البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب
خلافة عبد الله بن
محمد بن عبد الرحمن بن الحكم
كنيته: أبو محمد. مولده: في النصف من ربيع الآخر سنة 229. أمه: تسمى
بهار وقيل: عشار. حجابه: اثنان: عبد الرحمن بن شهيد وابن السليم.
وزراؤه: ستة وعشرون. كتابه: ثلاثة: عبد الله بن محمد الزجالي، وعبد
الله بن محمد بن أبي عبدة، موسى بن زياد. صفته: أبيض، مشرب
(2/120)
بحمرة، أصهب، أزرق، أقنى الأنف، ربعة، يخضب
بالسواد. بنوه: أحد عشر، أحدهم محمد المفتول، والد عبد الرحمن الناصر.
بناته: ثلاث عشرة. بويع في اليوم الذي مات فيه أخوه المنذر في المحلة
على بربشتر، وذلك يوم السبت في النصف من شهر صفر سنة 275. ثم قفل إلى
قرطبة بأخيه المنذر ميتا؛ فاستتم البيعة بقرطبة، ودفن أخاه بعدها.
وتوفي عبد الله سنة 300، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة؛ فكانت خلافته خمسا
وعشرين سنة، وخمسة عشر يوما. ومن قول ابن عبد ربه فيه (طويل) :
خِلافَةُ عَبدِ الله حَجٌ عَلَى الوَرَى ... فلا رَفَثٌ في عَصِرهِ
وفُسُوقُ
تَجَلَّت دَياجِي الحيفِ عَن نُورِ عَدلِهِ ... كَمَا ذَرَّ في جَنحِ
الظَّلامِ شُرُوقُ
ونثَقَّفَ شَهمَ الدينِ بالعَدِل والتُّقَى ... فهَذَا لَهُ نَصلٌ
وذَلِك فُوقُ
وأعلنَ أسبَابَ الهُدَى بضَمِيرهِ ... فلَبسَ لَهُ إلاَّ بهِنَّ
عُلُوقُ
ومَا عَاقَهُ عَنها عَوائقُ مُلكِهِ ... وأمثالُها عَن مِثلهِنَّ
تعُوقُ
وأفضت الخلافة إليه، وقد تحيفها النكث، ومزقها الشقاق، وحل عراها
النفاق؛ والفتنة مستولية، والدجنة متكاثفة، والقلوب مختلفة، وعصى
الجماعة متصدعة، والباطل قد أعلن، والشر قد اشتهر؛ وقد تمالا على أهل
الإيمان حزب الشيطان؛ وصار الناس من ذلك في ظلماء ليل داج، لا إشراق
لصباحه، ولا أقول لنجومه. وتألب على أهل الإسلام أهل الشرك ومن ضاهاهم
من أهل الفتنة، الذين جردوا سيوفهم على أهل الإسلام؛ فصار أهل الإسلام
بين قتيل ومحروب ومحصور، يعيش مجهودا، ويموت هزلا؛ قد انقطع الحرث،
وكاد ينقطع النسل. فناضل الأمير بجهده، وحمى بجده، وجاهد عدو اله
وعدوه. وانقطع الجهاد إلى دار الحرب، وصارت بلاد الإسلام بالأندلس هي
الثغر المخوف؛ فكان قتال المنافقين وأشباههم أوكد بالسنة، وألزم
بالضرورة.
فأول ما تناوله، ونظر فيه، أن وجه إبراهيم بن خمير لأخذ بيعة ابن حفصون
وبيعة من قبله. فقصد إبراهيم إليه، وطلب طاعته؛ فظهر منه حسن
(2/121)
مذهب؛ فأخذ بيعته، وصدر عنه؛ وقدم معه حفص
ابنه وجماعة من أصحابه؛ فأخذت عليهم البيعة، وردهم الأمير محبوين
بالكرامة والرعاية. فبقى ابن حفصون سامعا مطيعا منتهيا عما نهى عنه،
واقفا عندما أمر به. ثم تعدى بعد ذلك حده، ومد يده إلى ما نهى عنه؛ فلم
يدع مالا عند من أمكنه، واستحوذ على أهل الكور في أموالهم، وأمضى نفسه
على عادته الذميمة من الفساد وقطع السبل، وذلك في سنة ولاية الأمير عبد
الله.
وفي سنة 276، خرج الأمير عبد الله بنفسه إلى بربشتر وحصون رية؛ فانتسف
معايشها، وقفل عنها، وقد شد تلك الناحية؛ وأبقى بحاضرة رية محمد بن
ذنين من أهل قرطبة؛ فخرج ابن حفصون في إثره، وتألف إليه المفسدون؛
فأتوا إلى إسنجة، فاحتلوها، ثم إلى حصن إستبة، فأخذوه؛ فأخرج إليهم
الأمير جيشا؛ فنزل ابن حفصون، واعترف بذنبه؛ فعقد له الأمير أمانا.
وفي هذه السنة، ولي محمد ابن الأمير عبد الله كورة إشبيلية؛ فخرج في
أيامه بعض عرب إشبيلية إلى قرمونة؛ فضبطوها.
وفيها، ثار أبو يحيى محمد بن عبد الرحمن بن عبد العزيز النجيبي المعروف
بالأنقر.
وفيها، نقض ابن حفصون وقصد بيانة؛ فحارب أهلها، ثم أعطاهم العهد؛ فلما
نزلوا إليه، غدرهم، وقتلهم، وأخذ أموالهم، وسبى ذراريهم.
وفيها، انتفض أهل جيان، وأخرجوا عاملها عباس بن لقيط، وملكها ابن شاكر.
وفي سنة 277، ولد عبد الرحمن الناصر.
وفيها، غزا القائد ابن أبي عبدة إلى جيان، وفيها ابن شاكر مخالفا؛
فحاربه، وحاصره، وقتل جماعة من أصحابه، وأحرق كثيرا من دور جيان.
(2/122)
وفيها، خرج حفص بن المرة إلى سوار، وكمن له
الكمائن، وأغار عليه؛ فلما خرج سوار في طلبه، خرجت عليه الكمائن؛ فقتل:
وفيها، قتل ابن شاكر الثائر بجيان. وسبب قتله أن ابن حفصون أزاد أن
يراجع طاعة الأمير، وأن يتقرب إليه بقتل ابن شاكر؛ فبعث إليه خيلا يريه
أن يمده على عدوه؛ فأقبل المدد إليه؛ فلما خرج إليهم، فتكوا به وقتلوه،
وبعثوا برأسه إلى ابن حفصون؛ فبعث به إلى الأمير عبد الله. وعند ذلك
توجه ابن حفصون إلى جيان؛ فأغرم أهلها الأموال الجسيمة. وأقامت جيان
وإلبيرة مدة دون عامل من الأمير.
وفي سنة 278، خرج الأمير عبد الله إلى بلاي من عمل قبرة، وبها عدو الله
ابن حفصون مع جماعة كبيرة من أصحابه أهل الفساد والارتداد. وكانوا قد
أضروا بأقاليم قرطبة، وضيقوا عليهم حتى أغاروا على أغنام قرطبة. فخرج
إليهم الأمير مستهل صفر، واحتل به؛ فناهضه وصادقه القتال؛ فانهزم هو
ومن معه، ولجأ إلى حصنه مع ملأ من أصحابه، وعوجل عشيره عن الدخول معه،
واتبعوا؛ فلم يخلص منهم أحد. فبات الأمير قرير عين، والمسلمون كذلك،
وقد أخذوا عليه تلك الليلة الباب رجاء أن يأتي الصباح، فيؤخذ داخل
الحصن. ثم خرج منه مع بعض أصحابه، ونجا ونجوا. ولما أصبح، أعلم السلطان
بخبره؛ فأرسل الخيل في أثره؛ فلم يعلم له خبر. ودخل الأمير الحصن يوما
آخر؛ فوجده مترعا بالذخر، ملآن من العدد؛ وكان عدد عسكر الأمير ثمانية
عشر ألف فاري. وقيل إن ابن حفصون ألب أهل حصون الأندلس كلها، وأقبل
إليه في ثلاثين ألفا. ووقعت الحرب بينهم؛ فانهزم عدو الله، وقتل أكثر
من كان معه. ودخلت جملة منهم في محلة الأمير؛ فأمر بالتقاطهم؛ فأتى
بألف رجل منهم؛ فقتلوا صبرا بين يديه. هكذا ذكر في (بهجة النفس) .
ثم قصد الأمير إستجة؛ فنازلهم؛ وحاربهم، وقتل لهم عددا كثيرا. فلما
أخذهم
(2/123)
الجهد، رفعوا الأطفال على الأيدي في
الأسوار، مستصرخين، ضارعين، راغبين في العفو؛ فعفا عنهم.
وفي سنة 279، غدر أهل ارجذونة بأحمد بن هاشم. ونقض ابن حفصون ما كان
انعقد من السلم والطوع.
وفي سنة 280، توجه المطرف بن الأمير عبد الله بالجيش إلى ابن حفصون
ببرنشتر؛ فحاصرها، وهتك جميع ما حواليها.
وفيها، أمر الأمير عبد الله ببنيان حصن لوشة، وأبقى عليه إدريس بن عبيد
الله.
وفيها، دخل إذفونش بن أردون مدينة سمورة وبناها؛ وكانت من بنيان عجم
طليطلة.
وفي سنة 281، أغزى الأمير عبد الله عبد الملك بن أمية؛ فتقدم إلى حصون
ابن مستنة، ونازل حصن آشر، وحاربه، وقتل من أهله عددا كثيرا، وهدم حصن
السهلة. ثم قفل إلى قرطبة.
وفي سنة 282، غزا بالصائفة المطرف ابن الأمير عبد الله. وقاد الصائفة
عبد الملك بن أمية. فلما كان بمقربة من إشبيلية، قبض على القائد عبد
الملك، وقتله، وقدم على قيادة العسكر أحمد بن هاشم. وأقام العسكر في
الموضع أربعة أيام، وكتب أمانا لأهل إشبيلية، وأمانا لأهل شذونة؛ فدانت
له، وقبض جبايتها، ودوخ تلك البلاد. ثم رحل إلى إشبيلية؛ فناشبهم
الحرب؛ فانهزم أهل إشبيلية، ووقع فيهم القتل إلى سور المدينة. ثم أجاز
الوادي؛ فتتبع القرى بالنسف والتغيير.
وفي هذه السنة، ضمَّ المطرف ابن الأمير عبد الله إبراهيم بن حجاج وابن
(2/124)
خلدون وابن عبد الملك الشذوني إلى السجن،
وأوثقهم في الحديد. وقطع لسان سحنون الكاتب، وضرب ظهره.
وفيها، أتت جباية إشبيلية. وعندما أتت، أطلق ابن حجاج وابن خلدون
والشذوني من سجن قرطبة.
ذكر ثورة بني حجاج بإشبيلية
وذلك أن إبراهيم بن حجاج ترك ولده رهينة بقرطبة، ورجع إلى بلده
إشبيلية؛ فتوزع كورتها على نصفين: خرج إبراهيم بالنصف، وابن خلدون
بالنصف. وبقيا كذلك أعواما. وكان الأمير عبد الله قد أخذ في الضرب
بينهما، وبكاتب كل واحد منهما بما يراه من صاحبه. فلما كان في بعض
الأيام، كتب إبراهيم بن حجاج وكريب بن خلدون إلى الأمير عبد الله في
مصالحهما؛ وكتب معهما خالد بن خلدون أخو كريب كتابا يغري فيه إبراهيم
بن حجاج عند الأمير، ويقول إنه في قبضتهم. فكتب له جوابه على نص كتابه.
وخرج الحامل بالكتب إليهم؛ فسقط له كتاب خالد الذي كان بعث للأمير؛
فأخذه بعض فتيان القصر؛ فقرأه وعلم ما فيه؛ فدفعه لرسول إبراهيم بن
حجاج، وقال له: (اسبق به مولاك!) فلما وصل الرسول والكتاب إلى إبراهيم،
علم حقيقة ما يحتوي عليه ابنا خلدون من سوء الباطن. وكان هذا في سنة
286. فعند ذلك، تلطف إبراهيم في طعام، ودعا ابني خلدون؛ فوصلا إليه.
فلما استقر المجلس بهم، أخذ إبراهيم في عتاب كريب وأخيه خالد، وأخرج
الكتاب الذي بعث به الأمير إليهما، وأوقفهما عليه، وأبلغ في عتابهما،
وأكثر في ذلك عليهما. فأخرج خالد سكينا كانت في كمه؛ فضرب بها رأس
إبراهيم بن حجاج؛ فمزق قلنسوته، وضربه في وجهه. فلما صدر منه ذلك، نهض
إبراهيم، ودعا من حضر من رجاله؛ فعلوهما بالسيوف، حتى قتلوهما. وألقى
رأسيهما إلى أصحابهما ورجالهما؛ فتفرقوا. وتتبعهم إبراهيم بالقتل
والنهب، ودفن جسدي ابني
(2/125)
خلدون؛ وانقاد له جميع أهل الكور الملاصقة
لإشبيلية. وخاطب عند ذلك الأمير عبد الله، يتبرأ له من دمهما، ويقول
إنهما كانا يحملانه على النكث، وإنه الآن على الطاعة؛ وطلب منه ولاية
إشبيلية. فأجابه الأمير إلى ذلك. وانفرد إبراهيم بولاية إشبيلية؛
فاجتبى الأموال، واصطنع الرجال، وارتقى في الأحوال، وامتدت لفضائله
الآمال. وكان له حميد آثار، وجميل أخبار، فاق بها أهل عصره، وحسن في
الآفاق طيب ذكره.
ولم يزل بعد ذلك إبراهيم بن حجاج يشتط على الأمير عبد الله، إلى أن
سأله إطلاق ولده عبد الرحمن الرهين عنده. فلم يسعفه الأمير عبد الله في
ذلك. فنبذ إبراهيم الطاعة عند ذلك، وظاهر ابن حفصون، وأمده بالمال
والرجال، نكاية للأمير عبد الله. فقويت شوكة ابن حفصون، وازداد به
طماعية؛ وفي خلال ذلك، لم يزل إبراهيم يدسس ويرسل من يشير على الأمير
بإطلاق ولده، ويتضمن له عوده إلى الطاعة، حتى وافق السلطان على ذلك؛
فأطلق عبد الرحمن ابن إبراهيم، وأعظم الإحسان إليه، وجدد له التسجيل
على بلده إشبيلية. فعاد إبراهيم إلى ما كان أولا عليه من الطاعة،
واستقامت أحوال تلك النواحي على يديه.
قال حيان بن خلف: لما ملك إبراهيم بن حجاج إشبيلية وقرمونة وما
والاهما، ارتفع ذكره، وبعد صيته، واتخذ لنفسه جندا، ورتب لهم الأرزاق
كنعل السلطان؛ فكمل في مصافه خمسمائة فارس. وكان لإبراهيم بن حجاج في
بساط السلطان بقرطبة قوم يقفون في حقه، ويعلمونه بما عند السلطان من
حاله، وينصحونه في أمره. فعند ذلك، أقلع عما كان عليه من موافقة ابن
حفصون، واعترف بحق أمير الجماعة؛ فعامله الأمير بما شهر له من الفضل.
وكانت منزلته عنده أعلى منزلة، إلى أن توفي - رحمه الله! وذكر حيان
أيضا قال: كان لإبراهيم بن حجاج في بلده إشبيلية قاض يقوم
(2/126)
بالحكم، وصاحب مدينة يقيم الحدود، جرى في
ذلك كله مجرى السلطان في حضرته. قال: وكان فظا على أهل الريب، قامعا
لأهل الشرّ؛ وكان منجعا على البر والبحر، مقصودا بالغرائب والطرف.
وكانت له بإشبيلية طرز يطرز فيها على اسمه كفعل السلطان إذ ذاك؛ وكانت
قرمونة تحت مملكه؛ وهو الذي حصنها وحسن بنيان سورها؛ وفيها كان مربط
خيله المتخذة لركوبه؛ وبينها وبين إشبيلية كان ترداده سائر أوقاته.
وكان جوادا، ممدحا، يرتاح للثناء، ويعطي الشعراء، ويضاهي في فعله كبار
الأمراء، ويتفقد أهل البيوتات والشرف بالعطاء. وكان أهل قرطبة متعرضين
لسيبه، فيكرمهم ويصلهم. وقد انتجعه شاعرهم الأكبر أبو عمر أحمد بن عبد
ربه من بين جميع ثوار ذلك الوقت بالأندلس؛ فعرف قدره، وأفضل عليه.
ومن قوله فيه، يصف تنقله من إشبيلية إلى قرمونة (طويل) :
ألا أن إبراهيم لُجِّةُ ساحِلِ ... مِن الجودِ أرسَت فوق لُجَّةِ
ساحِلِ
فإشْبِيَلةُ الزّضهراءُ تُزْهَى بمجدِهِ ... وقَرمُونةُ الغَرَّاءُ
ذاتُ الفَضَائِل
إذا مَا تجَلَّت تِلكَ من نِور وَجهَهِ ... غَدَت هذِهِ للناسِ في زِيّ
عاطِلِ
وإن حلَّ هذِي فَهوَ يُوحسُ هذِهِ ... فَنَهدِي بُرسلٍ نَحوَه
ورَسائِلِ
وهي طويلة. ومن قوله أيضا من قصيد طويل (وافر) :
كتابُ السوقِ يَطوِيهِ الفُؤادُ ... ومن قبض الدّثموعِ لَه مِدادُ
تخطُّ يَدُ البكاء به سطوراً ... على كبِدِي ويمليها السُّهادُ
وكَيفَ وبي فؤادٌ مستطيرٌ ... لمِن لا يستطيرُ له فُؤادُ
أمِن يُمنِ يكون الجودُ خلوا ... وإبراهيم حاتِمُها الجَوَادُ
زيارته لِمَن يأتيهِ حَجٌ ... ومِدحتُه رِباطٌ أو جِهَادُ
وما لي في التخلُّف عَنه عذرٌ ... ولي في الأرض راحلِةٌ وَزَادُ
(2/127)
ولأحمد بن عبد ربه في إبراهيم بن حجاج
أشعار كثيرة، ولغيره من الشعراء. وذكر ابن أبي الفياض أن محمد بن يحيى
القلقاط الشاعر القرطبي قصد الأمير إبراهيم بن حجاج بمدحه بقصيدة
نونية، أولها (خفيف) :
أزفت رحلتي فَاهْمَتْ جُفُونَا
ثم أخذ في هجاء عشيرته أهل قرطبة، وكبرائها، وعظماء دولتها؛ فأفحش
عليهم. فلما أنشد القصيدة إبراهيم بن حجاج، زها به، وحرمه وأساء ذكره؛
فانصرف خائبا من نواله، جانيا ثمره فعاله ومقاله. فلما وصل قرطبة، أخذ
يهجو إبراهيم بن حجاج بقصيدة أولها (كامل) :
لا تُنكِري للبين طولَ بُكاءي
فلما بلغت إبراهيم، أغضبته؛ فأوصى من قال له عنه يمينا مغلظة: (إنه إن
عاد لما وقع فيه، لآمرن بأخذ رأسه بقرطبة على فراشه!) فارتاع القلقاط
المذكور لذلك، وكف. فكان هذا الفعل لإبراهيم في حق أهل قرطبة أجل
مكرمة، وعد في جملة فضائله. ولأجل هذا ساقه القاضي ابن أبي الفياض -
رحمه الله! - وقد قصده العذري من الحجاز؛ فراعى حقه، وأكرم مثواه،
وأناله جزيل خيره. ورفع الناس ذكره.
وقد ذكر أبو عامر السالمي في كتابه المسمى ب (درر القلائد وغرر
الفوائد) أن الأمير الرئيس الهمام الجواد الحسيب أبا إسحاق إبراهيم بن
حجاج سمع بجارية بغدادية اسمها قمر؛ فوجه بأموال عظيمة إلى المشرق في
ابتياع هذه الجارية، إلى أن استقرت بدار مملكته إشبيلية؛ وكانت كالبدر
المنير، ذات بيان وفصاحة ومعرفة بالألحان والغناء؛ فوجدها قمرا عند
اسمها؛ وكان لها شعر يستحلى ويستحسن. فمن قولها ترد على من عاذلها
(بسيط) :
قالُوا أتتْ قَمَرٌ في زِيِّ أطمَارِ ... مِنْ بَعدِما هَتَكَتْ قَلباً
بِأشفَارِ
تُمسِي علىَ وَحَلٍ تغدو على سُبُلٍ ... تَشُقُّ أمصارَ أَرْضٍ بعدَ
أَمصَارِ
(2/128)
لا حُرَّةٌ هَيَ مِن أحرار مَوضِعِها ...
وَلاَ لَهَا غَيرُ تَرسيلٍ وأشعَارِ
لَو يعقلون لَمَا عَابُوا غَريبتهم ... لله مِن أمَةٍ تُزرِي بأحرارِ
ما لابنِ آدمَ فخرٌ غَيرَ هِمتِهِ ... بَعدَ الديَانةِ والإخلاصِ
للبارِي
دَعنِي من الجهلِ لا أرضىَ بِصَاحِبهِ ... لاَ يَخلُصُ الجَهلُ من
سَبٍّ ومن عَارِ
لَو لَم تَكُن جَنةٌ إلاَّ لجَاهلةٍ ... رَضيتُ من حُكمِ رَبِّ الناسِ
بالنّارِ
ولم تزل مدة إبراهيم تتمشى على أحسن حال وأجزله، وأهذب زيّ وأكمله،
تقضت زينا لعصره، وفخرا له بها على أهل مصره، لم يلحقه في ذلك أحد في
وقته، ولا قدر على نيل مرتبته، إلى أن وافته منيته فجأة، وذلك عام 288.
وولى أبنه عبد الرحمن بن إبراهيم بن حجاج بعد أبيه، وطالت مدته ثلاث
عشرة سنة، وتوفي سنة 301. وكان أخوه محمد بن إبراهيم بن حجاج - رحمه
الله - صاحب قرمونة في حياة أبيه وبعد موته إلى أن مات أخوه، ولم يستقر
بإشبيلية، ولا حكمها. وقيل إنه دسَّ على أخيه عبد الرحمن جارية سمته؛
فمات من ذلك.
قال ابن أبي الفياض: كان محمد بن إبراهيم بن حجاج صاحب قرمونة بعد موت
أبيه؛ وكانت له بها دولة حسنة وأيام صالحة، شهر في الفضل ذكره، وانبسط
على ألسنة الناس شكره، قصد من الأقطار، ومدح يجيد الأشعار؛ فأنال
القاصدين، ومنح المادحين. ولما توفي أبوه، ولي إشبيلية أخوه عبد
الرحمن، إذ كان كبيره. وكان محمد يزيد على عبد الرحمن بأشياء من
المحامد، خص بها في وقته فحمد، وظهر أثر الإمارة في فعاله فشكر وحسد.
وكانت دولته بقرمونة أضخم من دولة أخيه بإشبيلية وأطول، وذلك أربع عشرة
سنة بعد موت أبيه. وتوفي عام 302.
قال الرازي: افتتح الناصر لدين الله إشبيلية سنة 301. وكان سبب ذلك موت
عبد الرحمن بن إبراهيم بن حجاج المنقزي فيها بعد والده، واجتماع أهلها
من بعده على تقديم أحمد بن مسلمة، ودفعهم لأخي عبد الرحمن محمد بن
إبراهيم
(2/129)
صاحب قرمونة، ومخالفة محمد ومن معه
بقرمونة، ولياذه بسلطان الجماعة. فبعث الناصر عسكرا إلى إشبيلية؛ فجرت
بينهم حروب عظيمة. ثم بعث الأمير عبد الرحمن الناصر إلى محمد بن
إبراهيم بن حجاج، وأمره بالتضيق على أهل إشبيلية، وعقد له على ذلك،
وأشرك معه فيه قاسم بن الوليد صاحب شرطته في ذلك الوقت؛ وكان بينه وبين
محمد صداقة. فخرجا معا من قرطبة إلى قرمونة، ومنها دنوا إلى إشبيلية.
فتردد محمد وقاسم بالجموع على إشبيلية، وملكا أقاليم الشرف، وأقاليم
طالقة، وإقليم البر وغيرها، وأخذا بمخنق ابن مسلمة صاحب إشبيلية؛
فاستجاش ابن مسلمة برأس النفاق اللعين ابن حفصون؛ فأتاه بنفسه، وخرج
معه من مدينة إشبيلية، وجاز النهر؛ وكان الجيش يحصن قبرة، وفيه محمد بن
إبراهيم بن حجاج، وقاسم بن وليد؛ فخرجا إليهما بمن معهما من حشم
السلطان؛ فانهزم ابن حفصون، وفر على وجهه، حتى لحق بقلعته. فتأمل ابن
مسلمة منتشبه مع ابن عمه محمد بن حجاج، ودخوله معه في وراثة أبيه، وأنه
لا طاقة له به. فأخذ في إصلاح ما بينه وبين السلطان الناصر؛ فراسله بأن
يعطيه إشبيلية. فوصله الحاجب بدر، وتملك السلطان إشبيلية دون إراقة دم
ولا قتال. فلما استقر الحاجب بإشبيلية، أحضر أهلها، ووعدهم عن السلطان
بكل جميل، وأن يجري عليهم عوائدهم مع بني حجاج وزيادة على ذلك؛ فرضى
القوم، وتم الأمر للحاجب وابن مسلمة. وأخذ الحاجب في مخاطبة محمد بن
حجاج، يعرفه بتملك السلطان إشبيلية، وأن السلطان أمره بالكف عن حصارها.
فعند وقوف محمد على الكتاب، ساءه ذلك، وتغير له، وخرج من حصن قبرة الذي
كان به مع قاسم بن وليد ناكثا للطاعة؛ وسرى ليلته مع جموعه قاصدا بلده
قرمونة؛ فالقى في طريقه أغناما لأهل قرطبة؛ فأغار عليها، وحملها معه
إلى قرمونة؛ فدخلها، وأظهر التمتع بها. فأخرج إليه الناصر لدين الله
صاحب الحشم؛ فلما وصله وخاطبه بما أمره به السلطان، رد عليه الأغنام
بجملتها.
ولما رجع صاحب الحشم إلى قرطبة، خرج محمد بن حجاج من قرمونة
(2/130)
بجيشه؛ فوصل إشبيلية عند الصباح؛ فهجم
عليها. وكان بعض سورها مهدما؛ فطمع فيها؛ فخرج إليه العامل عليها من
قبل السلطان؛ فهزمه عنها؛ فرجع إلى قرمونة. فلما علم الناصر بذلك، وجه
عسكرا إلى عامل إشبيلية تقوية له؛ فحصن البلد على نفسه، وأمن من عادية
محمد بن حجاج. ولما طال على الناصر تمادي محمد بن حجاج على العناد، بعث
إليه صديقه ابن وليد، طالبا منه العودة إلى الطاعة؛ فلم يزل به حتى
أظهر الإنابة له؛ فأنفذ محمد بن حجاج خاصته إلى الناصر؛ فوصل إليه؛
فألحقه الناصر بنفسه، وشافهه بما ألقاه إليه محمد، وأعلمه أنه ينعزل عن
قرمونة ويسكن قرطبة، على أن يترك بها نائبه. فأجابه الناصر لذلك كله،
ووعده بتتميم أغراضه. فلما وصل الرسول إلى محمد بما ألقاه إليه الأمير
الناصر، خرج من قرمونة في شهر رمضان المعظم من عام 301، ووصل قرطبة مع
وجوه قومه وعدَّة من رجال. فأمر لهم الناصر بالكسى ووصلهم على أقدارهم
ومنازلهم عند محمد، وأجزل لهم الصلة، وأعطى محمدا العطاء الجزل، وقربه
من نفسه، وولاه من حينه خطة الوزارة، منوها، مرفع الذكر. قم خرج الناصر
لدين الله غازيا؛ فأغزاه معه وزيرا.
وكان حبيب بن عمر الوالي على قرمونة من قبل السلطان قد امتنع بقرمونة.
فحاصر الناصر قرمونة، ومحمد بن حجاج معه وزيرا؛ فسعى به عند السلطان من
كان يحسده، وقال له: (إنما نافق ابن عمر مع محمد وبأمره!) فعزله عن
الوزارة، وحبسه، وحبس معه ابن وليد صاحب الشرطة. ثم أطلقا بعد ذلك. فلم
يلبث محمد بن حجاج بعد ذلك إلا يسيرا، وتوفي في شوال سنة 302.
أخبار عمر بن حفصون في أيام الأمير عبد
الله
وعندما ولي عبد الله الخلافة، ووافته الكتب من البلاد؛ واجتمعت على
طاعته جميع العباد، رأى عمر بن حفصون على فرط عناده، وتوه في الأرض
وفساده، أن يدخل في جماعته، ويلتزم بفروض طاعته. فأرسل ابنه حفصا
(2/131)
إلى قرطبة مع جماعة من أصحابه، على أن
يعقدوا مع الأمير سلما منتظما، وصلحا مبرما، لا يحيله حال، ولا يلحقه
محال، على أن يستقر عمر بن حفصون ببربشتر على الطوع، ويقيم بها على
الطاعة والسمع. فقبل الأمير نزاعه، وسمح بإبقائه هنالك، وأصدر ابنه
ورسله إصدارا جميلا؛ ومنحهم برا جزيلا، ووجه معهم عبد الوهاب بن عبد
الرؤوف واليا على كورة رية، ومشاركا لابن حفصون في عقده وحله، ومساهما
له في توليته وعزله. فمكثا شريكين في الأمر والنهي، إلى أن غلب ابن
حفصون على عبد الوهاب، وأخرجه من الكورة منبت الأسباب. واشتدت معرَّته،
وتأكدت عاديته ومضرته، حتى همت القرى بالخلاء، والناس بالجلاء. ولم يبق
بالقنبانية قرية إلا غشيتها الخيل، وعمتها الذلة والوبل، وقد ملك
اللعين إستجة وأرجذونة، وأجتدهمت ثقافا، وصير فيهما من الآلات أصنافا.
فلما رأى الأمير عبد الله ما أحاط بقرطبة من ابن حفصون، ودار عليها من
الحرب الزبون، أمر بإخراج السرادق إلى فحص الربض بشقندة. فلما اشتدت
أطنابه، ومدت حبائله وأسبابه، بعث ابن حفصون خيلا ترمي على شقندة لعلها
تأخذ السرادق السلطاني وتفوز به، وتهجم على البلد وتحيط بجانبه. فخرجت
لهم الخيل إثر ذلك، وطردتهم طرادا من هنالك، ووصلت إلى ابن حفصون؛
فدفعته عن الجهة، ومنعته من تلك الوجهة، وأوى إلى حصن بلبى بقبرة؛ فجمع
له الأمير أهل قرطبة، وسار إليه في نحو أربعة عشر ألفا. وحشد ابن حفصون
نحو ثلاثين ألفا؛ فصدمه الأمير بمن معه؛ فنثر عقده وفرق جمعه؛ فعملت
السيوف في رقابهم، وتبعت سيل أعقابهم، حتى رويت الأرض من دمائهم. ودخل
الأمير عبد الله القلاع الثائرة عليه؛ وصارت يومئذ في يديه.
وفي ذلك يقول ابن عبد ربه (كامل) :
رَامَ ابن حفصُونَ النجاةَ فَلَمْ يَسِرْ ... والسَّيْفُ طالِبُهُ
فَلَيْسَ بِنَاجِ
في لَيلَةٍ أَسرَتْ بِهِ فَكَأنَّما ... خِيلَتْ نَقيضَةَ لَيلةِ
المِعراجِ
مَا زَالَ يُلقِحُ كُلَّ حَربٍ حَامِلٍ ... فالآنَ أنْتَجَها بشَرِّ
نَتاجِ
(2/132)
رَكِبُوا الفِرَارَ بهُضبةٍ قَدْ جَرَّبوا
... غِبَّ السُّرَى وعَواقِب الإدلاجِ
وإذا سَألتُهم مَوَالِي مَن هُمُ ... قَالُوا: موَالِي كُلِّ لَيلٍ
دَاجٍ
ولمّا رجع ابن حفصون إلى بربشتر، حشد أعوانه، وجدد للعرض ديوانه، وخرج
بجمعه إلى إلبيرة، وأدار بها حربا مبيرة، إلى أن تغلب عليها بأيده،
وقبض على عاملها بكيده. فأخرج الأمير عبد الله العسكر إليه، وقدَّم ابن
أبي عبدة عليه. فلما تدانى الفريقان، وتراءى الجمعان، هجمت خيل ابن أبي
عبدة على خيل ابن حفصون؛ فعكستهم عسكا، وطمست آثارهم طمسا؛ وأثقل ابن
حفصون بالجراح، وآب من النصر صفر الراح، قد ركب الأوعار، واجتمل الخزي
والعار؛ ويبلغ حصن بربشتر مفلولا، خاسرا ذليلا. ثم عاد إلى عاده، وسبيل
بغيه وفساده. وفي كل ذلك كان الأمير عبد الله يهزم جيشه، ويروع ببأسه
جأشه، حتى خمدت نيرانه، وملت أنصاره وأعوانه. فلما توفي الأمير عبد
الله، وولى الناصر لدين الله، بادر إلى الطاعة، والدخول في الجماعة. ثم
نكث وخان، حتى هلكته الأزمان.
جملة الثُّوَّار ببلاد الأندلس في أيام الأمير عبد الله
الخارجين عن الجماعة المضرمين لنار الفتنة
أولهم ابن حفصون؛ وقد تقدّم ذكره. وتأتي بقية أخباره بحسب السنين. وثار
سوَّار بن حمدون بحصن منت شاقر؛ فقام إلى جعد عامل إلبيرة بمن معه؛
فهزم جمعه، وأخذه أسيرا، وأراه يوما عسيرا. ثم أطلقه من عقاله، وعمه
بإفضاله، وانصرف إلى إلبيرة بلده، ومقر أهله وولده. وسار سوار إلى
غرناطة، وأغار على حصون ابن حفصون؛ فاجتمع أهل إلبيرة في نحو ثلاثة
وعشرين ألفا؛ فلقيهم سوَّار في عدد قليل؛ فلاذوا بالفرار والنفور،
وصاروا كالهباء المنثور؛ ونيطت بهم الحتوف كسفا، وقتل منهم على ما ذكر
اثنا عشر ألفا، وذلك
(2/133)
في سنة 276. وكانت بين سوَّار هذا وابن
حفصون ملاقاة انقلب فيها ابن حفصون مهزوما، وتولى ملوما مذموما، قد
أثقل بالجراح، وقتل قوّاده في ذلك الكفاح. وكان جعد الثائر بالبيرة
منفقا مع ابن حفصون على النفاق، منعقدا معه على الفساد في تلك الآفاق؛
فأعمل جعد الحبلة في الغدر بسوار جهده، وأظهر في ذلك نصبه وجهده؛ فأغار
على جهته يوما، وقد أكمن هنالك قوما. وخرج هو بنفسه في نفر يسير؛
فاكتسح وأغار، وأنجد في الجهة وغار. وظن سوّار أن ليس وراءه أجناد
تنجده، ولا أمداد تمده؛ فبز إليه بأهل المكان، وقد أيقن بالظفر
والإمكان. فلما انبسط من هنالك كالفرخ الأشر، ثارت الكمائن عليه
كالجراد المنتشر، وأحدقت الخيل بسوار؛ فقتل ثقتيلا، وعاد عسكره مهزوما
مفلولا. وأرسل جعد صاحب إلبيرة إلى ابن حفصون برأس سوار، وأعلمه بالكبت
الشامل لأعدائهم والبوار.
وثار سعيد بن جودي في ذلك التأريخ بالعرب، وعارض ابن حفصون بالحرب
والحَرَب، حتى أغصه بريقه، وضايقه في سبيله هناك وطريقه؛ فرجع ابن
حفصون إلى الحيلة فيه والكيد، إذ عجز عنه بالقوة والأيد، حتى قبض عليه،
وصار أسيرا لديه، وأقام عنده بببشتر شهورا مكبولا، إلى أن قبل فيه ابن
حفصون مالا جزلا قبولا؛ فأطلقه من وثاقه؛ فجد في خلافه على الأمير عبد
الله وشقاقه، إلى أن مكر به مكرا، وقتل في دار عشيقة له يهودية غدرا.
وتولى أمر العرب بجانب إلبيرة محمد بن أضحى؛ فأمسى على طاعة الأمير عبد
الله وأضحى؛ فناصب ابن حفصون الحرب، وعارضه بالطعن والضرب، إلأى أن ظفر
به ابن حفصون في تلك المسالك، وصار عنده أسيرا هنالك؛ ففداه العرب منه
بمال جسيم، ومشى من طاعة الأمير على منهاج قويم.
وثار العرب بإشبيلية ثورة، وقبضوا على عاملها عنوة، وانتهبوا طارفه
ومشلده، ولم يتركوا إلا أهله وولده، وقتلوا كثيرا من أعوانه، وعانوا ما
شأوا في سلطانه؛ فاجتمعت العساكر من قرمونة وسائر الأقطار، وأحاطت
بإشبيلية إحاطة
(2/134)
الفلك الدوار؛ فغلبوا على القائمين فيها.
وقتلوا منهم فرقة؛ فكانت الوقعة المعروفة بالدعقة.
وتغلب إبراهيم بن حجاج على إشبيلية تغلبا، ونصب لأحواز قرطبة منها حربا
وحربا؛ وارتبط مع ابن حفصون على العبث التام، والاحتلال بقرطبة في ذلك
العام. وتغلبا على الحصون والقلاع، وجدا في الكفاح والقراع، إلى أن
انتقض ما بينهما من السلم المنتظم، والعهد المحكم المنبرم. وصالح ابن
حجاج الأمير عبد الله؛ فأقره بإشبيلية، وصرف إليه زمامها، وأوقف عليه
أعمالها وأحكامها.
وثار دبسم بن إسحاق، وغلب على مدينتي لورقة ومرسية، وما يليهما من كورة
تدمير. وكان مودودا من طبقات الناس، رفيقا برعيته، جوادا، منتجعا، له
إفضال على الشعراء والأدباء.
وثار عبيد الله بن أمية، وملك كورة جيان، ودخل حصن ابن عمر وغيره.
ومنهم، عبد الرحمن بن مروان المعروف بالجليقي، اقتعد مدينتي بطليوس
وماردة؛ ففارق الجماعة، وجاور أهل الشرك، ووالاهم على أهل القبلة.
ومنهم، عبد الملك بن أبي الجواد، اقتعد مدينة باجة وملكها، وتحصن بحصن
مارتلة، وله حظ من المنعة تشييدا وعدة. وكان معاقدا لابن مروان، صاحب
بطليوس في هذا التأريخ، وابن بكر صاحب أكشونبة؛ فكانوا متأبين على من
خالفهم.
وثار ابن السديم، وهو منذر بن إبراهيم بن محمد بن السليم، بمدينة ابن
السليم، المنسوبة إلى جده، من كورة شذونة؛ فاقتصد في سيرته، ولم يظهر
نبذ الطاعة، إلى أن قتله مملوك له يسمى غلنده. وخلفه وليد بن وليد،
وصار إلى الطاعة عند هبوب ريحها بالخليفة عبد الرحمن الناصر.
(2/135)
ومنهم، محمد بن عبد الكريم بن إلياس، امتنع
بقلعة ورد من كورة شذونة، وسعى للفتنة سعيه، وتمادى، حتى استنزله
الناصر فيمن استنزل من الثُّوَّار. ومات بقرطبة.
وثار خير بن شاكر بحصن شوذر من كورة جيان، زظاهر زعيم الثوار عمر ابن
حفصون؛ ففتك بخير المذكور، وأرسل برأسه إلى الأمير عبد الله.
ومنهم، عمر بن مضم الهترولي المعروف بالملاحي؛ وكان جنديا متدونا عند
العامل بحضرتها؛ فوثب عليه؛ فغدره، وضبط القصبة.
ومنهم، سعيد بن هذيل. كانت ثورته بحصن المنتلون من كورة جيان؛ فبنى
قصبته، وحصنها، وأعلن بالخلاف، حتى استنزله الناصر؛ فلحق بقرطبة إلى أن
مات.
وثار سعيد بن مستنة بكورة باغة، واقتعد حصونها؛ فاستفحل أمره وشره،
وعمَّ أذاه واصطفى من حصونها التي ظهر عليها أربعة لا مثيل لها في
الحصانة والمنعة.
وثار بنو هابل الأربعة: أكبرهم منذر بن حريز بن هايل، وأخوه أبو كرامة
هابل بن حريز، وأخوه عامر، وأخوه عمر؛ ثاروا ببعض حصون جيان في أيام
الأمير عبد الله، وخلعوا طاعته، وأطلقوا الغارة، وأطلعوا أهل الفساد.
ثم استنزلوا؛ فنزلوا على حكم الأمان؛ فحسنت طاعتهم وخدمتهم.
وثار إسحاق بن إبراهيم بن عطاف العقيلي بحصن متتيشة؛ فبناه وحصنه
وامتنع به، إلى أن استنزله الخليفة الناصر إلى قرطبة؛ وبها توفي.
ومنهم، سعيد بن سليمان بن جودي؛ أمرته عرب إغرناطة وإلبيرة؛ فضبط
أمرهم، حتى دبر عليه كبيران منهم بحيلة؛ فقتلاه بها. فلم ينتظم للعرب
هناك أمر بعده.
(2/136)
وثار محمد بن أضحى بن عبد اللطيف الهمداني،
من أكابر أبناء العرب بكورة إلبيرة، إلى أن هلك الأمير عبد الله؛
فاستنزله الناصر لدين الله عن حصنه، فيمن استنزله من الثوار. وكان ابن
أضحى هذا مع رجوليته أديبا بليغا، يقوم بين أيدي الأمراء في المحافل،
فيحسن القول، ويطيب الثناء. وله أخبار معروفة.
وثار بكر بن يحيى بن بكر، واقتعد مدينة شنت مرية من كورة أكشونبة،
وبناها حصنا اتخذ عليها أبواب حديد. وكان له ترتيب وأهبة، ورجال شجعان،
وعدة موفورة. وكان يتشبه - بزعمه - في سلطانه بإبراهيم بن حجاج. وكان
له أصحاب للرأي وكتاب للعمل. وكان له عهد مؤكد إلى جميع من في طاعته
بإضافة أبناء السبيل، وقراء النزيل. وحفظ المجتازين؛ فكان السالك
بناحيته كالسالك بين أهله وأقاربه.
وثار ابنا مهلب، من وجوه قبائل البربر بكورة إلبيرة؛ وهما خليل وسعيد؛
ثارا ثورة نظرائهما بجهتهما؛ فأقاما على سبيلهما إلى أن استنزل الناصر
أولادهما بعد وفاتهما.
وثار سليمان بن محمد بن عبد الملك الشذوني بشربش شذونة؛ وهو الذي بنى
نبريشة وحصنها.
وثار ابنا جرج بحصن بكور؛ ففسدت سيرتهما؛ فأخرجا عن الحصن. فمات عبد
الوهاب، ولحق محمد بن عبد الرحمن بن جرج بابن الشالية؛ وكان مصافيا له؛
فتقبله، واستخدمه، وبنى له حصن مورينة من كورة جيان؛ فأقام فيه إلى أن
استنزله الناصر ونقله إلى قرطبة.
وثار أبو يحيى النجيبيُّ المعروف بالأنقر بمدينة سرقسطة وأعمالها، وقتل
أحمد ابن البراء القرشي عامل الأمير على سرقسطة، واستولى عليها؛ وأظهر
التمسك
(2/137)
بطاعة الأمير عبد الله، وخاطبه، وهو ينسب
ابن البراء إلى الخلاف. فأظهر الأمير تصديقه، وسجل له على سرقسطة. فثبت
بها قدمه.
وفي سنة 283، أخرج الأمير عبد الله على العسكر هشام بن عبد الرحمن ابن
الحكم إلى كورة تدمير، في أواخر ربيع الأول. وكان القائد معه على الجيش
أحمد بن أبي عبدة. ولما احتل بوادي بلون، تقدم قطيع من الخيل؛ فافتتح
هنالك حصنا، وغنم ما كان فيه. وتوافت على العسكر حشود أهل الكور. ثم
انتقل وطوى المراحل حتى حل بمرسية. ثم انتقل إلى لورقة. فخرج إليه ديسم
بن إسحاق؛ فحاربه؛ فهزم ديسم؛ ورجع إلى لورقة وأقام محاصرا حتى فقل عنه
العسكر. ثم خرج ديسم بمن معه؛ فضرب في الساقة؛ فرجع إليه؛ فهزم واتبع
حتى اشتغاث بالوعر ونجا راجلا، وأخذ فرسه. وقفل العسكر سالما. وفقد في
هذه الغزاة الماء، ومات فيها اثنان وثلاثون رجلا عطشا، وهلكت دواب
كثيرة.
وفي سنة 284، أخرج الأمير عبد الله ابنه أبان إلى لبلة. وكان ابن خصيب
بحصن منت ميور، وكان قد ثار به؛ فحاصره، ونصب عليه المجانيق، ورماهم
بها حتى ضجوا ودعوا إلى الطاعة؛ وانعقد أمانهم. وفي خلال ذلك، دخل ابن
حفصون إسنجة الدخلة الثانية؛ فورد كتاب الأمير باستعجال القفول بسبب
إسنجة؛ فقفل العسكر. وكانت مدة هذه الحركة شهرين ونصفا، وهي أول حركة
أبان.
وفي سنة 285، غزا أبان ابن الأمير عبد الله إلى ابن حفصون، والقائد ابن
أبي عبدة.
وفيها أيضا، غزا عباس بن عبد العزيز إلى حصن كركي وجبل البرانس؛ وقتل
ابن بامين وابن موجول، وأخذ حصونهما.
(2/138)
وفيها، تقدم لب بن محمد بن طليطلة إلى حيز
جيان، ونازل حصن قسكلونة؛ وكان فيها نصارى يحاربون عبيد الله بن أمية
المعروف بابن الشالية؛ فأخذ الحصن، وقتل العجم. ووافاه فيه قتل أبيه
محمد بن لبَّ في محاصرته لسرقسطة.
وفيها، كانت المجاعة الشديدة التي سميت السنة 285 بها سنة لم أظن.
وفي سنة 286، أظهر ابن حفصون النصرانية؛ وكان قبل ذلك يسرها؛ وانعقد مع
أهل الشرك وباطنهم، ونفر عن أهل الإسلام، ونابذهم؛ فتبرأ منه خلق كثير.
ونابذه عوسجة بن الخليع، وبنى حصن قنبط، وصار فيه مواليا للأمير عبد
الله، محاربا لأبن حفصون. واتصلت عليه المغازي من ذلك الوقت، ورأى جميع
المسلمين أن حربه جهاد؛ فتتابعت عليه الغزوات بالصوائف والشواني، ولا
بني القواد عنه في الحل والترحال. وفي ذلك قال ابن فلزم للقائد ابن أبي
عبدة (متقارب) :
فَفِي كُلِّ صيفٍ وفي كُلِّ مَشتَى ... غَزَاتانِ مَنكَ عَلَى كُلِّ
حالِ
فَتِلكَ تُبِيدُ العَدّوَّ وَهذِي ... تُفيدُ الإمامَ بها بَيتَ مَالِ
وفي سنة 287، كانت الصائفة مشجولة ما بين كورة موزور وكورة شذونة وكورة
رية.
وفيها، قتل القائد ابن أبي عبدة طالب بن مولود الموروري.
وفيها، صلب إسحاق وصاحبه؛ وكانا من رجال ابن حفصون؛ وفيهما جرى المثل
في الناس: (غررتني يا إسحاق!) وذلك أن أحدهما قال هذه الكلمة لصاحبه،
وهو يرفع في الخشبة.
وفي سنة 288، قبضت رهائن ابن حفصون. وتجولت الصائفة بشذونة وغيرها من
الكور.
(2/139)
وفيها، عظم السيل بقرطبة، وانهدم رجل من
قنطرتها.
وفيها، خرج من قرطبة أحمد بن معاوية ابن الإمام هشام إلى فحص البلوط.
ثم تقدم إلى ترجيله؛ فأقام فيها مدة يسيرة. وانحشدت إليه الحشود؛ فدخل
إلى سمورة وبها قتل في شهر ربيع الأول.
وفي سنة 291، كان غزو أبان ابن الإمام عبد الله - رحمه الله - إلى رية؛
وقاد الخيل أحمد بن محمد بن أبي عبدة. وفصل يوم الخميس لخمس خلون من
جمادي الآخرة؛ ونهض حتى احتل بوادي نسقانية، واضطرب في هذه المحلة.
وخرج إليه عمر بن حفصون؛ ثم التقيا؛ فوقعت بينهما حرب شديدة؛ ثم انكشفت
الهزيمة على أصحاب ابن حفصون؛ فقتل منهم عدد كثير؛ ثم أضرم قرى وادي
نسقانية وما حواليها نارا. ثم انتقل وحل على وادي بينش المجاور لببشتر،
ووقعت الحرب بين أهل العسكر وبين ابن حفصون؛ فانهزم ابن حفصون، وقتل له
رجال، وعقرت له خيل. واتصل الحريق في جميع قرى تلك الناحية. ثم انتقل
إلى محلة طلجيرة؛ فأقام بها أياما، يحارب فيها ابن حفصون كل يوم، وينال
منه. وفي هذه الأيام، أحرقت منية لجعفر بن عمر بن حفصون. وفي هذه
الغزاة، حوربت طرش والرجل، وقتل أخو زيني وجماعة من حماة ابن حفصون.
ونصب المنجنيق على الرجل؛ فأثر فيه
(2/140)
وثلم في سوره. ثم تقدم القائد أحمد بن محمد
بن أبي عبدة من حصن لوشة إلى حصن الخشن، في جرائد الخيل، وأبقى أبان
ابن الإمام عبد الله - رحمه الله - معسكرا بمحلة لوشة؛ فحارب حصن
الخشن، وقتل عددا من أهله، وأسر منهم جماعة، وانصرف بالرؤوس والأسرى
إلى لوشة. ثم قفل بالعسكر، ودخل قرطبة يوم الجمعة لخمس بقين لرمضان؛
فكانت هذه الغزاة ثلاثة أشهر وعشرين يوما.
وفيها، خرج لُبُّ بن محمد إلى بايش من أحواز آلبة، وذلك في رمضان؛
فافتتح حصن بايش وما يليه، والعلج إذفنش يومئذ على حصن غزنون محاصرا
لأهله. فلما بلغه دخول لُبّ بن محمد بحصن بايش، ولَّى هاربا.
وفيها، ثم في ذي الحجَّة، خرج لبُّ بن محمد إلى ناحية بليارش؛ فافتتح
حصن لحروسه؟، وحصن إيلاس، وحصن قشتيل شنت، وحصن مولة، وقتل بهذه الحصون
نحوا من سبعمائة علج، وسبى بها نحوا من ألف سبية.
وفيها، توفي جعفر بن يحيى بن مزين الفقيه من أهل قرطبة؛ وكانت له رواية
عن أبيه وغيره. وفيها، توفي أحمد بن هاشم القائد بمدينة غرناطة، ودفن
هنالك، وهو ابن أربع وسبعين سنة. وفيها، توفي إسحاق بن عبد الله
الطبيب. وفيها، مات عامر بن موصل الأصبحيّ بحصن ناجرة) .
وفي سنة 292، كان خروج الصائفة إلى عمر بن حفصون. وتجوَّل العسكر على
حصونه؛ فهتك بعضها. وقوطع البعض على وظيف يودونه. وفيها، كانت الوقعة
العظيمة على عمر بن حفصون بوادي بلُّون من جيان. وكان قد توافى إليه
أهل الخلاف والخلعان، وخرج مغيرا على المسلمين؛ فهزمه الله، وقتل كثيرا
ممن كان معه. وأدبره في شرذمة قليلة، وأفنى أكثر رجاله في ذلك المعترك.
(2/141)
وفيها، خرج لبُّ بن محمد لمحاصرة مدينة
سرقسطة، وأخذ في ردم الخندق المجاور لسورها وشرع في البنيان عليها.
فلما كمل له ردم الخندق وبنيان ما فيه، رحل عنه وأدخل ندبة فيه من
رجاله.
وفيها، توفي عبد الله بن قاسم بن هلال؛ وكانت له رحلة؛ وأدخل الأندلس
كتب داوود العباسي وغيره. وفيها، وتوفي الوزير سليمان بن محمد بن
وانسوس، وعبد الرحمن بن أمية بن عيسى بن شهيد المعروف بدحيم، وتوفي
أخواه عثمان ابن أمية وعيسى بن أمية.
وفي سنة 293، كان خروج الصائفة إلى فهر بن أسد، وهو بحصن تشّ من كورة
جيان؛ فافتتح الحصن، وأخذ فهرا أسيرا، وقدم به إلى قرطبة؛ فأمر الإمام
عبد الله - رحمه الله - بصلبه عند القصابين في بيع الآخر.
وفيها، عزل محمد بن أمية بن شهيد عن المدينة؛ ووليها محمد بن غانم؛
فكانت ولايته شهورا؛ ثم عزل، وولى مكانه موسة بن محمد بن حُدير.
وفيها، حبس حزمير القومس، وعذب وأدهق حتى مات.
وفي جمادى الآخرة، دخل القائد أحمد بن محمد بن أبي عبدة حصن قنيط من
ناكرنا، وندب فيه جيشا، واستنزل من كان فيه من بنى الخليع، وأدخل فيه
الحشم.
وفيها، توفي يونس بن هاشم بن عبد العزيز. وفيها، توفي ديسم بن إسحاق
صاحب تدمير. وفيها، قتل يحيى بن قسيّ، ومحمد بن إسماعيل، وأيوب ابن
سليمان بطليطلة وفي سنة 294، كان غزو أبان ابن الإمام عبد الله - رحمه
الله - الصائفة إلى الجزيرة. وقاد الخيل أحمد بن محمد بن أبي عبدة، وحل
بالجزيرة
(2/142)
يوم الجمعة لتسع بقين من رجب. ثم تقدّم إلى
حصن لوزة يوم السبت لانسلاخ رجب؛ فحارب الحصن وحاصره، وقتل جماعة ممن
فبه؛ ثم تقدم إلى حاضرة رية، فيها مساور بن عبد الرحمن؛ فأحرقت أرباض
الحاضرة وحوصر من كان فيها؛ فدعا مساور إلى السلم، وبذل الرهائن. فأجيب
إلى ذلك، وقبضت رهائنه؛ ثم تقدم القائد إلى الساحل؛ فجال عليه أجمع،
وخرج على حصون إلبيرة، وقفل منصرفا إلى قرطبة؛ فدخلها يوم السبت
لليلتين خلتا من ذي القعدة.
وفيها، خرج لُبُّ بن محمد إلى جانب بنبلونة؛ فبذل في تهوره، وشرع في
البنيان بحصن هريز؛ فحشد إليه العلج شانجه جميع أهل بلده، وكايده
بالمكامن؛ ثم وجه إليه خيلا يسيره؛ فلما سمع الصيحة، بدر إلى الركوب؛
فلقى بكمين، فهزمه؛ ثم بكمين، فهزمه؛ ثم أحدقت به الكمائن. فقتل وقتل
من كان معه، ممن آثر الشهادة؛ وذلك في ذي الحجة لاثنتي عشرة ليلة بقيت
منه. فنزل تطيلة أخوه عبد الله بن محمد. وكان لبٌّ، يوم قتل، ابن ثمان
وثلاثين سنة.
وفيها، ظهر محمد بن عبد الملك الطويل في الثغر، ودخل حصن بربشتر وحصن
القصر وحصن بربطانية.
وفي سنة 295، كان غزاة أبان ابن الإمام عبد الله - رحمه الله -
بالصائفة إلى جهة رية؛ وقاد الخيل أبو العباس أحمد بن محمد بن أبي
عبدة؛ فقصد ببشتر، وحارب ابن حفصون، ونكاه، وأنزل به، وحارب ما حواليه
من الحصون.
وفيها، غدر سعيد بن الوليد المعروف بأبن مستنة، وتخلى عن حصن بلدة إلى
عمر بن حفصون، وظافره، وأبدى ما كان بصميره من العصيان.
(2/143)
وفيها، ولي المدينة محمد بن عبيد الله بن
أبي عثمان، وذلك يوم خميس؛ فاستعفى عنها؛ فأعفي يوم الجمعة ثاني
ولايته، وولى مكانه عليُّ بن محمد المعروف بالباسه؛ وكان عليها ثلاثة
أيام. ثم عزل وأعيد إليها موسى بن حدير؛ فكان واليا عليها إلى آخر أيام
الإمام عبد الله؛ وأقره أمير المؤمنين - رحمه الله - إلى سنة 303.
وفيها، دخل محمد بن عبد الملك الطويل حصن منتشون ومدينة لاردة في
المحرم.
وفيها، دخل محمد بن عبد الرحمن النجيبيُّ مدينة شية.
وفيها، خرج محمد بن عبد الملك الطويل إلى بربطانية؛ فافتتح حصونا جمة،
وسبى سبيا كثيرا.
وفيها، توفي الفقيه يحيى بن عبد العزيز بن الجرَّار، والفقيه محمد بن
غالب ابن الصفار، ومحمد بن يحيى بن أبي غسان صاحب السوق. وولى أحكام
السوق يحيى بن سعيد بن حسَّان. وفيها، توفي موسى بن محمد بن موسى بن
قطبس الخازن.
وفي سنة 296، كان غزو أبان ابن الإمام عبد الله بالصائفة إلى حصون رية
وغيرها. وقاد الخيل معه أحمد بن محمد بن أبي عبدة؛ فقصد ناحية بهشتر،
ونازل ابن حفصون، وحاربه ونكاه، وتحرك عيسى بن أحمد القائد غازيا إلى
حصون سعيد بن مستنة؛ فنازله أيضا، حتى قفل القائد أحمد ابن محمد من
ببشتر. ثم نازل حصن لك من حصون ابن مستنة؛ فأقام عليه حتى افتتحه.
وفيها، خرج محمد بن عبد الملك الطويل إلى بليارش في شهر رمضان؛ فقتل
هنالك مقتلة عظيمة. ووفد عليه رسل أهل حصن روطة، يرغبون الصلح ويسمحون
بالرهائن والجزية؛ فلم يجبهم إلى ذلك؛ فخرجوا هاربين من الحصن،
(2/144)
وأخلوه. وتقدم إليه؛ فهدمه. وفيها، تغلب
على حصن منت بطروش، وهو المعروف بجبل الحجارة.
وفيها، توفي محمد بن سليمان بن تليد المعافري قاضي مدينة وشقة. وفيها،
توفي عبيد الله بن محمد بن أبي عبدة؛ وكان حج قبل وفاته بثلاثة أعوام،
هو ويحيى بن سعيد بن حسان صاحب السوق. وفيها، توفيت السيدة ابنة مطرف
ابن الأمير عبد الرحمن بن الحكم - رحمهما الله -. وفيها، توفي أحمد بن
حفص بن رفاع الفقيه المقري.
وفي سنة 297، كان غزو العاصي ابن الإمام عبد الله - رحمه الله - الغزاة
المعروفة بغزوة رية وفريرة. وقاد الخيل أحمد بن محمد بن أبي عبدة. وفصل
يوم الخميس لتسع بقين من شعبان؛ فتقدم إلى بلدة؛ فحاربها. ثم احتل على
نهر طلجيرة؛ فدارت بينه وبين أصحاب ابن حفصون حرب، عقرت فيها خيل
السلطان، وقتل عدد من أصحاب ابن حفصون. ثم تقدم إلى حصون إلبيرة؛ فنزل
على حصن شبيلش؛ فكانت هنالك حرب شديدة، ونالت بعض حماة العسكر جراح.
وتجول في كورة إلبيرة، وحل بمحلة بجانة؛ ثم قفل على كورة جيان؛ فنازل
حصن المنتلون يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من ذي القعدة؛ فأقام عليه
محاصرا أياما؛ ثم ضحى فيه يوم الأحد، وقفل يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة
خلت من ذي الحجة، ودخل قرطبة يوم الأربعاء لأربع عشرة ليلة خلت من ذي
الحجة.
وفيها، افتتحت بياسة؛ واستنزل منها محمد بن يحيى بن سعيد بن بزيل.
وفيها، كان سيل عظيم غرقت منه أركان بيت الله الحرام، وفاضت بئر زمزم؛
ولم يرَ مثل هذا السيل في قديم الأزمان.
وفيها، اجتمع عمر بن حفصون، وسعيد بن مستنة، وسعيد بن هذيل، وضمهم عسكر
واحد؛ فضربوا بناحية جيان وأغاروا؛ فأصابوا وغنموا،
(2/145)
وانصرفوا إلى حصن جريشة؛ فاتبعهم القائد
أحمد بن محمد بن أبي عبدة؛ فلحقهم، وهزمهم، وقتل جماعة منهم، فيهم
تسريل العجمي من قواد ابن حفصون.
وفيها، افتتح القائد أحمد بن محمد بن أبي عبدة حصن الزبيب، وابتنى حصن
ترضيض تضييقا على ابن هذيل، وحصن قلعة الأشعث، ووضع فيه ندبا من
الرجال. وشتى القائد هذه السنة بجبل ارنيش من كورة قبرة. وكانت له في
هذه الشتوة حركات بالغت في نكاية أهل النفاق.
وفيها، خرج محمد بن عبد الملك الطويل إلى بار بليارش؛ فافتتح حصن
أوربوالة، وأصاب من المشركين ثلاثمائة سبية، وقتل كثيرا منهم، وهدم
الحصن وحرقه. وتقدم إلى حصني علتير والغبران؛ فهدمهما. وكان مبلغ الفيء
في هذه الغزاة ثلاثة عشر ألفا.
وفيها، قتل إبراهيم بن حجاج ابن عمه أحمد بن سيد بن عمر بن عُمير، وهو
ابن خمس وأربعين سنة.
وفيها، وذلك يوم الخميس لسبع بقين من ذي الحجة، اعتقل موسى ابن محمد بن
حدير صاحب المدينة إبراهيم ومحمدا وسعيدا بني الأمير محمد - رحمه الله
- وابن أخيهم محمد بن عبد الملك ابن الأمير محمد - رحمه الله - وحبسهم
في دار مطرف ابن الأمير عبد الله. وكان سبب ذلك أنّ الإمام عبد الله -
رحمه الله - عهد إليه ألا يترك أحدا يجوز القنطرة إذا كان له خروج
للصيد. وكان يصيد الإمام في تلك الجهة بعدوة النهر. فخرج الإمام في هذا
اليوم متصيدا. وخرج هؤلاء من المدينة متروحين؛ فردهم واعتقلهم. فلما
انصرف الأمير - رحمه الله - من صيده، أنهى إليه أمرهم وما فعله فيهم؛
فاستحسن ذلك منه، وشكر له، وعهد إليه بإطلاقهم.
(2/146)
وفي سنة 298، خرج العاصي ابن الإمام عبد
الله - رحمه الله - بالصائفة. وقاد الخيل أحمد بن محمد بن أبي عبدة؛
فتقدم إلى حصن ببشتر وغيره من حصون الساحل بكورة رية. ثم تقدّم بالعسكر
إلى كور إلبيرة؛ فحطم زرعها، وهشم ثمارها.
وفيها، أقام عيسى بن أحمد بن أبي عبدة في طقيع من الخيل بمدينة بيانة؛
فأغار عمر بن حفصون وسعيد بن مستنة في بسيط قبرة وقرى قرطبة. وأخذوا
الغنائم؛ فخرج عيسى بن أحمد طالبا لهما؛ فالتقى بهما على نهر ألبة؛
فدارت بينهم حرب شديدة، وإنهزم عمر بن حفصون وابن مستنة؛ فقتل من
أصحابهما خلق كثير، وافترقوا أيادي سبا. وبعث عيسى بن أحمد من رؤوسهم
عددا كثيرا.
وفيها، غزا الوزير عباس بن عبد العزيز إلى مدينة قلعة رباح؛ وكان أهلها
قد خالفوا، وخلعوا الطاعة؛ فافتتحها. وكان فضل بن سلمة، ختن سعيد ابن
مستنة، قد خالف بحصن أشر؛ فتقرب أهل حصن أشر بقتله إلى الإمام عبد الله
- رحمه الله! - فقدم منهم قوم برأسه إلى باب السدة؛ فشكر لهم ذلك.
وفيها، خرج عباس بن أحمد بن أبي عبدة قائدا على خيل كثيفة إلى المنشلون
لحرب سعيد بن هذيل. وفيها، تداعى البربر الطنجيون الذين كانوا غزوا مع
القائد أحمد بن محمد بن أبي عبدة إلى النزوع إلى مدينة بلدة إلى ابن
حفصون؛ وتداعى الطنجيون الذين كانوا مع عباس بن أحمد على المنتلون إلى
النزوع إلى ابن هذيل؛ فخرجوا عن العسكر، ولحقوا بأهل الكفر والخلعان.
ثم دارت الدائرة على هؤلاء وهؤلاء في الموضعين جميعا لأمور أحدثوها،
واستدرجهم الله - عز وجل - بها؛ فقتلوا ببهشتر والمنتلون. وعاد من بقى
منهم إلى الطاعة. وكان صاحب الصائفة العاصي ابن الأمير عبد الله؛ وكان
(2/147)
فصوله لهذه الغزاة يوم الاثنين لاثنتي عشرة
ليلة خلت من شعبان، وهو يوم النصف من أبريل. وكانت في هذه الغزاة أمراض
ووباء.
وفيها، خرج محمد بن عبد الملك الطويل إلى أرغون يريد بنبلونة وأن يجتمع
هنالك مع عبد الله بن محمد بن لب. فانتهى إلى حصن البربر؛ فأحرق ما
حواليه، وهدم كنائس تلك المواضع، وذلك في شهر رمضان. وعرج عن ملاقاة
ابن لب وعن القصد إلى بنبلونة، وانصرف؛ فاحتل حصنا من حصونه يعرف بشار
قشتيله؛ فأنذر بأن ابن شانجه يريد الهجم عليه؛ فخرج في بعض أصحابه
متسللا. فلما أيقن أهل العسكر بهروب ابن الطويل، تخاذلوا؛ فكان سببا
لانهزام أهل الحصن. فلما بلغ عبد الله بن لب الخبر، وأن ابن الطويل
كعَّ عن ملاقاة شانجه، نزل بمن معه من المسلمين على حصن لوازة من حصون
شانجه؛ فقتل جماعة منهم وكر راجعا؛ فالتقى ببعض الخيل التي كان فيها
شانجه؛ فقتل فيهم وسبى.
وفيها، استشهد ابن أبي الخصيب التطيلي، واسمه نعم الخلف؛ وكان نبيلا
أديبا، وفقيها محدثا.
وفيها، مات إبراهيم ابن الإمام محمد - رحمه الله - وفيها، توفي معاوية
ابن محمد بن هشام القرشي؛ وعثمان ابن الأمير محمد - رحمه الله -؛ ومطرف
ابن أحمد بن مطرف ابن الأمير عبد الرحمن - رحمه الله -؛ وأبان بن عبد
الملك ابن الأمير عبد الرحمن - رحمه الله -. وفيها، توفي محمد بن أمية
بن عيسى بن شهيد الوزير، صاحب المدينة. وفيها، توفي سعيد بن عبد الرحيم
السذوني الكاتب؛ وأبو يحيى يزيد بن محمد النجيبي الخازن؛ وموسى بن
العاصي بن ثعلبة؛ وأبو مروان عبيد الله بن يحيى بن أبي عيسى؛ وأصبغ بن
عيسى بن فطيس؛ وإبراهيم بن حجاج صاحب إشبيلية، وهو ابن ثلاث وستين سنة؛
وعمر بن قومس الكاتب؛ وريان الفتى صاحب الطراز؛ وأفلج الوصيف.
(2/148)
وفي سنة 299، كان غزاة القائد أحمد بن محمد
بن أبي عبدة إلى حصن فننجالة من حصون ابن هذيل، بالقرب من جبل
المنتلون، وذلك في صدر المحرم؛ فحاصره أشد الحصار، حتى افتتح الحصن.
وفيها، غزا بالصائفة أبان ابن الإمام عبد الله - رحمه الله - وقاد
الخيل عباس بن عبد العزيز الوزير. وفصل يوم الاثنين لتسع بقين من
شعبان، وقصد حصن ببشتر، وحارب ابن حفصون، وأوقع به. ثم خرج بإثره أحمد
ابن محمد بن أبي عبدة؛ فتولى القيادة مكانه، واستقدم عباس بن عبد
العزيز إلى قرطبة؛ فقصد القائد حصون ابن حفصون، وحارب من كان فيها.
وفي هذه السنة، كسفت الشمس جميعا قبل وقت الغروب، وذلك يوم الأربعاء
لليلة بقيت من شوال؛ وظهرت النجوم. وبدر أكثر أهل المساجد؛ فأذنوا
لصلاة المغرب، وصلوا. ثم انجلى ذلك، وعادت الشمس مضيئة. ثم توارت
للمغيب.
وفيها، خرج محمد بن عبد الملك الطّويل إلى وادي برشلونة؛ فأغار بوادي
طراجة. فخرج عليه العلج شنير؛ فأخذ عليه المضايق. فلما كرّ عسكر
المسلمين، ألفوا أعداء الله على تلك المضايق؛ ففتح الله للمسلمين
عليهم، وقتلوا فيهم مقتلة عظيمة.
وفيها، توفي عبد الله بن أبي زيد صاحب الخيل. وفيها، توفي أصبغ بن مالك
الزاهد الفقيه. وفيها، هلك العلج إذفنش؛ وكانت مدّة أيامه أربعا
وأربعين سنة؛ وولى ابنه غرسية مكانه.
(2/149)
شأن ابني الأمير عبد
الله محمد ومطرف
كان الأمير عبد الله قد رشح ابنه محمدا لولاية عهده، وأثره بما عنده؛
فعظم الأمر على أخيه مطرف، وبعدما بينهما كل البعد، وقابل الواحد
الثاني بالهجران والصد. فوجد مطرف يوما فارسا من فرسان محمد؛ فاغتاله
وقتله؛ ثم فرق من أبيه عبد الله وحذر سطوته، ولم يأمن طولته؛ فسار إلى
السجن وفتقه، وحلّ من شده أبوه وأوثقه، وخرج بمن فيه من أهل الذعارة
والفساد، ولحق ببربشتر قاعدة أهل الضلال والعناد، وصار عند ابن حفصون،
في حرز من الأمن مصون. ثم إن الأمير عبد الله أباه خاطبه بالأمان،
وقال: (بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان!) فقبل من أبيه، وانصرف إلى أهله
وذويه. ولم يزل بعد ذلك مطرف يغري بمحمد إغراء، ويطوي له عداوة وبغضاء،
ويزعم أنه يخاطب ابن حفصون ويداخله، ويداهنه على القيام على أبيه
ويواصله. فسجن الأمير عبد الله ابنه محمدا في دار البنيقة، وامتحن خلال
ذلك عين الحقيقة. فلما واصل في البحث صباحه ومساءه، لم يقرع سمعه من
جهته ما ساءه فأسرع إطلاقه، وحلَّ وثاقه؛ فدخل مطرف إليه، وأجهز في
الحين عليه، وتركه متخبطا في دمه، ملقى على وجهه وفمه. فلما علم ذلك
الأمير عبد الله، أعظم ذلك منه، وهم بقتله عنه؛ فلم يعدم من كسر عليه
لذلك؛ فتركه. وقيل: قتله فيه: والله أعلم. وكان ذلك في سنة 277.
شأن القاسم أخي الأمير عبد الله
كان الأمير عبد الله قد اتهم أخاه بالقيام عليه في الملك، وإيراده
موارد الهلك. فلما كثر بذلك الرفع إليه، وتتابع الكلام فيه عليه، رأى
بمقتضى الرياسة، وحكم التدبير والسياسة، أن يجبسه في دار البنيقة من
القصر، حتى
(2/150)
يكشف من هذا الأمر. ثم نقله منها إلى حبس
الدويرة؛ فمنع النوم هنالك؛ فأرسلت له أمه مرقدا لذلك، وأمرته أن يقسمه
على ثلاثة أيام؛ فشرب الجميع في يوم واحد؛ فأصبح رهن الحمام.
وفي سنة 300، كان وفاة الإمام عبد الله بن محمد - رحمه الله - ليلة
الخميس مستهل ربيع الأول، وهو ابن اثنتين وسبعين سنة. وكانت خلافته
خمسا وعشرين سنة، وخمسة عشر يوما. ودفن في قصر قرطبة مع أجداده الخلفاء
- رضي الله عنه وعنهم! - وصلى عليه أمير المؤمنين عبد الرحمن ابن محمد
- رضه.
صفة الإمام عبد الله بن محمد
كان أبيض، أصهب، مشربا بحمرة، أزرق أقنى بخضب بالسواد، ربعة إلى الطول،
عظيم الكراديس.
تسمية أولاد الإمام عبد الله: ممن ولد له قبل الخلافة: محمد أبو أمير
المؤمنين عبد الرحمن بن محمد - رحمهما الله -، أمه: دُرّ؛ وأحمد، أمّه:
تمام؛ ومطرف، وسليمان، أمهما: غزلان؛ وأبان، لأم ولد تسمى شأن؛ وعبد
الرحمن؛ وعبد الملك؛ والسيدة؛ وعائشة؛ والسيدة أخرى، أمهن: غزلان؛
وهشيمة، أمها: قريش؛ وأسماء؛ أمها قتيان؛ وحكيمة، أمها: ملك؛ والبهاء،
أمها: درّ؛ وفاطمة، وكانت أسن ولده. وممن ولد له بعد الخلافة: العاصي
لمستظرف، وعبد الرحمن لخديع، ومحمد الأصغر، أمهما: ملحة، ورقية، وزينب
لملحة، وفاطمة لماجن، وزينب لشارق، وفاطمة الصغرى لدرّ.
ذكر حجابه ووزرائه وكتابه وأصحاب شرطه: ألفي الإمام عبد الله على
الحجابة وقت وفاة الإمام المنذر - رحمهما الله - عبد الرحمن بن أمية بن
شهيد؛ فأمضاه عليها؛ ثم عزله، وولي مكانه سعيد بن محمد بن السليم؛ ثم
عزله، ولم يول بعده الحجابة أحدا. والوزراء: براء بن مالك القرشي؛ عباس
ابن عبد العزيز القرشي؛ سعيد بن محمد بن السليم؛ عبد الملك بن عبد الله
(2/151)
ابن أمية. وقاد الخيل بالصوائف عبيد الله
بن محمد بن أبي عبدة. وولي الكتابة أحمد بن محمد بن أبي عبدة. وقاد
بالصوائف سلمة بن عليّ بن أبي عبدة؛ عبد الرحمن بن حمدون بن أبي عبدة؛
حفص بن محمد بن بسيل. ولي المدينة مع الوزارة محمد بن وليد بن غانم.
ولي المدينة مع الوزارة أصبغ بن عيسى بن فطيس؛ عبد الله بن محمد
الزجالي، وكان كاتبا ووزيرا؛ سليمان بن محمد بن وانسوس؛ أحمد بن هاشم.
وقاد الخيل جعفر بن عبد الغافر. وقاد الخيل العاصي بن عبد الله بن
ثعلبة؛ تمام بن عمرو بن علقمة وكان وزيرا لثلاثة من الخلفاء؛ عبد الله
بن حارث بن بزيع؛ إبراهيم بن خمير؛ محمد ابن أمية بن شهيد. وولي
المدينة نضر بن سلمة، وولي القضاء موسى بن زياد؛ وولي الكتابة والشرطة
والقضاء. ومن أصحاب الشرط موسى بن زياد، ثم ولي مكانه، لما ولي القضاء،
يحيى بن زياد عمه؛ ثم مات يحيى بن زياد، وبقيت الشرطة دون والٍ سنتين؛
ثم وليها قاسم بن وليد الكلبي؛ فبقى عليها حتى توفي الإمام - رحمه
الله! ومن كتابه: عبد الله بن محمد الوزير؛ عبيد الله بن محمد بن أبي
عبدة؛ موسى بن زياد. ومن قضاته: النضر بن سلمة القيسي؛ ثم موسى بن
زياد؛ ثم محمد بن سلمة أخو النضر؛ ثم أعيد النضر بن سلمة ثانية؛ ثم عزل
وولي محمد بن سلمة؛ ثم مات، وولي بعده أحمد بن محمد بن زياد اللخمي.
بعض أخبار الأمير عبد الله بن محمد على
الجملة
كان الإمام عبد الله مقتصدا، يظهر ذلك في ملبسه وشكله وجميع أحواله.
وكان حافظا للقرآن، كثير التلاوة له. وكانت له صدقات كثيرة ونوافل
(2/152)
جزيلة. وكان متقدما في ورعه وفضله، محبا
للخير وأهله، كثير الصلاة، دائم الخشوع والذكر الله عز وجل، كثير
التواضع، منكرا للسرف ومبعدا لأهله، شديد الوطأة على ذوي الظلم والجور.
وكان متفننا في ضروب العلوم، بصيرا بلغات العرب، فصيح اللسان، حسن
البيان وكان لا يخلو في أكثر أيامه من مقاعدة وزرائه ووجوه رجاله؛ فإذا
انقضى خوضهم في الرأي والتدبير لأسباب مملكته وما كان يحاوله من حسم
علق الفتنة، خاض معهم في الأخبار والعلوم. ولم يكن ممن اشتغل بلذة، أو
قارف شيئا من الأنبذة في أيام خلافته ولا قبلها. وهو ابتنى الساباط بين
القصر والجامع بمدينة قرطبة، رغبة في شهود الجمعة، ومحافظة على
الصلوات، وحبا للصالحات. وكان يقعد في الساباط قبل صلاة الجمعة وبعدها؛
فيرى الناس، ويشرف على أخبارهم وحركاتهم، ويسر بجماعاتهم، ويسمع قول
المتظلم؛ ولا يخفى عليه شئ من أمور الناس. وكان يقعد أيضا على بعض
أبواب قصره في أيام معلومة؛ فترفع إليه فيه الظلامات، وتصل إليه الكتب
على باب حديد قد صنع مشرجبا لذلك؛ فلا يتعذر على ضعيف إيصال بطاقة
بيده، ولا إنهاء مظلمة على لسانه. وكان أهل المكانات وذوو المنازل
والأقدار يتحفظون من كل أمر يوجب الشكوى بهم، وينقبضون عن التحامل على
من دونهم، ويهابون عقابه، ويحذرون إنكاره، ويتحرون موافقة مذاهبه.
وكانت اللذات مهجورة في أيامه، واللهو غير مقترف من جميع خاصته وعامته،
وإعمال الخير وإظهار البرّ والتقوى فاش في كل طبقة من رجاله ورعيته.
وكان - رحمه الله - كثير الاستغفار لله عز وجل، ومتحفظا من اليمين
باسمه؛ فإذا حلف له حالف بالله، صدقه؛ وإذا شفع به إليه شافع، شفعه؛ أو
خائف، أمنه؛ أو مذنب، صفح عنه. ومآثره كثيره، وفضائله محفوظة مذكورة.
وكان قد فتح بابا في القصر، سماه باب العدل. وكان يقعد فيه للناس يوما
معلوما في الجمعة، ليباشر أحوال الناس بنفسه، ولا يجعل بينه وبين
المظلوم سترا. وكان بصيرا باللغات، حافظا لأشعار العرب وأيامها وسير
الخلفاء،
(2/153)
راوية للشعر. وكانت اللذات في أيامه
مهجورة؛ فأنه لم يشرب قط نبيذا ولا مسكرا. واعتذر إليه يوما بعض
مواليه؛ فقال له: (إن مخايل الأمور لتدل على خلاف قولك وتنبئ عن باطل
تنصلك. ولو أقررت بذنبك، واستغفرت لجرمك، لكان أجمل بك، وأسدل لستر
العفو عليك! فقال: (قد اشتمل الذنب على، وحاق الخطاء بيَّ! وإنما أنا
بشر، وما يقوم لي عذر!) فقال: (مهلا عليك، رويدا بك! تقدمت لك خدمة،
وتأخرت لك توبة؛ وما للذنب بينهما مدخل. وقد وسعك الغفران!) وأملى
كتابا إلى بعض عماله: (أما بعد، فلو كان نظرك فيما خصصناك به، واهتبالك
به على حسب مواترتك بالكتب واشتغالك بذلك عن مهم أمرك، لكنت من أحسن
رجالنا عناء، وأتمهم نظرا، وأفضلهم حزما. فأقلل من الكتب فيما لا وجه
له ولا نفع فيه، واصرف همتك وفكرتك وعنايتك إلى ما يبدو فيه اكتفاؤك،
ويظهر فيه غناؤك، إن شاء الله!) وكتب أحد الوزراء إليه كتابا في أمر.
فوقع فيه (خفيف) :
أنتَ يا نَضْر آبدَة ... لَسْتَ تُرجَى لِفائِده
إنَّما أنْتَ عُدَّةْ ... لكَنيفِ ومائِدَهْ
وكان - رحمه الله - تقيا نقيا. بنى الساباط من القصر إلى الجامع،
محافظة منه على الصلوات. والتزم الصلاة مع الجماعة إلى جانب المنبر
دائما حتى لقي ربَّه. وكان - رحمه الله - شاعرا مطبوعا؛ له أشعار حسان.
فمن قوله يتغزل في صباه (متسرح) :
ويَحي عَلَى شادِنٍ كَحبِلٍ ... في مِثْلِه يُخْلَعُ العِذَارُ
كأنَّما وَجْنَتَاهُ وَرْدٌ ... خالَطَهُ النَّوْرُ والبَهَارُ
قَضِيبُ بَانٍ إذا تَشَنَّى ... بُدِيرُ طَرفاً بهِ احْورَارُ
فَصفْوُ وُدِّي عليه وَقفٌ ... ما اطَّرَدَ اللّيلُ والنّهارُ
(2/154)
ومن قوله أيضا في مثل ذلك - رحمه الله -
(رجز) :
يَا مُهجَةَ المُشتاقِ ما أَوجَعَكْ ... ويَا أسِيَر الحُبِّ ما
أخضَعَك
ويَا رَسُولَ العين مِنْ لَحظها ... بالرَّدِ والتبليغِ ما أسرَعَك
تَذهَبُ بالسِّرِّ فَتاتِي بِهِ ... في مجلِسٍ تَخفى عَلَي مَن مَعَك
كَم حاجةٍ أنجزتَ أسرارَها ... تَبَاركَ الرَّحمانُ مَا أطوَعَك
ومن قوله في الزهد (كامل) :
يَا مَن يُراوغه الأجَل ... حتى مَ بُلهِبكَ الأمَل
حتَّى مَ لا تَخشَى الرَّدَى ... وَكَأنَّه بِكَ قد نَزَل
أغفَلتَ عن طَلَبِ النَّجاةِ ... وَلا نَجَاةَ لِمَن غَفَل
هَيهَاتَ يَشغلك المُنَى ... وَلَمَا يدومُ لَكَ الشَّغَل
فكأنَّ يَومَك لم يَكُن ... وكأنَّ نَعيَك قَد نَزَل
وله أيضا في الزُّهد (وافر) :
أرَى الدُّنيا تَصِيرُ إلى فَنَاء ... وَمَا فيها لشيء من بَقَاء
فبَادِر بالإنابة غير وَانٍ ... على شَئٍ يصِير إلى فَنَاء
كَأنَّكَ قد حُمِلتَ على سَرِيرٍ ... وغُيبَ حُسنُ وَجهك في الثَّرَاء
فَنَافِس في التُّقى واجنح إليه ... لَعَلك تُرضينَّ رَبَّ السَّماءِ
ولم يزل - رحمة الله عليه - يرفع منار الدين، ويسلك سبيل المهتدين، لم
تمنعه الفتن عن النظر لنفسه، والعمل ليوم فاقته وحلول رمسه. وكانوا
يعدونه من أصلح خلفاء بن أمية بالأندلس، وأمثلهم طريقة، وأتمهم معرفة،
وأمتنهم ديانة؛ إلا أنه كان منغص الحال بدوام الفتنة، وتضييق نطاق
الخطة، ونقصان مقدار التزكية، حتى كان يتخلله الرياء تحت قناع تقواه،
والبخل بطوقه طبيعة ليست له تحط من هواه؛ وغمض دينه لما كان من هوان
الدماء عليه، بسبب
(2/155)
الفتن الطارئة حتى من ولديه، آخذا لأكبرهما بالظنة. وقد صرح النقية أبو
محمد بن حزم بذم هذا الأمير، وقال إنه كان قتالا تهون عليه الدماء مع
كثرة إقباله على الخيرات، وإعراجه عن المنكرات؛ فإنه احتال على أخيه
المنذر على إيثاره له، وواطأ عليه حجامه بأن سمَّ له المبضع الذي قصده
به، وهو نازل بعسكره على ابن حفصون. ثم قتل ولديه معا بالسيف واحدا بعد
واحد: قتل محمدا والد الناصر لدين الله، وقتل أخاه المُطرف؛ ثم قتل
أخوين له معا أيضا: قتل هشاما منهما بالسيف، والقاسم بالسم.) والله
أعلم بحقيقة أمره.) |