التيجَان في مُلوك حِمْيَرْ

ملك الحارث بن الهمال
قال وهب: وولي أمر الملك بعد الهمال بن عاد ابنه الحارث بن الهمال وهو الرائش الأصغر والرائش الأكبر عنه لقمان بن عاد وهو الحارث ذو مراثد بن الهمال ذي شدد بن عاد بن ذي مناخ وكانت تأتي هدايا الهند إلى التبابعة من أصناف الطيب والمسك والعنبر والكافور وحب البان والينجوج والزعفران وغير ذلك من أنواع الطيب ومرافق أرض الهند والفلفل والهليلج وغيره، ويأتي الجوهر والعقيق والدن، فلما أتت الهدية إلى الرائش الحارث ذي مراثد وذو مراثد في لغة حمير ذو أيادي وذو مرثد ذو يد.
قال وهب: فلما أتت الهدية من قبل الهند إلى ذي مراثد ورأى ما رأى من عجائب الهند تطلعت نفسه إلى غزوها فعبى الجنود وجمع العساكر وأظهر إنه يريد المغرب في البحر وأعد السفن وكان غزاها قبله ثلاثة من الملوك على البر من جبال حران وأرض التبت حتى وصلوا إليها وهم: عبد شمس ابن * سبأ وبعده ابنه وائل بن حمير وبعده ابنه السكسك بن وائل، فكان خراجهم الذي أجروه على الهند جميع هذه الطرائف يطرفونهم بها.
قال وهب: فلما أمكن لذي مراثد الرائش جواز البحر ركب وقدم بين

(1/88)


يديه رجلاً
من حمير يقال له: يعفر بن عمرو. فسار يعفر حتى دخل أرض الهند وتبعه الرائش ذو مرراثد فقاتل أهل الهند يعفر حتى آتاه الرائش فغلب عليهم فقتل المقاتلة له وسبى الذرية وغنم الأموال ورجع إلى اليمن من جهة مطلع الشمس وكان طريقه مدينة الصغد وهي سمرقند وخلف يعفر بن عمرو في اثني عشر ألفاً في مدينة بناها الرائش ذو مراثد وسماها على اسم الرائش. فلم يقدر أهل الهند يقيمون اسمها فسموها الرائد فهي مدينتهم اليوم وبها ملكهم. وقال في ذلك نوفل بن سعد من رؤساء حمير:
من ذا من الناس له ما لنا ... من عارب في الناس أو أعجمي
سار بنا الرائش في جحفل ... مثل مفيض السيل كالأنجم
يوماً لأرض الهند يسمولها ... تجري به الأمواج كالضغيم
فأول الغاية قاموا بها ... واستسلموا للفيلق المظلم
في بحرها المنشور سام به ... يوم أمام الملك المعلم
يغيرها يعفر اذ جاءها ... يا حبذا ذلك من مقدم
فصبح الهند له وقعة ... هدت قواه بالقنا الصيلم
وانغص الرائش أملاكها ... وآب بالخيرات والأنعم
فالدر والياقوت يجبي له ... والخرد الأبكار في الموسم
قال وهب: ولما صار الرائش بجبال خراسان أتته هدايا أرمينية اتقوه خوفاً لما وقع في الهند فأرسل ملوك أرمينية ببزاة بيض وديباج وسروج ومتاع عجيب مما يقابل به الملوك فقال للرسل: كل هذا في أرضكم؟ قالوا: نعم أيها الملك. قال: فلم نأخذ شيئاً إذ لم نأخذ أرض أرمينية، فسار يريد أرض

(1/89)


أرمينية فقدم بين يديه شمر بن العطاف الحميري في مائة ألف وسار يتبعه بالجمع فأخذ أرمينية وأخذ في دروب الأرض إلى عجز الأرض ما تحت بنات نعش وأبواب زوايا الأرض، ثم
قفل راجعاً حتى بلغ أذربيجان حتى بلغ إلى الصخرتين من أذربيجان وهما صخرتان قد تقابلا جبلان شامخان يحسر الطرف عنهما وليس يأخذ أخذ بأذربيجان إلا بينهما. فكتب في الصخرتين بالحميري المسند وسموا الحميري المسند لأنه على عدده وهو منثور مثله فكتب في الصخرة الواحدة أن الرائش ذا مراثد سيد الأوابد بلغ من الدنيا أمله وبقي ينتظر أجله فمتى ينقض يمض وتحته منقوش:
يا جابيا خرج خراسان ... ملججاً في أرض حران
فتحت أرض الهند مستأثراً ... يعفر الأول والثاني
يتبع قرن الشمس إن أشرقت ... حتى بدا نور الضحى قاني
سام على البيت مستعجلاً ... مقتحماً أرض أذربيجان
سينقضي الرائش بعد الذي ... نال ويبقى الناس في شان
وكتب في الأخرى:
إلا أن الزمان أطاع أمري ... وسوف أطيعه قهراً بقسر
ركبت الدهر إعصاراً عزيزاً ... سيسأم طول هذا الدهر دهري
يخادعني بأيام حسان ... ويقطع دائباً في ذاك عمري
لقد صبر الزمان على اعتزامي ... ليعلم أن عصاني كيف صبري
له أيد طوال عن قصار ... تناول ذا الورى خسري ويسري

(1/90)


قال أبو محمد: أن ذلك الكتاب لمكتوب فيها اليوم - قال: وإن الرائش ذا مراثد رجع إلى اليمن ونزل غمدان ومات، فكان عمره في الملك مائة عام وخمسة وأربعين عاماً، والله أعلم.

ملك الصعب ذي القرنين
وولي بعده ابنه الصعب ذو القرنين بن الحارث الرائش ذي مراثد بن عمرو الهمال
ذي مناح بن عاد ذي شدد بن عامر بن الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان بن هود عليه السلام ابن عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح عليه السلام.
قال وهب: رفع الحديث إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه إنه قال (حدثوا عن حمير فإن في أحاديثها عبراً).
قال وهب: وولي الملك الصعب ذو القرنين بن الحارث الرائش ذي مراثد بن عمرو الهمال ذي مناح بن عاد ذي شدد تجبراً لم يكن في التبابعة متجبر مثله ولا أعظم سلطاناً ولا أشد سطوة وكان له عرش من ذهب صامت مرصع بالدر والياقوت والزمرد والزبرجد، وكان يلبس ثياباً منسوجة من الذهب منظومة دراً وياقوتاً وكان عظيم الحجابة. قال: فبينما هو في ذلك المكان إذ رأى رؤيا كأن آتياً آتاه فأخذ بيده وسار به حتى رقي به جبلاً عظيماً منيفاً لا يسلك فيه سائر من هول ما رأى إذا شرف على جهنم وهي تحته تزف وأمواجها تلتطم وفيها قوم سوط تتخطفهم النيران من كل جانب. فقال له الصعب: من هؤلاء؟ قال له: الجبابرة فاخلع يا صعب رداء الكبر وتواضع لله يعطك عزاً أعظم من عزك وهيبة أجل من هيبة الكبر وعزاً أعظم من عز

(1/91)


الملك فاختر لنفسك أي المقامين أحب إليك. قال: فلما أصبح برز للناس بعد الحجابة وتواضع وانبسط بعد العز والقسوة وجلس بين الناس ودخل قلبه وحشة خوفاً من الله ثم أمر بالعرش فاخرج، ثم قال: أيها الناس اهتكوا ولكل يد ما أخذت فهتك العرش وانتبه الناس ثم رمى بثوبه فتخطفه الناس، ثم قال: أيها الناس إن الله الجبار يبغض الجبارين، قهر الموت من ادعى إنه ندره وأذل الملك من ادعى إنه ضده واستأثر بالبقاء بعد ذهابه الإملاء.
قال وهب: ثم إنه رأى في الليلة الثانية كأنه نصب له سلم إلى السماء ورقى عليه،
فلم يزل يرقى حتى بلغ إلى السماء فسل سيفه ثم علقه مصلتاً إلى الثريا ثم أخذ بيده اليمنى الشمس وأخذ القمر بيده اليسرى ثم سار بهما وتبعته الدراري والنجوم، ثم نزل بهما إلى الأرض، فلم يزل يمشي بهما وتبعته النجوم في الأرض، فأفاق. فلما أصبح خرج إلى الناس هائماً لا يدري ما هو فيه فاستنكر الناس أمره.
قال وهب: ولما كانت الليلة الثالثة رأى كأنه جاع جوعاً شديداً وظهر إلى الأرض فصارت له غذاء فأقبل عليها يأكلها جبلاً وأرضاً حتى أتى عليها كلها، ثم عطش فأقبل على البحار يشربها بحراً بحرا حتى أتى على السبعة الأبحر، ثم أقبل على المحيط يشربه فلما أمعن فيه إذا هو بطين وحمأة سوداء لم تسغ له بما آتاه فترك ثم أفاق من نومه فلما أصبح هام وحار فيما رأى وغاب عن الناس لما به. فقال الناس: يوماً يظهر ويوماً يحتجب.
قال وهب: فلما نام في الليلة الرابعة رأى كأن الأنس والجن آتوه من

(1/92)


الأرض كلها حتى جلسوا بين يديه، ثم أقبلت البهائم والأنعام من الأرض كلها حتى جلست بين يديه، ثم أقبلت الوحوش من الأرض كلها حتى جلست بين يديه، ثم أقبلت الطير حتى أظلته وأقبلت الهوام من جميع الأرض كلها حتى حفت به، ثم أقبلت الرياح حتى استدارت فوقه. قال: فأرسل أمماً من الإنس والجن مع ريح الصبا إلى المغرب فهبت بهم إلى المغرب، ثم أرسل أمماً من الإنس والجن مع ريح الشمال، فهبت بهم إلى يمنى الأرض فلما ذهبت الإنس والجن أمر البهائم والأنعام فذهبت بهم الرياح الأربع وجوهاً من ألأرض، فذهبوا في سبيل الأنس والجن، ثم أمر الطير فذهبت بها الرياح في الوجوه الأربع، ثم أمر الرياح فذهبت بالوحوش وحبس سباعها تحت قدميه، ثم أمر الرياح فذهبت بالهوام في سبيل من مضى من جميع من أرسل، فلما أصبح غلب عليه هول ما رأى من الرؤيا الأولى والثانية والثالثة والرابعة فأرسل في وزرائه وأهل مشورته ووجوه قومه فجمعهم، ثم قص
عليهم ما رأى. قال لهم: كنت كتمتكم أمر وهو أمر جسيم. قالوا له: هال علينا حالك أيها الملك فتحيرنا في أمرك وخشينا من سخطك إن نحن سألناك من قبل أن تظهره، فلما كان إظهاره منك فرجت علينا أيها الملك أمراً جليلاً واطمأنت قلوبنا فما هو أيها الملك؟ قال لهم: رأيت رؤيا عظيمة، ثم رأيت في الليلة الأخرى أعظم منها، ثم رأيت في الليلة الثالثة ما هو أعظم منهما جميعاً، ثم رأيت في الرابعة من أعظم مما تقدم، فلم أدر ما أفعل؟ قالوا له: ما هي أيها الملك؟ فقص عليهم جميع ما رأى. فهالهم ما سمعوا منه فقالوا له: نامت عينك أيها الملك اجمع أهل العلم بالتأويل والنجم والكهانة والحبابرة من أهل الدين الأول فإنهم يفسرون للملك جميع ما رأى في

(1/93)


الليلة الأولى والثانية والثالثة والرابعة، فقالوا له: أيها الملك هذا شأن عظيم لم تدرك عقولنا تأويل هذا، وإن نحن تأولناه لك لم نأمن إن نحن لم نصب وجه الرؤيا يسخط علينا الملك وقد يخرج تأويل الرؤيا على غير ظن المتأول.
قال: ثم قام إليه شيخ منهم له عقل ودين وقد جرب الأمور وحكمته الدهور. فقال له: أيها الملك أما أنهم قد أحسنوا إلى أنفسهم إذا لم يفسروا شيئاً من رؤيا الملك ولو أجابوا الملك لرددت عليهم، أنا وإن تقدمت في ذلك بين يدي الملك تحسن العاقبة قال له الصعب ذو القرنين: لم ذلك؟ قال له الشيخ: ذلك لأن الله فوض إليك أمراً جليلاً وقلدك أمراً جسيماً ثم أراك وحياً عظيماً، فقد استمسكت بأمر الملكوت واني يفسره لك من الله عليه فاضطره إليك وجعل حكمك في دمه وماله فقد وقفك الله بين الجنة والنار فإن عدلت يميناً فجنة وإن عدلت يساراً فنار، ثم أراك هذا البناء العظيم فأردت أن تسبرن في علم الله من أباح لك جهله دمه وماله يحملون آراءهم على علم الملكوت ووحي الغيوب فقد رأيت أيها الملك عظيماً فليس على الأرض من يفسر تأويل رؤياك إلا نبي ببيت المقدس من ولد إسحاق بن إبراهيم الخليل.
قال له الصعب: ولله نبي على الأرض؟ قال له الشيخ: نعم أيها الملك ما أتيت الملك إلا وقد لقيته وسمعت منه ما يدعو إليه فأمر ذو القرنين بالجنود فجمعت، فجمع جنوداً لم يجمعها ملك قبله، وذلك عند كمال قوة لابن سام ابن نوح صلى الله عليه وسلم وبه كانوا يتداعون في ذلك الزمان وهم عمود النسب من ناولهم من جميع العجم، فلكا اجتمع للصعب ذي القرنين الجموع العظيمة والعساكر البارزة أوقفها بمآرب وعمل بطاعة

(1/94)


الله وحكم بحكمه، ثم أمر بعمود من رخام فنقش فيه بالمسند الحميري:
يلوم اللائمون الجهل جهلاً ... وداء الجهل ليس بذي دواء
وعلم العالم التحرير جهل ... إذا ما خاض في بحر البلاء
إذا كان الإمام يحيف جوراً ... وقاضي الأرض يدهن في القضاء
فويل ثم ويل ثم ويل ... لقاضي الأرض من قاضي السماء
ثم أمر الصعب ذو القرنين الجنود فنهضت وجعل على طالعته ألف ألف فارس، ثم مشى بالخيل والرجل فسار حتى انتهى إلى البلد الحرام فنزل به، ومشى في الحرم راجلاً حافياً وطاف البيت وحلق ونحر، ثم قضى حجه ومشى في الحرم راجلاً حافياً حتى إذا خرج منه ركب ثم سار إلى بيت المقدس، فلما نزل بيت المقدس سأل عن النبي الذي ذكر له ولم يطلب شيئاً غيره حتى ظهر عليه. قال له الصعب: أنبي أنت؟ قال له موسى الخضر: نعم، قال له: ما اسمك ونسبك؟ قال له: موسى الخضر بن خضرون بن عموم بن يهوذا بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل عليه السلام. قال له الصعب: أيوحى إليك يا موسى؟ قال له: نعم يا ذا القرنين، قال الصعب له: يوما هذا الاسم الذي دعوتني به ما هو؟ قال: أنت صاحب قرني الشمس وذلك أن أول من سماه ذي القرنين الخضر.
قال وهب: ثم قص عليه كيف رأى جهنم والجنة ثم قص عليه كيف رأى إنه علق
سيفه بالثريا مصلتاً وأنه أخذ الشمس والقمر وتبعته النجوم والدراري ونزل بهم إلى الأرض ومشى بهما في الأرض والنجوم تتبعه، ثم قص عليه كيف أكل الأرض بجبالها وشرب البحار كلها، ثم شرب عامة ماء البحر المحيط

(1/95)


حتى آتاه كدر وحمأة فلم يستطع شربه وكف عنه. وقص عليه كيف رأى الأنس والجن والبهائم والأنعام والوحوش والطير والهوام وعقد الريح وكيف صرفهم في الأرض. قال له: أن الله مكن لك في الأرض وأعطاك من كل شيء سببا فأما جهنم فقد أنذرت فانتبه. فأما طلوعك إلى السماء فهو علم من عند الله تدركه، وأما الشمس والقمر والدراري والنجوم فإنه لا يبقى معك في الأرض ملك إلا خلعته ولا رأس إلا تبعك. وأما الأرض التي أكلتها إلى غايتها فلم تبق منها شيئاً فإنك تملك الأرض ومن عليها. والسبعة البحار التي شربتها فإنك تركب السبعة الأبحر وتملك جزائرها. وأما البحر المحيط فإنك تركبه وتبلغ منه غاية يأتيك عكر لا تستطيع تعبره فترجع دونه، وأما الأنس والجن فإنك تنقلهم في الأرض من مكان إلى مكان تحول أهل المغرب إلى المشرق وأهل المشرق إلى المغرب وأهل يمين الأرض إلى شمالها وأهل شمالها إلى يمينها، وأما الأنعام والبهائم فإنها تسخر لك. وأما الوحوش والطير والهوام فإنها تسخر لك لا تضر شيئاً في زمانك وحيث ما شئت عقدتها بيدك زمامها، وأما الرياح فانك تملك عقدها تصرف ضرها عن أي بلد شئت، وأما رؤياك أنك طفت بالشمس والقمر في الأرض فانك ستجاوز مغرب الشمس وتصير في ظلمة لا تهتدي إلا بما في يديك من العلم ويذهب عنك ضوء الشمس والقمر فانهض بأمر الله واعمل بطاعة الله فإن الله يغنيك ويسددك ويوفقك.
قال وهب: وإن ذا القرنين نام فرأى أي سبباً كأن الأرض كلها عليها ليل إلى أن طلعت له الشمس من المغرب بيضاء صافية فسار يلقى الشمس فلم يزل يتبع
نورها حتى بلغ أرضاً مفروشة بنجوم السماء، فمشى عليها، ثم أفاق فاعلم الخضر بهذا السبب، قال له الخضر: أمرت بأن تسير إلى المغرب

(1/96)


وتبلغ وادي الياقوت. فكان الخضر يأتيه الوحي فيعلم بذلك ذا القرنين، وتأتي الأسباب إلى ذي القرنين فيعلم بها الخضر. فكان ذو القرنين يعمل بالعلمين، ثم سار ذو القرنين إلى القرنين إلى المغرب وسار معه الخضر فسار ذو القرنين يطأ المغرب بالجنود يقتل ويسبي وينقل الناس من أرض إلى أرض فعاد على ارض الحبشة، فلم يزل يفتحها أرضاً أرضا وأمة أمة حتى بلغ أقصاها.
قال أبو محمد عن أسد بن موسى عن أبي إدريس عن وهب عن عبد الله ابن عباس إنه قال: الدنيا مسيرة خمسمائة عام فثلاث مائة منها بحار ومائة قفار ومائة عمران، فثمانون منها لياجوج وماجوج وأربع عشرة للسودان وست منها لما سوى ذلك من الخلق.
قال وهب: لما لجج ذو القرنين في أرض السودان يقتل ويحرق بالنار إلى أن أتى إلى قوم بكم قال له الخضر: هل لك أن تسمعهم فإنهم قوم لا ينطقون فمن عمل بما أمرته علم إنه قبل ومن لم يعمل قتلته. ثم مضى حتى انتهى إلى قوم سود زرق الأعين فقتل من قتل وآمن من آمن ثم مضى حتى انتهى إلى قوم بلق آذانهم كآذان الجمال فقتل منهم أمماً وعفا عمن آمن، ثم مضى حتى انتهى إلى قوم آذانهم كبار من أعلى رأس احدهم إلى ذقنه فإذا رقد وضع شقاً عليها وغطت الأخرى الشق الأعلى فقتل من كفر وعفا عمن آمن حتى غلب على أرض السودان وجلب منهم أمماً بين يديه في عساكره، ثم مضى حتى بلغ أرض بني ماريع بن كنعان بن حام فقتل وغنم وسبى وساق منهم أمماً بين يديه، ثم جاز إلى جزيرة الأندلس فغلب عليها إلى أقصاها، ثم رام ركوب البحر المحيط فزفر عليه البحر وصار كالجبال الشم فرأى في الأسابا عقدة فبنى منارة وجعل عليها صنماً من نحاس عقد
بها عاصفات الرباح، ثم سكن البحر فلان فركبه وسار بجميع جموعه حتى أبعد عن العقد،

(1/97)


ثم طغى عليه البحر فبنى منارة أخرى ونصب عليها صنماً عقداً. فلم يزل يسير في المحيط وكلما عبر وزفر عليه بنى منارة وعقد عقداً حتى انتهى إلى عين الشمس فوجدها تغرب في عين حمأة في البحر المحيط ووجد من دونها جزائر فيها أمم لا يفقهون ما يقولون ولا ما يقال لهم فقال ذو القرنين: من رمى بكم ها هنا؟ فقالوا له: سبأ، فأخذهم ذو القرنين فأراد قتلهم قال له الخضر: يا ذا القرنين {إما أن تعذب وإما أن تتخذ فيهم حسناً، قال: أما من ظلم فسوف نعذبه ثم يرد إلى ربه فيعذبه عذاباً نكراً، وأما من آمن وعمل صالحاً فله جزاء الحسنى وسنقول له من أمرنا يسراً ثم أتبع سبباً} حتى بلغ وادي الرمل وأقبلت الشمس حتى سقطت في العين الحمأة، فكاد يهلك ويهلك جميع من معه من حر الشمس. فلما أتى وادي الرمل وجده يسيل بالرمل كالجبال الرواسي فرام أن يعبره فلم يطق، وأقام عليه أربعة أيام حتى دخل عليه السبت فسبت وأمر عمرو بن يعفر الحميري فعبر وادي الرمل في عشرين ألفاً فمضى حتى غاب عنه فلم يرجع إليه من عنده أحد، ثم أمر زهير بن مالك الحميري فعبر في عشرة آلاف رجل وقال له: يا زهير انظر إليه عمرو ومن معه وانصرف ولا تمض فعبر زهير فلما صار إلى مكان عمرو ولى بمن معه. فلم يرجع إليه من عنده أحد وغاب عنه، فلما رأى أن عمراً ذهب وذهب زهير فلم يرجعا بمن معهما علم إنه علم مغيب عنه فقال للمسقر بن حوشب يا مسقر أنت أعظم رجالي عندي وارجاهم فاعبر وارجع إلي بما رأيت وما صار إليه عمرو وزهير، فعبر المسقر في خمسة آلاف رجل، فلما عبر وصار مكان عمرو وزهير مضى جميع من معه مستعجلين، ووقف المسقر مكانه لا يرجع ولا يذهب حتى غشيه الليل وسقطت الشمس فأصبح الوادي يوم الأحد

(1/98)


وهو يجري كالجبال الشم وحال بينه وبين المسقر وغاب عنهم فلا يدري ما
صاروا إليه. قال له الخضر: يكفيك يا ذا القرنين ف ' نه لن يجوز إلا من قد جاز اتبع ذو القرنين سبباً وسار مع وادي الرمل حتى بلغ إلى الظلمة فصار ليله ونهاره واحداً وعين الشمس تسقط خلفه فشق وادياً تزلق فيه الخيل والجمال وجميع ما معه. قالوا: يا ذا القرنين ما هذا؟ قال لهم: أنتم بمكان من أخذ منه ندم ومن تأخر ندم، فساروا فيه أياماً، ثم عطف بهم الوادي إلى جهة أشرق عليهم نور أبيض يكاد يخطف أبصارهم، قالوا له: يا ذا القرنين ما هذا الوادي الذي عبرناه؟ قال لهم: الوادي الذي عبرتم أنتم ذلك وادي الياقوت فمن أخذ منه قال: ليتني أخذت كثيراً ومن لم يأخذ قال: ليتني أخذت منه قليلاً. ثم انتهى إلى الصخرة البيضاء فكادت تذهب بأبصارهم من نورها وشعاعها وكان الذي وجدوا من الظلمة نور الصخرة ونظر ذو القرنين إلى منكب من مناكب الصخرة فرأى عليه نسوراً فعجب ذو القرنين منها ومن تعلقها في ذلك الموضع. قال ذو القرنين للخضر: يا ولي الله ما لهؤلاء النسور ها هنا! قال له الخضر: لهم شأن عجيب ونبأ جسيم، قال له ذو القرنين: ما هو يا نبي الله؟ قال له الخضر نعم يا ذا القرنين إنه لما أمر الله خليله إبراهيم بالهجرة إلى أرض بابليون أرسل إبراهيم جرجير بن عويم داعياً، وكان ولياً من أولياء الله داعياً من دعاته، إلى المغرب ليقيم حجة الله تعالى على الناس فبلغ قمونية فدعا الناس إلى الله تعالى فأجابه أمم وعصى أمم، ثم عبر إلى جزيرة الأندلس فأصاب بها أمما من بني يافث بن نوح وهم السكسك والقبط والإفرنج والجلائق والبربر والرعر فدعاهم إلى الله فقتلوه والقوه في

(1/99)


موضع يجتمع فيه حشوشهم، فأرسل الله له هذه النسور للذي أراد من خلاص وليه من ذلك الموضع فجبذوه وأزالوه منه ونزل غيث وابل فطهره، ثم أكله هؤلاء النسور حتى نخر لحمه من عظامه وتفرقت عظامه وأوصاله، ثم أتى النسور إلى هذه الصخرة المنيعة فنزلوا فلم يقدروا على إمساك لحمه في حواصلهم فتقيؤوا
فألقوه في ذلك الموضع فلم يبق من لحمه في حواصلهم شيء، ثم أرسل الله عظامه طيراً بعد من فرقتها النسور فكانت تأخذها عظماً عظما فإذا استقلت بها في الهواء ألقتها في الأرض فتنزل العظام في غابة عظيمة تغيب فيها فيتبعها الطير وتمنعه الغابة فلا يجد الطير إليها سبيلاً فعظامه فيها إلى يوم القيامة ولحمه على هذه الصخرة إلى يوم القيامة طهره الله من نجاسات المشركين وقد حرم الله النبيين والشهداء دماءهم ولحومهم على الأرض والطير والوحوش والهوام حتى يقفوا بين يدي الحكم العدل فسائل ومسئول وخاصم ومخصوم فهناك الفوز والدرك، ثم دنا ذو القرنين من الصخرة ليرقى عليها فانتفضت وارتعدت وتقعقعت فرجع عنها فسكنت، ثم عاد إليها ثانية فاتفضت وارتعدت وتقعقعت فرجع عنها فسكنت، ثم عاد إليها ثالثة فانتفضت وارتعدت وتقعقعت، ثم دنا منها الخضر فسكنت فرقى عليها فلم يزل يرقى وذو القرنين ينظر إليه والخضر يطلع إلى السماء حتى غاب عنه فناداه مناد من قبل السماء امض أمامك فاشرب فإنها عين الحياة وتطهر فإنك تعيش إلى يوم النفخ في الصور ويموت أهل السموات وأهل الأرض فتذوق الموت حتماً مقضياً. فمضى حتى انتهى إلى رأس الصخرة فأصاب عيناً ينزل فيها ماء من ماء السماء فشرب منه وتطهر، فلما رأى الماء ينزل ويستدير ولا يسيل منه شيء

(1/100)


قال: إلى أين تذهب أيها الماء فنودي قد بلغ علمك، فلما رجع الخضر إلى ذي القرنين قال له: يا ذا القرنين إني شربت من ماء الحياة وتطهرت منه وأعطيت الحياة إلى يوم النفخ في الصور وموت أهل السموات والأرض ثم أموت حتماً مقضياً، ومنعت أنت ذلك ولك مدة تبلغها وتموت فارجع فليس بعدها مزيد لأنس ولا جن - ولم ير ذو القرنين سبباً فأقام حيناً ينتظر السبب، فأنشأ يقول:
منع البقاء تقلب الشمس ... وطلوعها من حيث لا تمسي
وطلوعها بيضاء صافية ... وغروبها صفراء كالورس
تجري على كبد السماء كما ... يجري حمام الموت للنفس
لم أدر ما يقضيه حكم غد ... ومضى بفصل قضائه أمس
وتشتت الأسباب تخلجني ... نحو العراق ومطلع الشمس
أزجي لهم حرباً تؤدبهم ... يلقون ذاك بأوجه عبس
تهوى المنون عليهم قذفاً بليوث غاب غير ما نكس
في ألف ألف كالنجوم لهم ... زجل كأسراب القطا الهمس
والصعب ذو القرنين قاد بها ... لصلاح أرض الترك والفرس
يا رب معصوم لساحتها ... عن هالك بعالم درس
للدهر أيام لعبن بنا ... يأتي القضاء بمحكم الطرس
كم من قرير العين في دعة ... ومروع الأيام في نحس
ومسود من غير مكرمة ... وممجد في ذاته يمسي
وعسيف قوم ظل في سعة ... ومقام حر عاش في تعس
ومعزز لم يلق قط وغى ... وحليف ذل فارس الدعس
إني أرى الأسباب واضحة ... وأرى علوم الغيب في طمس

(1/101)


يجري الزمان لنا بأربعة ... غيرن ما أصلحن بالأمس
يوم وليل دائر بهما ... نحس وسعد غاية النفس
إن المسقر بعد عزته ... ناء عن الخلان والأنس
والموت أس للنفوس متى ... حل القضاء رجعن للاس
هيهات لم يخدع فكان فتى ... لابد أن يمسي بلا حس
رهنا ببطن تنوفة أبداً ... بالحنو حنو الرمل في رمس
وان الخضر عليه السلام قال لذي القرنين: قد بلغت مبلغاً ليس وراءه من مزيد
ولا مرمى وطفت جزائر المحيط وبلغت حجة الله على الجن والأنس بالمغرب، فانتظر ما يوحى إليك فأقام حيناً ينتظر حتى رأى السبب الصادق فناداه مناد من السماء: يا ذا القرنين اليوم الغناء وغداً الفناء اليوم العارية وغداً الهبة يا ذا القرنين إن النار زفرت وتغيظت على من يعرف الله ولم يغضب له يا ذا القرنين عذ بالرضى من الغضب وبالولاء من السخط، يا ذا القرنين اطلع مشارق الأرض فإنها ثلاثمائة مطلع وخمسة وستون مطلعاً تحت كل مطلع أمة لا يعرفون الله ولا يقنون بالبعث فبلغ حجة الله وأقمها على من لا يعلم وعده ووعيده. وإن الخضر أتى ذا القرنين فقال له: يا ذا القرنين إن لم يقل لك فسيقال لك وإن لم تر فسترى فهل قيل لك أو رأيت؟ قال له ذو القرنين: رأيت الأسباب الصادقة وسمعت النبأ العظيم يأمر وينهي.

وصية الخضر عليه السلام
قال له الخضر: يا ذا القرنين إن الله مكن لك في الأرض وآتاك من كل

(1/102)


شيء سبباً ولم تعلم إلا ما شاء الله أن تعلمه من علمه ولو ظهر إليك حرف مما غب عنك لا نصدع قبلك فرقاً، يا ذا القرنين حملت أمانة لو حملت على السماء انفطرت وعلى الجبال انهدمت وعلى الأرض انشقت، أعطيت الصبر وأوتيت النصر، وسترى قوماً يرون أهل الأرض عبيداً وأنهم شركاء الله في خلقه، وهم يأجوج ومأجوج والله الطالب لا يفوته هارب ولا يغلبه غالب والعقوبة بعد القدرة والمنع قبل الذل والغضب تحت الرضا والوفاء بعد العهد، يا ذا القرنين مرٌّ ينفع خير من حلو يضر، خذ ودع، خذ ما لزمك ودع ما لم يلزمك، يا ذا القرنين ربما رأت عينك شيئاً لم تدركه يدك ومثل لك أملك ما لم يبلغه عملك وحال دونه أجلك، يا ذا القرنين اعمل عمل من لا يموت وازهد زهادة من نزل به الموت واقنع من عيشك بالقوت. يا ذا القرنين أيقن وأتقن فإتقانك صلاح الدنيا ويقينك
صلاح نفسك، يا ذا القرنين اجعل نفسك يدك في الدنيا وعينك في الآخرة امش مشي من لا يغفل ولا تعجل ولا تمهل فإن في الغفلة الهلكة وفي العجلة الندامة ومن المهل العطب كن بين حالين سدد ففي السداد الرشاد والحق دليل فاستدل ترشد والغنى لهو ومهلكة واني يفيق غاوٍ لاهٍ - يا ذا القرنين من نظر إلى الدنيا بعين سقيمة نظرت إليه بعين صحيحة وأرته النجاة وأعاضته جدة لا تخلق ومن نظر إليها بعين صحيحة شوقته بالآمال الكاذبة وكان حظه منها غدراً وزادته ندماً، يا ذا القرنين من عاش كذب ومن مات صدق مدة غايتها القطع كذب وغرور وابد لا يفي فالمطمئن إلى الحياة مخدوع والميت في منزل الأموات قدم علمه وأخر أجله فذلك الحي الذي لا يموت، يا ذا القرنين الناس عبيد الدنيا فمن نصح نفسه اعتقها ومن خلط طال رقه - راحة النفس القناعة وعذابها الحسد

(1/103)


وزينتها العفاف -، يا ذا القرنين خذ ما ما أتيت بحزم وعزم واجعل الصبر دثاراً والحق أشعاراً والخوف من الله جنة، يزكو لك العمل وتأمن من هول الأجل، خذ بيدك سيف الله فإنه ليس له دافع ولا لنصره مانع وحسبك من كان الله له ناصراً، يا ذا القرنين خذ تحت أكتاف السماء عن شمال الأرض.
قال: فحمل عساكره في المحيط يريد جزائر الأرض خلف جزيرة الأندلس، فلما وصل وعبر إلى الأرض وأخذ أهل الجزائر، وأنشأ ذو القرنين يقول:
ألا أيها الوراد قد نلت خطة ... علوت بعلميها ملوك الأعاجم
سلكت غروب الأرض حزماً بجحفل ... لنأتي أرضاً غير أرض التشائم
فعمت جميع الغرب لله دعوة ... إلى غايتها بالقنا والصوارم
خرجت على الدنيا عن اللهو محرماً ... وسقت جموعاً كالهضاب الرواكم
وردت بباب الغرب والجمع مشرع ... على موج بحر مزبد متراكم
عقدت بعين الريح عقداً يكفه ... فامسك عن مجرى المدى المتفاقم
فارجيت فيه أمة بعد أمة ... وقدمت فيه عالماً بعد عالم
فأوردتها مثل القطا فيه نهلاً ... لندرك في الدنيا قسّ المعالم
تجرعته عذباً من الماء سائغاً ... وكان أجاجاً طعمه كالعلاقم
فصرت كمثل الطير فوق متونه ... تطير خوافيه بهز القوادم
أتيت إلى واد حثيث مسيله ... برمل تراه كالجبال الرواسم

(1/104)


تسير مهاراً والليالي كاتبا ... ترامي بسافيه حفي المخارم
صحبت ولياً مسكن الوحي قلبه ... ليعلم من أسراره كل كاتم
وأعطيت أسباباً أرى الرشد عندها ... تناهت بصدق العلم عن كل عالم
فلما آتاه السبت أسبت وارتقي ... على متنه عمرو وعاد بعاصم
فبادر سباقاً ويعفر بعده ... بجمعها أهل النهى والمكارم
وغودر إذا ذاك المسقر قائماً ... له همة تزري على كل قائم
فرجم بعض الناس بالظن أمرهم ... وقال دعوا في الأمر دعوة حازم
وقالوا رأوا مالاً يقيمون عنده ... فحثوا إلى الحور الحسان النواعم
ومن قال في علم العيوب بعلمه ... له نومة تربى على كل نائم
فهد جنا حيَّ المسقر فجعة ... وأنت على فقدانه غير نادم
فودعني عمرو عليه تحيتي ... وفارقني من يعفر حزم حازم
فهل مبلغاً في العهد يأتيه إنه ... ليعلم أن النقض غير المآثم
كتبت بخط الحميرية آية ... بأن ليس بعدي من مسير لقادم
ولا مذهب غير الذي قد أتيتم ... بني حمير غير النسور القشاعم
ولا بد مما أن تريحون غزوة ... لقتل الأعادي والملوك النواجم
ويوشك أن تدعوا يقيناً لمثلها ... إلى المشرق الأقصى لأمر ملازم
ليعرف حق الله من قد أضاعه ... ويهتك بالأسباب سجف المظالم
ويعلم أن الدهر يبلى جديده ... ومن قارع الأيام ليس بسالم
ألم تر أن الدهر يهدم ما بنى ... ومن يك مهدوماً فليس بهادم

(1/105)


ثم أرسل عساكره إلى جزيرة الأندلس وأمرهم أن لا يبقوا عليهم حنقاً عليهم لما فعلوا بجرجير بن عويم داعي إبراهيم الخليل عليه صلوات الله إلا من آمن منهم أو من كان على دين جرجير وما دعا إليه من الحنفية دين إبراهيم. ثم أرسل الخضر إلى قمونية في عساكره وأمره أن يلقاه بدروب الشام، وأخذ ذو القرنين على ألأرض الفرقاء، وإنما سميت الفرقاء لانفراق جزائرها في البحر حتى وصل إلى الشام لا يأتي على أمة إلا آمنت أو هلكت، وسار الخضر إلى قمونية يفعل كذلك إلى أرض بابليون يقتل من صدف ويتجاوز عمن آمن ومر إلى الشام فاخربوه ونجوا هاربين إلى بيت المقدس مستجيرين، فأرسل إلى ذي القرنين استجاروا بالله نعم الجار، فمن كان قد آمن فله ذمام الإيمان وحرمة الدين ومن كفر فإن الله عدو للكافرين أخرجهم من حرم الله المقدس واجر عليهم الجزية ففعل ذلك الخضر حتى انتهى إلى الدروب، فلقي ذا القرنين، فسارا يريدان مطلع الشمس يدعوان إلى الإيمان ولا يأتيان على أمة إلا آمنت أو هلكت حتى بلغ المحيط من عجز الأرض تحت بنات نعش فأصاب فيها أمماً من بني يافث بن حام وأوساه من بني سام، فلم يزل يحملهم على الإيمان فمن آمن نجا ومن صدف عن الحق حمله على السيف ثم عطف على الجزيرة ومضى إلى الرعاق يدعو ويقتل، ثم قصد أرض فارس فآمن من آمن وقتل من غدر وكفر ونزل على جبل الصخر ونزل على قصر المجدل وهو القصر الأبيض قصر عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح الذي بنى في زمان البلبلة حين تبلبلت الألسن وكان من أمره وشأنه إنه استخرج الصحيفة المستودعة عند النبي صلى الله عليه التي فيها العربية، فكان عابر أول من نطق بالعربية ونطق بها معه هود عليه الصلاة السلام، وذلك إنه لما بنى
القصر

(1/106)


الأبيض وبني فيه الصرح وجعل حول القصر المجدل، وبني القصر بألواح الرخام الأبيض وسقوفه بالزجاج الأبيض وأرضه ألواح الزجاج الأبيض وكان لجامه الفردية، وأفرغ الماء تحت الزجاج من أسفل القصر، فكان القصر الأبيض أعجب ما بنى في الدنيا في وقته ولم يبن قبله في الدنيا مثله وهو أبدة من أوابد الدنيا، فلما بناه عابر بن شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح وتكلم بالعربية تكلم بها معه ابنه هود النبي صلى الله عليه وسلم، ولم يتكلم بها معه ابنه فالغ للذي أراد الله، وذلك أن فالغ بن عابر جد إبراهيم النبي صلى الله عليه وسلم وهو إبراهيم بن تارخ بن ناخور بن ساروع بن ارعوي ابن فالغ بن عابر، وعابر بن هود النبي صلى الله عليه وسلم وأبو فالغ، فهود أبو بني قحطان وأخوه فالغ أبو بني عدنان، فلما تكلم عابر بالعربية تكلم بها معه ابنه هود وتكلم بها معه بنو عمه ارم بن سام ين نوح وعملاق بن لاوي بن ارم بن سام بن نوح وطسم وجديس ورائش وقطورا بني لاوذ ابن ارم بن سام بن نوح فتكلم بنو ارم بن سام بالعربية كلهم ما خلا فارس بن لاوذ بن سام بن نوح فانه تكلم بالفارسية وهو فارس الأسود ورحل عابر من ارض بابل حتى نزل العراق وحير الحيرة وهو أول من نزلها وحيرها وعرق العراق بغرس النخيل وغير ذلك من الثمار وبقي ابنه فالغ لأقصر الأبيض فتكلم بالفارسية مع بني فارس الأسود فأقام فيهم هو وولده حتى بعث الله إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم فأمره بالهجرة والخروج مع بني فارس إلى بني عمه هود وهم العرب بنو قحطان، فأمره أن ينزل ابنه إسماعيل في بيته مكة في بني جرهم بن قحطان للذي أراد الله من تمام أمره ووعده لنبيه إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليه وسلم وبقي القصر الأبيض قصر عابر بن

(1/107)


شالخ بن ارفخشد بن سام بن نوح إلى زمان ذي القرنين الصعب بن ذي مراثد، فلما رحل ذي القرنين من جبل الصخر لاح له القصر البيض فقال: ما هذا؟ قيل
له: هذا القصر الأبيض قصر عابر بن شالخ، فأنشأ يقول:
أين رب الملك بل أين الذي ... شيد القصر زماناً ثم جن
أين من ينجو من الموت ومن ... أخذ العهد على رب الزمن
ثم نزل على القصر ودخله فرأى فيه أعاجيب يرى من يمشي فيه من داخل القصر ويرى من في مجالسه من ظاهرها فقال حكم فيه ما أرادوا حكم فيه ما لم يرد، وأنشأ يقول:
خرجنا من قرى الصخر ... إلى القصر فقلنا
فمن يسأل عن القصر ... فمبيناً وجدناه
رأينا القصر كالشمس ... منيراً حين أمناه
فأين الساجد السامي ... مليك القصر بناه
وقد كان به حيناً ... ولو كان سألناه
عن القوم وما قالوا ... ولو قال لقلناه
أراه العيش آمالاً ... على بعد ومناه
جرى باللهو إطلاقاً ... وسلم الدهر هناه
فراق القصر رب القصر ... حيناً ثم أفناه
إذا ما أقبلت منه ... أماني حمدناه
وإن ألوى لسوء منه ... أحياناً سئمناه
إذا ما خاننا الدهر ... بصرف منه خناه

(1/108)


سريعاً بعدنا يفني ... إذا نحن تركناه
ثم سار حتى بلغ إلى فج عظيم بنهاوند ثم لقيته جبال شم منيعة بينها شعاب عظيمة. فقيل له: يا ذا القرنين هذا الشعب ينفذ إلى جابر صا وهذا الشعب يصل إلى هرات ومرو وسمرقند وهذا ينفذ إلى جاجا وبلخا وحابلجا وبارد وأرض
يأجوج ومأجوج، فأخذ شعب جابرصا وجابلقا فقتل من قتل وآمن ومن آمن وهو في عجز الأرض وغلب على أرمينية ومن بها، ثم عطف إلى فج نهاوند فقيل: هذا باب الأبواب وهو اسمه إلى اليوم بابا الأبواب، فأمشأ ذو القرنين يقول هذه الأبيات:
جزعنا الغرب والشرق ... وجئنا باب أبواب
وأعلا ما من الدنيا ... بآيات وأسباب
بعلم صادق الحزم ... وبأس غير هياب
بأمر الواحد القهار ... رب فوق أرباب
وفي المر تصاريف ... وآيات لألباب
وعلم فوق ذي علم ... وغلاب لغلاب
ثم مضى حتى بلغ أرض ياجوج ومأجوج فقاتلهم فغلب عليهم وأناب أمة منهم وهم بنو علجان بن يافث بن نوح فتركهم في جزيرة أرمينية إلى ناحية جابرصا فسموا الترك لأن ذا القرنين تركهم ومضى يطلب ياجوج ماجوج حتى لجج في أرضهم فلم يزل يأخذها أرضاً أرضا وأمة وأمة حتى انتهى إلى الأرض الشماء وهي جبال شم شواهق شوامخ، فلم يزل يخرقها بالطرق وينزل

(1/109)


العلو ويرقع الوهاد ويفتتحها حتى غلب عليها وبلغ الأرض الهامدة فافتتحها - وهي أرض مبسوطة لا تلعة فيها ولا ربوة عليها - وغلب من بها من ياجوج وماجوج. ثم بلغ جزائر الأرض الرواب التي تزاور عنها الشمس عند طلوعها، فوجد عندها قوماً صغار الأعين صغار الوجوه مشعرين وجوههم كوجوه القردة وهم لا يظهرون في النهار وإنما يظهرون في الليل يختفون من حر الشمس في المغارات والكهوف في الجبال فدعاهم بلسانهم وقد أعطاه الله سبباً من كل لسان، ثم صار في أرضهم حتى بلغ أطراف جزائر المحيط فأصاب بها أمماً من ياجوج وماجوج يقال لهم الأحرار
تطلع الشمس وهم قوم سود زرق الأعين طوال الوجوه طوال الأنوف تشبه وجوههم وجوه الخنازير وهم يختفون في النهار من حر الشمس ويظهرون في الليل فدعاهم وآمنوا. فكان كما قال الله تعالى وتبارك: {ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ مطلع الشمس وجدها تطلع على قوم لم نجعل لهم من دونها ستراً كذلك وقد أحطنا بما لديه خبراً}. ثم ركب البحر المحيط فسار فيه حولاً حتى ترك الشمس عن يمينه ولجج في الظلمات حتى وصل إلى أرض بيضاء كالثلج فيها نبات وعليها ضوء ليس كنور الشمس نور أبيض يكاد يخطف الأبصار. قال أبو محمد: فرام أن يمشي فساخت بهم الدواب إلى الصدور فترك عساكره كلها ومضى وحده وأعطى سبباً عبر به الأرض فسار أياماً حتى أشرف على دار مفردة بيضاء فيها بيت واحد وعلى باب الدار رجل أبيض واقف وعلى سطح الدار رجل مبيض واقف قد اخذ شيئاً كمزمار فحبسه في فمه وأمسكه بيديه جميعاً وعيناه تشخص إلى السماء يشخص بهما، قال له الرجل الذي على باب الدار: إلى

(1/110)


أين تريد يا ذا القرنين ألم يكفك أرض الأنس والجن حتى أتيت أرض الملائكة! قال له ذو القرنين: من أنت يا عبد الله؟ قال: أنا ملك من ملائكة الله، قال له ذو القرنين: فما هذه الدار ومن هذا عليها؟ قال له الملك: هذه الدار دار الدنيا وهذا الذي عليها ملك من ملائكة الله أوحى الله إليه أن يريك كيف أخذ اسرافيل الصور وعيناه شاخص بهما إلى العرش ينظر متى يؤمر بالنفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض، ثم ينفخ فيه أخرى فيقومون إلى الميقات فهناك الفصل والعدل وكفى بالله حسيباً يا ذا القرنين ارجع فليس لك مزيد وخذ هذا العنقود يا ذا القرنين فأعطاه عنقوداً من عنب وقال له: كل منه يا ذا القرنين وليأكل منه عساكرك فإن لهم فيه آية وهو يبلغكم إلى أرض الأنس والجن وخذ هذا الحجر فأعطاه حجراً مثل البيضة وقال له: زنه بما ترى عينك في الدنيا فإن لك فيه عظة وعبرة فرجع
ذو القرنين بالعنقود والحجر إلى عساكره فأكل العنقود وأكل العساكر كلهم ولا ينقص حتى بلغ أرض العمارة فكان مما زادهم يقيناً إلى يقين وكان لهم عبرة وآية، ثم أخذ الحجر فوزنه بجميع جواهر الأرض فرجح الحجر، فلم يزل يزنه بالحجر العظيم والحديد الكبير فرجح عليه، ولم يزل يرجح كل ما وزنه به ولو وزنه بالكثير من جميع ما في الأرض ما وزنه والخضر ينظر إليه ساكتاً قال له ذو القرنين: يا ولي الله هل عندك علم من هذا المثل؟ قال له: نعم هذا الحجر مثل لعينك لم يملأ عينك جميع ما في الأرض مثل هذا الحجر الذي لم يرجح عليه شيء في الأرض، ولكن هذا يملؤها ومد يده فأخذ قبضة من تراب فجعلها في الكفة وجعل لحجر في الكفة فرجح عليها التراب وخف الحجر. قال له الخضر: هذه عينك لا يملؤها إلا التراب وهو الغلب عليها.
قال أبو محمد عبد الملك: ثم إن ذا القرنين رجع حتى بلغ السد وهو

(1/111)


بالصدفين ولا سد فيه فوجه فيه قوماً أوفر آذانهم حسيس الفلك فقليل ما يسمعون. قال الله تبارك وتعالى: {ثم أتبع سبباً حتى إذا بلغ بين السدين وجد من دونهما قوماً لا يكادون يفقهون قولا، قالوا: يا ذا القرنين إن ياجوج وماجوج مفسدون في الأرض فهل نجعل لك خرجاً على أن تجعل بيننا وبينهم سداً؟ قال: ما مكنني فيه ربي خير فأعينوني بقوة اجعل بينكم وبينهم ردماً، آتوني زبر الحديد حتى إذا ساوى بين الصدفين قال: انفخو حتى إذا جعله ناراً قال: آتوني افرغ عليه قطراً فما استطاعوا أن يظهروه وما استطاعوا له نقباً. قال: هذا رحمة من ربي، فإذا جاء وعد ربي جعله دكاء وكان وعد ربي حقاً وتركنا بعضهم يومئذ يموج في بعض ونفخ في الصور فجمعاهم جمعاً وعرضنا جهنم يومئذ للكافرين عرضاً}.
قال أبو محمد فبنى السد ذو القرنين بين ياجوج ماجوج وبين الناس قال: عظم السد في جسمه ألف ذراع وفي طوله ألف ذراع. بنى جسراً دونه وهو من أوابد
الدنيا من الصدفين إلى أرض أرمينية وهو مسيرة سبعة أشهر ثم سار يريد أرض الهند حتى بلغ قطر بيل فوجد بها قوماً سموا بالترجامنيين وهم من بني يافث بن نوح وإنما سموا بالترجمانيين لأنهم ترجموا صحف إبراهيم بلسانهم فأجابوا بما فيها، فلما آتاهم ذو القرنين وجدهم بقرطبيل وهم من بني عرجان بن يافث بن نوح وجدهم قد سكنوا مقابرهم ووجدهم لا غني فيهم ولا فقير ولا قاض فيهم ولا أمير ولاناه ولا آمر ورأى مواشيهم بلا رعاة ورآهم بين الأنهار في خلاء من الأرض وقفار واستغنوا منها باليسير عن الكثير، قال لهم: يا بني عرجان ما بالكم سكنتم المقابر؟

(1/112)


قالوا: يا ذا القرنين سكناها لئلا ننسى الموت ونطمئن إلى الحياة وتستهوينا الدنيا، وإنا رأينا الأرض كالبحر يسلكه المرء فيغطي قدميه ثم يمضي فيغطي ساقيه ثم يتمادى فيعلو حقويه ثم يمضي فيعلو منكبيه ثم يعلو رأسه ثم يضطرب بيديه ورجليه فتقلبه أمواجه فتذهب به حيث شاءت فلا يدري ما تحته من الهواء ولا ما فوقه من السماء، فكذلك تستدرج المرء تخدعه ويتبعها حتى إذا لجج سارت به حيث شاءت والدنيا دار إبليس والآخرة دار الله فمن عمل للآخرة أطاع الله وعصى إبليس ومن عمل للدنيا أطاع إبليس وعصى الله فإن إبليس نصب فتنة بكل سبيل.
قال: وما بالكم أراكم ليس فيكم غني ولا فقير؟ قالوا له: رأينا غني الدنيا فقيراً بالآخرة، ورأينا معاش هذه الدنيا أعز أهلها وأعظمهم كعيش أذل من فيها وأحقرهم، ولو أن الدنيا كلها للعزيز ذهب وفضة ودر وجوهر ليس له من جميع ماله غير شبعه ولا من كسوته غير لبسه، فارفع طعام ذا في شبعه وأحسن لباس ذا في كسوته اذ دفع عنه حره وبرده كأحقر لباس ذا من كسوته اذ دفع عنه حره وبرده وكان الأمل من قلوبهما واحداً تواسينا فيما لا فضل فيه بين الأرواح والأجسام، ثم رأينا القوي منا لا غنى له عن الضعيف، والضعيف لا قوام له دون
القوي وأنه متى هلك الضعيف منا هلك القوي، ومتى هلك القوي هلك الضعيف فتساوينا لئلا يكون منا ضعيف يحسد قوياً ويبغضه ولا يكون قوي يحقر ضعيفاً فواصل القوي الضعيف حتى تكافأ الناس في معاشهم فحسنت معاشرتنا.
قال لهم: فما بالكم لا أمير فيكم ولا قاض ولا آمر ولا ناه؟ قالوا له: رأينا القرون من قبلنا والأمم في دهرنا يغصب القوي الجاهل الضعيف القليل الناصر، ويقهر العزيز القادر الذليل المهين ويستطيل كل ذي يد إلى ما قدرت

(1/113)


عليه. فما من عزيز إلا أرسل الله عليه أقوى منه يسلبه قواه وأذله بعد عزه ولا يد استطالت فبطشت إلا حال الله بينها وبين ذلك بيد أبطش منها وأجهل وما من متكبر إلا أديل عليه بمتكبر ولا من أمة إلا انتقم الله منها بأمة، فلما رأينا ذلك كففنا بعضنا عن بعض البغي والعدوان والجهل والتسافه والحسد والتواكل فأصبحنا وأمسينا أخواناً وليس فينا ظالم ولا مظلوم فلما لم يجر بيننا ظلم كفانا الله بغي غيرنا من الناس واطمأنت بنا الدار وطاب لنا القرار.
قال: فما بالكم بين أنهار وأنتم في خلاء وقفار ليست لكم إلا عمارة يسيرة؟ قالوا له: اجتزينا بالقوت ويسير المعاش. قال لهم: أحسنتم في جميع أحوالكم خلا عمارة الأرض أعمروها لعقبكم فإن العقب إذا لم يجد متعة يتمسك بها من معاشه تطاول بها إلى ما في يده غيره فحمل نفسه على الهلكة فأما لا دنيا ولا آخرة وأما دنيا أن ظهر عليه عدوه كان بلا دنيا ولا آخرة وإن ظفر فدنيا بلا آخرة، ولكن ذللوا الأرض للحرث واغرسوا الأشجار واستخدموا الأنهار فإنها حياة النسل والبهائم والأنعام فإن لكل دين فترة ولكل فترة كفرة ولكل كفرة سكرة واحذروا التبديل فإن لكل أمة تبديلاً وتكذيباً.
ثم مضى إلى أرض سمرقند فوجد فيها الزط والكرد والصغد فقتل منهم من قتل وأجاب من أجاب، ثم أخذ أرض مرو فوجد فيها الخزر وفرغان والديلم وجميع
هؤلاء القبائل من بني يافث فقتل منهم من كفر وآمن من آمن ثم مضى إلى أرض هراة فوجد فيها الخوز والإفرنج فأجابوه فغلب عليهم وقتل الجبابرة وأهل العتو في الأرض، ثم سار على البر إلى

(1/114)


أرض الصين فلقي السند، وهم من بني حام بن نوح فقاتلهم فغلب عليهم وقتل من قتل، ثم دخل أرض الهند - والهند أخوة السند - من بني حام بن نوح فقاتلهم فغلب عليهم وعلى جميع أرض الصين، ثم رجع إلى أرض بابل فغلب عليها وعلى من بها من قبائل بني نوح حتى أجابوا، ثم سار يريد أرض تهامة والحج بمكة، فلما صار من رمل العراق بموضع يقال له حنوقراقر من ارض برقة رحرحان رأى في الأسباب إنه يموت بالحنو ويكون فيه قبره ومنه محشره وكان رآه أيضاً حين امتنعت من طلوعه عليها الصخرة البيضاء - فلما رأى الموت وأيقن به ونعيت عليه إليه نفسه أعلم بذلك الخضر فقال له الخضر: يا ذا القرنين انقضى الأمل وحان الأجل وبقي العمل فحكم عليك اليأس لما تقحم عليك الممات فنزل الرضا وغاب عنك القضاء، وقد وعدك الله وعداً والله متم وعده - عصم دعاته في الدنيا من المكاره وحرمهم في الآخرة على النار، فقال ذو القرنين الصعب بن ذي مراثد الحميري:
لما رأيت من المنون وعيداً ... قوضت رحلك سحرة تجريداً
مثل لنفسك ملحداً أخدوداً ... واحذر لنفسك موقفاً مشهودا
وبدت لك الأسباب عن آياتها ... لما بدرت وجردت تجردا
إن اليقين يزيد لحظاً صادقاً ... وترى من الأمر الخفي وعيدا
قد حقق السبب الخبير بأمره ... لما آتاك يصدق الموعودا
ودعاك إذ حان الرحيل ولم تجد ... لما دعاك عن الرحيل محيدا
ولقد رجوت بأن تقال فلم تجد ... عند الرجاء من السنين مزيدا
ولت سنوك وغاب عنك مقامها ... وأرى لعمرك فقدها موجودا

(1/115)


ليس الذي ولى وإن أملته ... مما تحب إلى المنى مردودا
أني يلوم أخو النهي أيامه ... سفهاً ويكثر عندها التفنيدا
أسفاً لمن جارى الزمان ولم يزل ... بظبي المنية نحره مقصودا
أين الذي يخشة وينسى عمره ... يوماً على بعد المدى معدودا
لابد أن يلقي المنون وإن نأت ... تأبدت أيامه تأبيدا
ولقد رأى من حكمها فيما مضى ... عبرا مشين معجلاً ووئيدا
كم جددت من ذي السقام واخلقت ... بعد الغضارة والنعيم جديدا
كم الفت من شاسعين وشتت ... بعد الإقامة والجميع عديدا
من كان في حقب الدهور مخلد ... أو كان في جمع العبيد عتيدا
تستعبر الأيام منه جدة ... بعد النعيم ولو غدا جلمودا
يهتكن عنقة والثبير ووائلا ... وتحط بعد علوه عبودا
لا يطمئن إلى الزمان وريبه ... من كان لم يعهد خلودا
فايأس فلا يبقى وإن طال المدى ... من كان فوق أديمها مولودا
ألوى بحمير والمقعقع بعده ... وأباد عاداً قبله وثمودا
يا صعب حقاً كل شيء هالك ... إلا الإله الواحد المعبودا
هتكت خطوب الدهر عزك هتكه ... أمسى حسامك دونها مغمودا
أخذ الزمان من الشبيبة فرصة ... فأرى الزمان وعصره محمودا
عمرت ألفاً بعد ألف قبلها ... في العالمين وقد دعيت وحيدا
يا سائلين عن الزمان وسيره ... مذ كنت منه مضغة موؤدا
أعطيت ما لم يعط قبلي قائم ... وجمعت جمعاً كالدبا محشودا
وجلبت أهل الأرض من آفاقها ... ألفت أملاً كابها وجنودا

(1/116)


عج النساء لدى الحجون بمكة ... لما رأين حريمها مقصودا
فنحرت فيها ألف ألف ضحوة ... ودعوت قولاً بالمقام سديدا
فلقد أخم اللحم فيها برهة ... وحنذت لما أن أضل قصيدا
وقصدت آفاق الغروب بقدرة ... فوجدت نحساً عندها وسعودا
فهديت منها مرمناً ذا همة ... وفسرت منها كافراً وجحودا
ما أن ارم لما أجاب مخافة ... حتى يظل عن الصراط لدودا
ورأيت عين الشمس عند سقوطها ... ووردت أمواج المحيط ورودا
وبلغت أعلام المشارق كلها ... أبقى لمن أبقى بهن حدودا
فوطئت يأجوجا ومأجوجا بها ... وبنيت قطراً دونها وحديدا
فجعلت عن سربيهما مندوحة ... والفج عن دفيهما معقودا
وولجت في الظلمات حتى جبتها ... خوفاً وكان رتاجها محدودا
ولقيت تحت الشمس قوماً خلتهم ... تحت الظلام خنازرا وقرودا
وعلى بني حام غدوت بسطوة ... بالصين حتى بددوا تبديدا
فلقد كشفت الناس عن أسبابهم ... وبولت منهم طارفاً وتليدا
ولقيت منهم أنوكاو ولبيبا ... ورأيت منهم عاجزاً وجليدا
يوماً يشب من الحروب خمودها ... يوماً وتطفى للحروب وقودا
وعلوت في الدنيا بعزة قادر ... أكدت فيها للبقاء تأكيدا
حاولت أن أعطي الخلود وارتقي ... في الخافقين إلى السماء صعودا
فأبى لي الله الذي أملته ... أمسى المنى دون الرضا مردودا
فالحنو للصعب المعبهل منهل ... يمسي به أمداً له ممدودا

(1/117)


سيموت من تنسى المنية يومه ... وتنال بنت الدهر منه بعيدا
سلَّ المفاصل والنفوس رهائن ... تزجي البوارق فوقهن رعودا
من ذاك يدري الاين من أرواحهم ... أو ما تراهم راقبين خمودا
حالان لا تلقى النفوس سواهما ... فيها شقياً خاسراً وسعيدا
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام عن أسد بن موسى عن أبي إدريس ابن سنان عن وهب بن منبه قال: لما نزل الصعب بن ذي مراثد بالحنو حنو قراقر من أرض العراق، مرض ثماني ليال ثم مات ثم غاب الخضر، فلم يظهر إلى أحد بعده إلا إلى موسى بن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم وعلى جميع النبيين ودفن ذو القرنين بحنوقراقر، فقال النعمان بن الأسود ابن المعترف بن عمرو بن يعفر بن سكسك المقعقع الحميري يرثى ذا القرنين الحميري:
بحنو قراقر أمسى رهيناً ... أخو الأيام والدهر الهجان
لئن أمست وجوه الدهر سودا ... جلين بذاك للملك اليماني
لقد صحب الردى ألفين عاما ... ولاقاه الحمام على ثمان
إذا جاوزت من شرفات جو ... وسرت بايك برقة رحرحان
وجاوزت العقيق بأرض هند ... إلى الصوبات والنخل الدواني
وهناك الصعب ذو القرنين ثاو ... ببطن تنوفة الحنوين عانى
فمن صحب الزمان بغير صعب ... لقد صحب الزمان بلا أمان
هو الوزر الذي يلجأ إليه ... بنو الأيام من أنس وجان
لقد جاز الخلود إلى مداه ... وسار كما جرى فرساً رهان
ألم تر أن حنو الرمل أمسى ... لملك الدهر والدنيا مغان
فقل للنازلين بكل أرض ... لكم امن على بعد وآن

(1/118)


وقال المحمود بن زيد بن غالب بن المنتاب بن زيد بن عملاق يرثى ذا القرنين بن الحارث ذي مراثد الملك الحميري:
اسمع ذا القرنين لما علا ... عن المغاني النبأة الشامله
فيا لها من نبأة لم تكن ... مصروفة عنه ولا حائله
بخدعها عن نفسه ساعة ... فيا لها من خدعة قاتله
فأصبح الصعب ذليلاً لما ... صبحه من صيلم نازله
لم يجهل الموت ولكنه ... قد جهلت أيامه الجاهلة
لم يدفع الموت الذي جاءه ... بسكسك العز ولا عامله
سألوا على الدنيا كمثل الدبا ... ونفسه بينهم سائله
لم يصرفوا عنه سهام الردى ... لما أتته الرمية القاتله
فأصبح الحنو له منزلا ... أخرس لا يبني به سائله
قد قدم المرء له عدة ... مستنصراً زاداً بلا راحله
قال أبو محمد: حدثنا أسد عن أبي إدريس عن وهب عن عبد الله بن عباس إنه سئل عن ذي القرنين ممن كان؟ قال: هو من حمير وهو الصعب ابن ذي مراثد. هو الذي مكن الله له في الأرض وآتاه من كل شيء سبباً، فبلغ قرني الشمس وداس الأرض وبنى السد على يأجوج ومأجوج، فقيل له: فالاسكندر الرومي؟ قال: كان الاسكندر الرومي رجلاً صالحاً حكيماً بنى على بحر افريقس منارتين واحدة بأرض بابليون وأخرى في غروبها بأرض أرمينية، وإنما سمي بحر المغرب بأفريقس لأنه عظيم من عظماء التبابعة أكثروا الآثار عليه في المغرب من المصانع والمدن والآبار.

(1/119)


قال: وسئل كعب عن ذي القرنين فقال: الصحيح عندنا من علوم أحبارنا وأسلافنا إنه من حمير وانه الصعب بن ذي مراثد والاسكندر رجل من بني يونان بن عيص بن يقوب بن إسحاق بن إبراهيم الخليل ورجاله أدركوا عيسى بن مريم صلوات الله عليه منهم جالينوس وارسطاطاليس ودانيال وجالينوس وارسطاطاليس من الروم من بني يونان ودانيال من بني إسرائيل نبي من أنبياء الله.
قال كعب: لم تكن الروم تروم ذلك، ولا لها قوة ذلك. والذي بعث محمداً بالحق،
ما حمير في أهل الدنيا ألا ما لأنف في الوجه أو قال: بين العينين ولقد قال، رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: أوحى الله إلي {إني بعثتك أمياً وجعلت لك ما تحت قدميك وشددت ظهرك بمن خلفك من اليمن وجعلت لك ما بين يديك غنيمة العراق والشام والمغرب أما إنه ليزيدن الهدى فيهم وينقص من كل أمة}. فلا أدري قوله ليزيدن الهدى فيهم عنه أو رفعه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.
قال أبو محمد: رفع الحديث إلى عبد الله بن عمرو بن العاص إنه قال: كان ذو القرنين من حمير من أعظم تبابعتهم، وهو الصعب بن ذي مراثد الحميري.
قال أبو محمد: عن أسد بن موسى عن أبي إدريس عن وهب قال: دخل عبد الله بن عباس بمكة على معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص بعد وفاة علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - ومعاوية وعمرو يقرآن سورة (الحمد لله) الكهف فقرأ معهم حتى قرءوا {وجدها تغرب في عين حمئة} فقرأ معاوية وعمرو وجدها تغرب في عين حامية من الحرارة وقرأ

(1/120)


عبد الله حمئة من الحمأة، فقالا: يا بن عباس قرأت في عين حمئة من الحمأة وقرأنا نحن حامية من الحرارة ولنا صحبة برسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كما هي لك ونحن اثنان وأنت واحد فعليك البيان أو فارجع إلى قراءتنا. قال لهما: نعم فخرج من عندهما فلقي كعب الأحبار فقال كعب: مالك ي أبا محمد أراك حثيثاً مشغولاً؟ قال له عبد الله: نعم يا كعب الأحبار دخلت على معاوية وعمرو وهما يقرآن (الحمد لله الكهف) فقرءا {وجدها تغرب في عين حامية} وقرأت أنا {وجدها تغرب في عين حمئة} من الحمأة - فقال له: صدقت يا عبد الله والذي بعث محمداً بالحق نبياً ما أنزل الله على موسى ابن عمران في التوراة إلا حمئة، قال له عبد الله: صدق الله ورسوله. ولكنهما طلبا شاهداً من كلام العرب، ثم مضى عبد الله بن عباس فلقيه نافع بن الأزرق
فقال له: مالك يا ابن عباس؟ فقال له: كما قال لكعب وادعا عليه قصة القوم، فقال له: فأين أنت من قول تبع تبان أبي كرب في قوله حين غزا المدينة ومكة ورفع الجزية التي كانت بنو حنذف يؤدونها إلى جرهم وطسم وجديس واليهود. قال له عبد الله بن عباس: ما الذي قال تبع أبو كرب؟ قال نافع قال تبع أبو كرب هذه الأبيات:
نحن ملوك ذو العلا والسؤدد ... نحن الحماة بنو الهمام الأمجد
سميت أسعد والسعود طوالع ... لابد أن ترقى النحوس لأسعد
أفبعد وائل والمقعقع بعده ... ترجو الخلود وأنت غير مخلد
أودى بيعفر والمعاقر فانقضى ... ملك تضعضع للزمان الأنكد
يعلو على الدنيا بعزة قادر ... يعلو العلو إلى المحل الأبعد
نحن النجوم فلا نرام بهيضة ... منا المقاول في الزمان الأوحد

(1/121)


قدت الجياد إلى المشارق غازياً ... أضحت قلاع الروم قسراً في يدي
فقتلتهم قتل الجهول سفاهة ... وتركتهم ترك الشقيق المسعد
ما بال عيني لا تنام كأنما ... كحلت مآقيها بسم الأسود
حنقاً على سبطين حلا يثربا ... أولا لهم بعقاب يوم مفسد
فنزلت منزل عرصة في خيمة ... بين العقيق إلى بقيع الغرقد
حتى آتاني من قريظة عالم ... من خير حبر في اليهود مسود
قالوا ازدجر عن قرية محجوبة ... لنبي مكة من لؤي أحمد
فعفوت عنها عفو راج ربه ... وتركتها لعقاب يوم سرمد
وتركته لله أرجو عفوه ... يوم الحساب من الحميم الموقد
ولقد تركت بها لمؤمن قومنا ... نفراً أولى حسب وبأس أيد
ومضيت قصداً نحو مكة عائداً ... وتركت ترك مؤدب ومسدد
قوماً إلى البيت العتيق صلاتهم ... أكرم بقوم ركع أو سجد
قوم يكون محمد من نسلهم ... إن الكريم إلى الأكارم يهتدي
فدفعت عنهم جزية يعطونها ... في الدهر من حكم الزمان الأربد
ورفعت من أحيا قريش عصبة ... وفككت عنها غل كل مقيد
ووهبتهم أموالهم وسلاحهم ... والسيف فوق رؤوسهم لم يغمد
لما أتوا يستنصرون أجبتهم ... بجواب لا وكل ولا متبلد
والأمر مسدود الحجاب متى يحك ... في قلب ذي عزم يغر أو ينجد
وهززت سيفي في وجوه معاشر ... طلباً لحق فيهم لم يردد
غضباً لما فعل اليهود بخنذف ... يرمون جرهم في الوريط الأوهد
حلوا حماهم يعلمون حجازهم ... بيض الكنائس بالعبيد الحسد

(1/122)


لأقسمت صدقاً لا أرى بشراً بها ... يأوي إلى طلح هناك منضد
ولقد آتاني من هذيل أعبد ... يستعجلون بشؤم يوم أنكد
قالوا بمكة بيت مال داثر ... ومعالق من لؤلؤ وزبرجد
فأردت أمراً حال ربي دونه ... والله يمنع من خراب المسجد
لما أرادوني بمكر جبتهم ... من عيشة الدنيا بحد مهند
فرددت ما أملوه مني فيهم ... وتركتهم مثلاً لأهل المشهد
فالحمد لله الذي صرف الردى ... عنا فلولا منه لم نهتد
بيت يطاف به وينحر حوله ... جزر لدى حرم وركن أسود
في رأس جلمدة شديد أسرها ... مما يشبهها سواد الأثمد
بيت به يوفي الحجيج نذورهم ... ويودعون طوافه للموعد
وأقام ذو القرنين فيها حجه ... خوفاً يطوف على اللظى المتوقد
إذ كان ذو القرنين جدي مسلما ... فمتى تراه له المقاول تسجد
طاف المشارق والمغارب عالماً ... يبغي علوماً من كريم مرشد
ورأى مسير الشمس عند غروبها ... في عين ذي خلب وثأط حرمد
فلقد أذل الصعب صعب زمانه ... وأناط قوة عزه بالفرقد
حكم الأمور وأحكمت أيامه ... تجري إلى أجل ولما يقصد
لم يدفع المقدور عنه قوة ... عند المنون ولا ائتلاف المحتد
من ذا يحيد عن الردى وسهامه ... تقضي على أوتاده وكأن قد
قطع الزواخر لجة عن لجة ... وعلا المهامة فدفداً عن فدفد
فهدى القبائل أمة عن أمة ... وأبار قتلا مفسداً عن مفسد
كم من عمي القلب أضحى مبصراً ... وعميد قوم سيد لم يهتد

(1/123)


جريا بأمر غاب عنا حكمه ... نحس على فصل القضاء واسعد
فلرب مسعود أزاح عقاله ... ولرب غاو منهم لم يرشد
والله أجرى ذي الأمور بعلمه ... جعل المنية للأنام بمرصد
قال: فروى عبد الله بن عباس الشعر عن نافع بن الأزرق، ثم دخل على معاوية وعلى عمرو فأتى به كما سمعه من نافع بن الأزرق، فقال له معاوية وعمرو: علمنا أن مقرأك أقرب إلا أنا طلبنا منك سبباً تأتي بهذا الشاهد عليه، ثم عطف على عبد الله بن عباس فقال له: يا أبا محمد هل تدري شكر تبع فيما فعل بقومك وما كشف عنهم؟ قال له عبد الله: به جعله الله خيراً منك. قال لنبيه محمد صلى الله عليه وآله وسلم في قومك (أهم خير أم قوم تبع)؟ قال معاوية: يا ابن عباس فما الخلب والثأط والحرمد؟ قال: الخلب الحمأة، والثأط ما تحتها من الطين، والحرمد ما تحته من الحصى والحجر.
ولقد أتت العرب بالشواهد في أشعارها وخطبها بذي القرنين الصعب ابن ذي مراثد. قال امرؤ القيس بن حجر المقصور بن الحارث آكل المرار الكندي يذكر ذا
القرنين الصعب بن ذي مراثد.
ألم يحزنك أن الدهر غول ... ختور العهد يلتهم الرجالا
أزال من المصادر ذا رياش ... وقد ملك السهولة والجبالا
وفيه يقول قيس بن ساعدة الأيادي: - وكان قيس بن ساعدة أحكم

(1/124)


العرب في زمانه وأخطبهم - حدثنا زياد البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي قال: أتى وفد أياد البيضاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما اسلموا قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل فيكم قيس بن ساعدة؟ قالوا له: مات يا رسول الله في العام الأول. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد شهدته بعكاظ وهو على جمل أحمر وهو يخطب الناس ويقول:
معشر الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا، أما بعد فإنه من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت، إن في السماء لخبرا وإن في الأرض لعبرا نجوم تمور ولا تهور، وبحور تفور ولا تغور، وسقف مرفوع ومهاد موضوع، ومولود يولد وحي يفقد، أقسم قيس قسماً بالله وما رفع ليطلبن من الأمر لخطا وإن كان في بعض الأمر رضا أن في بعضه لسخطا وإن بلغت لقد قصرت.
أن وراء هذا لعجبا - أقسم بالله أن لله ديناً هو أرضى من ديننا هذا الذي نحن عليه - مالي أرى الناس يذهبون فلا يرجعون - يموتون ولا يحيون ارضوا بالمقام فأقاموا لم تركوا كلا ليبعثن وقال أبياتاً لا أحفظها - وكان صلى الله عليه وسلم لا يروي الشعر ولا يقوله فقال له رجل من الوفد - أنا أحفظها يا رسول الله - قال له - قل - فقال له الأيادي قال يا رسول الله هذه الأبيات:
في الذاهبين الأولين ... من القرون لنا بصائر
لما رأيت موارداً ... للموت ليس لها مصادر
ورأيت قومي نحوها ... تمضي الأكابر والأصاغر
ولا يرجع الماضي ولا ... يبقى من الباقين غابر
فعلمت أني لا محا ... لة حيث صار القوم صائر

(1/125)


ثم قال رجل من الوفد - لقد شهدته قبل موته بعام يا رسول الله وهو على جمل وهو يخطب الناس ويقول: هيهات هيهات - أيها الناس كذب الكاذب وصدق الصادق وقد أفلا فاعتدلا ولا بد من موقف يشهد الشاهد ويحكم الحاكم - أين إحسان المحسنين وإساءة المسيئين - كلا لتجدن كل نفس سعيها - أيها الناس هيهات والله هيهات كذب الأحياء الأموات يسكنون منازلهم فلا يعتبرون ويرون مضاجعهم فلا يتعظون ويأكلون تراثهم فلا يحزنون - ويعلمون ما يعلمون وهم آمنون - أما بعد فإن كل آكل مأكول وكل وراث موروث وكل ساكن ظاعن وكل آمن خائف اليوم يوم وغد يوم فغد سالب واليوم مسلوب والغالب خير من المغلوب - أيها الناس هل أتاكم ما لم يأت آباءكم الأولين أم أخذتم عهداً من السنين أم عندكم من ذلك اليقين - أم أصبحتم من ذلك آمنين - بل والله أصبحتم في غفلة لاعبين - أين الصعب ذو القرنين جمع الثقلين وأداخ الخافقين وعمر ألفين لم تكن الدنيا عنده إلا كلحظة عين من لم يتعظ اتعظ بها - أيها الناس أين الآباء والأمهات والأخوة والأخوات والأبناء والبنات - أما ترون آيات بعد آيات وأمواتاً في إثر أموات إلا وإن علم الغيب باطن ونبأ الخلق ظاهر اضمحلت الأشخاص فذهبت العظام رفاتاً - كلا ليصلحن كل عامل كلا بل هو الله إله واحد - ليس بمولود ولا والد أسكنهم التراب وإليه المآب.
أما بعد فإن الحي حكم بالموت أيها الأشهاد أين ثمود وعاد وأين الآباء والأجداد - أين الظالم والمظلوم - أين الحس الذي لم يسكن وأين الوعيد الذي لم ينتقم وأين الوعد الذي لم يتم - هل تعلمون أين ذهب أبرهة ذو المنار وعمرو ذو الأذعار - أن تردون ما صار إليه عبادة الفتاح وأذيتة الصباح وجذيمة الوضاح - عزوا
فقهروا ونهوا وأمورا وبنو المصانع

(1/126)


والآبار وجدولوا الأنهار وغرسوا الأشجار واستخدموا الليل والنهار فكانا مطاياهم إلى دار القرار - أرسلوا مالهم وانتظروا ما يرجع به سؤالهم - ارتقبوا فلم يرقبوا - هجمت الآجال دون الآمال ألا وإن كل شيء إلى زوال وأنشأ يقول:
قد كنت أسمع بالزمان ولا أرى ... أن الزمان يطيق نتف جناحي
فأراه أسرع في حتى أصبحت ... بيضا متون عوارضي وصفاحي
وأنا الكبير بسنه في قومه ... هيهات كم راوحت من أرواح
صافحت ذا جدن وأدرك مولدي ... عمرو بن شمر يتقي بالراح
والقيل ذو يزن رأيت مجليه ... بالقصر بين مرامر الصفاح
فتك الزمان بملك حمير فتكة ... يسعى بكل مساً وكل صباح
أودى أبو كرب وعمر وقبله ... وأبار ملك أذيتة الصباح
وأباد افريقيس بعد مقامه ... بالمغرب المستغرق الفياح
والصعب ذو القرنين أصبح ثاوياً ... بالحنو بين ملاعب الأرواح
وغدا بأبرهة المنار فأصبحت ... أيامه مسلوبة الإصباح
أخنى على صيفي بحادث صرفه ... مستأثراً بجذيمة الوضاح
أم أين علكدة الهمام وملكه ... أم أين عز عبادة الفتاح
والعبد والهدهاد صارا عبرة ... طارا عن الدنيا بغير جناح
لا تمش في شك الظنون أما ترى ... أيامه مشهورة الإيضاح
لا تأمنن مكر الزمان فإنه ... أودى الزمان بشمر الصباح

(1/127)


من بعد ملك الصين أصبح هالكاً ... أكرم به من هالك محتاح
برك الزمان على ابن هاتك عرشه ... وعلى المقعقع حل بالاتراح
شخصت على بعد النوى أشخاصهم ... فرآهم الأوهاج بالأشباح
أفبعد أملاك مضوا من حمير ... أرجو الفرح ولات حين فلاح
من ذا يصافق كفه كف الردى ... يشرى البقاء عن بيعة الأرباح
قال أبو محمد: وفيه يقول الأعشى بني ضبيعة بن قيس بن ثعلبة:
والصعب ذو القرنين أصبح ثاوياً ... بالحنو في جدث أشم مقيما
في شعر له قال أبو محمد: ومما ذكرت العرب به ذا القرنين في أشعارها قول ربيع ابن ضبع بن وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة بن ذبيان وكان معمراً (عمر مائتي عام) وكان أحكم العرب في زمانه وأشعرهم وأخطبهم وشهد يوم الهباءة وهو ابن مائة عام وكان من انجد فارس في حرب داحس وهو القائل في يوم شبيم وأمر شبيم: ظلمتم يا بني فزارة والظلم عاقبته وخيمة، فداووا الظلم بالرفق أو فأنتم شاة الذئب وغرض الرامي. وقال لحمل لن بدر عند هزيمتهم:
يا حمل هل تعلم ما لا أعمله ... سديت عزلاً لا تطيق للحمه
والظلم للظالم حتماً يلجمه ... ألا ترى قيساً تأطت أسهمه
يقتل ذا الظلم ومن لايظلمه
وكان أنجد فارس يوم الهباءة حبس خلف بني فزارة حتى بلغوا

(1/128)


حريمهم، وهو القائل يوم الهباءة لما حبس خلف بني فزارة حتى أثخن جراحاً فقال:
رأيت موتين علينا نزلا ... موتي وموت الغر من قومي الملا
بذلت روحاً دونهم معجلا ... كيما ألاقي الموت منها منهلا
قال أبو محمد: لما كبر وخرف وأدرك الإسلام فقال قوم: أسلم وقال قوم: لم يسلم منعه قومه ذلك، قال أبو محمد: جمع بينه وبين بنيه فقال لهم:
ألا أبلغ بني بني ربيع ... فأشرار البنين لهم فداء
بأني قد كبرت ودق عظمي ... فلا يشغلكم عني النساء
وإن كنانتي لانت بقسر ... واني لا أسر ولا أساء
إذا جاء الشتاء فدثروني ... فإن الشيخ يهرمه الشتاء
وإن دفع الهواجر كل قر ... فسربال خفيف أو رداء
ثم قال: يا بني اجمعوا لي بني ذوبيان، ثم قال: يا بني فزارة بن ذبيان من أعزكم؟ قالوا: أنت يا أبا سالم. قال: إن لكم أن تدوسوا أعزكم عليكم بأرجلكم، فذلك ارفع لقدرة عندكم. يا بني ذبيان آمركم بأربع وأنهاكم عن أربع: آمركم بالحلم فأنه بحسن المعاشرة والجود فإنه يزرع المودة. وآمركم بحفظ بعضكم بعضاً يهابكم الناس الأباعد، وآمركم بالعلم فإنه زين ومحبة في قلوب العالم. وأنهاكم عن: السفه فإنه باب الندم ومنزل الذل وأنهاكم عن البخل فإنه سلم السب، وأنهاكم عن التخاذل فإنه آفة العز، وأنهاكم عن الجهل فإنه رزية ومهلكة واسألوا عما جهلتم فإن

(1/129)


في السؤال هدى وفي الصمت على الجهل عمى ولا تستصغروا من لا تعرفونه ولا تحسدوا من لا تدركونه ولا تحمدوا غير كريم ولا تبخلوا على شريف ولا تفضلوا على غير محتاج فيذهب فضلكم هباء ولا تمنعوا السائل فإن منعه مقت ولا غبية فإنها قرض مردود ولاسيما أنها تعقب. يا بني ذبيان: اجعلوا قبري علماً فاني قدمت في الناس خيراً فانه شأن وذكر حسن وتركت للبنين فخراً، ولو قدمت سيئاً أمرتكم أن تخفوه فانه علم السب أحفظوا قولي فانه مقامي ورائي فيكم، وانشأ يقول:
لقد عزفت نفسي عن اللهو جمه ... وإن نهلت من لهوها ثم علت
رأيت قروناً بعد قرن تقدمت ... فلم يبق إلا ذكرها حين ولت
ألا أين ذو القرنين أين جموعه ... لقد كثرت أسبابه ثم قلت
خرفت وأفنتني السنون التي خلت ... فقد سئمت نفسي الحياة وملت
تجاوزت في يوم الهباة هنيدة ... وألفيت عوداً حين ما حين حلت
فكم مشهداً وردت نفسي وطيسه ... أجشمها مكروهه حين كلت
وكم غمرة ماجت بأمواج غمرة ... تجرعتها بالصبر حتى تجلت
وكانت على الأيام نفسي عزيزة ... فلما رأت عزمي على الأمر ذلت
هي النفس ما منيتها تاق شوقها ... وإلا فنفس أويست فتسلت
وقال أيضاً الربيع بن ضبع:
ألا يا لقومي قد تبدد أخواتي ... نداماي في شرب الخمور وأخداني
وأنسى قليلاً ثم آتى سبيلهم ... فتبلى عظامي يال سعد وذبيان
وأبلى ويبقى منطقي بعد ميتي ... وكل امرئ إلا أحاديثه فاني

(1/130)


سيدركني ما أدراك المرء تبعاً ... ويغتالني ما اغتال أنسر لقمان
أحار مجير النمل من عز ملكه ... وأنزل سيف البأس من رأس غمدان
والوى بذي القرنين بعد بلوغه ... مطالع قرن الشمس بالأنس والجان
أنا بين يومين فأمس الذي مضى ... وصرف غد لا بد بالحتم يلقاني
ألم تر الدهر يا قوم طالب ... وإن لم أكن يوماً لأوتاره جاني
سيأخذ ما أعطى وإن كان محسناً ... وما كان من شرح الشبيبة أولاني
وقال أيضاً الربيع بن ضبع:
قل للذي راح عن أخيه وقد ... أودعه حين ودع الحجرا
هل أبصرت عينه له أثراً ... أو سمعت أذنه له خبرا
أين همام الجديل إذا مرا ... وأين رب السدير إذ قدرا
أين بنو هود النبي ومن ... شمر عن راحتيه وابتكرا
والصعب لما عتت أرومته ... وخان ريب الزمان فادكرا
لم يدفع الموت بالجنود ولا ... رد بأسباب علمه القدرا
فاز على الدهر ينحني فرمى ... فوق جناحي ومفرفي شررا
لا تعجبني يا أميم من صفتي ... فقبل ما كنت أخسف القمرا
أصبو بهند وزنيب أمماً ... ونسوة كن قبلها دررا
لما رماني الزمان عن عوض ... وقامرتني خطوبه قمرا
أصح عني الشباب قد حسرا ... أن ينأ عني فقد ثوى عصرا
ودعنا قبل أن نودعه ... لما قضى من جماعنا الوطرا
أصبحت لا أحمل السلاح ولا ... أملك رأس البعير أن نفرا
والذئب أخشاه أن مررت به ... وحدي وأخشى الرياح والمطرا
من بعد ما قوة أسر بها ... أصبحت شيخاً أعالج الكبرا

(1/131)


ها أنا ذا آمل الخلود وقد ... أدرك عقلي ومولدي حجرا
وقال أيضاً الربيع بن ضبع:
طال الثواء عن السنين أميما ... ألقى عذاباً للزمان أليما
أنسيت أم لم انس أم عاهدته ... فوجدته بعد السفاه حليما
لابد أن ألقى المنون وإن نأت ... عني الخطوب وصرفه المحتوما
هلا ذكرت له العرنجج حميرا ... ملك الملوك على القليب مقيما
والصعب ذو القرنين عمر ملكه ... ألفين أمسى بعد ذاك رميما
ونبت به أسبابه حتى رأى ... وجه الزمان بما يسوء نسيما
امن الأمور أخو الدهور فهل رأى ... ذا مرة من قبله معصوما
طال الزمان وطال عني غيبه ... ما زال من قبلي الزمان قديما
ألوى بشمر والمقعقع بعده ... وأباد سعداً بعده وتميما
لما حشون حشا علي لطيفة ... واستحسن القيصوم والتنوما
وفيه يقول الربيع بن ضبع بسوق عكاظ عند صلح عبس وذبيان.
قال أبو محمد: لما همت عبس بصلح ذبيان قان بأمر الصلح بينهم عوف ابن
حارثة بن أبي حارثة وحصن بن حذيفة وكان عوف بن مرة بن سعد بن ذبيان وكان حصن عن فرازة بن ذبيان وقام هرم بن سنان بن أبي حارثة المري عن بني عبس. قال: لما آتى بنو عبس بدية بني ذبيان، وأتى بنو ذبيان بدية عبس، وقع على حصين بن ضمضم المري عشرة أبكار وكان بخيلاً أكولاً لحماً، وكان فارس بن ذبيان فأدركه البخل فأراد نقض

(1/132)


الصلح وقال: والله يا بني عبس لا نصالحكم إلا الصلح المخزية جدع الأنوف والأذنين، فقال الربيع بن زياد: الحريم ولج الغريم وطال الشر وغدر الدهر. فغضب عنترة وقال: يا حصين الحرب خير لي والصلح خير لك. فدونك أضعفنا حقاً خسره الله فأرسلها مثلاً، قال حصين: أيها الغراب جار بك الخطاب اسكت يا بني عبد شمس، قال له عروة بن الورد العبسي وكان رأس الصعاليك وأجسرهم: يا حصين شهدتك وأباك وأخاك وأنتم تسألون العرب بسوق عكاظ سنة المسبغة؟ قال حصين: كف أيها الصعلوك الشاعر، فقال عروة ارتجالاً:
أرى الناس في الآفاق جما وإنني ... على كل فج خائف الشعب واحد
لي الذئب ندمان ولي الليث صاحب ... تثور إذا أحدر النعام الشوارد
أطيل الطوى حتى إذا برح الخفا ... طعمت يسيراً والتجمل رائد
وما بي أملاق ولكن تكرما ... أشيد ما شاد الكرام الأماجد
ولست كمن يمسي بطيناً وانه ... يبيت خميصاً جاره وهو راقد
أنيل نوالي الأقربين وانه ... ليدرك معروفي الأقاصي الأباعد
أفرق جسمي في جسوم كثيرة ... واحسوا قراح الماء والماء بارد
وقال الربيع بن ضبع: يا حصين تعرضت للسب، وقال الربيع:
دار الصديق إذا استشاط تغيظاً ... والغيظ يخرج كامن الأحقاد
ولربما كان التعصب باحثاً ... لمثالب الآباء والأجداد
وقال عروة بن الورد يهجو حصين بن ضمضم:
لن يكن فارس الهياج هجيناً ... إن شداد لم تلده العبيد

(1/133)


هل يجور الخطاب ليث عرين ... ولنار الخطوب فيه وقود
إن خير العشير من جمع الشم ... ل وعاد بما تساد الصيد
ويك أمر الإله في كل حين ... وقضاء بكل يوم جديد
أين طسم ورائس وجديس ... ثم عاد من قبلها وثمود
لم أبيت الرشاد من سلم عبس ... وآتانا من دون ذاك الوعيد
أنت أوعدت للحروب وعيدا ... ذاك وعد يأتي بك الموعود
ما عاقك العشار عن السل ... م وطعم الحروب مر شديد
صدك البخل عن حريمك حتى ... جئت بالشؤم والبخيل صدود
هل تخوفت ما مضى من سؤال ... وزمان الردى عليك يعود
إن من عضت الكلاب عصاه ... ثم أثرى حقيق ألا يجود
فجعل بنو عبس وبنو أمرهم أبي حكم الربيع بن ضبع. فقام الربيع بعكاظ بين عبس وذبيان خطيباً فقال: أيها الناس أصاب الاياس وأخطأ القياس، وبين الحق والباطل التباس أيها الناس من عبر غير وكل عثار جبار وكل فائت مطول: يا بني ذبيان الخير والشر على اللسان والنجاة في البيان. يا بني ذبيان: داروا الحروب فإنها تذل، يا بني ذبيان: طلب الثأر ضالة الأشرار ومزالق الأعمار وهلاك الأخيار، أخوكم عبس عدوكم أمس فطلاب أمس الذاهب هلاك غد المقبل هلا سألتم عن الأحقاد طسم وجديس وعاد. اعلموا أن كل ذاكر لناس وكل مقيم ظاعن وكل ثابت زائل وبين الأموات موت الأحياء والسرعة إلى الآجل ذهاب العاجل والذل غنيمة الظالم وقال:
على حرج يا عبس أضحى أخوكم ... وبت على أمر بغير جناح
حذار حروب الأقربين وانه ... ليأتي افتلاتاً وجه كل صباح

(1/134)


أخاك أخاك إن من لا أخا له ... كساع إلى الهيجاء بغير سلاح
وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه ... وهل ينهض البارئ بغير جناح
لنا عظة في الذاهبين وعبرة ... تفيد ذوي الألباب أمر صلاح
ألم تعلموا ما حاول الصعب مدة ... وما صبح الساعي وآل رزاح
فهل بعد ذي القرنين ملك مخلد ... وهل بعد ذي الملكين يوم فلاح
تريش له الأطيار عند غدوه ... وتجنح أن اومى لها برواح
فاصطلحوا على حكمه.
قال أبو محمد: قال أبو مخنف عن كميل بن زياد النخعي إنه لما سار عمر بن الخطاب إلى الشام في خلافته سار بعلي بن أبي طالب من المدينة إلى الشام، فلما بلغ إلى الشام وعبر وادي الأردنين قال: قاتل الله الربيع بن ضبع حيث يقول:
وكم غمرة ماجت بأمواج غمرة ... تجرعتها بالصبر حتى تجلت
وكانت على الأيام نفسي عزيزة ... فلما رأت عزمي على الأمر ذلت
هي النفس ما منيتها تاق شوقها ... وإلا فنفس أويست فتسلت
فزاد علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - عليه بيتاً فقال:
وما جزت وادي الأردنين تطرباً ... ولكن أموراً وكلت بي فحلت
وفيه يقول طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبعة بن قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن وائل بن قاسط بن هنب بن بن افصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان، حيث يقول:
وكيف يرجى المرء دهراً مخلداً ... وأيامه عما قليل تحاسبه

(1/135)


ألم تر لقمان بن عاد تتابعت ... عليه نسور ثم غابت كواكبه
وللصعب أسباب تجلت خطوبها ... أقام زماناً ثم بادت مطالبه
إذا الصعب ذو القرنين أزجى لواءه ... إلى ملك ساسان فقامت نوادبه
يسير بوجه الحتف والعيش جمعه ... وتمضي على وجه البلاد كتائبه
وقال أوس بن حجر السعدي:
حنانيك يا أوس بن حجر فانه ... سيفقد من جاري الأمور ويهلك
وتجري الليالي بانتقاص وفرقة ... وإن سبيل الصعب لا شك يسلك