التيجَان في مُلوك حِمْيَرْ

ملك الهدهاد ابنه
وولى ابنه الهدهاد بن شرحبيل بن عمرو وهو الهدهاد أبو بلقيس الملكة

(1/144)


باليمن، وكان الهدهاد بن شرحبيل رجلاً شجاعاً حازماً.
قال أبو محمد، حدثنا ابن لهيعة عن مكحول عن أبي صالح عن ابن عباس قال: إنه لما ولي الهدهاد بن شرحبيل، زحف إليه عمرو ذو الاذعار وبرز إليه الهدهاد والتقوا بموضع معروف باليمن فتحاربوا أياماً فلما فصل العسكران، وبرز بعضهما إلى بعض، خرج الهدهاد على ناقة في زي أعرابي حتى وصل إلى عساكر عمرو ذي الاذعار، فطاف به وتدبر عساكره، ثم سمع لغطهم وما يتوعدون به عمراً ذا الاذعار من الخذلان واسترق ما يريدون له فزاده ذلك عزماً إلى لقاء عمرو، فانصرف الهدهاد يريد عساكره، فسار حتى بلغ إلى شرف العالية في يوم قائظ أجرهد فيه الصخور، والتهبت الهواجر وقال الضب: فنظر إلى
شجاع أسود عظيم هارب وفي طلبه رقيق أبيض فأدركه فاقتتلا حتى لغبا، ثم افترقا، ثم أقبل الشجاع الأبيض إلى الهدهاد فتشبث مع ذراع ناقته حتى بلغ رأسه إلى كتفها ففتح فمه كالمستغيث، ثم عطف في طلب الأسود فأدركه فاقتتلا طويلاً فلغبا فافترقا، وأقبل الأبيض إلى الهدهاد كما فعل أولاً كالمستغيث فصب الهدهاد الماء في فيه حتى روي، ثم أقبل على الأسود وأخذه، فلم يزل الأبيض حتى قتل الأسود، ثم مضى على وجهه حتى غاب عنه، ومضى الهدهاد إلى شعب عظيم فاختفى فيه، فبينما هو مستتر بشجر أراك إذ سمع كلاماً فراغه سيفه فأقبل إليه نفر جان حسان الوجوه عليهم زي حسن فدنوا منه فقالوا: عم صباحاً يا هدهاد. لا بأس عليك وجلسوا وجلس

(1/145)


فقالوا له: أتدري من نحن؟ قال: لا. قالوا: نحن من الجن ولك عندنا يد عظيمة. قال: وما هي؟ قالوا له: هذا الفتى أخونا من أبناء ملوكنا هرب له علام أسود فطلبه فأدركه بين يديك فكان ما رأيت وفعلت فنظر الهدهاد إلى شاب أبيض أكحل في وجهه آثار خداش. قال له: أنت هو! قال: نعم، قالوا له: ما جزاؤك عندنا يا هدهاد إلا أخته نزوجها منك وهي رواحة بنت سكن. فزوجوه إياها وقالوا له: لها عليك شرط لا تسألها عن شيء تفعله مما تستنكر منها فإن سألتها فهو فراقها قال: نعم، قالوا له ارجع إلى قصرك بينون فإنها تأتيك ليلة كذا ارجع فلا تقم لأن عمر ذا الاذعار ورجع إلى غمدان بعد انصرافك عنه، فرجع الهدهاد وفرق عساكره، ولحقه الخبر أن عمراً رجع فجلس في الليلة التي أمروه أن يجلس فيها مرتقباً حتى أحس ثقلاً في القصر وهرب جميع من معه في القصر من ثقل الذي أحسوه ووحشة داخلت قلوبهم حتى أتوا بها إليه فأدخلوها عليه وأولدها ولداً ذكراً، فلما شب وصار ابن سنة، فبينما هو يناعيه اذ أقبلت كلبة من باب المجلس فأخذت برجب الطفل وجرته حتى ذهبت به عنه فغاب فنظر إلى رواحة فسكتت وسكت، ثم ولدت أنثى، فلما صارت بذلك السن أتت الكلبة فجرت
برجلها وهو ينظر فسكت وغابت عنه، ثم ولدت ذكراً، فلما بلغ سن أخيه وأخته أتت الكلبة وفعلت ما فعلت أولاً قال لها: يا رواحة، قالت له: كيف؟ قال لها: أكف ما نال هؤلاء الأطفال؟ قالت له: فارقتك يا هدهاد اعلم إنه لم يجر منهم أحد بل هو محمولون وتلك درة تحملهم وتربيهم حتى يبلغوا خمس سنين فيأتوك

(1/146)


أنقياء. فأما ابنك الأول فقد مات أحسن الله عزاءك فيه وأما الآخر فإنه يأتيك وليس يعيش بعد أبي وهو يموت، وأنا ابنتك فإنها تأتيك وتعيش لك. ثم ذهبت عنه بعدها ووجد في الفراش ابنه وبنته بلقيس، فمات الصبي وعاشت بلقيس، وقد رد هذا الحديث عامة من العلماء ويقبله عامة من العلماء، والله أعلم أي ذلك كان.

فأقام الهدهاد في الملك عشرين سنة فلما حضرته الوفاة أحضر جميع وجوه حمير وأبناء ملوكهم وأهل المشورة من بني قحطان فقال: يا بني قحطان أما أنكم تعلمون فضل رأي بلقيس علي فإنها لا تخطئ ما تشير به عليكم كيف تجدون بركة رأيها؟ قالوا: نعم قال: وإنها أعقل النساء والرجال، قالوا: نعم قال: فاني استخلفها عليكم، فقال له رجل منهم: أيها الملك تدع أفاضل قومك وأهل ملتك وتستخلف علينا امرأة وإن كانت بالمكان الذي هي منك ومنا؟ قال: يا معاشر حمير إني رأيت الرجال وعجمت أهل الفضل وسبرتهم وشهدت من أدركت من ملوكها فلا والذي أحلف به ما رأيت مثل بلقيس رأياً وعلماً وحلماً مع أن أمها من الجن واني أرجو أن تظهر لكم عامة أمور الجن مما تنتفعون به وعقبكم ما كانت الدنيا فاقبلوا رأيي فإنها مع اختياري فيها مؤدبة لغيرها من أهل بيتها واني كنت سميت الملك لمالك بن عمرو بن يعفر بن حمير بن عمي وهو غلام له حزم وعقل فإذا بلغ فله الملك أما في حياتها وأما بعد موتها. قالوا: سمعنا وأطعنا أيها الملك انظر لنا. فمات الهدهاد بن شرحبيل وولي الملك بلقيس.
ملك بلقيس
فلما وليت بلقيس الملك ازدرى قومها بمكانها لما كانت امرأة وأنفوا

(1/147)


من أن يلي امرأة وبلغ ذلك عمراً ذا الاذعار، فجمع الجيوش ونهض إلى بلقيس، فلم تكن لها طاقة فهربت مكتتمة بأخيها عمرو بن الهدهاد، وهما في زي أعرابيين حتى أتت جعفر بن قرط الأسدي وهو جعفر بن قرط بن الهميسع بن مالك بن عمرو بن أسد بن هزان بن يعفر بن سكسك ابن وائل بن حمير بن سبأ. وكان جعفر بن قرط عمر ثلاثمائة عام، وكان أنجد فارس في زمانه، وكان في ثورة من قومه أسد بن هزان، وكان قومه هزان لهم أرض جو وهي اليمامة، وكان هزان أطول الناس أجساماً وأعناقاً وكانوا يعرفون في العرب حيث ساروا - وفيهم قال الشاعر:
لقد كان في فتيان قومك منكح ... وفتيان هزان الطوال الغرانق
والغرانق: الطوال الأعناق - ومنه قيل للغرنوق غرنوق لطول عنقه فسارت بلقيس حتى نزلت على جعفر بن قرط وهو في حصنه علعال على نهر الخفيف من أرض الأحقاف، ونهر الحفيف هو الذي أظهر النبي هود صلى الله عليه وسلم لعاد بن لاوذ بن ارم الآية الباهرة حين هلكت عاد بالريح العقيم فأخر من بقي من هزان باليمامة كان بقي من طسم وجديس ورائش بن لاوذ بن أرم، وهلك طسم وجديس وبقي سعدانة بن هزان بعدهم وبعد قومه هزان باليمامة وكان أطول الناس جسماً وعمراً فأقعد من الكبر وهو الذي هجم عليه عبيد بن عبد العزى الربعي إلى اليمامة فأصابه جالساً وهو يأكل تمراً من نخلة سحوق وهو يقول:
تقاصري آكل جناك قاعداً ... إني أرى حملك ينمي صاعداً
فهجم عليه عبيد بالقناة ليطعنه، فقال له سعدانة: لا تفعل يا عبيد قال له عبيد: ومن أنبأك بي؟ قال له: السلف يقولون بالعلم الأول آخر

(1/148)


من يبقى من هزان ين يعفر باليمامة أرض جور رجل يسمى سعدانة وأول من يهجم عليه يجاوره فيها رجل من بني ربيعة بن نزار يسمى عبيداً، ولكن يا عبيد أجاورك قال له عبيد:
لك سؤالك يا سعدانة، وأنشأ يقول:
إن الليالي أسرعت في نقضي ... أكلن بعضي وتركن بعضي
حنين طولي وطوين عرضي ... أقعدنني من بعد طول نهضي
تركنني ملكاً لأهل الأرض ... أليس ذا يا زمني من قرضي
هواك تركي وهواي يمضي
فأجاره عبيد حتى مات، وتمثل هذه الأبيات هزان بعد سعدانة العمري بعد هذا الزمان.
قال أبو محمد: وإن بلقيس أتت بن قرط الأسدي ثم الهزاني، فقالت له: أنا بلقيس بنت الهدهاد وهذا أخي عمرو أتيتك به هاربة مطيعة فأجرني وأخي. قال: هلم يا بنية أمنعك مما أمنع منه نفسي وبناتي فادخلي إلى بنات عمك آمنة. فأجارها جعفر بن قرط وأخاها عمراً وعمرو ذو الاذعار يطلبها وأخاها فلا يجد لهما حساً. وكان جعل على نفسه جعفر ابن قرط في كل عام عمرة يحج إلى مكة فيحرم بمكة شهر رجب ثم يرجع إلى حصنه علعال وجعل على نفسه بعد رجوعه عن العمرة يجاور قبر هود النبي صلى الله عليه وسلم شهر المحرم كله حتى ينسلخ، فكان يفعل ذلك كل عام، ثم يرجع إلى حصنه علعال، فكان بين حصنه علعال وبين قبر النبي هود صلى الله عليه وسلم مسيرة يوم وهي مسافة وقد أخلى جعفر

(1/149)


بن قرط تلك المسافة من الناس فلا ينزلها أحد - كانت له حمى وكان جعفر ابن قرط رحل إلى قبر هود بالعيال والولد وكان غيوراً أنفاً لا يصحبه في ظعنه ولد أدرك الحلم ولا ابن عم، فرحل بأهله وولده الأصاغر وسارت معه بلقيس وأخوها عمرو طفل لا يعلم بهما أحد من الناس، فسار يريد قبر النبي هود صلى الله عليه وسلم فأخذ على شاطئ نهر الحفيف بين النخل يأكل تمرها ويعلفه الخف والحافر وانه إذا نزل بالأحقاف بجوار قبر هود اتبعته السباع فيقاتلهم ويقتل من لقيه منهم،
ثم يخرج إليه تنين عظيم فيقاتله حتى يولى من بين يديه ويقول لأهله: لا تجزعوا فانه لص شيطان وانه كان رجل بمأرب تحت السد يقال له عمرو بن عباد بن مهرس بن عفار بن أود الله بن سعد العشيرة. وكان صعلوكاً لا يقر به قرار ويطلب المبارزة في كل قبيل من العرب وفي كل أوب، وتبعه على ذلك شريك بن عمرو ابن هلال بن أود الله وتبلن بن ثور بن أسلم بن زبيد، وكانا صعلوكين فاتكين جسورين على كل هول فتبعه عمرو بن عباد فسار بهما يطلبون الأموال وغيره القبائل لا يصطلي بنارهم ولا يسلم من لقيهم، فبينما هم كذلك سائرين إلى أن رمت بهم الأرض نهر الحفيف اثر ظعن جعفر ابن قرط فمشوا على الرسم واقتصوا الأثر حتى تراءى لهم جعفر يمشي كالشبح خلف ظعائنه فجدوا في طلبه حتى أدركوه وبينهما نهر الحفيف - وهو نهر ينهال فيه الرمل فيبتلع من سقط فيه - فطلبوا سرحة للنهر يعبرون منها اليه، فلما دنوا منه ووقفوا في عدوة النهر قريباً منه رأوا شيخاً جالساً في سرجه كالنخلة ولحيته سقطت على عرف فرسه، فانحرف عليهم

(1/150)


بوجه كالمجن وقد بلغت ركبتاه حذاء أذني الفرس فقال لهم: من أنتم وما شأنكم؟ قال له عمرو بن عباد: أنا عمرو بن عباد الأزدي وهذا شريك ابن عمرو الأزدي وهذا تبان بن نور الزبيدي لم ندع في العرب مثلنا بأساً ولا نجده، فاسلم الظعائن وانج بنفسك. قال له تبان بن ثور: يا عمرو لا طاقة لنا بالشيخ اذهب عنه ودعه فلسنا من جيله ولا من خلقه، قال له عمرو بن عباد: دع عنك الجزع قوة الشباب تغلب صلابة الهرم. قال عمرو بن عباد للشيخ: ما اسمك يا شيخ ومن أنت؟ قال له: أنا جعفر بن قرط الأزدي، قال له عمرو: وهل لك في المبارزة؟ قال له جعفر: لو رمت غير هذا ما وجدته اللقيا الحمى قد عرف الحق أهله، فأنشأ عمرو ابن عباد يقول:
زم المطى قليلاً ... فلست تبقى مقيلا
حرمت أهلي ومالي ... وخنت فيه الخليلا
تذوق عيناي بردا ... حتى أراك قتيلا
يكون أهلك أهلي ... إذا أرأيت الأصيلا
جدوا الرحيل فإني ... أبحث خيلاً فخيلا
والدهر طوع تمني ... إذ ليس دهري طويلا
قل للزمان يميني ... ما شئت قيلاً فقيلا
فقال جعفر بن قوط:
قد كنت عني غنياً ... فعش سليماً مليا
ما أنت والقول في ذا ... تراه فخراً سنيا

(1/151)


فحسبك الآن مني ... إن كنت قرماً كميا
فما أراك خؤنا ... ولا أراك وفيا
فهم يسايرونه حتى أصابوا سرحة عبروا عليها ورأوا الظعائن ليس فيها رجل غيره، قالوا له: سلم الظعائن وانج بنفسك وحملوا عليه فثبت لهم فطعنوه فألقى إليهم الجن فلم يعمل سلاحهم فيه شيئاً وحمل عليهم فولوا، وثبت له عمرو بن عباد فطعنه جعفر فعقر فرسه ثم عطف على صاحبيه فعبرا النهر وعلما إنه لا طاقة لهما بجعفر، ووقفا لينظرا ما يصير إليه أمر عمرو بن عباد، فرجع الشيخ إلى عمرو فقال له: الق سلاحك واستأسر وإلا قتلتك، فألقى سلاحه ونزل إليه الشيخ فكتفه وشد وثاقه إلى نخلة وتبان وشريك ينظران فقال تبان لشريك: إلينا يريد فانج بنا، ثم عبر إليهما من السرحة التي عبروا إليه منها فعطفا إليه في السرحة قبل أن يعبرها فطعناه فألقى تبان الزبيدي عن نفسه فطعنه شريك بن عمرو فأصاب صدره فنشب سنان قناته في يلب جعفر فأخذ جعفر القناة من صدره فكسر السنان وجرحه جرحاً خفيفاً، فلما نظر شريك إلى سنانه كسر ولى
فأدركه جعفر فعقر فرسه ولم يرد قتلهم إلا أسرهم لأن الأسر أشهر ذكراً في العرب وهو مال. فإن أطلق منّ وإن أخذ المال استغنى ثم قال: استأسر يا شريك فإنه لا ملجأ لك من نهر الحفيف ومعاطشه، فجلس شريك بن عمرو على لوى رمل وجد جعفر في طلب تبان وكانت فرس تبان كلت لأنها جائلة الليل والنهار فأدركه جعفر وفرس تبان توضع يديها فأدركه جعفر فطعنه تبان فشك جعفر درع تبان وضربه على الكشح فأخرجها من صدره ولم تعمل قناة تبان شيئاً في يلب جعفر، ثم عطف عليه ثانية فعقر فرسه وقال

(1/152)


له تبان: لم عقرت فرسي يا جعفر وهي لك مال زيادة في الفداء؟ قال له جعفر: إني قاتلك، قال له تبان: ولم؟ قال له جعفر: الجرح يقتلك، قال له تبان: ليست بجائفة فإنها سكلت في الكشح سلكاً فنزل إليه جعفر فحشى جرحه رملاً ثم ساقه بين يديه فأصاب شريكاً جالساً على حبل رمل فساقهما بين يديه حتى بلغ بهما إلى عمرو بن عباد فحل وثاقه وساقهم بين يديه، فلما بلغ قبر هود عليه السلام نزل ونصب بهم قبة بعيداً من الحي، ولم يزل تبان يتعاهد جرحه حتى برأ، ثم قال لهم: هاتوا الفداء؟ قالوا له: يا أبا عامر خذ منا ما رأيت؟ قال: ادفعوا إلى الجميع أموالكم حتى لا يبقى لكم سبد ولا لبد، قالوا: أو بالطف يا بن ملك الملوك؟ قال: هو ما قلت لكم قالوا: وليس من ذلك بد! قال: نعم، قالوا: يا أبا عامر جميع أموالنا نأتيك بها. قال: أقم أنت يا عمرو وأنت يا شريك رهينة واذهب يا تبان سق لي الأموال. فلما عبر تبان نهر الحفيف وعلم منهم العزم على ذلك ركض في طلب تبان، فلما رآه تبان جزع وظن منه الغدر فقال له بعد الأمن والرضا بالفداء: يا أبا عامر قال له جعفر: ارجع الذي رأيت أحسن من الذي رأيتم. قال له تبان: يا أبا عامر ملك الملوك أنتم وجه الدنيا وشم العرب لم يضعكم الله مذ رفعكم، فمضى به حتى رده إلى صاحبيه. قال له: يا أبا عامر الوفاء أشبه بك والجهل أشبه بنا. قال لهم: أني لم أعط نفسي منكم فداء ولا
طمعت فيه ولكن كان مني سؤال الفداء ابتلاء لكم واختباراً إذ سألتكم جميع أموالكم فلم تبخلوا بها عن أعراضكم وأنفسكم وجعلتم أموالكم دونها فأحمدت لكم ذلك وجعلت العفو مني مكافأتكم وعلمت أن لأنفسكم منكم وفاء ولو بخلتم عن أعراضكم وأنفسكم

(1/153)


بأموالكم لقتلتكم فأقيموا في رحب وسعة ودعة، ثم يا بن عباد أردت الموت فنأى بك الأجل واستعجل العفو وأنشأ يقول:
أتى يروع بإبراق وإرعاد ... ألف المنية في قرب وإبعاد
هلا مررت بعلعال فقلت له ... من ذاك يدفع عنك الشر يا وادي
بأبيض المتن صافي الماء ذي شطب ... وادهم أزرق الحدين وقاد
خل الظعائن تسلك جانب الوادي ... واصرف جراءك عنا يا بن عباد
لا تعرضن لقوم من بني أسد ... فإن خلفهم ضرغامة عادي
يا أيها الراكب المزجي مظيته ... اذهب ودعني أمارس حية الوادي
أما قصدت ولم تخشن الحتوف إلى ... ليث العرين ولم تقصد بميعاد
لا تسأم الناس والدنيا مزخرفة ... والناس ناس لا صلاح وإرشاد
إذا مررت على نخل الحفيف فقل ... اسلم سلمت حريم الحائم الصادي
أقوى الوجيف مغانيه فقد سلفت ... له هنيدة لم تهل لرواد
حريم ليث يخاف الدهر سطوته ... يصول عن مجد آباء وأجداد
لم يعب بالموت إذا جاشت كتائبه ... وقدم الحين أمجاد الأمجاد
تسربل النقع والأبطال كالحة ... والروع يحفز أكباداً بأكباد
شد الإزار على قلب وأورثه ... طيب المعيشة آباد الآباد
أردت قصداً إلى باب على عجل ... صفر اليدين بلا رحل ولا زاد
والدهر ينقض والأيام فانية ... يا بعد دهرك من أيام ميلادي
ما حبب العيش عندي غير واحدة ... خوف المذلة أن تنزل بجد جاد
يا وهب لا تسأمي لما لقيت ردى ... أو تحزني فالذي أسررت لي بادي
لاعرفنك بعد اليوم تندبني ... وفي حياتي ما زودتني زادي

(1/154)


إني نذرت يميناً لا أفندها ... حتى أجاور قبر العالم الهادي
جدجاد ابنته بكر في حجره لم يكن في وقتها أجمل منها ووهبة أحدى نسائه لم يكن لها نظير وإن جعفر بن قرط قال للأسرى الذين في يده: أقيموا حتى أقارع التنين - وإن التنين آتاه في الوقت الذي كان يأتيه فيه - فأخذ بيده شجرة أم غيلان وأخذ بيمينه خشبة عظيمة، فإذا هجم عليه التنين أدخل الشجرة في فمه وضربه بالخشبة في الرأس، فلم يزل يقاتله حتى كل التنين وانصرف، وانه كان كذلك يفعل وهبت ريح باليمن فهدت الصخر من قنن الجبال وخددت الأرض ونقلت أحقاف الرمل من مكان إلى مكان فزعم أهل اليمن أنها كالريح العقيم هبت من جور عمرو ذي الاذعار فكشف تلك الريح جبلاً من رمل من منبر هود النبي صلى الله عليه وسلم فقال جعفر بن قوط: يا جدجاد دافعت عنكم أهل الدنيا وبأس أهل الأرض ولا دافع لأمر الله وغلبت الرياح النصيح، وأنشأ يقول:
لم يبق يا جدجاد من لذاتي ... إلا نزال الجحفل الكماء
والصفرة الصدق من اللمات ... وراحة النفس إلى الميقات
كم مشهد ارتاع من إبانتي ... وفيلق أزور من قناتي
امنع من نجران والجنات ... ومسقط البحر إلى السفرات
ما واحدٌ قرني ولا عداني ... يرجون مني أسرع الغايات
قارعتهم بالموت بالساعات ... إذ لا زعيم ضامن حياتي
وكل جمع فإلى شتات ... وكل حي في يد الممات
ما جاز حر الشعر عن أبياتي ... بلغت غاية الصفات

(1/155)


يكتب للشعر من الرواة ... فقدك يا جدجاد من فتاة
لابد أن يذهل عن هبات ... قد عبث الدهر على منساتي
منتظراً فيه إلى دعاتي ... إذا أزلت الرحل عن أبياتي
سابقت أيامي إلى ميقات ... أبو بنين وأبو بنات
أحسب في الحي من الأموات ... هل مشتر أبيعه حياتي
وإن الريح هبت فكشفت عن منبر هود عليه السلام دراً وياقوتاً، وعن يمينه عمود من جزع أحمر مكتوب فيه بالمسند لمن ملك ذمار الحمير الأخبار لمن ملك ذمار للحبشة الأشرار لمن ملك ذمار لفارس الأحرار لمن ملك ذمار لقريش التجار فيقال إن هود عليه السلام كتبه، وأنه من علم الوحي وذمار غمدان ومأرب وصنعاء والعالية وما بينها. ثم رأوا عموداً من جزع أخضر وفيه مكتوب بالمسند على باب مغارة هذا قبر قضاعة بن مالك ابن حمير ملك ثلاثمائة عام أدخل واعتبر وأخرج وازدجر، فدخل جعفر ابن قوط وعمرو بن عباد وشريك بن عمرو وتبان بن ثور فأصابوا شيخاً جالساً على سرير من ذهب أجمل من رأوا وأعظمهم جسماً وعليه ثوب منسوج من ذهب وعلى رأسه لوح من ذهب مكتوب فيه بالمسند: أنا قضاعة بن مالك بن حمير سخطت ورضيت. سخطت غدر الأمل ورضيت حلول الأجل من لم يرض بالقدر جهل الخبر ومن لم يقنع بما أعطى تعب ولم يطب له العيش - بعدما كنا زينة للناظرين صرنا عبرة للزائرين - وتحت مكتوب:
أنا رب العتيق وغمدا ... ن وبينون والعراقين حينا

(1/156)


والسديرين والهوى الأبيض القص ... ر الذي شاد عابر للبنبا
وإلى الملك من سبا عبد شمس ... ملك الأرض والأنام مشينا
ولي الأخضر الهنيبق بالطل ... ح أراعي عليه عيرا وعينا
ولقومي يدعو الحجيج لدى البي ... ت يرون الحجيج ذلك دينا
حين كنا على البرية نوراً ... وغياثاً وزينة الناظرينا
فرمانا الزمان منه بصرف ... فمضى حكمه علينا وفينا
من رآنا رأى المنية تحدو ... هـ الينا بذاك حتما يقينا
ثم صرنا من بعد ذاك وهذا ... بالمغارات عبرة الزائرينا
أنا بين الرجاء والخوف أمسي ... ت مقيماً إلى التنادي رهينا
فأمر جعفر بن قرط بالخروج زل يأخذ شيئاً من منبر هود ولا من كسوة قضاعة ومنعهم ذلك وأم جعفر بن قرط أمر لهم بأفراس فحملهم عليها وأدن لهم بالانصراف، فانصرفوا. فلما بلغ عمرو بن عباد منزله هيأ هدية من جمال وخيل وغير ذلك وسار إلى جعفر بن قوط فأصابه في مكانه لم يرحل عن جوار قبر النبي هود صلى الله عليه وسلم فدفع إليه عمرو الهدية فقبلها منه جعفر وكافأه جعفر وأضعف له الهدية ونصب له قبة بعيداً عن الحي وحمل عمرو معه خمراً، وكان استرق النظر فرأى جدجاد فهويها وهو أسير، فلما آتاه جعفر بالطعام أكل وجعل يشرب الخمر. قال له عمرو: اشرب من خمري يا أبا عامر. قال له جعفر: يا بني أنا راعي الحي فإن أنا سكرت ضاع الحي، قال له عمرو: اشرب شرابي فهو بري عندك فاني ضيفك، فلم يزل به حتى شرب وعملت الخمر في الشيخ فصرعته. فقام عمرو بن عباد فسل سيفه وضرب به رأس جعفر وجسده

(1/157)


وأبان رأسه من جسده وأخذ لحيته يجريها رأسه فلما نظر أهل الحي إلى رأس جعفر خضعن خيفة وليس في الحي إلا امرأة وطفل. قال لهم عمرو: زينوا جدجاد حتى أخلو بها، قالت لهم: بلقيس: ويلكن اني أيدة ليس في الرجال مثلي ولا من يدافعني وقد أعديت مدية خوصية للملك عمرو ذي الاذعار - وهي أول ما عملت من الخوصيات باليمن مكراً فجعلت نصاب المدية ذهباً ورأس النصاب ياقوتة زرقاء فتدخلها من مفرقها في قرونها حتى تخرج رأس المدية من شعر قفاها وتبقى الياقوتة والذهب على جبينها وهي زينة لا يدري ما وراء ذلك، فزين بلقيس
ثم أتين بها إليه فقالوا: هذه جدجاد. وكانت بلقيس أجمل من جدجاد ومن نساء زمانها، فلما رآها أنكرها وعلم أنها ليست جدجاد، غير إنه رأى ما غلب على عقله، فلما خلا بها في القبة هم بها قالت له: يا عمرو إن الأبكار من النساء كالإناث من الخيل لا يمسحن إلا عن صهيل ومجابذة، وإنما أرادت أن تعلم أين هو من قوتها، ومد يده إليها ورأى إنه حاكم عليها فجذبها إلى نفسه ودافعته فغلبت عليه فأخذت يديه جميعاً بيدها الواحدة فأمسكته، فلم يستطع معها حراكاً، ثم مدت يدها إلى قرونها فسلت المدية فضربت بها نحره، فلما وجأته ومات أخذت برجليه تجره في الحري وتقول: قليل لك هذا مني يا أبا عامر، ثم قالت: لهن أسرجن فرس أبي عامر فركبته ولبست لامة أبي عامر وقالت ارتحلن من قبيل أن يشيع قتل أبي فيتخطفكن العرب من هذا الشعب. فرحلن ومشت خلفهن بلقيس كما كان أبو عامر يفعل. ولما رجعن إلى علعال بكين جعفراً وشاع قتله في العرب وعرف عمرو ذو الاذعار مكان بلقيس فأرسل عمرو فأخذها وقالت لأخيها: لي حيل إذا لقيت عمراً أخدعه وأنت لا حيلة لك إلا الموت فاهرب، فهرب عمرو بن الهدهاد - أخو بلقيس - إلى البحر مكتتماً في زي أعرابي فلم

(1/158)


يعلم به أحد. وسارت بلقيس حتى دخلت على عمرو ذي الاذعار، فأمر بالخمر ينادمها كما كان ينادم بنات الملوك ويفعل بهن، فلما أخذت الخمر منه هم بها، قالت له: أيها الملك سترى مني من المال أكثر مما رأيت من الحرص وحاجتي فيك أعظم من حاجتك في، وسامرته أحسن مسامرة، فألهاه ما سمع منها وما أعطته من نفسها من القرب وهي تعمل فيه بالخمر دأباً حتى علمت أن الخمر عملت فيه، فقامت إليه وسلت مديتها من قرونها ثم نحرته، فلما مات جرته فألقته في ركن مجلسه وألقت عليه بعض فرش المجلس، ثم خرجت إلى الحرس في جوف الليل وقالت لهم: يأمركم الملك بفلان أن تأتوا به، فلما أتوا به وكان يتبعه ألوف من حمير، فلم تزل ترسل
إلى ملوك حمير وأبناء الملوك المسموع منهم المتبوعين، فلما اجتمعوا إليها في قصر غمدان خرجت عليهم فقالت لهم: إن الملك قد تزوجني على أني برئت إليه من ملكي في حياته وأنتم تعلمون إنه لا يولد له، فلما علم مني الخضوع بحقه والاستسلام لإرادته والطاعة لأمره فوض إلي بعده ورآني أهلاً له وأمرني أن آخذ عليكم بذلك عهداً. قالوا: سمعاً وطاعة للملك فيما أراد، فأخذت عليهم العهد أن لها الملك بعد عمرو، فلما توثقت منهم قالت لهم: هل تسمعون من الملك فأدخلتهم المجلس قالوا لها: أين الملك؟ قالت لهم: ها هو ذا وكشفت عنه فرأوه قتيلا، قالوا لها من فعل هذا؟ قالت لهم: أنا ولي العهد عليكم بالملك بعد موته وهذا هو قد مات وعهدي لكم لازم، قالوا لها: أنت أولى بالملك إذ أرحتنا من هذا الرجس الجائر. فوليت بلقيس بنت الهدهاد بن شرحبيل ملكهم.

ملك بلقيس بنت الهدهاد ملكة
فوليت بلقيس ملك حمير وهي التي ذكرها الله تعالى في كتابه ويزعم بعض الرواة أن تبع عمراً ذا الاذعار لم يمت من سقط شقه من الفالج

(1/159)


ولذلك قتلته بلقيس وكان ملكه مائة سنة وخمساً وعشرين سنة فرثاه المضرب بن وائل بن يعفر بن عمرو الحميري فقال شعراً:
عجبت للدهر وأوانه ... وصرف أيام له فانيه
فبينما المرء يريد الهوى ... إذ مال لا يبقى على باقيه
لو كان هذا الدهر إذا جاءنا ... يختلف العبد وذا الداهية
لو يعلم الدهر بما قد أتى ... لم يعلن البيان من ناعيه
حال عن الدنيا بصرف الردى ... يختلس الحاضر والبادية
عم على ملك لنا قاهر ... مالك أنس في ذرى ساميه
وملك حيان هم أصله ... لم يكن الباقي بذي راقيه
أخرج ذا الأذعار من ملكه ... ولكن الدنيا إلى ناهيه
لم تلبس الشمس سرابيلها ... على مليك كان ذا تاليه
قد خسف البدر ولاذت به ... لما تولى الأنجم السارية
وقال عمرو بن الهدهاد بن شرحبيل يهجو عمراً ذا الأذعار: وهو أول هجو كان في العرب:
أصبح ذو الاذعار في رمسه ... يأكله الجور الذي قدما
لم يحمد الله له سعيه ... ولم يحرم دهره محرما
لم تبك عين بعده حسرة ... ولم ير الدهر له مكرما
محت ضياء الدهر أيامه ... فأصبح الدهر له اسحما
اربدَّ وجه الدهر من دهره ... فظل عرنين الرضى أكشما
عاصاه وجه الحق لما دعا ... إلى ردى الجور الذي جحما
ينزل عن رفع العلى هابطاً ... ولم ير الدهر له سلما
كم من فتاة طفلة غادة ... تذكر من يوميه ما أحرما

(1/160)


وكم كريم ما جد سيد ... ممن حمير الأنجاد قد أوسما
شكت وجوه العدل أيامه ... أسلمه الحق الذي اسلما
قال أبو محمد: لما وليت بلقيس الملك قالت حمير رجع الملك إلى نجلته الأولى وذلك أنها من نجلة يعفر بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ - وعمرو ذو الاذعار نجلة الملطاط بن سكسك، فكان الملك لأخيه يعفر بن سكسك وفي بيته من قبل الملطاط وبيته، وذلك إنه عمرو ذو الاذعار بن أبرهة ذي المنار بن الصعب ذي القرنين بن الحارث ذي مراثد بن الهمال ذي مناح بن عاد ذي شدد بن الملطاط بن سكسك بن وائل بن حمير - فلما وليت بلقيس الملك جمعت الجيوش العظيمة وسارت إلى مكة فاعتمرت وتوجهت إلى أرض بابل فغلبت على من كان
بها من الناس وبلغت أرض نهاوند وأذربيجان، ثم قفلت إلى اليمن وكان حرسها الرجال الذين يوازرونها وبطانتها النساء، وكانت لا أرب لها في الرجال، وأنها لما غلب عليها رسول الله سليمان بن داود صلى الله عليهما تلوم أمره فيها حتى آتاه الوحي ببراءتها من ريب الجاهلية فتزوجها وهي جارية عذراء، وكان معها ثلاثمائة وستون امرأة من بنات أشراف حمير، وكانت تحبس الجارية حتى تبلغ، ثم تحدثها حديث الرجال فإذا رأتها قد تغير لونها ونكست رأسها عرفت أنها أرادت الرجال فسرحتها إلى أهلها ووصلتها وزوجتها وأحسنت إليها ولا تزوجها إلا من أشراف قومها، وإذا رأتها مستمعة لحديثها معظمة لها أطالت النظر غير متغيرة اللون ولا مستحية من الحديث علمت أنها لا تريد فراقها وإن

(1/161)


الرجال ليسوا من بالها، فكانت بلقيس صائنة لنفسها غير واقعة في المساوئ ولا غافلة عن المكارم فكان ملكها قبل سليمان بسبع سنين. فلما أراد الله إكرامها بسليمان خرج مخرجاً لا يريد إليها، وذلك إنه لما بلغ ملك حمير مبلغاً لم يبلغه أحد من أهل الدنيا عظمت نفوسهم وتكبروا وتجبروا (ولله الكبرياء والجبروت) فأراد الله أن يريهم قدرته فأرسل الله سليمان بن داود بن ايشا بن حصرون بن عموم بن ناهب بن لاوي بن يهوذا بن يعقوب ابن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن صلى الله عليه وسلم، وأعطاه الله ملكاً لم يعطه أحداً من قبله ولا ينبغي لأحد من بعده فأتى إلى حمير بالآيات التي لا يستطيع مخلوق أن يأتي بها تقله الرياح كما قال الله عز وجل {غدوها شهر ورواحها شهر} وتظله الطير وعلمه منطق الطير ومنطق كل شيء فما من شيء يسبح بحمده إلا فهم تسبيحه وتسير معه الجبال إذا أقلته الرياح تسبح بتسبيحه وسخرت له الأنس والجن والشياطين كما قال الله جل ثناؤه {كل بناء وغواص} لما أراد الله أن يهدي بلقيس وحمير، فبعث الله نبيه سليمان بالآية الباهرة التي بهرت عقولهم، فخرج سليمان مخرجاً لا يريد إليها فقضى أن يمر
على بلدها وهو يريد غيرها وكان إذا ركب غدا من تدمر وكانت منزله فيقيل يا صطخر من أرض فارس، ثم يروح فيبيت بكابل فغدوها ورواحها مثل هذا المسير إلى كل وجه أخذ إليه - وقول الله أصدق القائلين {غدوها شهر ورواحها شهر} - وأمر سليمان الريح فأقلت عرشه وأمرها أن تنقل كراسي جلسائه، ثم جلس على عرشه وأجلس الأنس عن يمينه وشماله وأجلس الجن من ورائهم على مثل ذلك منهم قاعد

(1/162)


وقائم. ثم قال للريح أقلينا وقال للطير: أظلينا، فأقلته الريح وأعلته الطير ومن معه من الأنس والجن من الشمس والخيل واقفة والطباخون في التوابيت جلوس على أعمالهم، وأمرها سليمان بالمسير لا تزيل أحداً منهم عن مجلسه ولا تفسد عملاً في يده حتى يأذن لها في وضعهم على الأرض ففعلت، وإن سليمان سار في المشرق متوجهاً من تدمر ثم توجه من المغرب فمر بموضع المدينة فأمر الريح فوقفته تم أمر أصحابه بالهدو وقال: أنها مهاجر نبي يخرج في آخر الزمان من العرب اسمه أحمد وهو خاتم النبيين أكرم مخلوق عند الله صلى الله عليه وآله وسلم، ثم سار إلى مكة فقال: هذا بيت الله الذي بناه إبراهيم أبي، وهو أول بيت وضع في الأرض، أمر الله به آدم يبنيه فبناه، فنزل سليمان فصلى فيه، ثم سار إلى مدينة مكة ومر بقبر إسماعيل صلى الله عليه وسلم فنزل إليه وألم به وكان ملك مكة يومئذ البشر ابن عمرو بن الحارث بن مضاض بن عبد المسيح بن نفيلة بن عبد المدان بن حشرم بن عبد ياليل بن جرهم بن قحطان بن هود النبي صلى الله عليه وسلم - وكان البشر عاملاً لبلقيس على من كان بمكة وبالحجاز، وكان نبت بن قيدار بن إسماعيل النبي بمكة يومئذ وبنو عمه فأتى البشر إلى سليمان مستجيراً مستسلماً، فأمره سليمان أن يبرأ من أمر مكة إلى نبت قيدار ابن إسماعيل وأقر البشر وجرهم على القيام بالبيت - كما فعل إسماعيل - ثم سار سليمان بن داود نحو أرض اليمن حتى نزل بنجران على القلمس بن
عمرو - وهو أفعى نجران - وكان من بني عبد شمس بن وائل بن حمير ابن سبأ وهو عامل بلقيس على نجران والمشلل إلى البحرين وما والاهما من البلد. وكان القلمس أفعى نجران أحكم العرب في وقته كان حكيماً بما يظهر للناس في وقته وبما بطن عنهم - فلما رأى طوالع عساكر سليمان

(1/163)


طلعت، فتواضع وذل وقال: تواضع وذلة تحت عز وسلطنة أن هذا شأن سماوي، وإن القلمس أفعى نجران جمع أهل نجران وهي دار العلم وقال: يا أهل نجران أنتم أهل العلم الأول هل عندكم من هذا العلم؟ قالوا له: ما لم يكن عندك يا سيدنا وأنت جهبذ العالم فيكون عندنا، قال لم: إني البس لهم مسا وباءة وأسير إليهم بثلاث: بكهانة وطب وحكمه، فإن كان فيهم نبي لم يحتاجوا إلى طبي وكمتي لأن فيم طبا أبلغ من طبي ولا يسمعون من حكمتي لأن فيهم من حكمة الوحي أحيا من حكمتي ولا يلتفتون إلى كهانتي، لأن فيهم من علم الوحي أصدق من كهانتي، فلبس القلمس المسح - وكان أول من لبس المسح يعقوب النبي تواضعاً لله - وحرم الشحوم لي نفس ويعقوب هو إسرائيل ولي الله باللسان السرياني ومعنى أسرا ولي وايل الله وجبرائيل رسول الله جبرا رسول وايل الله وعزارائيل عبداً لله عزرا عبد وايل الله وميكائيل صفي الله ميكا صفي وايل الله فسار الملك القلمس بن عمرو الحميري حتى دخل عساكر سليمان فتعرضهم بالكهانة فلم يسألوه وعرض الحكمة فلم يلتفتوا إليه وعرض الطب فلم يسمعوا منه فتركهم ومضى إلى سليمان فرأى الريح تقله والطير تظله فرأى ملكاً عجيباً، فدنا من سليمان فقال سليمان: يا آصف - وكان آصف كاتب سليمان - سبحان قاصف الجبابرة ذلك عميد نجران المبتكر ادعه فقال له آصف: هلم الرجل؟، فلما وقف بين يدي سليمان سبح سليمان فسبحت الجبال فقال أفعى نجران: بطلت حكمتي ثم نظر إلى البقل بين يدي سليمان فكل بقلة تقول له: يا نبي الله اسمي كذا ذا لكذا فقال أفعى نجران: بطل طبي ثم قال لسليمان: إن هذا
عميد نجران

(1/164)


له من الأمر أمران بين ضلال وبيان، فآمن أفعى نجران وصدق بما أتى به سليمان. ورجع أفعى نجران إلى قومه فقالوا: ما رأيت؟ قال: يا قوم {الرائد لا يكذب أهله} فأرسلها مثلاً ول يظهر لهم إنه أجاب سليمان إلى ما دعا إليه اتقاهم عن إيمانه، ثم بعث إلى بلقيس يخبرها بخبر سليمان وكتمها إيمانه وكتب إليها، فقال لها: إني رأيت قوماً لبسوا الذل تحت العز والفاقة تحت الغنى والصبر تحت القدرة ينصرون بلا حرب ويقدرون بلا استطالة فكتبت إليه بلقيس: تفعل الملوك ذلك يستميلون أهواء العالم حتى يقدروا فإذا قدروا عزوا فبزوا ولكن لا تحاربهم ودعهم فليس كل الناس صائناً لنفسه، فإن سرقوا فليسوا بأهل دين، فخلى أفعى نجران بينهم وبين الزرع فلم يأكلوا منه سنبلة، فأرسل إلى بلقيس أعلمها فكتبت إليه: أن ادفع إليهم الخف والظلف ففعل فلم يأخذوا منه شيئاً ورجعت إليه كما سارت، فأعلم بذلك بلقيس. فأرسلت إليه: ادفع إليهم الخيل ذكوراً إناثاً، ففعل فلم يأخذوا شيئاً ورجعوا على حالهم. فبعثت إليه أن ابعث إليهم بجارية حسناء وأعطها شيئاً تطوف به على عساكرهم حتى تغمر بها فأرسل أفعى نجران ابنته، ولم يكن في وقتها أجمل منها، فطافت في جميع عساكر سليمان، فكانوا يساومونها ولا يرفع إليها رأسه أحد حتى انتهت إلى سليمان فنظر إلى مال في يدها ولم ينظر إليها فرجعت وأعلمت بذلك أباها فكتب بها إلى بلقيس، فكتبت إليه: كف ومل إلى سلمه ولا تعرض أجنادنا إلى أمر الله فإن الله لا يغالب. ثم رف سليمان حتى كان من مأرب مدينة سبأ على مسيرة ثلاثة أيام، أراد النبي سليمان النزول - وكان لا ينزل إلا على الماء - وكان الهدهد الذي يدله على الماء وكان الهدهد الذي يدله على الماء فتفقد الهدهد لأنه دخلت عليه الشمس من موضعه وكان مثل البطة. وقال الله تبارك وتعالى {وتفقد الطير فقال ما لي لا أرى

(1/165)


الهدهد أم كان من الغائبين لأعذبنه عذاباً شديداً أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين}.
قال أبو محمد عن أسد عن أبي إدريس عن وهب عن ابن عباس، إنه قال: لأعذبنه عذاباً شديداً، أي للأنتف جناحيه حتى لا يطير مع الطير. وقوله بسلطان مبين: العذر البين والسلطان: الحجة. وكان الهدهد تقدم من ذلك الموضع فلقي هدهداً من أرض مأرب فقال ذلك لهدهد سليمان: أخبرني ما هذا الذي أرى ما رأيت ملكاً أعجب من هذا الراكب الريح ومعه من الجنود ما أرى لم أره ولم اسمع به؟ قال له هدهد سليمان: هذا سليمان ابن داود نبي الله قال: فمن آنت قال: أنا من أرض سبأ قال له هدهد سليمان فمن ملكهم؟ قال: ملكتنا امرأة لم ير الناس مثلها في حسنها وفضلها ورأيها وحسن تدبيرها وكثرة جنودها والخير الذي أعطيته في بلدها وأمها من الجن، مع هذا وهي من ولد حمير، فقال: انطلق بنا إليها. فانطلقا حتى نظر إليها ورجع إلى سليمان - قال الله تبارك {فمكث غير بعيد فقال: أحطت بما لم تحط به وجئتك من سبأ بنبأ يقين أني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون} قال {سليمان}: {سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا فالقه إليهم، ثم تولّ عنهم فانظر ماذا يرجعون} فكتب سليمان كتاباً ودفعه إلى الهدهد فأخذه الهدهد بمنقاره وانطلق حتى انتهى إليها فكان بحيال رأسها حتى حاذى تاجها وهي على عرشها ألقى الكتاب فوقع في حجرها فنظرت إليه ونظر الناس إلى طائر رمى الكتاب فقالوا: رمى إليك كتاب من السماء فخاضوا في ذلك، ثم أنها بعثت إلى مقاول حمير وكانت أول من استشار المقاول من حمير فقالت لهم: ما ذكر

(1/166)


الله في القرآن {يا أيها الملأ أني ألقي إلي كتاب كريم إنه من سليمن وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلو علي وآتوني مسلمين. قالوا: نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فانظر ماذا تأمرين؟ قالت (لهم تمتحنهم): إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها
وجعلوا أعزة أهلها أذلة وكذلك يفعلون، واني مرسلة إليهم بهدية فناظرة بم يرجع المرسلون}.
قال أبو محمد: بعثت إليهم بهدية اختارت أربعين رجلاً لم تدع في أبناء الملوك أجمل منهم ولا أعقل ولا أشد ثقة ولا أبعد غاية ولا أعلى صوتاً فعنفهم صوتهم قبل أن يصلوا إلى سليمان وأرسلت إليه معهم بهدية تمتحنه بمائة وصيف ومائة وصيفة ولدوا في شهر واحد كما ولدوا في ليلة واحدة، وأرسلت إليه بحق مملوء ذهباً وفضة ودراً وياقوتاً وزبرجداً وزمرداً وختمت على الحق ولبست الوصائف والوصفاء زياً واحداً ليظن من رآهم كلهم غلمان، وأرسلت إليه بخيل عتاق ذكور وإناث وقالت لرسلها: مروه يخبركم بفرق بين الذكور والإناث من هذه الخيل بعضها من بعض من غير أن يخبره أحد، ومروه أن يخبركم بما في هذا الحق من غير أن يفكه. قال: فتوجه رسلها حتى بلغوا إلى موضع لا يدركهم أحد. فقال بعضهم: أن سئلتم عن شيء فعليكم بالحق الذي لا اختلاف فيه وإياكم أن يجيب كل واحد عن نفسه فيقع الاختلاف فيرتاب بكم، فمضوا وجمعت بلقيس أشراف حمير فقالت: خذوا في أهبة الحرب، فجمعت الجيوش واستعدت للحرب وقالت لقومها: إن هو قبل الهدية ولم يرد الحرب ودعا إلى الله فهو نبي فاتبعوه وإن هو لم يقبل الهدية ولم يعلمنا

(1/167)


بما سألناه فهو ملك من ملوك الدنيا حاربناه فما لأحد بنا طاقة وإن كان نبياً فما لنا بالله طاقة - فلما أتت الهدية إلى سليمان نسب لهم الخيل بعضها عن بعض وميز الغلمان عن الجواري في لباسهم وأخبرهم بما في الحق من عدد الياقوت والجوهر والزبرجد والزمرد ووزن العقيان واللجين. فأجابه الرسل وصدقوه إلى ما دعاهم إليه من طاعة الله، ثم دعا عفريتاً من الجن يأتي بعرشها - وكان عرشها ذهباً صامتاً مرصعاً بالدر والياقوت عشرين في عشرين ذراعاً وتاجها كالعنقل معلق إلى رهو المجلس بالسلاسل فقال العفريت {أنا آتيك به
قبل أن تقوم من مقامك وإني عليه لقوي آمين} قال آصف بن برخيا - كاتب سليمان وقد كتب الوحي الذي أمر الله به سليمان -: {أنا آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك}. فأمر سليمان الريح فأقلت آصف أسرع من طرفة عين فأتى إلى العرش وهو في قصر غمدان ودونه عشرة حجب بالمجالس في كل مجلس حرس، فأمر آصف الريح فأقلته وأمسك آصف صدر العرش فأتى به سليمان وكان سليمان لا يحتجب عن آصف عند نسائه - فأتاه بالعرش، وأمر سليمان الجن والأنس فبنوا له مجالس لم يبن مثلها فجعل العرش في أقصى المجلس ولما رأى سليمان العرش من ذهب ولؤلؤ وجوهر قال: {نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون}.
قال ابن عباس: زيد فيه جوهر وياقوت ونقص منه. وقال ابن عباس: للقرآن ظاهر وباطن: فعندي لظاهره تبيان ولباطنه علم يهتدي به إليه من اعتصم بالله. وإن وفد بلقيس الذين أوفدت إلى سليمان آتوها فأعلموها بما

(1/168)


رأوا وبإيمانهم. فأمرت بالجهاز وسارت في مائة رجل وعشرين رجلاً من أشراف قومها ورؤسائها وأخيارها مع كل رجل من وجوه جنده وأفاضل أصحابه وقادة خيله مائة رجل، ثم جمعت أبناء الملوك، ثم قالت: معاشر حمير أنتم تلاد الله اصطفاكم من أول الدهور وفضلكم بأفضل الأمور وقد ابتلاكم بهذا النبي سليمان بن داود، فإن آمنتم وشكرتم زادكم نعمه وإن كفرتم سلبكم النعم وسلط عليكم النقم. فقالوا لها: الأمر إليك وعلموا إنها شفيقة عليهم ناصحة لهم فخرجت إلى سليمان في مائة ألف واثني عشر ألفاً وتركت جميع أجنادها بغمدان وبمأرب فتركها ثلاثة أيام فقال لها قومها: ما في أمر هذا الرجل أتريدين الدخول في طاعته أم تحاربينه أم تقولين إنه نبي؟ قالت لهم: سأعلمكم منه ما تعرفون أنبي هو أم ملك من هؤلاء الملوك انظروا إلي إذا أنا دخلت عليه فإن هو أمرني بالجلوس فهو ملك من هذه الملوك
لأن الملوك لا يجلس عندهم إلا بإذنهم وما أقل من يجلس عندهم إلا خاصتهم وإن هو لم يأمرني ولم ينهني فهو نبي ومع إني أساله عن أشياء إن هو أخبرني عنها فهو نبي وأنا داخلة في أمره ولا طاقة لكم بمحاربته قال: فأمر سليمان الجن فجعلوا له عن يمينه وشماله حائطين مموهين بالذهب وبنوا من وراء ذلك دراراً ومجلساً وجعلوا أرض الدار لبناً مموهاً بالذهب غير موضع لبنة واحدة، ثم أذن لها بالدخول، فلما رأت الحائطين ودخلت الدار فرأت أرضها وحيطانها من ذهب تقاصر إليها ملكها ورأت شيئاً لا يشبه ما كانت فيه وسليمان في مجلسه في أقصى الدار ومعها لبنة من ذهب في يدها تريد إن أمرت بالجلوس أن تجلس عليها فنظرت فإذا هي على بابا مجلس سليمان من خارج بموضع لبنة من فرش الدار ليس فيها لبنة فكرهت حين رأت ذلك أن تمضي بما في يدها بها فرمت باللبنة في الموضع الخالي وسليمان

(1/169)


ينظر فلما دخلت عليه وسلمت وحيته تحية الملوك وتواضعت له كما يتواضع للملوك تمتحنه بذلك. فقال لها سليمان: أهكذا عرشك؟ قالت له: كأنه هو، ثم قامت بين يديه فلا يأمرها ولا ينهاها عن القيام حتى إذا طال ذلك منها قال سليمان ورفع رأسه إليها: الأرض لله فمن شاء فليجلس ومن شاء فليقم. قالت: الآن علمت أنك نبي، قال: ومن أين؟ قالت: إنه لا يجلس عند الملوك إلا بإذنهم وأما القيام فعندهم يقام وما أقل من يقعد عندهم إلا من كان من خاصتهم، لكنك قلت مقالة أهل العلم بالله وقد أتيتك وأنا أريد أن أسألك عن ثلاث خصال فإن أنت أخبرتني بهن دخلت في طاعتك وإن لم تفعل فعلت رأيي فيما بيني وبينك. قال سليمان: فسلي ولا قوة إلا بالله. قالت: اخبرني عن ماء روي ليس من أرض ولا سماء، وأخبرني عن تشبيه الولد أباه وأمه ومن أين يأتيه ذلك، وأخبرني عن لون الرب تبارك وتعالى - سألته عن ذلك وهي جالسة مما يليه على كرسي - والأنس والجن عن يمينه وشماله. فقال سليمان للإنس: هل عندكم
في هذا شيء؟ قالوا: يا نبي الله لا علم لنا. قال للجن: هل عندكم في هذا شيء؟ قالوا: لا علم لنا يا نبي الله، ثم قال سليمان للجن: اركبوا هذه الخيل فأجروها فإذا تصبب عرقها فخذوه وجيئوني به. ففعلوا وآتوه بماء كثير من عرق الخيل فقال لها: هناك يا بلقيس ما روي من أرض ولا سماء. قالت: أجبت عن هذه فماذا تقول في الخصلتين؟ قال لها: أما شبه الولد، فإن النطفة إذا سبقت من الرجل كان الشبه له وإن سبقت من المرأة كان الشبه لها قالت: صدقت، قالت: فالخصلة الثالثة؟ قال لها: تبارك وتعالى عن سؤالك وأنا راغب إلى ربي، فرغب سليمان إلى ربه في مجلسه ذلك فأوحى الله إليه - إني قد أنسيتها ذلك فاسألها عنه فسألها -

(1/170)


فقالت: ما أدري ما سألتك عنه يا نبي الله فعرض عليها سليمان الإسلام. فقالت: انظر في أمري هذا يومي هذا، فقالت الجن: كنا نصيب في سليمان رحمة النبوة، فيسأل عما نريد فإذا هو تزوج بلقيس أتتنا فطنة الجن وحيل الأنس وكيد النساء فلم نصب راحة فكيف إذا اجتمعت مع أعوانها من الجن والأنس أهل القسوة والتطاول على من دونهم لم نأمن على أنفسنا الهلكة يحجب عنا كل خير وينزل بنا كل سوء وشر. تعالوا فلنزهده فيها فإنه قد ذكر إنه يريد يتزوجها، فقال لهم عفريت من الجن يقال له زوبعة: أنا أكفيكم سليمان. فآتاه فقال له: يا نبي الله بلغني أنك تريد تزويج بلقيس وأمها من الجن ولم تلد جنية من أنثى قط ولداً إلا كان رجلاه مثل حافر الحمار وساقه أجمان صلب القسوة حاد النفس حار الجسم، قال سليمان: فكيف لي أن أنظر إلى ذلك منها واعلم من غير أن تعلم ما أريد به منها؟ قال له زوبعة: أنا أكفيك ذلك. فصنع زوبعة لسليمان مجلساً كمن قوارير وجعل أرض المجلس لجة وسرح فيها السمك، ثم جعل فوق ذلك صرحاً ممرداً من قوارير، ثم قال له: أرسل إليها فلتدخل عليك فإنك ترى الذي تريد. فبعث إليها وهو على كرسيه في البيت مجلس غيره، فلما رأت الماء والسمك تجول ضربت
ببصرها لتنظر مكاناً تجلس فيه فلم تجد، وحسبته لجة، فكشفت عن ساقيها لتخوض الماء فلما رآها سليمان ونظر إلى ساقيها عليهما شعر كثير أسود على بياض ساقيها، قال لها سليمان: لا تكشفي عن ساقيك إنه صرح ممرد من قوارير. فنظرت فإذا

(1/171)


ملكها ليس هو شيء عند ملك سليمان وأيقنت أنها آية من عند الله ليس من تملك المخلوقين فقالت: يا نبي الله ظهر الحق وذهب الباطل، ثم قالت {رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين}. فلما نظر سليمان إلى شعر ساقيها ورأى جسمها أحسن جسم صرف وجهه عن ساقيها للشعر الذي رأى، فعلمت بلقيس إنه إنما صرف بصره ووجه للشعر الذي رأى قالت: يا نبي الله إن الرمانة لا يدري ما هي حتى تذاق. قال سليمان: ما لا يحلو على العين لا يحلو على الفم، ثم تلوم سليمان أمره في بلقيس شهراً حتى أنزل الله عليه براءتها من ريب الجاهلية، فلما عزم سليمان على تزويجها، قال له رجل صالح من الجن - كان يجب ما وافق سليمان: يا نبي الله هل كرهت منها إلا الشعر؟ قال: بلى، قال: إني سأتركها لك مثل الفضة من غير عيب، قال له: افعل. فصنع لها النورة وبعث بها إليها واتخذ لها الحمام - قال بعض أهل العلم: كانت أول نورة عملها مخلوق وأول حمام صنع ذلك الجني وصنع لها ذلك الجني صرحين ممردين وضروب الصناعات - وتزوجها سليمان فأعجب بها وبعقلها وتدبيرها بحسن رأيها فولدت له داود ورحبعم فأما داود فمات في حياة سليمان أبيه وبقي رحبعم بعد سليمان وسرح بلقيس على ملكها ونزلت بمأرب، فكان يأتيها سليمان في كل شهر مرة فيقيم عندها سبعاً ثم يسر في الأرض، وكان يعينها بالشياطين يعملون لها. فعامة صناعات أهل اليمن من قبل الشياطين وافترقت عنهم في الناس شرقاً وغرباً.
وان سليمان أمر الريح فسارت به إلى الأحقاف ليزور قبر هود النبي صلى الله
عليه وسلم، فسار حتى نزل في الأحقاف ودخل إلى قبر هود ورآه ثم انصرف ومر على البحر حتى بلغ عدن.

(1/172)


قال أبو محمد: لما بلغ سليمان إلى عجز الأحقاف أمر الريح فأمسكت، ثم قال: وأشار بيده هناك ولي الله حنظلة بن صفوان صدق وكذبوه فنجا وهلكوا وإلى الله المصير.
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام عن أبيه عن أبي صالح عن ابن عباس قال: ذكرت أحاديث القبور في مجلس فيه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فتشعبت بنا فيها فنون كثيرة فلن يبق منا أحد إلا حدث حديثاً، فأقبل رجل من جهينة يسمى جفينة، فلما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (وعند جفينة الخبر اليقين) ثم قال صلى الله عليه وآله وسلم: قد أتى من يحدث فيحسن. فلما سلم ثم جلس ثم قال: أفيكم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قلنا له: هذا رسول الله، فقام إليه مسرعاً فقبل يده فنفضها عنه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ثم قال: إن هذا حمقة من حمقات الأعاجم كانوا يستطيلون على الناس بتجبرهم، فإذا جلسوا في مجالسهم فدخل عليهم من هو دونهم تملقهم بهذا يستجلب رأفتهم وإن تحية الإسلام المصافحة فقال: يا رسول الله أني أتيتك من ظهراني قوم جربتهم فقست قلوبهم ومرنت على التكذيب جلودهم وإني أحببت الإسلام وأتيتك فيه راغباً فاشرح لي إعلامه وادللني على فرائضه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: يا بن عباس علمه من ذلك ما يفقهه. فمكث أياماً فتعلم السنة وقرأ سوراً من القرآن وحسن فقهه. وإن الأيام جمعتنا وإياه في مجلس كما كنا أول مرة فأعدنا ما كنا فيه من أحاديث القبور، فقال جفينة: حدثني أبو قنبرة بن الغسان عن أشياخه قالوا: نزلت بنا جحره

(1/173)


أزمة سنة شديدة أكل الناس خيلهم، فلما أكلوا خيلهم مطيهم فكانت الذخائر التي لا يفضي إليها إلا في الجهد الشديد، فلما
أفنوها تتبعوا خشاش الأرض من الحرشة وأولادها من شدة الأزل فخرجت جماعة من الحي في طلب النبات فاشرفوا على هجل ذي نبات جم، فلما توسطوا ساحته رأوا غيراناً متقابلة تأوي إليها السباع وجن عليهم الليل في بعض ما كانوا يطلبون فأووا إلى غار منها وهم لا يعلمون البلد الذي هم فيه، فإذا فيه أولاد سبع. قال: فحدثني رجل منهم يقال له مالك قال: فرأيت في الغار أشبالاً حين شدت قال فخرجنا هاربين قال: فدخلنا وهدة من وهاد الأرض بعدما تباعدنا من ذلك الموضع فأصبنا على باب الوهدة حجراً مطبقاً فاعتلونا عليه فقلعناه فإذا رجل عليه جبة صوف في يده خاتم عليه مكتوب: أنا حنظلة بن صفوان نبي أهل الرس، رسول الله وعند رأسه صحيفة نحاس مكتوب فيها بعثني الله إلى عريب وهمدان والعرب من اليمن بشيراً ونذيراً فكذبوني وقتلوني. قال: فأعادوا عليه الحجر كما كان والصخرة في مكانها كما كانت.
عن هشام عن أبي يحيى السجستاني عن مرة بن عمر الأيلي عن الاصبغ بن نباتة قال: أنا لجلوس ذات يوم عند علي بن أبي طالب - رضي الله عنه - في خلافة أبي بكر إذ اقبل رجل من حضر موت لم أر قط أطول منه ولا أكره وجهاً، فاستشرفه الناس وراعهم منظره وأقبل حتى وقف فسلم وحيا ثم جلس فكان كالقائم فكلم أدنى القوم إليه مجلساً وقال: من عميدكم؟ فأشاروا إلى علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - وقالوا: هذا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وعالم الناس والمأخوذ عنه. فنظر إليه

(1/174)


علي فقال. أجلس أيها الرجل. فقال: أنا جالس أيها الهادي فقال له علي: من حضر موت أنت؟ قال: نعم. ثم قام إليه الحضرمي فقال:
أسمع كلامي هداك الله من هادي ... وأفرج بعلمك عن ذي لوعة صادي
جاز التنائف من وادي السكاك إلى ... ذات الاماحل من بطحاء أجياد
تلفه الدمنة البوغاء معتمداً ... إلى السداد وتعليم بإرشاد
سمعت بالدين دين الحق جاء به ... محمد وهو قرم الحضر والبادي
فجئت متنقلاً من دين طاغية ... ومن عبدة أوثان وأنداد
ومن ذبائح أعياد مضللة ... نسيكها خائب ذو لوئة عادي
فادلل على القصد وأجل ريب عن كبدي ... بسرعة ذات إيضاح ورشاد
والمم بفضل هديت اليوم من شعثي ... ثم أهدني أنك المشور في النادي
إن الهداية والإيمان شافية ... عن العمى والتقى من خير ازواد
وليس يفرج ريب الكفر عن أحد ... أضله الجهل إلا حية الوادي
قال: فأعجب علياً شعره وقال له علي: لله درك ما أرصن شعرك! قال: فسر به وشرح له الإسلام، فأسلم على يديه وحسن إسلامه، ثم أن علياً سأله فقال له: أعالم أنت بحضر موت؟ قال: إذا جهلتها ما أعلم غيرها. قال: أتعرف موضع الأحقاف؟ قال له: كأنك تسأل عن قبر هود النبي صلى الله عليه وسلم؟ قال له علي: لله درك ما أخطأت. قال: نعم، خرجت في عنفوان شبابي في غلمة من الحي ونحن نريد أن نأتي قبيره لبعد صوته فينا وكثرة ذكره فسرنا في بلاد الأحقاف أياماً وفينا رجل

(1/175)


عرف الموضع حتى انتهينا إلى كثيب أحمر فيه كهوف مشرفة فانتهينا إلى كهف منها فدخلناه. فأمعنا فيه طويلاً، فانتهينا إلى حجرين قد طبق أحدهما على الآخر وفيه خلل يدخل منه النحيف متجانفاً، فدخلته فرأيت رجلاً على سريره فإذا مسست شيئاً من جسده أصبته رطباً لم يتغير، ورأيت عند رأسه كتاباً بالمسند: أنا هود النبي آمنت بالله وأشفقت على عاد بكفرها وما كان لأمر الله مرد فقال لنا علي - رضي الله عنه -: كذلك سمعت من أبي القاسم صلى الله عليه وآله وسلم.
قال أبو محمد: لما نزل سليمان عدن وسار من اليمن بعتاق الخيل من بقايا خيل
الصعب ذي القرنين، أخرجت إليه الخيل من البحر الخيل الخضر فأعجبته وفتن بها فطفق مسحا بالسوق والأعناق فأنسته التسبيح والتهليل. وقال لعض أهل العلم: بل نسي صلاة العصر، ذم ذكر الصلاة والتسبيح فقال: ليبلوني أأشكر أم أكفر، فأمر بالخيل الخضر فعقرت فزعموا أنها ردت إلى البحر. ثم سارت به الريح حتى بلغ تدمر وكان لخاتمه نور يقوم بين السماء والأرض فيزدحم عليه الطير في الهواء على رأس سليمان. ثم أن خاتم سليمان سقط من يده فذهبت الطير وسكنت الريح لما أراد الله أن يرى سليمان ومن معه من المؤمنين أن الدنيا وما فيها إلى زوال، ثم سلب الله سليمان ملكه ليبتليه، فلما سلب ملكه علم إنه لما نسي من ذكر الله فخرج هارباً يجول في الفيافي ويتضرع إلى الله وإن شيطاناً من الشياطين كان ساحراً كتب سحراً وجعله تحت كرسي سليمان وسحر به آصف كاتب سليمان وتمثل في صفة سليمان، وصعد على كرسيه ودخل على نساء سليمان وآزره آصف وهو لا يعلم إنه الشيطان، فلما نظر آصف إلى فعل ذلك

(1/176)


الشيطان أنكره وقال: أبطل جوره على عدله الأول، ثم دخل على نساء سليمان فسألهن عنه فقلن له: إنه يأتينا في المحيض وإذا طهرنا لم يقربنا! وقال: أنكرت لما رأيت من عدله وأظهره من جوره، ثم بث ذلك الشيطان السحر في الناس فقال: ليس هو سليمان. ورد الله على سليمان ملكه - وقال بعض أهل العلم: إن الله تبارك وتعالى لا يمكن الشيطان من هذا فيخلو بنساء النبيين - وقال قوم ذلك إن الله ابتلاء لخلقه والقتل أكبر من النساء وقد قتل الكافرون النبيين. قال الله {ويقتلون النبيين بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون}، فلما رد الله على سليمان ملكه بقدرته وأتى فأصاب الخاتم فرفرف الطير على رأسه وعصفت الرياح وطافت به وهو يسبح وسبحت الطير والجبال بتسبيحه ودخل قصره وقتل الشيطان. ثم لم يمكث سليمان بعد ما رد الله عليه ملكه ونعمته حتى مات صلى الله عليه وسلم، فكان عمره بعدما تزوج
بلقيس أربعين سنة، فلما مات صلى الله عليه وسلم قام بجران القلمس بن عمرو بن قطن بن همدان ابن سار بن زيد بن وائل بن عبد شمس بن وائل بن حمير بن سبأ - والقلمس أفعى نجران - وكان داعياً من دعاة سليمان بنجران آمن وحسن إيمانه فقام خطيباً في أهل نجران مؤمنو نجران فقال: أيها الناس إن الدهر أنذركم والموت أدبكم فهل تجدون من ذلك مجيراً وعنه محيداً إن الله لم يشرك أحداً في ملكه خلقهم للفناء واستأثر بعدهم بالبقاء. جعل الموت منهلاً ليس عنه مزحل، إن سليمان نبي الله مات أعطاه الله ما لم يعط أحداً فلم يك بذلك يدفع المقدور ولا يصرف المحذور، ولما قرب الأجل اضمحل الأمل ونزل الموت عليه بالفوت، فهو لكم عارية وأنتم له تراث

(1/177)


فأضحى لكم نوراً وكنتم له مناراً، فمن استمسك فقد أصاب ومن الحد فقد أخطأ. دعا فأصاب ودعي فأجاب، غاب وشهدتم فأدوا ما سمعتم وعلمتم، أيها الناس هيهات والله هيهات أصبحتم بين طبقتين من الأموات تسابقون الساعات وتنتظرون الميقات خلقتم قبل الوعد والوعيد وتقدمتم النبأ وجاءكم الخطاب وغاب عنكم الثواب وإلى الله المآب - خلقتم قبل كل شيء ولكم نفع كل شيء وعليكم ضر كل شيء فعليكم الشكر ولكم النصر، أيها الناس سمعتم وأبصرتم والسمع والبصر للفؤاد، فمن سمع وأبصر نجا ومن لها هفا وعهد الدهر لكم هباء وثأركم جبار ولتعودن أخباراً، ثم من بعد من أين إلى أين، ثم أنشأ يقول:
ألم يوجلك ذا الخبر اليقين ... بذاك وإن نأى وقت وحين
ألم تر كلما ولى وأودى ... قرانا لا يعود ولا يكون
وما دنياك إلا حلم يوم ... تنبه كي تدان بما تدين
فإن الزاد محفوظ إذا ما ... تحمل عن مغانيه القطين
ألم تسمع بذي القرنين لما ... تمكن عنده الملك المكين
وكان الصعب في الدنيا بضغو ... وجد الدهر فيه له قرين
تقضي طول مدته فأخنى ... عليه بصرفه دهر خؤون
تعدت فيه أسباب الليالي ... وأخرج من أمانته الأمين
فجاد بروحه لما دعته ... دواعي الحين وهو بها ضنين
لقد جارى الخلود إلى مداه ... وبان فأنجم الأفلاك جون
ألم تر صاحب الملكين أمسى ... تحزمه عن الدنيا المنون

(1/178)


وكان عليه للأيام دين ... وقد قضيت عن المرء الديون
رفاهة ملكه يوماً سواء ... عليه الغث فيه والسمين
على الكرسي معتمداً عليه ... يرف الخد منه والجبين
فخانته العصا من بعد ما قد ... لمما به حين وحين
فخانته فخر لها وخرت ... وصرح عندها الخبر اليقين
يسير بشر جع لا وصل فيه ... تحار الشمس فيه والعيون
وتضحى الجن عاكفة عليه ... كما عكفت على الأسد العرين
فسخرت الجبال له جميعاً ... عليها الطير عاكفة عزين
فدان له الخلائق ثم قسرا ... ودان الجن فيما قد تدين
بنوا صرحاً له دون الثريا ... وأجرى تحته الماء المعين
تراه أملساً لا عيب فيه ... يحار بصرحه الذهن الذهين
وقد ملك الملوك وكل شيء ... تدين له السهولة والحزون
فأفنى ملكه كر الليلي ... وخون الدهر فيما قد يخون
وكل أخي مكاثره وعز ... على ريب الحوادث مستكين
كذاك الدهر يفنى كل شيء ... فيضعف بعد قوته المتين
قال أبو محمد: لما مات سليمان بن داود صلى الله عليه وسلم، ولي أمره في الخلق ابنه - وهو وصيه وخليفته - رحبعم بن سليمان - وهو بن بلقيس -.