البدء والتاريخ

الفصل الرابع في تثبيت الرسالة وإيجاب النبوة
أقول أن منكري الرسل صنفان أحدهما المعطلة الذين ينكرون إثبات البارئ سبحانه فلا وجه للكلام معهم إلا بعد إقرارهم بالتوحيد والثاني البراهمة أقروا بالصانع وأنكروا الرسالة واحتجوا بأن الرسول لا يأتي إلا بما في العقل أو بخلافه فإن كان يأتى بموجب العقل فما في العقل كاف مما يجب للَّه تعالى على العباد من معرفته وتوحيده وشكره وعبادته واستعمال الحسن واستقباح القبيح وأن كان يأتي بخلافه فلا وجه لقبوله لأن الخطاب وقع على نوى العقول والقضيّة لها والتمييز اودعتاها فأجابهم المسلمون بأن الرسول أبداً لا يأتي إلّا بما في العقول إيجابه أو تجويزه وحاشا للَّه ولرسوله أن يأتوا بخلاف ما في العقول ولكن من الأشياء مما يغمض ويلطف حتى يخطئه العقل أو يخفى ويحتجب حتى

(1/109)


يقصر دونه العقل كانتفاع الإنسان بما ينزع إليه نفسه ويشتاق إليه طبعه من ملاذ الاغذية والملاهي المقوّية فإنه حسن في العقل الأخذ منها بقدر الحاجة بل واجب وغير حسن إذا كان لا يملكها الإنتفاع بشيء منها إلا بعد الإذن من مالكها فصار فعل العقل في حال خلاف فعله في حال فدل أن العقل لا يستغني بنفسه ولم يضامه شيء من السمع مع أن العقل محتاج إلى الرياضة والتمييز والسمع والتجارب لا غير موهوم لو أن أكمل الخلق عقلاً وأوفاهم فطنة غيب عن الناس وليداً حتى لم يسمع شيئاً إلى أن بلغ فأدرك أنه يمكنه استخراج علم الفلسفة والهندسة والطبّ والتنجّم وغير ذلك فدل هذا كله أن العقل غير مكتف به ولا بد من معلم ومعرف وهاد ومذكر ولا يجوز أن يقع العلم بهذه الأشياء إلهاماً ضرورياً لأنا ليس نشاهد ذلك في أجناسها وأمثالها وأن لا يكون كلها بالاستخراج والاستنباط من غير مقدمة وأصل سابق فإن قيل إذا كان البارئ مريداً لصلاح خلقه غير بخيل [1] ولا عاجز ولا يمسه تكلف ولا علاج فيما يفعله فهلا جعل خلقه رسلا وألهمهم من
__________
[1] . بحيل
Ms.

(1/110)


العلم ما استغنوا به على الرسل أو حبس طباعهم عن التخطي إلى محظور قيل لو فعل ذلك لم ينزلهم دار البلوى والامتحان ولا عرضهم لشرف الثواب وما هو إلا كقول من يزعم لم خلق الله الخلق وأسقط عنهم التكليف وابتدأهم في الجنة وهذا باب التجويز [22] والتعديل وليس كتابنا هذا بنينا له [1] ولكن لو فعل كان له ما فعل فإذا لم يفعل فنقول أساء أو جهل أو عجز وهذا الظن نقض التوحيد وإبطال الدين فيعاد الكلام فيه وتقرر بأنه عادل حكيم لا يفعل إلا الأصلح بخلقه والأعود عليهم ولو جعلهم كلهم رسلاً لوجب أن يسوى بينهم في الفضل والعقل والجاه والمال والقوة ولو فعل لما عرف فاضل فعله ولا قوى قوته ولما شكر وحمد في إسقاط موجبات الشكر والحمد وإباحة الفكر والذم وهذا قبيح في العقل فدل أنه لم يجز التسوية بين الخلق لا في الحال ولا في المال ولا في الرسالة فإن طعنوا في الرسالة بما يوجد فيها من سفك الدماء وذبح البهائم وإيلام الناس فإن العقل لا يرد شيئاً من ذلك إذا كان فيه ضرب من الصلاح كما
__________
[1] . لهذا بنيناه
Corr.marg.

(1/111)


يكره الإنسان على شرب الأدوية الكريهة وعلى الفصد والحجامة وقطع بعض الجوارح عند انتظار مخوفة وتأديب الأطفال وغير ذلك فيوجب عليه أن لا يردع ظالماً ولا يفتص من جارحة وهذا قبيح وترخيص في الفساد ومن أعظم الدلائل على وجوب الرسل هذه اللغات المختلفة التي تلفظ الناس بها ويتعارفون بها ما يحتاجون الى معرفته ولا بدّ من معرف ومعلم لها أسماء المسميات باختلاف اللغات وكذلك الصناعات والآلات التي يتوصل بها إليها وليس في وسع الناس استخراج لغة ووضع لفظ يتفقون عليه إلا بكلام سابق به يتداعون ويتواضعون ما يريدون وليس في المعقول معرفة ذلك ولا بدّ من معلّم قال الله عزّ وجلّ وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ 2: 31 ثمّ إذا صحّت النبوّة ووجبت الرسالة بقى أن يُعلم الفرق بين النّبي وبين المتنبّي لأنّ الأشخاص متساوية متماثلة ففرّق الله تعالى لما أراد من أقامه حجّته وإظهار دعوته بين الصادق والكاذب منهم بما خصّه به من الآيات الباهرة والعلامات المعجزة الخارجة عن العادة والحسّ وذلك معروف معدود كما

(1/112)


يُحكى عن موسى وعيسى ومحمّد عليهم السلم وغيرهم من الأنبياء صلوات الله عليهم أجمعين
القول في كيفيّة الوحي والرسالة،
أقول أنّ المسلمين ومن قبلهم اختلفوا في هذا الباب اختلافاً كثيراً فزعمت طائفة أنّ الوحي إلهام وتوفيق وزعم آخرون أنّه قوّة الروح القُدسيّ وعند الفلاسفة النبوّةُ علم وعمل والمسلمون يقولون الوحي على وجوه فمنه الإلهام ومنه الرويا ومنه تلقين ومنه تنزيل وهذه مسألة من فصل الصفات أغفلناها في موضعها فحرّرناها في هذا الفصل وهي كيفيّة القول والفعل من الله لأنّ أهل الإسلام في ذلك مختلفون فزعم بعضهم أنّ كلام الله فعل منه فهو به متكلّم وكذلك إرادته ومشيّته وحبّه وبُغضه وقوله كُنْ فَيَكُونُ 2: 117 تكوين منه للشيء والقول زيادة قالوا لأنّ هذه الأشياء أعراض تحلّ في مواضع لها معلومة وليس هو بمحلّ الأعراض وقال عامّتهم أن الفعل تكوين [22] وإيجاد من غير معالجة بجارحةٍ إلاّ مَنْ شَذّ فزعم أنّه يخلق بيدَيْه والأفعال على وجوه كثيرة فمنه الفعل بالقصد والاختيار ومنه الفعال من غير قصد على السَهْو ومنه الفعل بالاتّفاق والبحث

(1/113)


وكلّها حركات ومنه فعل التولّد كما ينفعل الشيء بطبعه وفعل الله تعالى غير مُشبّه بشيء ممّا ذكرنا وزعم قوم أنّ كلامه ليس من أفعاله وفرقوا بين القول والفعل ولقد امتدّ بنا القول إلى هذه وما كان قصدُنا أن نبلغ كلّه ولكن لما رجونا من الخير وأمّلناه من هُدَاتِهِ الناظر في كتابنا واهتدائه به ولمّا نرى من فساد الزمان وأهله وتحرم طالع الإلحاد والنفاق وإعجاب كلّ ذي حرفين بنفسه لانتقاض العلماء ودروس آثارهم وما قدّمت من عمل هو أَوْكَدَ في نفسي أم لا [1] وأوثق عُدّة من جميع هذا الكلام والاجتهاد في شرحه وأسئل الله الذي منّ وأعان أن يعصم من نزعات الشيطان وينفع به الناظرين والمستفيدين وإن يرحم من عذرنا في تقصير إن كان منّا وقام بتقويم أَوَدِهِ وإصلاح غلطة مشاركاً لنا في ثوابه وأجره فلم يتعمّد فيه خطاءً وتحريفاً ولا حملتنا الحميّة والتعصّب على تزيّد أَو إبطال أو تغيير رواية أو حكاية بل سُقناها على وجهها وأدّيناها بأوجز لفظها لعلمنا بعموم الحاجة إليه من الأعاجم والأمّيّين مبتدئ المتعلّمين،
__________
[1] . املا
Ms.

(1/114)