما كان فيه تفاوت خلق ولا تعادي سباع ولا شمول بوار ولا وقوع فساد ولا
اعتراض أسقام وأَوْجاع ولا هَرَم ولا موت ولا حزَن ولا فاقة وأيّة حكمة
في إنشاء صورة حيوانيّة أو ناميّة ثم في إفنائها ولما استوى حال
المعاند والمجيب ولما فضل العالِمَ الجاهلُ بالجاه والمال والمنزلة
[23] وهل لا [2] أخبر الخلق أن كان له خالق على التناصف والتواصل ولِمَ
خُلّى بينهم وبين التعادي والتظالم والتباغي والتهارج وهذا كلّه مضمحلّ
متلاش بشهادة آثار الخلق
__________
[1] . لنعبرMs.
[2] . هل ,corr.marg.
هلّا Ms.
(1/116)
على تفاوته واختلافه في الظاهر من الاجتماع
والافتراق والحركة والسكون والأعراض والمقارنة له بمعرفة كمال القدرة
ووجوب العبرة في خلق الأضداد وللكاره وإعطاء الخلق القوّة والقدرة
والاختيار ليستحقّوا بأعمالهم أشرف الثواب وليرتدعوا بالاعتبار عن
الظلم والفساد ولو كانوا مجبورين كما يزعمون أو مجبولين على فعل واحد
دون ضدّه لكانوا جماداً مواتاً ولو كانوا على طبع واحد لما عرفوا
بحواسّهم ولا وجدوا بعقولهم إلّا الشيء الواحد الّذي يلايم طبعهم فلم
يصلح حينئذٍ تكليف ولا وقع منهم تمييز وترك إلحادهم على هذه الصورة
أنفع لهم وأبلغ في الحكمة ولا يفعل الله إلاّ الأصلح الأحكم وأمّا فضل
الجاهل العالم بالمال والجاه فالعلم أفضل من المال لأنّه السعادة
اللازمة والمال من السعادة المفارقة فلو أنصف هذا الزاعم في القضيّة
لفضّل الجاهل بالمال على العالم لفضّل العالم على الجاهل بأضعاف علمه
لتساوي حالَيْهما وقد سُئل جعفر بن محمد الصادق رضى الله عنه عن هذه
القضيّة قال ليعلم العاقل أن ليس إليه من أمره شيء وأي لعمري هو من
أدلّ دليل على مُدبّر قدير قاهر وهؤلاء المعطّلة أقلّ الناس عدداً
(1/117)
وأوهنهم عُدّةً وأفيلهم رأياً وأوهاهم
عزماً وأنقصهم حجّةً وأخسّهم دعوىً وأدناهم منزلةً وأغربهم ذهناً لا
يظهر واحد في أمّة وجيل إلاّ في الدهر والحين لأنّه رأى مشرذل وعقيدة
مهجورة وعزم مدحول لا يبدو إلّا من فَدْمٍ جاهلٍ أو معاندٍ وما أَراه
انتشر في أمّة من الأمم وزَمَن من الأزمنة انتشاره في زماننا هذا
وأمّتنا هذه لتستّر أهله بالإسلام وتحلّيهم تحلية شرائعهم ودخولهم في
غمار أهله واحتال من احتال لهم بلطيف التمويه في تسليم الأصول الظاهرة
والمصير به إلى التأويلات الباطنة فهم يرقّقون عن صَبُوح ويحتسون في
إرتغاء وذلك الذي حقن دماءهم وغمد سيف الحقّ عنهم نابغ في قديم الدهر
وحديثه وأبدا صفحته إلاّ عوجل بالاستئصال واحثت منه الأوصال واستنجز
العدّة فيهم سنّة الله في الدين خلَو من قبل ولن تجد لسنّة الله
تبديلاً زعموا أنّ هذه الدنيا قديمة لم تزل [1] على ما هي عليه ولا
تزال [2] كذلك من صيفةٍ بعد شتوةٍ وشتوةٍ بعد صيفة وليل بعد نهار ونهار
بعد ليل ونطفة
__________
[1] . يزلMs.
[2] . يزال Ms.
(1/118)
من إنسان وإنسان من نطفة ووالد من ولد وولد
من والد وبيض من طير وطير من بيض وكذلك جميع الأشياء الحسّاسة والنامية
بعضها من بعض بلا صانع ولا مدبّر لا أوّل لها ولا آخر فإنّ هذه دعوى
جائزة ومقالة باطلة ولو كان هذا المدَّعى لم يزل مع أزليّة العالم
بزعمه لما ساغت له دعواه إن لم يقُمْ له دليل من غيره على أزليّته فكيف
وليس هو ممّن هو لم يزل ولا هو ممّن لا يزال وإن اعتمد فيه خبر من كان
قبله وإن من أخبره لهو في حاله وحدوثه لم يشاهد من ذلك إلاّ ما شاهد من
كان قبله مع معارضة الخصم له [23] في الكون والحدوث لأنّ الدعاوى تصحّ
بالحجج لا بالصفات وإن زعم أنّه قاس ما مضى منه بما هو مُستقبَل فيما
بعدُ وأنّه غير مُنْقَضٍ فهذا القضاء أجود من الأوّل وأضعف مدّة بل هو
نفس دعواه التي خولف فيها والمعارضة قائمة فإن زعم الحال والوقت الذي
هو فيه فإنّ هذا رأيُ مَنْ قَصُر عِلمه وسَخُفَتْ معرفته وأوجب أن يكون
هو بنفسه لم يزل على ما هو عليه في الحال والوقت لم يكن قط نطفة ولا
علقة ولا مضغة ولا جنيناً ولا رضيعاً ولا يتغيّر فيما بعدُ فيكتهل
ويشيب ويهرم وتجرى عليه
(1/119)
الحوادث وتنتقل به الأحوال ومعاينة هذه
يضطّره إلى الإقرار ويبيّن عنه وجه العناد وإن زعم أنّ حكمه في نفسه
خلاف حكم العالم قيل ولِمَ زعمتَ ذلك وهل أنت إلاّ جُزْءٌ من العالم بل
قد شبّهت في جميع معانيه فسُمِيّتَ العالم الأصغر وكذلك كلّ ما يعاين
من الأشخاص والأنواع العُلويّة والسُفلية من الحيوان والنبات ألا ترى
أنّك لو عمدت إلى كلّ جزء من أجزاء العالم فاختصصتَه باسمٍ لحصل العالم
لا شيء كما أنّك لو فرقت الجوارح والأعضاء لحصل الإنسان لا شيء فهذا
يدُلّك أنّ الكلّ اجتماع الجزء لا غير فإن قال لا يقوم في الوهم ولا
يتصوّر في النفس حدوث هذا العالم ولا فناؤه وانقضاؤه عُورض بأنّه لا
يقوم في الوهم ولا يتصوّر في النفس قدم العالم ولا بقاؤُه مع أنّ
القضاء عليه بالحدث والانقضاء أقرب إلى الأوهام وأشدّ ارتباطاً لنفوس
لقيام الدلائل الواضحة والبراهين الشافية فإن قال كيف يمكن اعتقاد حدوث
هذا العالم لا من شيء ولا في زمان ولا مكان فإنّ هذا اشتطاطٌ في
المطالبة وجَوْرٌ في القضيّة لأنّه تكليف تمثيل ما لا مثل له وإحساس
شيء غير محسوس وليس نعلم
(1/120)
كالدنيا دُنياً غيرها فنشبّه هذه بهذه
وإنما نحكم بحدوثها لشهادة أَثَر الحدوث بها والعامّي الّذي لا رأى له
ولا نظر عنده يطلب الدلائل الظاهرة على الأشياء الخفيّة وذلك مُحال
بمنزلة مَنْ يجب أن يرى ما لا يُرى وأن يَسمع ما لا يُسمع أو يسمع ما
يُرى ويُرى ما هو مسموع ومن أنصف نفسه أنزل المعلومات منازلها واكتفى
من الموهوم بالوهم ومن المحسوس بالحسّ ومن المدلول عليه بالدلالة وقد
لعمري لا يتصوّر في الوهم إحداث هذه الجواهر والأعراض لا من غير سابق
ثمّ لا يتصور وجود حدث لا من مُحدث فإذا تكافأت الصورتان لزم المصير
إلى أشيعهما دلالةً وأدناها إلى الحقّ درجةً فإنّ الدلائل شاهدة بآثار
الحدث والقدم موهوم وقضيّة الدلالة عليه من قضيّة الوهم والدليل على
أنّ العالم حادث غير قديم كما يزعمون وأنّه لا أوّل له ولا حركة إلاّ
وقبلها حادثة لو كان كذلك لما جاز وجود ما هو حاضر في الحال من حركة أو
ليل أو نهار أو شخصٍ ما لأنّ ما لا نهاية له في وجوده وعدمه فمحال أن
يوصف بأنه قد تناهى وانقضى حدوثه وفُرِغ منه ولأنّ ما لا أوّل له فغير
جائز وجود ثانيه
(1/121)
ولا وجود ثالثٍ ما لا ثاني له ولا وجود
رابعٍ ما لا ثالثَ له على هذا القياس كما أنّ ما لا غاية له ولا نهاية
في المستقبل [24] محال أن يُوصَف بأنّه ينقضي أو ينقطع يوماً كذلك من
زعم من الحوادث لم يزل يحدُثُ بلا أوّل فهذا الحادث في الحال والوقت
المشاهد لا يخلو من وجود ثلاثة [1] إمّا أن يكون هو الأوّل أو بعد
الأوّل ولا أوّل ولا بعد الأوّل فإن كان هو الأوّل وإن كان بعد الأوّل
فقد ثبت الأوّل وإن كان لا أوّل ولا بعد الأوّل فهذا فسادة ظاهرة
فكأنّه قال شيء لا شيء ولو جاز وجود ما لا أوّل له لجاز وجود العشرات
من غير تقدّم الآحاد ووجود المئين من غير تقدّم العشرات ووجود الألوف
من غير تقدّم المئّين [2] لأنّ بالأحد يتمّ الاثنان وبالاثنين يتم
الثلاثة ألا ترى أنّ قائلاً لو قال لا تُنبِت الأرض حتّى تمطر السماء
ولا تمطر السماء حتّى تتغيّم ولا تتغيّم حتّى يثور البُخار ولا يثور
البخار حتى تهبّ الرياح ولا تهبّ الرياح حتّى يحرّكها الفلك ولا يحركها
الفلك حتى تكون كذا ويمدّ
__________
[1] . بلبهMs.
[2] . المائين Ms.
(1/122)
في هذا الاشتراط شيئا قبل شيء أبداً إلى
غير نهاية ولا غاية لم يجز وجود نبت ولا مطر ولا غيم ولا ريح لأنّه
مُعلّق بشرط ما قبله غير جائز وجوده لأنّه غير متناهٍ وكذلك من زعم
أنّه لم يكن حركة إلاّ وقبلها حركة ولا إنسان إلاّ وقبله إنسان ولا
نَبْت ألاّ وقبله نبت إلى ما لا غاية ولا نهاية فمحال وجود هذا الإنسان
والنبت لأنّ وجوده كان معلّقاً بشرائط لا أوّلها وما لا غاية له لا
يُوجد ولا يُعلم ولا يُوهم وكذلك لو قال قائل لا أدخلُ هذه الدار حتّى
يدخلها زيد ولا يدخل زيد حتّى يدخل عمرو ولا يدخلها عمرو حتى يدخلها
فلان ثم كذلك إلى غير غاية لم يجز دخول زيد ولا غيره أبداً وكذلك لو
قال لا آكل تفّاحاً حتى آكل قبلها تفّاحة لم يصحّ له اكل تفاحة ابدا
لأنّه كلّما ضرب يده الى تفّاحة يأكلها منعه شرط أكل تفاحة قبلها، ومن
الدليل على حدث العالم أو أنّ له أوّلاً أنّا لو توهَمنا عند كلّ حركة
مضَتْ من حركات الجسم حدوث حَدَثٍ أو ظهور شخص لكان ذلك أجساماً حاضرةً
يحضرها العَدَدُ ويأتي عليها الحسابُ وكذلك لو توّهمنا هذا العالم
حيّاً عالماً لجاز أن يُعدّ حركاته
(1/123)
وسكناته فيكون ذلك عدداً قائماً معروفاً
لمبلغ وما له مبلغ وأتى الحساب عليه فمتناه وكلّ متناه له أوّل وإن لم
يتناه ومن الدليل على حدث العالم وأن له أولاً أن ما مضى من حركات
الفلك لا يخلو من أن يكون مثل سكناتها متساوية أو أكثر منها أو أقل فإن
كانت مثلها فالمثل كالنصف وما له نصف فمتناه والأكثر والأقل تدل الكثرة
على تضاعف أجزاء الأكثر على الأقل فإذا ثبت تقدم إحدى الحركات على
الأخرى وما له تقدم فمتناه وله أول وهذا من الحجج الواضحة التي يفهمها
كلّ سامع وللموحدين في هذا الباب من دقائق النظر بما ألهمهم الله من
توفيقه ما لا يظهر عليها إلا اللقن الفطن ولها موضعها من كتابه فإن قيل
أليس الحوادث عندكم في المستقبل لا تزال إلى الآخر وإن كان لها أول
يريدون قول أهل التوحيد ببقاء الآخرة على الأبد فما أنكرتم أن ما مضى
من الحوادث لا أول لها وإن كان لها آخر قيل أنا لا نزعم أن ما له أول
لا يجوز أن يكون له آخر وإن الحوادث غير متناهية [24] ولكنّا نقول أن
الحوادث لا يزال يحدث منها حادث بعد حادث لا إلى غاية ولا يخرج كلها
إلى
(1/124)
الوجود حتى يرى موجوداً لم يبق منه شيء لم
يوجد وليس أول الشيء بموقوف على صحة وقوع آخره كما أن آخره موقوف على
صحة وقوع أوله لأنه يستحيل وقوع آخر لا أول له ولا يستحيل وقوع آخر بعد
آخر أبداً كما يستحيل وقوع فعل لا من فاعل متقدم ثم لا يجب وجود الفاعل
بعد فعله باقياً أبداً أو كما أن الأعداد مفتقرة أبداً إلى أول تنشؤ
منه وتبتدئ ثم لم يجب وجود تناهيها لتناهى أولها ومن الفرق بين
المستقبل والمستدير أنه يجوز وجود ما لا يزال يتحرك ولا يجوز وجود ما
لم يزل يتحرك كما أنه يجوز وجود من لا يزال يعتذر من ذنب ولا يجوز وجود
من لم يزل معتذراً لأن الاعتذارات لا بدّ لها من أول وقد يجوز أن يكون
لا آخر لها كذلك الأفعال لا بدّ أن لها أولاً ولا يجب أن يكون لها آخر
ومن هاهنا التزم بعض الموحدين بأن الحوادث لها آخر آخر العلة الحدث وإن
زعم أن هذا العالم وما فيه من فعل الطبائع وما أوجبته ذواتها فالطبائع
مركّبة من البسائط والتركيب عرض وهو دلالة الحدث فالطبائع إذاً محدثة
ثم هي جماد وموات كالحجر والشجر ثم هي مسخرة مقهورة بدلالة أن من شأنها
(1/125)
التنافر والتضادّ فلمّا رأيناها متواطئة
متوافقة علمنا أنه بقهر قاهر وضبط ضابط ثم هي غير عالمة ولا مميزة وإذا
كان هذا هكذا استحال وجود هذه الصنعة المحكمة المتقنة العجيبة البديعة
من مسخر غير عالم وليس ننكر فعل الطبائع وتأثيراتها في المطبوعات من
الحرّ والبرد في الفصول والأرباع لأن الله تعالى وضعها على ذلك وركب
فيها تلك القوة وسخرها لما أراد أن يصرفها عليه وجعلها سبباً لتلك
المسببات ومتى شاء سلبها تلك القوة وأبطل فعلها كما جعل الطعام مشبعاً
والماء مروياً وكثير من الناس يأتون القول بما أطلقناه تحرزاً لمذهبهم
وأن يصح فعل من حي قادر فأما الاختيار والتدبير فغير جائز إلا من قادر
حكيم وكذلك على من يزعم أن هذا العالم وما فيه من فعل الفلك والنجوم
وغيرها فإن قيل إذا لم تروا حياً قادراً فعل إنساناً وصورة وركب فيه
العقل والقوة والسمع والبصر ثم قضيتم بأن في الغائب حياً قادراً يفعل
ذلك ما أنكرتم أن يكون الطبائع تصور مثل هذا الإنسان وإن لم تروا مثل
هذا في الشاهد قيل وما سواء لأنّا وإن لم نشاهد حيّا قادراً فعل
إنساناً فقد شاهدنا
(1/126)
حياً قادراً فعل شيئاً وأبدعه فدلنا أنه لا
يجوز فعل في الغائب إلا من حي وليست الطبائع بحية ولا قادرة فإن قيل
أليس النار تحرق والماء يرطب قيل فقد يقولون فلان يحرق ويبرد ويضيفون
الفعل إلى المختار الحي والموات المضطر ولو كانت الطبائع بذاتها لما
جاز عليها الاتفاق مع تضادها فإن قيل شيء تعلمونه خالياً من الطبائع أو
غير متولد منها قيل الطباع نفسها متولدة منها وأكثر القدماء على أن
الأفلاك ليست من جنس الطبائع وهل يصح القول بأن الحركة والسكون والصوت
والعجز والقدرة [25] والعلم والجهل والحبّ والبغض والألم واللذّة
والكراهة والإرادة وغير ذلك من الأضداد والأشكال من الطبائع أو أنها
ليست بشيء لخروجها من أنواع الطبائع وأما احتجاجهم بالاستحالة فذلك
محال إلا بمحيل [1] لأنه لو جاز أن يستحيل الشيء بنفسه لجاز أن يتلاشى
بنفسه ولو جاز أن يتلاشى بنفسه لجاز أن يتركب ويخرج إلى الوجود من
العدم وهو عدم فلما لم يجز هذا لم يجز ذاك وباللَّه التوفيق، ومن
الدليل على حدث العالم أنّه لا يخلو
__________
[1] . كذا في الأصل Notemarginale:
(1/127)
من أحد الأمرين إما أن قد كان وإمّا أن لم
يكن فكان فإن كان قد كان فهذه الحوادث المقارنة له شاهدة بأنه ما كان
فدل أنّه لم يكن فكان ثمّ لم يخل هذا من أحد الأمرين إما أنه كان بنفسه
وإما أنه كان بمكون غيره فإن كان بنفسه فمحال أن يكون العدم وجوداً
لعجز الكائن عن تكوين مثله فكيف يقدر على تكوين ذاته وهي معدوم بقي
الوجه الآخر وهو أنه كونه مكون ومن الدليل على حدث العالم أنه لا يخلو
أن يكون قديماً أو حادثاً أو قديماً حادثاً أو لا قديماً ولا حادثاً
فاستحال القول بأنه لا قديم ولا حادث لمشاهدتنا إياه فاستحال أن يكون
قديماً حادثاً لاستحالة اجتماع الضدين بقي القول بالقديم والحدث
والدعوى يتساوى فيه لأنه ليس قول من زعم أن العلم كان أولى من قول من
زعم بأنّه لم يكن ولا جواب من قال لِمَ لَمْ يكن بأسعد من قول مَنْ قال
لِمَ كان فنظرناه فإذا دلائل الحدث يشهد بما لا يشهد دلائل القدم ومتى
أراد الملحد أن يعارضك في قولك بالقديم فطالبه بصفات القديم فإن أعطاك
فقد أقرّ بالمعنى وبقي الخلاف في التسمية وهذه مناظرة
(1/128)
جرت بين الموحد والملحد من أوضح المسائل
وأنفعها لا بد لكل مسلم من تحفظها، إن سأل سائل فقال ما الدليل على حدث
العالم قيل الدليل على حدثه أنه جواهر وأعراض والجواهر لا تخلو من أن
تكون مجتمعة أو متفرقة أو ساكنة أو متحركة إلا في حال واحدة ولن يجتمع
المجتمع بالاجتماع ولا يفترق المفترق بالافتراق وكذلك المتحرك والساكن
والاجتماع والافتراق والحركة محدثة وهو إذا كان كذلك ولم تخل الجواهر
منها فهي محدثة لأن ما لم يسبق الحوادث ولم يتقدمها فحادث مثلها مثال
ذلك أن فلاناً لو قال أنّ عمروا لم يوجد قطّ في هذه الدار إلّا وزيد
معه ثم قال وإنّما وجد فيها زيد أمس فوجب أن عمروا إنما أوجد فيها أمس
فإن قيل ليس قد وجدتم الباقي الذي ليس بمنتقض لا يخلو مما لا يبقى
وينقضي ولا يوجد بعده متعرياً منه فما أنكرتم أن القديم الذي لم يزل لا
يخلو من حادث ولا يوجد سابقا له متعرّيا منه قيل المعارضة فاسدة من قبل
أنه ليس مما لا يبقى وينقضي عروضاً للحدث أو المحدث وإنما عروض ذلك لم
يبق وانقضى وذلك أن قولك لا يبقى
(1/129)
وينقضي الحالة على وقت يأتي به يستحق الحكم
بأنه منقض غير باق فلم يكن منكراً لأن يقارن الباقي حتى لا يخلو منه إذ
لم يسبق الوصف المضاد لوصفه وقولك قد حدث حكم قد وجب له في وقته لا
ينتظر وجوبه في وقت فاستحال أن يقارن القديم حتى لا يكون [25] القديم
سابقاً له فإن قيل فأوجبوا أن يكون الباقي متغرباً ممن لم يبق وانقضى
كما أوجبتم أن يكون القديم سابقاً للمحدثات موجوداً قبلها قيل ذلك يفعل
وهو الواجب كما أنه سابق للحوادث فكذلك يجب أن يكون باقياً متأخراً
عنها ومتى ما لم يكن كذلك لم يكن باقيا كما أنّه لو لم يسبقها لم يكن
قديماً فإن قال إذا زعمتم أن المقارن للحوادث حوادث فما ينكرون أن يكون
المقارن للحوادث أمس حادثاً أمس قيل لأنا نقول أن الذي يقارن للحوادث
حادث بالإطلاق ولكن نقول ما لم يسبقها فحادث مثلها والجسم فإن قارن
الحوادث أمس كان موجوداً قبله فلذلك لم يجب أن يكون حادثاً معه وهذه
يؤكد ما قلنا له كما وجب أن يكون ما لم يسبق الحادث أمس حادثاً أمس
فكذلك يجب أن يكون ما لم يسبق الحوادث
(1/130)
بإطلاق حادثاً بالإطلاق فإن قيل أليس لم
نشاهد والأجسام مقارنة لحوادث إلا وقد كانت موجودة قبلها مقارنة لحوادث
غيرها فهلا زعمتم أن ذلك سبيلها وأنها لم تزل كذلك قبل هذا غير واجب
لأنا وإن كنا حكمنا بأن الأجسام التي شاهدناها كانت متقدمة للحوادث
المقارنة لها مقارنة لغيرها فلم نحكم بذلك من طريق الوجوب ولا لأن
الجسم إنما كان جسماً موجوداً لأنّه لا بدّ من أن يكون متقدماً للحوادث
المقارنة لها مقارناً لغيره لأن هذا حد [1] الجسم وحقيقته بل إنما
حكمنا بذلك لأنا لم نشاهد جسماً حدث في وقت مشاهدتنا له ولأنه صح عندنا
بالخبر والدليل أن هذه الأجسام التي شاهدناها قد كانت موجودة قبل
مشاهدتنا لها وصح أن الجسم لا يخلو من حادث ولو أنا شاهدنا جسماً في
وقت لم نشاهده قبله ثم لم يقم لنا دليل على أنه كان موجوداً قبل تلك
الحال ولا خبر صادق بذلك لما حكمنا بأنه قد كان موجوداً قبل الحوادث
المقارنة له مقارناً لغيرها بل كنا نخبر [2] ذلك ونخبر [3] ان لا يكون
سبق ما
__________
[1] . أحدMs.
[2] . بحيرMs.
[3] . بحر Ms.
(1/131)
هو موجود معه منها، فإن قيل ولم جوزتم هذا
وهلا قضيتم على كل جسم غاب أو حضر ورد فيه خبراً ولم يرد قام على تقدمه
دليل أو لم يقم بمثل [1] ما شاهدتم عليه هذه الأجسام وقضيتم بها عليها
من تقدمها الحوادث الموجودة منها ومقارنتها [2] لغيرها وإلا فكيف
تزعمون [3] أنكم تقضون بالشاهد على الغائب قيل ليس القضايا بالشاهد على
الغائب على ما ظننتموه لأنه ليس يجب إذا شاهدنا جسماً على صفة من
الصفات أن تقضي كل جسم غاب عنا كذلك إنما يجب إذا شاهدناه على صفة ما
أن ينظر هل هو عليها من جهة الوجوب الذي هو حده وحقيقته أم لا فإن كان
كذلك قضينا على كل جسم غاب عنا بحكمه وإلا فلا كما قلتم أن لا جسم في
الشاهد إلا مركباً من الطبائع الأربع ولا مركبا من الطبائع إلّا جسما
ثم قلتم بأن الأفلاك من طبيعة خامسة ولم يشاهدوا ذلك فكذلك إذا لم نر
إنساناً إلا أبيض لم يجب القضاء بأنّ كلّ إنسان
__________
[1] . بمثلMs.
[2] . مقاربتهاMs.
[3] . يزعمون Ms.
(1/132)
أبيض أو لم نر رمّانا إلّا حلوا لم يلزم أن
لا يكون رمّان إلّا حلو وكذلك إذا لم نر جسما مقارنا لحادث إلاّ وقد
كان عندنا متقدّماً له مقارناً لحادث غيره فلم يكن جسماً لأنّه كذلك
ولا ذلك حدّه بل حدّه أن يكون طويلاً عريضاً عميقاً فلمّا لم يكن جسماً
لأنّه يسبق الحوادث فيُوجد مع غيرها لم يجب أن يكون ذلك [26] حال كلّ
جسم في كلّ وقت وهذا أيضاً جواب قولهم إذا لم يروا أرضا إلاّ ومن
ورائها أرض ولا بيضة إلاّ من دجاجة ولا دجاجة إلاّ من بيضة فكيف قضيتم
بخلاف ما شاهدتم فيقال ليس حدّ البيضة أن تكون من الدجاجة ولا حدّ
الدجاجة أن تكون من البيضة وإنّما الدلائل قامت على حدثها فإن قال
ولِمَ زعمتم أن الجواهر لا تخلو من أن تكون مجتمعة أو متفرّقة قيل هذا
من أوائل العلوم التي تُعرف بالبديهة ولا يعترض عليها بالشبه فإن قال
ما الدليل على المجتمع اجتماعاً به كان مجتمعاً وللمفترق افتراقاً دونَ
أن يكون مفترقاً ومجتمعاً بنفسه قيل لو كان مجتمعاً بنفسه لما جاز
وجوده مفترقاً ما دام نفسه موجودة وكذلك المفترق فدلّ أنّ المجتمع
مجتمع باجتماع وكذلك
(1/133)
الافتراق، فإن قيل وما الدليل على الاجتماع
والافتراق مُحدَثان قيل الدليل على ذلك أنّا نقصد الجسم المجتمع مفترقة
فيُوجد فيه افتراق فلا يخلو ذلك الافتراق من أن كان موجوداً فيه قبل
ذلك أو لم يكن فحدث فإن كان موجوداً فيه فقد كان مجتمعاً مفترقاً وهذا
محال فثبت أنه حدث عند الافتراق وبطل أن يكون الاجتماع والافتراق
كامنين في الجسم فإن قال ما أنكرتم أن يكون الاجتماعات والافتراقات لا
نهاية لها وأنّه لا اجتماع إلاّ وقبله اجتماع ولا افتراق إلاّ وقبله
افتراق قيل هذا فاسد لأنّه لو كان كذلك لما جاز أن يوجد واحدٌ منهما
كما أنّ قاصداً لو قصد إلى جماعة فقال لا يدخلنّ هذا البيت أحدٌ منكم
حتّى يدخله قبله آخر ما جاز أن يوجد واحدٌ منهم في ذلك البيت ولو وجد
كان في ذلك انتقاض الشرط فإن قيل فما تنكرون أن يكون الاجتماع
والافتراق خمسين قيل لو كانا كذلك لم يخلُ من أن يكونا مجتمعين أو
مفترقين باجتماع وافتراق هما هما أو غيرهما فإن كانا مجتمعين باجتماع
هو هما استحال وجود الافتراق فيهما ما دامت أعيانهما قائمةً وإن كانا
مجتمعين باجتماع هو غيرهما
(1/134)
احتاج ذلك الاجتماع إلى اجتماع إلى ما لا
نهاية له ولا غاية وكلّ ما لا نهاية له ولا غاية فغير جائز وجود ما في
الحال منه وهذه مسألة جارية منذ قديم الزمان ولقد رأيتُ أهل النظر
يقحّمون أمرها ويرفعون من شأنها ووجدتها في عدّة كتب بألفاظ مختلفة فلم
أجدها أكمل وأتمّ من قول أبي القاسم الكعبي في كتاب أوائل الادلّة
فانبثّ بها على وجهها وقد ثبت حدث العالم كما ترى فيجب أن يُنظر
أَأَحدث جملةً واحدةً وضربة واحدة أم شيئاً بعد شيء لأنّ ذلك كلّه مجوز
في العقل فإن أوجد كما هو فابتداؤه حدوثه وإن أوجد منه شيء بعد شيء
فابتداؤه ما أوجد منه وليس ذلك إلى العقل فيُعتمد ولكن سبيله السمع
والخبر والناس مختلفون فيه القدماء ومَنْ بعدهم من أهل الكتاب
والمسلمون وأنا ذاكر من ذلك ما رُوى ومُرجّح ما وافق الحقّ إن شاء الله
عزّ وجلّ،
القول في ابتداء الخلق
قرأت في كتاب منسوب إلى رجل من القدماء يقال له افلوطرخس [1] ذكر فيه
اختلاف
__________
[1] . افلوطوخس Ms.
(1/135)
مقالات الفلاسفة ووسمه بكتاب ما يرضاه
الفلاسفة من الآراء الطبيعيّة حُكى عن تاليس الملطي [1] أنّه كان يرى
مبدأ الموجودات الماء منه بدأ وإليه ينحلّ وإنّما دعاه إلى توهّم [26]
هذا الرأي أنّه وجد جميع الحيوان من الجوهر الرَطْب الذي هو المنّى
فأوجب أن يكون مبدأ جميع الأشياء من الرطوبة ومتى ما عدمت الرطوبة جفّت
وبطلت وحكى انّ فيثاغورس من أهل شاميا وهو أوّل ما سمّى الفلسفة بهذا
الاسم وتاليس أوّل من ابتدأ الفلسفة أنّه كان يرى المبادي هي الأعداد
المتعادلات وكان يسمّيها تأليفات وهندسيّات ويسمّى من جملة ذلك اسطقسات
ويقول الواحدة والثانية لا حدّ لهما في المبادي ويرى أنّ أحد هذه
المبادي هي العلّة الفاعلة الخاصّة [2] وهي الله عزّ وجلّ والثاني
العقل والثالث العنصر وهو الجوهر القابل للانتقال وعنه كان العالم
المدرك يحسّ البصر وأنّ طبيعة العدد تنتهي [3] إلى العشرة وإذا بلغها
__________
[1] . المطلىّMs.
[2] . في الأصل الحاصبهicationmarginale:
[3] . ينتهى Ms.
(1/136)
رجع إلى الواحد وأنّ العشرة بالقوّة في
الأربعة وذلك إذا اجتَمعت الأعدادُ من الواحد إلى الأربعة استكملت عدد
العشرة وقد ذكر ابن رزام هذا الفصل في كتاب النقض على الباطنيّة قال
افلوطرخس وكذلك كان الفيثاغوريّون [1] يقولون في الأربعة قسماً عظيماً
ويأتون في ذلك بشهادة الشِعْر إذْ يقولون لا وحقّ الرباعية التي تدبر
أنفسنا التي هي أصلٌ لكلّ طبيعة التي تسيل دائماً كذلك النفس التي فينا
مركّبة من أربعة أشياء وهي العقل والعلم والرأي والحواسّ ومنها تكون
كلّ صناعة وكل مِهْنَة وبها كنّا نحس أنفسنا فالعقل هو الواحدة وذلك
أنّ العقل إنّما يجري وحده وإمّا الثانية التي ليست بمحمودة فالعلم
وذلك أن كلّ برهان وكلّ إقناع فمنه وأمّا الثالثة فالرأي لأنّ الرأي
لجماعة والرابعة الحواسّ وحكى عن نرافليطس أنّه كان يرى مبدأ كلّ شيء
النار واليها انتهاؤها وإذا انطفأت النار يشكّل به العالم وأوّل ذلك
أنّ الغليظ منه إذا تكاثف واجتمع بعضه إلى بعض صار أرضاً وإذا تحلّلت
الأرض وتفرّقت أجزاؤها بالنار صارت ماء والنار يحللّ الأجسام ويثيرها
وحُكى عن
__________
[1] . الفوياعوريّون Ms.
(1/137)
انعمامس انه كان يرى الهواء أوّل الموجودات
منه كان الكلّ وإليه ينحلّ الموجودات مثل النَفْس التي فينا وانّ
الهواء هو الذي يحفظ فينا الروح والهواء يُمسكان العالم كلّه والروح
والهواء يقالان جميعاً لأنّ على معنى واحد قولاً متواطئاً وحُكى عن
فيثاغورس [1] أنّه كان يرى أنّ مبدأ الموجودات هو المتشابه الأجزاء وأن
الكائنات يكون بالغذاء الذي تغتذي به ومن هذه الكائنات يكون معنى
المتشابه الأجزاء وعنده أنّ الأشياء [2] يدرك بالعقل لا بالحسّ وهي
أجزاء الغذاء وإنّما سمّيت متشابه الأجزاء من أجل أنّ هذه الأعضاء
المكوّنة من الغذاء متشابهة بعضها يشبه بعضاً فسميّت متشابهة الأجزاء
وجعلها مبادي الموجودات وصيّر المتشابه الأجزاء عنصراً وحُكى عن
ارسلاوس أنّه يرى مبدأ العالم ما لا نهاية له وقد يعترض فيه التكاثف
والتخلخل فمنه ما يصير ماءً ومنه يصير ناراً وحكى عن أبيقورس أنّه كان
يرى الموجودات أجساماً مدركة عقولاً لا خلاء فيها ولا كون سرمديّة غير
فاسدة لا يحتمل التكسّر والتهشّم
__________
[1] . انفساغورسMs.
[2] . الاسياء Ms.
(1/138)
ولا يعترض في أجزائها خلاف ولا استحالة وهي
مدركة بالعقل لا بالحواسّ وهي لا يتجزّأ وليس معنى قوله لا يتجزّأ
أنّها في غاية الصغر لكن لا تقبل الانفعال والاستحالة وحُكى عن
اثمادقليس أنّه [27] لا يرى الاسطقسات الأربع التي هي الماء والنار
والهواء والأرض وأنّ المبدأ مبدءان [1] وهما المحبّة والغلبة واحدهما
يفعل الإيجاد والآخر يفعل التفرقة وحكى عن سقراط بن سقريقس وأفلاطون بن
آرسطو الإلهيّ أنّهما يريان المبادئ ثلاثة [2] الله والعنصر والصورة
زعم المفسّرون أنّ معنى قولهم الله هو العقل العالم ومعنى العنصر هو
الموضوع الأوّل للكون والفساد ومعنى الصورة جوهر لا جسم في التخييلات
وحُكى عن ارسطاطاليس بن توماجس صاحب المنطق أنّه يرى المبادئ الصورة
والعنصر والعدم والاسطقسات الأربع وجسم خامس هو الأمر غير المستحيل
وحكى عن دينوهرماوس أنّه يرى المبادئ هي الله تعالى وهي العلة الفاعلة
والعنصر المنفعل والاسطقسات الأربع فهذا جملة ما حكاه
__________
[1] . مبديانMs.
[2] . ثلاثة Ms.
(1/139)
افلوطرخس [1] من أقاويل الفلاسفة في
المبادئ وزعم أيوب الرهاوي في كتاب التفسير أنّ المبادئ هي العناصر
المفردة يعني الحرّ والبرد والبلّة واليُبْس فكُوِّنت النارُ من تركيب
الحرّ مع اليُبْس وكُوِّن الهواء من تركيب البرد مع البلّة وكوّن الماء
من تركيب البرد مع البلّة وكُوِّنت الأرض من تركيب البرد مع اليبس
فصارت هذه العناصر المركّبة ثم كُوِّنَ من تركيب هذه العناصر المركبّة
الحيوانُ والنباتُ،
ذكر ما حكى أهل الإسلام عنهم،
حكى زُرقان في كتاب المقالات أنّ ارسطاطاليس قال بهيولي قديم وقوة معه
لم يزل وجوهر قابل للأعراض وأنّ الهيولي حرّك القوّة فحدث البرد ثم
حرّكها فحدث الحرّ ثم قبلهما الجوهر قال وشبّه إحداث [2] الهيولى
الحركة بإحداث الإنسان الفعل بعد أن كان غير فاعل له والفعل عَرَض وهو
غير الإنسان فكذلك الهيولي أحدث أعراضاً هي غيره ولا يقال كيف أحدثها
كما لا يقال كيف حدثت هذه الحركة من الإنسان وحُكى [عن] جالينوس أنّه
قال
__________
[1] . افلوطوخسMs.
[2] . باحداث Ms.
(1/140)
بأربع طبائع لم ينفكّ العالم منها قال وقال
سائر الفلاسفة بأربع طبائع وخامس معها خلافها لولا هو لما كان للطبائع
ائتلاف على تضادّها قال وقال هرمس [1] بمثل مقالة هؤلاء فاثبت العالم
ساكناً ثم تحرّك والحركة معنىً وهو زوال وانتقال والسكون ليس بفعل قال
وقال بلعم بن باعوراء العالم قديم وله مدّبر يدبّره وهو خلافه من جميع
المعاني وأثبت الحركات فقال أنّ الحركة الأولى هي الثانية معاودة لأنّ
من قوله أنّ الحركة مع أصل العالم والعالم قديم عنده قال وقال أصحاب
الأصطرلاب بمثل مقالة بلعم إلاّ أنّهم زعموا أنّ العالم لم يزل
متحرّكاً بحركات لا نهاية لها وأنكروا أن يكون الحركة لها أوّل وآخر
لأنّها ليست بمحدثة قال وقال أصحاب الجثّة أن العالم لم يزل مصوّراً
قديماً جُثّةً مُصْمتةً فانقلعت الجثّةً وكان الخلق كامناً فيها فظهر
على نحو ما يظهر في النطفة والبيضة والنواة قال وقال أصحاب الجوهرة أن
العالم جوهرة قديمة وأحديّة الذات وإنما اختلفت على قدر التقاء [2]
الجوهرة وحركاتها فإذا كانا جزءين كانا حرّا
__________
[1] . هومسMs.
[2] . البقاء Ms.
(1/141)
وإذا كان ثلاثة أجزاء صار برداً وإذا كانت
أربعة صارت رطوبة وزعم أنّ حركة قبل حركة إلى ما نهاية وقد جمع الناشي
مذاهب هؤلاء كلّهم بلفظة واحدة فقال هم أربع طبقات فطبقة قالت [27]
بِقدَم الطينة وحَدَث الصبغة وطبقة قالت بحدث الطينة والصبغة وطبقة
شكّت فلم تدرِ أقديمة هي أم حديثة لتكافئ الأدلّة عندها وقد قال
جالينوس وما على أنْ لم أدرِ أقديمة هي أم حديثة وما حاجتي إلى ذلك في
صناعة للطبّ،
ذكر مقالات الثنويّة والحرّانيّة
أصل اعتقاد هؤلاء في الجملة أنّ المبدأ شيئان اثنان نور وظلمة وأنّ
النور كان في أعلى العُلْو وأنّ الظلمة كانت أسفل السُفْل نوراً خالصاً
وظلمةً خالصةً غير مماسّين على مثال الظلّ والشمس فامتزجا فكان من
امتزاجها هذا العالم بما فيه هذا الذي يجمع أصل عقائدهم ثم اختلفوا بعد
ذلك فزعم ابن ديصان أن النور خالق الخير والظلمة خالقة الشرّ بعد قوله
بأنّ النور حيّ حسّاس والظلمة موات فكيف يصحّ الفعل من الموات ولما رأى
من فنون ما لحق المانويّة والديصانيّة من التناقض والفساد أحدث مذهباً
زعم أنّ الكونين النوري والظلامي قديمان ومعهما شيء
(1/142)
قديم ثالث لم يزل خلافها وخارجاً عن
خارجهما وهو الذي حمل الكونين على المشابكة والامتزاج ولولا ذلك
المُعَدّلُ بينهما لما كان من جوهر هما إلّا التباين والتنافر وزعم
كنّان أنّ أصل القديم ثلاثة أشياء الأرض والماء والنار غير أنّ المدبّر
لها اثنان خير وشرّ، وأمّا الحرّانيّة فمختلف عندهم في الحكاية زعم
أحمد ابن الطيب في رسالة له يذكر فيها مذاهبهم أنّ القوم مجمعون على
أنّ للعالم علّة لم يزل ويقولون المدبّرات سبع واثنا عشر ويقولون في
الهيولي والعدم والصورة والزمان والمكان والحركة والقوّة بقول
ارسطاطاليس في كتاب سمع الكيان وزعم زرقان أنّهم يقولون مثل قول
المانيّة وقال بعضهم أنّ مذهب الحرّانيّة ناموس مذهب الفلاسفة وما لم
يكن يجسر أحدٌ أنْ يُظهر خلافهم، وأمّا المجوس فأصناف كثيرة ولهم هوس
عظيم وترّهات متجاوزة الحدّ والمقدار لا يكاد يوقف عليها فبعضهم يقول
بقول الثنوية وبعضهم على مذهب الحرّانيّة والخُرّميّةُ جنسٌ منهم
يتستّرون بالإسلام ويقولون مبدأ العالم نور وأنّه نسخ بعضه فاستحال
ظلمةً وأمّا أهل الصين فعامّتهم الثنويّة إلى كثير ممّن يليهم من
التُرك وفيهم المعطّلة الذين يقولون بقدم الأعيان وأنّ العالم لا صانع
(1/143)
له ولا مدبّر والهنود أصناف كثيرة وتجمعهم
البراهمة والسمنيّة والمعطلّة الأخرى يقولون بالتوحيد غير أنّهم
يُبطلون الرسالة ومنهم المهادرزيّة يزعمون أنّ المبدأ ثلاثة أخوة أحدهم
مهادرز فاحتال أخواه في المكر به فعثرت به دابّته فسقط ميتاً فسلخا
جلده وبسطاه على وجه العالم فصار من جلدته هذه الأرض ومن عظامه الجبال
ومن دمائه الأودية والأنهار ومن شَعْره الأشجار والنبات هذا ما بلغنا
من مذاهب سكّان الأرض والقدماء في هذا الباب وقد أشرنا إلى فساد مذهبهم
ومذهب مَنْ يقول بقدم العالم أو شيء مع الله تعالى بما فيه كفاية
وغُنية وهذه الحكايات كلّها إن لم يكن شيء منها زُمراً أو ألغازاً أو
تمثيلاً أو روايةً عن كتاب من كتب الله عزّ وجلّ أو رسول من رُسل الله
أو بوفاق ما جاء منهم أو بشهادة العقول قاطبةً فمردودة غير مقبولة
ومحمولة على تمويه واضعها وتزوير مبتدعها وليس في كثرة الترداد
والتكرار كثير فائدة ومتى مرّنْتَ نفسك على تحفّظ مسألة إحداث العالم
استغنيتَ عن كثرة الخوض في الفروع التي بنيت على أصل القدم [28] لأنّه
إذا وَهَى البناء وضعُف لم يَثْبُت فروعُه ولا قامت أركانه،
(1/144)
ذكر مقالات أهل
الكتاب في هذا الباب،
قرأت في كتاب موسوم بشرائع اليهود أن جماعة من علمائهم نهوا عن التفحص
عن هذا الباب والشروع فيه وزعموا أنه لا ينبغي للإنسان أن يبحث عما
يتعجب منه ويخفى عليه وزعم بعضهم أن الشيء الذي خلقه الله تعالى في
الابتداء سبعة عشر شيئاً خلقها الله بلا نطق ولا حركة ولا فكرة ولا
زمان ولا مكان وهي المكان والزمان والريح والهواء والنار والماء والأرض
والظلمة والنور والعرش والسموات وروح القدس والجنة وجهنم وصور جميع
الخلائق والحكمة قال ومخلوقه ذو جهات ست وهو محصور بين هذه الجهات التي
هي الأمام والخلف والعلو والسفل واليمين والشمال وزعم بعضهم أن أول ما
خلق الله سبعة وعشرون شيئاً فذكر هذه السبعة عشر وأضاف إليها كلام موسى
الذي سمعه وجميع ما رأته الأنبياء والمن والسلوى والغمام والعين التي
ظهرت لبنى إسرائيل والشياطين واللباس الّذي ألبس آدم وحوّاء وكلام
الجبّار الذي كلم به بلعام هكذا الحكاية عنهم والمسطور في أوّل سفر من
التوراة بالعبرانيّة برشست بارا ايلوهيم ايث هشومائم وانث هو اورس وهو
اورس هو ننو ثوهم
(1/145)
وحوشخ على هي تهوم يقول أول شيء خلقه
السماء والأرض وكانت الأرض جزيرة خاوية مظلمة على الغمر وريح الله يزف
على وجه الأرض كذا فسره المفسرون فلا أدري كيف خالفته الحكاية عنهم ضمن
التورية ولعل ما ذكروه في بعض أسفارهم لأنّ التوراة مشتملة على عدة كتب
من كتب الأنبياء والله أعلم وأما النصارى فدينهم في هذا دين اليهود
لانّهم يقرءون التوراة ويقرون بما فيها والصابئون محرون في مذهبهم
فأكثر الناس على أن دينهم بين دين اليهود والنصارى فإن كان كذلك فقولهم
قولهم وحكى زرقان أن الصابئين يقولون بالنور والظلمة على نحو ما يقوله
المنانيّة والله أعلم،
ذكر قول أهل الإسلام في المبادئ وما جاء من
الروايات فيها،
حدثنا الحسن ابن هشام ببلد قال حدثني ابراهيم بن عبد الله العبسي حدثنا
وكيع عن الأعمش عن أبي طبيان عن ابن عباس رضي الله عنه قال أول ما خلق
الله من شيء القلم قال اكتب فقال أي ربي وما أكتب قال القدر فجرى القلم
بما هو كائن من ذلك اليوم إلى يوم القيامة قال ثم خلق النون فدحا الأرض
عليها فارتفع بخار الماء ففتق منه السموات فاضطربت النون
(1/146)
فمارت الأرض فأثبتت بالجبال وإن الجبال
تنفجر على الأرض إلى يوم القيامة وحدثنا عبد الرحمن بن أحمد المروزي
بمرو حدثنا السراج محمد بن إسحاق حدثنا قتيبة بن سعد حدثنا خالد بن عبد
الله بن عطاء عن أبي الضحا عن ابن عباس رضي الله عنه قال أول شيء خلق
الله تبارك وتعالى القلم فقال له اكتب ما يكون إلى يوم القيامة ثم خلق
نون فكبس عليها الأرض يقول الله تعالى ن وَالْقَلَمِ وَما يَسْطُرُونَ
68: 1 وحدثني محمد بن سهل باسوار حدثنا أبو بكر بن زيان حدثنا [؟] عنه
عيسى بن حماد [28] عن الليث بن سعد عن ابى هانئ عن ابى عبد الرحمن
الحبلي عن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال
كتب الله بقادر [1] كل شيء قبل أن خلق السموات والأرض بخمسين ألف عام
وقد اختلفت الروايات عن ابن عبّاس رضى الله عنه فروى عنه أول ما خلق
الله القلم وروى عنه سعيد بن حبير أول ما خلق الله العرش والكرسي وروى
أول ما خلق الله النور والظلمة وروينا خلاف ذلك كله عن الحسن أنه قال
أول ما خلق من شيء العقل وروى عنه أوّل ما خلق الله
__________
[1] . كذا في الأصل Notemarginale:
(1/147)
الأرواح وفي رواية أبي الوليد عن أبي عوانه
عن أبي بشر عن مجاهد قال بدء الخلق العرش والماء والهواء وخلقت الأرض
من الماء وحدثني حاتم بن السندي بتكريت حدثنا أحمد بن منصور الرمادي عن
عبد الرزاق عن معمر عن الزهري عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت قال
رسول الله صلى الله عليه وسلم خلقت الملائكة من نور وخلق الجان من مارج
من نار وخلق آدم كما وصف لكم وأما حديث حماد بن سلمة عن يعلى بن عطا عن
وكيع بن حرس عن عمه أبي رزين العقيلي أنه قال قلت يا رسول الله أين كان
ربنا قبل أن خلق السموات والأرض قال كان في عماء ما تحته هواء ولا فوقه
هواء ثم خلق عرشه على الماء فإنه إن صح وصح تأويل من تأول العماء
السحاب والغمام دل أن خلق الغمام المذكور في الخبر والقرآن كان قبل خلق
السموات والأرض وقد روى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال كتب الله
كتاباً قبل أن يخلق الخلق بألفي عام [1] ووضعه على العرش فإن صحت
الرواية دل أن خلق العرش كان قبل سائر الخلق وفي كتاب أبي حذيفة عن
حبير عن الضحاك عن ابن عباس رضى
__________
[1] . سبقت رحمتي غضبى polationdanslems.:
(1/148)
الله عنه أن الله لما أراد أن يخلق الماء
خلق من النور ياقوتة خضراء ووصف في طولها وعرضها وسمكها ما الله به
عليم قال فلحظها الجبار لحظة فصارت ماء يترقرق لا يثبت في ضحضاح ولا
غير ضحضاح يرتعد من مخافة الله ثم خلق الريح فوضع الماء على متن الريح
ثم خلق العرش فوضعه على متن الماء فذلك قوله تعالى وَكانَ عَرْشُهُ
عَلَى الْماءِ 11: 7 وروى عبد الرزاق عن معمر عن الأعمش عن ابن حبير
قال سألت ابن عباس رضي الله عنه عن قوله تعالى وكان عرشه على الماء
فعلام كان الماء قبل أن يخلق شيئاً قال على متن الريح فإن صحت الرواية
عن الضحاك دل أن النون قبل خلق الماء وامّا محمّد بن إسحاق فإنّه يقول
في كتابه وهو أول كتاب عمل في بدء الخلق لقول الله تعالى وَهُوَ
الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ في سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكانَ
عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ 11: 7 فكان كما وصف نفسه تبارك وتعالى إذ ليس
إلا الماء عليه العرش ذو الجلال والإكرام والعزة والسلطان فكان أول ما
خلق النور والظلمة ميز بينهما فجعل الظلمة ليلا أسود مظلما وجعل النور
نهاراً مضيئاً مبصراً ثم سمك السموات السبع من دخان الماء حتى استقللن
ثم دحا الأرض
(1/149)
وأرساها بالجبال وقدر فيها الأقوات ثم
استوى الى السماء وهي دخان، لا يختلف أحد من المسلمين ومن يدين الله
بالكتاب والرسالة أن ما دون الله تعالى مخلوق محدث وإن لم يذكر خلقه
وإحداثه وإنما مرادنا أن نعرف أول ما خلق الله منه إن كان ذلك ممكناً
منه اختلف الرواة عن وهب بن منبه وغيره من منى [29] أهل الكتاب فروى عن
عبد الله بن سلام أنه قال خلق الله نوراً وخلق من ذلك النور ظلمةً وخلق
من تلك [1] الظلمة نوراً وخلق من ذلك النور ماءً يخلق من ذلك الماء
الأشياء كلها وعن وهب بن منبه قال وجدت فيما أنزل الله على موسى بن
عمران عليه السلم أن الله لما أراد خلق الخلق خلق الروح ثم خلق من
الروح الهواء ثم خلق من الهواء النور والظلمة ثم خلق من النور الماء ثم
خلق النار والريح وكان عرشه على الماء وسمعت بعض الشيعة يزعمون أن أول
ما خلق الله نور محمّد وعليّ ويروون فيه رواية والله اعلم بحقها وقد
ذكرت حكماء العرب ومن كان يدين الله منهم بدين الأنبياء في أشعارها
وخطبها كيف كان مبدأ الخلق
__________
[1] . ذلك Ms.
(1/150)
فمنه قول عدي بن زيد العبادي وكان نصرانيّا
يقرأ الكتب [بسيط]
اسمع حديثاً لكي يوماً تجاوبه ... عن ظهر غيب إذا ما سائل سألا
إن كيف أبدى إله الخلق نعمته ... فينا وعرفنا آياته الأولا
كانت رياحا وماء ذا عرانية ... وظلمة لم يدع فتقاً ولا خللا
فأمر الظلمة السوداء فانكشفت ... وعزل الماء عما كان قد شغلا
وبسط الأرض بسطاً ثمّ قدّرها ... تحت السماء سواء مثل ما فعلا
وجعل الشمس مصيراً لا خفاء به ... بين النهار وبين الليل قد فضلا
قضى لستة أيام خلائقه ... وكان آخر شيء صور الرجلا
وقد حكى الفرس عن علماء دينهم وموبذيهم أول ما خلق الله السموات والأرض
ثم النبات ثم الإنسان،
ذكر تصويب أرجح المذاهب،
أقول أن رأى من رأى تقديم [1] أحد الأركان على غيره هو محتلّ واه
لأنّهم يختلفون في الاستحالة والفساد وكيف يصح على رأي تاليس الماء وهو
عنده مستحيل من الأرض وعلى رأي يراقليطس [2] النار وهي مستحيلة عنده
__________
[1] . بقديمMs.
[2] . براطيطس Ms.
(1/151)
من الهواء وكذلك سائر الأركان أم كيف يجوز
عندهم تولّد حيوان أو تركّب نبات من غير اجتماع هذه الأخلاط الأربع
فيها لأن ما تفرد بطبع واحد لا يوجد منه غير حركته الطبيعية أو من زعم
بابتداء البسائط ثم العناصر المركبة فإنه يفحش قوله لأن البسائط أعراض
لا تقوم بذواتها ولا بد لها من حامل فكيف يصح وجودها بلا حامل وكذلك من
زعم النور والظلمة لأنهما عرضان لا جسمان والأصح على مذهب هؤلاء ما رأى
اثمادقليس من تقدم الاسطقسات الأربع وفساد هذا ظاهر عند المسلمين بأن
الاسطقسات لا تخلو أن تكون أعراضاً فإن كانت أعراضاً فالعرض لا يقوم
بنفسه أو يكون أجساماً وحد الجسم ما ذكرناه وإثر الحدث مقارن له أو
يكون لا أجساماً ولا أعراضاً فهذا غير معقول عند المسلمين إلا البارئ
جل جلاله فإنه خلاف خلقه من جميع الوجوه وإذا لم تكن [29] أجساماً ولا
أعراضا عندهم فلا بدّ أن يكون هو الهيولى الموهوم في مذهبه وهذا شيء لو
كان موهوماً لما جاز وقوع الاختلاف فيه إلا من معاند كما لا يجوز وقوع
الاختلاف في المعقول إلا من معاند مع أن الوهم لا يحصر ما لا حدّ له
ولا صفة من
(1/152)
لون أو مقدار أو شيء من الأعراض المحسوسة
وجملة هذا القول في هذا الباب مراعاة إثر الحدث فيما سوى البارئ جل
جلاله فإذا ثبت ذلك علم أن ما كان محدثاً فلا بد له من ابتداء وإذا كان
لا يقول بحدث العالم إلا الموحدون لم يوجد ابتداء ذلك إلا من جهتهم وهم
يختلفون في الرواية عن علمائهم في الظاهر ومتفقون في المعنى إذا انعموا
النظر فأما أهل الكتاب وما حكى عنهم فمحتمل غير أنه لا يجوز القطع به
ما لم يصدقه كتابنا أو خبر نبينا صلى الله عليه وسلم لما وقع فيهم من
التحريف والتبديل ولأنه خلاف ما ذكر في أوّل التوراة في ابتداء الخلق
فالذي يوجبه العقل أن يكون مكان كل متمكن سابق له وإن لا يحل حركة إلا
في جسم ولا يوجد إلا في زمان وإن لا يصح فعل اختيار وتدبير إلا من حي
عالم وإن لا يحدث شيء إلا من شيء وإن الأركان الأربع سابقة للأجسام فمن
قال بقدم هذه المذكورات دخل في جملة المخالفين ونقضت عليه آثار الحدث
فيها ومذهبه ومن قال بحدثها فما حاجته إلى تقديم ما قدم منها وقد أقر
بأن الله أحدث الزمان من غير زمان والمكان في غير مكان والأركان من غير
أركان اللَّهمّ إلا أن يعمد فيه شيئاً
(1/153)
من كتب الله فليس يجد في كتاب أول ما خلق
ما هو فيقضي على ما خالفه بالرد والإنكار ولا بد لكل حادث من غاية
ينتهي إليها كقولنا الساعة من اليوم واليوم من الأسبوع والأسبوع من
الشهر والشهر من السنة والسنة من الزمان والزمان من الدهر فقد انتهى
إلى الزمان والزمان غايته وكما نقول فلان من فلان وفلان من فلان كما
ترفع مثلاً نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أدم ثم يقال وآدم من
تراب فالتراب آخره وكذلك سائر الأشياء الحادثة لا بدّ لها من غاية هذا
ما يعاينه ويشاهده فلذلك وضعنا ما روينا عن أهل الكتاب على وجه
الاحتمال فقد ذهب بعض أهل الإسلام إلى أن أول ما أحدث الزمن العلوي وهو
وقت يظهر فيه الفعل ليس السفلي الذي هو من حركات الفلك ثم المكان الذي
هو غير متجزئ ولا متماسك وهو فضاء وبسيط ذاهب خلاء محيط بالعالم قال
وليس الهواء من الفضاء في شيء لأن الهواء جسم متجزئ ومنتشر وليس الخلاء
بمتجزّئ ولا محسوس ومعنى قوله التجزّي أن الخلاء لا يدخل العالم منه
شيء إلا يتحلله بتةً والهواء ما بين السماء والأرض ولا يخلو منه شيء
والخلاء ما فيه السماء والأرض
(1/154)
والهواء ثم الأجسام بأعراضها كذا رأيت في
بعض كتبهم والله أعلم فإذا سأل سائل عن ابتداء الخلق فجوابه أن ما دون
الله مخلوق نعم سؤالك عن العالم العلوي أم العالم السفلي أم عن الآخرة
الموعودة أم عن الدنيا الفانية [30] لأن كل شيء من هذه الأشياء ابتدأ
منه ابتداء ونشو فإن قيل هل غير الدنيا والآخرة شيء قيل العرش والكرسي
والملائكة واللوح والقلم وسدرة المنتهى مخلوقة كلها ولا تعد [1] من
الدنيا ولا من الآخرة وكذلك الجنة والنار والصراط والميزان والصور
والأعراف والرحمة والعذاب مخلوقة عند كثير من الأمة ثم من بعدهم من أهل
الكتاب ولا يعد من الدنيا ولا من الآخرة فإن قيل فقد قال الله تعالى
فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولى 53: 25 ولم يذكر شيئاً غيرهما قيل ولم
يذكر الأشياء غيرهما مع أكثر أهل التفسير يقولون معناه للَّه الحكم في
الآخرة والأولى وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بعد الموت
مستعتب ولا بعد الدنيا إلا الجنة والنار لأنه لا شيء غيرهما وإنما يصح
هذا إذا عرفت الدنيا والآخرة ما هما على انّه لا عتب
__________
[1] . يعدّ Ms.
(1/155)
على من عد ما ذكرناه من أمر الآخرة ولا
مضايقة فيه بعد أن اعتقدها كما جاءت به كتب الله وينبغي أن يعلم أن
كلما دون الدنيا روحاني حيواني خلق للبقاء والخلود على الأبد لا يجوز
عليه الانحلال والدثور بقول الله تعالى وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ
لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ، 29: 64
ذكر أول ما خلق في العالم العلوي من
الحيوانات
يدل على أن أول ما أوجده الله تعالى القلم واللوح على رواية أبي ظبيان
عن ابن عباس ثم العرش والكرسي على رواية مجاهد وقد قال قائل أن أول ما
خلق الروح والعقل على رواية الحسن لأن في رواية ابن عباس أنه قال للقلم
اكتب فقال أي رب وما اكتب والأمر في الحقيقة والجواب لا يصح إلا من حي
عاقل قال ثم الحجب ومنها الغمام والنور والملائكة ثم الرحمة والعذاب
يعني الجنة والنار والصراط والميزان وغير ذلك مما ذكر وأول ما خلق في
العالم السفلي من الحيوانات الماء والهواء كما قال مجاهد وخلقت الأرض
من الماء فهذه أركان العالم ثم النور والظلمة ومن الناس من يفرق بين
النور العلوي
(1/156)
والنور السفلي بأن هذا جسم لطيف وذلك روح
خالص مع اختلافهم في الروح أجسم هو أم غير جسم وسيمر بك في بابه
مشروحاً مفسراً إن شاء الله عز وجل فإذا سأل سائل مم خلق الخلق قيل أن
الخلق أجزاء مختلفة فعن أي جزء من أجزاء الخلق سؤالك ولن يجاب حتى يشير
إلى ما أردنا فإن سأل عن الأرض قيل من زبد الماء كما جاء في الحديث
والخبر وان سأل سائل عن السماء قيل من دخان الماء وإن سأل عن الكواكب
قيل من ضوء النهار وإن سأل عن الأركان المركبة قيل من البسائط المفردات
وإن سأل عن البسائط قيل يمكن أن يكون خلقت مما خلق قبلها ويمكن أن يكون
خلقت لا من شيء لأنا نرى الله يخلق الشيء من الشيء ويخلق من لا شيء وقد
دللنا على أن لا شيء غير الله تعالى إلا مخلوق وأن الله ابتدعه بدئاً
لا من شيء كما شاء ما لا حاجة إلى إعادة القول فيه بقول الله تعالى
بَدِيعُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ 2: 117 وقال الله خَلَقَ كُلَّ
دَابَّةٍ من ماءٍ 24: 45 وقال الله خَلَقَكُمْ من نَفْسٍ واحِدَةٍ 4: 1
وقال خَلَقَ الْإِنْسانَ من صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ وَخَلَقَ الْجَانَّ
من مارِجٍ
(1/157)
من نارٍ 55: 14- 15 مع سائر ما وصفت أنه
خلقه من خلق خلقه قبله [30] وكذلك يفعل الشيء بسبب ويفعله بلا سبب موجب
قال الله تعالى وَأَنْزَلَ من السَّماءِ ماء فَأَخْرَجَ به من
الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ 2: 22 فأخبر عز وجل أنه جعل سبب إخراج
الثمر والنبات إنزال الماء وكذلك جعل سبب كون الإنسان النطفة وسائر ما
يوجده ويحدثه وقد أوجد أمهات هذه الأسباب بغير سبب موجب لها بل بقدرته
وحكمته وإن سأل سائل فيم خلق قيل فيم سؤال عن المكان ولا مكان ألا وهو
مفتقر إلى مكان وقد سبقت الدلالة على فساد الحلول بما ليست له نهاية
فلو قال القائل أن العالم لا في مكان لكان قولاً لأنه ليس بأعجب من
إقراره بإيجاد الأعيان لا من غير سابقة وقد قيل أنه في خلاء وهو مكان
له وزعم آخرون أن العالم بعضه مكان لبعض وفي كتاب وهب بن منبه أن
السموات والجنة والنار والدنيا والآخرة والريح والنار كلها في جوف
الكرسي فإن صحت الرواية كان الكرسي مكاناً لهذه الأشياء والله اعلم
وأحكم،
(1/158)
وإن سأل كيف خلق قيل كيف سؤال يقتضي
التشبيه في الجواب وليس نعلم العالم مثلاً غيره فنشبهه به ولكنا
مشاهدين له عند أحداثه ولا فعل الله تعالى بحركة ولا معالجة والكيفية
منتفية عن فعله كما هي منتفية عنه سبحانه فإن أردت كيف أوجده من عدم
فكيف تراه أجساماً وجواهر حاملة للأعراض قال له كن فكان كما أخبرنا عنه
وإن أردت شكلاً وهيئة لفعله فهذه من حالات الأعراض التي تتعاقب على
المخلوقين فإن سأل سائل متى خلق قيل متى سؤال عن المدة والوقت من
الزمان والمدة عندنا من حركات الفلك ومدى ما بين الأفعال وقد قامت
الدلالة على حدث الفلك ولا يطلق المسلمون القول بأن الله تعالى لم يزل
يفعل لأن ذلك يوجب أزلية الخلق ويؤدي إلى قول من يرى المعلول مع العلة
حتى يكون بين فعل سابق له إلى أن فعل العالم مدة وقد زعم بعض الناس أنه
أحدث زماناً أوجد فيه العالم كمن قال أنه أحدث مكانا أوجد فيه العالم
فقال قوم الزمان ليس بشيء وإن سأل سائل لم خلق قيل لم سؤال عن العلة
الموجبة للفعل وفاعل ذلك مضطر غير مختار والمضطر مقهور مغلوب ولا يجوز
ذلك في
(1/159)
صفة القديم فإن أردت بالعلّة الغرض المقصود
في الخلق فهو ما ذكرناه في أول هذا الفصل أنه خلق الخلق لرأفته ورحمته
وجوده وقدرته لينفعهم وليأكلوا من رزقه وليتقلبوا في نعمته ويستحقوا
شرف الثواب بطاعته،
(1/160)
|