التيجَان في مُلوك حِمْيَرْ

ملك أبرهة
قال أبو محمد عبد الملك بن هشام: لما مات ذو القرنين الصعب بن ذي مراثد، ولي الملك ابنه أبرهة ذو المنار سماه الصعب على اسم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم، وإنما سمي أبرهة باللسان الحبشي وتفسيره وجه أبيض. قال أبو محمد: كان أبرهة أبيض وسيماً جميلاً، فلما دفن أبرهة أباه ذا القرنين الصعب بن ذي مراثد بالحنو حنوقراقر في رمل العراق ورجع بعساكره، ظهرت لهم الزمردة بعد موت ذي القرنين وهي صنف من الحيات تسكن الرمل قصيرة لها رأسان في طرفيها وما أكلت بهذا الرأس ألقته برأسها الآخر وهي لا تظهر إلا في النهار وتعمى في الليل لأن جميع حيوان الأرض لا يستطيعها يسري سمها في الأبدان كسير البرق في الهواء تفر منها الثعابين والشجعان والأفاعي، فلما كثرت على عساكره الزمردة ذات الرأسين أضرت بعساكره ضراً شديداً، فكان يعرس نهاراً ويسير ليلاً فكانت تضل العساكر في الليل بعضها عن بعض فأمرهم أن يوقدوا النيران على رؤوس الجبال ليهتدوا بها. وهو أول منار جعل في الدنيا

(1/136)


فسمي أبرهة ذا المنار، فسار أبرهة حتى نزل بالمشلل، وكان أجمل الناس وجهاً فرأته امرأة من الجن فعشقته فهجمت عليه ليلاً إلى فراشه. قال له: أيها الملك إني عشقتك وليس لي منك بد وأنا حنيفية على دين إبراهيم: وأنا لا أرضى بالزنا ولا أدين به فاختر من أربع خلال أي خصال واحدة إن شئت قتلتك وإن شئت أعميتك
وإن شئت أبرصتك وإلا فتزوجني. قال لها العاقل إذا خير اختار أنا أختار منك العافية يا عيوف فذهبت مثلا فأتته بنفر من الجن فيهم الرابع أبو هافز وجه إياها قال له الرابع: أيها الملك منزلي وادي الجن بالمشلل من أرض جو وهي أرض اليمامة اليوم وإن الأنس ينزلون وادي الجن من أرض الجو فتتعرى نساءهن إلى رجالنا ويتعرى رجالهم إلى نسائنا. قال له أبرهة: أنا أبدر إليهم وأمنعهم من أن ينزلوا بوادي الجن وهم لا ينزلونه ما عشت فمن نزله أحرقوه بالنار، فكان حرماً عند العرب حتى أتى رهط من بني حلوان بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير فنزلوه فبينما هم نائمون في جوف الليل إذ سمعوا دوياً وهينمة ناداهم مناد: إنما هذا محرم الرابع وحمى أبرهة وأتتهم نار عظيمة فأكلت أموالهم وأكلت أناساً وولوا هاربين فسمي ذلك الموضع الحرقانة فهو اسمه إلى اليوم. حدثنا أبو مالك عن زياد البكائي عن محمد بن إسحاق المطلبي: أن عمر بن الخطاب دخل مسجد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ذات يوم فوقف بين يديه رجل كالنخلة السحوق فقال له عمر: من أنت؟ قاتل له الرجل: أنا حارق، قال له عمر: ابن من؟ قال له: ابن شهاب. قال له عمر: وأين مسكنك؟

(1/137)


قال له الرجل: بالحرقانة حرقانة الجو، فقال له عمر: ويحك أدرك أهلك فقد احترقوا. قال: فرجع الرجل إلى الحرقانة فأصاب قومه قد أقبلت عليهم نار ليلاً فاحترقوا، وكان عمر أعيف العرب في الجهالية وأزجرها ولقد حكم بالقيافة.
قال أبو محمد: ولن العيوف ابنة الرابع ولدت لأبرهة ولدين ذا الأشرار وعمراً ذا الاذعار، وفي العيوف يقول طرفة بن العبد بعد الزمان ويقال إنه للرابع الجني حيث يقول:
لابنة الجني بالجو طلل ... حله الرابع حيناً وارتحل
حرم الجن على الإنس فمن ... شاء بعد الملك والرابع الحل
حل منه ذو منار أهله ... فتولى الجمع عنه واحتمل
كل ما حل عليه راشد ... أوقدت نار عليه فاشتعل
كم به من ذات دل حسن ... وقوام ووسام ومقل
وجواد وهمام حازم ... عاقه عنهم زماناً ونزل
قال أبو محمد: ثم أن إبرهة ذا المنار جمع الجموع العظيمة وسار يريد المغرب أرض بابليون فأرسل إليه حلوان امرئ القيس بن عملاق بن عمرو بن امرئ القيس بن عمرو بن بابليون بن سبأ بن يشجب بن يعرب ابن قحطان بن هود النبي صلى الله عليه وسلم - وعمرو بن بابليون هو فرعون إبراهيم بمصر - فسار أبرهة يريد حلوان بن امرئ القيس إلى مصر أرض بابليون، وقد رجعا إليه الحبشة وبنو ماريع بن كنعان، فسار أبرهة بجموع عظيمة حتى بلغ مأرب ثم سار حتى بلغ الأحقاف حتى بلغ نهر الحفيف. فأصابوا بنهر الحفيف نصل سهم قد رشق في شق من صخر في صخرة منيعة وقد عفن القدح، فذهب وبقي النصل فأخذوه فوجدوا بجانب منه مكتوب

(1/138)


بخط من ذهب:
لقلبك من بين الخليط سواد ... وحلت بموماة العراق سعاد
نأى النوم عن طرف المشوق فهل له ... بطرف الذي يهوى عليه سهاد
ألا هل إلى أبيات سمح بذي اللوى ... لوى الرمل يوماً فاعلمن معاد
بلاد بها كنا وكنا نحبها ... إذ الناس ناس والبلاد بلاد
وفي الجانب الآخر مكتوب:
ألا حبذا العيش السنين التي خلت ... وأيامنا دهر الملوك المقاول
خرجنا لنبني الملك للناس بعدنا ... ونتبع آثار القرون الأوائل
على عهد ذي القرنين والمرء حازم ... يموت ويخلى للأمور النوازل
رأى سبباً والله بالغيب اعلم ... فقام ولم يرقب مقالة قائل
فقرءوا تاريخ السهم فأصابوا مكتوباً فيه بالمسند لذلك السهم ألف عام مذ سقط في ذلك المكان، فسار أبرهة بجموعه حتى دخل مكة فنذر وأقام حجه، ثم أخذ على الشام يريد أرض بابليون مصر وحمل ابنه العبد في السفن إلى أرض الحبشة فبلغ ذلك الحبشة فولوا منهزمين ولحق أبرهة بحلوان فتبع الحبشة على النيل وأمر حلوان أن يتبع بني ماريع بن كنعان إلى البحر المحيط من أرض المغرب، وسار أبرهة في طلب الحبشة وإن العبد بن أبرهة مضى على وجهه في أرض الحبشة فقتل وسبى حتى تضلل ولم يدر أين يسير وغرق في المخالب، فكاد يهلك ويهلك من معه، وكان العبد بن العيوف الجنية، فطلع على جبل من جبال أرض الحبشة في الليل، فقال: يا معاشر الجن أنا العبد بن العيوف بنت الرابع فأعطوني منكم دليلاً كيلا أضل فسمع

(1/139)


صوتاً وهو يقول:
خذ الجانب الغربي مسلماً ... على النيل تحدوك المناهل يا عبد
وخذ لبنى حام من الأمر صعبه ... إذا ما بدت للناس أوجهها الربد
وعند حراج الأمر لو وبعده ... مقالة ليت لا يهولنك البعد
فانك تلقى أمة ليس مثلها ... على الأرض أقواماً جدودهم مكد
يكون مجال عنده الموت نازل ... ويدخل فيه النحس إذ ذاك والسعد
فرجع إلى الموضع الذي أمره فأصاب النيل، فسار عليه شهراً حتى فرغ النيل وانقطع عنه وذهب عنه أشهراً حتى لقي قوماً سوداً قصاراً بيض العيون ليست لهم أعناق وجوههم على الصدور، فقاتلهم فغلب عليهم وأسر منهم أمماً وأصاب مالاً كثيراً وأصاب إذ جاءهم الذهب يدخر كما يدخر البر فغنم مالاً كثيراً وسبى أمماً من الحبشة، وقدم اليمن وقد عبر بحر النجاة ونزل بحرم مكة فجعل العرب يختلفون إلى الأسرى من الحبشة ويتعجبون من خلق أمم مختلفة، وإن أبرهة ذا المنار قفل من أرض الحبشة راجعاً، فأخذ على ساحل البحر حتى وصل إلى
أرض بابليون، ثم أخذ على الشام وبلغ الدرب فلقيته هدايا الروم وأهل أرمينية، ثم سار حتى بلغ مكة فلقيه ابنه العبد بسبايا الحبشة. فرأى قوماً قصاراً فأمر بهم أن يمضي بهم إلى أرض البحرين وعمان يخدمون المراكب فيزعمون أن النوتيين الذين، ثم كانوا بعمان والبحرين من بقايا سبايا الحبشة الذين سبى العبد بن أبرهة، ثم

(1/140)


رجع أبرهة إلى غمدان وهو دار مملكة التبابعة، فكان ملك أبرهة ثلاثمائة سنة وستين عاماً، ثم مات فرثاه المحموم بن زيد بن غالب بن السياب بن عمرو بن ذي أنس بن قدم بن الصوأر بن سكسك فقال:
أزفت خطوبك يا ابن هاتك عرشه ... لم تدر حتى صبحتك بذالكا
عاصيت ذا إذ لم يكن لك عاجل ... وأطعت ذاك إلى مدى إذ لا لكا
فلقد بلغت من البلاد مبالغاً ... يا ذا المنار وضعضعت لجلالكا
قدت الجنود إلى الجنود سريعة ... وحملت منها على السفين كذالكا
سرت الجيوش فأمعنت في سيرها ... ما تهتدي إلا بنور جمالكا
حتى وطئت جميع حيث تغلبت ... أسباط حام بهلالكا
أوغلت عبداً فاستقر به النوى ... حتى تشرد حالهم عن حالكا
فسقيتهم سجلاً بكل مهند ... حتى أبرت حرامهم بحلالكا
فآتاك بالنسناس خلق وجوههم ... فوق الصدور وليس مثل رجالكا
زالت لك الشم الشوامخ هيبة ... لما قصدت إلى الوغى بنزالكا
قالت لك الأرضون سمعاً وطاعة ... لم تستطع أن تصطبر لقتالكا
قد قصرت همم الزمان عن التي ... كانت لمن جر الكتائب سالكا
أنا هديت وأنت هاد للتي ... لما سعيت لمنتهى آجالكا
من ذا يجاري من سموك خطة ... هيهات من يهدي لحسن فعالكا
خضع الملوك لوجه ملكك هيبة ... لم ينج من حتم المنية ذالكا

ملك العبد بن أبرهة
قال أبو محمد عبد الملك: عن محمد بن السائب الكلبي: لما مات أبرهة

(1/141)


ذو المنار ولي الملك بعده ابنه العبد بن أبرهة وهو ذو الأشرار، وإنما له ذو الأشرار لأن الحبشة هم الأشرار وكان العبد هو الذي غلب على جميع أرض الحبشة وسباهم أمماً وسقاهم في الأغلال إلى مكة، وهو أول من رأت العرب في زمانه داء الكلب. وداء الكلب داء يعرو الدماغ فيسكن من حركته فلا يبرأ حتى يسقى الخمر بدم من دماء بني مذحج، قال عبد الله ابن حزم الأزدي:
وجوه بني زبيد إن تجلت ... إلى الأبصار تخطف كالبروق
إذا نطقوا يزينوه لعدل ... وإن صمتوا على علم حقيق
وإن فخروا آتوك بعز بأس ... وبالأفعال والحسب العتيق
دماؤهم على الأشفار أشهى ... إلى الكلبي من المسك الفتيق
وقال حصين بن الحمام المري لبني العنقاء حين أعطاهم ابنه ديا رهينة فأبوا:
خذوا ديا بما أحدثت فيكم ... فليس بكم على دأب غلاء
فلستم من بني عمرو بن عمرو ... ملوك والملوك لهم نماء
ولا العنقاء ثعلبة بن عمرو دماء القوم للكلبي شفاء
زعم إنه من بني زبيد وذلك أن بني مرة بن سعد بن ذبيان يزعمون أنهم من بني زبيد وأما عبد الله بن حزم في قوله:
دماؤهم على الأشفار أشهى ... إلى الكلبي من المسك الفتيق
أراد أن دماءهم أطيب من المسك الذي يبري الدماغ عن داء الكلب وذلك أن النتن إذا خامر الدماغ أفسد طبيعته وأضعف قواه.

(1/142)


قال عبد الملك: وولي أمر الملك العبد بن أبرهة بن الصعب فغزا الملوك ودانت له العرب والعجم وخضعت له الملوك فأقام في الملك ستين عاماً، ثم سقط من الفالج،
فلم يغز بنفسه وكان يرسل الجيوش فدخل عليه الوهن في ملكه، ثم عدا عليه الفالج فمات وكان ملكه ستين عاماً.

ملك عمرو بن أبرهة
وولي الملك أخوه عمرو بن أبرهة وهو عمرو ذو الاذعار وأمه العيوف بنت الرابع الجنية، وقد ابى من هذا عامة الناس وزعموا إنه لا يظهر الجن للأنس وأنه لا يتناسل جنسان مختلفان ولا ينسل أنسي من جنية ولا جنى من أنسية وإن هذا باطل وأتى بهذا الحديث علماء والله اعلم أي ذلك كان.
قال أبو محمد: لما ولي عمرو ذو الاذعار الملك قهر الناس بالملك وذعرهم بالجور فلا يرفق لقريب ولا بعيد وأسرف على العرب بالسلطان وشرد الناس ووسم من سخط عليه بالنار من أبناء الملوك وبدل على الناس السيرة التي كانوا عليها يعرفون. فذعر الناس من خوفه ذعراً شديداً وبه سمي عمرو ذو الاذعار وأنه كان يزني ببنات الملوك من حمير، فيؤتى بهن أبكاراً وغير أبكار فكن يشربن معه الخمر وكان ينادمهن على الخمر ويصيب منهن حاجته، فلما فعل ذلك بحمير كرهوا أيامه وأبغضوا دولته وكان شرحبيل بن عمرو بن غالب بن السياب بن عمرو بن زيد بن سكسك بن وائل بن حمير بن سبأ نازلاً بمأرب في قصر بينون ولم يكن بني مثله ومثل قصر غمدان وسلحين باليمن، فجمع شرحبيل حمير وقبائل بني قحطان ممن كان بمأرب، ثم قام فيهم خطيباً، فقال: يا بني قحطان

(1/143)


النساء هن الحمى فدون الحمى سفك الدماء هل جزعتم يسمكم بالنار فالنار ولا العار. والصبر صبركم وصبر كفر. فقد صبرتم على ما لا يصبر عليه أحد. أغضبوا الله ولا عراضكم قبل أن تخذلوا ويسلط عليكم النقم وتسلبوا النعم وتلبسوا الذلة فلم كسبتم الأنساب واعتدتم اللامات فتنافست فيكم الأحساب إذ لا تدفعون عن الحريم وتكشفون الضيم. قد شكت الأرحام وضجت إلى الله من الآثام، فلما عزة
وسلامة أو ذلة وندامة وناصر الله منصور أما والله لئن لم تغضبوا لله ولا نفسكم لأضعن سيفي هذا على صدري فأخرجه من ظهري، فالموت عن مثلكم حياة والذهاب عنكم نجاة فقدموه فيكم وملكوه.

ملك شرحبيل
فولى الملك بمأرب شرحبيل بن عمرو بن غالب فرجع الملك في نجلته، الأولى نجلة يعفر بن سكسك، فجمع القبائل من قحطان وأجابته حمير للذي أراد الله من انقطاع دولة ذي الاذعار، وبلغ خبر شرحبيل بن عمرو إلى عمرو ذي الأذعار فجمع جنوده وزحف إليه وزحف إليه شرحبيل بن عمرو فالتقوا بالعالية فاقتتلوا قتالا شديداً ثم افترقا ومات بينهما خلق كثير. ثم رجع عمرو ذو الاذعار إلى غمدان، ورجع شرحبيل إلى بينون فأقام شرحبيل في الملك سنة ثم مات.