البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب
خلافة عبد الرحمن بن
معاوية
ابن هشام بن عبد الملك
نسبه: عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك بن مروان بن الحكم بن
أبي العاصي بن أمية. كنيته: أبو المطرف. أمه: بربرية من سبى المغرب،
تسمى راحا أو رداحا. وفي عبد شمس بن عبد مناف يلتقي نسبه بنسب رسول
الله - صلعم -. مولده: بموضع يعرف بدير حسينة من دمشق سنة 113؛ مات
أبوه وتركه صغير السن. وتوفي يوم الثلاثاء لست بقين من ربيع الآخر؛
وقيل: لعشر خلون من جمادى الأولى سنة 172؛ ودفن بقصر
(2/47)
قرطبة؛ وقد بلغ تسعا وخمسين سنة؛ وقيل:
ستين سنة. فكانت مدة خلافته ثلاثا وثلاثين سنة وأربعة أشهر ونصفا؛ ودخل
الأندلس وهو ابن خمس وعشرين سنة أو نحوها. بويع له بقرطبة يوم الأضحى
من سنة 138.
وزراؤه أربعة: عبد الله بن عثمان، وعيد الله بن خالد، ويوسف بن بخت،
وحسان بن مالك. حجابه خمسة: تمام بن علقمة، ويوسف بن بخت، وعبد الكريم
بن مهران، وعبد الحميد بن مغيث، ومنصور فتاه. قضاته خمسة: يحيى بن يزيد
النجيبي، ومعاوية بن صالح، وعبد الرحمن بن طريف، وعمر بن شراحيل،
والمصعب بن عمران. وكان له قاض خامس في صوائفه يسمى جدار ابن مسلمة بن
عمرو المذحجي. نقش خاتمه: عبد الرحمن بقضاء الله راضي. صفته: طويل
القد، أصهب، أعور، خفيف العارضين، بوجهه خال، له ضفيرتان. وكان يسمى،
صقر بني أمية. ولده الذكور أحد عشر، والإناث تسع.
وفي سنة 139، خرج الأمير عبد الرحمن طالبا للفهري والصميل. فلما اتصل
بالفهري قصده إليه، لاذ عنه، وزال عن إغرناطة، فاقتفى الأمير عبد
الرحمن أثره، حتى إذا أوفى عليه، عاد إلى إغرناطة متحصنا بها؛ ونزل
الأمير عبد الرحمن عليه وحاصره. فلما تمادى به الحصار، سأل الفهري
الأمان، وأن يعطي ابنته رهنا؛ فأعطاه الأمير الأمان، وقبل منه ذلك،
وكذلك الصميل. وانصرفا في جملته إلى قرطبة، على أن يسكن الفهري منزله
بالمدينة، والصميل داره بالريض. واستوسق الأمر للأمير عبد الرحمن، وأمر
بلعن المسودة وقطع الدعاء لأبي جعفر المنصور. ودخل يوسف الفهري في عسكر
الأمير كأحد رجاله؛ فأنزله على ماله، وأطلق له عياله.
وفي هذه السنة ولد هشام بن عبد الرحمن الملقب بالرضي؛ وذلك لأربع خلون
من شوال.
(2/48)
وفي سنة 140، تودع الأمير عبد الرحمن
بقرطبة؛ فلم تكن له فيها حركة. ودخل رجال من المشرق ومن بني أمية في
هذه السنة؛ فأنزلهم الأمير، وأكرمهم، وأحسن جوائزهم.
وفي سنة 141، هرب الفهري من قرطبة، ناكثا، ناقضا للأيمان بعد توكيدها؛
فاجتمع إليه الناس، وبلغ جمعه عشرين ألفا من البربر وغيرهم. فلما رأى
كثرة ما اجتمع له، تحرك من ماردة، يريد الأمير عبد الرحمن. فلما بلغ
الأمير خبره، برز من القصر، وتقدم إلى المدور. وكان عبد الملك بن عمر
المرواني عاملا بإشبيلية، وابنه بكورة مورور؛ فحشدا من كان قبلهما من
أهل الكورتين، وتوافى الحشدان؛ فبرز به. واتصل بالفهري خروج الأمير إلى
المدور وتوافى الحشود على عبد الملك؛ فتوقع الفهري التشبك بين
العسكرين؛ فصرف راياته إلى عبد الملك؛ فالتقيا، ووقعت بينهما حرب
شديدة؛ فانهزم يوسف، وتفرق أصحابه عنه، وأتبعوا بالقتل. واتصل الفتح
بعبد الرحمن، وهو بالمدور منتظرا لتوافي الحشود؛ فأغناه عاجل الفتح؛
وفر الفهري بنفسه مختفيا.
وفي سنة 142، كان هلاك يوسف الفهري ومقتله بناحية طليطلة؛ وكان قد نهض
إليها، وتردد بناحيتها شهورا؛ فاغتاله بعض أصحابه، وقتله، واحتز رأسه،
وتقدم به إلى الأمير عبد الرحمن؛ فشكر الله على موته، وأمر بنصب رأسه
على جسر قرطبة، وأمر بقتل ابنه المرتهن، ونصب رأسه مع رأس أبيه. وتوفي
الصميل في الحبس؛ وقيل إنه خنق؛ وقيل إن الذي قتل الفهري عبد الله ابن
عمرو الأنصاري، لقيه على أميال من طليطلة، بقرية من قراها. فلما عرفه،
قال لمن معه: (هذا الفهري! وفي قتله الراحة له ومنه!) فتقدم إليه؛
فقتله، واحتز رأسه، وتقدم به إلى الأمير. فلما قرب من قرطبة، وأعلم
الأمير بخبره، أمر أن يتوقف به دون القنطرة، وأمر بقتل ابنه المرتهن،
وأخرج رأسه إلى رأس أبيه؛ ووضعا في قناتين، وتقدم بهما إلى باب القصر.
(2/49)
واختلف في أمر يؤسف الفهري؛ فقال بعضهم إنه
لم ينكث بغيا، وإنما خوفا؛ فخرج هاربا؛ فأخرج الأمير الخيل في طلبه؛
فأدركته بفحص البلوط؛ ثم أفلت؛ وحشد ولده البربر بالشرق كله، وأقبل في
جمع عظيم يريد قرطبة؛ فخرج إليه الأمير؛ فالتقوا بمخاضة الفتح؛ فكان
القتال بينهم حتى كاد الأمير عبد الرحمن أن ينهزم؛ وقيل إنه أنهزم نحو
الميل؛ فثبت ابنه سليمان في آخر الناس؛ ثم تراجع الأمير حتى انهزم
يوسف، ومضى في طلبه إلى قلعة رباح.
وقال بعضهم: إن يوسف، لما هرب إلى طليطلة، قبض الأمير عبد الرحمن على
أبي الأسود ابنه؛ فسجنه. وقام على يوسف موال له؛ فقتلوه، وأتوا به إلى
الأمير عبد الرحمن؛ فقال لهم: (عرفتم من هو؟) قالوا: (نعم! هو يوسف
الفهري!) قال: (أنتم لم تحفظوا مولاكم؛ فكيف تحفظونني وتنتظمون في
طاعتي؟) فأمر بصرب أعناقهم؛ وأمر بأبي الأسود إلى السجن؛ وكان السجن
يومئذ يخرج الناس منه إلى النهر لما يكون من الحاجة مع الموكلين بهم؛
فادعى ولد الفهري العمى، وفشا له ذلك؛ فكان يقول: (من يقود الأعمى؟
يرحمه الله!) وكان يختلف إليه مولى اسمه مفرج يقضي حوائجه ويلقاه على
النهر تحت القنطرة. فلما اطمئن إليه، ولم يستنكر خروجه، وشاع عليه
العمى، قال لمفرج مولاه: (ابتع لي فرسا أنج عليه!) ففعل وأعده له؛ فهرب
عليه، ولحق بطليطلة. فغزاه الأمير عبد الرحمن ولقيه مرارا، فكان آخر
هزيمته إياه بقسطلونه؛ ومضى إلى ركانة، ولم يزل بها حتى مات. فقام
القاسم بن يوسف، أخو أبي الأسود؛ فأعقب على زوجته، وتولى ما كان أبو
الأسود يتولاه؛ فخرج إليه الأمير؛ فأجابه على أن يرد إليه أمواله،
ويستوثق منه بالعهود؛ ففعل الأمير ذلك، وانصرف معه إلى قرطبة.
وثار على الأمير عبد الرحمن عبد الغافر اليماني بإشبيلية، وتغلب على ما
جاور قرطبة؛ فخرج إليه الأمير؛ فخالفه عبد الغافر ونهض يريد قرطبة،
رجاء أن يجدها خالية، والإمام عبد الرحمن في الثغر يسدُّ خلله، ويحسم
علله؛ فقدم
(2/50)
مسرعا حين وافاه الخبر، ولم يلو على ما
تعذر، ومحلة عبد الغافر على وادي قيس قد ملأت السهل والوعر. فداخل
الإمام عبد الرحمن البربر؛ وكانوا العدد الوافر الأكبر؛ فنزع الأكثر
منهم إليه، وصاروا في حزبه ولدبه. ووقعت الهزيمة على عبد الغافر، وأخذ
من معه في الفرار والنفار؛ فلم يرفع الإمام عنهم سيفا، وقتل منهم
ثلاثين ألفا. وكانت هزيمة هي مدّ الدهر مذكورة، والحفرة التي جمعت
رؤوسهم بذلك المكان مشهورة. ومن (كتاب بهجة النفس) قال: لما كان في
النيل، تسرع عبد القادر إلى ناحية لقنت؛ وأسرع الأمير القتل في جملته.
ولم يذكر عددا.
وثار على الأمير عبد الرحمن حبوة من ملامس، وتغلب على إشبيلية وإسنجة
وأكثر الغرب، وحشد جموعا؛ فخرج إليه الأمير، وقاتله أياما، حتى همّ
الأمير بالهزيمة. ثم إن حبوة انهزم ومضى إلى ناحية فريش، وكتب راغبا في
العفو.
وفي سنة 146، ثار العلاءبن مغيث الجذامي بباجة، ودعا إلى طاعة أبي جعفر
المنصور ونشر الأعلام السود؛ فاتبعه الأجناد، وتطلعه العباد، إلى أن
كادت دولة الأمير أن تنصرم، وخلافته أن تنخرم. فخرج إليه من قرطبة،
وصار بقرمونة؛ فتحصن بها مع مواليه وثقات رجاله؛ فنازله العلاء بن مغيث
منازلة شديدة، وحاصره بها أياما عديدة؛ فلما طال الحصار هنالك، وتخلخل
عسكر العلاء لذلك، وعلم عبد الرحمن ما هم عليه من الانزعاج، وأنهم قد
هموا بالإلجام والإسراج، أمر بنار، فأوقدت، ثم أمر بأغمدة سيوف أصحابه،
فأحرقت؛ وقال لهم: (اخرجوا معي لهذه الجموع، خروج من لا يحدث نفسه
بالرجوع!) وكانوا نحو سبعمائة مفحصين إلى أعاديهم. فدارت الحرب بينهم
طويلا، إلى أن صنع الله جميلا؛ وزلزل قوم العلاء وأصحابه، فولوا
منهزمين، وصار أمرهم
(2/51)
آية للعالمين؛ وقتل العلاء فيمن قتل من
أولئك الأقوام، وطيف برأسه في ذلك المقام.
وقيل إن أبا جعفر المنصور كان أرسل إلى العلاء بن مغيث بولاية الأندلس.
فنشر الأعلام السود، وقام بالدعوة العباسية بالأندلس؛ فانحشر إليه
الناس. ولما ظفر به الإمام على ما تقدم، أخذ رأسه، وفرغ وحشي ملحا
وصبرا، وجعل معه لواء أبي جعفر المنصور، وأدخل في سفط؛ وبعثه مع رجال،
وأمرهم أن يضعوا السفط بمكة؛ فوافقوا المنصور بها حاجا في تلك السنة؛
فجعل السفط عند باب سرادقه. فلما نظر إلى ما فيه، قال: (إنا لله! عرضنا
بهذا المسكين للقتل! الحمد لله الذي جعل البحر بيننا وبين هذا
الشيطان!) يعني عبد الرحمن. هذا مساق السالمي في (درر القلائد) .
ومن (بهجة النفس) قال: وكانت ثورة العلاء بموضع يقال له لقنت من عمل
باجة. فأظهر سجل المنصور ولواءه، وجمع إلى نفسه من أجابه، ونهض إلى
باجة؛ فأخذها، وتغلب منها على جميع الغرب، وخرج يريد الأمير عبد
الرحمن؛ فسار حتى انتهى إلى المدور. وكان الأمير يومئذ قد خرج غازيا
إلى شرق الأندلس؛ فرجع إذ بلغه أمر العلاء؛ فلما دنا من قرطبة، أمر من
كان معه من أهل إشبيلية أن يفروا في المدور، إذ كان قد اتهمهم لميل أهل
إشبيلية إلى العلاء؛ ثم نهض، وكتب سرا إلى بدر مولاه يأمره بقتلهم، كان
الظفر له أو عليه. ومضى العلاء؛ فالتقى معه. فكانت بينهما حروب وزحوف.
ثم قتل العلاء بمقربة من قرمونة، وقضت جموعه. وقتل من أصحابه نحو ستة
آلاف. وأمر الأمير بحز رأس العلاء ورؤوس أشراف أصحابه؛ وقرطت فيها صكوك
بأسمائهم، وجعلت في أوعية؛ وندب الأمير بها قوما توجهوا بها إلى
القيروان؛ فطرحوها في الليل في الأسواق. فتسمع الناس أمرها، وأتصل
الأمر بأبي جعفر؛ فانكسرت حدته. وقيل إن الذي هزم العلاء بدر مولى عبد
الرحمن بن معاوية، والله أعلم.
(2/52)
وفي سنة 147، وجه الأمير عبد الرحمن بدرا
مولاه وتمام بن علقمة في جيش كثيف إلى طليطلة، وبها هشام بن عروة ثائر؛
فحاصراه حتى سئم أهل طليطلة الحصار؛ فكاتبوا بدرا وتماما، وسألوهما
الأمان على أن يسلموا لهما ابن عروة وهشام بن حمزة بن عبيد الله بن عمر
بن الخطاب، وحيوة ابن الوليد؛ وكانوا يدا واحدة. فأسلموهم إليهما، وخرج
بهم تمام إلى قرطبة؛ فلقيه عاصم بن مسلم؛ فقبض منه الأسرى، وعهد إليه
عن الأمير أن يكر إلى طليطلة واليا عليها، ويقبل بدر إلى قرطبة. وأقبل
عاصم بالأسرى؛ فلما احتل بقرية حلزة، خرج إليه ابن الطفيل، ومعه حجام
وحباب صوف وسلال؛ فحلق رؤوسهم ولحاهم، وألبسهم جباب الصوف، وأدخلهم في
السلال، وحملهم على الحمر؛ فأتى على تلك الحال إلى خشب قد أعدت لهم،
فصلبوا فيها. وكتب إلى البلدان بفتح طليطلة.
وفي سنة 149، ثار سعيد البحصي المعروف بالمطري بكورة ليلة؛ واجتمعت
اليمانية إليه، ولاذوا بحقوبه. ثم سار إلى إشبيلية، وتغلب عليها قسرا،
ولم يجد أهلها في مدافعته نصرا. فكثر عدده، وتأزر عضده؛ وعاد عسكره
مهولا، قد أخذ وعورا وسهولا. فسار إليه الأمير عبد الرحمن في جيوش
عظيمة المدد، مجهولة العدد، حتى نزل عليه بقلعة زعواق؛ وكان المطري قد
تحصن بها، ولاذ بجانبها؛ فحصره فيها حصرا، وأرهقه من أمره عسرا، حتى
خرج متعرضا للحرب في جماعة من فرسانه الأكابر، ومن اختصه من أولئك
البرابر؛ فلم تنشب الحرب بينهم إلا قليلا، وقتل المطري ومن معه تقتيلا.
وجئ برأسه إلى الأمير عبد الرحمن؛ فأمر للحين برفعه في طرف سنان.
وفيها، قتل الأمير عبد الرحمن أبا الصباح بن يحيى البحصبي. وكان قد
ولاه إشبيلية، ثم عزله عنها؛ فجمع إليه أهل الخلاف وصار عليه؛ فوجه
إليه الأمير مولاه تماما ملاطفا له؛ فقدم معه قرطبة في أربعمائة رجل
على غير عهد؛
(2/53)
فأوصله تمام إليه؛ فعاتبه؛ فأغلظ له أبو
الصباح في الجواب؛ فأمر بقتله؛ ثم أمر بإخراج رأسه والهتف عليه.
وفي سنة 150، هاجت فتنة البربر بشنت برية.
وفيها، غزا بدر إلى الثغر، وتقدم إلى ألبة؛ فحاربها؛ فأذعنت له، وأدت
إليه الجزية. وأمر بامتحان الرجال بتلك الناحية، واختبار بصائرهم؛
فاستقدم منهم من اطلع له على سوء سريرة وشبهة في الثغر.
وفي سنة 152، ثار رجل من البربر، ادعى أنه من ولد الحسن بن علي - رضي
الله عنه -؛ وكان أصله من مكناسة العدوة؛ وكانت أمه تسمى فاطمة؛ فادعى
أنه فاطمي؛ وتجمع له الغوغاء. فخرج إليه الأمير من قرطبة، وخلف بها
ابنه هشاما؛ فتقحم الجبال أمامه بمن كان معه، وانصرف الأمير إلى قرطبة.
فأقبل الفاطمي، وقتل عامل شنت برية؛ وغلظ أمره. فكان الأمير يرسل إلى
قتاله بعض الفيالق؛ فيتعلق بالجبال الشواهق.
وفي سنة 152، خرج الأمير عبد الرحمن لغزو الداعي الفاطمي؛ فهرب وركب
الوعر؛ فانصرف الأمير. فرجع الفاطمي؛ فغراه بدر بالصائفة؛ فوجده بجهة
شبطران؛ فأتبعه رجاء أن يدركه. فدخل المفاوز، وانقطع أثره. ومضى هذا
الفاطمي إلى مدلين؛ وكان عامله أبو زعبل الصدفوري. فتمادت فتنته من سنة
150 إلى سنة 160، إلى أن اغتاله بعض أصحابه؛ فقتله، وعفره هناك وجدله.
وفي سنة 154، تهدن الإمام عبد الرحمن بقرطبة، ولم تكن له بها حركة.
وفي سنة 155، خرج الإمام عبد الرحمن من قرطبة؛ فحل بشنت برية. وقدم
عليه هلال من أبناء المديوني؛ فكتب له عهدا على قومه، وأقره على موضعه؛
(2/54)
وكان رأس البربر في شرق الأندلس. وقلده أمر
الفاطمي المتقدم الذكر؛ فكان في ذلك الراحة منه، وتفرقت بفعله ذلك كلمة
البربر، وانحلت عقدة الفاطمي، وانصرف من شنت برية إلى الجوف.
وفي سنة 156، ثار على الأمير عبد الرحمن عبد الغافر اليحصبي، وخلع
طاعته. وكان الأمير بناحية الشرق؛ فكتب إليه بدر من قرطبة؛ فطوى
المراحل إليه؛ ثم تقدم إلى إشبيلية؛ فوضع السيف فيه وفي أصحابه؛ فقتلوا
قتلا ذريعا. وأفلت عبد الغافر؛ فركب البحر، ونجا إلى المشرق.
وفي سنة 157، خرج الأمير عبد الرحمن إلى ناحية الغرب، واحتل بإشبيلية،
وقتل بها خلقا كثيرا ممن كان بسيل عبد القادر، وقطع آثارهم، ووطد
الطاعة. ثم انصرف معجلا، لأنه إنما قصد امتحان أهل إشبيلية وتمحيصهم.
وقيل: كان ذلك سنة 158.
وفي سنة 159، غزا الإمام عبد الرحمن قورية، وقصد في طريقه ذلك البربر
الذين غدروا بأبي زعبل ومكنوه من الفاطمي، فقتله؛ فدوخ بلد البربر،
وقتل منهم خلقا كثيرا وأذلهم. وأخذ أبا مزكانة المصمودي، وهو عباس ابن
قلعوش.
وفي سنة 160، أخرجت الصائفة إلى الفاطمي؛ وكان في أحواز شنت برية؛
فعورض بالخيل، وقطعت عاديته.
وفي سنة 161، وقيل سنة 162، دخل إلى الأندلس عبد الرحمن بن حبيب الفهري
المعروف بالصقلبي؛ فنزل كورة تدمير؛ فاستقر بها، ولم تبد منه في تلك
السنة عادية؛ وإنما لقب بالصقلبي لأنه كان طويلا، أشقر، أزرق، أمعر.
(2/55)
وفيها، حمل نهر قرطبة حملا عظيما، حتى سد
حنايا القنطرة وهدم بعضها وزلزلها؛ وبقى كذلك يومين.
وفي سنة 163، ثار عبد الرحمن بن حبيب الفهري، المتقدم الذكر في السنة
قبل هذه، في ناحية تدمير؛ فغزاه الأمير عبد الرحمن؛ فهرب ابن حبيب
وتعلق بالوعر؛ فجال العسكر في كورة تدمير، وتقدم إلى كورة بلنسية، بعد
أن أحرق المراكب بساحل البحر. ثم إن مشكارا البربري فتك بابن حبيب
الصقلبي وقتله.
وفيها، ثار ابن شجرة بمورور؛ فخرج إليه بدر يوم الأضحى؛ فألقاه على غرة
فقتله، وكتب إلى الإمام بالفتح. وقيل: بل كان ذلك في سنة 162.
وفي سنة 164، غزا الإمام عبد الرحمن الرماحس بن عبد العزيز؛ وكان على
شرط مروان بن محمد؛ فلحق بالأندلس؛ فولاه الإمام الجزيرة؛ فخلع طاعته؛
فخرج إليه واحتل بالجزيرة؛ فوجد الرماحس في الحمام؛ فلم يشعر إلا وخيل
الإمام تجوس الديار؛ فأعجل الرماحس عن لبس ثيابه، وخرج في ملحفة مصبغة؛
فدخل في قارب، ونجا إلى العدوة. ووجد الأمير عبد الرحمن في سجنه جماعة
من الأمويين؛ فأطلقهم.
وفي سنة 165، ثار على الأمير عبد الرحمن الحسين بن يحيى بن سعد بن
عيادة الأنصاري بسرقسطة؛ فسار إليه بالجماهير؛ والعسكر الشهير؛ فحاصره
بسرقسطة حصارا، وقدم لقتاله أحزابا وأنصارا، إلى أن خرج طائعا إليه،
متراميا عليه؛ فقبل إنابته، ولم يحرم إجابته. فلما عفا عنه، وأغضى عما
كان منه، أبقاه بسرقسطة واليا. وقفل الأمير إلى قرطبة سامي اللواء،
قاهر الأعداء. ثم إن الحسين خفر الذمة، وكفر النعمة، وأعلن بالنفاق
إعلانا، وأرسل في
(2/56)
الشقاق عنانا؛ فسار إليه الإمام أيضا،
ونازله نزالا، وأذاق سرقسطة نكالا، إلى أن فتحها بنقب سورها فتحا
شنيعا، وقتل الحسين وأصحابه قتلا ذريعا. وولى عليهم عليّ بن حمزة، وقفل
إلى قرطبة طاهر العزة.
ومن (كتاب بهجة النفس) قال: وفي سنة 167، غزا الإمام سرقسطة إلى حسين
بن يحيى؛ فحاصره حتى أخذ المدينة عنوة، وقتل حسينا بالدمغة وجماعة معه؛
وأخرج أهل المدينة عنها إلى قرية على ثلاثة أميال ليمين لزمته فيهم؛ ثم
صرفهم إليها بعد أيام، وقفل إلى قرطبة.
وفي سنة 168، أراد المغيرة بن الوليد بن معاوية القيام على الإمام؛
وكان وطنه يومئذ بالرصافة؛ فانكشف له يومئذ أمره من قبل بعض من تعاقد
معه؛ فأحضرهم بين يديه، وأقروا؛ فأمر بقتلهم، واستبقى الناضح لهم.
وتحول الإمام عبد الرحمن يومئذ من الرصافة إلى قصر قرطبة.
وفي سنة 169، ثار على الأمير عبد الرحمن محمد بن يوسف الفهري، الذي كان
في تعامه وهرب؛ وكان قد تحرك من طليطلة وجهة الشرق بالحشود. وبلغ
الإمام خبره؛ فأمر بحشد الكور، والتقى معه في مخاضة الفتح؛ فكان بينهم
زحف وقتال أياما؛ ثم انهزم محمد المذكور؛ فقتل رجاله، وأفنى عدده.
وكانت هذه الوقعة يوم الأربعاء مستهل ربيع الأول من السنة. قال الرازي
قتل فيها أربعة آلاف رجل، سوى من تردى في الوادي، وهلك في المهاوي.
وهرب محمد بن يوسف هذا إلى قورية.
وفي سنة 170، خرج الأمير عبد الرحمن إلى محمد بن يوسف الفهري، حتى بلغ
قورية. ففر أمامه، وأدركت الخيل عياله وأصحابا له؛ فقتل من أدرك
(2/57)
وأحرقت دوره. وانقطع محمد بن يوسف وحده،
وانحاش إلى غياض. وأوقع الأمير ببربر نفزة؛ فأذلهم، وأذهب عاديتهم. ثم
مات محمد بن يوسف بقرية ركانة من عمل طليطلة.
وفي سنة 171، قام قاسم بن عبد الرحمن الفهري، عم محمد بن يوسف أخو يوسف
الفهري، وخلع الطاعة؛ فلما تحرك أمره، وجه إليه الأمير عبد الرحمن
الجيوش؛ فأذعن له بالطاعة.
وفي سنة 170 المتقدمة، أمر الأمير عبد الرحمن بتأسيس المسجد الجامع
بحضرة قرطبة؛ وكانت بموضعه كنيسة؛ فأنفق فيه مائة ألف بالوازنة.
وفي سنة 172، مات الإمام عبد الرحمن بن معاوية - رحمه الله! - وذلك يوم
الثلاثاء لست بقين من ربيع الآخر من السنة المذكورة.
ذكر بعض أخباره على الجملة
كان الإمام عبد الرحمن فصيحا، بليغا، حسن التوقيع، جيد الفصول، مطبوع
الشعر. مما أملاه على كاتبه إلى سليمان بن الأعرابي: (أما بعد، فدعني
من معاريض المعاذير، والتعسف عن جادة الطريق! لتمدن يدا إلى الطاعة،
والاعتصام بحبل الجماعة، أو لألقين بنابها على رضف المعصية نكالا بما
قدمت يداك! وما الله بظلام للعبيد!) .
وكتب عنه أمية بن زيد كتابا إلى بعض عماله، يستقصره فيما فرط من عمله؛
فأكثر وأطال الكتاب. فلما لحظه عبد الرحمن بن معاوية، أمر بقطعه، وكتب
بخط يده: (أما بعد، فإن يكن التقصير لك مقدما، فعد الاكتفاء أن يكون لك
مؤخرا. وقد علمت بما تقدمت؛ فاعتمد على أيهما أحببت!)
(2/58)
وثار عليه ثائر؛ فغزاه وظفر به. فبينا هو
في الطريق، إذ نظر إلى الثائر، وهو على بغل في كبوله، وتحت الأمير عبد
الرحمن فرس له؛ فلما لحقه، قنع رأسه بالقناة، وقال: (يا بغل! ماذا تحمل
من الشقاق والنفاق!) فقال الثائر: (يا فرس! ماذا تحمل من العفو
والإشفاق!) فقال: (والله! لا ذقت موتا على يدي!) فأطلقه.
ومن شعره البديع الرائق، ما كتب به إلى بعض من طرأ عليه من قريش؛ وكان
قد استقل جرايته، واستطال بقرابته، وسأله الزيادة له والتوسعة؛ فكتب
إليه بهذه الأبيات (بسيط) :
سِيَّانِ مَنْ قَام ذَا امْتعاضِ ... بِمُنْتَضَى الشَّفْرَتَيْنِ
نَصْلاَ
فَجَابَ قَفْراً وشَقَّ بَحْراً ... مُسَامِياً لُجَّةً وَمَحْلاً
فَبَزَّ مُلْكاً وشَادَ عِزًّا ... ونَاثِراً للخِطَاب فَصْلاً
وَجَنَّدَ الجُنْدَ حِينَ أوْدَى ... ومَصْرَ المِصْرَ حينَ أجْلاَ
ثُمَّ دَعَا أَهْلَهُ جميعاً ... حَيْثُ أنْتَؤوا أنْ هَلُمَّ أهْلاَ
فَجَاء هذا طَريدَ جُوعٍ ... شَرِيدَ سَيْفٍ أبيدَ قَتْلاً
فَنَالَ أمْناً وَنَالَ شَبْعاً ... ونَالَ مالاً وحَازَ أهْلاَ
وذكر أن أيا جعفر المنصور قال يوما لبعض جلسائه: (أخبروني: من صقر قريش
من الملوك؟) قالوا: (ذاك أمير المؤمنين الذي راض الملوك، وسكن الزلازل،
وأباد الأعداء، وحسم الأدواء!) قال: (ما قلتم شيئا!) قالوا: (فمعاوية؟)
قال: (لا!) قالوا: (فعبد الملك بن مروان؟) قال: (ما قلتم شيئا!) قالوا:
(يا أمير المؤمنين! فمن هو؟) قال: (صقر قريش عبد الرحمن بن معاوية،
الذي عبر البحر، وقطع القفر، ودخل بلدا أعجميا، منفردا بنفسه؛ فمصر
الأمصار، وجند الأجناد، ودون الدواوين، وأقام ملكا عظيما
(2/59)
بعد انقطاعه، بحسن تدبيره، وشدة سكيمته.
إنّ معاوية نهض بمركب حمله عليه عمر وعثمان، وذللا له صعبه؛ وعبد الملك
ببيعه أبرم عقدها؛ وأمير المؤمنين يطلب عنزته، واجتماع شيعته. وعبد
الرحمن منفرد بنفسه، مؤيد برأيه، مستصحب لعزمه، وطد الخلافة بالأندلس،
وافتتح الثغور، وقتل المارقين، وأذل الجبابرة الثائرين!) فقال الجميع:
(صدقت، والله، يا أمير المؤمنين!) وكان الإمام عبد الرحمن من أهل
العلم، وعلى سيرة جميلة من العدل. ومن قوله رحمه الله!) يتذكر وكنه
(خفيف) :
أيُّها الراكبُ المُيَمّمِ أَرْضِي ... اقْرأ بَعْضَ السلامِ عَنّي
لبَعْضِي
إنّ جِسْمِي كَمَا تَرَاهُ بأرْضِ ... وَفُؤادِي ومَالِكيِهِ بأرْضِ
قُدْرَ البَيْنُ بَيْنَنَا فافْتَرَقْنا ... وطَوَى البَيْنُ عن جُفوني
غَمْضِ
قدْ قَضَى اللهُ بالبِعادِ عَلَينا ... فَعَسَى باقْتِرابِنا يَوْفَ
يَقْضِي
وله من الشعر كثير مشهور. وذكر الرازي أن الإمام عبد الرحمن، أول نزوله
بمنية الرصافة واتخاذه لها، نظر فيها إلى نخلة؛ فهاجت شجنه، وتذكر
وطنه؛ فقال على البديهة (طويل) :
تَبَدَّت لَنَا وَسْطَ الرُّصافَةِ نَخْلةٌ ... تَنَاءت بأرضِ الغَرْبِ
عن بَلَدِ النَّخْل
فقُلتُ شَيِهي في التَغَرُّبِ والنَّوَى ... وطُولِ التَّنَاءي عن
بُنّيَّ وعن أهلي
نشَأتِ بأرضٍ أنتِ فيها غَريَبةٌ ... فمِثْلُكِ في الإقصاء والمُنتاي
مثلي
سَقَاكِ غَوَادِي المُزْنِ مِن صوبها الذي ... يسحُّ ويستمرِي
السِماكين بالوّبْلِ
وكان - رحمه الله! - قد عقد العهد لابنيه هشام وسليمان. فولى بعده
هشام، على ما أذكره.
(2/60)
|