التيجَان في مُلوك حِمْيَرْ
ملك المعافر بن يعفر
قال وهب: كانت حمير إذا لقي بعضها بعضاً يقولون: ما حال اليتيم يريدون
بذلك النعمان بن يعفر فيقول بعضهم لبعض: أصبح اليتيم معافراً للملك
وذلك لبيت قاله وهو:
إذا أنت عافرت الأمور بقدرة ... بلغت معالي الأقدمين المقاول
قال وهب: فسمى بذلك المعافر بن يعفر بن سكسك بن وائل بن حمير.
قال وهب: وإن المعافر بن يعفر سار يريد أرض بابا ولم يكن للتبابعة ملك
أرض بابل هي من الأرض وينبوع الناس فسار النعمان وهو المعافر راجعاً
وسار بذي رياش معه لئلا يفتق عليه من بعده فتقاً، فسار النعمان حتى
أخذا أرض بابل توجه يريد خراسان حتى بلغ صحراء بر فنظر عامر ذو رياش
إلى أفعى رقشاء قد خرجت إليه من تحت فرشه فمد يده فأخذ ذنبها والحرس
ينظرون إليه فحركه فعركه حتى حميت وتلمظت وهم لا يدرون ما يريد ثم نصب
ذراعيه ولدغته فمات مكانه وأعلموا بذلك النعمان فقال: سابقته في ميدان
الموت فسبقني، أما والله لو كنت أصبت مثل هذا لأرحت نفسي منه به واروه،
ثم مضى يأخذ البلدان ويتأدى إليه الخراج حتى أتى الفرات فعبره إلى
أرمينية فأخذها وقتل من عانده من ملوكها ووجد فيها لوكاً شتى. ثم مضى
فعبر قنطرة سنجة إلى أرض الشام فأباح من وجد فيها من الملوك، ثم قفل
إلى البلد الحرام راجعاً فنزل بمكة فأصاب بها نفيلة بن مضاض الجرهمي
وجرهم من قحطان وكان بها ملكاً بعد موت نابت بن إسماعيل فقدم بالبيت
قدار بن إسماعيل وأمر نفيل بن مضاض بقصد مكة ورجع
(1/72)
إلى غمدان ومات بها فكان عمره في الملك
ثلاثمائة سنة.
قال وهب: وإن النعمان وهو المعافر بن يعفر مات فقال لبنيه وقومه: لا
تضجعوني فينضجع ملككم ولكن ادفنوني قائماً فلا يزال ملككم قائماً.
قال أبو محمد: قال أسد بن موسى عن أبي إدريس إن في خلافة سليمان ابن
عبد الملك بن مروان فتحت مغارة في اليمن فأصابوا فيها جوهراً كثيراً
وذهباً وسلاحاً ووجدوا فيها مالاً جسيماً ووجدوا فيها سارية من رخام
قائمة ختم رأسها بالرصاص فاعلم بذلك سليمان بن عبد الملك فأمر بقلع ذلك
الرصاص فأصابوا في السارية شيخاً واقفاً وعلى رأسه لوح من ذهب فيه
بالحميرية:
أنا المعافر بن يعفر بن مضر ... نسبي إلى ذي يمن مقر
أسمو بحر مضري حر ... من فتن بالبائع المحفز
باسق فرع وصميم سر
قال أبو محمد: لقيت الليث بن سعد وهو من أهل مصر وولاة المعافر، وذلك
أن عمرو بن العاص افتتح بعسكر معافر في سبعين ألفاً لم يكن معهم أحد
غيرهم خلا كلب في ألف رجل وبهرة في ألف رجل ومهرة في ألف رجل فزعم
الليث أن الشعر منحول وذلك فعل بني أمية ينتصرون بهم لمضر.
قال وهب: حدثني كعب الأحبار قال سمعت أهل الكتب الأول والأخبار
المتقدمون يقولون أن حمير في الأرض كالسراج المضيء في الليلة وإن الناس
ليريدون هكذا وخفض يده ويريد الله بهم هذا: ورفع يده.
(1/73)
ملك شداد بن عاد
قال وهب: ثم استجمع أمر حمير وبني قحطان على شداد بن عاد ملطاط بن جشم
بن عبد شمس بن وائل بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان.
قال وهب: لما ولي (شداد بن عاد) الملك جمع الجنود وكان امرءاً حازماً
فسار
يدوس الأرض وبلغ أرمينية الكبرى فقتل فيها كل ثائر بها ثم عبر الفرات
إلى المشرق فبلغ أقصاها لا أحد يقف له إلا هلك، ثم مضى على ساحل سمرقند
إلى أرض التبت، ثم عطف على أرمينية فأمعن، ثم جاز إلى الشام وبلغ إلى
المغرب فأكثر الآثار في المغرب حتى بلغ البحر المحيط يبني المدن ويتخذ
المصانع فأقام في المغرب مائتي عام، ثم قفل إلى المشرق فأنف أن يدخل
غمدان ومضى إلى مأرب فبنى به القصر العتيق الذي يسميه بعض الرواة (ارم
بن العماد) فلم يدع باليمن دراً ولا جوهراً ولا عقيقاً ولا جزعاً ولا
بأرض بابل وأرسل في الآفاق بجمع ذلك جواهر الدنيا من الذهب والفضة
والحديد والقصدير والنحاس والرصاص، فبنى فيه وزخرفه ورصعه بجميع ذلك
الجواهر وجعل أرضه رخاماً أبيض وأحمر وغير ذلك من الألوان وجعل تحتها
أسراباً فاض إليها ماء السد فكان قصراً لم يبن في الدنيا مثله ثم مات
شداد بن عاد بعد أن عمر خمسمائة عام فنقبت له مغارة في جبل شمام ودفن
بها وجعل فيها جميع أمواله.
قصة المغارة التي فيها شداد بن عاد
والصعاليك الثلاثة حين دخلوها وما جرى عليهم
(1/74)
قال وهب: قال أبو محمد عبد الملك بن هشام،
حدثنا زياد بن عبد الملك البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي عن عبيد بن
شرية الجرهمي قال: حدثنا شيخ من أهل اليمن بصنعاء عام الردة وكان
معمراً عالماً بملوك حمير وأمورها قال لنا: كان باليمن رجل من عاد بن
قحطان وهو عاد الأصغر وأما عاد الأكبر فلم يبق منهم أحد. قال الله
تعالى: {فهل ترى لهم من باقية} وإن هذا الرجل العادي كان يقال له
الهميسع بن بكر وكان جسوراً لا يهاب أمراً وكان يعرف بذلك، وكانت
الصعاليك تقصده من آفاق الأرض، وكان أكثر طلبه المغارات يطلبها في جبال
اليمن وعمان والبحرين وأنه آتاه رجل فاتك من عبس وآخر من خزاعة وكانا
صعلوكين جسورين فقالا له: يا هميسع احملنا من أمرك على ما تريده فانا
نبلغ مرادك، فمضى معهما الهمسيع حتى أتى بهما جبلاً وعليه غابة فيها
ثعابين لا ترام الهميسع أمام الصعلوكين قد أتى الجبل مراراً وحده وكان
إذا عاين الثعابين يجزع فيرجع فلما آتاه الصعلوكان جسر بهما وقال: الق
رأسك بين اثنين ولو غم إلى الأذنين ثم أخذ سيفه وزناده ومشاعله وزاده
وسار بهما حتى وصل إلى الجبل ولم يزل يترايا لهم الثعابين وتهرب حتى
بلغ باب كهف عظيم وكأن الجبال على أكتافهم عظماً وثقلاً، ودخلت قلوبهم
وحشة عظيمة وسمعوا من داخل الكهف دوياً عظيماً وخيمنة وعلى بابا الكهف
نقش بالحميري فقالا له: اقرأ يا ميسع فقرأه فإذا هو مكتوب هذين
البيتين:
لا يدخل البيت إلا ذو مخاطرة ... أو جاهل بدخول الكهف مغرور
إن الذي عنده الآجال حاضرة ... موكل بالذي يغشاه مأمور
فغاب الخوف والجزع على الخزاعي في أول أمره ثم أن الجزع أيضاً على
العبسي فاستدرك نفسه العبسي وثبت فقال الخزاعي: يا هميسع قد عاش في
الدنيا كثير ممن لم تبلغ نفسه هذا المبلغ - ثم ولى العبسي عن صاحبه
(1/75)
هارباً. فقال الهميسع: نمضي في هذا الكهف
أم لا؟ فقال له: نعم. فسارا في الكهف حيناً، فإذا حيات يصفرن عن يمين
وشمال ورياح تجري عليهما من داخل الكهف، وسمعا دوياً من داخل الكهف،
فقال العبسي: لقد حملت نفسك على مكروه يا هميسع أعلى يقين أنت من هذا
الكهف؟ فقال له الهميسع: ما تيقنت إلا ما رأته عيني، والرجاء فقال له:
افعلي شك أنت هارش الثعابين وأبيع مهجتي ببخس يا هميسع لقد بعت نفسك من
دهرك أبخس ثمن وهميسع في ذلك لا يلوي إلى كلامه وهو يسير داخل الكهف
حتى وقف به على بابا آخر أعظم من الباب الأول وأهول وأشد وحشة وزاد
عليهم الدوى والحسيس والهينمة وعلى ذلك الباب بالخط الحميري. فقال له
العبسي: اقرأ يا ميسع! فقرأه فإذا هو:
انظر لرحلك لا يساق فإنه ... حتم الحمام إلى العرين يساق
يا ساكني جبلي شمام لعله ... يوفي بما أجنبتما الميثاق
قوموا إلى الإنسي أن محله ... يدعو إلى يوم الفراق فراق
قال: فولى العبسي هارباً عنه وناداه الهميسع فلم يلتفت إليه، وولى وهو
يوقل: قاتل الله أخا عاد ما أجسره! قال: فهم الهميسع أن يفر ثم حمل
نفسه على الأصعب ومضى حتى بلغ إلى باب هو أعظم هولاً وأشد وحشة وعليه
نقش بالقلم الحميري فقرأه الهميسع فإذا فيه مكتوب:
قد كان فيما قد مضى واعظ ... لنفسك البينة المسمعه
إن جهل الجاهل ما قد آتى ... وكان حيناً قلبه في دعه
فدخل الباب الثالث فسمع دوياً عظيماً كالرعد وهده عظيماً، فبينما
(1/76)
هو كذلك إذ برز إليه تنين أحمر العينين
فاتح فاه فلما رآه الهمسيع رجع هارباً إلى خلفه، فسكن حس التيني فوقف
العادي وقال في نفسه: قدر رآني ولو كان حيواناً لم يدعني وما هو إلا
طلسم فرجع له ثانية حتى ظهر له، فسار نحوه فسمع له دوياً عظيماً فهرب
فأقبل يسمع الدوى فإذا هو في رجوع التنين كما قاله في إدباره فعلم إنه
طلسم فأخذ حذره من صدمته وأقبل يمشي قليلاً قليلا ويخفف وطأ قدميه حتى
وضع قدمه في موضع فتحرك التنين ودوى، فأخذ قدوماً كان معه فحفر على
الموضع حتى ظهرت له سلاسل على بكرات. فأجنه الليل فأسرع الخروج من
الكهف وجمع حطباً من الغيضة وأضرمها ناراً وبات عند بابا الكهف، فلما
غشيه ظلام الليل سمع بكاء وحنيناً داخل الكهف فلم يزل ينظر ويرتقب
وينظر حتى نظر إلى نار عظيمة خارجة إليه من داخل الكهف، فلما رآها لم
يبرح من موضعه حتى غشيته فصبر لها فلم تؤلم فيه شيئاً ثم أتته أخرى
ثانية أكبر من الأولى فصبر لها
كذلك، فلما مالت عنه أخذ مقياس النيران التي أضرمها وأقبل يضرب بها
حيطان الكهف يميناً وشمالاً حتى سمع نداء من داخل الكهف يهتف: يا هميسع
لا حاجة لنا في دخولك. فأقام حتى أصبح فدخل باب الكهف إلى أن وصل إلى
البابا الذي رأى فيه التنين، ثم حفر على بقية حد التنين حتى قلعه وسقط
التنين، فسار إليه فقلع عينيه فإذا هما ياقوتتان حمراوان لا قيمة لهما،
وسار حتى انتهى إلى بابا هو أعظم هولا وأشد وحشة فلما هم أن يفتحه سمع
دوياً عظيماً وبدا له أسد عظيم فرجع أيضاً إلى خلفه فرجع عنه الأسد
بدوي عظيم فحفر على موضع حركته كما صنع بالتنين حتى أبطل حركته وقلع
عينيه فإذا هما ياقوتتان حمراوان لا قيمة لهما، ثم دخل الباب فإذا هو
بدار عظيمة وفيها بيت في وسطه سرير من ذهب شيخ على رأسه لوح
(1/77)
من ذهب معلق وسقف البيت مرصع بأصناف
اليواقيت وعلى رأسه في الحائط لوح من ذهب فيه مكتوب (أنا شداد بن عاد
عشت خمس مائة عام وافتضضت فيها ألف بكر وقتلت ألف مبارز وركبت ألف جواد
من عتاق الخيل) وتحته مكتوب:
من ذاك يا شداد عاد أصبحت ... آماله مهزومة الأقدام
يا من رآني إنني لك عبرة ... من بعد ملك الدهر والأعوام
فكأنني ضيف ترحل مسرعاً ... وكأنني حلم من الأحلام
احذر تصاريف الزمان وريبه ... لا تأمنن حوادث الأيام
هلا يضرك من كلامي مرة ... يا ساكن الغيضات والآجام
قال ثم ملت إلى الركن الذي عن يمينه فإذا هو سرير من ذهب وعليه جاريتان
فوق رأسهما في الحائط لوح من ذهب أو قال من عاج فيه مكتوب (أنا حية
وهذه لبة بنت شداد بن عاد أتت إلينا أزمان فيها الطارف والتليد على
عبيدنا صاعاً من بربصاع من در فلم نجده - فمن رآنا فلا يثق بالزمان
وليكن على بيان فإنه
يحدث العز والهوان) - قال فأخذ الهميسع الألواح وما بالبيت من در وجوهر
وياقوت وخرج.
ملك لقمان بن عاد
قال وهب: فلما مات شداد بن عاد صار الأمر إلى أخيه لقمان بن عاد وكان
أعطى الله لقمان ما لم يعط غيره من الناس في زمانه أعطاه حاسة مائة رجل
وكان طويلاً لا يقاربه أهل زمانه.
(1/78)
قال وهب: قال ابن عباس كان لقمان بن عاد بن
الملطاط بن السكسك ابن وائل بن حمير نبياً غير مرسل.
قال أبو محمد: لقيت عامة من العلماء يقولون أن لقمان وذا القرنين
ودانيال أنبياء غير مرسلين وعامة يقولون عباد صالحين والله أعلم بذلك.
قال وهب: لقمان بن عاد هو الذي سمته حمير الرايش لأنه كان متواضعاً لله
لم يكن متوجاً.
قال وهب: وكان لقمان بن عاد يدعو قبل كل صلاة ويقول:
أللهم يا رب البحار الخضر ... والأرض ذات النبت بعد القطر
أسألك عمرا فوق كل عمر
فنودي قد أجيبت دعوتك وأعطيت سؤالك ولا سبيل إلى الخلود واختر إن شئت
بقاء سبع بقرات عفر في جبل وعر ولا يمسهن ذغروان شئت بقاء سبع نوايات
من تمر - مستودعات في صخر لا يمسهن ندى ولا قطر وإن شئت بقاء سبعة نسور
كلما هلك نسر عقب بعده نسر. قال: فكان ذلك إنه اختار سبعة نسور.
قال وهب: فيذكر إنه عاش ألفي سنة وأربعمائة سنة وهو صاحب لبد.
قال وهب: وكان لقمان يأخذ فرخ النسر من وكره فيربيه حتى يموت وهو يطير
مع النسور ويرجع إليه.
قال وهب: وأعطى لقمان سؤله وأخوه شداد في ملكه وعاش معه
(1/79)
دهراً طويلاً وهو يدعو إلى الله، فلما مات
شداد صار إليه الأمر فكان الناس يأتونه من أقاصي الأرض وأدانيها.
قال وهب: وإن عاد الأصغر بن قحطان كانوا أهل غدر ومكر وختر لا يأمن
فيهم ابن السبيل ولا يطمئن فيهم جار ولا ينزل فيهم غريب ولا يثق بهم
معاهد، وكان فيهم قبيل يقال لهم: بنو كركر بن عاد بن قحطان فعاشوا
بأقصى اليمن فحاربهم جميع قبائل عاد وأعانهم عليهم وناصرهم بنو غنم بن
قحطان وبنو غانم بن قحطان وبنو ظالم بن قحطان فغلبوا بني كركر. فإنما
رأى بنو كركر بن عاد ما صاروا إليه من الذل بعد العز ومن الضر والجهد
بعد النعمة شكوا ضر ما نزل بهم إلى سيدهم وصاحب أمرهم السميدع بن زهير
فقال لهم: يا بني كركر كنتم أهل غدر ومكر لا يثق بكم قريب ولا بعيد ولا
يأمنكم بغيض ولا حبيب أقرضتم الدهر قرضاً فرده إليكم فلم ترضوه. قالوا
له: قد علمنا أنا فتحنا على أنفسنا بابا الموت فدلنا على باب الحياة؟
قال لهم: أما ها هنا فلا ولكن سيروا بنا إلى هذا الملك الحميري لقمان
بن عاد فإن عنده رشداً وسداداً وصلاحاً للعباد يدعو إلى الله وإلى
أبواب البر ومن دعا إلى الله أمن من الأذية واطمأن من لجأ إليه وطاب له
وجه أمره ورضي عاقبته. قالوا له: لك الأمر فخذ بنا حيث شئت، قال لهم:
يا بني كركر قدمتوني إلى أمر جليل وإن الله لا يرضى من أفعالكم شيئاً
وأنه رأى ما فعلتموه منكراً فغيره، وأنشأ يقول:
من أضمر المكر وأبدى الغدرا ... يلقي مدى الأيام ضراً مر
لم يدر ما سر وما قد ضرا ... يعذل فيما قد لقيه الدهرا
ورحل بهم إلى لقمان بن عاد وقال:
سيروا بني كركر في البلاد ... أني أرى الدهر إلى فساد
(1/80)
قد قام من حمير ذو الرشاد ... لقمانها فقد
هداه الهادي
يدعو لها النادي وأهل النادي ... من حمير السادة في العباد
فغير المنكر بالسداد ... يا حبذا من رائد مرتاد
دعو بني كركر كل عاد ... إلى مقام الفصل والميعاد
فسار بهم السميدع إلى لقمان، وإن لقمان عرض عليهم الإيمان فآمنوا كلهم،
فأنزلهم أرض العالية وتزوج منهم امرأة وهي سوداء بنت أمامة - وكانت
جميلة - وكان لقمان غيوراً فأخذها فجعلها في كهف عظيم في رأس صخرة
عالية لا يطيق أحد يطلع إليها إلا هو لطوله وتمامه، وكان يعبد الله في
ذلك الكهف وكان له عيد يصلي بالناس فيه كل عام بالرجال والنساء فصلى
ببني كركر وقد اجتمع النساء والرجال فبصر هميسع بن السميدع بن زهر إلى
امرأة لقمان فهويها فقال: (معشر عاد والله إن لم تحتالوا لي حيلة أدرك
فيها سوداء امرأة لقمان لأقتتلن لقمان ثم تأتي على آخركم حمير)، وكان
جسوراً فتاكاً وعلموا أنهم إن لم يفعلوا ذلك يفعل ما قال، فاجمع أمر
بني كركر على أن يحتالوا كيف يجمعون بينهما ولا يعلم كيف يجمعون بينهما
ولا يعلم لقمان فقال رجل منهم - يقال له عامر بن مالك: أسأتم الجوار
ونقضتم العهد فما أشبه أول أمركم بالآخر لا أمان بعد مكر ولا عذر بعد
غدر ولا نقض بعد أصر، أطعتم غوياً عاهراً وعصيتم ناهياً آمراً أطعتم
شيطانكم فكأني بكم وقد رمتكم العرب عن قوس واحدة فأحسن لقمان جواركم
فكيف تخونونه في حريمه. فلم يلتفتوا إلى ما قال ومضوا فيما هم فيه من
الحرام فقال عامر:
أفي كل عام سنة تحدثونها ... ورأي على غير الطريقة تعبروا
(1/81)
وإن لعاد سنة من حياضها ... سنحيا عليها ما
حيينا ونقبر
وللموت خير من طريق تسبنا ... بهاجرهم فيما تسب وحمير
قال: فضربه الهميسع بن السميدع بن زهير فقال: يا بني كركر أراد دماركم
فاقتلوه فقتلوه ثم إنهم أتوا لقمان فقالوا له: إنا خشينا الحرب فيما
بيننا، ولكن إن رأيت أن تحبس سلاحنا عندك في هذا الكهف فإن تنازعنا لم
يكن لنا سلاح نسفك به دماً ولا نقطع به رحماً. قال: افعلوا فأخذوا
السلاح فجعلوا في وسطه الهمسيع بن السميدع وستروه به من كل جانب وأعطوه
لقمان فطلع به الكهف، فلما خرج لقمان تكلم همسيع إلى سوداء امرأة لقمان
وقال لها: أنا همسيع بن السميدع، وأخرجته ونال منها وأطعمته وسقته ثم
ردته في السلاح، فلم تزل تعمل معه إلى أن رقد معها على سرير لقمان ثم
تنخم ورمى النخامة إلى سمك الكهف وقد التصقت النخامة في سمك الكهف ثم
أن لقمان أتى وقد أعيا فألقى بنفسه على سريره ثم رمى بصره إلى سمك
الكهف فرأى النخامة فقال لامرأته: من بصق هذه البصقة؟ قالت: أنا. قال:
ابصقي فبصقت فلم تدرك. ثم قالت له: أنا جالسة حين بصقتها، قال لها:
اجلسي فجلست فبصقت فلم تدرك، قالت له: واقفة كنت، قال لها: قفي، فوقفت
وبصقت فلم تدرك، فقال لها: من السلاح أتيت - ثم بادر إلى السلاح ففتحه
واستخرج همسيع. فدعا بحمير فقال لهم: ما رأيكم في بني كركر؟ قالوا له:
يا لقمان انف بني كركر بن عاد من أرض حمير فإنهم أهل غدر ومكر لا
يزرعون فينا إلا الغدر ويحملونا الأحقاد ويورثونا الضغائن. فقال لقمان
لعاد: اخرجوا من جواري. ثم طلع على الجبل وشد سوداء امرأته مع همسيع في
السلاح الذي كان همسيع فيه، ثم رماهما من أعلى الجبل، ثم رماهما بالحجر
ثم رماهما جميع من كان معه، فأول من رجم في الحد حد الزنا
(1/82)
لقمان فقتلهما، ثم أخرج بني كركر من جواره.
فقالوا له: يا لقمان إن أنت لم تشيعنا نتخطف في الأرض فسار معهم لقمان
ليمنعهم من قبائل حمير، فبينما هو يسير إذ سمع رجلاً يقول لامرأة منهم:
يا رجيم أين زوجك قالت له: يرعى غنمه وهذا عشي النهار
وهو وقت إيابه إلينا ولكن خذ ما تريد قبل أن يأتيك فزنى بها ولقمان
يسمعهما ويراهما فهما كذلك إذ سمعت ثغاء الشاء فقالت له: هذه غنمنا.
قال لها: خذي لي حيلة فأخذته فأدخلته تابوتاً لها وأقفلت عليه ثم أتى
زوجها إلى حيه ثم أنهم رحلوا ليلاً فقالت له: إن حيلتي وجميع شأني في
هذا التابوت فأحمله فحمله قال، وساروا ومعهم لقمان فهم يسيرون اذ ضيق
البول على الذي في التابوت فبال فلما سال على رأس زوجها، قال لها: ما
هذا الذي سال على رأسي من هذا التابوت؟ قال له: في التابوت اداوة
الماء. قال لها: إنه مالح، ورمى التابوت عن رأسه فانكسر وثار الرجل
هارباً يسعى في سند الجبل فثار في أثره زوج المرأة فأدركه وأخذه وجاء
يدفعه يريد به لقمان وتعاوره من كان معه حتى أتى به لقمان فقال: يا
لقمان إن هذا من شأنه كذا وكذا، فلما أصبح أمرهم لقمان بالنزول ونزلوا
ثم قال: جيئوني بالرجل المأخوذ وبالمرأة فأتي بهما فأنكرا قول الرجل.
فقال لهما لقمان: قد رأيتكما وسمعت كلامكما وعلمت كل ما فعلتما، قال له
بنو كركر: الأمر لك يا لقمان احكم فيهما. قال لهم: حملوها ما حملت
زوجها فأخذ الرجل فحمله في التابوت وشده بالحبال على رأسها، ثم قال
لهم: دعوها تجول حتى تموت ويموت. فلم تزل تجول به حتى ماتت ومات على
رأسها. وإن رجلاً أتى لقمان قال له: يا لقمان إن سارقاً يأتي رحلي
فيدخل يده في خرق الخيمة ويسرق ما أصابت يده من الخيمة، فقال له لقمان:
احرسه
(1/83)
حتى إذا أدخل يده وسرق فخذ يده واقطعها.
ففعل ذلك الرجل وإن السارق آتاه كما كان يفعل أول مرة فقطع رب الخيمة
يده وذلك أن أول من حكم بالقطع في السرقة لقمان.
قال وهب: وإن لقمان اخرج بني كركر بن عاد من أرض حمير وردهم إلى قومهم
عاد بن قحطان.
قال وهب: ورجع لقمان إلى مأرب ومعه لبد نسره الآخر وهو أطول النسور
عمراً.
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: حدثنا زياد بن عبد الله البكائي عن
محمد بن إسحاق المطلبي قال: كان عمر لقمان بن عاد أربعة آلاف عام عاشت
ستة نسور كل نسر خمسمائة عام وذلك ثلاثة آلاف عام وعاش لبد وكان آخرها
ألف عام.
قال وهب: فلما كان اليوم الذي أصبح فيه لقمان مشرفاً على الموت فأراد
أن ينهض فضربت عروق ظهره ولم يكن قبل ذلك يشتكي شيئاً منها فقال:
يا لقومي نعى إلي بموتي ... اختلاف النساء وحبل الوتين
ثم نظر إلى لبد وقد تطايرت النسور ولم يطير فلم يطق فقال له:
انهض لبد نهضاً شدد ... إذ لم يكن أبد الأبد
فأراك حين تطايرت ... تلك النسور فلم تعد
بشرت لقمان به ... ولعله لم يعتمد
قال: ثم أخذ لبداً بيديه ورمى به ليطير فسقط لبد وتطاير وتناثر ريشه
(1/84)
فلم يطق أن ينهض، ثم قال: يا لبد صحبتني
فصحبتك وكذبتين فكذبتك، ثم عاد لقمان فأخذ لبداً فرمى به ليعلو ويطير
فسقط وتطاير ريشه فقال:
انهض لبد نهضاً شدد ... فإن الملك للمجرد
يشير إلى الحرث بن ذي شدد.
فلما أيقن بالموت قال: يا قوم دعوني من سير الجبارين واسلكوا بي سبيل
الصالحين احفروا لي ضريحاً واروني ترباً وحصباً ولا تجعلوني للناظرين
نصباً ومات لقمان ودفن بالأحقاف إلى جوار قبر هود النبي عليه السلام.
وقد ذكر لقمان والنسور كثير من الشعراء فقال تيم اللات بعده:
رأيت الفتى ينسى من الدهر حقه ... حذار لريب الدهر والدهر آكله
ولو عاش ما عاشت للقمان انسر ... لصرف الليالي بعد ذلك يأكله
قال النابغة يصف لبداً:
أمست خلاء وأمسى أهلها احتملوا ... أخنى عليها الذي أخنى على لبد
وقال لبيد بن ربيعة فذكر لقمان وقصته ولبداً وقصته:
لله نافله الأجل إلا فضل ... وله العلى واثبت كل موصل
لا يستطيع الناس محو كتابه ... أني وليس قضاؤه بمبدل
سوى فاعدل دون عزة عرشه ... سبعاً طباقاً فوق فرع المنقل
والأرض تحتهم مهاداً راسياً ... نبتت جنباتهم بصم الجندل
بل كان سعيك في حياتك باطل ... وإذا مضى شيء كأن لم يفعل
لو كان شيء خالد لتواءلت ... عصماء مؤلفة ضواحي مأقل
بظلوفها ورق البشام ودونها ... طود يزل سراته بالاجدل
(1/85)
أو ذو زوائد لا يطاف بأرضه ... يغشى
المهجهج كالذنوب المرسل
في نابه عوج يجاوز شدقه ... ويخالف الأعلى وراء الأسف
فأصابه ريب الزمان فأصبحا ... أنيابه مثل الزجاج النصل
ولقد رأى صبح سواد خليله ... ما بين قائم سيفه والمحمل
صبحن صبحاً حين حق حذاره ... أصبحن صبحاً قائماً لم يعقل
لقد جرى لب فأدرك جريه ... ريب الزمان وكان غير مثقل
ولقد رأى لبد النسور تطايرت ... رفع القوادم كالفقير الأعزل
من تحت لقمان يرجو سعيه ... ولقد رأى لقمان ألا ياتلى
غلب الليالي بعد آل محرق ... وكما فعلن يتبع وبهرقل
وغلبن أبرهة الذي الفته ... قد كان عمر فوق غرفة موكل
والحارث الحراب أمسى قاطناً ... داراً أقام بها ولم يتحمل
والشاعرون الناطقون أبادهم ... سلكوا سبيل مرقش ومهلهل
ودعت قومي بالسلام كأنني ... ماض إلى سفر بعيد المرحل
وقال الأعشى في ذلك أيضاً:
فأنت الذي سقيت عمراً بكأسه ... ولقمان إذ خيرت لقمان في العمر
فقال مميت الخلق ما يصحب الندى ... ثم لم يلق بدعوتها القطر
لنفسك أن تختار سبعة أنسر ... إذا ما مضى نسر خلفت إلى نسر
فقال نسر حين أيقن إنه ... خلود وهل تبقى النسور مع الدهر
وهي لبد والطير يخفقن حوله ... وقد بلغت منه المدى صحوة القدر
فقال له لقمان إذ حلَّ ريشه ... هلكت وقد أهلكت هاداً وما تدري
(1/86)
وأصبح مثل الفرخ أطلق ريشه ... وبادت به
عمراه في ليلة الحشر
قال وهب: كان بنو كركر بن عاد بن قحطان أصابهم قحط فسار لقمان إلى بيت
مكة وسار معه قيل بن الكثير بن عنتر العادي يستسقيان ويدعوان الله
تعالى، فكان يسأل لقمان العمر وقيل يسأل القطر فأجيبت دعوة لقمان ولم
تقبل دعوة قيل ألا إنه رأى في المنام كأن آتياً آتاه فقال له: يا قيل
انك ضيف الله في البلد الحرام قصدت الله وجاورت بيته فلك قرى الدعاء
وقد استسقيت لقوم الله عليهم غضبان ولكن اذهب إلى الموضع الذي تدعو
الله فيك فانك تصيب فيه كأساً فاشرب به كأساً من زمزم إجابة لدعائك
فانك لن تصم ولن تعمى ولن تسقط لك سن ولا ضرس بعده حتى تلقى الله، فلما
أفاق سار إلى الموضع فأصاب به كأساً فأخذه وسار به إلى زمزم فشرب به
كأساً كما أمره فما اعتل بعده بعلة في جارحة حتى مات.
ملك الهمال بن عاد
المعروف بذي شدد ملك متوج
وأنه لما مات لقمان بن عاد صار الملك إلى أخيه الهمال بن عاد بن
الملطاط ابن السكسك بن وائل بن حمير. والهمال بن عاد هو ذو شدد، فلما
صار الملك إلى هم الذي شدد دخل إلى المغارة التي دفن فيها أخوه شداد بن
عاد فأخرج التاج وتتوج به وكان لقمان غيبه في تلك المغارة لأنه لم يكن
متوجا كان متواضعاً لله، فلما ولي الهمال بن عاد أخذ الملك أخذاً
شديداً فولي ذلك
(1/87)
حيناً من الدهر ثم مات، وإنما قيل له ذو شدد بلغة حمير كقولك ذو شطط
ابن عاد بن مناح أي ذو عطاء. |