التدوين في أخبار قزوين

القول في بيان من ورد قزوين من الصحابة والتابعين رضي اللَّه عنهم أجمعين
من ورد قزوين من الصحابة رضي اللَّه عنهم أجمعين
...
القول في بيان من ورد قزوين من الصحابة والتابعين رضي اللَّه عنهم أجمعين
نقدم عليه ما بلغنا في قصة تسخير الريح لسليمان عليه السلام أنه كان ينزل في سيره غدوا ورواحا بقزوين قَالَ اللَّه تعالى في سورة سبأ: {وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} . أي سخرناها له ويقرأ الريح بالرفع وقال تعالى: {فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً} . وقرئت الآيتان بالرياح على الجمع.
قوله: {غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ} . أي يسير بالغدو مسيرة شهر وبالرواح كذلك ويقطع في اليوم الواحد مسيرة شهرين.
قوله: رخاء قيل لينة الهبوب وقيل طيبة وقيل مطيعة له وقوله حيث أصاب أي أراد وقصد من النواحي تقول العرب أصاب الصواب فأخطأ الجواب أي قصد الصواب وذكروا أقوالا في المسافة التي قطعها غدوا ورواحا.
فمنها: أن الريح كانت تحمله غدوة من اصطخر فارس إلى مصر وعشية من مصر إلى اصطخر.
منها: في تفسير أبي علي الحسن بْن مُحَمَّد الزعفراني بروايته عن يزيد بْن هارون عن أبي هلال وهو الراسبي عن الحسن قَالَ: كان نبي اللَّه سليمان عليه السلام يغدو من بيت المقدس فيقيل باصطخر ثم يروح من

(1/58)


من اصطخر فيبيت بقلعة بخراسان يقال لها قلعة سليمان1.
منها: عن الحسن أنه كان يغدوا من دمشق فيقيل باصطخر وبينهما مسيرة شهر ثم يروح من اصطخر ويبيت بكابل وبينهما مسيرة شهر ومنها في تفسير النقاش أنه يقال أنه كان يتغدى بالري ويتعشى بسمرقند ويتغدى بسمرقند ويتعشى بالري.
مِنْهَا: وَهُوَ الْمَقْصُودُ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ في تفسيره نبأ محمد ابن عبد الله ابن بَزِيعٍ نَبَّأَ بِشْرُ بْنُ الْمُفَصِّلِ عَنْ عَوْفٍ عَنِ الْحَسَنِ أَنَّ نبي اللَّه سليمان عليه السلام لَمَّا عُرِضَتْ عَلَيْهِ الْخَيْلُ فَشَغَلَهُ النظر إليها عن الصلاة الْعَصْرِ حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ غَضَبَ للَّهِ تَعَالَى فَأَمَرَ بِهَا فَعُقِرَتْ فَأَبْدَلَهُ اللَّهُ مَكَانَهَا أَسْرَعَ مِنْهَا سَخَّرَ لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رَخَاءً حَيْثُ شَاءَ وَكَانَ يَغْدُو مِنْ إِيلِيَا وَيَبِيتُ بِقَزْوِينَ ثُمَّ يَرُوحُ مِنْ قَزْوِينَ وَيَبِيتُ بِكَابُلَ.
رأيت هذا القول أولا في نكت علم القرآن تلخيص مُحَمَّد بن يوسف ابن بندار من كتاب أبي الحسن علي بْن عيسى البغدادي النحوي ثم رأيت في الأصل الملخص منه ثم وجدته في تفسير ابن جرير المشهور بالإسناد المذكور.
أعلم أنه لا تنافي بين الأقوال والظاهر أنه كانت له عليه السلام توجهات ومقاصد مختلفة وكانت تجري بأمره تارة هكذا وتارة هكذا وكل نقل من سيره ما بلغه أو نوعا مما بلغه ويذكر أن الحكمة في تسخير
__________
1 جبل سليمان معروف اليوم في غريي بيشاور وجنوبي جلال ابد تسكنه الافاغنة، وهذه الناحية تسمى طخارستان وتعد منأعمال خراسان - راجع التعليقات.

(1/59)


الريح له وتسيره بأهل مملكته بها أن يعرف أن ملك الدنيا مبني على مالا يقبل الضبط والتقيد ولا ثبات له ولا استقرار بل يميل تارة هكذا وأخرى هكذا - أنشد:
إن ابن آوى لشديد المقتنض ... وهو إذا ما صيد زج في قفص
وأيضا:
أفا وتعسا لمن مودته ... إن زلت عنه سويعة زالت
إن مالت الريح هكذا وكذا ... مال مع الريح حيث ما مالت
وقيل:
وكل ريح لها هبوب ... يوما فلا بد من ركود
ثم أنه قد ورد قزوين ألجم الغفير من صحابة رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم وتابعيهم ألا ترى إلى ما روينا في الآثار في فصل الفضائل أن مرة الهمداني خرج إليها في أربع آلاف وعن الربيع بْن خثيم مثله وهذا عدد كثير سواء تداخلت الأربعتان أو لم يتداخلا وكان العصر عصر الصحابة والتابعين إلا إن الذين نقل ورودهم بأعيانهم جماعة معدودون.
منهم: البراء بْن عازب بْن الحارث بْن عدي بْن جشم بْن مجدعة بْن حارثة بْن الحارث بْن الخزرج بْن عمرو بْن مالك بْن أوس الأنصاري الحارثي أبو عمارة ويقال أبو الطفيل ويقال: أبو عمرو صحب النبي وكذلك أبوه واستصغر البراء يوم أحد وقيل أنه استصغر يوم أحد أيضا وأول مشاهده الخندق.

(1/60)


كذلك ذكره أبو عَبْد اللَّه بْن منده الحافظ وحدث الإمام البخاري في التاريخ عن عَبْد اللَّه بْن رجاء قَالَ: ثنا إسرائيل عن أبي إسحاق نبأ البراء قَالَ غزوت مع النبي خمس عشرة غزوة قَالَ ابن منده: وروى عنه أبو جحيفة وبنوه الربيع ويزيد وعبيد وذكر أبو بكر بْن أبي خيثمة له ابنا آخر وهو لوط.
في تاريخ البخاري في باب إبراهيم بْن البراء بْن عازب وأورد روايته عن أبيه وفي باب يحيى يحيى بْن البراء بْن عازب وذكر أنه روى عن ابن مسعود وفي المعارف لابن قتيبة أنه كان للبراء ابنان يزيد وسويد وقد سبق ما اشتهر من فتح البراء قزوين رضي اللَّه عنه.
قَالَ بكر بْن الهيثم: ولي في أول زوال ملك العجم المغيرة بْن شعبة الكوفة وجرير بْن عَبْد اللَّه همدان والبراء بْن عازب قزوين سار إليها وفتحها اللَّه على يده وعن أبي عمر الشيباني أن البراء افتتح قزوين والري وأبهر وزنجان وشهد مع علي رضي اللَّه عنه الجمل وصفين والنهروان وكان رسوله إلى أهل النهروان.
ذكر الخليل الحافظ في تاريخه أنه كان للبراء بقزوين أجناد فيهم رواة وعلماء وأنه بقي فيهم سنتان أَنْبَأَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الدَّيْلَمِيُّ أَنْبَأَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبُرْجِيُّ أَنْبَأَ أَبُو نُعَيْمٍ الْحَافِظُ أَنْبَأَ أَبُو مُحَمَّدِ بْنُ فَارِسٍ أَنْبَأَ يُونُسُ بْنُ حبيب أنبأ أبو داؤد ثَنَا أَبُو عَوَانَةَ عَنِ الأَعْمَشِ عَنِ الْمِنْهَالِ بْنِ عَمْرٍو عَنْ زَاذَانَ عَنِ الْبَرَاءِ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ. وَلَمْ يُلْحَدْ فَجَلَسَ رَسُولُ الله صلى الله

(1/61)


عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ كَأَنَّ عَلَى رُؤُسِنَا الطَّيْرُ.
فَجَعَلَ يَرْفَعُ بَصَرَهُ وَيَنْظُرُ إِلَى السَّمَاءِ وَيُخْفِضُ بَصَرَهُ وَيَنْظُرُ إِلَى الأَرْضِ قَالَ: "عُوذُوا بِاللَّهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ" قَالَهَا مِرَارًا, ثُمَّ قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا كَانَ فِي قِبَلٍ مِنَ الآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا جَاءَهُ مَلَكٌ فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الطَّيِّبَةُ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ فَتَخْرُجُ نَفْسَهُ وَتَنْزِلُ الْمَلائِكَةُ مِنَ الْجَنَّةِ بِيضُ الْوُجُوهِ كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ مَعَهُمْ أَكْفَانٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِهَا فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ فَإِذَا قَبَضَهَا الْمَلِكُ لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ" قَالَ: "فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ} قَالَ: "فَتَخْرُجُ بِنَفْسِهِ كَأَطْيَبِ رِيحٍ فَتَعْرُجُ بِهِ الْمَلائِكَةُ فَلا يَأْتُونَ عَلَى جُنْدٍ فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا قَالُوا: مَا هَذِهِ الرُّوحُ؟ فَيُقَالُ: فُلانٌ بِأَحْسَنِ أَسْمائِهِ حَتَّى يَنْتَهُوا بِهِ إِلَى بَابِ سَمَاءِ الدُّنْيَا فَيُفْتَحُ لَهُمْ وَتَبِعَهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا حَتَّى يَنْتَهِي بِهَا إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ فَيُقَالُ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي عِلِّيِّينْ {وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ كِتَابٌ مَرْقُومٌ يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ} فَيُكْتَبُ كِتَابُهُ فِي عِلِّيِّينَ.
ثُمَّ يُقَالُ: رُدُّوهُ إِلَى الأَرْضِ فَإِنِّي وَعَدْتُهُمْ أَنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ وَمِنْهَا أُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا يُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى قَالَ: فَيُرَدُّ إِلَى الأَرْضِ وَيُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ فَيَأْتِيهِ ملكان شديد الانْتِهَارِ فَيَنْتَهِرَانِهِ وَيَجْلِسَانِ فَيَقُولانِ: مَنْ رَبُّكَ وَمَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّي اللَّهُ وَدِينِيَ الإِسْلامُ.
فَيَقُولانِ: فَمَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللَّهِ فَيَقُولانِ: وَمَا يُدْرِيكَ؟ فَيَقُولُ: جَاءَنَا بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّنَا فَآمَنَّا

(1/62)


بِهِ وَصَدَّقْنَا, قَالَ: وَذَلِكَ قَوْلُهُ: {يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ} .
قَالَ: "وَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ أَنْ قَدْ صَدَقَ عَبْدِي فَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَأَفْرِشُوهُ مِنْهَا وَأَرُوهُ مَنْزِلَهُ مِنْهَا فَيُلْبَسُ مِنَ الْجَنَّةِ وَيُفْرَشُ مِنْهَا وَيَرَى مَنْزِلَهُ مِنْهَا ويفسح له مد بصره وبمثل لَهُ عَمَلُهُ فِي صُوَرَةِ رَجُلٍ حَسَنِ الْوَجْهِ طَيِّبِ الرِّيحِ حَسَنِ الثِّيَابِ فَيَقُولُ أَبْشِرْ بِمَا أَعَدَّ اللَّهُ لَكَ أَبْشِرْ بِرِضْوَانٍ مِنَ اللَّهِ وَجَنَّاتٍ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ.
فَيَقُولُ: بَشَّرَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ, مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الَّذِي جَاءَ بِالْخَيْرِ؟ فَيَقُولُ: هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ وَالأَمْرُ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُكَ إِلا سَرِيعًا فِي طَاعَةِ اللَّهِ بَطِيئًا عَنْ مَعْصِيَتِهِ فَجَزَاكَ الله خيرا فيقول: يارب أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي".
قَالَ: "فَإِنْ كَانَ فَاجِرًا وَكَانَ فِي قُبُلٍ مِنَ الآخِرَةِ وَانْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا جَاءَ مَلَكٌ فَجَلَسَ عِنْدَ رَأْسِهِ فَقَالَ: اخْرُجِي أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ وَأَبْشِرِي بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَغَضَبِهِ وَيَنْزِلُ ملائكة سود الوجوه معهم مسوخ فَإِذَا قَبَضَهَا الْمَلَكُ قَامُوا فَلَمْ يَدَعُوهُ بِيَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ قَالَ: فَيُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ فَيَسْتَخْرِجُهَا يُقْطِّعُ مَعَهَا الْعُرُوقَ وَالْعَصَبَةَ كَالسَّفُّودِ الْكَثِيرِ الشُّعَبِ فِي الصُّوفِ الْمَبْلُولِ فَتُؤْخَذُ مِنَ الْمَلَكِ فَتَخْرُجُ كَأَنْتَنِ رِيحٍ وجد فلا تمر على جسده فِيمَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِلا قَالُوا مَا هَذِهِ الرُّوحُ الْخَبِيثَةُ.
فَيَقُولُونَ: هَذَا فُلانُ بْنُ فُلانٍ بِأَسْوَإِ أَسْمَائِهِ حَتَّى تَنْتَهِي إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَلا يُفْتَحُ لَهُ فَيَقُولُ رُدُّوهُ إِلَى الأَرْضِ إِنِّي وعدتهم أني منها خلقتهم

(1/63)


وَفِيهَا نُعِيدُهُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى قَالَ: فَيُرْمَى بِهِ مِنَ السَّمَاءِ" وَتَلا هَذِهِ الآيَةَ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} . قَالَ: "فَيُعَادُ إِلَى الأَرْضِ فَتُعَادُ فِيهِ رُوحُهُ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ شَدِيدَا الانْتِهَارِ فَيَنْتَهِرَانِهِ وَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولانِ: مَنْ رَبُّكَ وَمَا دِينُكَ؟ فَيَقُولانِ: مَا تَقُولُ فِي هَذَا الرَّجُلِ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَلا يَهْتَدِي لاسْمِهِ فَيُقَالُ: مُحَمَّدٌ فَيَقُولُ: لا أَدْرِي سَمِعْتُ النَّاسَ يَقُولُونَ ذَلِكَ فَيُقَالُ: لا دَرَيْتَ فَيُضَيَّقُ عَلَيْهُ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ أَضْلاعُهُ وَيُمَثَّلُ لَهُ عَمَلُهُ فِي صَورَةِ رَجُلٍ قَبِيحِ الْوَجْهِ مُنْتِنِ الرِّيحِ قَبِيحِ الثِّيَابِ فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِعَذَابٍ مِنَ اللَّهِ وَسَخَطٍ.
فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ الَّذِي جَاءَ بِالشَّرِّ؟ فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ وَاللَّهِ مَا عملتك إِلا كُنْتَ بَطِيئًا عَنْ طَاعَةِ اللَّهِ سَرِيعًا إِلَى مَعْصِيَةِ اللَّهِ".
قوله: فانتهيا إلى القبر ولم يلحد فجلس إنما جلس ليتم اللحد فإن المستحب للمشيع أن يمكث إلى مواراة الميت.
قوله: كأنما على رؤسنا الطير. معناه إنا كنا جمودا لا نتحرك تعظيما لأمر رسول اللَّه صلى اللَّه عليه وآله وسلم ورعاية لأدب مجلسه كما أن من على رأسه الطير لا يتحرك لئلا ينفر ورفع البصر وخفضه يشعر بالتفكر وهو اللايق بحال حضور الجنازة والحضور في المقبرة والأمر بالعياذ من عذاب القبر في تلك الحالة كأن سببه اطلاعه على معذبين هناك.
قوله: في قبل من الآخرة: قبل الشيء أوله ومقدمه إما زمانا كما يقال كان ذلك في قبل الصيف وإما مكانا كما يقال: وقع السهم قبل الهدف.

(1/64)


قوله: "معهم أكفان من أكفان الجنة وحنوط من حنوطها" أي للنفس الطيبة يدرجونها في الأكفان ويطيبونها بذلك الحنوط والحنوط والحناط ما يخلط من الطيب للموتى خاصة قاله في الغربيين وجلوسهم منه مد البصر يشبه أن يكون المراد منه بيان كثرة عددهم ويمكن أن يريد جلوسهم على بعد منه إما لتوقيره وتوقير النفس الطيبة أو لئلا يرتاع منهم ومن اجتماعهم.
قوله: "فتخرج نفسه كأطيب ريح" أي بأطيب ريح أو في ريح كأطيب ريح وقوله فتعرج به الملائكة ذكر الكناية في الحديث في مواضع فالتأنيث على الرد إلى النفس والتذكير على الرد إلى الخارج أو المقبوض.
قوله: في هذه الروح بعد ما سبق ذكر النفس حيث قَالَ: "أيتها النفس" وقال: فخرج نفسه يبين أن المراد من الروح والنفس شيء واحد وقوله: "فلان بأحسن أسمائه" يشير إلى أن العَبْد الصالح يعرف فيما بينهم بالصلاح والطاعة.
قوله: "فيرد إلى الأرض ويعاد روحه إلى جسده" أي يرد روحه ويعاد روحه المردود إلى جسده وانتهر ونهر واحد.
روى عن مُحَمَّد بْن الحجاج بْن هارون المقري القزويني قَالَ: سمعت أبا بكر الأسدي ينشد قصيدة التي يهجو فيها الجهمية ويرد فيها على إنكارهم عذاب القبر بقوله:

(1/65)


سليمان والمنهال قالا وحدثا ... وزاذان يروي والبراء المخبر
عن الصادق المصدوق إذ في جنازة ... يحدث في الأنصار والقبر يحفر
فمن شك فيه للشقاء فإنه ... سيعرفه في قبره حين يقبر
أراد به الخبر الذي رويناه وسليمان هو الأعمش وزاذان مولى كندة أبو عمرو يقال أبو عَبْد اللَّه روى عن علي وابن مسعود والبراء فتح قزوين مع زيد الخيل الطائي رضي اللَّه عنهم.
حكينا عن أبي سعيد البكري أن البراء فتح قزوين مع زيد الخيل رضي اللَّه عنهما وهو زيد الخيل بْن مهلهل بْن يزيد بْن صهب بْن عبد رضا ابن المختلس بن ثوب بْن كنانة بْن مالك بْن نابل بْن سودان ويقال أسودان وهو نبهان بْن عمرو بْن الغوث بْن طي ويكنى بأبي مكنف بابنه مكنف بْن زيد شاعر فارس وفد على رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسلم وأسلم ويعد في المؤلفة مع عيينة بْن حصن والأقرع بْن حابس وقد يقال له زيد الخير بالراء ويروي أنه كان يشهر في العرب بزيد الخيل فلما قدم على النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بدل اللام بالراء.
سعيد بْن العاص بْن سعيد بْن العاص بْن أمية بْن عبد شمس بْن عبد مناف القرشي الأموي أبو عثمان يلتقي مع رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسلم في عبد مناف ويقال له سعيد بْن العاص الأصغر ولجده سعيد بْن العاص الأكبر وهو أبو أحيحة وربما قيل له سعيد بْن العاص ابن أبي أحيحة وربما حذف جده وأبي جده وقيل سعيد بْن العاص بْن أمية بْن عبد شمس وله صحبة فيما ذكر ابن أبي حاتم وغيره.

(1/66)


في الذيل لمحمد بْن جرير الطبري أنه كان يوم قبض رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم ابن تسع سنين أو نحوها وأبوه العاص بْن سعيد قتل يوم بدر مشركا قتله علي رضي اللَّه عنه ويروى أن عمر بْن الخطاب لقي سعيد أو رأى منه إعراضا فقال مالي أراك معرضا كأني قتلت أباك إنما قتله علي ولو قتلته ما اعتذرت من قتل مشرك وقد قتلت بيدي خالي العاص ابن هشام بْن المغيرة فقال سعيد يا أمير المؤمنين لو قتلته كنت على حق وكان على باطل.
جده أبو أحيحة مات مشركا وله أعمام صحابيون منهم خالد بْن سعيد بْن العاص قديم الإسلام يقال أنه خامس من أسلم وعذبه أبو أحيحة أبوه على الإسلام فهاجر مع زوجته إلى أرض الحبشة.
منهم عمرو بْن سعيد بْن العاص أسلم بعد أخيه خالد بيسير وتبعه في الهجرة إلى الحبشة ثم قدما على رسول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ في السفينتين اللتين بعثهما النجاشي إلى رسول اللَّه صلى اللَّه عليه واله وسلم مع جعفر ابن أبي طالب.
أبان بْن سعيد بْن العاص أسلم قبل الفتح وهو الذي أجار عثمان رضي اللَّه عنه حين دخل مكة وكان مشركا بعد وتوفي رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسلم وخالد عامله على صدقات مذحج وعمرو عامله على خيبر وتيماء ووادي القرى وأبان على البحرين وقتل خالد شهيدا في خلافة عمر رضي اللَّه عنه وعمرو شهيدا في خلافة أبي بكر رضي اللَّه عنه بأجنادين.

(1/67)


ذكر ابن جرير وابن منده أن الحكم بْن سعيد بْن العاص أسلم فسماه النبي عَبْد اللَّه فسمي به وترك الحكم فهذا عم رابع وسعيد من أجواد الإسلام المجتمعين في عصر واحد وهم أحد عشر على ما ذكر هشام بن الكلبي وغيره وقد صنف الجاحظ كتابا في ذكرهم وأحوالهم وفيه أن سعيدا كان ذابيان وأنه كان يقال له عكة العسل وأنه روى عن ابن عمر أن امرأة جاءت إلى النبي بثوب برد فقالت يا رسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسلم إني نويت أن أعطي هذا الثوب أكرم شاب في العرب فقال لها أعطيه هذا الغلام يعني سعيد بْن العاص وهو واقف فبذلك سميت الثياب السعيدية.
قَالَ ابن جرير أنه اعتزل أيام الجمل وصفين فلم يشهد تلك الحروب ولاه معاوية المدينة بعد ما تم له الأمر ثم عزله ويقال أنه ولي الري لعثمان رضي اللَّه عنه ودخل قزوين.
عن بكر بْن الهيثم أنه مصرها وغزا الديلم ويبين وروده هذه الديار وكونه من الصحابة ما قَرَأْتُ عَلَى الْحَافِظِ عَلِيِّ بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ أَنْبَأَ الْقَاضِي عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ إِسْحَاقَ إِذْنًا أَنْبَأَ أَبُو الْقَاسِمِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْجُرْجَانِيُّ سَنَةَ ستة وسبعين وأربعمائة أَنْبَأَ أَبُو زُرْعَةَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحَسَنِ الرَّازِيُّ ثَنَا الضَّحَّاكُ عَلَى الْمُكْتِبِ ثَنَا أَبُو عَلِيُّ الْحُسَيْنُ بْنُ حَمْدَانَ ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يُوسُفَ الْفَرَا ثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَادَانَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبَانٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ عَبْدِ الْجَبَّارِ أَخْبَرَنِي مَنْ سَمِعَ الزُّهْرِيَّ يَقُولُ نَزَلَ الرَّيَّ أَرْبَعَةٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَرَضِيَ الله عنهم.

(1/68)


نزل عبد الله ابن عُمَرَ أَنْدَرْمَانَ وَنَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ جَامُورَانَ وَنَزَلَ سَعِيدُ بْنُ الْعَاصِ شِيرَوَانَ وَنَزَلَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبَّاسِ فَيْرُوزَ وَرَامَ كَانُوا يَتَزَاوَرُونَ وَكَانَ لِسَعِيدِ بَنُونَ عَمْرُو وَيَحْيَى وَعَنْبَسَةُ وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ وَعُثْمَانَ وَعَائِشَةَ وَرَوَى عَنْهُ ابْنُهُ يَحْيَى وَسَالِمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ ابن عُمَرَ وَتُوُفِّيَ سَنَةَ سَبْعِ أَوْ ثَمَانٍ وَخَمْسِينَ.
أَخْبَرَنَا عَنْ أَبِي طَاهِرٍ هَاجِزٌ عَنِ ابْنِي شُجَاعٍ الْمَصْقَلِيَيْنِ أَنْبَأَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ ابْنُ مَنْدَهْ أَنْبَأَ أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ ثَنَا أَبُو زُرْعَةَ ثَنَا أبو اليمان أخبرني شعيب ابن حَمْزَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ أَخْبَرَنِي يَحْيَى بْنُ سَعِيدِ بْنِ الْعَاصِ أَنَّ سَعِيدَ بْنَ الْعَاصِ قَالَ: اسْتَأْذَنَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ على النبي وَهُوَ مُضْطَجِعٌ عَلَى فِرَاشِهِ لابِسًا مرط عائشة زوج النبي فَأَذِنَ لأَبِي بَكْرٍ وَهُوَ كَذَلِكَ فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ.
قَالَ: ثُمَّ اسْتَأْذَنَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَذِنَ لَهُ وَهُوَ عَلَى تِلْكَ الْحَالَةِ فَقَضَى إِلَيْهِ حَاجَتَهُ ثُمَّ انْصَرَفَ وَقَالَ عُثْمَانُ بْنُ عَفَّانَ: ثُمَّ اسْتَأْذَنْتُ إِلَيْهِ فَجَمَعَ عَلَيْهِ ثِيَابَهُ فَقَضَيْتُ إِلَيْهِ حَاجَتِي ثُمَّ انْصَرَفْتُ فَقَالَتْ عَائِشَةُ: يا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وسلم مَالَكَ لَمْ تَفْزَعْ لأَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ كَمَا فَزِعْتَ لِعُثْمَانَ؟ قَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "عُثْمَانُ رَجُلٌ حَيِيٌّ وَخَشِيتُ إِنْ أَذَنْتُ لَهُ وَأَنَا عَلَى حَالِي تِلْكَ أَنْ لا يَبْلُغَ حَاجَتَهُ".
المرط كساء من صوف أو خز أو كتان قاله الخليل قيل هو الإزار وقولها لم يفزع يرويه بعضهم لم يفزع وكما فزعت من الفزاع وبعضهم

(1/69)


لم تفزع وكما فزعت أي بادرت من الذعر والهيبة وفيه ما يدل على أن مباسطة الإخوان بعضهم مع بعض لا يخل بالأدب ورعاية الاحترام وعلى رأفة النبي صلى اللَّه عليه وسلم.
حيث أشفق أن يمنع الحياء عثمان رضي اللَّه عنه من عرض الحاجة في تلك الحالة وعلى أنه ينبغي أن يعامل كل أحد بحسب طبعه ومزاجه وطبايع الناس مختلفة وشيمهم ومزاجهم متفاوتة جودة ورداءة وطيبا وخبثا ثم كل صنف من ذوي الأخلاق الجيدة والردية على درجات ومراتب وينشد لمنصور الفقيه:
بنو آدم كالنبت ونبت الأرض ألوان
فمنه شجر الصندل والكافور والبان
ومن شجر أفضل ما يحمل قطران
منهم: سلمان الفارسي رضي اللَّه عنه أبو عَبْد اللَّه يقال له سلمان بْن الإسلام وسلمان الخير وكان اسمه الأول على ما حكى الحافظ أبو نعيم ماهويه وقيل بوذ بْن بدخشان بْن آذر جشنش من ولد منو جهر الملك وقيل غيره وكان من أهل أصبهان ويقال:من جي أصبهان ويقال: من رامهرمز ويذكر أنه عاد إلى أصبهان في زمن عمر رضي اللَّه عنه وأنه كان له أخ بشيراز قد أعقب بها وبنتان بمصر وأنه كان له ابن اسمه كثير وقد تداولته أيد كثيرة بعد ما استرق إلى أن أتى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وسلم في السنة الأولى من الهجرة وأسلم وقصة إسلامه تروى بطرق كثيرة مطولة ومختصرة.

(1/70)


فمنها: ما كتب إلينا غير وَاحِدٌ مِنَ الشُّيُوخِ رَحِمَهُمُ اللَّهُ عَنْ هِبَةِ اللَّهِ ثَنَا مُحَمَّدُ بن الحصين سماع بَعْضُهُمْ مِنْهُ وَإِجَازَتُهُ لِبَعْضِهِمْ أَنْبَأَ أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْمُذْهِبِ أَنْبَأَ أَبُو بَكْرِ بْنُ مَالِكٍ ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ حَدَّثَنِي أَبِي ثَنَا يَعْقُوبُ هُوَ ابْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنُ سَعْدٍ ثَنَا أَبِي عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ بْنِ بَشَّارٍ عَنْ عَاصِمِ بْنِ عُمَرَ بْنِ قَتَادَةَ عَنْ مَحْمُودِ بْنِ لَبِيدٍ عَنِ ابْنِ عباس قال: حدثني سلمان الْفَارِسِيُّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا حَدِيثَهُ.
قال: كنت رجل فَارِسِيًّا مِنْ أَهْلِ أَصْبَهَانَ مِنْ أَهْلِ قَرْيَةٍ يُقَالُ لَهَا: جِي فَكَانَ أَبِي دِهْقَانَ قَرْيَتِهِ وَكُنْتُ أَحَبُّ خَلْقِ اللَّهِ تَعَالَى إِلَيْهِ لَمْ يَزَلْ فِي حُبِّهِ إِيَّايَ حَتَّى حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ كَمَا تُحْبَسُ الْجَارِيَةُ وَاجْتَهَدْتُ فِي الْمَجُوسِيَّةِ حَتَّى كُنْتُ قَاطِنَ النَّارَ الَّذِي يُوقِدُهَا لا يَتْرُكُهَا تَخْبُو سَاعَةً قَالَ: وَكَانَتْ لأَبِي ضَيْعَةٌ عَظِيمَةٌ قَالَ: فَشُغِلَ فِي بُنْيَانٍ لَهُ يَوْمًا قَالَ: يَا بُنَيَّ إِنِّي قَدْ شُغِلْتُ فِي بُنْيَانِي هَذَا الْيَوْمَ عَنْ ضَيْعَتِي فَاذْهَبْ فَاطْلَعْهَا وَأَمَرَنِي فِيهَا بِبَعْضِ مَا يُرِيدُ.
فَخَرَجْتُ أُرِيدُ ضَيْعَتَهُ فَمَرَرْتُ بِكَنِيسَةٍ مِنْ كَنَايِسِ النَّصَارَى فَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ فِيهَا وَهُمْ يُصَلُّونَ وَكُنْتُ لا أَدْرِي مَا أَمْرَ النَّاسِ يَحْبِسُ أَبِي إِيَّايَ فِي بَيْتِهِ فَلَمَّا مَرَرْتُ بِهِمْ وَسَمِعْتُ أَصْوَاتَهُمْ دَخَلْتُ أَنْظُرُ مَا يَصْنَعُونَ قَالَ: فَلَمَّا رَأَيْتُهُمْ أَعْجَبَنِي صَلاتُهُمْ وَرَغِبْتُ فِي أَمْرِهِمْ وَقُلْتُ: هَذَا وَاللَّهِ خَيْرٌ مِنَ الدِّينِ الَّذِي نَحْنُ عَلَيْهِ فَوَاللَّهِ مَا تَرَكْتُهُمْ حَتَّى غَرُبَتِ الشَّمْسُ وَتَرَكْتُ ضَيْعَةَ أَبِي وَلَمْ آتِهَا.
فَقُلْتُ لَهُمْ: أَيْنَ أَصْلُ هَذَا الدِّينِ؟ فَقَالُوا: بِالشَّامِ قَالَ: ثُمَّ رَجِعْتُ إِلَى أَبِي وَقَدْ بَعَثَ فِي طَلَبِي وَشَغَلْتُهُ عَنْ عَمَلِهِ كُلِّهِ قَالَ: فَلَمَّا جِئْتُهُ قال لي: أي

(1/71)


بُنَيَّ أَيْنَ كُنْتَ؟ أَلَمْ أَكُنْ عَهِدْتُ إِلَيْكَ مَا عَهِدْتُ؟ قَالَ: قُلْتُ: يَا أَبَهْ مَرَرْتُ بِنَاسٍ يُصَلُّونَ فِي كَنِيسَةٍ لَهُمْ فَأَعْجَبَنِي مَا رَأَيْتُ مِنْ دِينِهِمْ فَوَاللَّهِ مَا زِلْتُ عِنْدَهُمْ حَتَّى غَرُبَتِ الشَّمْسُ, قَالَ: أَيْ بُنَيَّ لَيْسَ فِي ذَلِكَ الدِّينِ خَيْرٌ دِينُكَ وَدِينُ آبَائِكَ خَيْرٌ مِنْهُ.
قَالَ: قُلْتُ: كَلا وَاللَّهِ أَنَّهُ لَخَيْرٌ مِنْ دِينِنَا, قَالَ: فَخَافَنِي فَجَعَلَ فِي رِجْلِي قَيْدًا ثُمَّ حَبَسَنِي فِي بَيْتِهِ, قَالَ: وَبَعَثْتُ إِلَى النَّصَارَى فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَدِمَ عَلَيْكُمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى فَأَخْبِرُونِي بِهِمْ, قَالَ: فَقَدِمَ عَلَيْهِمْ رَكْبٌ مِنَ الشَّامِ تُجَّارٌ مِنَ النَّصَارَى قَالَ: فَأَخْبَرُونِي بِهِمْ, قَالَ: فَقُلْتُ لَهُمْ: إِذَا قَضُوا حَوَائِجَهُمْ وَأَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بَلَدِهِمْ فَأْذِنُونِي بِهِمْ.
فَلَمَّا أَرَادُوا الرَّجْعَةَ إِلَى بِلادِهِمْ أَخْبَرُونِي بِهِمْ فَأَلْقَيْتُ الْحَدِيدَ مِنْ رِجْلِي ثُمَّ خَرَجْتُ مَعَهُمْ حَتَّى قَدِمْتُ الشَّامَ فلما قدمتها مَنْ أَفْضَلُ أَهْلِ هَذَا الدِّينِ قَالُوا: الأَسْقُفُّ فِي الْكَنِيسَةِ قَالَ: فَجِئْتُهُ فَقُلْتُ: إِنِّي قَدْ رَغِبْتُ فِي هَذَا الدِّينِ وَأَحْبَبْتُ أَنْ أَكُونَ مَعَكَ لِخِدْمَتِكَ فِي كَنِيسَتِكَ وَأَتَعَلَّمُ مِنْكَ وَأُصَلِّي مَعَكَ.
قَالَ: فَادْخُلْ فَدَخَلْتُ مَعَهُ قَالَ: فَكَانَ رَجُلُ سُوءٍ يَأْمُرُهُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِبُهُمْ فِيهَا فَإِذَا جَمَعُوا إِلَيْهِ مِنْهَا شَيْئًا اكْتَنَزَهُ لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ حَتَّى جَمَعَ سَبْعَ قِلالٍ من ذهب وورق قال: فأبغضته بُغْضًا شَدِيدًا لَمَّا رَأَيْتُهُ يَصْنَعُ ثُمَّ مَاتَ فَاجْتَمَعَتْ إِلَيْهِ النَّصَارَى لِيَدْفِنُوهُ فَقُلْتُ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا كَانَ رَجُلُ سُوءٍ يَأْمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ وَيُرَغِّبُكُمْ فِيهَا فَإِذَا جِئْتُمُوهُ بِهَا اكْتَنَزَهَا لِنَفْسِهِ وَلَمْ يُعْطِهِ الْمَسَاكِينَ منها شيئا فقالوا: أو ما علمك بذلك

(1/72)


قَالَ: فَقُلْتُ: أَنَا أَدُلُّكُمْ عَلَى كَنْزِهِ, قَالُوا: فَدُلَّنَا عَلَيْهِ قَالَ: فَأَرَيْتُهُمْ مَوْضِعَهُ قَالَ: فَاسْتَخْرَجُوا مِنْهُ سبع قلال مملؤه ذَهَبًا وَوَرِقًا قَالَ: فَلَمَّا رَأَوْهَا قالوا: والله لا ندفنوه أَبَدًا فَصَلَبُوهُ ثُمَّ رَمَوْهُ بِالْحِجَارَةِ ثم جاؤوا بِرَجُلٍ آخَرَ فَجَعَلُوهُ مَكَانَهُ قَالَ: يَقُولُ سَلْمَانُ: فَمَا رَأَيْتُ رَجُلا يَعْنِي لا يَصِّلي الْخَمْسَ أَرَى أَنَّهُ أَفْضَلُ مِنْهُ أَزْهَدُ فِي الدُّنْيَا وَلا أَرْغَبُ فِي الآخِرَةِ وَلا أَدْأَبُ لَيْلا وَنَهَارًا مِنْهُ فَأَحْبَبْتُهُ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مِنْ قَبْلُ.
فَأَقَمْتُ مَعَهُ زَمَانًا ثُمَّ حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ إِنِّي قَدْ كُنْتُ مَعَكَ وَأَحْبَبْتُكَ حُبًّا لَمْ أُحِبَّهُ مَنْ قَبْلَكَ وَقَدْ حَضَرَكَ مَا تَرَى مِنْ أَمْرِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَإِلَى مَنْ تُوصِي فِي وَمَا تَأْمُرُنِي قَالَ: أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ ما أعلم أحد الْيَوْمَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ لَقَدْ هَلَكَ النَّاسُ وَبَدَّلُوا وَتَرَكُوا أَكْثَرَهَا مَا كَانُوا عَلَيْهِ إِلا رَجُلٌ بِالْمُوصِلِ وَهُوَ فُلانٌ فَهُوَ عَلَى مَا كُنْتُ عَلَيْهِ فَالْحَقْ بِهِ.
فَلَمَّا مَاتَ وَغُيِّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ الْمُوصِلِ فَقُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ إِنَّ فُلانًا أَوْصَانِي عِنْدَ مَوْتِهِ أَنْ أَلْحَقَ بِكَ وَأَخْبَرَنِي أَنَّكَ عَلَى أَمْرِهِ فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي قَالَ: فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ خَيْرَ رَجُلٍ عَلَى أَمْرِ صَاحِبِهِ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ مَاتَ فَلَمَّا حَضَرَتْهُ الْوَفَاةُ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ إِنَّ فُلانًا أَوْصَى بِي إِلَيْكَ وَأَمَرَنِي بِاللُّحُوقِ بِكَ وَقَدْ حَضَرَكَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا تَرَى فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي قَالَ: أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ رَجُلا عَلَى مِثْلِ مَا كُنَّا عَلَيْهِ إِلا رجُلا بِنَصِيبِينَ وَهُوَ فُلانٌ فَالْحَقْ بِهِ.
قَالَ: فَلَمَّا مَاتَ وَغُيِّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ نَصِيبِينَ فَجِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي وَمَا أَمَرَنِي بِهِ صَاحِبُهُ قَالَ: فَأَقِمْ فَأَقَمْتُ عِنْدَهُ فَوَجَدْتُهُ على أمر صاحبه

(1/73)


فَأَقَمْتُ مَعَ خَيْرِ رَجُلٍ فَوَاللَّهِ مَا لَبِثَتْ أَنْ نَزَلَ بِهِ الْمَوْتُ فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ إِنَّ فُلانًا أَوْصَى بِي إِلَى فُلانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلانٌ يَعْنِي إِلَى فُلانٍ وَفُلانٍ إِلَيْكَ فَإِلَى مَنْ تُوصِي بِي وَمَا تَأْمُرُنِي؟ قَالَ: أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَحَدًا بَقِيَ عَلَى أَمْرِنَا آمُرُكَ أَنْ تَأْتِيَهُ إِلا رَجُلا بِعَمُّورِيَّةَ فَإِنَّهُ عَلَى مِثْلِ مَا نَحْنُ عَلَيْهِ فَإِنْ أَحْبَبْتَ فَأْتِهِ فَإِنَّهُ عَلَى أَمْرِنَا.
فَلَمَّا مَاتَ وَغُيِّبَ لَحِقْتُ بِصَاحِبِ عَمُّورِيَّةَ فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرِي فَقَالَ: أَقِمْ عِنْدِي فَأَقَمْتُ عِنْدَ خَيْرِ رَجُلٍ عَلَى هَدْيِ أَصْحَابِهِ وَأَمْرِهِمْ قَالَ: وَاكْتَسَبْتُ حَتَّى كَانَتْ لِي بَقْرَاتٌ وَغُنَيْمَةٌ قَالَ: ثُمَّ نَزَلَ بِهِ أَمْرُ اللَّهِ تَعَالَى فَلَمَّا حَضَرَ قُلْتُ لَهُ: يَا فُلانُ إِنِّي كُنْتُ مَعَ فُلانٍ فَأَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَى فُلانٍ وَأَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَى فُلانٍ ثُمَّ أَوْصَى بِي فُلانٌ إِلَيْكَ فَإِلَى مَنْ تُوصِي وَمَا تَأْمُرُنِي؟
قَالَ: أَيْ بُنَيَّ وَاللَّهِ مَا أَعْلَمُ أَصْبَحَ عَلَى مَا كُنَّا عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ آمُرُكَ بِأَنْ تَأْتِيَهُ وَلَكِنْ أَظَلَّكَ زَمَانُ نَبِيٍّ هُوَ مَبْعُوثٌ بِدِينِ إِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ السَّلامُ يَخْرُجُ بِأَرْضِ الْعَرَبِ مُهَاجِرًا إِلَى أَرْضٍ بَيْنَ حَرَّتَيْنِ بَيْنَهُمَا نخل به علامات لا يخفى يَأْكُلُ الْهَدِيَّةَ وَلا يَأْكُلُ الصَّدَقَةَ بَيْنَ كَتِفَيْهِ خَاتَمُ النُّبُوَّةِ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَلْحَقَ بِتِلْكَ الْبِلادِ فَافْعَلْ قَالَ: ثُمَّ مَاتَ وَغُيِّبَ فَمَكَثْتُ بِعَمُّورِيَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ أَمْكُثَ.
ثُمَّ مَرَّ بِي نَفَرٌ مِنْ كَلْبٍ تُجَّارًا فَقُلْتُ لَهُمْ: تَحْمِلُونِي إِلَى أَرْضِ الْعَرَبِ وَأُعْطِيكُمْ بَقَرَاتِي هَذِهِ وَغُنَيْمَتِي؟ قَالُوا: نَعَمْ فَأَعْطَيْتُهُمُوهَا وَحَمَلُونِي حَتَّى إِذَا قَدِمُوا بِي وَادِي الْقُرَى ظَلَمُونِي فَبَاعُونِي مِنْ رَجُلٍ مِنْ يَهُودَ عَبْدًا فَكُنْتُ عِنْدَهُ وَرَأَيْتُ النَّخْلَ وَرَجَوْتُ أَنْ يَكُونَ الْبَلَدَ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي

(1/74)


وَلَمْ يَحِقَّ فِي نَفْسِي فَبَيْنَمَا أَنَا عِنْدَهُ قَدِمَ عَلَيْهِ ابْنُ عَمٍّ لَهُ مِنَ الْمَدِينَةِ مِنْ بَنِي قُرَيْظَةَ فَابْتَاعَنِي مِنْهُ فَاحْتَمَلَنِي إِلَى الْمَدِينَةِ فَوَاللَّهِ مَا هُوَ إِلا أَنْ رَأَيْتُهَا فَعَرَفْتُهَا بِصِفَةِ صَاحِبِي فَأَقَمْتُ بِهَا.
بَعَثَ اللَّهُ تعالى رسوله فَأَقَامَ بِمَكَّةَ مَا أَقَامَ لا أسمع له يذكر مَا أَنَا فِيهِ مِنْ شُغْلِ الدَّوْلَجِ ثُمَّ هَاجَرَ إِلَى الْمَدِينَةِ فَوَاللَّهِ إِنِّي لَفِي رَأْسِ عَذْقٍ لِسَيِّدِي أَعْمَلُ فِيهِ بَعْضَ الْعَمَلِ وَسَيِّدِي جَالِسٌ إِذْ أَقْبَلَ ابْنُ عَمٍّ لَهُ حَتَّى وَقَفَ عَلَيْهِ فَقَالَ: يَا فُلانُ قَاتَلَ اللَّهُ بَنِي قَيْلَةِ وَاللَّهِ إِنَّهُمْ الآنَ يجتمعون بقبا عَلَى رَجُلٍ قَدِمَ عَلَيْهِمْ مِنْ مَكَّةَ الْيَوْمَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُ نَبِيٌّ قال: فلما سمعتها أخذتني العروا حَتَّى ظَنَنْتُ أَنِّي سَأَسْقُطُ عَلَى سَيِّدِي.
قَالَ: وَنَزَلْتُ عَنِ النَّخْلِ فَجَعَلْتُ أَقُولُ لابْنِ عَمِّهِ ذَلِكَ مَاذَا تَقُولُ؟ قَالَ: فَغَضِبَ سَيِّدِي فَلَكَمَنِي لَكْمَةً شَدِيدَةً ثُمَّ قَالَ: مَالَكَ وَلِهَذَا أَقْبِلْ عَلَى عَمَلِكَ قَالَ: قُلْتُ: لا شَيْءَ إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أَسْتَثْبِتُهُ عَمَّا قَالَ وَقَدْ كَانَ عِنْدِي شَيْءٌ قَدْ جَمَعْتُهُ فَلَمَّا أَمْسَيْتُ أَخَذْتُهُ ثُمَّ ذَهَبْتُ بِهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وهو بقبا فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ فَقُلْتُ: إِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي أَنَّكَ رَجُلٌ صَالِحٌ وَمَعَكَ أَصْحَابٌ لَكَ غُرَبَاءُ ذُو حَاجَةٍ وَهَذَا شَيْءٌ كَانَ عِنْدِي لِلصَّدَقَةِ فَرَأَيْتُكُمْ أَحَقَّ بِهِ مِنْ غَيْرِكُمْ.
قَالَ: فَقَرَّبْتُهُ إِلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِهِ: "كُلُوا" وَأَمْسَكَ يَدَهُ فَلَمْ يَأْكُلْ فَقُلْتُ: فِي نَفْسِي هَذِهِ وَاحِدَةٌ, قَالَ: ثُمَّ انْصَرَفْتُ عَنْهُ فَجَمَعْتُ شَيْئًا وَتَحَوَّلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِلَى الْمَدِينَةِ ثُمَّ جِئْتُهُ بِهِ فَقُلْتُ: إِنِّي رَأَيْتُكَ لا تأكل الصدقة وهذه هدية

(1/75)


أَكْرَمْتُكَ بِهَا قَالَ: فَأَكَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مِنْهَا وَأَمَرَ أَصْحَابَهُ فَأَكَلُوا مَعَهُ.
قَالَ: فَقُلْتُ فِي نَفْسِي هَاتَانِ اثْنَتَانِ, قَالَ: ثُمَّ جِئْتُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ بِبَقِيعِ الْغَرْقَدِ قَالَ وَقَدْ شَيَّعَ جَنَازَةَ رَجُلٍ مِنْ أَصْحَابِهِ عَلَيْهِ شَمْلَتَانِ لَهُ فَهُوَ جَالِسٌ فِي أَصْحَابِهِ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَدَرْتُ أَنْظُرُ إِلَى ظَهْرِهِ هَلْ يُرَى الْخَاتَمُ الَّذِي وَصَفَ لِي صَاحِبِي فَلَمَّا رَآنِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وَسَلَّمَ اسْتَدْبَرْتُهُ عَرَفَ أَنِّي اسْتَثْبِتُ فِي شَيْءٍ وُصِفَ لِي فَأَلْقَى رِدَاءَهُ عَنْ ظَهْرِهِ فَنَظَرْتُ إِلَى الخاتم فعرفته فانكبت عَلَيْهِ أُقَبِّلُهُ وَأَبْكِي.
فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "تَحَوَّلْ" فَتَحَوَّلْتُ فَقَصَصْتُ عَلَيْهِ حَدِيثِي كَمَا حَدَّثْتُكَ يَابْنَ عَبَّاسٍ فَأَعْجَبَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَسْمَعَ ذَلِكَ أَصْحَابُهُ ثُمَّ شَغَلَ سَلْمَانَ الرِّقُّ حَتَّى فَاتَهُ مَعَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وَسَلَّمَ بَدْرٌ وَأُحُدٌ قَالَ: ثُمَّ قَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "كَاتِبْ يَا سَلْمَانُ" فَكَاتَبْتُ صَاحِبِي عَلَى ثلاثمائة نَخْلَةٍ أُحْيِيهَا لَهُ بِالْفَقِيرِ وَأَرْبَعِينَ وقية.
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ لأَصْحَابِهِ: "أَعِينُوا أَخَاكُمْ" فَأَعَانُونِي بِالنَّخْلِ الرَّجُلُ بِثَلاثِينَ وَدِيَّةً وَالرَّجُلُ بِعِشْرِينَ وَالرَّجُلُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ وَالرَّجُلُ بِعَشْرَةَ وَيُعِينُ الرَّجُلُ بِقَدْرِ مَا عِنْدَهُ حَتَّى اجْتَمَعَتْ لي ثلاثمائة وَدِيَّةٍ فَقَالَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "اذهب يا سلمان فتقفر لَهَا فَإِذَا فَرَغْتَ فَأْتِنِي أَكُونُ أنا أضعها بيدي" قال: فقفرت لها وأعانني

(1/76)


أَصْحَابِي حَتَّى إِذَا فَرَغْتُ مِنْهَا جِئْتُهُ فَأَخْبَرْتُهُ.
فَخَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ معي إليها فجعلنا تقرب لَهُ الْوَدِيَّ وَيَضَعُ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِيَدِهِ فَوَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ مَا مَاتَ مِنْهَا وَدِيَّةٌ وَاحِدَةٌ فَأَدَّيْتُ النَّخْلَ وَبَقِيَ عَلَيَّ الْمَالُ فَأَتَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِمِثْلِ بَيْضَةِ دَجَاجَةٍ مِنْ ذَهَبٍ مِنَ بَعْضِ الْمَغَازِي فَقَالَ: "مَا فَعَلَ الْفَارِسِيُّ الْمُكَاتِبُ؟ " قَالَ: فَدُعِيتُ له.
فقال: "خذ هذه فأديها مَا عَلَيْكَ يَا سَلْمَانُ؟ " قَالَ: قلت: وأين يقع هَذِهِ يَا رَسُولَ اللَّهِ مِمَّا عَلَيَّ؟ قَالَ: "خُذْهَا فَإِنَّ اللَّهَ سَيُؤَدِّي بِهَا عَنْكَ" قَالَ: فَأَخَذْتُهَا فَوَزَنْتُ لَهُمْ مِنْهَا وَالَّذِي نَفْسُ سَلْمَانَ بِيَدِهِ أَرْبَعِينَ أُوقِيَّةً فَأَوْفَيْتُهُمْ حَقَّهُمْ وَعَتَقْتُ فَشَهِدْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ الْخَنْدَقَ حُرًّا ثُمَّ لَمْ يَفُتْنِي مَعَهُ مَشْهَدٌ.
قاطن النار الذي يقيم عندها ويلازمها يقال قطن بالمكان إذا أقام به وخبت النار سكنت والبنيان البناء كان اشتغال بالبنا منعه من تعهد ضيعته وقوله من الدين نحن عليه كذلك هو في الأصل وهو صحيح ويمكن أن يكون من الذي نحن عليه أو الدين الذي نحن عليه.
الحرة: الأرض التي ألبست الحجارة السود والدولج النقب في الأرض والمواضع التي يستتر فيها يقال أنه شبه موضع عمله في البعد عن الناس وقلة وصول الأخبار إليه بالمواضع التي يستتر فيها.
العذق بفتح العين النخلة وبنو قيلة الأنصار والعروا شبه الرعدة واللكم الضرب باليد وقوله هذه واحدة أي من العلامات التي وصفت

(1/77)


لي وأمر النبي صلى اللَّه عليه وآله وسلم بالأكل في المرة الأولى وأكلهم معه في مرة الثانية مع كونه عبدا لا يملك محمول على أنه كان مأذونا له في الإطعام والإهدا والله أعلم.
قوله: "أحييها له بالفقير" أي أفقر مواضها وأنصبها فيها والفقير والفقرة الحفرة التي تحفر لذلك وقفرت أي حفرت للغرس حفرا وكانت تلك الكناية على عين ومنفعة والعين نوعان ودي ونقد والذي أخبر عنه جملة ما كونت عليه فأما بيان أوصاف العوض المشروط والتأجيل المعتبر في النجوم فهي غير مقصودة بالذكر.
الواقية والأوقية قدر أربعين درهما والودي صغار النخل ووفاء القدر الذي أعطاه وقد استحقره سلمان كوفاء الطعام اليسير بإشباع الجمع الكثير وهو نوع من معجزات النبي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وسلم..
في الحديث بيان أول مشهد شهده سلمان الخندق ويقال إن حفر الخندق كان بإشارة منه وخرج سلمان رضي اللَّه عنه مع الصحابة والتابعين إلى العراق وحضر فتح المدائن وذكر الحافظ الخليل أنه ورد كور قزوين مع أبي هريرة رضي الله عنهما عند منصرفهما من الباب وكان واليا بالمداين وبها وتوفي في خلافة عثمان وقيل في خلافة علي رضي اللَّه عنه سنة ست وثلاثين.
أَنْبَأَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ نَبَّأَ أَبُو زُرْعَةَ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ سَهْلَوَيْهِ نَبَّأَ أَبُو بَكْرٍ الدَّيْنَوَرِيُّ إِجَازَةٌ سمعت أبا هنصور عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَلِيٍّ الأصبهانيَّ ببرو جرد سَمِعْتُ أَبَا الْقَاسِمِ الطَّبَرَانِيَّ ثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ الْوَهَّابِ بْنِ نجدة

(1/78)


عَنْ أَشْيَاخِهِ قَالَ: لَمَّا كَانَ يَوْمُ السَّقِيفَةِ اجْتَمَعَتِ الصَّحَابَةُ عَلَى سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ فَقَالُوا: يَا أَبَا عَبْدِ اللَّهِ إِنَّ لَكَ سِنَّكَ وَدِينَكَ وَعَمَلَكَ وَصُحْبَتَكَ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ فَقُلْ فِي هَذَا الأَمْرِ قَوْلا يَخْلُدُ عَنْكَ فَقَالَ: كويم أكرشنوبد ثُمَّ غَدَا عَلَيْهِمْ فَقَالُوا مَا صَنَعْتَ أَبَا عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ: "كفتم أكر بكار بريد" ثُمَّ أَنْشَأَ يَقُولُ:
مَا كُنْتُ أَحْسَبُ أَنَّ الأَمْرَ مُنْصَرِفٌ ... عَنْ هَاشِمٍ ثُمَّ مِنْهُمْ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ
أَلَيْسَ أَوَّلَ مَنْ صَلَّى لِقِبْلَتِهِ ... وَأَعْلَمَ الْقَوْمِ بِالأَحْكَامِ وَالسُّنَنِ
مَا فِيهِمْ مِنْ صُنُوفِ الْفَضْلِ يَجْمَعُهَا ... وَلَيْسَ فِي الْقَوْمِ مَا فِيهِ مِنَ الْحَسَنِ
يُقَالُ: لَيْسَ لِسَلْمَانَ غَيْرُ هَذِهِ الأَبْيَاتِ
سلمان بْن ربيع التميمي الباهلي ذكر الحافظ أبو يعلي الخليلي أنه فمن دخل قزوين وأن له صحبة ولذلك عده أحمد ابن فارس صاحب المجمل في الصحابة رأيته في بعض أماليه وعده آخرون في التابعين وقال الحافظ أبو عَبْد اللَّه بْن منده أن البخاري ذكره في الصحابة ولا يصح وذكر أنه كان يقال له سلمان الخيل لأنه كان يلي الخيول في خلافة عمر رضي اللَّه عنه بأرض العراق وأنه كان يحج كل سنة وأنه كان قد استقضاه عمر رضي اللَّه عنه بالكوفة وكان أول قاض بها وعن أبي وايل قَالَ اختلفت إلى سلمان بْن ربيع حين قدم على قضاء الكوفة

(1/79)


أربعين صباحا لا يأتيه فيها خصم.
ذكر الحاكم أبو عَبْد اللَّه أن سلمان بْن ربيع أعقب بنيسابور سمع عمر رضي اللَّه عنه وروى عنه أبو وائل شقيق بْن سلمة وعدي بْن عدي والصبي بْن معبد أَخْبَرَنَا الْحَافِظُ أَبُو مُوسَى الْمَدِينِيُّ كِتَابَةً عَنْ أَبِي نَصْرٍ أَحْمَدَ ابن عُمَرَ الْغَازِيِّ قَالَ أَنْبَأَ الْوَاقِدُ بْنُ الْخَلِيلِ بِأَصْبَهَانَ أَنْبَأَ وَالِدِي حدثني محمد ابن أَحْمَدَ بْنِ مَيْمُونٍ الْكَاتِبُ ثنا عَبْد الرحمن بْن أبي حاتم ثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرٍو الْغَزِّيُّ ثنا الْفِرْيَابِيُّ ثنا سُفْيَانُ عَنْ مَنْصُورٍ الأَعْمَشِ عَنْ أَبِي وَائِلٍ عَنْ الصُّبَيِّ بْنِ مَعْبَدٍ التَّغْلِبِيِّ.
قَالَ قَرَنْتُ بين الحج والعمرة خرجت التي بِهِمَا فَقَالَ لِي زَيْدُ بْنُ صُوحَانَ وَسَلْمَانُ بْنُ رَبِيعٍ وَسِمَعَانِي التي بِهِمَا لأَنْتَ أَضَلُّ مِنْ بَعِيرِكَ قَالَ فَخَرَجْتُ كَأَنِّي أَحْمِلُ بَعِيرِي عَلَى عُنُقِي حَتَّى قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ فَحَدَّثْتُهُ بِمَا قالا بي وَمَا صَنَعْتُ فَقَالَ إِنَّهُمَا لا يَقُولانِ شَيْئًا هُدِيتَ لِسُنَّةِ نَبِيِّكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وَسَلَّمَ.
الصبي روى عنه مسروق الأجدع والشعبي وأبو إسحاق السبيعي وإبراهيم النخعي ويقال أنه كان نصرانيا فأسلم وقوله وسمعاني التي بهما الواؤ للحال وقولهما لأنت أضل من بعيرك جواب قسم محذوف وقوله كأنما أحمل بعيري على عنقي يريد من ثقل قولهما لي وتوبيخها إياي على ما صنعت واختلاف الناس في الأفضل من الأفراد والقران والتمتع مشهور وقد صح عن عائشة وجابر وأبي هريرة أن النبي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وسلم أفراد الحج وعن أنس وعمران بْن الحصين ويروى عن عمر

(1/80)


ابن الخطاب رضي اللَّه عنهم أنه قرن وعن عثمان وعلي وابن عباس رضي اللَّه عنهم أنه تمتع.
رجح الشافعي رضي اللَّه عنه رواية جابر في الأفراد على رواية التمتع والقران بأن جابرا رضي اللَّه عنه كان أشد عناية بضبط المناسك وأفعال النبي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وسلم من لدن خرج من المدينة وإلى أن تحلل وكانت وفاة سلمان بْن ربيع ببلنجر من ناحية أرمينية سنة إحدى وثلاثين يقال أنه قتل.
في دلائل النبوة لأبي مُحَمَّد بْن عَبْد اللَّه بْن مسلم بْن قتيبة أن أهل تلك الناحية جعلوا عظامة في تابوت فإذا احتبس عنهم القطر أخرجوه واستسقوا به فيسقون قَالَ ابن جمانة الباهلي يفتخر:
وإن لنا قبرين قبرا بلنجر ... وقبرا بأعلى الصين يالك من قبر
فهذا الذي بالصين عمت فتوحه ... وهذا الذي بالترك يسقي به القطر
لو قَالَ: يسقي من القطر لكان أولى والقبر الذي بالصين قبر قتيبة ابن مسلم الباهلي والذي بالترك قبر سلمان بْن ربيع
النعمان بم مقرن المزني رضي اللَّه عنه أبو عمرو وفي تاريخ الخليل الحافظ تكنيته بأبي حكيم ومقرن على ما ذكر مُحَمَّد بْن جرير والحافظان الدارقطني وابن منده جد النعمان وهو نعمان بْن عمرو بْن عايذ بْن منجا بْن بجير بْن نصر بْن حبشية بْن كعب بْن عبد بْن ثور بْن هذمة بن لاطم شهد

(1/81)


مع ستة إخوة له الخندق منهم سويد ومعقل وعقيل وفي أعقابهم رواة منهم معاوية بْن سويد بْن مقرن روى عن أبيه وعن البراء بْن عازب وعَبْد اللَّه بْن معقل بْن مقرن روى عن ابن مسعود نقل ورود النعمان ظاهر قزوين كان أمير الجيش يوم نهاوند واستشهد بها سنة إحدى وعشرين وبها قبره.
أَخْبَرَنَا الْخَطِيبُ عَبْدُ الْكَافِي بْنُ عَبْدِ الْغَفَّارِ بْنِ مَكِّيِّ بْنِ مُحَمَّدٍ الْحَرْبِيُّ فِي كِتَابِهِ أَخْبَرَنَا جَدِّي أَبُو بَكْرٍ مكي ابن مُحَمَّدٍ قِرَاءَةً عَلَيْهِ سَنَةَ ثَلاثٍ وخمسمائة أَنْبَأَ أَبُو حَفْصٍ عُمَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ بْنِ حَابَارَةَ المالكي سنة خمسين وأربعمائة أَنْبَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ بْنِ حَابَارَةَ ثَنَا أَبُو إِسْحَاقَ إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ أَبِي حَمَّادٍ ثَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ سَاكِنٍ ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا حُسَيْنُ بْنُ عَلِيٍّ عَنْ زَائِدَةَ عَنْ حُصَيْنِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ عَنْ سَالِمِ بْنِ أَبِي الْجَعْدِ قَالَ ثَنَا النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ قَالَ:
قدمنا على النبي في أربعمائة مِنْ مَزْيَنَةَ قَالَ: فَأَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ "بِبَعْضِ أَمْرِهِ" فَقَالَ بَعْضُ القوم: يا رسول الله ما معنا طَعَامٌ نَتَزَوَّدُ, قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: "يَا عُمَرُ زَوِّدْهُمْ" فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا عِنْدِي إِلا قِطَعٌ مِنْ تَمْرٍ مَا أَرَى أَنْ يُغْنِيَ عَنْهُمْ شَيْئًا, قَالَ: انْطَلِقْ فَزَوِّدْهُمْ فَانْطَلَقَ بِنَا فَفَتَحَ لَنَا عُلِّيَّةً لَهُ فَإِذَا فِيهَا مِنْ تَمْرٍ مِثْلِ الْبِكْرِ الأَوْرَقِ قَالَ: فَأَخَذَ الْقَوُم حَاجَتَهُمْ قَالَ: وَكُنْتُ فِي آخِرِ الْقَوْمِ فَالْتَفَتُّ فَمَا أَفْقِدُ مَوْضِعَ تَمْرَةٍ وَقَدِ احتمل أربعمائة رجل.

(1/82)


الْعُلِّيَّةُ: الْغُرْفَةُ وَالْجَمْعُ الْعَلالِيُّ وَالْبِكْرُ الْفَتِيُّ مِنَ الإِبِلِ وَالْوُرْقَةُ فِي الإِبِلِ لَوْنٌ يَضْرِبُ إِلَى الْخُضْرَةِ كلون الرماد ويقال إلى السواد.
به عَنِ ابْنِ سَاكِنٍ قَالَ: ثَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ ثَنَا وَكِيعٌ عَنْ سُفْيَانَ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ مَرْثَدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ بُرَيْدَةَ عَنْ أَبِيهِ أَنَّ النَّبِيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ واله وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا بَعَثَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ قَالَ: "إِذَا حَاضَرْتُمْ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكُمْ عَلَى أَنْ تَجْعَلُوا لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ فَلا تَجْعَلُوا لَهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلا ذِمَّةَ رَسُولِهِ وَلَكِنِ اجْعَلُوا لَهُمْ ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ أَبْنَائِكُمْ فَإِنَّكُمْ إِنْ تَخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَمَ آبَائِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَخْفِرُوا ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ رَسُولِهِ".
قَالَ سفيان: قَالَ علقمة: فحدث سليمان بْن بريدة مقاتل بْن حبان فقال مقاتل: حدثني سلم بْن هيضم عن النعمان بْن مقرن عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مثله أخرجه مسلم في الصحيح أكمل من هذا وقوله: "أن تخفروا" يقال: أخفرته إذا لم تف بذمة وغدرت وخضرته عقدت له ذمة والخفارة بالضم الذمة والعهد.
أَخْبَرَنَا عَنْ كِتَابِ أَبِي طَاهِرٍ الْمَعْرُوفِ بِهَاجِرٍ عَنِ ابْنَيْ شُجَاعٍ الْمُصْقَلِيَيْنِ أَنْبَأَ الْحَافِظُ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ بْنُ مَنْدَهْ أَنْبَأَ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ حَمْزَةَ ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ شَاكِرٍ ثَنَا عَفَّانُ مُسْلِمٌ ثَنَا حَمَّادُ بْنُ مَسْلَمَةَ عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْحَرْبِيِّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ قَالَ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ إِذَا غَزَا فَلَمْ يُقَاتِلْ أَوَّلَ النَّهَارِ وَلَمْ يُقَاتِلْ حَتَّى تَزُولَ الشَّمْسُ وَتَهُبَّ الرِّيَاحُ وَيَنْزِلَ النَّصْرُ, أَوْرَدَهُ البخاري في

(1/83)


التَّارِيخِ الْكَبِيرِ فَقَالَ: قَالَ مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ ثنا حَمَّادُ بْنُ سلمة عن أبي عمران بإسناده.
الوليد بْن عقبة بْن أبي معيط بْن أبي عمرو بْن أمية بْن عبد شمس ابن عبد مناف أبو وهب القرشي الأموي واسم أبي معيط أبان قَالَ ابن جرير: هو وأخواه عمارة وخالد ابنا عقبة من مسلمة الفتح والوليد أخو عثمان رضي اللَّه عنه لأمه وهي أروى بنت كريز بْن ربيع بْن خبيب بْن عبد شمس بْن عبد مناف وله صحبة ورواية وولي الكوفة لعثمان رضي اللَّه عنه وغزا آذربيجان وشهد أهل الكوفة عليه بالشرب فضربه عثمان رضي اللَّه عنه وأخرجه منها فنزل الرقة.
ذكر ابن أبي حاتم أنه أعقب بها ومات بها وكان من رجال قريش وشعرائهم وعن بكر بْن الهيثم أنه بعد ما ولي الكوفة غزا الديلم مما يلي قزوين ودخل قزوين وغزا جيلان وموقان والبر والطيلسان.
أنبأنا غير وَاحِدٌ عَنِ الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْبَاقِي أَنْبَأَ أَبُو أَحْمَدَ عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ محمد بن موسى أنبأ بن عَبْدَانَ بْنِ مُحَمَّدٍ أَنْبَأَ مُحَمَّدُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ قَالَ قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْعُمَرِيُّ ثَنَا زَيْدُ بْنُ أَبِي الزَّرْقَا الْمَوْصِلِيُّ ثَنَا جَعْفَرُ بْنُ بُرْقَانَ عَنْ ثَابِتِ بْنِ الْحَجَّاجِ الْكِلابِيِّ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ الْهَمْدَانِيِّ عَنِ الْوَلِيدِ1
__________
1 الوليد بن عقبة كان واليا على الكوفة فشرب مع أبي زبي الطائى في سماره فصلى في حال سكرته صلاة الصبح أربع ركعات وقاء في المحراب فشهد عليه أهل الكوفة عند عثمان وضربه على بن أبي طالب عليه السلام في قصة مشهورة - راجع التعليقات.

(1/84)


ابن عُقْبَةَ قَالَ: لَمَّا فَتَحَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ جَعَلَ أَهْلُ مَكَّةَ يَجِيئُونَ بصبيانهم فيمسح رؤسهم وَيَدْعُو لَهُمْ بِالْبَرَكَةِ فَجِيءَ بِي إِلَيْهِ وَأَنَا مُطَيَّبٌ بِالْخَلُوقِ فَلَمْ يَمْسَحْ رَأْسِي وَلَمْ يَمْنَعْهُ مِنْ ذَلِكَ إِلا أَنَّ أُمِّي خَلَّقَتْنِي بِخَلُوقٍ فَلَمْ يَمَسَّنِي مِنْ أَجْلِهِ وَالْخَلُوقُ ضَرْبٌ مِنَ الطِّيبِ مَعْرُوفٌ عندهم وخلقه بالتشديد علاه بت.
كان عقبة بْن أبي معيط والد الواليد شديد العداوة لرسول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسلم وأصحابه فقوله ولم يمنع مِنْ ذَلِكَ إِلا أَنَّ أُمِّي خلقتني يمكن أن يشير به أبي أن امتناعه من مسح لم يكن على سبيل المجازاة لأفعال أبيه السيئة وإنما كان للخلوق ومدحت بنت لبيد بْن ربيعة الوليد بقولها:
إذا هبت رياح أبي عقيل ... ذكرنا عند هبتها الوليدا
أشم الأنف أصيد عبشميا ... أعان على مروته لبيدا
وأبو عقيل كنية لبيد وكان قد نذر أن ينحر كلما هبت الصبا.
أبو هريرة الدوسي رضي اللَّه عنه أَنْبَأَ أَبُو سَعْدٍ السَّمْعَانِيُّ بِالإِجَازَةِ الْعَامَّةِ أَنْبَأَ أَبُو نَصْرٍ الْغَازِيُّ عَنِ الْوَاقِدِ بْنِ الْخَلِيلِ عَنْ أَبِيهِ ثَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْفَقِيهُ وَمُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ بْنِ مُحَمَّدٍ قَالَ ثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي حَاتِمٍ ثَنَا أَبِي ثَنَا مُعَاذُ بْنُ أَسَدٍ الْمَرْوَزِيُّ نَزِيلُ الْبَصْرَةِ ثَنَا مَنْصُورُ بْنُ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ رَاشِدٍ وَكَانَ قَدِيمُ السِّنِّ مِنْ أَهْلِ مَرْوَ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ صَاحِبَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ بِقَزْوِينَ عَلَيْهِ عِمَامَةٌ بَيْضَاءُ قَدْ خَضَّبَ بِالصُّفْرَةِ وَهَذِهِ الرِّوَايَةُ تَعْتَضِدُ بِرِوَايَاتٍ أُخَرَ مُتَطَابِقَةٍ عَلَى وُرُودِ أبي هريرة قزوين

(1/85)


وَقَدْ كَثُرَ الاخْتِلافُ فِي اسْمِ أَبِي هُرَيْرَةَ وَاسْمِ أَبِيهِ وَرَجَّحَ مُرَجِّحُونَ مِنَ الرِّوَايَاتِ فِي اسْمِهِ عَبْدَ الرَّحْمَنِ وَفِي اسْمِ أَبِيهِ صَخْرًا.
يقال: أنه كان ينزل ذا الحليقة وانه تصدق بداره بالمدينة على مواليه وأنه قدم المدينة والنبي صلى اللَّه عليه واله وسلم بخيبر سنة سبع فسار إلى خيبر وعاد منه إلى المدينة وأنه كان من أحفظ أصحاب النبي صلى اللَّه عليه واله وسلم وأحرصهم على طلب العلم وأنه كان من ملازمي الصفة يسكنها حياة النبي صلى اللَّه عليه واله وسلم وكان عريف أهلها وأنه كان يلي الأعمال استعمله عمر رضي اللَّه عنه على البحرين ومروان على المدينة وكان مع تولي الإمارة لا يتحاشى عن إظهار ما كان عليه من رقة الحال في الابتداء ويشكر اللَّه تعالى على ما أتاه.
حَدَّثَ الْحَافِظُ أَبُو نُعَيْمٍ فِيمَا أَنْسَى عَنْ أَبِي عَلِيِّ عَنْهُ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ أَحْمَدَ قَالَ: ثَنَا أَبُو زُرْعَةَ الدِّمَشْقِيُّ ثَنَا أبو اليمان أنبأ شعيب ابن أَبِي حَمْزَةَ عَنِ الزُّهْرِيِّ حَدَّثَنِي سَعِيدٌ وَأَبُو سَلَمَةَ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: أَنَّكُمْ تَقُولُونَ: أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ وَتَقُولُونَ: مَا لِلْمُهَاجِرِينَ وَالأَنْصَارِ لا يحدثون عن النبي مِثْلَ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ؟ فَإِنَّ إِخْوَانِي مِنَ الْمُهَاجِرِينَ كَانَ يَشْغَلُهُمُ الْصَّفْقُ بِالأَسْوَاقِ وَكَانَ يَشْغَلُ إِخْوَانِي مِنَ الأَنْصَارِ عَمَلُ أَمْوَالِهِمْ وَكُنْتُ امْرَأً مِنْ مَسَاكِينِ الصُّفَّةِ أَلْزَمُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وسلم على ملء بطيء فَأَحْضُرُ حِينَ يَغِيبُونَ وَأَعِي حِينَ ينسون1.
__________
1 من اراد معرفة أبا هريرة وأخباره وسيرته فليراجع كتاب شيخ المضيرة تاليف العلامة المحقق السيد شرف الدين العاملى.

(1/86)


يُرْوَى عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: إِنْ كُنْتُ لأَسْتَقْرِي الرَّجُلَ السُّورَةَ لأَنَا أَقْرَأُ لَهَا مِنْهُ رَجَاءَ أَنْ يَذْهَبَ بِي إِلَى بَيْتِهِ فَيُطْعِمَنِي وَذَلِكَ حِينَ لا آكُلُ الْخَمِيرَ وَلا أَلْبَسُ الْحَبَرَ قَوْلُهُ: "آكُلُ الْخَمِيرَ" أَيْ الَّذِي أُجِيدُ عَجْنَهُ وَتَخْمِيرَهُ وَيُمْكِنُ أَنْ يُرِيدَ حِينَ لا أَجِدُ مَا أُخَمِّرُهُ فَأَقْتَصِرُ عَلَى السَّوِيقِ وَنَحْوِهِ وَالْحَبَرُ مِنَ الْبُرُودِ مَا فِيهِ وَشَيْءٌ وَتَخْطِيطٌ يُقَالُ حَبَّرْتُ الثَّوْبَ وَحَبَرَتُهُ بِالتَّخْفِيفِ.
هذا مما ذكرنا أنه كان لا يبالي بإظهار رقة الحال ثم لم يكن لبسه الجير تزينا وتكاثرا بل كان يلبس ما ينفق على زهده في الدنيا وتزهيده فيها وقد روى في حديثه أنه قَالَ تعس عَبْد الدينار والدرهم الذي أن أعطى مدح وصيح وإن منع قبح وكلح تعس فلا انتعش وشيك فلا انتعش تعس أي عثر وهلك ومنه يقال تعسا له وصيح أي صاح.
يقال صيح الثعلب ونحوه إذا صوت ويجوز أن يريد تشبيه صوته عند تملقه بصوت الثعلب قبح شتم وعاب قَالَ تعالى: {هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ} وقوله: فلا انتعش أي لأقام من مصرعه يقال انتعش العليل إذا أفاق من علته ونهض وقوله وشيك أي أصيب بالشوكة وقوله ولا انتعش أي فلا أخرجها من موضعها الذي دخلت فيه يقال: نقشت الشوكة إذا استخرجتها ومنه المنقاش هكذا فسر القتبي اللفظة وقضية تفسيره أن يكون النقش والانتقاش واحد وقال غيره: نقشت الشوكة من رجله فانتقشت هي والحمد لله حق حمده وصلواته على مُحَمَّد وآله.

(1/87)