البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب

خلافة هشام الرضي بن عبد الرحمن الداخل
كنيته: أبو الوليد. مولده: سنة 139. أمه تسمى جمال. نقش خاتمه: (بالله يثق عبده هشام وبه يعتصم) . صاحب شرطته: عبد الغافر بن أبي عبدة. وزراؤه: ثمانية. كتابه: اثنان: فطيس بن عيسى، وخطاب بن زيد. قاضيه: المصعب بن عمران. صفته: أبيض مُشرب بحمرة، بعينيه حول. حاجبه: عبد الرحمن بن مغيث. بنوه: الذكور ستة، والإناث خمس.
بويع يوم الأحد مستهل جمادى الأولى من السنة. وكان عند موت أبيه بمدينة ماردة؛ فوافاه الخبر؛ فطرق، ووصل قرطبة بعد ستة أيام. فبايعه الخاصة والعامة. وكان أخوه بطليطلة؛ وكان أكبر سنا منه فلما اتصل به خبر أبيه، حشد الحشود، وجند الجنود، يريد قرطبة، مخالفا لأخيه. فلما حصل بجيان، خرج إليه هشام في أجناده، والتقى معه بجهة بلج؛ فوقعت بينهم حرب شديدة؛ فانهزم سليمان، وأسلم عسكره، وفرَّ على وجهه. وقفل هشام إلى قرطبة ظافرا في أجناده.
وتوفي هشام ليلة الخميس لثلاث خلون من صفر سنة 180؛ فكان عمره أربعين سنة وأربعة أشهر وأربعة أيام؛ فكانت مدة دولته وخلافته سبع سنين وتسعة أشهر وثمانية أيام.
وقيل إن عبد الرحمن بن معاوية - رحمه الله! - لما حضرته الوفاة، وابنه هشام بماردة، وابنه الآخر سليمان بطليطلة، وكل ابنه عبد الله المعروف بالبلنسي، وقال له: (من سبق إليك من أخوتك، فأرم إليه بالخاتم والأمر! فإن سبق إليك هشام، فله فضل دينه وعفافه واجتماع الكلمة عليه؛ وإن سبق إليك سليمان، فله فضل سنه ونجدته وحب الشاميين إليه!) فقدم هشام من ماردة قبل سليمان؛ فنزل بالرصافة، وخاف من عبد الله أخيه، إذ صار

(2/61)


متمكنا من قرطبة والقصر والأموال، أن يدافعه. فخرج إليه أخوه عبد الله، وسلَّم عليه بالخلافة، ودفع إليه الخاتم، كما أوصاه أبوه، وأدخله القصر.
قال الرازي: ولما صار الأمر إلى هشام، واتصل ذلك بسليمان أخيه، أخذ بيعة أهل طليطلة وما جاورها لنفسه، وغلب عليها. وشغله أمر أخيه هشام. فثار سعيد بن الحسين الأنصاري بساغنت من إقليم طرطوشة، وأقبل إلى سرقسطة؛ فأخرج منها وإليها، وضرب بين الناس، ودعا إلى نفسه وإلى الفتنة؛ فأرسلها مضرية ويمانية. وحشد موسى بن فرتون إلى سرقسطة؛ فأخذها؛ وكان على دعوة المضرية؛ فالتقى مع اليمنيين. وكانت بينهم حرب؛ فقتل منهم جماعة، ودخل سرقسطة. ثم قدم مطروح بن سليمان بن الأعرابي على دعوة أبيه من برسلونة؛ فتغلب على وشقة وسرقسطة والثغر كله.
وفي سنة 173، طمحت نفس عبد الله البلنسي أخي هشام إلى الإمارة؛ وقد كانت في يده أولا، ولم يرض منه إلا بمشاركته، وذلك بعد سبعة أشهر من وفاة والدهما. وكان هشام يبرُّه، ويترضاه، ويفضله على الكثير من اخوته؛ فلم يقنعه ذلك، وخرج يريد أخاه سليمان بطليطلة. فلما بلغ الأمر إلى هشام، أشفق من ذلك، وأخرج إليه من يرضيه ويرده؛ فلم يدركه. ومضى حتى قدم طليطلة.
وفي هذه السنة، خرج هشام إلى أخيه سليمان بطليطلة. فلما نزل عليه، خرج سليمان مستخفيا، وخلف أخاه عبد الله وابنه داخل المدينة، ونهض يريد انتهاز الفرصة؛ فطوى المراحل، حتى احتل بشقندة. فخرج أهل قرطبة مدافعين له. وبلغ هشاما خبره؛ فلم يكترث لذلك. ووجه ابنه عبد الملك يقفو أثره؛ فلما قرب منه، ولى سليمان منهزما، وقطع إلى غير وجهة حتى خرج متعسفا إلى ناحية ماردة؛ وكان عاملها حدير المعروف بالمذبوح؛ فخرج إليه؛ فهزمه. وتمادى الأمير هشام في حصار طليطلة شهرين وأياما؛ ثم قفل عنها.

(2/62)


وفي سنة 174، انصرف عبد الله البلنسي إلى أخيه هشام بلا عهد ولا أمان؛ فأنزله الإمام هشام عند ابنه الحكم.
وفيها، أغزى هشام ابنه معاوية إلى تدمير، وقائداه شهيد بن عيسى وتمام ابن علقمة؛ فدوخوا تدمير (وهي مرسية) ، وبلغوا البحر. وكان سليمان (يعني أخا هشام) قد حصل في بعض ثغور تدمير؛ فطلب سليمان الأمان؛ فاشترط عليه الأمير هشام الخروج عن الأندلس، ويعطيه ستين ألف دينار؛ فركب سليمان البحر بأهله وولده، واحتل ببلاد البربر. فكفاه الله أمر إخوته.
وفي سنة 175، أغزى هشام بن عبد الرحمن عبيد الله إلى سرقسطة، وبها يومئذ مطروح المذكور؛ فحاصرها عبيد الله؛ ثم احتل بمدينة طرسونة، وألح عليها بالمحاصرة، حتى ضاق ذرع أهل سرقسطة، وضجوا من تمادي الحصار؛ فخرج مطروح في بعض الأيام متصيدا، ومعه عمروس بن يوسف وابن صلتان؛ فلما أرسل بازيه على طائر ونزل على الصيد، تعاوراه بسيوفهما حتى قتلاه، واحتزا رأسه، وتقدما به إلى ابن عثمان، وهو بطرسونة؛ فتحرك إلى سرقسطة؛ فلم يمتنع عليه أحد من أهلها؛ ودخل المدينة؛ فنزلها، وبعث برأس مطروح إلى الأمير هشام.
وفي سنة 176، أغزى الإمام هشام أبا عثمان عبيد الله بن عثمان إلى ألبة والقلاع؛ فلقي بها أعداء الله بجموعهم متوافين؛ فهزمهم الله على يديه، وقتلوا في السهل والوعر؛ وانتهى ما حيز من رؤوسهم إلى تسعة آلاف رأس ونيف.
وفي هذه السنة، غزا يوسف بن بخت إلى جليقية؛ فالتقى ببرمود الكبير، وواضعه الحرب؛ فانهزم عدو الله، وانتهب المسلمون عسكره، وقتل فيهم مقتلة عظيمة، وحز من رؤوسهم عشرة آلاف، سوى من لم يتمكن منه ممن

(2/63)


قتل في الوعر. وأتى هذا الفتح قرطبة بعد فتح أبي عثمان. ذكر ذلك الرازي وغيره.
وفي سنة 177، أغزى الإمام هشام عبد الملك بن عبد الواحد بن مغيث بالصائفة إلى أرض الروم، وهي غزوة شهيرة الخبر، جليلة الخطر، انتهى فيها إلى إفرنجة؛ فحاصرها، وثلم بالمجانيق أسوارها، وأشرف على بلاد المجوس؛ وجال في بلاد العدو، وبقى شهورا يحرق القرى ويخرب الحصون. وأوقع بمدينة أربونة؛ وكان فتحا عظيما، بلغ فيه خمس السبي إلى خمسة وأربعين ألفا من الذهب العين.
وفي سنة 178، هاجت الفتنة بتاكرنا، وخالف بربرها، وغاروا على الناس، وقتلوا وسبوا. فبعث الإمام هشام إليهم الأجناد بعد الإعذار إليهم. فقتل أكثرهم، وفرّ سائرهم إلى طلبيرة وترجيلة. وأقامت تاكرنا، وهي إقليم رندة، وبلادها خالية قفرا سبع سنين.
وفي سنة 179، أغزى الإمام هشام بن عبد الرحمن عبد الكريم بن مغيث بالصائفة، حتى انتهى إلى مدينة أسترقة داخل جليقية. فبلغه أن إذفونش قد حشد بلاده، واستمد البشكنش وأهل تلك النواحي التي عليه من المجوس وغيرهم، وأنه عسكرهم ما بين حيز جليقية والصخرة، وأنه أذن لسكان السهل بالتفرق في شواهق جبال السواحل. فقدم عبد الكريم فرج بن كنانة في أربعة آلاف فارس؛ ثم رحل في إثره؛ فألقى أعداء الله؛ فواضعهم الحرب حتى هزمهم الله؛ فقتل حماتهم، وأسر جماعة منهم؛ ثم أمر بعد انحلال الحرب بقتلهم، وبث الخيل في القرى؛ فانتسفت جميع ما ألفته من زروعهم، وخربت ما مرت عليه من عمارتهم. وتقدم بعد ذلك إلى واد يقال له كوثية؛ فلقى به غندماره

(2/64)


وهو في ثلاثة آلاف فارس فقاتله حتى انهزم عسكره، وأخذ غندماره أسيرا، وقتل من أصحابه عدد كثير. وأصاب العسكر جميع ما في تلك الناحية. وتقدم مستنجزا لإذفونش؛ فلما بلغه قصده إليه، تنحى عن الجبل الذي كان فيه منحازا عنه إلى حصن له، كان قد بناه وأتقنه على وادي نلون؛ فتقرب منه عبد الكريم مقتفيا لأثره، ولا يمر بمنزل فيما بينه وبينه إلا حرقه، ولا بمال إلا أصابه، حتى أطل على الحصن. فانتقل منه إلى حصن ملكه. واحتل عبد الكريم بالحصن الذي انتقل منه؛ فألقى فيه الأطعمة وضروب الذخر، وبعث في اليوم الثاني من حلوله به فرج بن كنانة، في عشرة آلاف فارس، يقفو أثره؛ فلما قرب منه، انهزم عنه وأسلم جميع عدته وذخره؛ فغنم المسلمون جميع ذلك.
وفي سنة 180، توفي الإمام هشام بن عبد الرحمن - رحمة الله عليه! - ودفن بقصر قرطبة؛ وصلى عليه ابنه الحكم؛ وذلك ليلة الخميس، كما تقدم ذكره. وبايع الناس ابنه الحكم؛ وكان ابنه عبد الملك أسن منه.

ذكر بعض أخباره على الجملة
كان - رحمه الله! بسط البنان، فصيح اللسان، وسبع الجناب، حاكما بالسنة والكتاب؛ قبض الزكوات من طرقها، ووضعها في حقها؛ لم يأخذه في الله لوم ولا تعلق به ظلم. ارتفع أخوه عن مبايعته، وامتنع عن طاعته، واستبد بطليطلة استبدادا، واستنفر للخلاف والنفاق أجنادا؛ فما زال يشتغل بالفتنة بالا، ويذيق الناس وبالا؛ قد عظمت عليه به المحنة، وعدمت منه الهدنة، حتى مات الأمير هشام، وحكمت بخلافة ابنه الحكم الأحكام؛ فحاربه في تلك القطار، إلى أن اختطفته الأسنة والشفار؛ فأمن بعد ذلك الجانب، ولم يكن في ذلك التأريخ هنالك ما جنب.

(2/65)


وكان هشام يبعث إلى الكور قوما عدولا يسألون الناس عن سير العمال، ثم ينصرفون إليه بما عندهم؛ فيقع نظره بهدم ما تكشفه المحنة له منهم. واعترض له يوما متظلم من أحد عماله؛ فبدر إلى الشاكي من رجال العامل من ترخاه شنقة منه على العامل. فبعث إلى الشاكي وقال له: (احلف على كل ما ظلمك فيه؛ فان كان ضربك، فاضربه؛ أو هتك لك سترا، فاهتك ستره؛ أو أخذ لك مالا، فخذ من ماله مثله، إلا أن يكون أصاب منك حدا من حدود الله!) فجعل الرجل لا يحلف على شيء إلا أقيد منه. فكان زجره هكذا العماله، أبلغ فيهم من النكال والأدب. وكان كريما، عادلا، فاضلا، متواضعا، عاقلا، لم تعرف منه هفوة في حداثته، ولا زلة في أيام صباه. (ومن كرمه أنه كان يصر أموالا في صرور، ويخرج بها بين المغرب والعشاء يتفقد المسجد؛ فإذا وجد واحدا يصلي في مسجد أو لا يصلي، وضع بين يديه صرة، حتى كثرت عمارة المساجد وكان - رحمه الله! - قد نظر في بنيان قنطرة قرطبة، وأنفق في إصلاحها أموالا عظيمة. وتولى بناءها بنفسه، وتعطى الأجرة بين يديه. قال ابن وضاح: لما ينى هشام القنطرة، تكلم بعض الناس فيه، وقالوا: (إنما بناها لتصيده ونزهته!) فحلف حين بلغه ذلك ألا يجوز عليها إلا لغزو أو مصلحة.
قال القاضي أبو معاوية: أدركت صدرا من الناس يحكون أن أيام هشام هذا كانت من الدعة والعافية والهدوء بحيث لم يعلم لها مثل. وكان يحضر الجنائز، ويزاحم فيها، كأنه أحد من الناس، تواضعا. وكان لبعض رجال هشام خصومة في دار عند القاضي مصعب بن عمران؛ فسجل عليه القاضي فيها وأخرجه منها؛ فنهض الرجل إلى هشام، وقال له: (إن القاضي سجل عليَّ في داري التي كنت أسكنها، وأخرجني عنها!) فقال له هشام: (وماذا تريد مني؟ والله لو سجل عليّ القاضي في مقعدي هذا، لخرجت عنه!) انقيادا منه للحق - رحمة الله عليه!.

(2/66)


قصة الكناني مع هشام بن عبد الرحمن
كان قبل خلافته يقعد في علبة مطلة على النهر، ينظر منها إلى الربض، وتقع عينه على من يخطر. فنظر يوما في الهاجرة إلى رجل من بني كنانة؛ وكان من صنائعه، مقبلا من باديته بجيان؛ وكان أخوه سليمان واليا عليها؛ فدعا فتى له وقال له: (أرى الكناني صنيعنا مقبلا في هذه الظهيرة، وما أحسب ذلك إلا لخطب أقلقه من أبي أيوب أخي. فإذا وصلك، فأدخله على كما هو.) ففعل الفتى ما أمره. وكانت مع هشام جارية له. فلما دنا الكناني، رفع سترا كان أمامه؛ فدخلت الجارية خلفه؛ ثم قال له، بعد أن سلم عليه: (يا كناني، لا أحسبك إلا قد دهمك أمر!) فقال له الكناني: (قتل رجل من بني كنانة رجلا خطاء؛ فحملت الدية على العاقلة؛ فأخذت بنو كنانة عامة، وحيف عليّ من بينهم خاصة، لما عرف أبو أيوب مكاني منك. فعذت بك من ظلامتي!) فقال له: (يا كناني! ليفرج روعك وليسكن جأشك لا جرم قد تحمل هشام عنك وعن قومك جميع الدية!) ثم مد يده إلى خلف الستر؛ فأخرج عقدا كان على الجارية، ثمنه ثلاثة آلاف دينار؛ فقال له: (خذ هذا العقد؛ فأد من ثمنه عنك وعن قومك، وتوسع في الباقي!) فقال الكناني: (يا سيدي! إنه لم آتك مستجديا ولا ضاق لي مال عن أداء ما حملته؛ ولكني أتيتك مستجيرا بك لما أصبت بالعدوان والظلم؛ فأحببت أن تظهر على من عز نصرك!) قال له: (فما وجه نصرك؟) قال له: (أن يكتب الأمير - أصلحه الله! - إلى أبي أيوب في الإمساك عن أخذي بما لم يجب عليّ، وأن يحملني محمل عامة أهلي!) فقال له هشام: (خذ العقد لأهلك ولنفسك، إلى أن ييسر الله فيما ذهبت إليه من أمرك!) ثم أمر هشام بإسراج دابته من فوره، وركب إلى أبيه الأمير عبد الرحمن. فلما مثل بين يديه، قال له: (رجل من بني كنانة، هو لي صنيعة،

(2/67)


عدا عليه أبو أيوب بجيان في دبة حملت على العاقلة!) قال الأمير: (فما تحب في أمره؟) قال: (الكتب إليه بالكف عنه، وأن لا يؤخذ بغير ما لزمه!) فقال الأمير: (أو خير من ذلك! يؤدي الدية عنه وعن قومه من بيت المال، إذ هو منك بهذه المنزلة، وإذ أنت له بهذه العناية!) فأكثر هشام الشكر لوالده؛ ثم أمر الإمام بأداء الدية من بيت المال، وبالكتب إلى أبي أيوب بترك التعرض للكناني. ولما حان توديع الكناني لهشام، قال له: (يا سيدي، إني قد بلغت فوق الأمنية، وجاوزت أقصى غاية العز والنصرة! وهذا العقد النفيس قد أغنى الله عنه!) فقال له هشام (يا كناني، إنه لا سبيل إلى رد شئ قد خرج عنا. فخذه مباركا لك فيه!) وهشام هذا هو الذي أكمل سقائف المسجد الجامع بقرطبة، ورفع منارته القديمة، وبنى الميضأة العجيبة، وعقد من الجسر ما كان تثلم بالسيل - رحمه الله!