البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب

خلافة أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد
الناصر لدين الله
نسبه: هو عبد الرحمن بن محمد، الذي قتله أخوه مطرف، ابن الأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن بن الحكم الربضي بن هشام الرضي بن عبد الرحمن الداخل. كنيته. أبو المطرف. لقبه: الناصر لدين الله. أمه: أم ولد تسمى مزنة. عمره: ثلاث وسبعون سنة وسبعة أشهر. ولي في اليوم الذي توفي فيه جده الأمير عبد الله وبويع فيه، وذلك يوم الخميس مستهل ربيع الأول سنة 300. وتوفي يوم الأربعاء لليلتين خلتا من شهر رمضان المعظم سنة 350؛ فكانت خلافته خمسين سنة وستة أشهر وثلاثة أيام. صفته: أبيض، ربعة، أشهل، حسن الجسم، جميل، بهي، يخضب بالسواد.
قضاته: أحمد بن محمد بن زياد؛ ثم عزله وولي أسلم بن عبد العزيز بن هاشم؛ ثم أحمد بن محمد بن زياد ثانية؛ ثم أحمد بن بقي؛ ثم منذر بن سعيد البلوطي.
نقش خاتمه: (عبد الرحمن بقضاء الله راض) . وكان أبوه وليَّ عهد أبيه عبد الله وأكبر بنيه؛ فقتله أخوه مُطرف، وقتله أبوه به. وقيل في ذلك كلام كثير.

(2/156)


وكان مولد الناصر قبل قتل أبيه محمد بأحد وعشرين يوما، وذلك يوم الخميس لثمان بقين من رمضان سنة 277. وكان جده الأمير عبد الله يحظيه دون بنيه، ويومئ إليه، ويرشحه لأمره، وربما أقعده في بعض الأيام والأعياد مقعد نفسه لتسليم الجند عليه. فتعلقت آمال أهل الدولة به، ولم يشكوا في مصير الأمر إليه. فلما مات جده، أجلسوه مكانه في الخلافة دون ولده لصلبه، لما أراد الله من ضخامة الملك ونصر الإسلام وإبادة الشرك؛ اتفق له في ذلك ما لم يتفق لملك قبله ولا بعده. وكان يسكن القصر مع جده دونهم؛ فتهيأ إجلاسه دونهم مكانه بغير منازعة. وقيل إن جده رمى بخاتمه إليه إبانة منه لاستخلافه.
فكان أول من بايعه أعمامه أولاد الإمام عبد الله، وهم: أبان، والعاصي، وعبد الرحمن، ومحمد، وأحمد. وتلاهم اخوة جده، وهم: العاضي، وسليمان، وسعيد، وأحمد. وكان أحمد متكلمهم. فلما بايعه، أقنى عليه بكل جميل.
والناصر هذا هو أول من تسمى منهم بأمير المؤمنين، وتلقب بأحد الألقاب السلطانية، وهو الناصر ثم تسمى منهم من كان بعده من خلفائهم بإمرة المؤمنين وآثر اللقب السلطاني، وذلك حين هاجت الخلافة العباسية، وضعفت، وظهرت الدولة التركية والديلمية؛ فصارت إمرة المؤمنين لائقة بمنصبه، وكلمة باقية في عقبه. فاستهل الخطيب بجامع قرطبة أحمد بن بقيّ بن مخلد، بذكر هذا الاسم المخلد، يوم الجمعة مستهل ذي الحجة من سنة 316. وفي يوم ولايته يقول أحمد بن عبد ربه من قصيدة (بسيط) :
بَدَا الهِلالُ جَديِدَا ... والمُلكُ غَضٌّ جَدِيدُ
يا نِعمَةَ اللهِ زِيدِي ... فَمَا علَيكِ مَزِيدُ
وولي، والأندلس جمرة تحتدم، ونار تضطرم شقاقا ونفاقا؛ فأخمد نيرانها، وسكن زلازلها، وغزا غزوات كثيرة. وكان يشبه بعبد الرحمن الداخل؛

(2/157)


ومن وقت دخوله الأندلس سنة 138 إلى ولاية عبد الرحمن الناصر، مات من بني أمية سبعة خلفاء وعبد الرحمن ثامنهم؛ ومات في المدَّة المذكورة من بني العباس اثنان وعشرون ملكا.
وفي سنة 300، استخلف الإمام الناصر لبدين الله أمير المؤمنين عبد الرحمن ابن محمد - رحمه الله - يوم الخميس مستهل ربيع الأول سنة 300، وهو ابن ثلاث وعشرون سنة وخمسة أشهر وثلاثة وعشرين يوما. وكنيته: أبو المُطرف. وأمه: أم ولد تسمى مزنة. وجلس للبيعة في محراب المجلس الكامل بقصر قرطبة، وتولي أخذها له على الخاصة والعامة بدر بن أحمد مولاه، وموسى بن محمد بن حدير صاحب المدينة. وأحضر أعمامه، وأعمام أبيه، وطبقات قريش، وصنوف الموالي، وعامة الناس؛ فبايعوا مبايعة رضى واغتباط، بوجوه متهللة، وصدور منشرحة، وألبسة داعية شاكرة لله - عز وجل - على ما قلده من أمرهم، وأصاره إليه من رعايتهم، والذّبِّ عن حرماتهم؛ قد استبشر جميعهم بيمن نقيبته واعتلاء همته، ورجوا ما قد حققه الله لهم من بركة دولته، وصلاح الأحوال على يديه، وتجرده لاستئصال علق الفتنة، والتمهيد الطاعة. وكان الخلاف قد عم أقطار الأندلس، وطبق القاصي والداني منها، واستولي أهل النفاق على كورها ومعاقلها بفترة طاولتهم، وهمل تراخت أيامه بهم؛ فحسم الله - عز وجلَّ - منه على يديه ما سيأتي الخبر عنه، وتتصل الحاية له.
وعهد - رحمه الله - بالكتاب ببيعته إلى الكور والأطراف. وولي في يوم مبايعته بدرا مولاه الحجابة مع الوزارة وخطة الخيل، إلى ما كان إليه من خطة البرد. وولي موسى بن محمد الوزارة، إلى ما كان إليه من خطة المدينة. وكان على الكتابة عبد الله بن محمد الزجالي؛ فأقره عليها، وأقر أحمد بن محمد ابن أبي عبدة على القيادة؛ وأقرَّ قاسم بن وليد الكلبي على الشرطة العليا؛ وكان مع ذلك خازنا؛ فصرف الخزانة عنه وولاها عبد الملك بن جهور. وولي الخزانة أيضا محمد بن عبيدة بن مبشر، ومحمد بن عبد الله بن أبي عبدة، وعزل

(2/158)


عنها عيسى بن شهيد، وولي مكانه سعيد بن سعيد بن حدير. وولي عمر بن محمد ابن غانم، وعبد الرحمن بن عبد الله الزجالي، ومحمد بن سليمان بن وانسوس خطة العرض. وولي محمد بن عبد الله الخروبي خزانة السلاح مع العقل، وحسين بن أحمد الكاتب خزانة السلاح أيضا، ويحيى بن إسحاق ومسلمة بن عبد القاهر المعرف بابن الشرح. ثم ولي - رضي الله عنه - عيسى بن أحمد بن أبي عبدة الشرطة العيا، وصرف عنها قاسم بن وليد الكلبي، وولي فطيس بن أصبغ خطة البيازرة، وصرفها عن الحاجب بدر بن أحمد، إلى أعمال وخطط ولاها من استحق عنده من مومليه ووجوه مواليه.
وأخرج - رحمه الله - عباس بن عبد العزيز القرشي في قطيع من الجند إلى برابر كركي وجبل البرانس؛ وأخرج القائد أحمد بن أبي عبدة في من ضمَّ إليه من الجند إلى كورة قبرة لمعاجلة من كان في هاتين الجهتين من أهل الشرّ والفتنة. فالتقى عباس بن عبد العزيز بالفتح بن موسى بن ذي النون بقلعة رباح؛ فهزمه، وقتل كثيرا ممن كان انضوى إليه. وورد كتاب عبيد الله بن فهر عامل قلعة رباح يذكر ظفره بمحمد بن أرذبلش بناحية عمله؛ وكان من العصاة المفسدين؛ فقتله، وبعث برأسه؛ وكان أول رأس رفع لمارق في دولة أمير المؤمنين - رحمه الله -، وذلك يوم الأحد لعشر خلون من ربيع الآخر. وبدت تباشير الصنع، ودلائل الإقبال على أوائل نظره - رحمه الله
ولثمان بقين من ربيع الآخر، ولي أمير المؤمنين - رضي الله عنه - أحمد بن محمد ابن حدير الوزارة والقيادة؛ وكان قبل ذلك يلي الشرطة الصغرى. وولي هذه الشرطة محمد بن محمد بن أبي زيد. وأجرى الرزق على عبد الرحمن وعبد الله ابني بدر الحاجب، وذلك لكل واحد منهما ثلاثون دينارا وازنة. وولي إسماعيل بن بدر كتابته خاصة، أرتبه لها. وولي - رحمه الله - جهور بن عبد الملك الوزارة وولاَّها أيضا عبد الله بن مضر. وولي عبد الرحمن بن بدر الخيل، وعبد الله بن محمد بن عبد الخالق بن سوادة قضاء كورة إلبيرة. وهو

(2/159)


أول قاض خرج إلى كورة في أيامه - رحمه الله - ولأربع بقين من ربيع الآخر، عزب أحمد بن محمد بن أبي عبدة عن الوزارة والقيادة، وابنه عيسى بن أحمد عن الشرطة العليا، وصرف إليها قاسم بن وليد الكلبي؛ وعزل محمد بن وليد ابن غانم عن الوزارة، وعمر بن محمد بن وليد عن العرض.
وفي يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولي، افتتحت مدينة إسنجة، ودخلها الحاجب بدر بن أحمد والوزير أحمد بن محمد بن حدير؛ وكان أول موضع افتتح في أيام الناصر - رحمه الله -؛ وضبطت المدينة، وهدم سورها. وبقى أحمد بن محمد الوزير قائدا بها ومسكنا لأحوال أهلها. وولي عمالتها حمدون بن بسيل.
وفي يوم السبت لسبع بقين من جمادى الأولي منها، ولي الوزارة محمد بن عبد الله بن أمية.
ولست خلون من جمادى الآخرة، طلب رجل من المفسدين، يعرف بمحمد ابن يونس الجيانيّ: كان محبوسا في أيام الإمام عبد الله - رحمه الله -؛ فأطلقه أمير المؤمنين الناصر رضه - بعد أن عاهد الله ألا يواقع منكرا؛ فنكث، وخرج يبغي الفساد في أيامه - رحمه الله! ولتسع بقين من جمادى الأخرى، عزل أحمد بن محمد بن زياد عن قضاء الجماعة بقرطبة، وعن الصلاة، لأمور أنكرت عليه. وتولي القضاء أسلم بن عبد العزيز، والصلاة محمد بن عمر بن لبابة الفقيه.
وفيها، كانت غزاة أمير المؤمنين - رحمه الله - إلى معاقل جيان، وهي أول غزواته: برز الناصر - رضي الله عنه - من قصر قرطبة يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شعبان سنة 300، وفصل غازيا إلى كورة حيان يوم السبت لسبع خلون من رمضان بعد بروزه بثلاثة وعشرين يوما. واستخلف في القصر موسى ابن محمد بن حدير الوزير صاحب المدينة، وعبد الرحمن بن بدر، ونهض

(2/160)


- رضي الله عنه - في جيوش كثيفة وعدد كاملة. وكان قد نزع إليه قبل فصوله محمد ابن فروة صاحب أبذة في جملة فرسانه؛ فتقبلهم أحسن قبول، وأنزلهم أتم إنزال؛ وصاروا في جملة رجاله ومن يضمه عسكره. وسار - رحمه الله - لوجهه. فلما احتل بحصن مارتش من عمل جيان، ورده الخبر بمضايقة عمر بن حفصون لأهل حاضرة رية، وأنه أطمع نفسه عند تخاذلهم بانتهاز الفرصة فيهم. فوجه لتلافي ذلك سعيد بن عبد الوارث، في قطيع من الجند، وأمره أن يغذ السير، ويطوي المراحل، حتى يحتل مدينة مالقة، ويقطع بابن حفصون عما كان رامه منها وأطمع نفسه فيها؛ فتوصل القائد إلى الموضع، وضبطه، وحمى تلك الجهة عن ابن حفصون وحزبه.
ونهض أمير المؤمنين - رحمه الله - إلى حصن المنتلون واحتله يوم الأحد للنصف من شهر رمضان؛ وحارب سعيد بن هذيل فيه حتى افتتحه يوم الثلاثاء لثلاث عشرة ليلة بقيت منه. وأنزل سعيد بن هذيل من الحصن، وأوسعه الأمان. وولي عمله محمد بن عبد الوهاب. ثم تقدم - رحمه الله - إلى حصون شمنتان؛ فاستأمنه عبيد الله بن أمية بن الشالية، وإسحاق بن إبراهيم صاحب منتيشة، وعكاشة بن محصن صاحب وادي بني عبد الله، وسلمة بن عرام صاحب بحيلة، ومنذر بن حريز صاحب بغتويرة، وأفلح بن عروس صاحب بكور، وفحلون ابن عبد الله صاحب سانة؛ ونزلوا عن معاقلهم إليه، وكلهم مذعن بطاعته ومحكم في نفسه؛ فأوسعهم أمير المؤمنين - رحمه الله - فضله، وألبسهم عفوه، وأخلى تلك المواضع منهم، وقدم أولادهم ونساءهم إلى قرطبة. واستعمل في الحصون ثقات رجاله. واستنزل عبد العزيز بن عبد الأعلى من حصن الشارة،

(2/161)


ودحّثون بن هشام. ثم انتقل - رحمه الله - منها إلى كورة إلبيرة. فلما احتلها، تداعى أهل حصون تاجلة وبسطة ومربيط والبراجلة والأسناد إلى النزول والطوع، وأخلوا حصونهم. فأحكم الناصر - رحمه الله - أمر ذلك الجانب كله، وضبط المعاقل برجاله، وأتقن الجميع بنظره. ثم انتقل - رحمه الله - إلى حصون وادي آش؛ فأخلى أكثرها رهبة له، ونزل على حصن فنيانة يوم الخميس لأربع خلون من شوال؛ وكان فيه من شيعة ابن حفصون من آوى أهله وأضلهم؛ فتمنعوا من النزول، ورجوا أن يعتصموا بوعر الحصن؛ فأحاطت العساكر بهم، وأضرمت أرباضهم نارا؛ فضرعوا في قبول الإنابة، على أن يسلموا من كان عندهم من شيعة ابن حفصون؛ فاجيبوا إلى ذلك، وتقبض على أصحاب ابن حفصون، وشدوا وثاقا.
ثم انتقل أمير المؤمنين يتقرى تلك المعاقل بجهة بشيرة وأجبلها، حتى توغل بالعساكر في جبل الثلج، وهو ممتنع السلوك؛ فجازه الناس، ويسر الله ذلك عليهم، وسهله لهم. وافتتحت حصون تلك الجهة، ولم يبق بها معقل ممتنه.
واتصل بأمير المؤمنين - رحمه الله - إنَّ ابن حفصون أقبل في جماعة أصحابه إلى حاضرة إلبيرة، طامعا في انتهاز الفرصة فيها. فأخرج عباس بن عبد العزيز قائدا نحوه. فلما قرب من مدينة غرناطة، أقبل ابن حفصون لما كان رجاه وطمع به؛ فخرج أهل إلبيرة واثقين بالمدد الذي وردهم، والقائد المصرح لهم؛ فهزموا ابن حفصون، وقتلوا جماعة من رجاله، وأسروا عمر بن أيوب حفيده. وجرح أحد أولاده جراحا أثخنته.
وتقصى أمير المؤمنين - رحمه الله - ما كان بقي من معاقل تلك الجهة، حتى احتل بحصن شبيلش؛ وكان من أعظم حصون ابن حفصون منعة، وأصعبها مراما، وأوعرها مكانا؛ وإليه كان انضوى كلُّ مشرك تفلت من الحصون المتقدمة الذكر فاحتلت العساكر عليه يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة بقيت من شوال؛ فقطعت ثمارهم، واستهلكت زروعهم ومعايشهم؛ وحوصروا خمسة عشر

(2/162)


يوما، حتى نادوا بالطاعة، وضرعوا في قبول الإنابة؛ وأسلموا أصحاب ابن حفصون الذين كانوا عندهم؛ فتلقى ذلك أمير المؤمنين - رحمه الله - بالقبول، وأخرج إليه جميع من كان في الحصن من المشركين؛ فأمر بضرب رقابهم حتى أبيحوا عن آخرهم.
ثم أمَّ - رحمه الله - مدينة شلوبينية، وفعل فيها مثل فعله فيما تقدم ذكره؛ وضبط برجاله كل حصن افتتحه. وانحسم الداء في كورة إلبيرة، وتألفت كلمتهم، واستقامت طاعتهم. وصدر - رحمه الله - قافلا على طريق حصن أشنبين وحصن بنة فراطة؛ وكانا قد أضرا بأهل غرناطة وحاضرة إلبيرة، وهما في غاية الحصانة والمنعة. فنزلت الجيوش عليهما، وأحدقت بهما؛ وحوربوا أشد محاربة وأنكاها عشرين يوما. ثم أخذت عليهم الحصون وشحنت بالرجال. وقفل أمير المؤمنين - رحمه الله - بعد إيعابه النظر في كلّ ما شخص له من استصلاح أمر كورة جيان وإلبيرة وما والاهما، ودخل القصر بقرطبة يوم الأضحى؛ وقد استتم في غزاته اثنين وتسعين يوما.
وفي هذه السنة، توفي هشام بن محمد القرشي المعروف بابن الشبانسية.
وفي سنة 301، توفي بإشبيلية عبد الرحمن بن إبراهيم بن حجاج صاحبها، في المحرم؛ فاجتمع أهلها على تقديم أحمد بن مسلمة مكانه؛ وكان من الشجعان فأخرج أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - أحمد بن محمد بن حدير الوزير قائدا نحوها؛ فكان أول من حاربها وأوقع بأهلها. وكان محمد بن إبراهيم بن حجاج عند ذلك بمدينة قرمونة؛ فقصد باب السدة، وعرض نفسه على أمير المؤمنين لمحاربة أهل إشبيلية. فأخرجه لذلك مع قاسم بن وليد الكلبي؛ وحاصراها شهورا. ثم خرج إليها الحاجب بدر بن أحمد؛ فدخلها يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من جمادى الأولي من هذه السنة، وهدم

(2/163)


أسوارها، واستصلح أمور أهلها، وأخرج مع نفسه سعيد بن المنذر عاملا عليها.
وفيها، ولي محمد بن سليمان بن وانسوس الوزارة. ووليها أيضا عيسى بن أحمد بن أبي عبدة. وولي محمد بن عبد الله الخروبي، ومحمد بن أحمد بن حدير، وفند الكبير، ودرى مولي الناصر خطة العرض. وعزل عمر بن أحمد ابن فرج عن السوق، وصرف النظر فيها إلى محمد بن عبد الله الخروبي؛ وذلك في ربيع الآخر. وولي أحمد بن مسلمة الشرطة العليا. واستقدم محمد بن إبراهيم بن حجاج من مدينة قرمونة، وولي الوزارة، وقعد مع الوزراء يوما واحدا. واستقدم سعيد بن المنذر من إشبيلية، ووليها فطيس بن أصبغ في شعبان وأعيد إلى الشرطة العليا قاسم بن وليد الكلبي. وولي خزانة المال موسى بن سليمان الخولاني المعروف بأبي الكوثر، وعبد الملك بن سليمان أخوه خزانة السلاح.
وفي هذه السنة، افتتح أهل الثغر حصن قلهرة؛ وكان بأيدي المشركين؛ وذلك يوم الأربعاء لثمان عشرة ليلة خلت من ذي القعدة.
وفيها، كانت محاصرة لبّ بن محمد مدينة سرقسطة، وبنيان الردم عليها. وفيها، قتل محمد بن عبد الملك الطويل.
وفيها، خرج الناصر غازيا إلى كورة رية والجزيرة وقرمونة، وهي الثانية من غزواته: برز - رحمه الله - من قصر قرطبة يوم الخميس لثمان خلون من شهر رمضان، وفصل غازيا لثمان خلون من شوال. وتخلف في القصر موسى بن محمد ابن حدير صاحب المدينة. وكانت الكتب تنفذ إلى هشام الولد - رضي الله عنه -، وهو ضغير. فكان أوَّل مقصده حصن طرش، بعد أن قدم حاجبه بدر بن أحمد في قطيع من الجند إلى حصن بلدة؛ فألقى أهله غرَّة، وقتل منهم، وسبى، وأسر جملة كثيرة. واحتل الناصر - رضي الله عنه - بجيوشه على حصن طرش يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من شوال؛ فحصر من كان فيه، وأقام عليه خمسة أيام، يغاديهم الحرب ويماسيهم، ويقطع ثمارهم، ويحطم معايشهم، ويقتل من تظاهر منهم. ثم أبقى عليها من يحاصرها، وتنقل إلى حصون رية ومعاقل ابن

(2/164)


حفصون، يتتبعها معقلا معقلا، وينزل نأسه ومعرة جيوشه بكل ما ينزل به منها. وأوقع بابن حفصون ومن انحشد إليه من النصرانية في حصن طرش وقبعة عظيمة ذهب فيها كثير منهم. وبعث برؤوسهم إلى قرطبة. وألقيت للمشرك عمر بن حفصون مراكب في البحر، كانت نميره من العذرة؛ فأحرق جميعها. وسارع كل من كان بتلك الناحية من أهل شانر، وفج وسيم، وقلبيرة، والقصر، وما انتظم بها من أحواز الجزيرة إلى الدخول في الطاعة والاعتصام بها من الهلكة؛. فقبلهم الناصر - رضي الله عنه - وأمنهم، وسكن أحوالهم.
وتنقل منها إلى حاضرة الجزيرة؛ ثم إلى كورة شذونة؛ ثم إلى كورة مورور، حتى أوفى على مدينة قرمونة؛ فاحتلها يوم الثلاثاء مستهل ذي الحجة. وكان حبيب بن سوادة قد أظهر الخلاف فيها عند قدوم محمد بن إبراهيم بن حجاج قرطبة؛ فنازلته جيوش أمير المؤمنين - رحمه الله - وحوصر بها عشرين يوما، حتى عضته النكاية، وأخذت بمخنقة المحاصرة؛ ثم استأمن؛ فأمن، وسأل أن يمهل لانتقال أهله وثقله إلى قرطبة؛ فأجابه الناصر - رحمه الله - إلى ذلك، ولم يرهقه من أمره عسرا؛ وقفل إلى قرطبة؛ فدخلها يوم الأثنين لليلتين بقيتا من ذي الحجة وقد استتم في غزاته اثنين وثمانين يوما.
وفي هذه الغزاة، بعث في قاسم بن وليد الكلبي صاحب الشرطة، وكان قد خلف قرطبة؛ فسجن وسجن معه محمد بن إبراهيم بن حجاج، ومحمد بن وهيب، وعبيد الله بن محمد الرهانيُّ، وسكن بن جديدة. وعزل ابن مسلمة عن الشرطة العليا، ووليها عباس بن أحمد بن أبي عبدة.
وفيها، استقود الناصر عيسى بن أحمد بن أبي عبدة، وأعاده إلى كورة إشبيلية.
وفي هذه السنة، توفي عبد الله بن محمد الزجالي الوزير الكاتب، في ربيع الأول؛ فولي رسم الكتابة عبد الله بن بدر؛ وكان سكن بن إبراهيم، وعمر بن ناجيت كاتبي بدر الحاجب يقيمان خدمة الكتابة.

(2/165)


وفيها، توفي العاصي ابن الإمام محمد - رحمه الله - في ربيع الأول، وهو ابن ثلاث وستين سنة. وتوفي عباس بن عبد العزيز القرشي في جمادى الأولي. وتوفي الوزير أبو الحارث سلمة بن علي، ومحمد بن وليد بن غانم الوزير، وأيوب بن سليمان بن صالح الفقيه، وسعيد بن خمير الفقيه.
وفيها، قتل ببرشلونة عبد الملك بن عبد الله بن شبريط. وأغار المشركون بوادي الحامة في الثغر. وكانت ملحمة أرنيط يوم الأحد لعشر بقين من شعبان؛ وهلك فيها غرسية بن إذفنش صاحب حجليقية؛ وصار الأمر إلى أخيه أردون ابن إذفنش.
وفي سنة 302، كانت ولادة أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله - أطال الله بقاءه - ابن أمير المؤمنين عبد الرحمن بن محمد - رضي الله عنه - وذلك يوم الجمعة مستهل رجب وقت أذان الظهر.
وفيها، أغزى أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - في الصائفة عمه أبان ابن الإمام عبد الله؛ ففصل في شوال إلى كورة رية، وتردد بالجيوش فيها، ونازل حصونها، وحطم زروعها، وقطع ثمارها.
وفيها، أمحل الناس، وتوالى القحط وعمَّ. فبرز إلى مصلى الربض محمد بن عمر بن لبابة صاحب الصلاة، واستسقى بالناس خمس مرات في أيام مختلفة؛ فلم تكن سقيا؛ وغلت الأسعار، وقلت الميرة في الأسواق. ثم برز أحمد بن أحمد ابن زياد للاستسقاء بالناس يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال، وهو أول شهر مايه؛ فنزل رذاذ تماسك به بعض الزرع، وذهب الأكثر. وكان القحط عاما شاملا بالأندلس وأطرافها وثغورها؛ وغلت الأسعار في جميع جهاتها.
وفي هذه السنة، قدم الناصر - رحمه الله - محمد بن عبد الله الخروبي من ولاية السوق إلى ولاية المدينة، وعزل عنها موسى بن محمد بن حدير. وولي

(2/166)


السوق أحمد بن حبيب بن بهلول، وذلك يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شوال؛ وفي هذا اليوم عزل عبد الله بن بدر عن الكتابه، ووليها عبد الملك بن جهور؛ وعزل محمد بن محمد بن أبي زيد عن الشرطة الصغرى ووليها يحيى بن إسحاق.
وفيها، عزل عبد الرحمن بن بدر عن خطة الخيل، ووليها عبد الله بن مضر. وفيها، ولي المواريث قند ودرى موليا أمير المؤمنين الناصر.
وفي يوم الأحد مستهل ذي الحجة، قتل عباس بن أحمد بن محمد بن أبي عبدة صاحب الشرطة العليا؛ وكان أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - قد أرتبه على محاصرة منت روبي؛ فواقعته ضربة في حرب باشرها وغرَّر بنفسه فيها. فولي الناصر أخاه عبد الله بن أحمد بن محمد الشرطة العليا، وولي محمد بن محمد ابن أبي عبدة خزانة المال.
وفيها، توفي مروان بن المنذر ابن الإمام عبد الرحمن بن الحكم - رحمه الله - يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الآخرة؛ وكان قد توفي قبله عمر ابن الإمام عبد الرحمن لست بقين من جمادى الأولي.
وفيها، توفي سعيد بن السليم؛ وكان حاجبا في أيام الإمام عبد الله - رحمه الله - وكانت وفاته لأربع خلون من ربيع الآخر. وتوفي النضر بن سلمة، وكان قاضيا في أيام الإمام عبد الله، وذلك يوم الثلاثاء لسبع خلون من جمادى الآخرة. وفيها، توفي عبيد الله بن محمد بن أبي عثمان لثلاث خلون من شهر رمضان. وتوفي حمدون بن بسيل في شعبان، وعبد الله بن محمد بن عبد الخالق الغساني قاضي إشبيلية لست بقين من جمادى الأولي. وتوفي الفقيه خالد بن وهب يوم الأحد لأربع خلون من ربيع الآخر؛ وفيها، توفي محمد بن يحيى النحوي المعروف بالقلفاط في جمادى الآخرة؛ وكان من العلماء الحفاظ والشعراء الفصحاء؛ وكان هجاء للناس، سبابة للأشراف، كثير البذاء والسفه في شعره.
وفي سنة 303، كانت المجاعة بالأندلس، التي شبهت بمجاعة سنة ستين؛

(2/167)


وبلغت الحاجة بالناس مبلغا لا عهد لهم بمثله؛ وبيع قفيز قمح بكيل سوق قرطبة بثلاثة دنانير دخل أربعين. ووقع الوباء في الناس، وكثر الموتان في أهل الفاقة والحاجة، حتى كاد أن يعجز عن دفنهم. وكثرت صدقات أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - على المساكين في هذا العام، وصدقات أهل الحسبة من رجاله؛ فكان الحاجب بدر بن أحمد أكثرهم صدقة، وأعظمهم بماله مواساة. ولم يمكن في هذا العام، لضيق الأحوال فيه، أن يكون غزاة أو إخراج جيش، غير أنَّ الناصر - رضه - أخذ بالجدّ والحزم في ضبط أطرافه، والتحفظ بالمسلمين من عادة أهل الخلاف والخلعان، إذ كانوا مع استيلاء الجوع يغاورون من قرب منهم، ويغدرون على من مر بهم من رفاق المسلمين وطالبي المعاش ومستجلبي المير.
وفي هذه السنة، ولي إسحاق بن محمد القرشي الوزارة؛ وكان ذا رأي وعناء. وفيها، ولي محمد بن محمد بن أبي زيد الشرطة العليا؛ وكان يلي الشرطة الصغرى من قبل.
وفي هذه السنة، توفي أبان ابن الإمام عبد الله - رحمه الله - يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من جمادى الآخرة. وهو ابن خمس وخمسين سنة؛ ودفن بمقابر قريش في الربض. ومات فيها لأمير المؤمنين الناصر - رضي الله عنه - ولدٌ يسمى هشاما ويكنى بأبي الوليد؛ وكان بكر ولده.
وتوفي فيها أحمد بن هشام ابن الإمام عبد الرحمن بن الحكم - رحمه الله - يوم الجمعة لعشر بقين من شوال؛ والقرشي العثماني الطارئ من المشرق في أيام الإمام عبد الله بن محمد - رحمه الله - وذلك يوم الاثنين لاثنتي عشرة ليلة بقيت من رمضان. وتوفي القرشي العبدي لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر شعبان. وتوفي يحيى بن إسحاق بن يحيى بن أبي عيسى الفقيه؛ وكانت له رحلة روى فيها الحديث؛ ولم يكن بالثقة، غير أنه كان نبيلا مفوَّها. وتوفي فيها الفقيه النميري، واسمه أحمد بن عبد الله بن فرج. وتوفي أحمد بن بيطير الفقيه

(2/168)


يوم الخميس لليلتين هلتا من ذي الحجة. وتوفي فيها مفوز بن غريب.
وفيها، أسر مطرف بن محمد بن لب بن قسي؛ أسره العدو بالثغر.
وفيها، توفي بالثغر عبد الله بن محمد بن لب بن قسي؛ وكان من أهل البأس والشجاعة والنكاية للعدو. وقتل ابنه محمد بن عبد الله عمه مطرفا. ووقعت بين بني لب فتون وحروب، واختلف أمرهم.
ومات في هذا العام بقرطبة جملة من وجوهها وبياض أهلها، يطول الأخبار عنهم والاجتلاب لهم، إلى من مات في الكور والمواضع البعيدة ممن لم يأخذه إحصاء ولا عد. وكانت للعدو مع بني قسي جولات في الثغر هذا العام.
وفي سنة 304، كان إغزاء أمير المؤمنين الناصر لدين الله - رضي الله عنه - أحمد بن محمد بن أبي عبدة القائد إلى أرض الحرب. وفصل يوم السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من المحرم، وهو اليوم الثامن عشر من يوليه، وضم إليه من الموالي والأجناد عدد كثيرا. ودخل أرض المشركين؛ فبكى، وغنم، وسبى؛ وخرج من أرض العدو بالمسلمين سالمين غانمين.
وفيها، ولي عبد الحميد بن بسيل الخزانة. وفيها، غزا إسحاق بن محمد القرشي إلى كورة تدمير؛ فافتتح حصن أوربوالة واستصلح أحوال أهل الكورة. وفيها، ولي فطيس بن أصبغ الخزانة ولايته الأولى.
وفيها، غزا الحاجب بدر بن أحمد إلى مدينة لبلة؛ فحاصرها وافتتحها يوم الاثنين لعشر بقين من شهر رمضان.
وفيها، عزل عبد الملك بن جهور عن الكناية، ووليها عبد الحميد بن بسيل؛ ولم يطل أمد ولايته؛ ثم أعيد إليها عبد الملك بن جهور.
وفيها، ولي إسماعيل بن بدر العرض. وفيها، نُقل عليُّ بن حسين عن خزانة السلاح إلى خطة العرض، لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر. وفيها، ولي العرض محمد بن عبد الله بن مضر.

(2/169)


وفيها، توفي منذر ابن الإمام المنذر - رحمه الله - سلخ شعبان؛ وكان مولده بعد موت أبيه إلى ستة أشهر؛ وعبد الملك بن حوزة القرشي، يوم الثلاثاء لتسع خلون من ربيع الآخر؛ وأخوه الأحدب، وكان يتنجم، في عقب ربيع الآخر؛ والعارض صاحب المواريث قند مولى أمير المؤمنين الناصر، يوم الثلاثاء لثلاث خلون من رجب؛ فولي مكانه المواريث إسماعيل بن بدر.
وتوفي المؤدب محمد بن أرقم يوم الجمعة لست خلون من رجب؛ وفيه توفي الولد محمد ابن أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - والولد سليمان الأكبر.
وفي عشر خلون من شوال من هذا العام، ولد الولد أبو مروان عبيد الله شقيق أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله - أيده الله! وفيها، توفي الفقيه الزاهد أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الزراد لأربع خلون من جمادى الأولي؛ مولده سنة 242؛ وكان قد روى علم ابن وضاح. وتوفي الفقيه المحدث طاهر بن عبد العزيز الرعيني. وتوفي أبو القاسم محمد بن عبد السلام بن قلمون ليلة الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت من ربيع الآخر؛ وكان نبيلا، مرسلار، حسن الخط؛ وولي الخزانة؛ وكان له لسان وبيان.
وفي سنة 305، غزا بالصائفة إلى دار الحرب أحمد بن محمد بن أبي عبدة الوزير القائد؛ وفصل يوم الاثنين لعشر خلون من صفر. وخرج معه طبقات الناس من المجاهدين وأهل الديوان؛ وحشد إليه رجال الثغر؛ فدخل أرض العدو في جمع كبير، ونازل حصن قاشتر مورش الأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول. وجد المسلمون في محاربة المشركين حتى كانوا قد أشرفوا على الظفر بمن كان في الحصن؛ فاحتشدت النصرانية من جميع جهاتها ممدين لكفرتهم، ومجلبين على المسلمين بخيلهم ورجلهم. فتداعى بعض أهل المداهنة في الدين من أهل الثغر إلى إظهار الهزيمة وجروها على المسلمين؛ فانهزم كثير

(2/170)


منهم. وثبت القائد أحمد بن محمد بنفسه، وأظهر الصبر، ودافع مدافعة الموطن. وقيل إنه كان قد اعتقد مذهبا في طلب الشهادة؛ فاستشهد القائد المذكور الأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول. واستشهد من المسلمين معه من آثر الشهادة ورغب عن خزي الفرار. ولم يول المشركين دبرا، ولا أراهم نكوصا ولا فرارا. وانعقد سائر أهل الجيش، وصاروا يدا واحدة؛ فسلموا وخرجوا إلى أرض المسلمين بدوابهم وأثقالهم وأبنيتهم.
وفيها، غزا إسحاق بن محمد الوزير إلى مدينة قرمونة؛ فحاصر فيها حبيب بن عمر، وضايقه، وأخذ بمخنقه. ثم خرج إليها الحاجب بدر بن أحمد؛ فتمادى على حصارها حتى فتحها قسرا، ودخلها يوم الخميس لخمس خلون من ربيع الآخر.

ذكر موت عمر بن حفصون
وفي هذه السنة، هلك عمر بن حفصون، عميد الكافرين، ورأس المنافقين، وموقد شعل الفتنة، وملجأ أهل الخلاف والمعصية. فعد هلاكه من أسباب الإقبال، وتباشير الصنع، وانقطاع علق المكروه. ولما توفي افتتحت أبذة إلبيرة، وهي المعروفة بأبذة فروة؛ وكان فيها سليمان بن عمر بن حفصون؛ فاستنزل عنها، وقدم به قرطبة يحيى بن إسحاق في شوال؛ فأنزل وتوسع له.
وفيها، ولي الوزارة عبد الملك بن جهور يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من شوال. وفيها، توفيت البهاء بنت الإمام عبد الرحمن بن الحكم - رحمه الله - في رجب؛ فلم يتخلف أحد عن جنازتها. وتوفيت للناصر - رضي الله عنه - ابنة تسمى بعائشة. وفيها، توفي سعيد بن عبد الوارث الأيسر؛ وكان من أهل الشجاعة والعناء في الخدمة. وتوفي الفقيه محمد بن إبراهيم المحدث الحجازي. وتوفي عمر بن أحمد بن فرج؛ وكان كاتب الرأي؛ وولي السوق.

(2/171)


وفي هذه السنة، حشد أرذون بن إذفنش، وشائجه بن غرسية صاحب النصرانية، بجليقية وبنبلونة، وخرجها في جموعهم واحتفال من كفرتهم إلى مدينة ناجرة بالثغر الأقصى؛ فنزلا عليها في عقب ذي الحجة، وأقاما عليها ثلاثة أيام. وعانت النصرانية في ذلك الثغر. وأفسدت الزروع؛ ثم تنقلت إلى تطيلة. وبلغ العدو إلى نهر مالس، وجزائر مسقبرة، ووادي طرسونة. وخلف شانجة نهر إبرة، وقاتل حصن بلتبرة، وقهره على أهل الربض، وأحرق المسجد الجامع؛ فكان ذلك مما أحفظ الناصر وحركة لمجاهدتهم والأنصار منهم، على ما سيأتي ذكره.

غزوة مطونية
وفي سنة 306، كان غزاة الحاجب بدر بن أحمد إلى دار الحرب، وهي عزاة مطزنية. وكان أمير المؤمنين الناصر - رضي الله عنه - لما اتصل به تطاول المشركين على من كان بازائهم من أهل الثغور بامتناع الصوائف عن غزوهم، والإيغال في بلادهم بالحرب المتقدم الذكر، أحفظه ذلك، وأذكى عزمه، وأكد بصيرته في مجاهدة أعداء الله وأعداء دينه في هذا العام؛ فأمر بالاحتفال في الحشد وجمع الرجال والتكثير من الأجناد والفرسان الأبطال. وعهد إلى حاجبه بالغزو بنفسه في الصائفة. ونفذت كتبه إلى أهل الأطراف والثغور بالخروج إلى أعداء الله، والدخول في معسكره، والجدّ في نكاية أهل الكفر، والإيقاع بهم في أواسط بلادهم، ومجتمع نصرانيتهم. ففصل الحاجب بالجيوش، يوم الثلاثاء لخمس بقين من المحرَّم؛ وانثالت إليه العساكر من كل جهة في أٌرب ثغور المسلمين؛ ودخل بهم دار الحرب، وقد انحشد المشركون، وتجمعوا من أقاصي بلادهم، واعتصموا بأمنع أجبلهم؛ فنازلهم الحاجب بدر بن

(2/172)


أحمد بأولياء الله وأنصار دينه؛ فكانت له على أعداء الله وقائع اشتفت فيها صدور المسلمين، وانتصروا على أعداء الله المشركين. وقتل في هذه الغزاة من حماتهم، وأبطالهم، وصلاة الحروب منهم، جملة عظيمة لا يأخذها عدٌّ، ولا يحيط بها وصف. وكان الفتح يوم الخميس لثلاث خلون من ربيع الأول ويوم السبت لخمس خلون من ربيع الأول، في معارك جليلة، لم يكن أعظم منها صنعا، ولا أكثر من أعداء الله قتيلا وأسيرا. وورد الكتاب بذلك على أمير المؤمنين الناصر - رضي الله عنه - يوم الجمعة لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول؛ فأكثر من شكر الله عز وجل على ما منَّ به، وفتح فيه. وقُرى (كتاب الفتح) في الجوامع وكتب به إلى الأطراف.
وفي يوم السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، في العام المؤرخ، ولد أبو الأصبغ عبد العزيز بن عبد الرحمن، شقيق أمير المؤمنين المستنصر بالله - أيده الله -.

غزاة الناصر لدين الله إلى بلدة
وفي شهر ذي الحجة من هذه السنة، غزا الناصر بنفسه مدينة بلدة من كورة رية؛ فبرز لها يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة؛ وفصل يوم الثلاثاء للنصف من ذي الحجة بعد بروزه بستة وعشرين يوما؛ وتخلف في القصر بقرطبة ابنه وولي عهده وقبلة الآمال من بعده، أمير المؤمنين الحكم المستنصر بالله - أبقاه الله - ومن الوزراء موسى بن محمد بن حدبر. فلما قرب الناصر من مدينة بلدة، قدم من ثقات رجاله، وإخفاء أجناده من يمنحن إمكان زرعها وموضع المضطرب عليها؛ فألقى الزرع متأخرا؛ وأتته الأنباء بإمكان زروع فحص رعين؛ فرأى التعريج إليه بعد أن أمر بابتناء صخرة فوزان، لتكون موفية على بسيط بلدة. ثم ارتحل إلى حصن

(2/173)


دوش امانتش؛ فنازله وحاربه حتى افتتحه. ثم نهض إلى مدينة بلدة؛ فاحتلها يوم الثلاثاء لليلة بقيت من ذي الحجة، وأحاطت العساكر بها؛ فتداعى من كان من المسلمين فيها إلى النزول بأنفسهم وذراريهم؛ وذكروا أنهم كانوا مغلوبين على أمرهم؛ فأمنهم الناصر، وقاتل الكفرة المتغلقين في المدينة، حتى أظفره الله بهم؛ فقتلوا عن آخرهم وملكت المدينة، وتدب فيها الرجال. ثم انتقل إلى حصون رية، يتقرَّاها معقلا معقلا، ويفتتح ما مر به منها. ونزل على جبل ببشتر؛ فحاصر أهله، وقطع ثمراتهم، واستبلغ في نكايتهم؛ فسأله جعفر بن عمر بن حفصون قبض رهائنه، استيثاقا من طاعته، على أن يؤدى من الجباية ما فرض عليه؛ فأجابه الناصر إلى ذلك، وفيضت رهائن جعفر وشيعته، وصارت في قبضته وداخل معسكره. ثم قفل الناصر لدين الله عن جبل ببشتر، ودخل القصر لثلاث بقين من المحرم من سنة 307، وقد استتم في غزاته أربعين يوما.
وفي هذه السنة، عهد الناصر بعمل الفوَّارة إزاء باب القصر المعروف بباب العدل، وإقامة محراب مصلى المصارة بقرطبة.
وفيها، توفي عبد الله بن كليب بن عبد السلام، لخمس خلون من ربيع الآخر. وفيها، توفي للناصر ابن يسمى بمحمد، ويكنى بأبي القاسم. وفيها، توفيت رقية ابنة الإمام محمد. وتوفي فيها موسى بن أزهر الفقيه الإسنجي لثلاث خلون من ربيع الأول؛ وكان من أهل الفصاحة والبيان والخط الحسن. وتوفي فيها حزب الله بن رباعي بن عبد الله الخشني الزاهد، وكانت له رواية.
وفي سنة 307، كان احتلال الناصر أمير المؤمنين بمدينة ببشتر، على ما تقدم ذكره في العام قبله، ودخوله قرطبة قافلا من غزاته في التاريخ المتقدم ذكره.
وفي هذه السنة، افتتح حصن طرش؛ وكان فيه عبد الرحمن بن عمر بن

(2/174)


حفصون؛ فأسلم الحصن إلى رجال أمير المؤمنين الناصر لدين الله، ودخل قرطبة؛ فأنزل ووسع عليه. وكان غير داخل في الحرب والفتنة مدخل أبيه؛ وإنما كان صاحب كتب، وكان حسن الخط ضعيف العقل. قال عريب: وقد صار بعد ذلك وراقا.
وفيها، ولي أمير المؤمنين الناصر محمد بن عبد الله بن محمد الزجالي خزانة المال لتسع خلون من شهر رمضان.
وفيها، توفي محمد بن أحمد بن زياد، يوم السبت لأربع عشرة خلت من رجب؛ وكان جارا لمحمد بن وضاح الفقيه؛ فأوصى أن يصلي عليه؛ فقام له بذلك ذكر. وفيها، مات محمد بن سليمان بن وانسوس الوزير، يوم الجمعة لعشر خلون من شهر رمضان. وفيها، مات حمدون بن بسيل وفيها، أمر الناصر بقتل موسى بن زياد، ليلة السبت لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر؛ وكان قد ولي الوزارة في أيام الإمام عبد الله، وكثرت مطالبته للناس، ورفعه عليهم، وتحككه بهم؛ وكان يجاهر بكراهة أمير المؤمنين الناصر، ويرفع عليه إلى جده - رحمهما الله -، ويغري الإمام عبد الله برجاله؛ فحبسه أمير المؤمنين الناصر في يوم بيعته؛ ولم يزل محبوسا إلى أن أمر بقتله؛ وقتل معه حبيب بن عمر بن سوادة، وولداه، ومحمد بن وليد المعروف بالغليلي؛ وكانت لهم ذنوب وجرائم أحردته عليهم.

غزاة مويش
وفي سنة 308، كان غزاة أمير المؤمنين الناصر إلى دار الحرب، وهي غزاة مويش؛ فبرر - رحمه الله - لهذه الغزاة يوم الخميس لثلاث عشرة خلت من ذي الحجة سنة 307؛ ثم فصل غازيا من قصر قرطبة يوم السبت لثلاث عشرة ليلة خلت من المحرم سنة 308، وهو اليوم الثالث من شهر حزيران،

(2/175)


ذلك بعد بروزه بثلاثين يوما. وتخلف في القصر ولي عهده الحكم أمير المؤمنين المستنصر بالله - أيده الله -. ومن الوزراء موسى بن محمد بن حدير. فلما كان في اليوم الرابع من فصوله، ونزل بمخاضة الفتح، ورد عليه بها كتاب فتح من قبل عامل مدينة الفرج، يذكر أن المشركين من أهل جليقية أتوهم في جمع كثير؛ فأغاروا على ما لاقوه في بسيطهم من الدواب والسوام، ثم عرجوا على حصن بقربهم، يعرف بالقليعة؛ فأحدقوا به طامعين في التغلب عليه؛ فانحشد إليهم جميع أهل المدينة بفارسهم وراجلهم، وواضعوهم القتال بأثبت بصائرهم؛ فمنحهم الله - عز وجل - أكتاف الكفرة، وأطال أيديهم عليهم؛ فقتلوا وأسروا كثيرا منهم، واتبعوهم من أول النهار إلى آخره، والسيف يعمل فيهم، وبعثوا بجملة من رؤوسهم؛ فاستبشر الناصر بما ورده وتفأل باسم المحلة التي كان فيها عند ورود الفتح عليه.
ونهض آما لوجهته، والحشود والعساكر تتلاحق به من سائر أقطار الأندلس، وجميع جهاتها. ونزل - رحمه الله - على مدينة طليطلة، وخرج إليه لبُّ بن الطربيشة صاحبها، مبادرا إليه، وغازيا معه؛ وكان يظهر طاعة تحتها معصية. ثم تنقل - رحمه الله - في مناقله، حتى نزل بمدينة الفرج؛ فنظر لأهلها، وعزل بني سالم عنهم، إذ شكوا بهم. واستوزر - رضي الله عنه - في هذه المحلة سعيد بن المنذر، وقدمه قائدا وضابطا لمدينة الفرج، وأغزاه مع نفسه، واستعمل على الموضع ابن غزلان القرشي صهره، واستقصى عليهم محمد بن مسور الفقيه. فصلحت أحوالهم، وعم الرضى جميعهم؛ وخرج للجهاد أكثرهم. ونهض أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - في جيوش تغص بها السبل، ويضيق بها القضاء الأوسع، حتى احتل بثغر مدينة سالم، وأظهر - رحمه الله - التوجه إلى الثغر الأقصى. وقدمت المقدمة نحوه. ثم عرج بالجيوش إلى طريق آلية والقلاع، وطوى من نهاره ثلاث مراحل، حتى احتل بوادي دوبر؛ فاضطربت العساكر

(2/176)


فيه، وباتت عليه. ثم أخرج صباح تلك الليلة سعيد بن المنذر الوزير، في جرائد الخيل وسرعان الفرسان، إلى حصن وخشمة؛ فأغدَّ السير حتى قرب من الحصن، وسرح الخيل المغيرة يمنة ويسرة، والمشركون في سكون وغفلة، إذ كان العلج الذي يلي أمورهم قد كاتب أمير المؤمنين - رحمه الله -، مكايدا له في إزاحته عن بلده بمواعيد وعدها من نفسه؛ فأظهر أمير المؤمنين - رحمه الله - قبول ذلك منهم، وأضمر الكيد بهم؛ فغشيتهم الخيل المغيرة على حين غفلة، وأصابوا نعمهم وسوامهم ودوابهم مسرحة مهملة؛ فاكتسحوا جميع ذلك، وانصرفوا إلى العسكر سالمين غانمين. فلما كان في صباح يوم الجمعة لاثنتي عشرة ليلة بقيت من صفر، اندفعت الخيل في أكمل تعبئة، وأهذب ترتيب، وأوكد ضبط، وأبلغ حزم وعزم، إلى حصن وخشمة؛ ففر عنه الكفرة، وأخلوه، ولاذوا بالغياض الأشبة، والصخور المنقطعة. ودخل المسلمون الحصن، وغنموا جميع ما فيه وأضرموه نارا. وبات أمير المؤمنين - رحمه الله - في محلته على وخشمة ليلة السبت؛ ثم رحل عنها في اليوم الثاني إلى حصن قاشتر مورش، وهي شنت أشتبين، بيضة المفرة، وقاعدتهم، والموضع الذي كانوا تعودوا فيه الاستطالة على من وردهم. فلما رأوا أن أنصار دين الله قد أطلوهم، وأولياءه قد يمدوا نحوهم، أخلوا الحصن وخرجوا هاربين عنه؛ فدخله المسلمون، وغنموا جميع ما فيه؛ وخربوا حصن القبيلة المجاور له، ولم يترك لأعداء الله في تلك الجهة نعمة يأوون إليها.
واضطرب العسكر بشرقي حصن قاشتر مورش. وبات المسلمون ليلة الأحد بأسر ليلة كانوا بها، والحمد لله. ثم انتقل أمير المؤمنين - رضي الله عنه - في صبيحة اليوم الثاني من مكان المضطرب شرقي الحصن إلى غربيه، ولم يكن بين الموضعين إلا قدر ميل؛ فكسر العسكر في ذلك المكان يوم الأحد متقصيا لآثار الكفرة، ومستبيحا لنعمهم. ثم ارتحل إلى مدينة لهم أولية تعرف بقلونية، وكانت من أمهات مدنهم؛ فلم تمر الجيوش إليها إلا على قرى منتظمة وعمارة بسيطة؛ فغنمت جميع ما كان بها، وقتلت من أدركت فيها، حتى أوفت العساكر على المدينة؛ فألقيت

(2/177)


خالية، قد شرد عنها أهلها إلى الأجبل المجاورة لهم؛ فغنم المسلمون جميع ما أصابوا فيها، وعملت الأيدي في تخريب ديارها وكنائسها. وكسر الناصر - رحمه الله - عليها ثلاثة أيام، مطاولا لنكاية المشركين، وانتساف نعمهم. ثم ارتحل - رحمه الله - من مدينة قلونية يوم السبت لخمس بقين من صفر إلى ثغر تطيلة، لغياث صريخ المسلمين به، إذ كان العلج شانجه قد ضايقهم، وتردد بكفرته عليهم؛ فأخذ الناصر - رحمه الله - بالرفق في نهوضه، لئلا يعنف على المسلمين بحث السير مع اتصال سفرهم؛ فاستقبل بالجيوش قطع المفاز الأعظم، مسايرا لوادي دوير، وقطع في ذلك خمس محلات، حتى احتل حوز تطيلة؛ ثم قدم الخيل مع محمد ابن لبّ عاملها إلى حصن قلهرة الذي كان اتخذه شانجه على أهلها. فلما قصدته الخيل، أخلاه من كان فيه، وضبطه المسلمون.
ثم نهض - رحمه الله - إلى حصن قلهرة. وكان شانجه قد اتخذه معقلا، وتبوَّأه مسكنا. فلما فجأته العساكر، أخلاه العلج، وزال عنه؛ فغنمه المسلمون بأسره؛ وكسر الناصر - رحمه الله - عليه يومين حتى خرب جميعه، وانتسف كل ما كان حواليه. ثم رحل بالجيوش يوم الأحد لأربع خلون من ربيع الأول إلى دي شره، وأجاز إليها وادي إبره؛ فخرج شائجه من حصن أرنيط في جموعه وكفرته، متعرضا لمن كان في مقدمة العسكر؛ فتبادر إليه شجعان الرجال، تبادر رشق النبال؛ فانهزم الكفرة، وركبتهم الخيل، تقتل وتجرح، حتى تواروا في الجبال، ولاذوا بالشعاب وأيقنوا بالدمار والهلاك. وحيز كثير من رؤوس المشركين؛ فتلقوا بها أمير المؤمنين - رحمه الله -، ولا علم عنده المعركة التي دارت بينهم وبين أعداء الله. واضطرب العسكر بهذا الموضع، وبات المسلمون ظاهرين على عدوهم، ومنبسطين في قراهم ومزارعهم.
وورد الخبر على الناصر - رحمه الله - باجتماع العلجين أرذون وشانجه، واستمداد بعضهما ببعض، طامعين في اعتراض المقدمة، أو انتهاز فرصة في

(2/178)


الساقة. فأمر الناصر - رحمه الله - بتعبئة العساكر، وضبط أطرافها؛ ثم نهض بها موغلا في بلاد الكفرة؛ فتطللوا على كدّي مشرفة وأجبل منيعة؛ ثم تعرضوا من كان في أطراف الجيش، وجعلوا يتصابحون، ويولولون ليضعنوا من قلوب المسلمين؛ فعهد الناصر - رحمه الله - بالنزول والاضطراب وإقامة الأبنية. ثم تبادر الناس إلى محاربة الكفرة، وقد أسهلوا من تلك الأجبل؛ فواضعوهم القتال، واقتحم عليهم حشم أمير المؤمنين ورجاله وأبطال الثغر وحماته، ويضعون أسلحتهم فيهم، ويمطرون رماحهم عليهم، حتى انهزم المشركون، لا يلوون على مكان مضطربهم، ولا يهتدون لوجه متقلبهم، والمسلمون على آثارهم، يقتلون من أدركوا منهم، حتى حجز الظلام بينهم.
ولجأ عند الهزيمة أزيد من ألف علج إلى حصن مويش، ورجوا التمتع فيه. فأمر الناصر بتقديم المظل وأبنية العسكر إلى الحصن؛ فأحبط به من جميع جهاته، وحوربوا داخله حتى تغلب عليه، واستخرج جميع العلوج منه، وقدموا إلى الناصر - رحمه الله -؛ فضربت رقاب جميعهم بين يديه، وأصيب في الحصن والمحلة التي كانت للكفرة بقربه من الأمتعة والأبنية والحلية المتقنة والآنية ما لا يحصى كثرة؛ وأصيب لهم نحو ألف وثلاثمائة فرس. وكسر أمير المؤمنين - رحمه الله - بهذه المحلة أربعة أيام، يغير جميع ما حواليها من نعم المشركين وثمراتهم ومزارعهم؛ ثم انتقل - رحمه الله - يوم الأحد لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول إلى حصن كان أتخذه شانجه على أهل بقيرة؛ فألقاه خاليا، قد فرَّ عنه أهله؛ فعهد بهدمه، ولم يبرح أمير المؤمنين - رحمه الله - من محلته هذه حتى انتقل إلى حصن بقيرة من أطعمة الكفرة ألف مُدي تقوية لأهله.
ثم انتقل إلى حصون المسلمين يسكنها وينظر في مصالح أهلها؛ فكلما ألفى بقربها معقلا للمشركين، هدمه وأحرق بسيطه، حتى لقد اتصل الحريق في بلاد المشركين عشرة أميال في مثلها. واجتمع عند الناس من الأطعمة والخيرات ما عجزوا عن حمله، ولم يجدوا لها ثمنا تباع بع؛ وكان القمح في العسكر تبذل

(2/179)


ستة أقفزة بدرهم؛ فلا يوجد من يشتريه؛ فجمعت الأطعمة وأدخلت النار إليها حتى أخرجت عن آخرها. وقفل الناصر - رحمه الله - يوم الثلاثاء. لثلاث بقين من ربيع الأول، حتى انتهى إلى مدينة أنتيشة؛ فكسر - رحمه الله - بها يوما، ووصل رجال الثغر، وكساهم، وحملهم، وأذن لهم في الرجوع إلى مواضعهم. وبعث إلى قرطبة من رؤوس الكفرة التي أصيبت في المعارك المذكورة أعدادا عظيمة، حتى لقد عجزت الدواب عن استيفاء حملها. ودخل - رحمه الله - القصر بقرطبة يوم الخميس الثالث عشر من ربيع الآخر، وقد استكمل في غزاته هذه تسعين يوما.
وفي هذه السنة، بعد القفل، عزل الناصر - رحمه الله - محمد بن محمد بن أبي زيد عن الشرطة العليا، وولاها دريا مولاه.
وفي هذه السنة، قتل جعفر بن عمر بن حفصون بجبل ببشتر، قتله أصحابه غيلة، ودخله أخوه سليمان وضبطه.
وفيها، ولي العرض عبد الرحمن بن عبد الله الزجالي.
وفيها، افتتحت المندات بحذر فرطمة من كورة رية، وبنى حصن فاشتره ذكوان، وألزمه الرجال والقوة.
وفي هذه السنة، توفي أبو عمرو سعد بن معاذ بن عثمان بن حسان بن بخامر الشعباني الفقيه بقرطبة في جمادى الأولي؛ وكان معظما في أهل العلم؛ وفيها، توفي عبد الغافر بن هاشم بن عبد العزيز.
وفي سنة 309، كان غزاة أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - إلى كورة رية، وهي غزاة طرُّش. وبرز لها - رحمه الله - يوم الخميس لسبع خلون من ذي الحجة سنة 308، وهو اليوم العاشر من أيار. وفصل من قصر قرطبة غازيا يوم السبت لثمان خلون من المحرم سنة 309، وهو اليوم العاشر من حزيران بعد بروزه إلى أحد وثلاثين يوما. وتخلف في النصر ولي عهده أمير المؤمنين المستنصر

(2/180)


بالله - أطال الله بقاءه - فسار - رضي الله عنه - في احتفال من جيوشه، وطبقات من رجاله، حتى احتل على حصن طرُّش؛ وكانت النصرانية قد احتشدت إليه، وتحصنت فيه؛ فأحدقت العساكر به من جميع جهاته، وعهد بمحاربتهم والتضييق عليهم ونصب المجانيق على مرتقى تصل منه حجارته إلى الكفرة. وكانوا في أول المنازلة لهم يبرزون للحرب، ويظهرون المدافعة، حتى مزقتهم الحرب، وقللت عددهم، وقلت حدهم؛ فعاذوا بالاستغلاق في داخل حصنهم. ثم تمادى التضييق عليهم، والحصار لهم، حتى أخذهم الجهد، وأشفوا على الهلاك؛ فخاطبوا أمير المؤمنين ضارعين إليه في تأمينهم، على أن يسلموا الحصن، ويخرجوا عنه؛ فأجابهم إلى ذلك، وقيل إنابتهم؛ ودخل رجاله الحصن، وخرج عنه جميع من كان به من النصرانية داخله. وهدمت قصابه وألقيت أحجارها في النهر؛ وبني في موضع الكنيسة مسجد جامع. ونظر الناصر - رحمه الله - أيام محاصرته لحصن طرش في توجيه القوَّاد والأجناد إلى حصن ببشتر وحصن أقوط وجبل الحجارة، لمحاربة سليمان وحفص ابني عمر بن حفصون، والتضييق عليهم، والانتقاص لعددهم. ثم قفل الناصر - رحمه الله - من محلته على حصن طرش يوم الاثنين لأربع عشرة ليلة خلت من ربيع الأول، ودخل قصر قرطبة يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة بقيت منه، وقد استتم في غزاته هذه تسعة وستين يوما.
وفي هذا العام، استنزل بنو سعيد بن ناصح بن مستنة من حصون باغه المعروفة بعالية وربرش. واستنزل موسى بن يزيد، أخو حمصي، من الصخرة التي كان بها. واستنزال بنو مهلب من حصونهم المعروفة بقرذبرة وإشبرغيرة وغيرهما، وهدم جميعها.
وفي هذه السنة، أمر الناصر - رحمه الله - بقتل العاصي ابن الإمام عبد الله، ومحمد بن عبد الجبار ابن الإمام محمد - رحمهما الله -، إذ شهد كلُّ واحد منهما

(2/181)


على صاحبه بمطالبة الخلافة ونقض البيعة، وكثرا في ذلك؛ وكان لهما غليان. فقتلا ليلة الأربعاء لثلاث خلون من رجب.
وفي ليلة الجمعة لست خلون من رجب، مات الحاجب بدر بن أحمد وولي الحجابة موسى بن أحمد بن حدير.
وفيها، مات محمد بن عبد الله بن أمية الوزير؛ وعبد الواحد بن محمد بن عبد الواحد بن يزيد الإسكندراني في شوال؛ وفيها، توفي الفقيه محمد بن أحمد المعروف بابن الزراد، ليلة الخميس لإحدى عشرة ليلة بقيت من ذي الحجة.
وفي سنة 310، كان غزو أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - إلى كورة إلبيرة، وهي غزاة منت روبي، وبرز لهذه الغزاة يوم الخميس لثلاث خلون من ذي الحجة سنة 309، وهو الرابع من نيسان، وفصل غازيا من قصر قرطبة يوم السبت لعشر خلون من المحرم، وهو اليوم الحادي عشر من أيار، بعد بروزه بسبعة وثلاثين يوما. وتخلف في القصر ولي عهده الحكم المستنصر بالله - أبقاه الله -، ومن الوزراء أحمد بن محمد بن حدير. وغزا معه في هذه السنة الحاجب موسى بن محمدا؛ فسار - رضي الله عنه - حتى احتل بحصن منت روبي يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من المحرم؛ وكان جبلا ممتنعا، بعيد المرام، كثير السكان من عجمة، قد لاذت به، وامتنعت فيه؛ وهو متوسط بين كورة إلبيرة وكورة جيان، وعلى طريق مدينة بجانة. فكان من سلك السبيل من وارد أو صادر لا يسلم من عادية ذلك الحصن. وكانوا يسفكون الدماء، ويسلبون الأموال، ويخيفون السبل. فأقام عليهم أمير المؤمنين - رحمه الله - خمسة وثلاثين يوما محاصرا، حتى أباد كثير منهم، وقطع ثمراتهم، وغير نعمهم. ثم أبقى على الحصن من رجاله وأجناده من استمر على محاصرتهم، حتى كان لا يدخل إليهم داخل، ولا يخرج عنهم خارج. وتقدم عنه إلى حصون كورة إلبيرة؛ فعم جميعها بالنكاية. ثم عرج منها إلى كورة رية، ونزل على جبل ببشتر يوم السبت لسبع خلون من ربيع الأول؛ فحاربهم أشد محاربة، ونكاهم أبلغ نكاية

(2/182)


وقطع ما كان بقي في أسناد الجبل من الثمار، ورتب لمحاصرتهم أكابر القواد. وقصد رحمه الله - كورة تاكُرُنَّا؛ فاستصلح أحوال أهلها، واستوثق من طاعتهم ونقل من رأى نقله إلى قرطبة من وجوههم. ثم وصل نظره فيها بالنظر في كورة مورور، وطالع في طريقه كورة إشبيلية وقرمونة، وقفل بعد إحكامه جميع الأمور في تلك الجهات؛ فاحتل قصره يوم السبت لست خلون من ربيع الآخر، وقد استكمل في غزاته هذه خمسة وثمانين يوما.
وفي هذه السنة، ولي الوزارة أبو سعيد عبد الملك بن محمد الشذونيُّ، يوم الأربعاء لثلاث عشرة ليلة بقيت من شهر ربيع الآخر. وولي فيها الوزارة أيضا يحيى بن إسحاق؛ وكانت بيده الشرطة الصغرى؛ فوليها مكانه محمد بن محمد بن أبي زيد، وذلك يوم السبت لخمس بقين من شوال.
وفيها، عزل أفلح بن عبد الرحمن عن الخيل، ووليها صاحب المدينة محمد ابن عبد الله الخروبي أياما يسيرة؛ ثم أعيد إليها أفلح.
وفيها، ولي أحمد بن موسى بن حدير، ونمارة بن سليمان الخزانة، في شوال.
وفيها، ولي أحمد بن عبد الله الخروبي العرض.
وفيها، مات سالم بن عبد الله بن عمر بن عبد العزيز بن أبا الفقيه؛ وعبد الله بن أبي الوليد ابن أخت محمد بن الصفار الفقيه، وكانت له رواية عن سحنون؛ ومحمد بن عبد الحكم؛ وفيها، توفيت علية بنت الإمام عبد الرحمن ابن الحكم - رحمه الله -.
وفي سنة 311، كان غزو أمير المؤمنين الناصر لدين الله - رضي الله عنه - إلى مدينة ببشتر وحصون رية؛ فبرز لغزاته هذه يوم الخميس لست خلون من ذي الحجة سنة 310، وهو اليوم السابع عشرين من أذار؛ وفصل غازيا يوم الاثنين مستهل المحرم، وهو اليوم الثاني عشرين من نيسان، بعد بروزه بخمسة وعشرين يوما؛ فسار - رحمه الله - حتى احتل على حصن ببشتر؛ وبادر سليمان بن عمر بن حفصون بمكاتبته، راجيا لصرف عزمه عنه؛ فأعرض الناصر عن محاربته،

(2/183)


وقبول ما تعرض له من مكايدته، وأخذ بالجد والعزم في محاصرته، وقطع باقي ثمراته وكرماته، واصطلام معائشه. وأقام عليه سبعة أيام، يصل الغدو بالرواح في التغيير والتدمير والنكاية والاستبلاغ؛ وفعل كذلك فيما بقى من حصونه، كحصن قرذارش، وحصن نجارش، وحصن ألجش، وشنت ببطر؛ فخرج إليه حفص بن عمر بن حفصون، وتبرأ من حصن قامرة؛ فأمنه أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله -، وأقره في بعض حصونه، لما رآه من السياسة ووجه المصلحة فيه وفي سليمان أخيه. ثم تقدم إلى مرسى شاط والمنكب، وحصن مشكريل، ونهض بعساكره في وعر لم يقتحمه جيش قبله؛ فاستنزل جميع أهل تلك الحصون، واستصلح تلط الجهات. ثم قصد جبل ببشتر، وقد كان أهله أرادوا الفتك بسليمان بن حفصون، وضبطوا القصبة دونه، وأطلقوا من كان في حبسه، وانتهبوا أكثر أمتعته؛ ثم إنه احتال مع بقية أصحابه، حتى دخلوا المدينة، وفتحوا له بابها؛ فدخل منه متلثما، وأطمع السواد في أموال القائمين عليه؛ فثاروا معه، وبادروا إلى قتل من ظفر به منهم؛ فأفنى أكثرهم؛ وسلط الله بعض الكفرة على بعض، ليمحو آثارهم. وبقى سليمان بجبل ببشتر مشغولا بنفسه، مرتابا ممن حوله؛ فاحتل به أمير المؤمنين مرَّة ثانية في غزاته هذه، وذلك يوم الأحد لأربع خلون من ربيع الأول؛ فلم يكن لأحد من الكفرة إطلال عند اضطراب العسكر على ما كانوا تعودوا من قبل؛ وأرتب على الجبل أمير المؤمنين من وثق به من رجاله، وألزمهم مواضع في جميع جهاته. ثم قفل، ودخل القصر بقرطبة يوم السبت لعشر خلون من ربيع الأول، وقد استتم في غزاته تسعة وستين يوما.
وفي هذه السنة، كانت وقيعة بقيرة ومحاصرة أهل بنبلونة لعبد الله محمد ابن لب، حتى تغلب عليه وعلى من كان معه، وأسرهم العلج شانجه؛ ثم قتلهم. وكان مع ابن لب في حصن بقيرة مطرف بن موسى بن ذي النون، ومحمد بن محمد ابن عمه، ووجوه رجالهم؛ فذهبوا في هذه الوقيعة بأجمعهم. وشنع الحادث

(2/184)


فيها على الناصر - رحمه الله - فأخرج عبد الحميد بن بسيل قائدا إلى الثغر الأقصى، بعد أن استوزره؛ وكان على خزانة المال؛ فنهض حتى احتل الثغر بجيوش كثيفة، أخرجت معه، وحشدت إليه من الثغر وغيره؛ فدخل مدينة تطيلة وملكها.
وفيها، افتتحت قصبة مورور.
وفيها، ولي محمد بن أحمد بن حدير خطة العرض، وعزل محمد بن محمد ابن أبي زيد عن الشرطة الصغرى، ووليها يحيى بن يونس القبرسي.
وفيها، توفي عبد الرحمن ابن الإمام المنذر - رحمه الله -. وتوفي جهور بن عبد الملك، وهو قائد شذونة. وفيها، قتل عبد الله بن محمد بن مروان الجليقي، صاحب بطليوس، دخل عليه بعض أهل الموضع، فقتلوه. وفيها هلك أرذون بن إذفنش صاحب جليقية، وولي مكانه فلوبرة.

غزاة الناصر إلى بنبلونة
وفي سنة 312، كان غزاة أمير المؤمنين الناصر لدين الله - رضي الله عنه - إلى دار الحرب، وهي الغزوة المعروفة ببنبلونة؛ فبرز - رحمه الله - لهذه الصائفة مبكرا قبل ميقات الصوائف، إذ أحفظه ما دار على بني لب وبنى ذي النون بحصن بقيرة؛ فبرز لغزاته هذه يوم الخميس لليلتين خلتا من ذي الحجة، وهو اليوم الثاني عشر من شباط سنة 311. وفصل من قرطبة يوم السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من المحرم سنة 12، وهو اليوم السابع عشرين من نيسان، وذلك بعد بروزه بثلاثة وأربعين يوما. فاحتل لأول خروجه بمحلة بالش، وكسر بها يومين، متلوما على المجاهدين معه من أجناده ورعيته، والمحشودين من أقطار كورة. وتخلف - رحمه الله - بالقصر بقرطبة وليَّ عهده الحكم المستنصر بالله - أبقاه الله -، ومن الوزراء أحمد بن محمد بن حدير. وأم الناصر رضه

(2/185)


في أول خروجه كورة تدمير وكورة بلنسية، واستصلح أحوال أهلهما، واستنزل عبد الرحمن بن وضاح، ويعقوب بن أبي خالد التوبري، وعامر بن أبي جوشن، وغيرهم، من مواضعهم التي كانوا متأمرين فيها، ومتعاصين عن النزول منها. وأرتب القواد والجيوش على محمد بن عبد الرحمن بن الشيخ، إذ يمنع من النزول إليه والغزو معه؛ وكان يمدينة العسكر من أحواز بلنسية.
ثم نهض أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - في عساكر كعدد الحصى، حتى دخل ثغر تطيلة. وخرج إليه النجيبيون وغيرهم، وتلقاه عمال الثغر في جنود عظيمة، وعدة كاملة؛ فدخل - رحمه الله - بلاد المشركين يوم السبت لأربع خلون من ربيع الآخر بأنقذ عزم، وأوكد حزم، وأقوى نية في الانتقام لله عز وجل ولدينه من الأرجاس، الكفرة الأنجاس. فحل من أول بلادهم حصن قلهرة؛ وكان العلج شانجه قد أخلاه؛ فأمر بهدمه وإحراق جميع ما فيه وحوله؛ ثم تنقل عنه إلى موضع يعرف ببيطرة التة؛ وكانت حوله حصون مانعة؛ فأخلاها الكفرة، وتخلقوا في بسيطها جميع أمتعتهم وأطعمتهم، إذ عوجلوا عن انتقالها. ولجأ علوج منهم بأهلهم وولدهم إلى ثلاثة غيران في شفير جرف على النهر؛ فلم يزل أهل العسكر يتعلقون إليهم فيها، ويتسورون عليهم من أعاليها، حتى فتح الله تلك الغيران عليهم؛ فقتلوا العلوج وسبوا الذرارى، وغنموا الأمتعة. وكان ذلك أول ما أفاء الله - عز وجل - على أهل العسكر، وغنمهم إياه. وهدمت حصون الكفرة التي كانت في تلك الجهة؛ ولم يبق منها صخرة قائمة.
ثم تنقل - رحمه الله - من هذه المحلة، بعد أن كسر بها يوما، إلى حصن فالجش؛ فأضرمت أرباضه نارا، واستقصيت زروعه ونعمه انتساقا وتغييرا. ثم ارتحل رضه إلى حصن نفالية؛ وكان من حصونهم الشريفة؛ فألقيت الأطعمة به كثيرة، والنعم فيه فائضة؛ فانتهب المسلمون جميع ذلك، ودأبوا في تخريب الديار، وتغيير الآثار. ثم ارتحل منه إلى حصن قرقستال على وادي أرغون؛ ثم استعزم الناصر - رضي الله عنه - على الإيغال في بلدهم، والتوصل إلى موضع قرارهم،

(2/186)


ومجتمع كفارهم، ونكايتهم في عقر دارهم، ومكان أمنهم؛ فأخذ في الحزم، وعهد بضبط مجنيات العسكر، وتقدم من فج المركوبر في أمكّ تعبئة وأهذب ترتيب، وذلك يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر؛ فدخلت الجيوش مواضع لم تدخل قبل ذلك، وأحرقت الحصون، وهدمت الديار، حتى نزل بقرية بشكونشة، التي إليها ينسب العلج، ومنها أصله؛ فهدمت مبانيها، أحرق كلُّ شئ كان فيها.
فجمع العلج شانجه كفرته، واستمد بنصرانيته من كل مكان، طمعا أن بغاث منه حتى توافى له جمع رجا أن يكافح المسلمين به؛ فتطلعت له خيل على تلك الأجبل المنيفة على العسكر، وذلك ليلة الأربعاء للنصف من شهر ربيع الآخر؛ فأمر الناصر - رحمه الله - بالتعبئة للرجال، وشك العسكر، وإتقان النظر؛ وصابح النهوض والتقدم لوجهته، واثقا بالله - عز وجل - ومتوكلا عليه؛ فسلكت الجيوش بين أجبل شامخة وشواهق منقطعة. ورجا أعداء الله مع ذلك بانتهاز الفرصة والاعتراض للمسلمين في مجنبة أو ساقة؛ فلما توسط الجيش بعض تلك المواضع المتضايقة على واد يعرف بوادي هيغة، هبطت للمشركين خيل من الأجبل؛ فحالت بينهم وبين أهل العسكر مناوشة يسيرة. فعهد أمير المؤمنين - رحمه الله - برفع المظل والتعبئة للحرب، ونهض المسلمون إلى أعدائهم نهوض الأسود؛ فعبروا النهر إليهم، وصمموا بالحملة عليهم، حتى اقتلعوهم عن موضعهم، وهزموهم، ووضعوا سيوفهم ورماحهم فيهم، حتى اضطروهم إلى مرتقى وعر وجبل منقطع؛ فتقحم المسلمون عليهم، وسهل الله وعره لهم؛ فقتلوا جملة منهم، وبسطت الأرض بأجسادهم. واستمرت الخيل المغيرة في بسيطهم؛ فأصابت الغنائم والسوام وضروب النعم، وانصرفوا سالمين، لم يصب منهم غير يعقوب بن أبي خالد التوبري، ونفر يسير من الحشم فازوا بالشهادة، وختم الله لهم بالسعادة.

(2/187)


واجتمع من رؤوس المشركين عدد عظيم منع من البعثة بها إلى قرطبة بمنع الطريق وبعد المسافة.
ثم ارتحل أمير المؤمنين رضه إلى محلة لتبيرة؛ ثم إلى محلة لغين؛ والجيوش لا تمر بموضع إلا اصطلمته، وتعلقت زروعه، وهدمت قراه وحصونه، إلى أن بلغ رضه مدينة بنبلونة؛ فوجدها خالية مقفرة؛ فدخلها - رحمه الله - وجال بنفسه عليها، وأمر بهدم جميع بنيانها، وتخريب كنيسة الكفرة بها، التي كانت يبعثهم موضع نسكهم، حتى لقد جعلت قاعا صفصفا. ثم تنقل - رضي الله عنه - منها إلى صخرة قبس؛ وكانت بها كنيسة قد شيدها العلج، وأتقنها، وطاول الأيام بالتأنق فيها، والتحصين لها؛ فلما حلت بها الجيوش وأخذت في هدمها، تطلع الكلب من جبل كان أسد إليه، طامعا في حمايتها؛ فداخله أولياء الله بأسرع من لحظة الطرف. حتى اقتلعوه مهزوما موليا، وصرع من فرسانه ووجوه أصحابه من كان عنه محاميا ودونه مستهلكا؛ وأخربت الكنيسة وما أحاط بها، وعادت القرية نارا موقدة.
ثم تنقل منها إلى محلة اسارية؛ وكان في ممره إليها فج يقال له هرقلة ضيق المسلك، وعر المجاز؛ فرام الكفرة انتهاز فرصة من المسلمين فيه؛ فأمر الناصر - رحمه الله - بالتعبئة والاحتراس، ونهض على أتم التحفظ والضبط، حتى جاورت العساكر ذلك المضيق، وخرجت عنه وتظاهر أعداء الله لأخل الساقة، متسنمين لأعلى جبل؛ فنهضت الخيل إليهم، وهزمتهم، وقتلت طائفة منهم. وانقشعوا مدبرين لا يلوون ولا يعرجون. وتقدم المسلمون بعزة القهر، وسرور النصر، حتى نزلوا محلة إسارية. ثم ارتحل الناصر - رحمه الله - منها إلى محلته بقرية منيير؛ ثم تنقل إلى محلته بدى شره المجاورة لشنت اشتبين؛ وكان موضع " استركاح " العلج شانجه، ومكان طمأنينته؛ فحلت الجيوش بهذه المحلة يوم الأربعاء لثمان بقين من ربيع الآخر، وتظاهر الكلب على الجبل، قد جمع جموعه، وحشد رجاله، واستجاش بمدود انته من آلبة والقلاع، طامعا في معارضة المسلمين، يقيم

(2/188)


بها عذره عند كفرته، وأهل ملته؛ فناشبهم المسلمون الحرب، والتحم بينهم القتال؛ فهزم الله جموع المشركين، وانقبضوا إلى أعلى جبلهم، وتفرقوا في شعراء متصلة بهم. وبات أهل العسكر في مجلتهم. وانبسطت العلاقة في القرى؛ فانتسفت ما فيها. ثم انتقل الناصر إلى محلته بموضع يعرف بربية سرته، وهو يريد فلهرة. وتظاهر العلج بجموعه مرة ثانية في الموضع الذي كان مشرفا فيه، ومعتصما به؛ فتبادر إليه الفرسان؛ فانهزم أقبح انهزام. وقتل له رجال وعقرت له خيل.
وتنقل الناصر - رحمه الله - إلى حصن قلهرة؛ فألقاه خاليا، وأمر بهدمه ثم تنقل إلى حصن بلتميرة، وهو من حصون المسلمين المجاورة للمشركين؛ فعهد بادخار الأطعمة عندهم، وتفريق الأموال فيهم. واحتل بمدينة تطيلة. وكسر بها، وذلك يوم الأثنين لثلاث بقين من ربيع الآخر، ورحل عنها قافلا، وجعل مروره ببني ذي النون؛ وكان يحيى بن موسى قد استراب، وتوقف عن الجهاد، فدارت عليه معرة الجيش، حتى أذعن منقادا، وخرج خائفا وجلا، وتلقى أمير المؤمنين معترفا بذنبه؛ فأوسعه عفوه؛ وفعل مثل ذلك يحيى بن أبي الفتح ابن أخيه، ودخل أمير المؤمنين - رحمه الله - قرطبة يوم الخميس لثمان بقين من جمادى الأولي، وقد استتم في غزاته هذه أربعة أشهر.
وفي سنة 313، كان غزاة أمير المؤمنين الناصر - رحمه الله - إلى كورة إلبيرة، ومنازلته حصن اشتين، وإستصلاحه الأحوال بكورة جيان وما والاها؛ فبرز - رحمه الله - لهذه الغزاة يوم الخميس لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم سنة 313، وهو اليوم السابع من نيسان، وفصل غازيا يوم الخميس لثمان بقين من صفر، وهو اليوم السابع من أيار، وذلك بعد بروزه بإثنتين وأربعين يوما؛ وتخلف في القصر بقرطبة وليَّ عهده الحكم المستنصر بالله. ومن الوزراء أحمد بن محمد بن حدير، وعلى المدينة محمد بن عبد الله الخرَّوبي؛

(2/189)


واستقدم سعيد بن المنذر الوزير من كورة تدمير، ليغزو معه. وأخرج محمد ابن إسحاق مديلا له؛ فاحتل في طريقه بحصن المنتلون من كورة جيان، وأنزل عنه عبد الله بن سعيد بن هذيل، وعزله عن سائر الحصون التي كانت بيده؛ واستعمل على الجميع عبد العزيز بن مسلمة وعبد الله بن عمرو بن مسلمة؛ وعهد بهدم أكثر حصون جيان وقصابها، إذ كانت مستركحا لأهل الشر والخرف، وضررا على أهل الطاعة والاستقامة؛ وكذلك ما فعل بحصون إلبيرة، حتى احتل بحصن اشنين يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الأول؛ وكان أهله على مكايدة باطنة، وإظهار طاعة تحتها مداهنة؛ فعرض عليهم الناصر النزول عن حصنهم إلى البسيط حوله؛ فاضطربوا في أمرهم، ولاذوا عن رشدهم؛ فاحتلت العساكر بهم، وأخذ بالجد والعزم في محاصرتهم، وأحيط بهم من جميع جهاتهم، وبنيت عليهم ستة حصون يقابل بعضها بعضا، حتى عادوا في مثل حلقة الخاتم ضيقا وحصارا. وبقى الناصر على محاصرتهم خمسة وعشرين يوما، وهو يدأب مع ذلك في استصلاح أمور رعيته، وتأمين سبلهم، وقطع المخاوف عنهم، ويشخص بنفسه إلى مل جهة من جهاتهم.
وفي هذه الغزاة، استجلب الناصر وليَّ عهده وعماد أنسه الحكم المستنصر بالله من قصر قرطبة إلى معسكره، وهو في ذلك الوقت ابن عشرة أعوام وثمانية أشهر ونصف، إذ استوحش له، وتاقت نفسه الكريمة إليه؛ فقدم عليه - أبقاه الله - بهذه المحلة مع ثقات رجاله وفتيانه؛ واستخلف له في القصر أخوه عبد العزيز لينفذ الكتب باسمه إلى وقت منصرفه. فأنس - رحمه الله - به، وسر بقربه. وقفل الناصر من هذه الغزاة يوم الجمعة لست خلون من ربيع الآخر، بعد أن أرتب الوزيرين سعيد بن المنذر وعبد الحميد بن بسيل على حصن اشتين، محاصرين لأهله في كثف من الحشم. ودخل القصر بقرطبة يوم الخميس لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر، وقد استتم في غزاته خمسين يوما.

(2/190)


وفي هذه السنة، ولي خلف الفتى الكبير الطراز.
وفي شوال منها، ولي يحيى بن يونس القبرسي السوق. إذ اعتل أحمد بن بهلول على أبطلته عن الحركة؛ ثم ولي يحيى بن يونس المواريث في ذي القعدة، وولي عبد الله بن محمد الخروبي خزانة السلاح.
وفيها، صلب على الرصيف بباب قصر قرطبة الرامي المعروف بأبي نصر؛ وكان قد ذهب به الصوت في الرماية والإصابة أيام عمر بن حفصون؛ فصلب؛ ثم رمى بالنبل حتى أصيبت جوارحه ومقاتله؛ وبقي في الجذع أياما؛ ثم أحرق.
وفيها، توفي ابن الناصر يسمى بمحمد. وفيها، مات بن حزم العوفي من أهل سرقسطة، في شهر رمضان؛ وكان كثير الرواية، بصيرا باللغة؛ وله رحلة سمع فيها من بعض الفقهاء بالمشرق. وفيها، هلك فلويرة صاحب جليقية، وولي إذفنش؛ ثم ترهب، وولي أخاه رذمير مكانه في سنة 19.
وفي سنة 314، كان إغزاء الناصر - رحمه الله - قواده بالصوائف؛ ولم يكن له غزو بنفسه في هذا العام لمحل كان فيه، وقحط شديد؛ فأخرج عبد الحميد بن بسيل الوزير إلى الثغر الذي كان به بنو ذي النون؛ فأوقع بهم إذ كانوا قد مرقوا عن الطاعة، وأكثروا الفساد في الأرض، والاستطالة على من جاورهم من المسلمين؛ فقتل منهم من استحق القتل، وافتتحت مدينة سرتة؛ وكان أهلها على خلاف وخلعان للطاعة؛ فدرت جبايتها من ذلك الوقت، وصارت بسيل سائر الكور المستقيمة الأحوال. ثم صدر عبد الحميد بن بسيل من ذلك الثغر، وقد استقامت على يديه أحوال أهله؛ فأخرجه الناصر إلى مدينة ببشتر، محاصرا لسليمان بن حفصون في جملة القواد المحاصرين له؛ وأخرج - رحمه الله - أفلح صاحب الخيل مولاه إلى سليمان بن حفصون أيضا؛ فنازله وحاصره، وفتح حصن منت روبي؛ وكان من أمنع معاقله.

(2/191)


ذكر قتل سليمان بن حفصون
وفي هذه السنة، قتل سليمان بن عمر بن حفصون؛ وكان قد ركب وخرج عن مدينة ببشتر معارضا لبعض الحشم المغاورين له من العسكر؛ فتبادرت إليه الخيل من الجهة التي كان فيها عبد الحميد الوزير؛ فصرع سليمان عن فرسه؛ فاحتز رأسه سعيد بن بعلي العريف المعروف بالشفة؛ وكانت قد واقعته قبل ذلك طعان على يدي محمد بن يونس العريف وبعض بني مظاهر العجم؛ وقطعت يداه ورجلاه، وذلك يوم الثلاثاء مستهل ذي الحجة من سنة 314. وبعث الوزير عبد الحميد برأسه وجثته ويديه مبعضة مفترقة؛ فرفعت على باب السدة بقرطبة في خشبة عالية؛ وكان الفتح فيه عظيما سارا لجميع المسلمين.
وفيها، ورد الخبر بهلاك العلج شانجه صاحب بنبلونة.
وكان القحط في هذا العام شديدا، والمحل عاما؛ فاستسقى بالناس الخطيب أحمد بن بقى صاحب الصلاة مرارا؛ ونفذت الكتب إلى الكور في الاستسقاء؛ فوافى نزول الغيث مع رفيع جثة سليمان بن حفصون صليبة على باب السدة. فقالت في ذلك الشعراء أشعارا كثيرة، منها (طويل) :
سَحابٌ يَمُورُ الغَيْثُ وَدِيمةٌ ... دِماء العِدَى تَهمِي بها وتَفلإورُ
غِياثانِ فينا واكِفانِ من الحَبَا ... ولكِن ذا رِجْسٌ وذاكَ طَهورُ
وَذَاكَ نَجِيعٌ لَيسَ يقبلهُ الثَّرى ... وذا ناجِعٌ يَسرِي بِهِ وبَغورُ
تَدَنستِ الدُّنيَا به فتطَهَّرَت ... بُطونٌ لها من رِجِسِهِ وظُهُورُ
وفيها، ولي محمد بن عبد الله الزجالي الوزارة يوم السبت للنصف من جمادى الأولي.

(2/192)


وفيها، عزل أسلم بن عبد العزيز عن قضاء الجماعة بقرطبة لعلة أقعدته وولي أحمد بن بقيّ القضاء مع الصلاة.
وفيها، ولي أحمد بن عبد الوهاب بن عبد الرؤوف خزانة المال. وولي عبيد الله بن عبد الله الزجالي العرض. وولي خزانة السلاح حسين بن محمد بن عاصم، وأحمد بن يحيى بن حسان، وعبد الوهاب بن محمد بن عبد الرؤوف.
وفيها، توفي أصبغ ابن الأمير المنذر، وفيها، توفي محمد بن عمر بن لبابة الفقيه، ليلة الاثنين لخمس بقين من شعبان؛ وكان مولده مستهل رجب سنة 226؛ وكان عالما بالفتيا، حسن الدين، مستقيم الحال من حداثته إلى وقت وفاته.
وفيها، توفي محمد بن عبد الله الخروبي، صاحب المدينة، مستهل صفر؛ وولي المدينة مكانه عيسى بن أحمد بن أبي عبدة بعد وفاته إلى ثمانية أيام.
وفي سنة 315، كان غزو أمير المؤمنين الناصر - رضي الله عنه - إلى مدينة ببشتر لمحاربة حفص بن عمر بن حفصون؛ فبرز لهذه الغزاة يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة 315، وهو اليوم التاسع عشر من نيسان، وفصل غازيا يوم الاثنين للنصف من شهر ربيع الآخر، وهو اليوم الحادي عشر من أيار، وذلك بعد بروزه باثنين وثلاثين يوما. وأغزى مع نفسه ولي عهده الحكم المستنصر بالله، وهو ابن اثنتي عشرة سنة، وتسعة أشهر ونصف، وتخلف في القصر عبد العزيز شقيق ولي العهد، ومن الوزراء أحمد بن محمد بن حدير، وعلى المدينة أحمد بن عيسى مخلفا لأبيه عيسى بن أحمد الوزير. فنزل الناصر بجيوشه وخيله وعدده على مدينة ببشتر يوم الثلاثاء لسبع بقين من ربيع الآخر، وزاد عزما في البنيان عليها، والجد في محاصرتها، وأرتب بها من الفؤاد من يلازمها، وتنقل منها إلى مدينة الحنش؛ فاستنزل من كان فيها، وأخلاها من ساكنيها، وأمر بهدم أسوارها وتعفية آثارها؛ وباشر ذلك ولي عهده مع الحاجب موسى بن محمد مولاه.
ثم أم الناصر حصن شنت بيطر وما قرب منه من الحصون؛ فنازلهم) ،

(2/193)


وقطع ثمارهم وكرومهم، واصطلم معايشهم؛ ثم تنقل بجيوشه إلى مدينة مالقة؛ فنظر بمثل ذلك في الحصون المجاورة لها، وولي مدينة مالقة عبد الملك بن العاصي، وألزم معه جملة من الحشم لمغاورة أهل تلك الحصون، وأمره بحمل السيف على كل داخل إليهم أو خارج عنهم. ثم صدر إلى مدينة ببشتر؛ فاضطرب عليها ثانية من ناحية لماية، ورأى أن البنيان بها من أنكى الأمور للكفرة وأشدها عليهم؛ فأمر ببنيان صخرة للأول تعرف بالمدينة، وقدم لذلك أحمد بن محمد بن إلياس، وصرف إليه كورة تاكرنا، وما اتصل بها من لماية. وألزم عبد الحميد بن بسيل الوزير مكانا يشرف منه على مجمع الطرق، ويحترس فيه بالمنتشرين من أهل العسكر في العلاقات وطلب المرافق، والمختلفين إليه من كل موضع. وأقام بمحلته هذه سبعة أيام، لم يدع فيها للكفرة مرتفقا ولا معاشا. ثم انتقل إلى محلة طلجيرة؛ فعهد بالبنيان فيها، وأقام بها حتى كمل بها شأن مدينة ألزمها سعيد بن المنذر الوزير. ورأى الناصر صرف ولي عهده إلى قصر قرطبة إيثارا لصيانته ومعاودته إلى تأدبه؛ فوجهه مع ثقات رجاله، وفيهم درى بن عبد الرحمن، صاحب الشرطة العليا، ومحمد بن أحمد بن حدير العارض؛ فبلغوه القصر وانصرفوا عن باب السدة إلى العسكر؛ ولم يتقدم أحد منهم إلى داره، ولا دخل منزله، ولا رأى أحدا من أهله. ثم قفل - رحمه الله - يوم السبت لثلاث عشرة ليلة بقيت من جمادى الآخرة، ودخل قصر قرطبة يوم الثلاثاء لعشر بقين من جمادى الآخرة، وقد استكمل في غزاته هذه خمسة وستين يوما.
وفي هذه السنة، أغزى الناصر دُرِّيَّ بن عبد الرحمن، صاحب الشرطة. مولاه، إلى ابن الزيات؛ فلما قرب منه، خرج هاربا؛ وظفر دُرِّي في وجهته هذه بهابل، قائد كان لابن حفصون، وبأصحاب له؛ فأسرهم وأوثقهم بالحديد، وقدم بهم قرطبة؛ فصلبوا في المرج الذي بين يدي القصر، وذلك يوم الأحد لسبع خلون من شهر رمضان.

(2/194)


وفيها، ولي فطيس بن أصبغ الوزارة، وعيسى ابنه الخزانة، وعبد الله بن محمد بن عبد الله الخروبي العرض، وعبيد الله بن عبد الله الزجالي المواريث.

ذكر افتتاح مدينة ببشتر
ولما اشتدت المحاصرة على حفص بن عمر بن حفصون بمدينة ببشتر، وأحبط به بالبنيان عليه من كل جانب، ورأى من الجد والعزم في أمره ما علم ألا بقاء لبه معه في الجبل الذي تعلق فيه، كتب إلى أمير المؤمنين الناصر، يسأله تأمينه والصفح عنه، على أن يخرج عن الجبل مستسلما لأمره، راضيا بحكمه. فأخرج إليه الناصر الوزير أحمد بن محمد بن حدير، وتولى هو وسعيد ابن المنذر إنزاله من مدينة ببشتر. ودخلها رجال أمير المؤمنين الناصر وحشمه، يوم الخميس لسبع بقين من ذي القعدة من السنة. واستنزل حفص والة وجميع النصارى الذين كانوا معه، وقدم بهم أحمد بن محمد الوزير إلى قرطبة مع أهلهم وولدهم. ودخلها حفص في مستهل ذي الحجة؛ وأوسعه أمير المؤمنين صفحة وعفوه، وصار في جملة حشمه وجنده. وبقي الوزير سعيد بن المنذر بمدينة ببشتر ضابطا لها، وبانيا لما عهد إليه من بنيانه وإحكامه منها.
وفيها، مات أحمد ابن الأمير محمد - رحمه الله - بمدينة إستجة. وتوفي الوزير محمد بن عبد الله الزجالي في شعبان، وهو ابن ثلاث وخمسين سنة. وتوفي العارض محمد بن أحمد بن حدير في آخر هذا العام؛ وكان حدثا، قد توجه ذكره، وتمكن محله؛ فعظم أسف الحاجب عمه والوزير أبيه عليه؛ وولي الناصر خطته أخاه موسى بن أحمد بن حدير، وهو صغير، لم يبلغ الحل، تعزية لأبيه وعمه عن المفقود وإحياء لذكره. وفيها، مات أبو سليمان داود بن هذيل ابن منان من أهل طليطلة بقرطبة؛ وكان راوية للنسائي وغيره، وحمل عنه الحديث جماعة من أهل قرطبة.

(2/195)


وفي سنة 316، كان غزاة أمير المؤمنين الناصر إلى مدينة ببشتر، بعد افتتاحها، لتدبير أمرها وإحكام ضبطها؛ ففصل من قرطبة دون بروز، يوم الثلاثاء للنصف من المحرم، وهو السابع من آذار؛ وأغرى مع نفسه وليَّ عهده الحكم المستنصر بالله؛ وتخلف في القصر ابنه عبد العزيز لتنفذ الكتب إليه، ومن الوزراء أحمد بن محمد بن حدير، وعلى المدينة أحمد بن عيسى مخلفا لأبيه عيسى بن أحمد؛ وكان الحاجب موسى بن محمد عليلا، فلم يغز في هذا العام. وكانت الطريق على مدينة إسنجة، ثم إلى أشونة. واحتل بحصن ببشتر يوم الأحد لعشر بقين من المحرم؛ فدخل المدينة، وجال في أقطارها، وعاين من شرفها وحصانتها، وعلو مرتقاها، وانقطاع جبلها مع جميع جهاته، ما أيقن معه ألا نظير لها في الأرض حصانة ومنعة واتساع قراراة. فأكثر من حمد الله - عز وجل - على ما افتتح له منها، ويسر له فيها؛ والتزم الصوم أيام مقامه بها. ثم دبر بنيان قصبتها على أحسن ما دبره وأحكمه في غيرها؛ وفرق رجاله على هدم كل حصن كان حواليها وعلى الديارات الخارجة عنها. وأمر بنبش جيفتي عمر بن حفصون وابنه؛ فكشفت قبورهما؛ فألقيا مدفونين على ظهورهما، كما يتدافن النصارى؛ وشهد ذلك عامة الفقهاء الغازين مع الناصر - رحمه الله -، وأيقن جميع من شهد ذلك بهلاكهما على دين النصرانية؛ فأستخرجا من لحودهما، وأتى بأعطمهما الرجسة إلى باب السدة بقرطبة؛ فرفعت في جدوع عالية إلى جنب الملحد سليمان بن عمر، وصاروا عظة للناظرين، وقرت بهم عيون المسلمين.
وقلد الناصر أمر مدينة ببشتر والضبط لها وإكمال البنيان فيها سعيد بن المنذر. واستنزل أهل حصون شنت بيطر ويمارش وجطرون وغيرها من المعاقل، وهبطوا من أجبلهم، وتفرقوا في بسيطهم، واستقصيت الحصون خرابا ونسفا؛ ولم يبق للنصرانية بتلك الجهة حصن مذكور، ولا معقل معمور. وعادت

(2/196)


كورة رية، على كثرة ما كان فيها من الحصون المانعة والمعاقل القائمة، ليس فيها جبل مضبوط، ولا بها عدو محذور. واحتمل على مثل ذلك في حصون تاكرنا وحصون مغيلة، إلا ما وجب التمسك به منها. ونظر في إزعاج من وجب إزعاجه إلى قرطبة، ممن كانت نفسه تائقة إلى الفتنة، ليكون الناس أمة واحدة، ورعية ساكنة وادعة. وقدم عبد الحميد بن بسيل الوزير إلى كورة شذونة، لهدم حصونها، وتبسيط أهلها، وجمعهم إلى مدينة قلسانة، التي هي قاعدة الكورة. وأمر باستنزال بني داود عن الحصون التي كانوا فيها، وولاها من عماله وثقات رجاله من يحسن السيرة في رعية تلك الجهة. وكانت سفرته أيمن سفره، وأجمعها لكل خير وصلاح. والحمد لله! ثم قفل بوم الأحد لخمس خلون من صفر؛ فدخل منية الناعورة يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر، وقد استتم في سفرته هذه ستة وعشرين يوما.
وفيها، افتتح أحمد بن إسحاق القائد القرشي مدينة لفنت من تدمير، ومدينة قليوشة؛ واستنزل عنها وعن القصاب التي كانت حواليها بني الشيخ، وقدم بهم إلى قرطبة، يوم السبت لأربع عشرة ليلة بقيت من شعبان. واستنزل في هذا العام بنو أبي جوشن من معاقل بلنسية، وكانوا في نحو ستين رجلا، وقد أهملوا أنفسهم في الفتنة، وتعرضوا لما نزل بهم من النقمة؛ فأمر الناصر بتمييز أهل الجرائر منهم، والتشريد بهم؛ فقدم من استحق القتل منهم إلى المرج بين يدي قصر قرطبة، وضربت رقابهم فيه يوم دخولهم.
وفي هذه السنة؛ عزل فطيس بن أصبغ عن الوزارة، وولي أحمد بن عبد الوهاب بن عبد الرؤوف المدينة وعزل عنها عيسى بن أحمد بن أبي عبدة؛ وقيل ذلك ما كان عزل جميع خزان المال، وكانوا خمسة، وهم: سعيد بن سعيد بن حدير، وأحمد بن موسى بن حدير، وأحمد بن عبد الوهاب المنقول إلى المدينة، وخالد بن أمية بن شهيد، وعيسى بن فطيس؛ وولي الناصر مكانهم أربعة خزان، وهم: محمد بن جهور، وأحمد بن عيسى بن أبي عبدة، وعبد الرحمن بن عبد الله الزجالي، وأحمد بن محمد بن أبي قابوس.

(2/197)


وفيها، أمر الناصر بإقامة دار السكة داخل مدينة قرطبة، لضرب الدنانير والدراهم؛ وولي الخطة أحمد بن موسى بن حدير يوم الثلاثاء عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان؛ وأقام الضرب فيها من هذا التأريخ من خالص الذهب والفضة؛ وصحح في ذلك أحمد بن موسى وتحفظ. وكانت مثاقيله ودراهمه عيارا محضا.
وفيها، خرج أحمد بن إلياس القائد غازيا إلى كور الغرب؛ فافتتح مدينة ماردة، ومدينة شنترين بلا حرب، ونزلوا إليه بالأمان، ووفاهم غاية الإحسان.
وفي هذه السنة، رأى الناصر أن تكون الدعوة له في مخاطباته والمخاطبات له في جميع ما يجري ذكره فيه، بأمير المؤمنين، لما استحقه من هذا الاسم الذي هو له بالحقيقة، ولغيره بالانتحال والاستعارة؛ فهو أبر أمراء المؤمنين والهداة الفاضلين، والأبرار المنقين، من كل منتخب في المشرق والمغرب، وقائم بالحق، وسالك لسبيل الهدى والرشد؛ فعهد إلى أحمد بن بقيّ القاضي صاحب الصلاة بقرطبة بأن تكون الخطبة يوم الجمعة مستهل ذي الحجة بذلك. ونفذت الكتب إلى العمال فيه، بما اجتلبنا نسخته لما فيها من إيعاب القول، واستبقاء الحجة، وظهور الحقيقة. ونسخة الرسالة النافذة في ذلك: بسم الله الرحمن الرحيم. أما بعد، فإنا أحق من استوفي حقه، وأجدر من استكمل حظه، ولبس من كرامة الله ما ألبسه، للذي فضلنا الله به، وأظهر أثرتنا فيه، ورفع سلطاننا إليه، ويسر على أيدينا إدراكه، وسهل بدولتنا مرامه، وللذي أشاد في الآفاق من ذكرنا، وعلو أمرنا، وأعلن من رجاء العالمين بنا، وأعاد من انحرافهم إلينا، واستبشارهم بدولتنا. والحمد لله ولي النعمة والإنعام بما أنعم به، وأهل الفضل بما تفضل علينا فيه! وقد رأينا أن تكون الدعوة لنا بأمير المؤمنين، وخروج الكتب عنا وورودها علينا بذلك، إذ كل مدعو بهذا الاسم غيرنا منتحل له، ودخيل فيه، ومتسم بما لا يستحقه. وعلمنا أن التمادي على ترك الواجب لنا من ذلك حق أضعناه، واسم ثابت أسقطناه. فأمر الخطيب

(2/198)


بموضعك أن يقول به، وأجر مخاطباتك لنا عليه، إن شاء الله. والله المستعان! وكتب يوم الخميس لليلتين خلتا من ذي الحجة سنة 316.
وفيها، عزل أفلح ودرى موليا الناصر عن الخيل والشرطة. وولي الخيل عبيد الله الزجالي، والشرطة أحمد بن أبي قابوس. ثم أعيد أفلج إلى الخيل، ودريٌّ إلى الشرطة بعد شهر.
وفيها، تولي إبراهيم بن محمد بن اللبرقي خطة العقل.
وفيها، عزل غالب بن محمد بن عبد الرؤوف عن خطة الضياع، ووليها محمد بن عبيد الله بن مضر، في انسلاخ جمادى الآخرة. ثم عزل عنها ابن مضر، ووليها خلف بن أيوب بن فرج الكاتب؛ وكان يكتب للحاجب موسى بن محمد، وذلك لإحدى عشرة ليلة خلت من ذي الحجة.
وفيها، توفي محمد ابن الإمام المنذر؛ وتوفي أحمد بن يحيى بن قاسم بن هلال الفقيه؛ وكان منقبضا، خيرا، صالحا، بصيرا بالوثائق وعللها؛ وتوفي سعيد ابن إبراهيم الفقيه، وكان يلبي الصلاة بكورة رية؛ وتوفي محمد بن هشام القرشي المعروف بابن الشبانسية بكورة شذونة، وهو وعاملها.
وفي سنة 317، كان ظهور المحل، واحتباس الغيث، وغلاء الأسعار؛ فعهد الناصر بالاستسقاء بجامع قرطبة يوم الجمعة لليلة بقيت من المحرم، وذلك في شهر آذار. واتصل الاستسقاء في الجامع ومصلى الربض ومصلى المصارة.
وفيها، كانت غزاة الناصر إلى مدينة بطليوس، لمحاربة أهلها وابن مروان المنتزي عليه فيها؛ فبرز - رحمة الله عليه - لغزاته هذه يوم الخميس لعشر خلون من ربيع الأول، وهو اليوم الثالث عشرين من نيسان؛ وفصل من قصر قرطبة يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من ربيع الآخر، وهو اليوم الرابع عشرين من أيار، وذلك بعد بروزه بأحد وثلاثين يوما. وأغزى معه ولي عهده الحكم المستنصر بالله، وابنه منذرا، وتخلف في القصر ابنه عبد العزيز لتنفذ الكتب إليه، ومن الوزراء أحمد بن محمد بن حدير، وعلى

(2/199)


المدينة أحمد بن عبد الوهاب بن عبد الرؤوف. وكان احتلاله بالجيوش على مدينة بطليوس يوم الخميس لسبع بقين من ربيع الآخر. وواضعهم الحشم القتال في أفنيتهم وعلى أبواب دورهم، وتقحموا عليهم داخل أرباضهم، وقتلوا منهم في ثاني احتلالهم عليهم جملة بعثت رؤوسهم إلى قرطبة. وقطعت ثمارهم، وأحرق ما أخلوه من ديارهم خارج سورهم؛ وبقوا محصورين في المدينة. وأقام عليهم الناصر عشرين يوما؛ ثم أبقى عليهم أحمد بن إسحاق في قطيع من الجند، وانتقل إلى جهة ماردة؛ فأصلح الأحوال بها، وولاها محمد بن إسحاق، وندب معه عدة من الحشم) . ثم عاد - رحمه الله - إلى مدينة بطليوس؛ فاضطربت عساكره عليها من غير الجهة التي كانت اضطربت فيها أولا؛ وتولي من نكايتهم وأليم محاصرتهم، ما أذاقهم به وبال عصيانهم، وعاقبة غيهم، وضلالهم. ثم أرتب عليهم أحمد بن إسحاق قائدا في جيش كثيف، ورجال منتقين، وعدد كاملة، وأمره بالتشدد في حصرهم، والاستبلاغ في مضايقتهم. وانتقل ناهضا إلى مدينة باجة؛ فنزلها يوم الأحد مستهل جمادى الآخرة، واضطربت عساكره عليها، وتقدَّم بالإعذار إلى عبد الرحمن بن سعيد بن مالك الذي كان بها، ودعاه إلى الطاعة؛ فلاذ والتوى؛ فتصبت المجانيق عليه، وحورب أشد محاربة، وقتل من رجاله عدد كثير. وانحطت بعض أبراج المدينة بمن كان عليها؛ فضربت رقابهم بين يدي المظل؛ فاستأمن عبد الرحمن بن مالك، وأهله، وجميع أهل باجة أمير المؤمنين الناصر، وخضعوا لأمره، ونزلوا على حكمه؛ فأوسعهم أمانه، وأخرجوا عن المدينة، ونقلوا إلى قرطبة. ودخلها الناصر، وولاها عبد الله بن عمر بن مسلمة، وندب معه فيها قوة، وأكتف له الجمع والعدة، وأمره بابتناء قصبة فيها، ينفرد بها العامل ويسكنها.
وكان مقام الناصر على باجة خمسة عشر يوما. ثم انتقل منها قاصدا إلى مدينة أكشونبة بقرب الساحل الغربي من البحر المحيط؛ فاحتل بها يوم الاثنين لسبع بقين من جمادى الآخرة؛ وكان قد افتتح في طريقه حصن الوقاع، وأصاب فيه

(2/200)


لخلف بن بكر صاحب أكشونية أموالا وعدة وسلاحا؛ فغنم ذلك الحشم وأهل العسكر، وصار لهم نقلا. ثم تلقى رسل خلف بن بكر أمير المؤمنين، مظهرا للإنابة، وملتزما للطاعة، ومتوسلا ببعد الدار والقاصية، وأخرج إلى الناصر النزائل، وأقام له الوظائف، والتزم إدرار الجباية الكاملة؛ وأظهر أهل ذلك الجانب فيه رغبة شديدة، ووصفوه بسيرة حميدة، فأقره الناصر عليهم، وفرض عليه من الجباية ما التزم إيراده له في كل عام، وعهد إليه بحسن السيرة، والرفق بالرعية، وألا يقبل نازعا، ولا يكتنف هاربا؛ فالتزم جميع ما أمر به، ووقف عندما حد له.
وقفل الناصر عن مدينة أكشونبة يوم السبت لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة، ودخل القصر بقرطبة يوم الأحد لأربع عشرة ليلة خلت من رجب، وقد استتم في غزاته ثلاثة وتسعين يوما.

مطالعة أمير المؤمنين الناصر لببشتر في الشتاء
وفي هذه السنة، كانت للناصر خرجة من قصر الناعورة، طالعا لببشتر ومعاينا لما قام من البنيان بها، وما تم من ترتيبه فيها. وكان خروجه من منية الناعورة يوم الخميس لثلاث عشرة ليلة خلت من شوال، ونزوله بجبل ببشتر يوم الخميس لعشر بقين منه. فدخل المدينة، وجال فيها، وأحكم ما له قصد من أمرها؛ ثم صدر عنها في اليوم الثاني، ودخل القصر بالناعورة يوم الثلاثاء لأربع بقين من شوال؛ وكانت مدَّة توجهه وانصرافه ثلاثة عشر يوما.
وترددت الفتوحات في هذا العام بوقائع كانت على أهل بطليوس؛ وبعث أحمد بن إسحاق من أهلها بسبعين أسيرا، وقتلوا صبرا بين يدي قصر قرطبة.
وافتتحت فيه مدينة شاطبة من بلنسية، واستنزل عنها عامر بن أبي جوشن على يدي دريّ بن عبد الرحمن صاحب الشرطة؛ واشترط عامر بسكنى شنت برية، حتى يأخذ في انتقال ثقله وعياله إلى قرطبة.
وفي هذه السنة، ولي الناصر عبد الملك بن عمر بن شهيد، وعيسى بن أحمد

(2/201)


ابن أبي عبدة الوزارة، وسعيد بن سعيد بن حدير الشرطة الوسطى؛ ولم تكن قبل هذه الخطة؛ وفيها، ولي خالد بن أمية بن شهيد الخزانة ولاية ثانية، وولي عبد الرؤوف بن أحمد بن عبد الوهاب خطة العرض.
وفي سنة 318، كان افتتاح مدينة بطليوس وذلك أن أهلها وابن مروان صاحبها، لما أخذهم الحصار، وطاولتهم الحرب، وفنى رجالهم، واستبيحت نعمهم، وقطعت ثمراتهم، ورأوا عزما لا فترة فيه، وجدا لا بقاء لهم عليه، استأمنوا الناصر، وعاذوا بصفحه؛ فأوسعهم ما أوسع أمثالهم قبلهم. واستنزل ابن مروان الجليقي وأهله، وذوى الشوكة من صحبه، وأسكنهم قرطبة، وألحقهم في الملاحق السنية؛ وملك المدينة وولاها عماله، وصارت بسيل كوره.
وفيها، أخرج الناصر لدين الله أهل الثقة من خدمته، والأمانة والتصحيح من فقهاء مصره إلى أهل طليطلة، معذرا إليهم، داعيا لهم إلى الطاعة والدخول فيما صارت إليه الجماعة، إذ كانوا لا يؤدون جباية، ولا يلتزمون طاعة، ولا يتناهون عن منكر ولا معصية؛ فازوا بمعاذير المخادعة، وجاوبوا الناصر بما لم يضغ إليه من غشهم وتمريضهم؛ فاستعزم على غزوهم، وشمر لمناهضتهم وإنزال بأسه بهم. وبرز للغزو في الصائفة إليهم في صدر ربيع الآخر سنة 318، وفي شهر نيسان من العام المؤرخ. وقدم الوزير سعيد بن المنذر إلى مدينة طليطلة في جيش كثير وعدد جم، وأمره بالاحتلال عليها والمحاصرة لها، حتى يلحق الناصر بجيوشه وصنوف حشمه بها. فخرج إليها الوزير يوم السبت لثمان بقين من ربيع الآخر، وأغذ السير نحوها، حتى نزل بساحتها. وأخذ في ما حد له من محاصرتها بأبلغ عزم وأتم حزم؛ ثم فصل أمير المؤمنين إلى مدينة طليطلة يوم الخميس لليلتين خلتا من جمادى الأولى، وهو التاسع عشرين من أيار؛ وأغزى مع نفسه ولي عهده الحكم المستنصر بالله ومنذرا ابنه؛

(2/202)


وتخلف في القصر أبنه عبد العزيز لتنفذ الكتب إليه، ومن الوزراء أحمد بن محمد بن حدير، وعلى المدينة أحمد بن عبد الوهاب بن عبد الرؤوف.
فلما احتل - رحمه الله - في طريقه بمحلة الغدر، وقرب من حصن مورة الذي كان اتخذه أهل طليطلة شجا على المسلمين ومسترحا للمفسدين، وقدموا عليه منهم مطرف بن عبد الرحمن بن حبيب، قدم إليه من أنذره وخوفه، وأمره بالخروج عن الحصن وإسلامه. فبدر إلى ذلك بدرا لم يجد منه بدا، ولا في الامتناع طمعا؛ ونزل عن الحصن. وأمر الناصر بضبطه؛ ثم نهض بجيوشه المؤيدة، وعزيمته الماضية، حتى احتل محلة جرنكش بقرب طليطلة، وذلك يوم الثلاثاء لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولي. فأشرف من محلته هذه على سهلة طليطلة ونهرها، وأجنتها وكرومها؛ ودبر رأيه في أمكن المواضع من محاصرتها، وأقرب الجهات الآخذة بمخنق أهلها؛ فرأى النزول بمحلة المقبرة على باب المدينة أبلغ في النكاية، وأشد في المضايقة؛ فارتحل إليها في اليوم الثاني، وأخذ في نكاية العصاة، بما لم يجر لهم على ظن) . وأقام بهذه المحلة سبعة وثلاثين يوما، يوالي فيها بنكايتهم، وقطع ثمراتهم، وتخريب قراهم، وانتساف نعمهم، وتحطيم زروعهم. ثم أمر بالبنيان في جبل جرنكش لمدينة سماها بالفتح، وأرتب لبنيانها سعيد بن المنذر الوزير، وأمر بنقل الأسواق إليها، والتمدين لها، لتكثر مرافق أهل العسكر بها؛ وأرتب محمد بن سعيد بن المنذر على باب القنطرة في جمل من الحشم، وعهد إليهما بالاستبلاغ في محاربة القوم. وقدم على الناصر بمحلته على طليطلة صاحب حصن قنيلش وصاحب حصن الفهمين، معتصمين بطاعته؛ فأمر بنقلهما إلى قرطبة، والتوسع عليهما، ومكافأة نزوعهما وقصدهما. ثم قفل الناصر عن مدينة طليطلة يوم الخميس لست بقين من جمادى الآخرة، ودخل القصر بقرطبة يوم الأثنين لأربع خلون من رجب، وقد استتم في غزاته أحدا وستين يوما.
وفي هذه السنة، ولي المواريث طرفة بن عبد الرحمن صاحب المطبخ؛ وولي خزانة السلاح أحمد بن أبان بن هاشم، وحفص بن سعيد بن جابر.

(2/203)


وفيها، مات الناصر ابن يسمى بمحمد. وفيها، مات أمية بن محمد بن أمية ابن عيسى بن شهيد. وفيها، توفي هاشم بن محمد النجيبي. وفيها، توفي محمد بن إبراهيم بن الجباب الفقيه، صاحب الوثائق، يوم الاثنين لثلاث خلون من شهر رمضان؛ وتوفي صهيب بن منيع قاضي إشبيلية؛ وتوفي أبو غالب مروان بن عبيد الله بن بسيل.
وفي سنة 319، أبرز السرادق والأبنية إلى المضطرب المعروةف بفحص السرادق بجوني النهر الأعظم؛ ثم برز الناصر إلى هذه المحلة لغزاة نواها إلى مدينة طليطلة؛ ولم يتم عزمه عليها إذ استغنى بالقواد المرتبين على المدينة، المحاصرين لأهلها؛ وأكتف للقواد بها الخيل والعدة، وأمدهم بالسلاح، وأكد بصائرهم في الجد والعزم والاستبلاغ في نكاية المفسدين المغترين من أهلها.
وفي سنة 319، كاتب موسى بن أبي العافية، صاحب الغرب، أمير المؤمنين الناصر، ورغب في موالاته، والدخول في طاعته، وأن يستميل له أهواء أهل الغرب المجاورين له؛ فتقبله أحسن قبول، وأمده بالخلع والأموال، وقوى أيده على ما كان يحاوله من حرب ابن أبي العيش وغيره. فظهر أمر موسى من ذلك الوقت في الغرب، وتجمع له كثير من قبائل البربر، وتغلب على مدينة جراوة، وأخرج عنها الحسن بن أبي العيش بن إدريس العلوي؛ وجرت بينهما حروب عظيمة.
وفيها، افتتح الناصر مدينة سبتة؛ فشكها بالرجال، وأتقنها بالبنيان. وبنى سورها بالكذان، وألزم فيها من رضيه من قواده وأجناده؛ وصارت مفتاحا للغرب والعدوة من الأندلس، وباب إليها كما هي الجزيرة وطريف مفتاح الأندلس من العدوة. وقامت الخطبة فيها باسم أمير المؤمنين الناصر، لثلاث خلون لربيع الأول من العام المؤرخ.
وفيها، اتصل بالقواد المحاصرين لطليطلة أنَّ العدو بذلك الجانب عملوا على الخروج لافتراض غرَّة في بعض ثغور المسلمين؛ فنفر إليهم الوزير أحمد بن

(2/204)


محمد بن حدير من قرطبة في جملة من الحشم ومن خف من المسلمين؛ فلما بلغ أعداء الله خروجه، توقفوا عن حركتهم، وقرُّوا في بلادهم؛ وكفى الله المؤمنين معرتهم. فبلغ القائد أحمد بن محمد بن حدير طليطلة، ونازلها مع القواد المرتبين فيها.
وفيها، خرج بالأسطول أحمد بن محمد بن إلياس، ويونس بن سعيد قائدين في البحر، يوم السبت لليلتين خلتا من جمادى الأولي، في عدة، ومراكب جملة، ورجال كثير، وصنوف من البحريين والمقاتلين؛ فجازا مرسى الجزيرة، واحتلا العدوة، وحاصروا ابن أبي العيش، إذ كان على مخالفة لمن دخل في طاعة أمير المؤمنين من أهلها، ومحاربة لموسى بن أبي العافية وليه ومقيم دعوته والداخل في طاعته؛ ثم حال الشتاء بينهما وبين التمادي على الحصار والمطاولة؛ فقفلا بالأسطول ومن فيه.
وفيها، عزل أحمد بن عبد الوهاب بن عبد الرؤوف عن المدينة، وقدم إلى الوزارة؛ وولي المدينة يحيى بن يونس القبرسي وذلك في غرة جمادى الأولي. ثم عزل يحيى بن يونس عنها، وكانت فيه حدة ومحارجة لأهل الجرم، ووليها عبد الحميد بن بسيل الوزير في شوال.
وفيها، ولي خطة العرض عبد الوهاب بن محمد بن عبد الرؤوف، وولي الضياع محمد بن عبد الله بن مضر، وعبد الله بن معاوية بن بزيل مشتركين.
وفيها، ولي الناصر، من تحت يدي ولي العهد المستنصر بالله، أحمد بن هاشم بن أحمد بن هاشم مولاه عمالة عبلة وفنيانة من إلبيرة.
وفيها، مات أبو الجعد أسلم بن عبد العزيز بن هاشم بن خالد بن عبد الله بن خالد بن عبد الله بن حسين بن جعد بن أسلم بن أبان بن عمرو مولي عثمان بن عفان - رضي الله عنه -؛ وكان قاضي الجماعة بقرطبة، وله رحلة وسماع؛ وكانت فيه صلابة وإنفاذ للحق على وجوهه؛ وعزل عن القضاء قبل وفاته إذ أخذه

(2/205)


الكبر، وضعف عن القعود للأحكام؛ وكانت وفاته يوم الأربعاء لست خلون من شعبان، وهو ابن سبع وثمانين سنة.
ومات في هذا العام فضل بن سلمة الفقيه البجاني، وكان له سماع وتأليف حسن؛ وتوفي محمد بن فطيس الفقيه المحدث بإلبيرة؛ وتوفي أحمد بن حامد الزجالي في جمادى الأولى.
وفيها، ماتت السيدة ابنة الإمام عبد الله لثمان بقين من ذي الحجة؛ وكانت قد نافرت أمير المؤمنين الناصر أيام حداثته وقبل إفضاء الخلافة إليه، وهو حينئذ ولد في القصر بين يدي الإمام عبد الله جده؛ وطالبته وآذنه عند أبيها عبد الله الإمام؛ فلما ولي الناصر، لم تشك في معاقبته لها، ومجازاته لسوء معاملتها؛ فكان الأمر على خلاف ظنها؛ وقرب الناصر مكانها، ورفع منزلتها، واختصها في جملة من اختص من أهله وبنات أعمامه، حتى صارت أقربهن محلا منه.
وفيها، توفي عبيد الله بن فهر، وكان متصرفا في العمالات والقيادة، وذلك يوم السبت لثمان عشرة ليلة خلت من ذي الحجة.
وفي سنة 320، كان غزو الناصر إلى مدينة طليطلة، غزاته الثانية التي فتحت فيها عليه، فبرز لهذه الغزاة في صدر جمادى الآخرة سنة 320، في شهر حزيران من العام المؤرخ، وفصل يوم السبت لأربع عشرة ليلة خلت من رجب، وهو اليوم الحادي عشر من تموز، مع وليّ عهده الحكم المستنصر بالله أمير المؤمنين. وتخلف في القصر ابنه عبد العزيز لتنفذ الكتب إليه؛ ومن الوزراء أحمد بن محمد بن حدير، وعبد الحميد بن بسيل، وكان صاحب المدينة.
وكان أهل طليطلة، لما أخذهم الحصار، واشتد عليهم التضييق، ولازمهم القواد، قد استجاشوا بالمشركين، واستنجدوهم، ورجوا نصرهم لهم؛ فلم يغنوا عنهم فتيلا، ولا كشفوا عنهم عذابا، ولا جلبوا إليهم إلا خزيا وهوانا. وخرج الفؤاد المحاصرون لهم إلى الكفرة؛ فهزموهم، وفرقوا جموعهم، وانصرفوا مولين

(2/206)


على أعقابهم، خاذلين لمن انتصر بهم، ورجا الغياث من قبلهم. فلما يئس أهل طليطلة أن ينصرهم أحد من بأس الله الذي عاجلهم، وانتقامه الذي طاولهم، عاذوا بصفح أمير المؤمنين، وسألوه تأمينهم، وضرعوا إليه في اغتفار ذنوبهم؛ فخرج لاستنزال أهل طليطلة، وتوطيد طاعته فيها، وإحكام نظره بها، في التاريخ الذي قدمنا ذكره؛ فنزل عليها بمحلة جرنكش، يوم الأربعاء لخمس بقين من رجب؛ وقد كان بدر إليه ثعلبة بن محمد بن عبد الوارث مقدمها، وتلقاه قبل نزوله بها، معترفا بجهله، ومستقبلا من زلته؛ فعفا عنه الناصر، وعاد عليه بفضله. ثم أمن أهل طليطلة، وخرجوا إلى العسكر، ونالوا المرافق فيه، وابتاعوا المعايش التي طال ما أجهدهم عدمها، ومنعهم الحصار منها؛ فعرفوا غبطة ما صاروا إليه من الأمن بعد الخوف، والسعة إثر الضيق، والانبساط بعد طول الانقباض. ثم ركب الناصر إلى مدينة طليطلة في اليوم الثاني من نزوله بمحلته عليها، ودخلها، وجال في أقطارها؛ فرأى من حصانتها، وشرف قاعدتها، وانتظام الأجبل داخل مدينتها، وامتناعها من كل الجهات بواديها ووعرها، وطيب هوائها وجوهرها، وكثرة البشر بها، ما أكثر له من شكر الله عز وجل على ما منحه فيها، وسهل له منها؛ وعلم أنه، لولا ما أخذ به من الجد والعزم في أمرها، لما ملكت مع حصانتها ومنعتها مع اتساعها وانفساح أقطارها، ولما اعتاده أهلها من مداخلة المشركين وموالاتهم، والاستمادا على الخلفاء بهم؛ فكم أعيت الملوك، وامتنعت من العساكر، وانصرفت عنها الصوائف بغير نجح؛ ولكن فضل الله عز وجل الذي أعطاه أمير المؤمنين، وصنعه له، وتأييده إياه أجرى افتتاحها على يديه. ثم دب فيها بناء محكما متقنا، ليكون مستقرا للقواد الملازمين فيها، وزماما على ساكنيها؛ وأرتب على البنيان بها دريّ بن عبد الرحمن قائده، وملأها رجالا وعدة وسلاحا. وركب إليها الناصر، وأمر بهدم ما وجب هدمه في المدينة، وتردد عليها ثمانية أيام حتى أكمل فيها ما دبره، وهذب ما أراده. وفتحت أسوس البنيان الذي أمر به؛

(2/207)


واطمأنت بأهل المدينة الدار، وفتحوا الحوانيت، وانتشروا في الأسواق؛ وانبسطوا في أفنيتهم وأبواب مساجدهم، آمنين، والحمد لله. ثم قفل الناصر عن محلته بطليطلة، يوم السبت لست خلون من شعبان، ودخل القصر بقرطبة يوم السبت لعشر بقين منه، وقد استتم في غزاته ستة وثلاثين يوما.
وفيها، صنع الناصر لضروب رجاله ومواليه وصنوف أجناده وحشمه ممن شاهد فتح طليطلة معه، ووافق ذلك تطهيره لبعض بنيه الأصاغر.
وفيها، عزل عن خزانة المال محمد بن عبد الله بن حدير، وعبد الرحمن ابن عبد الله الزجالي، ونقل أحمد بن عيسى بن أبي عبدة عن الخزانة إلى قيادة بجانة. وأقر من الخزان خالد بن أمية بن شهيد، ومحمد بن جهور بن عبد الملك؛ وولي مكان المعزولين عنها سكن بن إبراهيم، وأحمد بن محمد ابن مستنبر.
وفيها، ولي الخال سعيد بن القاسم خطة العرض.
وفيها، ولي المدينة فطيس بن أصبغ لإحدى عشرة ليلة هلت من شوال.
وفيها، ولي العرض محمد بن قاسم نبن طملس. وفيها، ولي السكة يحيى بن القرسي، وذلك يوم السبت لأربع خلون من شوال؛ وعزل هذا النهار عنها أحمد بن محمد بن موسى بن حدير.
وفيها، توفي أحمد بن أبي نوفل القرشي، وهو أحمد بن محارب بن قطن ابن عبد الواحد بن قطن بن عصمة بن أنيس بن عبد الله بن جحوان بن عمرو بن حبيب بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر، وكان منقبضا متزهدا، وبلغ من السن خمسا وسبعين سنة.
وفيها، مات الحاجب موسى بن محمد بن حدير، للنصف من شهر صفر ليلة الأحد، بعد صلاة المغرب، وبلغ من السن خمسا وستين سنة. وفيها، توفي عبيد الله بن عبد الله الزجالي، وكان على المواريث والبنيان، في رمضان،

(2/208)


وهو ابن إحدى وأربعين سنة. وفيها، مات أحمد بن محمد الزجالي، وكان قد تصرف في الخدمة، وله أدوات وحركة؛ وتوفي فيها عمران بن أبي عمر المتطيب، وكان قد كف بصره، وهو من المتظرفين المتطيبين، وصحب الملوك، وخف على أمير المؤمنين الناصر؛ وكان يوصله ويحضره مجالس راحته، وهو أعمى) .
وفي سنة 321، وصل الخبر إلى قرطبة بولاية أبي المنصور بن المعتز مدينة سجلماسة، وهو غلام ابن ثلاث عشرة سنة؛ فمكث في ولايته شهرين، وقام عليه ابن عمه محمد بن الفتح، وأخرجه منها، وتملكها، وتسمى بأمير المؤمنين، وتلقب بالشاكر لله، وذلك بعد مدَّة نحو من عشرين سنة، وضرب الدنانير الشاكرية.
وفي سنة 322، وصل الخبر إلى قرطبة بوفاة أمير إفريقية عبيد الله الشيعي الملقب بالمهدي، وتقدم ولده أبي القاسم المتلقب القائم بأمر الله.
وفي سنة 323، وصل إلى مدسنة فاس ميسور الصقلي قائد أبي القاسم الشيعي أمير إفريقية؛ فحاربه أهل فاس سبعة أشهر، ولم يقدر عليهم؛ ثم حاصر ابن أبي العافية، واستعان عليه ببني إدريس؛ فانجلى ابن أبي العافية إلى الصحراء، وصار جميع ما كان لابن أبي العافية لبني إدريس؛ وقد تقدم خب بني إدريس.
وفي سنة 324، ظهر أبو يزيد مخلد بن كيداد بإفريقية على أبي القاسم الشيعي، وذلك في جبل أوراس، وفيه قلاع كثيرة يسكنها هوارة وغيرهم، وهم على رأي الخوارج.
وفي سنة 325، أمر الناصر ببناء مدينة الزهراء؛ وكان يصرف فيها من الصخر المنجور ستة آلاف صخرة في اليوم، سوى التبليط في الأساس، على ما أذكره بعد.

(2/209)


وفي سنة 327، قام بالغرب الأقصى أبو الأنصار بن أبي عقير البرغواطي بعد موت أبيه؛ وكان يفي بالعهد والوعد، وهو الذي بعثه عقير البرغواطي رسولا إلى الحكم المستنصر بالله، ابن أمير المؤمنين الناصر.
وفي سنة 329، استتم القائد أحمد بن محمد بن إلياس مدينة سكتان، وشحنها بالرجال، وأتخذ فيها الأطعمة والأسلحة؛ فأخرج الناصر إليها أحمد بن بعلي قائدا في ضروب من الحشم، ضمهم إليه؛ فنفذ إليها في صفر من هذه السنة؛ فلما كان في غرة جمادى الأولي منها، وافى فتح من قبل أحمد بن بعلي القائد بسكتان الحديثة؛ بدخول كان له منها إلى جهة من عمل الطاغية ردمير؛ فقتل وسبى وأسر، وأرسل مع كتابه إلى قرطبة مائتي علج أسراء؛ وكان هذا أول فتح لابن بعلي أذل به الطاغية ردمير.
وفي سنة 330، في المحرم من هذه السنة، طلع كوكب الزباني في الأفق الغربي بقرطبة إزاء العقرب، منحرفا عنها، يكاد يتصل بالفلكة العليا في رأي العين؛ وكان أول ليلة لاح فيها للأنصار ليلة السبت لثلاث بقين من المحرم منها، وهي ليلة ست عشرة خلت من أكتوبر؛ وتمادى طلوعه مستعليا مكبرا في السماء حتى توارى.
وفي سنة 331، في يوم الخميس لخمس خلون من صفر منها، دخل الوزير القائد أحمد بن إلياس إلى قرطبة قافلا عن غزاته إلى الثغر التي خرج إليها في عقب شوال من سنة 330 قبلها، إلى ثلاثة أشهر ويومين من خروجه عنها؛ ودخل في سفرته هذه كورة تدمير؛ فأزال الالتباث الواقع من أهلها إزالة، وقدم برهائن بعضهم؛ وكان أثره جميلا.
وفيها، كان المدُّ العظيم بنهر قرطبة، الثالم لقنطرتها.

(2/210)


وفي سنة 332، أغزى الناصر لدين الله القائد أحمد بن محمد بن إلياس إلى جليقية؛ فدخل دار الحرب؛ فغنم، وأحرق جملة من حصونهم هنالك، وقفل راجعا.
وفيها، كانت زلزلة عظيمة بقرطبة، ليلة الأثنين لتسع خلون من ذي القعدة؛ قلم ير قط مثلها ولا سمع من قوتها؛ ووقعت بعد العشاء الآخرة؛ فدامت ساعة؛ ففزع أهل قرطبة لها فزعا شديدا، ولجئوا إلى المساجد فيها، وضجوا بالدعاء إلى الله تعالى في كشفها، حتى أغاثهم وصرفها عنهم. وفي صبح ليلة الزلزلة، هبت ريح عاصف ردفتها أخرى؛ فاقتلعا كثيرا من شجر الزيتون والتين وغيرهما من الأشجار والنخيل، وأطارا كثيرا من قرمد السقف. ونزل إثر ذلك مطر وابل طبق الأرض، وبرد غليظ؛ فقتل كثيرا من الوحش والطير والمواشي، وأتلف ما أصاب من الزرع، وأساء التأثير.
وفي سنة 333، في المحرم، هبت بقرطبة ريح عاصف من ناحية القبلة ونزل برد غليظ.
وفيها، ظهر بأشبونة رجل يزعم أنه من ولد عبد المطلب وأن أمه مريم ابنة فاطمة؛ وادعى مع النسب أنه نبي وأن جبريل ينزل عليه، وسن لاتباعه سننا، وشرع لهم شرائع، منها حلق الرأس وغير ذلك مما لا يعقل؛ ثم وقع عليه البحث، فخفي أثره.
وفيها، أخرج الناصر قاسم بن محمد قائدا إلى عدوة الغرب بحرب بني محمد الأدارسة الحسنيين للذي بدا من خلافهم عليه في هذه السنة، ونقضهم الطاعة، بعد ما قدم الكتب إلى محمد بن الخير عظيم زناته وغيره من ولاته بالغرب، يأمرهم بالاستعداد لذلك والمعونة عليه. وأجاز قاسم البحر إلى سبتة في النصف من ربيع الأول؛ فلما تبين ذلك لكبير بني محمد، وهو أبو العبش بن

(2/211)


عمر بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن علي بن أبي طالب - رضي الله عنه -، أسرع إلى تحقيق الطاعة للناصر؛ فعقد له الأمان على نفسه، وانفذ إليه أبنه محمد بن أبي العبش إلى قرطبة، مؤكدا لطاعته؛ فاحتفل السلطان لدخوله احتفالا عظيما، وركب الوافد محمد مع مستقبله من قبل الناصر القائد أحمد بن يعلى في أهبة راقت العيون وملأت الصدور. ووصل إلى قصر الزهراء، وقعد له الناصر أفخم قعود؛ فأوصله إلى نفسه، وأبلغ في تكريمه؛ ثم خرج عنه في مثل الهيئة التي دخل عليها. ودخلت بدخول محمد بن أبي العبش في هذا النهار على الناصر رسل لبني عمه الأدارسة أمراء الغرب. وانعقد في هذا النهار كتاب أمان محمد بن إدريس. ودعا الناصر أيضا محمد بن أبي العبش؛ فبالغ في تكريمه، وأقام بقرطبة بقية هذه السنة في تكرمة. وانصرف الوفد المذكور بعد التزامهم للطاعة للناصر، وذلك فيخبر طويل.
وفي عقب شوال، قدم رسول الخير بن محمد بن خزر الزناني أمير الغرب ومعه رسول حميد بن يصل الزناني، يعرفان الناصر بما كان من دخولهما مدينة تاهرت، وأنهما أقاما فيها الدعوة له.
وفي منسلخ شوال، قدم على الناصر رسولان من أبي يزيد مخلد بن كيداد المعروف بصاحب الحمار، القائم بإفريقية على أبي القاسم الشيعي، برسالة منه يخبر بتغلبه على القيروان ورقادة وعملهما، وإيقاعه بأصحاب الشيعي فيها، وما يعتقده من ولاية الناصر، وياوي إليه من اعتقاد إمامته. واتصلت كتب أبي يزيد ورسله على قرطبة من ذلك الوقت إلى حين وفاته.
وفي سنة 334، جلس الناصر لدين الله لوداع رسل أهل القيروان الواردين عليه من قبلهم وقبل أبي يزيد مخلد بن كيداد اليفرني الناجم بأرض إفريقية في ذلك الوقت، محتسبا في جهاد ملوك الشيعة المنتزين على إفريقية من آل

(2/212)


عبيد الله الداعي، وكان له في القيام عليهم وقائع شنيعة؛ فوصلوا إلى الناصر في هذا اليوم، وهم ثلاثة نفر، أوجههم تميم بن أبي العرب التميمي؛ فكلمهم بما تقتضيه رسالتهم، ودفع إليهم أجوبة من أرسلهم، وأذن لهم في الانصراف إلى بلدهم، ووصلهم وكساهم؛ فانطلقوا لسبيلهم.
وفيها، وصل إلى قرطبة رسل ملك الروم الأكبر قسطنطين بن ليون صاحب القسطنطينة العظمى، يكتب من ملكهم إلى الناصر؛ فقعد الناصر على سرير الملك بقصر قرطبة لدخولهم عليه، ولمن تكامل بالباب من وفود البلاد، بعد أن أمر باستقبالهم بالعدد والأجناد. واستوى الناصر على سريره؛ وقعد على يمينه ابنه الحكم؛ وقعد سائر أولاده عن يمينه ويساره؛ وقعد الوزراء والحجاب على منازلهم صفوفا. فدخل الرسل، وقد قدموا الهدايا بين أيديهم، وقد دهشوا لهول ما عاينوه من جلالة الملك ووفور الجمع؛ فصقعوا بين يدي الخليفة؛ فأشار إليهم أن لاَّ؛ فدفعوا إليه كتاب مرسلهم قسطنطين. وكان الكتاب مصبوغا بلون سماءي، مكتوبا بالذهب.
وفيها، كان السيل العظيم بقرطبة؛ وبلغ الماء في البرج المعروف ببرج الأسد؛ فهدم من آخر القنطرة، وثلم الرضيف وغيره.
وفيها، قدم على الناصر محمد بن محمد بن كليب من القيروان؛ فحكى أن أبا القاسم بن عبيد الله الشيعي هلك بالمهدية، وهو محصور من أبي زيد؛ وأن شيعته قدمت ولده إسماعيل مكانه، وأنه فارس شجاع، أبي النفس؛ أقدم على أبي يزيد وجموعه، ولاقاه بمدينة سوسة؛ فانهزم أبو يزيد أمامه إلى القيروان.
وفي عقب صفر منها، ولي خزانة السلاح عبد الأعلى بن هاشم المتوفي في المحرم منها.
وفي سنة 335، كان ابتداء بناء مدينة سالم بالثغر الأوسط. وفي كتاب

(2/213)


ابن مسعود: في سنة 335، ابتنى الناصر مدينة سالم القديمة التعطيل بالثغر الأوسط الشرقي، المواجهة لبلد قشتيلة - دمرها الله تعالى -، وهي يومئذ خالية مقفرة. وأرسل لذلك غالبا مولاه في جيش جرده معه من الحضرة، وأنفذ العهد إلى قواد الثغر بالاجتماع إليه لبنيانها؛ فسارعوا إلى أمره، وبنيت أحسن بناء؛ ونقل إليها البناؤون من بلاد الثغر للاختطاط لديارها والرباط بها؛ فتم ذلك في صفر من هذه السنة. واطمأنت الدار بمن نزلها من المسلمين؛ واكتمل بناؤها وعمرانها على مرور الأيام؛ فنفع الله المسلمين بها، وصيرها شجا في حلوق الكافرين. قال: ووافى في إثر كتاب القائد ابن حدير وابن هاشم كتاب من قبل عامر بن مطرف بن ذي النون إلى الناصر بما فتح الله له في المشركين، وقتله العدد الكثير منهم، وبعثه برؤوسهم؛ فتمت الفتوح، وعمت الفروح، وعز الإسلام، واستبشر الأنام، وطابت الأيام، بحمد وليّ الإنعام، الذي منه يرجى التمام، عز وجهه! وفيها، كان القحط الكائن بقرطبة.
وفيها، وصل إلى قرطبة أيوب بن أبي مخلد بن كيداد اليفرني الأباضيُّ رسولا من والده أبي يزيد؛ فقعد له الناصر قعودا؛ فأوصله إلى نفسه، وكرم لقاءه، وأمر بإنزاله في قصر الرصافة؛ وقد أعد له فيه من الفرش والوطاء والغطاء والآنية والآلة ما يعد لأمثاله؛ فأقام هنالك تحت نزل واسع وكرامة موصولة.
وفي سنة 336، في يوم الجمعة التاسع من المحرم منها، ورد كتاب قند مولى الناصر، القائد يومئذ بطليطلة، بفتح فتحه الله على يده في أعداء الله أهل جليقية؛ فقرئ في المسجد الجامع بقرطبة والزهراء؛ وبعث من ذلك برؤوس وخيل أصيبت لأعداء الله.

(2/214)


وفيها، عزل الناصر عبد الله بن محمد عن السكة، وسخط عليه لتقصير ما كان فيه وأمر بسجنه. وقدم عبد الرحمن بن يحيى بن إدريس الأصم، ونقل السكة من مدينة قرطبة إلى الزهراء.
وفيها، خرج الكاتب جعفر بن عثمان المصحفي إلى ميورقة وذواتها لإصلاح ما فسد من حالها.
وفيها، وصل حميد بن يصل المكناسي إلى قرطبة قاصدا إلى الناصر من بلده من الغرب؛ فاستقبل بالجيش والزينة؛ وكرم الناصر مورده، وأجمل موعده.
وفي سنة 337، في النصف من المحرم، قعد الناصر بقصر الزهراء قعودا بهبا؛ فدخل إليه حميد بن يصل؛ ثم وصل بعده منصور وأبو العبش، ابنا ابن أبي العافية، ودخل معهما حمزة بن إبراهيم، صاحب جزائر بني مزغنا؛ فوصلهم وكساهم، وأذن لهم في الانصراف إلى بلادهم.
وفيها، صلب بقرطبة عليُّ بن عشرة، من أهل أشبونة، بعد أن قطعت يداه ورجلاه؛ وكان من المفسدين في الأرض بقطع السبل.
وفيها، كانت وقيعة أرتقيرة على العدو - دمره الله -.
وفي سنة 338، كان قدوم رسل ملك الروم الأكبر صاحب القسطنطينة على الناصر، راغبا منه إيقاع الموالفة واتصال المكاتبة؛ فتأهب الناصر لورودهم عليه، وأمر بتلقيهم في الجيش والعدة؛ وجلس لهم الناصر الجلوس المشهور الذي ما تهيأ مثله لملك قبله في جلالة الشأن، وعزة السلطان؛ ووصف ذلك يطول. ودفعوا كتاب ملكهم في رق مصبوغ سماءي مكتوب الذهب؛ وكان على الكتاب طابع ذهب، وزنه أربعة مثاقيل، على الوجه الواحد منه صورة المسيح - عليه السلام -، وعلى الآخر صورة قسطنطين الملك وصورة ولده.
وفيها، أمر الناصر أحمد بن يعلى وحميد بن يصل المكناسي بالخروج إلى بني محمد الأدارسة الحسنيين أمراء الغرب، ففصلا بمن ضم إليهما من الجيش

(2/215)


إلى الخضراء؛ وكان خروجهما من قرطبة للنصف من رجب. وفي عقبه، قدم على الناصر رسول من بعض الحسنيين، يذكر طاعتهم إليه، وانقيادهم لأمره في هدم مدينة تطلون التي أنكر عليهم بناءها؛ فعقد لهم في أول شعبان، وأمر بمحاربتهم؛ ثم وصل محمد بن أبي العبش الحسني إلى الناصر من أبيه أبي العبش؛ فأقبل عليه الناصر، وابلغ في تكرمته؛ ثم ورد الخبر بوفاة أبي العبش، فأوصل الناصر أبنه محمدا إلى نفسه، وعزاه عن والده، وعقد له على عمله، ووصله، وخلع عليه وعلى الوافدين معه، وصرفهم. فخرج محمد مبادرا إلى عمله بالغرب. وكان، عند وفاة أبيه أبي العبش، قصد ابن عمه قنون إلى بلده؛ فاحتوى على ماله وأهله. ولما بلغ البربر إقبال محمد بن أبي العبش إلى بلده من قبل الناصر، رجعوا إلى عيسى بن قنون، وقد خرج عن تبكيساس؛ فقطعوا به، وكسروه، وسلبوه ما كان أخذه لابن عمه، وقتلوا أكثر أصحابه؛ فلم يخلص إلا في سبعة فوارس.
وفيها، وصل إلى قرطبة أحمد بن الاطرابلسي رسول البوري بن موسى بن أبي العافية بكتاب يذكر أنه صح عنده أن الخبر بن محمد بن خزر الزناتي وصل إلى تاهرت، فحاربها؛ فاستنصر أهلها بميسور قائد الشيعي؛ فالتقوا؛ فدارت الدائرة على ابن خزر أول نهارهم، ثم كانت الكرة لوناتة؛ ودخل الخير أميرهم مدينة تاهرت وملكها في غرة ذي القعدة، وأخذ قائد الشيعى أسيرا في عدة من أصحابه؛ ووقع في يده عبد الله بن بكار اليفرني الذي توجه إلى الشيعي برأس أيوب بن أبي يزيد؛ فأرسل به إلى يعلى بن محمد بن صالح اليفرني ليقتله بوالده بعدما كان أخذ كل ما عنده؛ فلم يرض يعلى بذلك، ولا رآه كفوا لعبده، فكيف لوالده؛ ودفعه المذكور إلى رجل من البربر كان قد قتل ابنه، فقتله به. ودخل يعلى بن محمد وهران، فملكها.

(2/216)


وفيها، جرت قصة الولد عبد الله بن الناصر التي أراد الله بها ابتلاء أبيه فيه؛ فعجل الوثوب به وبأصحابه آخر هذه السنة، عجل عليهم فيها بأفظع العقاب؛ فقتلهم؛ وتأتي بابنه عبد الله مديدة إلى أن طوقه الحسام في آخر سنة 338؛ وكان الحكم أخوه ذكر عنه أنه يريد القيام على أبيه؛ فقبل قوله فيه. وكان عبد الله من أهل العلم والذكاء والنبل.
وفي سنة 339، أخرج الناصر قائده أحمد بن يعلى نحو جليقية، وجاء في انتهاز فرصة من العدو؛ فأعانه الله عليها، واقتحم على غفلة؛ فافتتح ثلاثة حصون، وسبى نحوا من ألف سبية، وانصرف آخر رجب من السنة.
وفيها، ورد الخبر بهلك ردمير بن أردون صاحب جليقية؛ فملكت الجلالقة ابنه أردون، ونازعه أخوه غرسية؛ فجرى بينهم اختلاف أظفر الله بن المسلمين.
وفيها، وصل إلى قرطبة ابنا البوري بن موسى بن أبي العاقبة أمير الغرب. وورد رسول الأمير الخير أمير زناتة وكبير أمراء الغرب إلى الناصر، يذكر ما أتاح الله له من دخول مدينة تاهرت، وظفره بميسور وعبد الله بن بكار اليفرني قواد الشيعي؛ فقرى كتابه بجامعي قرطبة والزهراء. ثم ورد كتاب عبد الرحمن ابن عبد الله الزجالي من جهة شذونة، يذكر أن بني محمد الأدارسة بالغرب زحفوا إلى حميد بن بصل قائد الناصر، ونزلوا عليه، والتقوا به؛ فكانت الدائرة على بني محمد، وانصرفوا مغلوبين.
وفي سنة 340، كانت للمسلمين غزوات على الروم، نصرهم الله فيها. منها فتح على يد قائد بطليوس بجيليقة، هزمهم أقبح هزيمة، قتل جملة من حماتهم ومقاتلتهم، وسبى من نسائهم وذراريهم نيفا على ثلاثمائة رأس؛ ووصل ذلك السبي إلى قرطبة لثلاث خلون من المحرم؛ وفتح آخر على يدي أحمد بن يعلى قائد الناصر؛ وفتح آخر على يدي رشيق قائد الناصر على طلبيرة؛ وفتح آخر على يدي يحيى بن هاشم النجيبي.

(2/217)


وغي غرة جمادى الآخرة، وهو الثامن من أكتوبر، هبت بقرطبة ريح عاصف، وتتابع البرق، واشتد الهول، ونزلت صاعقة في دار أحمد بن هاشم ابن عبد العزيز، فقتلت امرأة، وأبطلت أخرى.
وفي سنة 341، كان للمسلمين غزوة في الروم، نصرهم الله فيه، وفتوحات ومنوحات.
وفي آخر جمادى الأولي، وردت الأخبار بأنَّ زبرى بن مناد الصنهاجي عامل الشيعي على تاهرت أسر سعيد بن خزر زعيم زناتة وكبيرها.
وفي هذا الوقت، ورد كتاب ابن يعلى قائد الأسطول بقبضة لرهن محمد ابن إدريس الحسني كبير أمراء الأدارسة.
وفي آخر جمادى الآخرة، وصل إلى قرطبة فتوح بن الخير بن محمد بن خزر كبير أمراء زناتة بأرض الغرب، وافدا إلى الحضرة، ومعه وجوه أهل تاهرت ووهران؛ وأدخلت بين يديه الرؤوس التي احتزها للقواد المشارقة ووجوههم من رجال إسماعيل الشيعيّ العبيدي، يقدمها رأس ميسور الخصي ورأس محمد بن ميمون وغيرهما من رؤوس أعلام الشيعة، وعشرة من بنودهم، أدخلت منكسة، معها عدة من طبولهم؛ فرفعت هذه الرؤوس والبنود والطبول على باب قصر قرطبة، وأقيمت له ولمن جاء معه الكرامات الواسعة.
وفي سنة 342، قدمت رسل هوتو ملك الصقالبة على الناصر.
وفيها، خرج القائد أحمد بن يعلى غازيا إلى جليقية؛ فمنحه الله في الكفار القتل للرجال، والسبي للذرية والعيال، وإحراق القرى، وانتساف النعم؛ فقرى كتابه يوم الجمعة لليلتين بقيتا من ربيع الأول بقرطبة؛ وقرى معه كتاب القائد غالب، يذكر عظيم ما فتح الله عليه ومنحه من نكاية المشركين؛ ثم دخلت الرؤوس إلى قرطبة، ومعها النواقيس والصلبان، فقرَّت عيون أهل الإسلام.

(2/218)


وفي سنة 343، ولي الناصر مدينة طليطلة القائد أحمد بن يعني، وصرف عنها محمد بن عبد الله بن حدير.
وفيها، فصل القائد حميد بن يصل، المستأمن إلى الناصر، بالجيش الذي ضمه إليه إلى بلاد الغرب، وخرج معه القرشي السليماني المستأمن إلى الناصر أيضا، الذي كان أميرا على مدينتي تنس وأرشقول وما بينهما من أرض إفريقية؛ فأخرجه عنها قواد الشيعي. واسمه عليُّ بن يحيى، ينتسب إلى عليّ بن أبي طالب - رضي الله عنه -؛ فكان خروجهما من بين يدي الناصر بعد أن خلع عليهما خلع الوداع، بعد خلع تقدمت له عليهما بيوم قبل وصولهما من دراريع الديباج والخز وعمائم الشرب المذهبة وغير ذلك. ودفع لحميد سبعة عشر ألفا للنفقة على الجند، ومن أحمال الكسوة سبعة أحمال.
وفيها، وصل إلى قرطبة وقد أزداجة من البربر الذين انحاشوا إلى الطاعة؛ فكساهم الناصر ووصلهم. وورد كتاب فتح من حميد بن يصل قائد الناصر بالعدوة بما فتح الله عليه من مدينة آسلان وانتشار الدعوة الأموية بنواحيها.
وفيها، قدم الحجاج؛ فذكروا أنه وقع بقشطاط مصر حريق عظيم احترق فيه ستة ألفا بين دار ومسكن.
وفي سنة 344، وردت قواد الثغور لسبع خلون من ربيع الآخر على الناصر، وفيهم غالب، ومطرف، ومحمد بن يعلى، وعبيد الله بن أحمد بن يعلى، وهذيل ابن هاشم النجيبي، ومروان بن رزين، وعامر بن مطرف بن ذي النون، يذكرون أنهم دخلوا إلى أرض العدو، وقصدوا حصنا من بلد قشتيلة؛ فتغلبوا على أرباضه، وقتلوا جماعة من أهله، وقفلوا عنه؛ فوافتهم جموع النصرانية؛ فأيد الله المسلمين، وانهزم المشركون أمامهم مقدار عشرة أميال، يقتلونهم كيف شاءوا؛ فأحصى أنه قتل منهم مقدار عشرة آلاف. وكانت هذه الوقيعة بينهم لليلة

(2/219)


بقيت من ربيع الآخر منها؛ فقرى كتابهم بهذا الفتح الجليل بقرطبة؛ ثم وردت إلى قرطبة الرؤوس المحتزة في هذه الهزيمة نحو خمسة آلاف رأس؛ فأمر الناصر برفعها على الخشب حوالي سور قرطبة.
ولسبه خلون من جمادى الأولي، كانت بقرطبة زلزلة عظيمة ظاهرة الهزة؛ وعادت زلزلة أخرى مثلها يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت منها، وذلك عند الظهر.
وفيها، ثقف الناصر أمور الخدمة السلطانية، ووزعها بين وزرائه؛ فقلد الوزير جهور بن أبي عبدة النظر في كتب جميع أهل الخدمة؛ وقلد الوزير عيسى ابن فطيس النظر في كتب أهل الثغور والسواهل والأطراف وغير ذلك؛ وقلد الوزير الكاتب عبد الرحمن الزجالي النظر في تنفيذ كل ما يخرجه من العهود والتوقيعات، وينفذ به الأمر أو الرأي وغير ذلك؛ وقلد الوزير محمد بن حدير النظر في مطالب الناس وحوائجهم، وتنجيز التوقيعات لهم. فالتزم القوم ما ألزموا؛ فاعتدل بهم ميزان الخدمة، وسهلت مطالب الرعية.
وفيها، ورد كتاب يعلى بن حميد قائد العدوة من قبل الناصر بما فتح الله عليه في قائد الشيعي معد بن إسماعيل صاحب إفريقية من هزيمته له وقتله من قتل من رجاله وغير ذلك. ووصل إلى قرطبة ابن عم حميد بن يصل، ومعه ستة وثلاثون من وجوه كتامة وغيرهم من القبائل المستأمنين إليه من عسكر الشيعي؛ فأمر الناصر بانزالهم، وجلس لهم على سريره بقصر الزهراء يوم الثلاثاء ربع خلون منه؛ فوصلوا إليه؛ فرأوا مقاما جليلا، وكلموه، فرد عليهم جميلا، وأحسن موعدهم، وأمر بالخلع عليهم، ووصلوا بصلات جزلات، وأمروا بالرجوع إلى القائد حميد بن يصل.
وفيها، أمر الناصر بإطلاق اللعن على ملوك الشيعة بجميع منابر الأندلس، وإنفاذ كتبه بذلك إلى العمال بسائر الأقطار.

(2/220)


وفي سنة 345، وطئ غالب، قائد أسطول الناصر، أرض سواحل إفريقية من عمل الشيعي.
وفيها، قدم محمد بن حسين رسولا كان من الناصر إلى الطاغية أردون ابن ردمير ملك جليقية، ومعه حسداي بن شبروط اليهودي، بكتابه إلى الناصر، راغبا منه في الصلح؛ فأسعفه الناصر في ذلك على اختيار ولده الحكم، واشترط على الطاغية شروط؛ وانصرفت رسله بذلك.
وفيها، قتل محمد بن أبي العيش الإدريسي أمير الغرب.
وفيها، خرج قاسم بن عبد الرحمن إلى حميد بن يصل قائد الناصر بالغرب من قرطبة بأحد عشر حملا من المال وأحمال العدة، تقوية على الذب عن الدولة المروانية بالغرب، وذلك لخمس خلون من صفر منها. ولما كان يوم النصف منه، ورد كتاب حميد بدخوله مدينة تلمسان.
وفي سنة 346، قدم إلى الناصر أمراء بني رزين ومن التف إليهم؛ فوصل إلى الناصر كبيرهم مروان بن هذيل بن رزين الثائر بالسهلة المنسوبة إليهم؛ فأدنوا وأكرموا.
وفيها، برز القائد غالب الناصري إلى فحص السرادق غازيا إلى دار الحرب؛ ففتح عليه في بلاد المشركين؛ وفتح الحصون وقتل المقاتلة واكتسح بسيط عدو الله غرسية بن شانجه ملكهم، وخرب قراه، ورجع بالمسلمين ظاهرين. وكذلك برز القائد أحمد بن يعلى للغزو إلى بلد العدو تاليا للقائد غالب؛ فورد كتابه يوم الأحد لخمس بقين من ربيع الآخر بفتح عظيم تهيأ له في غزوة إلى جليقية، وأنه ثخن في قتلهم، وحز من رؤوسهم أربعمائة، واستاق من الماشية والكراع ما فات الإحصاء.
وفي سنة 347، أول المحرم، أمر الناصر صاحب الشرطة القائد أحمد بن يعلى بالخروج غازيا في الأسطول إلى بلد الشيعي معد بن إسماعيل صاحب

(2/221)


إفريقية؛ فبرز ابن يعلى إلى محلة الربض لغزاته هذه يوم الخميس لثمان خلون منه؛ وكان بروزه فخما، خرج إليه من النظارة من أهل قرطبة رجالهم ونسائهم وأبنائهم وولدانهم خلق لا يحصيهم إلا خالقهم؛ فانتشروا بأكناف الربض على عادتهم؛ فأخذ السفلة منهم والغوغاء يتقاذفون بالحجارة حاكين لصفي القتال؛ فدخل في عرضهم قوم من الطنجيين من جند السلطان حشوا الضراب بينهم، حتى حمى وطيسه، وقد تكنف صفيهم من النظارة الرجال والنساء خلق عظيم. فلم يك إلا ساعة، ودارت بينهم جولة ظهر فيها أحد صفيهم؛ فمالوا على مغلوبهم، وانبسطوا عليهم؛ فامتد الطنجيون بغالب شرهم وجهلهم إلى نهب مغلوبهم من الرجال، وتخطوهم إلى من حولهم من النظارة، وانبسطوا على النساء؛ فسلبوهن ثيابهن، وفضحوا كثيرا منهن؛ فجعل المجردات من النساء يتوارين في الزرع المكتل، حياء من الناس، وترقبا لوقت تفرقهم. وشرح ذلك يطول.
وفي جمادى الآخرة منها، ورد كتاب قائد الأسطول أحمد بن يعلى من مدينة آسلان من عمل تلمسان، يذكر أن جوهرا قائد معد بن إسماعيل صاحب إفريقية قتل يعلى بن محمد بن صالح اليفرني صاحب مدينة آفكان غدرا، وأن ابن عمه انتصب مكانه بإقامة من جلة قومه له، ورجع القائد المذكور إلى قرطبة ومعه ولد ابن قرة، ابن عم يعلى بن محمد المتقدم الذكر، المقدم بعده في قومه بني يفرن؛ فبولغ في إكرامه.
وفي سنة 348، في أول ربيع الآخر منها، خرج عليُّ بن يحيى الحسني إلى شرشل مكانه من العدوة قائدا، بمن انضم إليه من الحشم، لمكافحة أصحاب الشيعي صاحب إفريقية.
وفي أول ذي القعدة منها، أوصل الناصر إلى نفسه حريز بن منذر في جماعة من وجوه الموالي والعرفاء ورجال الجند، يأمرهم جميعا بالخروج إلى مدينة

(2/222)


مسنة من أرض العدوة، مع بدر الفتى الكبير صاحب السيف، لتنفيذ العدد فيها من أجل جولان جوهر قائد معد الشيعي صاحب القيروان بأرض العدوة؛ فنفذوا لأمره، ومكثوا كذلك إلى أن أمنت الحادثة؛ فانصرفوا مع القائد بدر، آخر ذي الحجة من السنة.
وفي سنة 349، كان ابتداء علة الناصر، وذلك يوم الأربعاء لإحدى عشرة ليلة خلت من صفر، وذلك نصف النهار منه، طرقت أمير المؤمنين الناصر علته الصعبة من الريح الباردة؛ فأرجف به، وخيف عليه، وأكبت الأطباء على معالجته، إلى أن ظهر عليه تجفيف؛ فتجشم القعود لخاصته في العشر الأوائل لجمادى الأولي. فوصل إليه الفتيان الأكابر، وصاحب الطراز، وخواص أكابر العبيد كمظفر وذويه؛ فاستبشر أهل المملكة بما بدا لهم من انحطاط مرضه، وسألوا الله كمال عاقبته؛ والقضاء قد سبق بموته من علته؛ فلم تفارقه، تخف حينا وتثقل حينا، إلى أن قضت عليه في سنة 50 التي بعد هذه.

بعض أخبار الناصر على الجملة
كان الناصر - رحمه الله - ملكا أزال الأواء؛ وحسم الأدواء، وقهر الأعادي، وعدل في الحاضر والبادي؛ قد أسس الأوس؛ وغرس الغروس واتخذ المصانع والقصور، وترك أعلاما باقية إلى النفخ في الصور. فاعتبر بالزهراء كم بها من قصر مشيد، وآثار ملوك صيد؛ قد عادت معاهدها بعدهم دارسة، وآثارها دونهم طامسة؛ تنفي الرياح بجنباتها، وتبكي الغيوم على عرصاتها. ولما ولي الناصر لدين الله، اعتز ركن الدين، واحتمى ذمار المسلمين، وقام الجهاد على ساق، وخمدت نار الخلاف والشقاق، ودخل الناس

(2/223)


في طاعته أفواجا، واستنفروا إلى دعوته أفرادا وأزواجا. فناهيك من فضل أعطاهم، وعدل أكنفهم به وغطاهم، وتكرمة أنالهم إياها، ومسرة أبدى لهم محياها؛ قد ملك سبتة وما يليها من الأقطار، وطرد عنها ملوك الأدارسة طرد الليل النهار، وبث عماله وقواده فيها، وطاعت له البرابر في جميع نواحيها، واعتصموا بحبله، ولاذوا بفضله وعدله. وكان اصطفى مولاه بدرا، وجعله شمسا لملكه وبدرا، وقلده خطة الحجاب، وجعل له النفي والإيجاب؛ فشد ملكه بقوة ساعد، وسعج مساعد؛ ثم قدم موسى بن حدير؛ فكمل به الملك واتسق واتفق له من الجد ما اتفق؛ فقاد عسكرا مجرا، وجر الدنيا جرا.
ومن قول ابن عبد ربه فيه (بسيط) :
قَدْ أوضَحَ الله للإسلامِ مِنهاجا ... والناسُ قَد دخلوا في الدِّينِ أفواجا
وَقد تَزَيّّنَت الدُّنيا لساكِنِها ... كأنَّما ألبسَت وَشياً ودِيباجَا
يا ابن الخَلائفِ إنَّ المُزنَ لَو عَلمَت ... نَدَاكَ ما كان مِنها الماءنجاجا
والحَربُ ولَو عَلِمت بأساً تَصُولُ به ... ما هيَّجَت من حُمّيّاكَ الذي اهتَاجا
مَاتَ النِفاقُ وأعطَى الكُفرُ ذِمَّتَهُ ... وذَلَّت الخَيلُ إلجاماً وإسراجا
وأصبَحَ النَّصرُ معقوداً بِألوِيةٍ ... تَطوى المَرَاحِلَ تَهجِيراً وإدلاجا
إنَّ الخِلافةَ لن تُرضَى وَلا رُضِيَت ... حتَّى عَقَدتَّ لها في رأسِكَ التَّاجا
ومن مناقبه، أنَّه لم يبق في القصر الذي هو من مصانع أجداده ومعالم أولىته بنية إلا وله فيها أثر محدث، إما بتجديد أو بتزييد. ومن مناقبه، كثرة جوده الذي لم يعرف لأحد قبله من أجواد الجاهلية والإسلام، حتى قيل فيه - رحمة الله عليه - (كامل) :

(2/224)


يا ابن الخَلاَئفِ والعُلَى للِمعُتَلى ... والمَجْدُ يُعرَفُ فَضلُهُ للِمُفضَلِ
نَوَّهتَ بالخُلفاء بَل أَخمَلتَهُم ... حتَّى كَأنَّ نَبِيَلُهم لَم يَنبُلِ
أذكَرتَ بَل أنسَيتَ مَا ذَكَرَ الوَرَى ... مِن فِعلِهم فَمأنَّهُ لَم يُفعَلِ
وأتَيتَ آخرهُم وَشَأوُكَ فَائِتٌ ... للآخرين وَمُدرِكٌ لِلأوَّلِ
تَأبِي فِعَالُك أنْ تُعَدَّ لآخِرٍ ... مِنهُمْ وَجُودُكَ أنْ يُعدَّ لأِوَّلِ
وكم للناصر - رحمه الله - من غزوات مذكورة، وفتوحات مشهورة، يبقى في الأعقاب فخرها، ولا يبلى على مر الأحقاب أثرها.
وقد نظم ابن عبد ربه في غزواته أرجوزة من سنة 301 إلى سنة 322. وقد أطال الشعراء في مدحه، وأطنبوا في شكره؛ ولولا أن الناس مكتفون بما في أيديهم منها، لأعدنا هنا ذكرها أو ذكر بعضها؛ ولكن المذهب هنا الاقتصار والإيجار والاختصار.

حكاية
ومما ذكر من إفضاله، مع بعض عماله، قال حيان بن خلف: كان محمد بن سعيد المعروف بابن السليم قد احتجن أموالا كثيرة بتصرفه في كبار الولايات في المدة الطويلة؛ فعلم ذلك منه الناصر؛ فعرض له مرارا في أن يساهمه فيه عن طيب نفس منه، وهو ملكه، ولو شاء لأخذه منه، ولكن أبى ذلك كرم طبعه. فقال في مجلسه يوما: (ما بال رجال من خاصتنا توسعوا في دنيانا، فطفقوا يحتجون الأموال، ويضيعون تعمدنا، وهم يرون غليظ مئونتنا في الإنفاق على شؤوننا التي بقدرتنا عليها صلاح أحوالهم ورفاهية عيشهم. ويعلمون أن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -، قسطاس الموازين، قاسم عماله أرباحهم في تجاراتهم؛ فجعلها في بيت المال، وهو من هو، وهم من هم، والأسوة في فعله!) فسكت ابن السليم عنه وغالطه في تعرضه كأنه

(2/225)


يعني غيره. فازداد الناصر حنقا عليه وغيظا؛ فقال له يوما في بعض مجالسه الخاصة معه، وقد أخذ الشراب منه، وشق تفاحة بسكين في يده: (وددت أن أشق هكذا رأس من أعرف له مالا كثيرا غله دوننا، ولم يسهم بيت المال منه!:) فطار عقل ابن السليم، ولم يختلجه الشك في أنه المعني به؛ فقام بين يديه، وقال: (يا أمير المؤمنين! طال ما عرضت بي! فسكت؛ بلى والله! إن عندي مالا كثيرا، وهو دون ظنك فيه، حطته بالتقتير، وأعددته للدهر العثور، ولست والله أعطيك منه درهما، فما فوقه، ورأيك في جميل إلا أن تستحل) (وأعوذ بالله!) أن تمد يدك إليه بغير جناية مني عليك! فإن الأنفس محضرة الشح. قال: فخجل الناصر وأطرق يتلو قول الله تعالى: [إن يسئلكموها فيحفكم أن تبخلوا ويخرج أضغانكم.] ثم أقبل على ابن السليم يونسه ويسكن جأشه، إلى أن اعتدل مجلسه؛ فجعل يمعن في الشرب طلبا للسكر الذي خامره من الذعر. فقال له الناصر: (خفض عليك، يا محمد؛ فلا سبيل إليك!) فلما سكر ابن السليم، تهوع؛ فقذف، وابتدره الوصفاء بالطست والمناديل؛ فأقبل الناصر وأخذ برأسه يمسكه، ويقول له: (استفرغ ما في معدتك وتأن بنفسك!) . فأنكر ابن السليم كلامه بين الخدم، وصرف إليه رأسه، وإذا به الناصر. فما تمالك أن خر إلى رجليه يقبلهما، ويقول: (يا ابن الخلائف! إلى هنا انتهيت من برِّي!) وجعل يدعو له، ويعظم شكره؛ فقال له الناصر: (ليتني أخرج كفافا من شأني معك الليلة: تأنيسا بإخافة وإلطافا بجفوة) . ثم أمر له بكسوة، وانقلب إلى أهله. فكان هذا مما يعد من كرمه وفضله. فلما مضت أيام، أرسل ابن السليم إلى الناصر بمائة ألف دينار دراهم؛ فقبلها الناصر، وشكر فضله) وعوضه بكبير الولايات، وصحبته منه النعمة العريضة إلى حين وفاته.
حكاية
ومازح الناصر - رحمه الله - يوما وزيره أبا القاسم لبِّا؛ فقال له:

(2/226)


(يا لبُّ اهج الوزير عبد الملك بن جهور!) فامتنع عليه؛ فقال لابن جهور: (فأهجج أنت، إذ أبى هو من هجوك) . فقال: (يا أمير المؤمنين، أتوقع عرضي منه، وأصون نفسي عنه!) فقال الناصر: (فأنا أهجوه.) فقال (سريع) :
لبٌّ أبو القاسم ذو لحية ... طويلةٍ في طُولها ميلُ
ثم قال لابن جهور: (لا بد لك من تذييل هذا البيت؛ فدع الاعتذار.) فقال:
وعَرْضها مِيلان إن كُسِّرتْ ... والعَقلُ مأفونٌ ومدخُولُ
لَو أنَّه أحتاج إلى غَسلِها ... لم يكفِهِ في غَسِلها السِّيلُ
فضحك الناصر، وقال للب: (إنه قد سبب لك القول؛ فقل!) فقال لبّ:
قَال أمين اللهِ في خَلقِهِ ... لي لِحيةٌ أزرَى بها الطُّولُ
وابنُ عُيير قال قَولَ الَّذي ... مأكُولُهُ القَرظيل والفُولُ
لولا حيائي من إمامِ الهُدَى ... نَخَشتُ بالمِنخَس (شُو قُولُ)
فلما بلغ لبُّ إلى قوله (شو) سكت؛ فقال له الناصر: (قول) . فأتم له على نحو ما أضمر؛ فقال له: (أنت هجوته، يا مولاي!) فضحك الناصر، وأمر له بصلة.
وكان الناصر قد خرج يوما على فرس أبلق في هيئة جليلة والوزراء قد حفوا به؛ فقال ابن عبد ربه في ذلك مرتجلا (سريع) :
بَدرٌ بَدَا مِن تَحتِهِ أبلَقُ ... يَحْسُدُ فِيهِ المَغْرِبَ المَشْرِقُ
لوْ يعلُمُ الأبلَقُ مَن فَوقَه ... لاختالَ من عُجبٍ به الأبَلَقُ
إمامُ عَدلٍ باسِطٌ كفَّهُ ... يَرزُقُ منها الله مَن يَرزُقُ
عَاَبه الدَّهرُ الذي قَد مَضَى ... وجَدَ واللهِ به المُخبلَقُ

(2/227)


وكان، لما ترعرع ابنه الحكم بن عبد الرحمن، ولاه العهد من بعده. وكان له أخ اسمه عبد الله؛ فحسده على ذلك، واجتمع عليه قوم وأراد قتل أخيه؛ واتفق مع أصحابه أن يبادروه؛ فافتضحوا وقتلوا جميعا، كما تقدَّم. وأما الولد عبد الله، فذكر أنه أخرجه أبوه الناصر ثاني يوم عيد الأضحى؛ فذبح بين يديه - رحمه الله -؛ وكان عالما فاضلا.
وكان الناصر أمر ببناء الصومعة العظيمة في سنة 340، وشرع في بنائها؛ وهي الشهيرة التي لا صومعة تعدلها. وكان الذي دعاه إلى بنائها حدث في القديمة؛ فهدمت إلى قواعدها وبنيت بصخر الحجارة المنقولة إليها على العجل؛ وجمع لها فجاءت فائقة الصنعة. وقد كانت الأولى ذات مطلع واحد؛ فصير لهذه مطلعين، وفصل بينهما بالبناء؛ فلا يلتقي الراقون فيها إلا بأعلاها. ولكل مطلع منها مائة درج وسبعة أدراج؛ وطولها ثمانون ذراعا بالرشاشي إلى وقوف المؤذن؛ وفي أعلى ذروة المنار ثلاث رمانات تغشى النواظر بشعاعها، وتخطف الأبصار بالتماعها: الأولى مفروغة من الذهب، والوسطى من الفضة، والثالثة من الذهب أيضا؛ وفوقها سوسانة من الذهب المحض مسدسة؛ وفوق السوسانة رمانة صغيرة من الذهب؛ ثم طرف الزج، وفيه تأريخ مكتوب بالذهب. وزنة كل رمانة من الثلاثة المذكورة قنطار واحد فما دونه، ودور كل واحدة ثلاثة أذرع ونصف. وكمل بناء الصومعة في جمادى الأولى؛ فذلك ثلاثة عشر شهرا.
وكان الناصر زاد في المسجد الجامع بقرطبة زيادته المشهورة، المتصلة بزيادة ابنه الحكم بعده، وفيها القبو الكبير الذي يصطف المؤذنون أمامه يوم

(2/228)


الجمعة للأذان، وهو من أعجب البنيان. وإذ قد وقع ذكر المسجد الجامع بقرطبة؛ فالواجب أن نذكر أول من أحدثه ومن تولي بناءه من ملوك بني أمية. على سبيل الاختصار؛ فنقول:

ذكر مسجد قرطبة الأعظم
ذكر الرازي عن الفقيه محمد بن عيسى أنه قال: لما افتتح المسلمون الأندلس، استدلوا بما فعل أبو عبيدة وخالد - رضي الله عنهما - عن رأي أمير المؤمنين عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - من مشاطرة الروم في كنائسهم مثل كنيسة دمشق وغيرها مما أخذوه صلحا. فشاطر المسلمون أعاجم قرطبة في كنيستهم العظمى التي كانت بداخلها، وابتنى المسلمون في ذلك الشطر مسجدا جامعا. وبقى الشطر الثاني بأيدي الروم، وهدمت عليهم سائر الكنائس. فلما كثر المسلمون بالأندلس، وعمرت قرطبة ونزلها أمراء العرب بجيوشهم. ضاق عنهم ذلك المسجد، وجعلوا يعلقون منه سقائف؛ فنال الناس من الضيق مشقة عظيمة. فلما دخل عبد الرحمن بن معاوية الأندلس، وسكن قرطبة، نظر في أمر الجامع، وتوسيعه، وإتقان بنائه؛ فأحضر أعاجم قرطبة، وسألهم بيع ما بقي بأيديهم من الكنيسة المذكورة، وأوسع لهم البذل فيه، وفاء بالعهد الذي صولحوا عليه؛ وأباح لهم بناء كنائسهم التي كانت هدمت عليهم في وقت الفتح بخارج قرطبة. وخرجوا عن الشطر؛ فاتخذه وأدخله في الجامع الأعظم. وكان شروع عبد الرحمن الداخل في هدم الكنيسة وبناء الجامع سنة 169؛ وثم بناؤه، وكملت بلاطاته، واشتملت أسواره في سنة 170؛ فذلك مدة من عام كامل؛ فقيل إن النفقة التي أنفق الإمام عبد الرحمن بطول هذه السنة في بناء الجامع ثمانون ألفا بالوازنة. وفي ذلك يقول البلويُّ - رحمه الله - (طويل) :

(2/229)


وَأبرَزَ في ذاتِ الإلهِ وَوَجهِهِ ... ثَمانينَ ألفاً من لُجَينٍ وعَسْجَدِ
فأنفَقها في مَسِجدٍ أُسُّه الشُّقَي ... ومَنْهَجُه دينُ النبيِّ مُحَمَّد
ثم زاد ابنه هشام صومعة، كان ارتفاعها أربعين ذراعا إلى موضع الأذان وبنى بآخر المسجد سقائف لصلاة النساء؛ وأمر ببناء الميضأة بشرقي الجامع. وأقام الجامع على هيئته تلك إلى أيام عبد الرحمن بن الحكم؛ ثم زاد عبد الرحمن بن الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل الزيادة المنتظمة بالأرجل، طولها خمسون ذراعا، وعرضها مائة وخمسون، وعدد سواريها ثمانون سارية؛ وكان الفراغ من هذه الزيادة في جمادى الأولى سنة 234. ثم زاد الأمير محمد بن عبد الرحمن أن أمر بإتقان طرر الجامع، وتنميق نقوشه، وبإقامة المقصورة، وجعل لها ثلاثة أبواب؛ فلما كمل ما أمر به في الجامع، دخله وصلى فيه ركعات خشع فيها. فقال في ذلك موسى بن سعيد (طويل) :
لَعمِري لقد أبدَى الإمامُ التواضُعَا ... فأصبَحَ للدُّنيا وللدِّين خَاشِعا
بَنَى مَسجداً لم يُبنَ في الأرض مِثلُه ... وصلى به شُكراً لذي العَرش راكِعا
فطُوبَى لمن كان الأمير محمَّد ... له إذْ دَعَا فيه إلى الله شافِعا
ثمَّ زاد الأمير المنذر بن محمد البيت المعروف ببيت المال في الجامع؛ فوضع فيه الأموال الموقفة لغياب المسلمين؛ وأمر بتجديد السقاية وإصلاح السقائف. ثم زاد أخوه الأمير عبد الله بن محمد ساباطا معقودا على حنايا، أوصل به ما بين القصر والجامع من جهة الغرب؛ ثم أمر بستارة من آخر هذا الساباط إلى أن أوصلها بالمحراب؛ وفتح إلى المقصورة بابا كان يخرج منه إلى الصلاة؛ وهو أول من اتخذ ذلك من أمراء بني أمية بالأندلس - رحمهم الله -.
رجع الخبر إلى ذكر الناصر. قيل إنه أنفق في صومعة المسجد وفي تعديل

(2/230)


المسجد وبنيان الوجه للبلاطات الأحد عشر بلاطا سبعة أمداد وكيلين ونصف كيل من الدراهم القاسمية. وجملة ما أنفق عبد الرحمن الناصر في بناء مدينة الزهراء وقصورها خمسة وعشرون مدبا من الدراهم القاسمية وستة أقفزة وثلاثة أكيال ونصف.

ذكر بناء مدينة الزهراء بقرطبة
أعادها الله للإسلام بفضله
ابتدئ بنيانها في أيام الناصر من أول سنة 325. وكان يصرف فيها كل يوم من الصخر المنجور ستة آلاف صخرة سوى التبليط في الأسوس؛ وجلب إليها الرخام من قرطاجنة إفريقية ومن تونس؛ وكان الأمناء الذين جلبوه عبد الله بن يونس، وحسن القرطبي، وعليُّ بن جعفر الإسكندراني؛ وكان الناصر يصلهم على كل رخامة بثلاثة دنانير، وعلى كل سارية بثمانية دنانير سجلماسية. وكان فيها من السواري أربعة آلاف سارية وثلاثمائة سارية وثلاث عشرة سارية، المجلوبة منها من إفريقية ألف سارية وثلاث عشرة سارية. وأهدى إليه ملك الروم مائة وأربعين سارية؛ وسائر ذلك من رخام الأندلس. وأما الحوض الغريب المنقوش المذهب بالتماثيل، فلا قيمة له، جلبه ربيع الأسقف من القسطنطينية من مكان إلى مكان حتى وصل في البحر؛ ووضعه الناصر في بيت المنام في المجلس الشرقي المعروف بالمؤنس؛ وكان عليه اثنا عشر تمثالا من الذهب الأحمر مرصع بالدر النفيس العالي مما صنعه بدار الصنعة بقصر قرطبة. وكان المتولي لهذا البنيان المذكور ابنه الحكم، لم يتكل الناصر فيه على أمين غيره. وكان يخبز في أيامه كل يوم يرسم حيتان البحيرات ثماني مائة خبزة، وهذا من أعظم الأشياء إلى ما فوق ذلك.
وكان الناصر قد قسم الجباية على ثلاثة أثلاث: ثلث للجند، وثلت للبناء، وثلث مدخر. وكانت جباية الأندلس يومئذ من الكور والقرى خمسة آلاف ألف

(2/231)


وأربعمائة ألف وثمانين ألف دينار، ومن المستخلص والأسواق سبع مائة ألف دينار وخمسة وستين ألف دينار.
ومما قيل في آثار مدينة قرطبة وعظمها حين تكامل أمرها في مدة بني أمية - رحمهم الله تعالى - إن عدة الدور التي بداخلها للرعية دون الوزراء وأكاب أهل الخدمة مائة ألف دار وثلاثة عشر ألأف دار؛ ومساجدها ثلاثة آلاف؛ وعدة الدور التي بقصرها الزهراء أربعمائة دار، وذلك لسكنى السلطان وحاشيته وأهل بيته. وعدد الفتيان الصقالبة ثلاثة آلاف وسبع مائة وخمسون. وعدة النساء بقصر الزهراء الكبار والصغار وخدم الخدمة ستة آلاف وثلاثمائة امرأة؛ وكان لهؤلاء من اللحم ثلاثة عشر ألف رطل ينقسم من عشرة أرطال للشخص إلى ما دون ذلك، سوى الدجاج والحجل وصنوف الطير وضروب الحيتان. وعدد حماماتها ثلاثمائة حمام؛ وقيل إنها المبرزة للنساء. وكان عدد أرباض قرطبة - أعادها الله للإسلام - في ذلك الوقت ثمانية وعشرين ربضا، منها مدينتان: الزهراء والزاهرة. وأما اليتيمة التي كانت في المجلس البديع، فإنها كانت من تحف قيصر اليوناني صاحب القسطنطينة، بعض بها للناصر مع تحف كثيرة سنية. فسبحان من لا يبيد ملكه ولا ينقطع عزه!.
وفي سنة 350، توفى الناصر - رحمه الله -، وذلك في صدر رمضان منها. ووجد بخطه تأريخ قال فيه: (أيام السرور التي صفت لي دون تكدير في مدة سلطاني يوم كذا من شهر كذا من سنة كذا.) فعدت تلك الأيام؛ فوجد فيها أربعة عشر يوما. فأعجب أيها الغافل لهذه الدنيا، وعدم صفائها، وبخلها بكمال الأحوال لأولائها. إن الخليفة الناصر ملك خمسين سنة وسبعة أشهر وثلاثة أيام، ولم يصف له من الدنيا إلا أربعة عشر يوما! فسبحان ذي العزة العالية، والمملكة الباقية، تبارك اسمه وتعالى جده!

(2/232)


وممن رثاه، جعفر بن عثمان المصحفي، فقال (طويل) :
ألا إنَّ أياماً هَفَتْ بإمامها ... لَجائرةٌ مُشتطَّةٌ في احتِكامِها
فلَمْ يُولم الدُّنيا عِظامُ خُطُوبها ... وأحداثِها إلاَّ قلوب عِظَامِها
تأمَّلْ فهَلْ من طَالِعٍ غَيرَ آفلٍ ... لَهُنَّ وهَل من قاعِدٍ لِقامِها
وعَاينْ فهَلْ من عائشٍ برَضاعِها ... من الناس إلاَّ مَيِّتٌ بفطامِها
كأنَّ نفوسَ الناس كانت بنَفْسِهِ ... فلمَّا تَوَارَى أيْقنَتْ بِحِمامِها
فطَارَ بهِا يأسُ الأسَى وتقَاصَرَتْ ... يَدُ الصَّبْرِ عن أعوالها واحتدامِها