الفتنة ووقعة الجمل
الفتنة: مقتل عثمان
بن عفان
نفي المخالفين من أهل الكوفة
...
يقول سيف بن عمر:
كان سعيد بن العاص [والي عثمان على الكوفة] لا يغشاه إلا نازلة أهل
الكوفة ووجوه أهل الأيام وأهل القادسية وقراء أهل البصرة1 والمتمستون2
وكان هؤلاء دخلته إذا خلا, فأما إذا جلس للناس فإنه يدخل عليه كل أحد
فجلس للناس يوما فدخلوا عليه فينما هم جلوس يتحدثون قال خنيس3 بن فلان
ما أجود طلحة بن عبيد الله فقال: سعيد
__________
1 - في ابن الكثير " الكوفة ".
2 - السمت: هيئة أهل الخير (لسان العرب) .
3 - هو خنيس بن حبيش.
(1/35)
ابن العاص: أن من له مثل النشاستج1 لحقيق
أن يكون جوادا والله لو أن لي مثله لأعاشكم الله عيشا رغدا فقال: عبد
الرحمن بن خنيس - وهو حدث -: والله لوددت أن هذا الملطاط لك - يعني ما
كان لآل كسرى على جانب الفرات الذي يلي الكوفة – قالوا: فض الله فاك
والله لقد هممنا بك فقال:: خنيس غلام فلا تجاوزه2 فقال: وا: يتمنى له
سوادنا! قال: ويتمنى لكم أضعافه قالوا: لا يتمنى لنا ولا له قال: ما
هذا بكم قالوا: أنت والله أمرته بها فثار إليه الأشتر وإبن ذي الحبكة
وجندب وصعصعة وإبن الكواء وكميل بن زياد وعمير بن ضابئ فأخذوه فذهب
أبوه ليمنع منه فضربوهما حتى غشي عليهما وجعل سعيد يناشدهم ويأبون حتى
قضوا منهما وطرا فسمعت بذلك بنوا أسد فجاءوا وفيهم طليحة فأحاطوا
بالقصر وركبت القبائل فعاذوا بسعيد وقالوا: أفلتنا وخلصنا.
فخرج سعيد إلى الناس فقال: ايها الناس قوم تنازعوا وتهاووا وقد رزق
الله العافية ثم قعدوا وعادوا في حديثهم وتراجعوا فساءهم وردهم وأفاق
الرجلان فقال: أبكما حياة؟ قالا:: قتلتنا غاشيتك قال: لا يغشوني والله
أبدا فاحفظا علي ألسنتكما ولا تجرئا علي الناس ففعلا ولما انقطع رجاء
أولئك النفر من ذلك قعدوا في بيوتهم وأقبلوا على الإذاعة حتى لامه أهل
الكوفة في أمرهم فقال: هذا أميركم وقد نهاني أن أحرك شيئا فمن أراد
منكم أن يحرك شيئا فليحركه.
فكتب أشراف أهل الكوفة وصلحاؤهم إلى عثمان في إخراجهم فكتب: إذا اجتمع
ملؤكم على ذلك فألحقوهم بمعاوية فأخرجوهم فذلوا وانقادوا حتى
__________
1 - النشاستج: ضيعة بالكوفة كانت لطلحة بن عبيد الله التيمي, وكانت
عظيمة الدخل اشتراها من أهل الكوفة المقيمين بالحجاز بما كان له بخيبر,
وعمرها, فعظم دخلها (ياقوت8 – 288) .
22 - في نسخة: " تحاوروه " ط4 – 318.
(1/36)
أتوه - وهم بضعة عشر - فكتبوا بذلك إلى
عثمان وكتب عثمان إلى معاوية: إن أهل الكوفة قد أخرجوا إليك نفرا خلقوا
للفتنة فرعهم وقم عليهم فإن آنست منهم رشدا فأقبل منهم وإن أعيوك
فارددهم عليهم فلما قدموا على معاوية رحب بهم وأنزلهم كنيسة تسمى مريم
وأجرى عليهم بأمر عثمان ما كان يجري عليهم بالعراق وجعل لا يزال يتغدى
ويتعشى معهم فقال لهم يوما: إنكم قوم من العرب لكم أسنان وألسنة وقد
أدركتم بالإسلام شرفا وغلبتم الأمم وحويتم مراتبهم ومواريثهم وقد بلغني
أنكم نقمتم قريشا وإن قريشا لو لم تكن عدتم أذلة كما كنتم إن أئمتكم
لكم إلى اليوم جنة1 فلا تشذوا عن جنتكم وإن أئمتكم اليوم يصبرون لكم
على الجور ويحتملون منكم المؤونة والله لتنتهن أو ليبتليكم الله بمن
يسومكم ثم لا يحمدكم على الصبر ثم تكونون شركاء لهم فيما جررتم على
الرعية في حياتكم وبعد موتكم.
فقال رجل من القوم: أما ما ذكرت من قريش فإنها لم تكن أكثر العرب ولا
أمنعها في الجاهلية فتخوفنا وأما ما ذكرت من الجنة فإن الجنة إذا
اخترقت خلص إلينا.
فقال معاوية: عرفتكم الآن علمت أن الذي أغراكم على هذا قلة العقول وأنت
خطيب القوم ولا أرى لك عقلا أعظم عليك امر الإسلام وأذكرك به وتذكرني
الجاهلية وقد وعظتك وتزعم لما يجنك أنه يخترق ولا ينسب ما يخترق إلى
الجنة أخزى الله أقواما أعظموا أمركم ورفعوا إلى خليفتكم إفقهوا - ولا
أظنكم تفقهون - أن قريشا لم تعز في جاهلية ولا إسلام إلا بالله عز وجل
لم تكن بأكثر العرب ولا أشدهم ولكنهم كانوا أكرمهم أحسابا وأمحضهم
أنسابا وأعظمهم أخطارا وأكملهم مروءة ولم
__________
1 - الجنة, بضم الجيم: الوقاية. (أقرب الموارد) .
(1/37)
يمتنعوا في الجاهلية والناس يأكل بعضهم
بعضا إلا بالله الذي لا يستذل من أعز ولا يوضع من رفع فبوأهم حرما آمنا
يتخطف الناس من حولهم هل تعرفون عربا أو عجما أو سودا أو حمرا إلا قد
أصابه الدهر في بلده وحرمته بدولة1 إلا ما كان من قريش فإنه لم يردهم
أحد من الناس بكيد إلا جعل الله خده الأسفل حتى أراد الله أن يستنقذ من
أكرم واتبع دينه من هوان الدنيا وسوء مرد الآخرة فارتضى لذلك خير خلقه
ثم ارتضى له أصحابا فكان خيارهم قريشا ثم بنى هذا الملك عليهم وجعل هذه
الخلافة فيهم ولا يصلح ذلك إلا عليهم فكان الله يحوطهم في الجاهلية وهم
على كفرهم بالله أفتراه لا يحطوهم وهم على دينه وقد حاطهم في الجاهلية
من الملوك الذين كانوا يدينونكم! أف لك ولأصحابك! ولو أن متكلما غيرك
تكلم ولكنك ابتدأت فأما أنت يا صعصعة فإن قريتك شر قرى عربية أنتنها
نبتا وأعمقها واديا وأعرفها بالشر وألأمها جيرانا لم يسكنها شريف قط
ولا وضيع إلا سب بها وكانت عليه هجنه ثم كانوا أقبح العرب القابا
وألأمه أصهارا نزاع الأمم2 وأنتم جيران الخط وفعلة فارس حتى أصابتكم
دعوة النبي صلى الله عليه وسلم ونكبتك دعوته وأنت نزيع شطير3 في عمان
لم تسكن البحرين فتشركهم في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم فأنت شر
قومك حتى إذا أبرزك الإسلام وخلطك بالناس وحملك على الأمم التي كانت
عليك أقبلت تبغي دين الله عوجا وتنزع إلى اللآمة4 ولا يضع ذلك قريشا5
ولن
__________
1 - دال الزمان دولة: انقلب من حال إلى الحال, وأصابه الدهر بدولة أي
غير حاله إلى أسوا.
2 - نزاع: جمع نازع, والنازع والنزيع: الغريب. (أقرب الموارد) .
3 - الشطير: الغريب ط4 – 320.
4 - اللآمة: من اللؤم.
5 - لا يضع ذلك قريشا: لا يخفض منزلتها.
(1/38)
يضرهم ولن يمنعهم من تأدية ما عليهم إن
الشيطان عنكم غير غافل قد عرفكم بالشر من بين أمتكم فأغرى بكم الناس
وهو صارعكم1 لقد علم أنه لا يستطيع أن يرد بكم قضاء قضاه الله ولا أمرا
اراده الله ولا تدركون بالشر أمرا أبدا إلا فتح الله عليكم شرا منه
وأخزى.
ثم قام وتركهم فتذامروا فتقاصرت إليهم أنفسهم فلما كان بعد ذلك أتاهم
فقال: إني قد أذنت لكم فاذهبوا حيث شئتم لا والله لا ينفع الله بكم
أحدا ولا يضره ولا أنتم برجال منفعة ولا مضرة ولكنكم رجال نكير وبعد
فإن أردتم النجاة فالزموا جماعتكم, وليسعكم ما وسع الدهماء ولا يبطرنكم
الإنعام فإن البطر لا يعتري الخيار إذهبوا حيث شئتم فإني كاتب إلى أمير
المؤمنين فيكم.
فلما خرجوا دعاهم فقال: إني معيد عليكم إن رسول الله صلى الله عليه
وسلم كان معصوما فولاني وأدخلني في أمره ثم استخلف أبو بكر رضي الله
عنه فولاني ثم استخلف عمر فولاني ثم استخلف عثمان فولاني فلم أل لأحد
منهم ولم يولني إلا وهو راض عني وإنما طلب رسول الله صلى الله عليه
وسلم للأعمال أهل الجزاء عن المسلمين والغناء ولم يطلب لها اهل
الإجتهاد والجهل بها والضعف عنها وإن الله ذو سطوات ونقمات2 يمكر بمن
مكر به فلا تعرضوا لأمر وأنتم تعلمون من أنفسكم غير ما تظهرون فإن الله
غير تارككم حتى يختبركم ويبدي للناس سرائركم وقد قال عز وجل: {أَحَسِبَ
النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا
يُفْتَنُونَ} 3.
وكتب معاوية إلى عثمان: إنه قدم علي أقوام ليست لهم عقول ولا أديان,
__________
1 - في نسخة " صادعكم ". ط4 – 220.
2 - نقمات جمع نقمة على وزن كلمة: اسم من الانتقام وهي المكافأه
بالعقوبة (أقرب الموارد) .
3 - سورة العنكبوت, الآية: 1 – 2.
(1/39)
أثقلهم الإسلام وأضجرهم العدل لا يريدون
الله بشيء ولا يتكلمون بحجة إنما همهم الفتنة وأموال أهل الذمة والله
مبتليهم ومختبرهم ثم فاضحهم ومخزيهم وليسوا بالذين ينكون1 احدا إلا مع
غيرهم فانه سعيدا ومن قبله عنهم فإنهم ليسوا لأكثر من سغب أو نكير.
وخرج القوم من دمشق فقالوا: لا ترجعوا إلى الكوفة فإنهم يشمتون بكم
وميلوا بنا إلى الجزيرة ودعوا العراق والشام فأووا إلى الجزيرة وسمع
بهم عبد الرحمن بن خالد بن الوليد - وكان معاوية قد ولاه حمص وولى عامل
الجزيرة حران والرقة - فدعا بهم فقال: يا آلة الشيطان لا مرحبا بكم ولا
أهلا قد رجع الشيطان محسورا وأنتم بعد نشاط خسر الله عبد الرحمن إن لم
يؤدبكم حتى يحسركم يا معشر من لا أدري أعرب أم عجم لكي لا تقولوا لي ما
يبلغني أنكم تقولون لمعاوية أنا ابن خالد بن الوليد أنا ابن من قد
عجمته العاجمات أنا إبن فاقيء الردة والله لئن بلغني يا صعصعة ابن ذل
أن أحدا ممن معي دق أنفك ثم أمصك2 لأطيرن بك طيرة بعيدة المهوى فأقامهم
أشهرا كلما ركب أمشاهم فإذا مر به [أي صعصعة] قال: يا بن الحطيئة3
أعلمت أن من لم يصلحه الخير أصلحه الشر! ما لك لا تقول كما كان يبلغني
انك تقول لسعيد ومعاوية! فيقول ويقولون: نتوب إلى الله أقلنا أقالك
الله فما زالوا به حتى قال تاب الله عليكم.
وسرح الأشتر إلى عثمان وقال لهم: ما شئتم ان شئتم فاخرجوا وان شئتم
فأقيموا وخرج الأشتر فأتى عثمان بالتوبة والندم والنزوع عنه وعن أصحابه
فقال: سلمكم الله وقدم سعيد بن العاص فقال عثمان للأشتر:
__________
1 - ينكون: من نكى العدو: قهره.
2 - أمصك, أي قال له: مص هن (ذكر) أبيك ط4 – 321.
3 - في نسخة "الخطيئة".
(1/40)
أحلل حيث شئت فقال: مع عبد الرحمن بن خالد
وذكر من فضله فقال: ذاك اليكم فرجع إلى عبد الرحمن
[وفي رواية أخرى1] :
لما قدم مسيرة أهل الكوفة على معاوية أنزلهم دارا ثم خلا بهم فقال لهم
وقالوا: له فلما فرغوا قال: لم تؤتوا إلا من الحمق والله ما أرى منطقا
سديدا ولا عذرا مبينا ولا حلما ولا قوة وإنك يا صعصعة لأحمقهم اصنعوا
وقولوا ما شئتم ما لم تدعوا شيئا من أمر الله فإن كل شيء يحتمل لكم إلا
معصيته فأما فيما بيننا وبينكم فأنتم أمراء أنفسكم فرآهم بعد وهم
يشهدون الصلاة ويقفون مع قاص الجماعة فدخل عليهم يوما وبعضهم يقرئ
بعضهم فقال: إن في هذا لخلفا مما قدمتم به علي من النزاع إلى أمر
الجاهلية إذهبوا حيث شئتم واعلمو أنكم إن لزمتم جماعتكم سعدتم بذلك
دونهم وإن لم تلزموها شقيتم بذلك دونهم ولم تضروا أحدا فجزوه خيرا
وأثنوا عليه فقال: يا ابن الكواء أي رجل أنا: قال: بعيد الثرى كثير
المرعى طيب البديهة بعيد الفور الغالب عليك الحلم ركن من أركان الإسلام
سدت بك فرجة مخوفة قال: فأخبرني عن أهل الإحداث من أهل الأمصار فإنك
أعقل أصحابك قال: كاتبتهم وكاتبوني وأنكروني وعرفتهم فأما أهل الإحداث
من أهل المدينة فهم أحرص الأمة على الشر وأعجزه عنه وأما أهل الاحداث
من أهل الكوفة فإنهم أنظر الناس في صغير وأركبه لكبير وأما أهل الاحداث
من أهل البصرة فأنهم يردون جميعا ويصدرون شتى وأما أهل الإحداث من أهل
مصر فهم أوفى الناس بشر وأسرعه ندامة وأما أهل الإحداث من أهل الشام
فأطوع الناس لمرشدهم وأعصاه لمغويهم.
__________
1 - عن أبي حارثة وأبي عثمان ط4 – 328 و 329.
(1/41)
نفي المشاغبين من
أهل البصرة إلى الشام:
لما مضى1 من إمارة ابن عامر [والي عثمان على البصرة] ثلاث سنين بلغه أن
في عبد القيس رجلا نازلا على حكيم بن جبلة وكان حكيم بن جبلة رجلا لصا
إذا قفل الجيوش خنس عنهم فسعى في أرض فارس فيغير على أهل الذمة ويتنكر
لهم ويفسد في الارض ويصيب ما شاء ثم يرجع فشكاه اهل الذمة وأهل القبلة
إلى عثمان فكتب إلى عبد الله بن عامر: أن أحبسه ومن كان مثله لا يخرجن
من البصرة حتى تأنسوا منه رشدا فحبسه فكان لا يستطيع أن يخرج منها فلما
قدم ابن السوداء2 نزل عليه واجتمع نفر إليه فطرح لهم ابن السوداء ولم
يصرح فقبلوا منه واستعظموه وأرسل إليه ابن عامر فسأله: ما أنت؟ فأخبره
أنه رجل من أهل الكتاب رغب في الإسلام ورغب في جوارك فقال: ما يبلغني
ذلك اخرج عني فخرج حتى أتى الكوفة فأخرج منها فاستقر بمصر وجعل يكاتبهم
ويكاتبونه ويختلف الرجال بينهم.
[ثم] إن حمران3 بن أبان تزوج امرأة في عدتها فنكل به عثمان وفرق بينهما
وسيره إلى البصرة فلزم ابن عامر فتذاكروا يوما الركوب والمرور بعامر بن
عبد قيس - وكان منقبضا عن الناس - فقال حمران: ألا أسبقكم فأخبره فخرج
فدخل عليه وهو يقرأ في المصحف فقال: الأمير أراد أن يمر بك فأحببت أن
أخبرك فلم يقطع قراءته ولم يقبل عليه فقام
__________
1 - عن عطية, عن يزيد الفقعسي ط4 – 326 و 327.
2 - هو عبد الله بن سبأ الذي سيرد ذكره ودوره مفصلا.
3 - عن محمد وطلحة ط4 -327.
(1/42)
من عنده خارجا فلما انتهى إلى الباب لقيه
ابن عامر فقال: جئتك من عند امرئ لا يرى لآل إبراهيم عليه فضلا وأستأذن
بن عامر فدخل عليه وجلس اليه فأطبق عامر المصحف وحدثه ساعة فقال له ابن
عامر: ألا تغشانا؟ فقال سعد: ابن أبي العرجاء يحب الشرف فقال: ألا
نستعملك؟ فقال: حصين بن أبي الحر يحب العمل فقال: ألا نزوجك فقال:
ربيعة بن عسل يعجبه النساء قال: إن هذا يزعم أنك لا ترى لآل إبراهيم
عليك فضلا فتصفح المصحف فكان أول ما وقع عليه وافتتح منه: {إِنَّ
اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحاً وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ
عَلَى الْعَالَمِينَ} 1 فلما رد حمران تتبع ذلك منه فسعى به وشهد له
أقوام فسيره إلى الشام فلما علموا علمه أذنوا له فأبى ولزم الشام.
[وفي رواية اخرى2] :
أن عثمان سير حمران بن أبان أن تزوج امرأة في عدتها وفرق بينهما وضربه
وسيره إلى البصرة فلما أتى عليه ما شاء الله وأتاه عنه الذي يحب أذن له
فقدم عليه المدينة وقدم معه قوم سعوا بعامر بن عبد قيس أنه لا يرى
التزويج ولا يأكل اللحم ولا يشهد الجمعة - وكان مع عامر انقباض وكان
عمله كله خفية - فكتب إلى عبد الله بن عامر بذلك فألحقه بمعاوية فلما
قدم عليه وافقه وعنده ثريدة3 فأكل أكلا غريبا فعرف أن الرجل مكذوب عليه
فقال: يا هذا هل تدري فيم أخرجت؟ قال: لا قال: أبلغ الخليفة أنك لا
تأكل اللحم ورأيتك وعرفت أن قد كذب عليك وأنك
__________
1 - سورة آل عمران, الآية: 33.
2 - عن محمد وطلحة أيضا ط4 - 327
3 - الثريدة: كسر الخبز المغمور بالبرق.
(1/43)
لا ترى التزويج ولا تشهد الجمعة؟ قال: أما
الجمعة فإني أشهدها في مؤخر المسجد ثم أرجع في أوائل الناس وأما
التزويج فإني خرجت وأنا يخطب علي وأما اللحم فقد رأيت ولكني كنت امرأ
لا آكل ذبائح القصابين منذ رأيت قصابا يجر شاة إلى مذبحها ثم وضع
السكين على مذبحها فما زال يقول: النفاق النفاق حتى وجبت1 قال: فارجع
قال: لا أرجع الى بلد استحل أهله مني ما استحلوا ولكني أقيم بهذا البلد
الذي اختاره الله لي وكان يكون في السواحل وكان يلقى معاوية فيكثر
معاوية أن يقول: حاجتك؟ فيقول: لا حاجة لي فلما أكثر عليه قال: ترد علي
من حر البصرة لعل الصوم أن يشتد علي شيئا فإنه يخف علي في بلادكم.
__________
1 - حتى وجبت: حتى تم بيعها.
(1/44)
اجتماع الثوار على
عثمان:
لما رجع معاوية المسيرين2 قالوا: إن العراق والشام ليسا لنا بدار
فعليكم بالجزيرة فاتوها اختيارا فغدا عليهم عبد الرحمن بن خالد فسامهم
الشدة فضرعوا له وتابعوه وسرح الأشتر إلى عثمان فدعا به وقال: إذهب حيث
شئت فقال: ارجع إلى عبد الرحمن فرجع ووفد سعيد بن العاص إلى عثمان في
سنة إحدى عشرة من إمارة عثمان وقبل مخرج سعيد بن العاص من الكوفة بسنة
وبعض أخرى بعث الأشعث بن قيس على أذربيجان وسعيد بن قيس على الري وكان
سعيد بن قيس على همذان فعزل وجعل عليها النسير العجلي وعلى أصبهان
السايب بن الأقرع وعلى ماه مالك بن حبيب اليربوعي,
__________
2 - عن المستنير بن يزيد, عن قيس بن يزيد النخعي, ط4 – 330.
(1/44)
وعلى الموصل حكيم بن سلامة الحزامي وجرير
بن عبد الله على قرقيسياء وسلمان بن ربيعة على الباب وعلى الحرب
القعقاع بن عمرو وعلى حلوان عتيبة ابن النهاس وخلت الكوفة من الرؤساء
إلا منزوعا أو مفتونا فخرج يزيد بن قيس وهو يريد خلع عثمان فدخل المسجد
فجلس فيه وثاب إليه اللذين كان فيهم ابن السوداء يكاتبهم فانقض عليه
القعقاع فأخذ يزيد بن قيس فقال: إنما نستعفي من سعيد قال: هذا ما لا
يعرض لكم فيه لا تجلس لهذا ولا يجتمعن إليك واطلب حاجتك فلعمري
لتعطينها فرجع إلى بيته واستأجر رجلا وأعطاه دراهم وبغلا على أن يأتي
المسيرين وكتب إليهم: لا تضعوا كتابي من أيديكم حتى تجيئوا فإن أهل
المصر قد جامعونا1 فانطلق الرجل فأتى عليهم وقد رجع الأشتر فدفع إليهم
الكتاب فقالوا: ما اسمك؟ قال: بغثر قالوا: ممن؟ قال: من كلب قالوا: سبع
ذليل يبغثر النفوس لا حاجة لنا بك وخالفهم الأشتر ورجع عاصيا فلما خرج
قال أصحابه: أخرجنا اخرجه الله لا نجد بدا مما صنع إن علم بنا عبد
الرحمن لم يصدقنا ولم يستقلها فاتبعوه فلم يلحقوه وبلغ عبد الرحمن أنهم
قد رحلوا فطلبهم في السواد فسار الأشتر سبعا والقوم عشرا فلم يفجإ
الناس في يوم جمعه إلا والأشتر على باب المسجد يقول: أيها الناس إني قد
جئتكم من عند امير المؤمنين عثمان وتركت سعيدا يريده على نقصان نسائكم
إلى مائة درهم ورد أهل البلاء منكم إلى ألفين ويقول: ما بال أشراف
النساء وهذه العلاوة بين هذين العدلين ويزعم أن فيئكم بستان قريش وقد
سايرته مرحلة فما زال يرجز بذلك حتى فارقته يقول:
ويل لأشراف النساء مني ... صمحمح2 كأني من جن
__________
1 - جامعونا: اجتمعوا معنا ووافقونا.
2 - الصمحمح: الرجل الشديد المجتمع الألواح.
(1/45)
فاستخف الناس وجعل أهل الحجي ينهونه فلا
يسمع منهم وكانت نفجة1 فخرج يزيد وأمر مناديا ينادي: من شاء أن يلحق
بيزيد بن قيس لرد سعيد وطلب أمير غيره فليفعل وبقي حلماء الناس
وأشرافهم ووجوههم في المسجد وذهب من سواهم وعمرو بن حريث يومئذ الخليفة
فصعد المنبر فحمد الله وأثنى عليه وقال: اذكروا نعمة الله عليكم إذ
كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا بعد أن كنتم على شفا
حفرة من النار فأنقذكم منها فلا تعودوا في شر قد استنقذكم الله عز وجل
منه أبعد الإسلام وهديه وسنته لا تعرفون حقا ولا تصيبون بابه فقال
القعقاع بن عمرو: أترد السيل عن عبابه2؟ فاردد الفرات عن أدراجه هيهات!
لا والله لا تسكن الغوغاء إلا المشرفية3 ويوشك ان تنتضي ثم يعجون عجيج
العتدان4 ويتمنون ما هم فيه فلا يرده الله عليهم أبدا فاصبر فقال: أصبر
وتحول إلى منزله وخرج يزيد بن قيس حتى نزل الجرعة ومعه الأشتر وقد كان
سعيد تلبث في الطريق فطلع عليهم سعيد وهم مقيمون له معسكرون فقالوا: لا
حاجة لنا بك فقال: فما إختلفتم الآن إنما كان يكفيكم أن تبعثوا إلى
أمير المؤمنين رجلا وتضعوا إلي رجلا وهل يخرج الألف لهم عقول إلى رجل؟
ثم انصرف عنهم وتحسوا بمولى له على بعير قد حسر فقال: والله ما كان
ينبغي لسعيد أن يرجع فضرب الأشتر عنقه ومضى سعيد حتى قدم على عثمان
فأخبره الخبر فقال: ما يريدون أخلعوا يدا من طاعة؟ قال: اظهروا أنهم
يريدون البدل.
__________
1 - أي ضجة. ط4 – 331.
2 - أي عن ارتفاعه وكثرته.
3 - المشرفية: ضرب من السيوف ينسب إلى مشارف, وهي قرى قرب حوران في
جنوبي سوريا.
4 - العتود: الجدي إذا بلغ الحول وجمعه عتدان.
(1/46)
قال: فمن يريدون؟ قال: أبا موسى قال:
أثبتنا أبا موسى عليهم ووالله لا نجعل لأحد عذرا ولا نترك لهم حجة
ولنصبرن كما أمرنا حتى نبلغ ما يريدون ورجع من قرب عمله من الكوفة ورجع
جرير من قرقيسياء وعتيبة من حلوان وقام أبو موسى فتكلم بالكوفة فقال:
أيها الناس لا تنفروا في مثل هذا ولا تعودوا لمثله إلزموا جماعتكم
والطاعة وإياكم والعجلة اصبروا فكأنكم بأمير قالوا: فصل بنا قال: لا
إلا على السمع والطاعة لعثمان بن عفان قالوا: على السمع والطاعة
لعثمان.
[قال عبد الله بن عمير الأشجعي] 1: قام من المسجد في الفتنة فقال: أيها
الناس اسكتوا فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "من خرج
وعلى الناس امام - والله ما قال: عادل - ليشق عصاهم ويفرق جماعتهم
فاقتلوه كائنا من كان".
[وفي رواية أخرى] 2.
لما استعوى يزيد بن قيس الناس على سعيد بن العاص خرج منه ذكر لعثمان
فأقبل إليه القعقاع بن عمرو حتى أخذه فقال: ما تريد؟ ألك علينا في أن
نستعفي سبيل؟ قال: لا فهل إلا ذلك قال: لا قال: فاستعف واستجلب يزيد
أصحابه من حيث كانوا فردوا سعيدا وطلبوا أبا موسى فكتب إليهم عثمان:
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد فقد امرت عليكم من اخترتم وأعفيتكم من
سعيد والله لأفرشنكم عرضي ولأبذلن لكم صبري
__________
1 - عن يحي بن مسلم, عن واقد بن عبد الله, عن عبد الله بن عمير
الأشجعي, ط4 – 336.
2 - عن محمد وطلحه, واستعوى القوم: دعاهم إلى الفتنه.
(1/47)
ولأستصلحنكم بجهدي فلا تدعوا شيئا أحببتموه
لا يعصي الله فيه إلا سألتموه ولا شيئا كرهتموه لا يعصى الله فيه إلا
استعفيتم منه أنزل فيه عندما أحببتم حتى لا يكون لكم علي حجة.
وكتب بمثل ذلك في الأمصار فقدمت إمارة أبي موسى وغزو حذيفة وتأمر أبو
موسى ورجع العمال إلى أعمالهم ومضى حذيفة إلى الباب.
(1/48)
دعوة عبد الله بن
سبأ:
كان عبد الله بن سبأ يهوديا1 من أهل صنعاء أمه سوداء فأسلم زمان عثمان
ثم تنقل في بلدان المسلمين يحاول ضلالتهم فبدأ بالحجاز ثم البصرة ثم
الكوفة ثم الشام فلم يقدر على ما يريد عن أحد من أهل الشام فأخرجوه حتى
أتى مصر فاعتمر فيهم فقال لهم فيما يقول: لعجب ممن يزعم أن عيسى يرجع
ويكذب بأن محمدا يرجع وقد قال الله عز وجل: {إِنَّ الَّذِي فَرَضَ
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ} 2 فمحمد أحق بالرجوع من
عيسى قال: فقبل ذلك عنه ووضع لهم الرجعة فتكلموا فيها ثم قال لهم بعد
ذلك: إنه كان ألف نبي ولكل نبي وصي وكان علي وصى محمد ثم قال: محمد
خاتم الانبياء وعلى خاتم الأوصياء ثم قال بعد ذلك: من أظلم ممن لم يجز
وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم ووثب على وصي رسول الله صلى الله
عليه وسلم وتناول أمر الأمة ثم قال لهم بعد ذلك: إن عثمان أخذها بغير
حق وهذا وصي رسول الله صلى الله عليه وسلم فانهضوا في هذا الأمر فحركوه
وابدؤوا بالطعن على أمرائكم واظهروا
__________
1 - عن عطية, عن يزيد الفقعسي ط4 – 340.
2 - سورة القصص, الآية: 85.
(1/48)
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر تستميلوا
الناس وادعوهم إلى هذا الأمر.
فبث دعاته1 وكاتب من كان استفسد من الأمصار وكاتبوه ودعوا في السر إلى
ما عليه رأيهم وأظهروا الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجعلوا يكتبون
إلى الأمصار كتبا يضعونها في عيوب ولاتهم ويكاتبهم إخوانهم بمثل ذلك
ويكتب أهل كل مصر منهم إلى مصر آخر بما يصنعون فيقرؤه أولئك في أمصارهم
وهؤلاء في أمصارهم حتى تناولوا بذلك المدينة وأوسعوا الأرض إذاعة وهم
يريدون غير ما يظهرون ويسرون غير ما يبدون فيقول أهل كل مصر: إنا لفي
عافية مما ابتلي به هؤلاء إلا أهل المدينة فإنهم جاءهم ذلك عن جميع
الأمصار فقالوا: إنا لفي عافية مما فيه الناس وجامعه محمد وطلحة من هذا
المكان2 قالوا: فأتوا عثمان فقالوا: يا أمير المؤمنين أيأتيك عن الناس
الذي يأتينا؟ قال: لا والله ما جاءني إلا السلامة قالوا: فإنا قد أتانا
وأخبروه بالذي أسقطوا إليهم قال: فأنتم شركائي وشهود المؤمنين فأشيروا
علي قالوا: نشير عليك أن تبعث رجالا ممن تثق بهم إلى الأمصار حتى
يرجعوا إليك بأخبارهم فدعا محمد بن مسلمة فأرسله إلى الكوفة وأرسل
أسامة بن زيد إلى البصرة وأرسل عمار بن ياسر إلى مصر وأرسل عبد الله بن
عمر إلى الشام وفرق رجالا سواهم فرجعوا جميعا قبل عمار فقالوا: أيها
الناس ما أنكرنا شيئا ولا أنكره أعلام المسلمين ولا عوامهم وقالوا
جميعا:
__________
1 - ط 4 – 341.
2 - أي اشتراك مع الراوي في الرواية محمد وطلحة اعتبارا من هذه النقطة.
ويستنتج من هذا الكلام, أن عبد الله بن سبأ لم يكن إلا أحد أفراد جماعة
سرية مؤلفة من اليهود وغيرهم. كانت تعمل جاهدة وفق مخطط مدروس لتحطيم
الوحدة الإسلامية والقضاء على دولة المسلمين من داخلها بعد ما عجزت تلك
القوى عن مجابهة المسلمين في ميادين القتال.
(1/49)
الأمر أمر المسلمين إلا أن أمراءهم يقسطون
بينهم ويقومون1 عليهم واستبطأ الناس عمارا حتى ظنوا أنه قد اغتيل فلم
يفجأهم إلا كتاب من عبد الله بن سعد بن أبي سرح يخبرهم أن عمارا قد
استماله قوم بمصر وقد انقطعوا إليه منهم عبد الله بن السوداء وخالد بن
ملجم وسودان بن حجران وكنانة ابن بشر.
__________
1 - في نسخة يقيمون.
(1/50)
مشاورات عثمان مع
ولاته:
كتب عثمان2 إلى أهل الأمصار: أما بعد فإني آخذ العمال بموافاتي في كل
موسم وقد سلطت الأمة منذ وليت على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فلا
يرفع علي شيء ولا على أحد من عمالي إلا أعطيته وليس لي ولعيالي حق قبل
الرعية إلا متروك لهم وقد رفع إلى أهل المدينة أن أقواما يشتمون وآخرون
يضربون فيامن ضرب سرا وشتم سرا من ادعى شيئا من ذلك فليواف الموسم
فليأخذ بحقه حيث كان مني أو من عمالي أو تصدقوا فإن الله يجزي
المتصدقين.
فلما قرئ في الأمصار ابكى الناس ودعوا لعثمان وقالوا: إن الأمة لتمخض
بشر وبعث إلى عمال الأمصار فقدموا عليه: عبد الله بن عامر ومعاوية وعبد
الله بن سعد وأدخل معهم في المشورة سعيدا وعمرا فقال: ويحكم! ما هذه
الشكاية؟ وما هذه الاذاعة؟ إني والله لخائف أن تكونوا مصدوقا عليكم وما
يعصب3 هذا إلا بي فقالوا: له: ألم تبعث! ألم نرجع إليك الخبر
__________
2 - عن محمد وطلحة وعطية, ط 4- 342.
3 - يعصب بي: أي يناط بي.
(1/50)
عن القوم1 ألم يرجعوا ولم يشافههم أحد
بشيء؟ لا والله ما صدقوا ولا بروا ولا نعلم لهذا الأمر أصلا وما كنت
لنأخذ به أحدا فيقيمك على شيء وما هي إلا إذاعة لا يحل الأخذ بها ولا
الانتهاء إليها قال: فأشيروا علي فقال: سعيد بن العاص: هذا أمر مصنوع
يصنع في السر فيلقى به غير ذي المعرفة فيخبر به فيتحدث به في مجالسهم
قال: فما دواء ذلك؟ قال: طلب هؤلاء القوم ثم قتل هؤلاء الذين يخرج هذا
من عندهم.
وقال عبد الله بن سعد: خذ من الناس الذي عليهم إذا أعطيتهم الذي لهم
فإنه خير من أن تدعهم.
قال معاوية: قد وليتني فوليت قوما لا يأتيك عنهم إلا الخير والرجلان
أعلم بناحيتيهما قال: فما الرأي؟ قال: حسن الأدب قال: فما ترى يا عمرو؟
قال: أرى أنك قد لنت لهم وتراخيت عنهم وزدتهم على ما كان يصنع عمر فأرى
أن تلزم طريقة صاحبيك فتشتد في موضع الشدة وتلين في موضع اللين إن
الشدة تنبغي لمن لا يألو الناس شرا واللين لمن يخلف الناس بالنصح وقد
فرشتها جميعا اللين.
وقام عثمان فحمد الله وأثنى عليه وقال: كل ما أشرتم به علي قد سمعت
ولكل أمر باب يؤتى منه إن هذا الأمر الذي يخاف على هذه الأمة كائن وإن
بابه الذي يغلق عليه فيكفكف به اللين والمؤتاة والمتابعة إلا في حدود
الله تعالى ذكره التي لا يستطيع أحد أن يبادي بعيب أحدها فإن سده شيء
فرفق فذاك والله ليفتحن وليست لأحد علي حجة حق وقد علم الله أني لم آل
الناس خيرا ولا نفسي ووالله إن رحا الفتنة لدائرة فطوبى لعثمان
__________
1 - في ابن الأثير "العوام".
(1/51)
إن مات ولم يحركها كفكفوا الناس وهبوا لهم
حقوقهم واغتفروا لهم وإذا تعوطيت حقوق الله فلا تدهنوا فيها.
فلما نفر عثمان أشخص معاوية وعبد الله بن سعد إلى المدينة ورجع ابن
عامر وسعيد معه ولما استقل عثمان رجز الحادي:
قد علمت ضوامر المطي ... وضامرات عوج القسي
أن الأمير بعده علي ... وفي الزبير خلف رضي
وطلحة الحامي لها ولي
فقال كعب وهو يسير خلف عثمان: الأمير والله بعده صاحب البغلة - وأشار
إلى معاوية.
ما زال معاوية يطمع فيها1 بعد مقدمه على عثمان حين جمعهم فاجتمعوا إليه
بالموسم ثم ارتحل فحدا به الراجز:
أن الأمير بعده علي ... وفي الزبير خلف رضي
قال كعب: كذبت! صاحب الشهباء بعده - يعني معاوية - فأخبر معاوية فسأله
عن الذي بلغه قال: نعم أنت الأمير بعده ولكنها والله لا تصل إليك حتى
تكذب بحديثي هذا فوقعت في نفس معاوية.
[وشاركهم في هذا المكان أبو حارثة وأبو عثمان عن رجاء بن حيوة وغيره
قالوا:] : فلما ورد عثمان المدينة رد الأمراء إلى أعمالهم فمضوا جميعا
وأقام
__________
1 - عن بدر بن الخليل بن عثمان بن قطبة الأسدي, عن رجل من بني أسد, ط 4
- 343.
(1/52)
سعيد بعدهم فلما ودع معاوية عثمان خرج من
عنده وعليه ثياب السفر متقلدا سيفه متنكبا قوسه فإذا هو بنفر من
المهاجرين فيهم طلحة والزبير وعلي فقام عليهم فتوكأ على قوسه بعدما سلم
عليهم ثم قال: إنكم قد علمتم أن هذا الأمر كان إذ الناس يتغالبون إلى
رجال فلم يكن منكم أحد إلا وفي فصيلته من يرئسه ويستبد عليه ويقطع
الأمر دونه ولا يشهده ولا يؤامره حتى بعث الله جل وعز نبيه صلى الله
عليه وسلم وأكرم به من اتبعه فكانوا يرئسون من جاء من بعده وأمرهم شورى
بينهم يتفاضلون بالسابقة والقدمة والاجتهاد فإن أخذوا بذلك وقاموا عليه
كان الأمر أمرهم والناس تبع لهم وإن أصغوا إلى الدنيا وطلبوها بالتغالب
سلبوا ذلك ورده الله إلى من كان يرئسهم وإلا فليحذروا الغير فإن الله
على البدل قادر وله المشيئة في ملكه وأمره إني قد خلفت فيكم شيخا
فاستوصوا به خيرا وكانفوه تكونوا أسعد منه بذلك ثم ودعهم ومضى فقال
علي: ما كنت أرى أن في هذا خيرا فقال الزبير: لا والله ما كان قط أعظم
في صدرك وصدورنا منه الغداة.
وكان معاوية1 قد قال لعثمان غداة ودعه وخرج: يا أمير المؤمنين انطلق
معي إلى الشام قبل أن يهجم عليك من لا قبل لك به فإن أهل الشام على
الأمر لم يزالوا فقال: أنا لا أبيع جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم
بشيء وإن كان فيه قطع خيط عنقي قال: فأبعث إليك جندا منهم يقيم بين
ظهراني أهل المدينة لنائبة إن نابت المدينة أو إياك قال أنا أقتر على
جيران رسول الله صلى الله عليه وسلم الارزاق بجند تساكنهم وأضيق على
أهل دار الهجرة والنصرة! قال: والله يا أمير المؤمنين لتغتالن أو
لتغزين قال: حسبي الله ونعم الوكيل وقال: معاوية يا أيسار الجزور وأين
أيسار الجزور ثم خرج حتى وقف على النفر ثم مضى.
__________
1- الحديث هنا لسيف عن شيوخه. ط 4 – 345.
(1/53)
المواجهة الأولى سنة
34 هـ1:
وقد كان أهل مصر كاتبوا أشياعهم من أهل الكوفة وأهل البصرة وجميع من
أجابهم أن يثوروا خلاف أمرائهم واتعدوا2 يوما حيث شخص أمراؤهم, فلم
يستقم ذلك لأحد منهم ولم ينهض إلا أهل الكوفة فإن يزيد بن قيس الأرحبي
ثار فيها واجتمع إليه أصحابه وعلى الحرب يومئذ القعقاع بن عمرو فأتاه
فأحاط الناس بهم وناشدوهم فقال يزيد للقعقاع: ما سبيلك علي وعلى هؤلاء
فوالله إني لسامع مطيع وإني للازم لجماعتي إلا أني أستعفي ومن ترى من
إمارة سعيد فقال: استعفى الخاصة من أمر قد رضيته العامة؟ قال: فذاك إلى
أمير المؤمنين فتركهم والاستعفاء ولم يستطيعوا أن يظهروا غير ذلك
فاستقبلوا سعيدا فردوه من الجرعة واجتمع الناس على أبي موسى وأقره
عثمان رضي الله تعالى عنه ولما رجع الأمراء لم يكن للسبئية سبيل إلى
الخروج إلى الأمصار وكاتبوا أشياعهم من أهل الأمصار أن يتوافوا
بالمدينة لينظروا فيما يريدون وأظهروا أنهم يأمرون بالمعروف ويسألون
عثمان عن أشياء لتطير في الناس ولتحقق عليه فتوافوا بالمدينة وأرسل
عثمان رجلين: مخزوميا وزهريا فقال: انظرا ما يريدون واعلما علمهم -
وكانا ممن قد ناله من عثمان أدب فاصطبرا للحق ولم يضطغنا - فلما رأوهما
باثوهما وأخبروهما بما يريدون فقالا:: من معكم على هذا من أهل المدينة؟
قالوا: ثلاثة نفر فقالا:: هل إلا؟ قالوا: لا قالا:: فكيف تريدون أن
تصنعوا؟ قالوا: نريد أن نذكر له أشياء قد زرعناها في قلوب الناس ثم
نرجع إليهم فنزعم لهم أنا قررناه بها فلم يخرج منها ولم يتب ثم نخرج
كأنا حجاج حتى نقدم فنحيط به فنخلعه فإن أبى قتلناه وكانت إياها فرجعا
إلى عثمان بالخبر فضحك وقال: اللهم سلم هؤلاء فإنك أن لم تسلمهم شقوا.
__________
1 - ط 4 – 345.
2 - اتعدوا: تواعدوا.
(1/54)
أما عمار فحمل على عباس بن عتبة بن أبي لهب
وعركه وأما محمد بن أبي بكر فإنه أعجب حتى رأى أن الحقوق لا تلزمه وأما
ابن سهلة فإنه يتعرض للبلاء فأرسل إلى الكوفيين والبصريين ونادى:
الصلاة جامعة! وهم عنده في أصل المنبر فأقبل أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم حتى أحاطوا بهم فحمد الله وأثنى عليه وأخبرهم خبر القوم1
وقام الرجلان فقالوا: جميعا2: اقتلهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم
قال: "من دعا إلى نفسه أو إلى أحد وعلى الناس إمام فعليه لعنة الله
فاقتلوه". وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: لا أحل لكم إلا ما قتلتموه
وأنا شريككم فقال عثمان: بل نعفو ونقبل ونبصرهم بجهدنا ولا نحاد أحدا
حتى يركب حدا أو يبدي كفرا إن هؤلاء ذكروا أمورا قد علموا منها مثل
الذي علمتم إلا أنهم زعموا أنهم يذاكرونيها ليوجبوها علي عند من لا
يعلم.
وقالوا: أتم الصلاة في السفر وكانت لا تتم ألا وإني قدمت بلدا فيه أهلي
فأتممت لهذين الأمرين أو كذلك قالوا: اللهم نعم.
وقالوا: وحميت حمى وإني والله ما حميت حمي قبلي والله ما حموا شيئا
لأحد ما حموا إلا غلب عليه اهل المدينة ثم لم يمنعوا من رعية أحدا
واقتصروا لصدقات المسلمين يحمونها لئلا يكون بين من يليها وبين أحد
تنازع ثم ما منعوا ولا نحوا منها أحدا إلا من ساق درهما وما لي من بعير
غير راحلتين وما لي ثاغية ولا راغية وإني قد وليت وإني أكثر العرب
بعيرا وشاء فما لي اليوم شاة ولا بعير غير بعيرين لحجي أكذلك؟ قالوا:
اللهم نعم.
__________
1 - أي خبر المنشقين.
2 - أي جميع الصحابة. واقتلهم: المقصود بالقتل الثوار.
(1/55)
وقالوا: كان القرآن كتبا فتركتها إلا واحدا
ألا وإن القرآن واحد جاء من عند واحد وإنما أنا في ذلك تابع لهؤلاء
أكذلك قالوا: نعم وسألوه أن يقيلهم1.
وقالوا: إني رددت الحكم وقد سيره رسول الله صلى الله عليه وسلم والحكم
مكي سيره رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى الطائف ثم رده رسول
الله صلى الله عليه وسلم فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيره ورسول
الله صلى الله عليه وسلم رده أكذلك؟ قالوا: اللهم نعم.
وقالوا: استعملت الأحداث ولم أستعمل إلا مجتمعا محتملا مرضيا وهؤلاء
أهل عملهم فسلوهم عنه وهؤلاء أهل بلده ولقد ولى من قبلي أحدث منهم وقيل
في ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم أشد مما قيل لي في استعماله
أسامة أكذلك؟ قالوا: اللهم نعم يعيبون للناس ما لا يفسرون.
وقالوا: إني أعطيت ابن أبي سرح ما أفاء الله عليه وإني إنما نفلته خمس
ما أفاء الله عليه من الخمس فكان مائة ألف وقد أنفذ مثل ذلك أبو بكر
وعمر رضي الله عنهما فزعم الجند أنهم يكرهون ذلك فرددته عليهم وليس ذاك
لهم أكذلك؟ قالوا: نعم.
وقالوا: إني أحب أهل بيتي وأعطيهم فأما حبي فإنه لم يمل معهم على جور
بل أحمل الحقوق عليهم وأما إعطاؤهم فإني ما أعطيهم من مالي ولا أستحل
أموال المسلمين لنفسي ولا لأحد من الناس ولقد كنت أعطي العطية الكبيرة
الرغيبة من صلب مالي أزمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر
رضي الله عنهما وأنا يومئذ شحيح حريص أفحين أتيت على أسنان أهل بيتي
وفني عمري وودعت الذي لي في أهلي قال الملحدون ما قالوا! وإني والله ما
حملت على مصر من الأمصار فضلا فيجوز ذلك لمن قاله ولقد رددته عليهم وما
قدم علي إلا الأخماس ولا يحل لي منها شيء فولي المسلمون وضعها في
__________
1 - في نسخة أن يقتلهم, ط 4 – 348.
(1/56)
أهلها دوني ولا يتلفت من مال الله بفلس فما
فوقه وما أتبلغ منه ما آكل إلا مالي.
وقالوا: اعطيت الأرض رجالا وإن هذه الأرضين شاركهم فيها المهاجرون
والأنصار أيام افتتحت فمن أقام بمكان من هذه الفتوح فهو أسوة أهله ومن
رجع إلى أهله لم يذهب ذلك ما حوى الله له فنظرت في الذي يصيبهم مما
أفاء الله عليهم فبعته لهم بأمرهم من رجال أهل عقار ببلاد العرب فنقلت
إليهم نصيبهم فهو في أيديهم دوني.
وكان عثمان قد قسم ماله وأرضه في بني أمية وجعل ولده كبعض من يعطي,
فبدأ ببني أبي العاص فأعطى آل الحكم رجالهم عشرة آلاف عشرة آلاف فأخذوا
مئة ألف وأعطى بني عثمان مثل ذلك وقسم في بني العاص وفي بني العيص وفي
بني حرب.
ولانت حاشية عثمان لأولئك الطوائف وأبى المسلمون إلا قتلهم وأبى إلا
تركهم فذهبوا ورجعوا إلى بلادهم على أن يغزوه مع الحجاج كالحجاج
فتكاتبوا وقالوا: موعدكم ضواحي المدينة في شوال حتى إذا دخل شوال من
سنة خمس وثلاثين ضربوا كالحجاج فنزلوا قرب المدينة.
(1/57)
خروج الثوار إلى
المدينة عام 35 هـ:
[وهكذا] لما كان شوال1 سنة خمس وثلاثين خرج أهل مصر في أربع رفاق على
أربعة أمراء المقلل يقول: ستمائة2 والمكثر يقول: ألف على الرفاق عبد
الرحمن بن عديس البلوي وكنانة بن بشر التجيبي3 وسودان
__________
1 - عن محمد وطلحة وأبي حارثه وأبي عثمان, ط 4 – 348.
2 - أي عددهم ما بين 600 – 1000.
3 - في ب 7 – 173" الليثي "بدلا من التجيبي.
(1/57)
ابن حمران السكوني وقتيرة بن فلان السكوني
وعلى القوم جميعا الغافقي ابن حرب العكي1 ولم يجترئوا أن يعلموا الناس
بخروجهم إلى الحرب وإنما خرجوا كالحجاج ومعهم ابن السوداء وخرج أهل
الكوفة في أربع رفاق وعلى الرفاق زيد بن صوحان العبدي والأشتر النخعي
وزياد بن النضر الحارثي وعبد الله بن الاصم أحد بني عامر بن صعصعة2
وعددهم كعدد أهل مصر وعليهم جميعا عمرو بن الأصم وخرج أهل البصرة في
أربع رفاق وعلى الرفاق حكيم بن جبلة العبدي وذريح بن عباد العبدي وبشر
بن شريح الحطم بن ضبيعة القيسي وإبن المحرش بن عبد بن عمرو الحنفي
وعددهم كعدد أهل مصر وأميرهم جميعا حرقوص بن زهير السعدي سوى من تلاحق
بهم من الناس فأما أهل مصر فإنهم كانوا يشتهون عليا وأما أهل البصرة
فإنهم كانوا يشتهون طلحة وأما أهل الكوفة فإنهم كانوا يشتهون الزبير.
فخرجوا وهم على الخروج جميع وفي الناس شتى لا تشك كل فرقة إلا أن
الفلج3 معها وأن أمرها سيتم دون الآخرين فخرجوا حتى إذا كانوا من
المدينة على ثلاث تقدم ناس من أهل البصرة فنزلوا ذا خشب وناس من أهل
الكوفة فنزلوا الأعوص وجاءهم ناس من أهل مصر وتركوا عامتهم بذي المروة
ومشى فيما بين أهل مصر وأهل البصرة زياد بن النضر وعبد الله ابن الاصم
وقالا:: لا تعجلوا ولا تعجلونا حتى ندخل لكم المدينة ونرتاد فإنه بلغنا
أنهم قد عسكروا لنا فوالله إن كان اهل المدينة قد خافونا واستحلوا
__________
1 - اعتمدت في ذكر الاسماء رواية ابن كثير في البداية والنهاية ص 173
لأن الطبري قال أربع رفاق وذكر أربعة أشخاص زيادة ربما يكونون نواب
القواد وهم " عروة بن شيبم الليثي, أبو عمر بن بديل بن ورقاء الخزاعي,
سواد بن رومان الأصبحي, زرع بن يشكر اليافعي".
2 - ب 7 – 173 (وعلى الجميع عمروا بن الأصم)
3 - الفلج: الظفر والفوز.
(1/58)
قتالنا ولم يعلموا علمنا فهم إذا علموا
علمنا أشد وإن أمرنا هذا لباطل وإن لم يستحلوا قتالنا ووجدنا الذي
بلغنا باطلا لنرجعن إليكم بالخبر.
قالوا: إذهبا فدخل الرجلان فلقيا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وعليا
وطلحة والزبير وقالا: إنما نأتم هذا البيت ونستعفي هذا الوالي من بعض
عمالنا ما جئنا إلا لذلك واستأذناهم للناس بالدخول فكلهم أبى ونهى
وقال: بيض ما يفرخن فرجعا إليهم فاجتمع من أهل مصر نفر فأتوا عليا ومن
أهل البصرة نفر فأتوا طلحة ومن أهل الكوفة نفر فأتوا الزبير وقال كل
فريق منهم: إن بايعوا صاحبنا وإلا كدناهم وفرقنا جماعتهم ثم كررنا حتى
نبغتهم.
(1/59)
ما قاله علي وطلحة
والزبير للثوار وتظاهرهم بالعودة:
فأتى المصريون عليا وهو في عسكر عند أحجار الزيت عليه حلة أفواف1 معتم
بشقيقة حمراء يمانية متقلد السيف ليس عليه قميص وقد سرح إبنه الحسن إلى
عثمان فيمن اجتمع إليه فالحسن جالس عند عثمان وعلي عند أحجار الزيت
فسلم عليه المصريون وعرضوا له فصاح بهم واطردهم وقال: لقد علم الصالحون
ان جيش ذي المروة وذي خشب2 ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم
فارجعوا لا صحبكم الله! قالوا: نعم فانصرفوا من عنده على ذلك.
__________
1 - الفوف: ضرب من برود اليمن, وجمعها أفواف. والفوف أيضا: القطن.
2 - أضاف ابن الأثير "والأعوض".
(1/59)
وأتى البصريون طلحة وهو في جماعة أخرى إلى
جنب علي وقد أرسل إبنيه إلى عثمان فسلم البصريون عليه وعرضوا له فصاح
بهم واطردهم وقال: لقد علم المؤمنون أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص
ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم.
وأتى الكوفيون الزبير وهو في جماعة أخرى, وقد سرح إبنه عبد الله إلى
عثمان فسلموا عليه وعرضوا له فصاح بهم واطردهم وقال: لقد علم المسلمون
أن جيش ذي المروة وذي خشب والأعوص ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه
وسلم فخرج القوم وأروهم أنهم يرجعون1 فانفشوا عن ذي خشب والأعوص حتى
انتهوا إلى عساكرهم, وهي ثلاث مراحل كي يفترق أهل المدينة ثم يكروا
راجعين فافترق أهل المدينة لخروجهم.
__________
1- أي تظاهروا أمام على وطلحة والزبير رضي الله عنهم بأنهم عائدون.
(1/60)
مباغتة المدينة:
فلما بلغ القوم عساكرهم كروا بهم فبغتوهم فلم يفجأ أهل المدينة إلا
والتكبير2 في نواحي المدينة فنزلوا في مواضع عساكرهم وأحاطوا بعثمان
وقالوا: من كف يده فهو آمن.
وصلى عثمان بالناس أياما, ولزم الناس بيوتهم ولم يمنعوا أحدا من كلام
فأتاهم الناس فكلموهم وفيهم علي فقال: ما ردكم بعد ذهابكم ورجوعكم عن
رأيكم؟ قالوا أخذنا مع [ال] بريد كتابا بقتلنا وأتاهم طلحة فقال
البصريون مثل ذلك وأتاهم الزبير فقال الكوفيون مثل ذلك وقال الكوفيون
والبصريون: فنحن ننصر إخواننا ونمنعهم جميعا كأنما كانوا على ميعاد.
__________
2 - ط 4 – 351.
(1/60)
فقال لهم علي: كيف علمتم يا أهل الكوفة ويا
أهل البصرة بما لقي أهل مصر وقد سرتم مراحل ثم طويتم نحونا! هذا والله
أمر أبرم بالمدينة! قالوا: فضعوه على ما شئتم لا حاجة لنا في هذا الرجل
ليعتزلنا وهو في ذلك يصلي بهم وهم يصلون خلفه ويغشى من شاء عثمان وهم
في عينه أدق من التراب وكانوا لا يمنعون أحدا من الكلام وكانوا زمرا
بالمدينة يمنعون الناس من الاجتماع.
(1/61)
كتابة عثمان إلى
الأمصار:
وكتب عثمان إلى أهل الأمصار يستمدهم: بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد
فإن الله عز وجل بعث محمدا بالحق بشيرا ونذيرا فبلغ عن الله ما أمره به
ثم مضى وقد قضى الذي عليه وخلف فينا كتابه فيه حلاله وحرامه وبيان
الأمور التي قدر فأمضاها على ما أحب العباد وكرهوا فكان الخليفة أبو
بكر رضي الله عنه وعمر رضي الله عنه ثم أدخلت في الشورى عن غير علم ولا
مسألة عن ملأ من الأمة ثم أجمع أهل الشورى عن ملأ منهم ومن الناس علي
على غير طلب مني ولا محبة فعملت فيهم ما يعرفون ولا ينكرون تابعا غير
مستتبع متبعا غير مبتدع مقتديا غير متكلف فلما انتهت الأمور وانتكث
الشر بأهله بدت ضغائن وأهواء على غير إجرام ولا ترة فيما مضى إلا إمضاء
الكتاب فطلبوا أمرا وأعلنوا غيره بغير حجة ولا عذر فعابوا علي أشياء
مما كانوا يرضون وأشياء عن ملأ من أهل المدينة لا يصلح غيرها فصبرت لهم
نفسي وكففتها عنهم منذ سنين1 وأنا أرى وأسمع فازدادوا على الله عز وجل
جرأة حتى أغاروا علينا في جوار رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرمه
وأرض الهجرة وثابت إليهم الأعراب فهم كالأحزاب أيام
__________
1 - في نسخة: "منذ سنتين".
(1/61)
الأحزاب أو من غزانا بأحد إلا ما يظهرون
فمن قدر على اللحاق بنا فليلحق.
فأتى الكتاب أهل الأمصار فخرجوا على الصعبة والذلول فبعث معاوية حبيب
بن مسلمة الفهري وبعث عبد الله بن سعد معاوية بن حديج السكوني وخرج من
أهل الكوفة القعقاع بن عمرو.
وكان المحضضين بالكوفة على إعانة أهل المدينة عقبة بن عمرو وعبد الله
بن أبي أوفى وحنظلة بن الربيع التميمي في أمثالهم من أصحاب النبي صلى
الله عليه وسلم وكان المحضضين بالكوفة من التابعين أصحاب عبد الله
مسروق بن الأجدع والأسود بن يزيد وشريح بن الحارث وعبد الله بن عكيم1
في أمثالهم يسيرون فيها ويطوفون على مجالسها يقولون: يا أيها الناس إن
الكلام اليوم وليس به غدا وإن النظر يحسن اليوم ويقبح غدا وإن القتال
يحل اليوم ويحرم غدا إنهضوا إلى خليفتكم وعصمة أمركم.
وقام بالبصرة عمران بن حصين وأنس بن مالك وهشام بن عامر في أمثالهم من
أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقولون مثل ذلك ومن التابعين كعب بن
سور وهرم ابن حيان العبدي وأشباه لهما يقولون ذلك. وقام بالشام عبادة
بن الصامت وأبو الدرداء وأبو أمامة في أمثالهم من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم يقولون مثل ذلك ومن التابعين شريك بن خباشة النميري وأبو
مسلم الخولاني وعبد الرحمن بن غنم بمثل ذلك وقام بمصر خارجة في أشباه
له وقد كان بعض المحضضين قد شهد قدومهم فلما رأوا حالهم إنصرفوا إلى
أمصارهم بذلك وقاموا فيهم.
ولما جاءت الجمعة التي على اثر نزول المصريين مسجد رسول الله صلى الله
عليه وسلم خرج
__________
1 - ابن الأثير "حكيم".
(1/62)
عثمان فصلى بالناس ثم قام على المنبر فقال:
يا هؤلاء العدى, الله الله! فوالله إن أهل المدينة ليعلمون أنكم
ملعونون على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فامحوا الخطايا بالصواب فإن
الله عز وجل لا يمحو السيء إلا بالحسن.
فقام محمد بن مسلمة فقال: انا اشهد بذلك فأخذه حكيم بن جبلة فأقعده
فقام زيد بن ثابت فقال: ابغني الكتاب1 فثار عليه من ناحية أخرى محمد بن
أبي قتيرة فأقعده وقال فأفظع وثار القوم بأجمعهم فحصبوا الناس حتى
أخرجوهم من المسجد وحصبوا عثمان حتى صرع على المنبر مغشيا عليه فاحتمل
فأدخل داره. وكان المصريون لا يطمعون في أحد من أهل المدينة أن يساعدهم
إلا في ثلاثة نفر فإنهم كانوا يراسلونهم: محمد بن أبي بكر ومحمد بن أبي
حذيفة وعمار بن ياسر وشمر أناس من الناس فاستقتلوا منهم سعد بن مالك
وأبو هريرة وزيد بن ثابت والحسن بن علي فبعث إليهم عثمان بعزمه لما
انصرفوا فانصرفوا وأقبل علي عليه السلام حتى دخل على عثمان وأقبل طلحة
حتى دخل عليه وأقبل الزبير حتى دخل عليه يعودونه من صرعته ويشكون بثهم
ثم رجعوا إلى منازلهم.
وقد سأل أبو عمر الحسن2 هل شهدت حصر عثمان؟ قال: نعم وأنا يومئذ غلام
في أتراب لي في المسجد فإذا كثر اللغط جثوت على ركبتي أو قمت فأقبل
القوم حين أقبلوا حتى نزلوا المسجد وما حوله فاجتمع إليهم أناس من أهل
المدينة يعظمون ما صنعوا وأقبلوا على أهل المدينة يتوعدونهم فبينا هم
كذلك في لغطهم حول الباب فطلع عثمان فكأنما كانت نارا طفئت فعمد إلى
المنبر فصعده فحمد الله وأثنى عليه فثار رجل, فأقعده رجل
__________
1 - أبغى الكتاب: أحضر لي الكتاب.
2 - عن أبي عمرو, عن الحسن "وقد وردت في النص عن لسان أبي عمر: قلت له
هل ... " ط 4 – 353.
(1/63)
وقام آخر فأقعده آخر ثم ثار القوم فحصبوا
عثمان حتى صرع فاحتمل فأدخل فصلى بهم عشرين يوما ثم منعوه من الصلاة.
[وفي رواية أخرى لسيف] 1.
صلى عثمان بالناس بعدما نزلوا به في المسجد ثلاثين يوما ثم أنهم منعوه
الصلاة فصلى بالناس أميرهم الغافقي دان له المصريون والكوفيون
والبصريون وتفرق أهل المدينة في حيطانهم ولزموا بيوتهم لا يخرج أحد ولا
يجلس إلا وعليه سيفه يمتنع به من رهق القوم وكان الحصار اربعين يوما
وفيهن كان القتل ومن تعرض لهم وضعوا فيه السلاح وكانوا قبل ذلك ثلاثين
يوما يكفون.
__________
1 - عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان, ط 4 – 354.
(1/64)
آخر خطبة لعثمان:
[وكانت] آخر خطبة2 خطبها عثمان رضي الله عنه في جماعة: إن الله عز وجل
إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا بها الآخرة ولم يعطكموها لتركنوا إليها إن
الدنيا تفنى والآخرة تبقى فلا تبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية
فآثروا ما يبقى على ما يفنى فإن الدنيا منقطعة وإن المصير إلى الله
اتقوا الله جل وعز فإن تقواه جنة من بأسه ووسيلة عنده واحذروا من الله
الغير والزموا جماعتكم لا تصيروا أحزابا {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ
عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ
فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} 3.
__________
2 - عن بدر بن عثمان عن عمه , ط 4 – 384.
3 - آل عمران: 103.
(1/64)
لما قضى عثمان1 في ذلك المجلس حاجاته وعزم
وعزم له المسلمون على الصبر والإمتناع عليهم بسلطان الله قال: اخرجوا
رحمكم الله فكونوا بالباب وليجامعكم هؤلاء الذين حبسوا عني وأرسل إلى
طلحة والزبير وعلي وعدة: أن ادنوا فاجتمعوا فأشرف عليهم فقال: يا أيها
الناس اجلسوا فجلسوا جميعا المحارب الطارئ والمسالم المقيم فقال: يا
أهل المدينة إني أستودعكم الله وأسأله أن يحسن عليكم الخلافة من بعدي
وإني والله لا أدخل على أحد بعد يومي هذا حتى يقضي الله في قضاءه
ولأدعن هؤلاء وما وراء بابي غير معطيهم شيئا يتخذونه عليكم دخلا في دين
الله أو دنيا حتى يكون الله عز وجل الصانع في ذلك ما أحب وأمر أهل
المدينة بالرجوع وأقسم عليهم فرجعوا إلا الحسن ومحمدا وابن الزبير
وأشباها لهم2 فجلسوا بالباب عن أمر آبائهم وتاب عليهم إليهم ناس كثير
ولزم عثمان الدار.
__________
1 - عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان. ط 4 – 385.
2 - كان الصحابة يهدفون من ذلك إظهار تأييدهم لعثمان. وبذلك يدرك
المنحرفون الذين كان عامتهم – وليس مدبرو الفتنة منهم – يميلون إلى
تولية أحد الصحابة بعده.
(1/65)
الحصار:
كان الحصر3 اربعين ليلة والنزول سبعين فلما مضت من الأربعين ثماني عشرة
قدم ركبان من الوجوه فأخبروا خبر من قد تهيأ إليهم من الآفاق: حبيب من
الشام ومعاوية من مصر والقعقاع من الكوفة ومجاشع من البصرة فعندها
حالوا بين الناس وبين عثمان ومنعوه كل شيء حتى الماء وقد كان يدخل علي
بالشيء مما يريد وطلبوا العلل فلم تطلع عليهم علة فعثروا في
__________
3 - عن أبي حارثة وأبي عثمان ومحمد وطلحة, ط 4 – 385.
(1/65)
داره بالحجارة ليرموا فيقولوا: قوتلنا -
وذلك ليلا – فناداهم: ألا تتقون الله! ألا تعلمون أن في الدار غيري؟
قالوا: لا والله ما رميناك قال: فمن رمانا؟ قالوا: الله قال: كذبتم إن
الله عز وجل لو رمانا لم يخطئنا وأنتم تخطئوننا. وأشرف عثمان على آل
حزم وهم جيرانه فسرح إبنا لعمرو إلى علي بأنهم قد منعونا الماء فإن
قدرتم أن ترسلوا إلينا شيئا من الماء ففعلوا وإلى طلحة وإلى الزبير
وإلى عائشة رضي الله عنها وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم فكان أولهم
إنجادا له علي وأم حبيبة جاء علي في الغلس فقال: يا أيها الناس إن الذي
تصنعون لا يشبه أمر المؤمنين ولا أمر الكافرين لا تقطعوا عن هذا الرجل
المادة فإن الروم وفارس لتأسر فتطعم وتسقي وما تعرض لكم هذا الرجل فيم
تستحلون حصره وقتله قالوا: لا والله ولا نعمة عين لا نتركه يأكل ولا
يشرب فرمى بعمامته في الدار بأني قد نهضت فيما أنهضتني فرجع وجاءت أم
حبيبة على بغلة لها برحالة1 مشتملة على إداوة2 فقيل: أم المؤمنين أم
حبيبة فضربوا وجه بغلتها فقالت: إن وصايا بني أمية إلى هذا الرجل
فأحببت أن ألقاه فأسأله عن ذلك كي لا تهلك أموال أيتام وأرامل فقالوا:
كاذبة وأهووا لها وقطعوا حبل البغلة بالسيف فندت بأم حبيبة فتلقاها
الناس وقد مالت رحالتها فتعلقوا بها وأخذوها وقد كادت تقتل فذهبوا بها
إلى بيتها وتجهزت عائشة خارجة إلى الحج هاربة واستتبعت أخاها فأبى
فقالت: أما والله لئن استطعت أن يحرمهم الله ما يحاولمون لأفعلن.
وجاء حنظلة الكاتب حتى قام على محمد بن أبي بكر فقال: يا محمد تستتبعك
أم المؤمنين فلا تتبعها وتدعوك ذؤبان العرب إلى ما لا يحل فتتبعهم!
__________
1 - الرحالة: السرج من الجلد يتخذ للركش الشديد, ط 4 – 386.
2 - الإدواة: وعاء من جلد يستعمل للماء.
(1/66)
فقال: ما أنت وذاك يا بن التميمية فقال: يا
بن الخثعمية إن هذا الأمر إن صار إلى التغالب غلبتك عليه بنو عبد مناف
وانصرف وهو يقول:
عجبت لما يخوض الناس فيه ... يرمون الخلافة أن تزولا
ولو زالت لزال الخير عنهم ... ولاقوا بعدها ذلا ذليلا
وكانوا كاليهود أو النصارى ... سواء كلهم ضلوا السبيلا
ولحق بالكوفة وخرجت عائشة وهي ممتلئة غيظا على أهل مصر وجاءها مروان بن
الحكم فقال: يا أم المؤمنين لو أقمت كان أجدر أن يراقبوا هذا الرجل
فقالت: أتريد أن يصنع بي كما صنع بأم حبيبة ثم لا أجد من يمنعني لا
والله ولا أعير ولا أدري إلام يسلم أمر هؤلاء! وبلغ طلحة والزبير ما
لقي علي وأم حبيبة فلزموا بيوتهم وبقي عثمان يسقيه آل حزم في الغفلات
عليهم الرقباء فأشرف عثمان على الناس فقال: يا عبد الله بن عباس - فدعي
له - فقال: اذهب فأنت على الموسم - وكان ممن لزم الباب - فقال: والله
يا أمير المؤمنين لجهاد هؤلاء أحب إلي من الحج فأقسم عليه لينطلقن
فانطلق إبن عباس على الموسم تلك السنة ورمى عثمان إلى الزبير بوصيته
فانصرف بها - وفي الزبير اختلاف: أأدرك مقتله أو خرج قبله - وقال
عثمان: {وَيَا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ
مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ} 1 اللهم حل بين الأحزاب وبين ما
يأملون كما فعل بأشياعهم من قبل.
[و] بعثت2 ليلى إبنة عميس إلى محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر فقالت: إن
__________
1 - سورة هود, الآية: 89.
2 - عن عمرو بن محمد.
(1/67)
ٍالمصباح يأكل نفسه ويضيء للناس فلا تأثما
في أمر تسوقانه إلى من لا يأثم فيكما فإن هذا الأمر الذي تحاولون اليوم
لغيركم غدا فاتقوا أن يكون عملكم اليوم حسرة عليكم فلجا وخرجا مغضبين
يقولان: لا ننسى ما صنع بنا عثمان وتقول: ما صنع بكما! ألا ألزمكما
الله؟ فلقيهما سعيد بن العاص وقد كان بين محمد بن أبي بكر وبينه شيء
فأنكره حين لقيه خارجا من عند ليلى فتمثل له في تلك الحال بيتا:
استبق ودك للصديق ولا تكن ... فيئا يعض بخاذل ملجاجا
فأجابه سعيد متمثلا:
ترون إذا ضربا صميما من الذي ... له جانب ناء عن الجرم معور
فلما بويع الناس1 جاء السابق فقدم بالسلامة فأخبره من الموسم2 أنهم
يريدون جميعا المصريين وأشياعهم وأنهم يريدون أن يجمعوا ذلك إلى حجهم
فلما أتاهم ذلك مع ما بلغهم من نفور أهل الأمصار أعلقهم الشيطان
وقالوا: لا يخرجنا مما وقعنا فيه إلا قتل هذا الرجل فيشتغل بذلك الناس
عنا ولم يبق خصلة يرجون بها النجاة إلا قتله فراموا الباب فمنعهم من
ذلك الحسن وابن الزبير ومحمد بن طلحة ومروان بن الحكم وسعيد بن العاص
ومن كان من أبناء الصحابة أقام معهم واجتلدوا فناداهم عثمان: الله
الله! أنتم في حل من نصرتي فأبوا ففتح الباب وخرج ومعه الترس والسيف
لينهنههم فلما رأوه أدبر المصريون وركبهم هؤلاء ونهنههم فتراجعوا وعظم
على الفريقين وأقسم
__________
1 - عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان, ط 4 - 387.
2 - أي من أمر أهل الموسم.
(1/68)
على الصحابة ليدخلن فأبوا أن ينصرفوا
فدخلوا فأغلق الباب دون المصريين وقد كان المغيرة بن الأخنس بن شريعة
فيمن حج ثم تعجل في نفر حجوا معه فأدرك عثمان قبل أن يقتل وشهد
المناوشة ودخل الدار فيمن دخل وجلس على الباب من داخل, وقال: ما عذرنا
عند الله إن تركناك ونحن نستطيع أن لا ندعهم حتى نموت؟ فاتخذ عثمان تلك
الأيام القرآن نحبا1 يصلي وعنده المصحف فإذا أعيا جلس فقرأ فيه -
وكانوا يرون القراءة في المصحف من العبادة - وكان القوم الذين كفكفهم
بينه وبين الباب فلما فلما بقي المصريون لا يمنعهم أحد من الباب ولا
يقدرون على الدخول جاؤوا بنار فأحرقوا الباب والسقيفة فتأجج الباب
والسقيفة حتى إذا إحترق الخشب خرت السقيفة على الباب فثار أهل الدار
وعثمان يصلي حتى منعوهم الدخول وكان أول من برز لهم المغيرة بن الأخنس
وهو يرتجز:
قد علمت جارية عطبول ... ذات وشاح ولها جديل
أني بنصل السيف خنشليل ... لأمنعن منكم خليلي
بصارم ليس بذي فلول
وخرج الحسن بن علي وهو يقول:
لا دينهم ديني ولا أنا منهم ... حتى أسير إلى طمار شمام
وخرج محمد بن طلحة وهو يقول:
أنا ابن من حامى عليه بأحد ... ورد أحزابا على رغم معد
__________
1 - أي هما وعبادة.
(1/69)
وخرج سعيد بن العاص وهو يقول:
صبرنا غداة الدار والموت واقب ... بأسيافنا دون ابن أروى نضارب
وكنا غداة الروع في الدار نصرة ... نشافههم بالضرب والموت ثاقب
فكان آخر من خرج عبد الله بن الزبير وأمره عثمان أن يصير إلى أبيه في
وصية بما أراد وأمره أن يأتي أهل الدار فيأمرهم بالإنصراف إلى منازلهم
فخرج عبد الله بن الزبير آخرهم فما زال يدعي بها ويحدث الناس عن عثمان
بآخر ما مات عليه.
وأحرقوا1 الباب وعثمان في الصلاة وقد افتتح {طه مَا أَنْزَلْنَا
عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى} 2 - وكان سريع القراءة فما كرثه ما سمع
وما يخطئ وما يتعتع حتى أتى عليها قبل أن يصلوا إليه - ثم عاد فجلس إلى
عند المصحف وقرأ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ
قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا
حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} 3.
وارتجز المغيرة بن الأخنس وهو دون الدار في أصحابه:
قد علمت ذات القرون الميل ... والحلي والأنامل الطفول
لتصدقن بيعتي خليلي ... بصارم ذي رونق مصقول
لا أستقيل إن أقلت قيلي
__________
1 - عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان. ط 4 – 389.
2 - سورة طه الآية 1 – 2.
3 - سورة آل عمران, الآية: 173.
(1/70)
وأقبل أبو هريرة والناس محجمون عن الدار
إلا أولئك العصبة قد سروا فاستقتلوا فقام معهم وقال: أنا إسوتكم وقال:
هذا يوم طاب امضرب - يعني أنه حل القتال وطاب وهذه لغة حمير – ونادى:
يا قوم ما لي أدعوكم إلى النجاة وتدعونني إلى النار وبادر مروان يومئذ
ونادى: رجل رجل فبرز له رجل من بني ليث يدعى النباع فاختلفا فضربه
مروان أسفل رجليه وضربه الآخر على أصل العنق فقلبه فانكب مروان واستلقى
فاجتر هذا أصحابه واجتر الآخر أصحابه فقال المصريون: أما والله لولا أن
تكونوا حجة علينا في الأمة لقد قتلناكم بعد تحذير فقال المغيرة: من
يبارز؟ فبرز له رجل فاجتلد وهو يقول:
أضربهم باليابس ... ضرب غلام بائس
من الحياة آيس
فأجابه صاحبه: ... 1 وقال الناس: قتل المغيرة بن الأخنس فقال الذي
قتله: إنا لله فقال له عبد الرحمن بن عديس: مالك؟ قال: إني أتيت فيما
يرى النائم فقيل لي: بشر قاتل المغيرة بن الأخنس بالنار فابتليت به
وقتل قباث الكناني نيار بن عبد الله الأسلمي واقتحم الناس الدار من
الدور التي حولها حتى ملؤها ولا يشعر الذين بالباب وأقبلت القبائل على
أبنائهم فذهبوا بهم إذ غلبوا على أميرهم وندبوا رجلا لقتله فانتدب له
رجل فدخل عليه البيت فقال: اخلعها وندعك فقال: ويحك والله ما كشفت
امرأة في جاهلية ولا إسلام ولا تغنيت ولا تمنيت ولا وضعت يميني على
عورتي منذ بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولست خالعا قميصا كسانيه
الله عز وجل وأنا على مكاني حتى يكرم الله أهل السعادة ويهين أهل
الشقاء.
__________
1 - كلام ناقص لم أجده في مراجع أخرى, ط 4 – 390.
(1/71)
مقتل عثمان:
فخرج وقالوا: ما صنعت؟ فقال: علقنا والله والله ما ينجينا من الناس إلا
قتله وما يحل لنا قتله فأدخلوا عليه رجلا من بني ليث فقال: ممن الرجل
فقال: ليثي فقال: لست بصاحبي قال: وكيف؟ فقال: ألست الذي دعا لك النبي
صلى الله عليه وسلم في نفر أن تحفظوا يوم كذا وكذا؟ قال: بلى قال: فلن
تضيع فرجع وفارق القوم فأدخلوا عليه رجلا من قريش فقال: يا عثمان إني
قاتلك قال: كلا يا فلان لا تقتلني قال: وكيف؟ قال: إن رسول الله صلى
الله عليه وسلم استغفر لك يوم كذا وكذا فلن تقارف دما حراما. فاستغفر
ورجع وفارق أصحابه فأقبل عبد الله بن سلام حتى قام على باب الدار
ينهاهم عن قتله وقال: يا قوم لا تسلوا سيف الله عليكم فوالله إن
سللتموه لا تغمدوه ويلكم إن سلطانكم اليوم يقوم بالدرة فإن قتلتموه لا
يقم إلا بالسيف ويلكم إن مدينتكم محفوفة بملائكة الله والله لئن
قتلتموه لتتركنها فقالوا: يابن اليهودية وما أنت وهذا فرجع عنهم.
قالوا: وكان آخر من دخل عليه ممن رجع إلى القوم محمد بن أبي بكر فقال
له عثمان: ويلك! أعلى الله تغضب؟ هل لي إليك جرم إلا حقه1 اخذته منك
فنكل ورجع.
قالوا: فلما خرج محمد بن أبي بكر وعرفوا إنكساره ثار قتيرة وسودان ابن
حمران السكونيان والغافقي فضربه الغافقي بحديدة معه وضرب المصحف برجله
فاستدار المصحف فاستقر بين يديه وسالت عليه الدماء وجاء سودان بن حمران
ليضربه فانكبت عليه نائلة ابنة الفرافصة واتقت
__________
1 - لعلها "لا أحقه" بمعنى لا أذكره, ط 4 – 391. والأرجح أن المقصود
الا حق الله اخذته منك.
(1/72)
السيف بيدها فتعمدها ونفح أصابعها فأطن
أصابع يدها وولت فغمز أوراكها وقال: إنها لكبيرة العجيزة وضرب عثمان
فقتله ودخل غلمة لعثمان مع القوم لينصروه - وقد كان عثمان أعتق من كف
منهم - فلما رأوا سودان قد ضربه أهوى له بعضهم فضرب عنقه فقتله ووثب
قتيرة على الغلام فقتله وانتهبوا ما في البيت وأخرجوا من فيه ثم أغلقوه
على ثلاثة قتلى فلما خرجوا إلى الدار وثب غلام لعثمان آخر على قتيرة
فقتله ودار القوم فأخذوا ما وجدوا حتى تناولوا ما على النساء وأخذ رجل
ملائة نائلة - والرجل يدعى كلثوم بن تجيب - فتنحت نائلة فقال: ويح أمك
من عجيزة ما أتمك! وبصر به غلام لعثمان فقتله وقتل وتنادى القوم: أبصر
رجل من صاحبه وتنادوا في الدار: ادركوا بين المال لا تسبقوا إليه وسمع
أصحاب بيت المال اصواتهم وليس فيه إلا غرارتان فقالوا: النجاء فإن
القوم إنما يحاولون الدنيا فهربوا وأتوا بيت المال فانتهبوه وماج الناس
فيه فالتانئ1 يسترجع ويبكي والطارئ يفرح وندم القوم وكان الزبير قد خرج
من المدينة فأقام على طريق مكة لئلا يشهد مقتله فلما أتاه الخبر بمقتل
عثمان وهو بحيث هو, قال: إنا لله وإنا إليه راجعون! رحم الله عثمان
وانتصر له وقيل: إن القوم نادمون فقال: دبروا دبروا {وحيل بينهم وبين
ما يشتهون ... } الآية2 وأتى الخبر طلحة فقال: رحم الله عثمان! وانتصر
له وللإسلام وقيل له: إن القوم نادمون فقال: تبا لهم وقرأ {فَلا
يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ} 3 وأتى
علي فقيل: قتل عثمان فقال:
__________
1 - التأني: المقيم. ط 4 – 392.
2 - سورة سبأ, الآية: 54.
3 - سورة يس, الآية:50.
(1/73)
رحم الله عثمان وخلف علينا بخير! وقيل ندم
القوم فقرأ {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ
... } الآية1 وطلب سعد فإذا هو في حائطه وقد قال: لا أشهد قتله فلما
جاءه قتله قال: فررنا إلى المدينة تدنينا وقرأ: {الَّذِينَ ضَلَّ
سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعاً} 2 اللهم أندمهم ثم خذهم.
وعن المغيرة بن شعبة3 أنه قال: قلت لعلي: إن هذا الرجل مقتول وإنه إن
قتل وأنت بالمدينة اتخذوا فيك فاخرج فكن بمكان كذا وكذا فإنك إن فعلت
وكنت في غار باليمن طلبك الناس فأبى وحصر عثمان اثنين وعشرين يوما ثم
أحرقوا الباب وفي الدار أناس كثير فيهم عبد الله بن الزبير ومروان
فقالوا: ائذن لنا فقال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلي عهدا
فأنا صابر عليه وإن القوم لم يحرقوا باب الدار إلا وهم يطلبون ما هو
أعظم منه فأحرج على رجل يستقتل ويقاتل4.
وخرج الناس كلهم ودعا بالمصحف يقرأ فيه والحسن عنده فقال: إن أباك الآن
لفي أمر عظيم فأقسمت عليك لما خرجت! وأمر عثمان أبا كرب - رجلا من
همذان - وآخر من الأنصار أن يقوما على باب بيت المال وليس فيه إلا
غرارتان من ورق5 فلما أطفئت النار بعدما ناوشهم ابن الزبير
__________
1 - سورة الحشر, الآية: 16.
2 - سورة الكهف, الآية: 104.
3 - عن المجلد, عن الشعبي عن المغيره: ط 4 – 392.
4 - ابن الأثير "أو يقاتل".
5 - الورق: الفضة.
(1/74)
ومروان وتوعد محمد بن أبي بكر ابن الزبير
ومروان فلما دخل على عثمان هربا ودخل محمد بن أبي بكر على عثمان فأخذ
بلحيته فقال: أرسل لحيتي فلم يكن أبوك ليتناولها فأرسلها ودخلوا عليه
فمنهم من يجؤه بنصل سيفه وآخر يلكزه وجاءه رجل بمشاقص معه فوجأه في
ترفوته فسال الدم على المصحف وهم في ذلك يهابون في قتله وكان كبيرا
وغشي عليه ودخل آخرون فلما رأوه مغشيا عليه جروا برجله فصاحت نائلة
وبناته وجاء التجيبي مخترطا سيفه ليضعه في بطنه فوقته نائلة فقطع يدها
واتكأ بالسيف عليه في صدره وقتل عثمان رضي الله عنه قبل غروب الشمس
ونادى مناد: ما يحل دمه ويحرج ماله فانتهبوا كل شيء ثم تبادروا بيت
المال فألقى الرجلان المفاتيح ونجوا وقالوا: الهرب الهرب هذا ما طلب
القوم.
(1/75)
بعض سير عثمان بن
عفان رضي الله عنه:
كان عمر بن الخطاب1 قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في
البلدان إلا بإذان وأجل فشكوه فبلغه فقام فقال: ألا إني قد سننت
الإسلام سن البعير يبدأ فيكون جذعا ثم ثنيا ثم رباعيا ثم سديا ثم
بازلا2, ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان! ألا فإن الإسلام قد بزل
ألا وان قريشا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده ألا فأما
وابن الخطاب هي فلا إني قائم دون شعب الحرة آخذ بحلاقيم قريش وحجزها أن
يتهافتوا في النار.
__________
1 - عن عمارة بن القعقاع, عن الحسن البصري, ط 4 – 396.
2 - الثني: الذي يلقي ثنيته (3 سنوات) والجذع قبله, الرباعي: الذي ألقى
رباعيته وهو بعد الثني, والسديس: ما أتت عليه السادسة: والبازل: الذي
انشق فابه بدخوله في السنة التاسعة.
(1/75)
فلما ولي عثمان1 لم يأخذهم بالذي كان
يأخذهم به عمر فانساحوا في البلاد فلما رأوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس
انقطع إليهم من لم يكن له طول ولا مزية في الإسلام فكان مغموما2 في
الناس وصاروا أوزاعا إليهم وأملوهم وتقدموا في ذلك فقالوا: يملكون
فنكون قد عرفناهم وتقدمنا في التقريب والانقطاع إليهم فكان ذلك أول وهن
دخل على الإسلام وأول فتنة كانت في العامة ليس إلا ذلك.
__________
1 - عن محمد وطلحة, ط 4 – 397.
2 - مغموما. أي مغطى وهو استعمال قديم لأهل المدينة (شفاء الغليل ص:
193) .
(1/76)
آراء متفرقة في
تحليل الفتنة:
لم يمت عمر رضي الله عنه حتى ملته قريش3 وقد كان حصرهم بالمدينة فامتنع
عليهم وقال: إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد فإن كان
الرجل ليستأذنه في الغزو - وهو ممن حبس بالمدينة من المهاجرين ولم يكن
فعل ذلك بغيرهم من أهل مكة – فيقول: قد كان في غزوك مع رسول الله صلى
الله عليه وسلم ما يبلغك وخير لك من الغزو اليوم ألا ترى الدنيا ولا
تراك فلما ولي عثمان خلى عنهم فاضطربوا في البلاد وانقطع إليهم الناس
فكان أحب إليهم من عمر.
[و] لما ولي عثمان4 حج سنواته كلها إلا آخر حجة وحج بأزواج رسول الله
صلى الله عليه وسلم كما كان يصنع عمر فكان عبد الرحمن بن عوف في موضعه
وجعل في
__________
3 - عن عمرو. عن الشعبي.
4 - عن مبشر بن الفضيل, عن سالم بن عبد الله.
(1/76)
موضع نفسه سعيد بن زيد هذا في مؤخر القطار
وهذا في مقدمه وأمن الناس وكتب في الأمصار أن يوافيه العمال في كل موسم
ومن يشكوهم وكتب إلى الناس إلى الأمصار أن ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن
المنكر ولا يذل المؤمن نفسه فإني مع الضعيف على القوي ما دام مظلوما إن
شاء الله فكان الناس بذلك فجرى ذلك إلى أن اتخذه أقوام وسيلة إلى تفريق
الأمة.
[و] لم تمض سنة1 من إمارة عثمان حتى اتخذ رجال من قريش أموالا في
الأمصار وانقطع إليهم الناس وثبتوا سبع سنين كل قوم يحبون أن يلي
صاحبهم ثم إن ابن السوداء أسلم وتكلم وقد فاضت الدنيا وطلعت الأحداث
على يديه فاستطالوا عمر عثمان رضي الله عنه.
[وقد كان] أول منكر2 ظهر بالمدينة حين فاضت الدنيا وانتهى وسع الناس
طيران الحمام والرمي على الجلاهقات3 فاستعمل عليهما عثمان رجلا من بني
ليث سنة ثمان فقصها وكسر الجلاهقات.
[وهكذا فإن] أول من منع الحمام الطيارة4 والجلاهقات عثمان ظهرت
بالمدينة فأمر عليها رجلا فمنعهم منها.
[وفي رواية أخرى] 5 زيادة: وحدث بين الناس النشو قال: فأرسل عثمان
طائفا يطوف عليهم بالعصا فمنعهم من ذلك ثم اشتد ذلك فأفشى
__________
1 - عن محمد وطلحة, ط 4 – 398.
2 - عن عثمان بن حكيم بن عباد بن حنيف, عن أبيه.
3 - الجلاهق: قوس البندق الذي يرمى به.
4 - عن محمد بن عبد الله, عن عمرو بن شعيب.
5 - عن سهل بن يوسف عن القاسم بن محمد, عن أبيه.
(1/77)
الحدود, ونبأ ذلك عثمان وشكاه إلى الناس
فاجتمعوا على أن يجلدوا في النبيذ فأخذ نفر منهم فجلدوا.
[و] لما حدثت الأحداث1 بالمدينة خرج منها رجال إلى الأمصار مجاهدين
وليدنوا من العرب فمنهم من أتى البصرة ومنهم من أتى الكوفة ومنهم من
أتى الشام فهجموا جميعا من أبناء المهاجرين بالأمصار على مثل ما حدث في
أبناء المدينة إلا ما كان من أبناء الشام, فرجعوا جميعا إلى المدينة
إلا من كان بالشام فأخبروا عثمان بخبرهم فقام عثمان في الناس خطيبا
فقال: يا أهل المدينة أنتم أصل الإسلام وإنما يفسد الناس بفسادكم
ويصلحون بصلاحكم والله والله والله لا يبلغني عن أحد منكم حدث أحدثه
إلا سيرته ألا فلا أعرفن احدا عرض دون أولئك بكلام ولا طلب فإن من كان
قبلكم كانت تقطع أعضاؤهم دون أن يتكلم أحد منهم يما عليه ولا له وجعل
عثمان لا يأخذ أحدا منهم على شر أو شهر سلاح - عصا فما فوقها - إلا
سيره فضج آباؤهم من ذلك حتى بلغه أنهم يقولون: ما أحدث التسيير2 إلا أن
رسول الله صلى الله عليه وسلم سير الحكم بن أبي العاص فقال: إن الحكم
كان مكيا فسيره رسول الله صلى الله عليه وسلم منها إلى الطائف ثم رده
إلى بلده فرسول الله صلى الله عليه وسلم سيره بذنبه ورسول الله صلى
الله عليه وسلم رده بعفوه وقد سير الخليفة من بعده وعمر رضي الله عنه
من بعد الخليفة وأيم الله لآخذن العفو من أخلاقكم ولأبذلنه لكم من خلقي
وقد دنت امور ولا أحب أن تحل بنا وبكم وأنا على وجل وحذر فاحذروا
واعتبروا.
__________
1 - عن مبشر بن الفضيل, عن سالم بن عبد الله.
2 - التسيير: هو النفي بالمعنى المعروف حاليا تقريبا.
(1/78)
[وقد] سأل سائل سعيد بن المسيب1 عن محمد بن
أبي حذيفة: ما دعاه إلى الخروج على عثمان؟ فقال: كان يتيما في حجر
عثمان فكان عثمان والي أيتام اهل بيته ومحتمل كلهم فسأل عثمان العمل
حين ولي فقال: يا بني لو كنت رضا ثم سألتني العمل لاستعملتك ولكن لست
هناك فقال: فأذن لي فلأخرج فلأطلب ما يقوتني قال: اذهب حيث شئت وجهزه
من عنده وحمله وأعطاه فلما وقع إلى مصر كان فيمن تغير عليه أن منعه
الولاية قيل: فعمار ابن ياسر؟ قال: كان بينه وبين عباس بن عتبة بن أبي
لهب كلام فضربهما عثمان فأورث ذاك بين آل عمار وآل عتبة شرا حتى اليوم
وكنى عما ضربا عليه وفيه.
قال مبشر2: سألت سالم بن عبد الله عن محمد بن أبي بكر: ما دعاه إلى
ركوب عثمان؟ فقال: الغضب والطمع قلت: ما الغضب والطمع؟ قال: كان من
الإسلام بالمكان الذي هو به وغره أقوام فطمع وكانت له دالة فلزمه حق
فأخذه عثمان من ظهره ولم يدهن فاجتمع هذا إلى هذا فصار مذمما بعد أن
كان محمدا.
لما ولي عثمان لان لهم فانتزع الحقوق انتزاعا ولم يعطل حقا فأحبوه على
لينه فأسلمهم ذلك إلى أمر الله عز وجل.
[و] كان مما أحدث عثمان3 فرضي به منه أنه ضرب رجلا في منازعة استخف
فيها بالعباس بن عبد المطلب فقيل له فقال: نعم أيفخم
__________
1 - عن عبد الله بن سعيد بن ثابت ويحي بن سعيد.
2 - عن مبشر.
3 - عن سهل, عن القاسم.
(1/79)
رسول الله صلى الله عليه وسلم عمه وأرخص في
الاستخفاف به لقد خالف رسول الله صلى الله عليه وسلم من فعل ذلك ومن
رضي به منه.
قال حمران بن أبان1: أرسلني عثمان إلى العباس بعدما بويع فدعوته إليه
فقال: مالك تعبدتني قال: لم أكن قط أحوج إليك مني اليوم قال: الزم خمسا
لا تنازعك الأمة خزائنها ما لزمتها قال: وما هن؟ قال: الصبر عن القتل
والتحبب والصفح والمداراة وكتمان السر.
[و] بلغ عثمان2 أن ابن ذي الحبكة النهدي يعالج نيرنجا - قال محمد بن
سلمة: إنما هو نيرج3 - فأرسل إلى الوليد بن عقبة ليسأله عن ذلك فإن أقر
به فأوجعه فدعا به فسأله فقال: إنما هو رفق وأمر يعجب منه فأمر به فعزر
وأخبر الناس خبره وقرأ عليهم كتاب عثمان: إنه قد جد بكم فعليكم بالجد
وإياكم والهزال فكان الناس عليه وتعجبوا من وقوف عثمان على مثل خبره
فغضب فنفر في الذين نفروا فضرب معهم فكتب إلى عثمان فيه فلما سير إلى
الشام من سير سير كعب بن ذي الحبكة ومالك بن عبد الله - وكان دينه
كدينه - إلى دنباوند لأنها أرض سحرة فقال في ذلك كعب بن ذي الحبكة
للوليد:
لعمري لئن طردتني ما إلى التي ... طمعت بها من سقطتي لسبيل
رجوت رجوعي يابن أروى ورجعتي ... إلى الحق دهرا غال ذلك غول
__________
1 - عن رزيق بن عبد الله الرازي, عن علقمة بن مرئد.
2 - عن محمد وطلحة, ط4 – 401.
3 - النيرج: أخذ كالسحر وليس به.
(1/80)
وإن اغترابي في البلاد وجفوتي ... وشتمي في
ذات الإله قليل
وإن دعائي كل يوم وليلة ... عليك بدنباوندكم لطويل
فلما ولي سعيد أقفله وأحسن إليه واستصلحه فكفره فلم يزدد إلا فسادا.
واستعار ضابيء بن الحارث البرهمي في زمان الوليد بن عقبة من قوم من
الأنصار كلبا يدعى قرحان يصيد الظباء فحبسه عنهم فنافره الأنصاريون
واستعانوا عليه بقومه فكاثروه فانتزعوه منه وردوه على الأنصار فهجاهم
وقال في ذلك:
تحشم دوني وفد قرحان خطة ... تضل لها الوجناء وهي حسير
فباتوا شباعا ناعمين كأنما ... حباهم ببيت المرزبان أمير
فكلبكم لا تتركوا فهو أمكم ... فإن عقوق الأمهات كبير
فاستعدوا عليه عثمان فأرسل إليه فعزره وحبسه كما كان يصنع بالمسلمين
فاستثقل ذلك فما زال في الحبس حتى مات فيه وقال في الفتك يعتذر إلى
أصحابه:
هممت ولم أفعل وكدت وليتني ... فعلت ووليت البكاء حلائله
وقائلة قد مات في السجن ضابيء ... ألا من لخصم لم يجد من يجادله
وقائلة لا يبعد الله ضائبا ... فنعم الفتى تخلو به وتحاوله
فذلك صار عمير بن ضابيء سبئيا.
عن المستنير عن أخيه قال1: والله ما علمت ولا سمعت بأحد غزا عثمان
__________
1 - عن سيف عن المستنير, ط 4 – 403.
(1/81)
رضي الله عنه ولا ركب إليه إلا قتل لقد
اجتمع بالكوفة نفر فيهم الأشتر وزيد بن صوحان وكعب بن ذي الحبكة وأبو
زينب وأبو مورع وكميل بن زياد وعمير بن ضابيء فقالوا: لا والله لا يرفع
رأس ما دام عثمان على الناس فقال عمير بن ضابيء وكميل بن زياد: نحن
نقتله فركبا إلى المدينة فأما عمير فإنه نكل عنه وأما كميل بن زياد
فإنه حسر وثاوره وكان جالسا يرصده حتى أتى عليه عثمان فوجأ عثمان وجهه
(فوقع على أسته وقال: أوجعتني يا أمير المؤمنين! قال: أولست بفاتك؟
قال: لا والله الذي لا إله إلا هو فحلف وقد اجتمع عليه الناس فقالوا:
نفتشه يا أمير المؤمنين فقال: لا قد رزق الله العافية ولا أشتهي أن
اطلع منه غير ما قال. وقال: إن كان كما قلت يا كميل فاقتد مني - وجثا -
فوالله ما حسبتك إلا تريدني وقال إن كنت صادقا فأجزل الله وإن كنت
كاذبا فأذل الله وقعد له على قدميه وقال: دونك قال: قد تركت.
فبقيا حتى أكثر الناس في نجائهما فلما قدم الحجاج قال: من كان من بعث
المهلب فليواف مكتبه ولا يجعل على نفسه سبيلا فقام إليه عمير وقال: إني
شيخ ضعيف ولي إبنان قويان فأخرج احدهما مكاني أو كليهما فقال: من أنت؟
قال: أنا عمير بن ضابيء فقال: والله لقد عصيت الله عز وجل منذ أربعين
سنة ووالله لأنكلن بك المسلمين غضبت لسارق الكلب ظالما إن أباك إذ غل
لهم وإنك هممت ونكلت وإني اهم ثم لا أنكل فضربت عنقه.
قال سيف: حدثنا رجل من بني أسد قال: كان من حديثه أنه كان قد غزا عثمان
رضي الله عنه فيمن غزاه فلما قدم الحجاج ونادى بما نادى به عرض
(1/82)
رجل عليه ما عوض نفسه فقبل منه فلما ولي
قال أسماء بن خارجة: لقد كان شأن عمير مما يهمني قال: ومن عمير؟ قال:
هذا الشيخ قال:
ذكرتني الطعن وكنت ناسيا1
أليس فيمن خرج إلى عثمان؟ قال: بلى قال: فهل بالكوفة أحد غيره؟ قال:
نعم كميل قال: علي بعمير فضرب عنقه ودعا بكميل فهرب فأخذ النخع به فقال
له الأسود بن الهيثم: ما تريد من شيخ قد كفاكه الكبر! فقال: أما والله
لتحبسن عني لسانك أو لأحسن رأسك بالسيف قال: افعل فلما رأى كميل ما لقي
قومه من الخوف وهم ألفا مقاتل قال: الموت خير من الخوف إذا أخيف ألفان
من سبي وحرموا فخرج حتى أتى الحجاج فقال له الحجاج: أنت الذي أردت ثم
لم يكشفك امير المؤمنين ولم ترض حتى أقعدته للقصاص إذ دفعك عن نفسه
فقال: على أي ذلك تقتلني! تقتلني على عفوه أو على عافيتي؟ قال: يا أدهم
بن المحرز اقتله؛ قال: والاجر بيني وبينك؟ قال: نعم قال أدهم: بل الأجر
لك وما كان من إثم فعلي وقال مالك بن عبد الله - وكان من المسيرين:
مضت لابن أروى في كميل ظلامة ... عفاها له والمستقيد يلام
وقال له لا أقبح اليوم مثله ... عليك أبا عمرو وأنت إمام
رويدك رأسي والذي نسكت له ... قريش بنا على الكبير حرام
__________
1 - مثل تستعمله العرب.
(1/83)
وللعفو أمن تعرف الناس فضله ... وليس علينا
في القصاص أثام
ولو علم الفاروق ما أنت صانع ... نهى عنك نهيا ليس فيه كلام
(1/84)
دفن عثمان رضي الله
عنه:
لما قتل عثمان1 ارسلت نائلة إلى عبد الرحمن بن عديس فقالت له: إنك أمس
القوم رحما وأولاهم بأن تقوم بأمري اغرب عني هؤلاء الأموات قال: فشتمها
وزجرها حتى إذا كان في جوف الليل خرج مروان حتى أتى دار عثمان فأتاه
زيد بن ثابت وطلحة بن عبيد الله وعلي والحسن وكعب بن مالك وعامة من ثم
من صحابه فتوافى إلى موضع الجنائز صبيان ونساء فأخرجوا عثمان فصلى عليه
مروان ثم خرجوا به حتى انتهوا إلى البقيع فدفنوه فيه مما يلي حش كوكب
حتى إذا أصبحوا أتوا أعبد عثمان الذين قتلوا معه فأخرجوهم فرأوهم
فمنعوهم من أن يدفنوا فأدخلوهم حش كوكب فلما امسوا خرجوا بعيدين منهم
فدفنوهما إلى جنب عثمان ومع كل واحد منهما خمسة نفر وامرأة فاطمة أم
إبراهيم بن عدي ثم رجعوا فأتوا كنانة بن بشر فقالوا: إنك أمس القوم بنا
رحما فأمر بهاتين الجيفتين اللتين في الدار أن تخرجا فكلمهم في ذلك
فأبوا فقال: أنا جار لآل عثمان من أهل مصر ومن لف لفهم فأخرجوهما
فارموا بهما فجرا بأرجلهما فرمى بهما على البلاط فأكلتهما الكلاب وكان
العبدان اللذان قتلا يوم الدار يقال بهما نجيح وصبيح فكان اسماهما
الغالب على
__________
1 - عن أبي حارثة, وأبي عثمان ومحمد وطلحة, ط 4 – 414.
(1/84)
الرقيق لفضلهما وبلائهما ولم يحفظ الناس
اسم الثالث ولم يغسل عثمان وكفن في ثيابه ودمائه ولا غسل غلاماه.
ودفن1 عثمان رضي الله عنه في الليل وصلى عليه مروان بن الحكم وخرجت
ابنته تبكي في اثره ونائلة إبنة الفرافضة رحمهم الله.
وكان قتل2 عثمان رضي الله عنه يوم الجمعة لثماني عشرة ليلة مضت من ذي
الحجة سنة خمس وثلاثين [35 هـ] على رأس إحدى عشرة سنة وأحد عشر شهرا
وإثنين وعشرين يوما من مقتل عمر رضي الله عنه وقتل وهو ابن ثلاث وستين
سنة3.
__________
1 - عن مجالد, عن الشعبي, ط 4 – 415.
2 - عن محمد وطلحة وأبي حارثة وأبي عثمان, ط 4 - 416.
3 - يبدو أن هناك خطأ بين 63 و 83, لأن الرواة اختلفوا في عمره بين 82
و 90 سنة, وواقع حاله رضي الله عنه يدل أنه كان قد تجاوز الثمانين.
(1/85)
ولاة الأمصار عند
وفاة عثمان:
مات عثمان4 رضي الله عنه وعلى الشام معاوية وعامل معاوية على حمص عبد
الرحمن بن خالد بن الوليد وعلى قنسرين حبيب بن مسلمة وعلى الأردن أبو
الأعور بن سفيان وعلى فلسطين علقمة بن حكيم الكناني وعلى البحر عبد
الله بن قيس الفزاري وعلى القضاء أبو الدرداء
__________
4 - عن أبي حارثة وأبي عثمان ط 4 – 421.
(1/85)
وفي رواية سيف عن عطية1: مات عثمان رضي
الله عنه وعلى الكوفة على صلاتها أبو موسى وعلى خراج السواد جابر بن
عمرو المزني - وهو صاحب المسناة إلى جانب الكوفة - وسماك الأنصاري وعلى
حربها القعقاع بن عمرو وعلى قرقيسياء جرير بن عبد الله وعلى أذربيجان
الأشعث بن قيس وعلى حلوان عتيبة بن النهاس وعلى ماه مالك بن حبيب وعلى
همذان النسير وعلى الري سعيد بن قيس وعلى أصبهان السائب بن الأقرع وعلى
ماسبذان حبيش وعلى بيت المال عقبة بن عمرو وكان على قضاء عثمان يومئذ
زيد بن ثابت.
__________
1 - ط 4 – 422.
(1/86)
بعض خطب عثمان:
خطب عثمان الناس بعدما بويع فقال2:
أما بعد فإني قد حملت وقد قبلت ألا وإني متبع ولست بمبتدع ألا وإن لكم
علي بعد كتاب الله عز وجل وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثلاثا: اتباع
من كان قبلي فيما اجتمعتم عليه وسننتم وسن سنة أهل الخير فيما لم تسنوا
عن ملأ والكف عنكم إلا فيما استوجبتم ألا وإن الدنيا خضرة قد شهيت إلى
الناس ومال إليها كثير منهم فلا تركنوا إلى الدنيا ولا تثقوا بها فإنها
ليست بثقة واعلموا أنها غير تاركة إلا من تركها.
[و] آخر خطبة خطبها عثمان رضي الله عنه في جماعة3:
__________
2 - عن القاسم بن محمد, عن عون بن عبد الله بن عتيبة. ط 4 – 422.
3 - عن بدر بن عثمان, عن عمه.
(1/86)
إن الله عز وجل إنما أعطاكم الدنيا لتطلبوا
بها الآخرة ولم يعطكموها لتركنوا إليها إن الدنيا تفنى والآخرة تبقى
فلا تبطرنكم الفانية ولا تشغلنكم عن الباقية فآثروا ما يبقى على ما
يفنى فإن الدنيا منقطعة وإن المصير إلى الله إتقوا الله جل وعز فإن
تقواه جنة من بأسه ووسيلة عنده واحذوا من الله الغير والزموا جماعتكم
لا تصيروا أحزابا {وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ
كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً} 1.
__________
1 - سورة آل عمران, الآية: 103.
(1/87)
|