الفتنة ووقعة الجمل
وقعة الجمل
إستئذان طلحة والزبير عليا في العمرة
...
إستئذان طلحة والزبير عليا في العمرة:
استأذن1 طلحة والزبير عليا في العمرة فأذن لهما فلحقا بمكة وأحب اهل
المدينة أن يعلموا ما رأي علي في معاوية وانتقاضه ليعرفوا بذلك رأيه في
قتال أهل القبلة أيجسر عليه أو ينكل عنه؟ وقد بلغهم أن الحسن بن علي
دخل عليه ودعاه إلى القعود وترك الناس فدسوا إليه زياد بن حنظلة
التميمي - وكان منقطعا إلى علي - فدخل عليه فجلس إليه ساعة ثم قال له
علي: يا زياد تيسر فقال: لاي شيء؟ فقال: تغزو الشام فقال زياد: الأناة
والرفق أمثل فقال:
ومن لا يصانع في أمور كثيرة ... يضرس بأنياب ويوطأ بمنسم
فتمثل علي وكأنه لا يريده:
متى تجمع القلب الذكي وصارما ... وأنفا حميا تجتنبك المظالم
فخرج زياد على الناس والناس ينتظرونه فقالوا: ما وراءك؟ فقال: السيف يا
قوم فعرفوا ما هو فاعل ودعا علي محمد بن الحنفية فدفع إليه اللواء وولى
عبد الله بن عباس ميمنته وعمر بن أبي سلمة أو عمرو بن سفيان
__________
1 - عن محمد وطلحة, ط 4 – 444.
(1/107)
ابن عبد الأسد - ولاه ميسرته ودعا أبا ليلى
بن عمر بن الجراح ابن أخي أبي عبيدة بن الجراح فجعله علي مقدمته
واستخلف على المدينة قثم بن عباس ولم يول ممن خرج على عثمان أحدا وكتب
إلى قيس بن سعد أن يندب الناس إلى الشآم وإلى عثمان بن حنيف وإلى أبي
موسى مثل ذلك وأقبل على التهيؤ والتجهز وخطب أهل المدينة فدعاهم إلى
النهوض في قتال أهل الفرقة وقال: إن الله عز وجل بعث رسولا هاديا مهديا
بكتاب ناطق وأمر قائم واضح لا يهلك عنه إلا هالك وإن المبتدعات
والشبهات هن المهلكات إلا من حفظه الله وإن في سلطان الله عصمة أمركم
فأعطوه طاعتكم غير ملوية ولا مستكره بها والله لتفعلن أو لينقلن الله
عنكم سلطان الإسلام ثم لا ينقله إليكم أبدا حتى يأرز الأمر إليها1
انهضوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون يفرقون جماعتكم لعل الله يصلح بكم
ما افسد أهل الآفاق وتقضون الذي عليكم فبيناهم كذلك إذ جاء الخبر عن
أهل مكة بنحو آخر وتمام على خلاف فقام فيهم بذلك فقال: إن الله عز وجل
جعل لظالم هذه الامة العفو والمغفرة وجعل لمن لزم الأمر واستقام الفوز
والنجاة فمن لمن يسعه الحق أخذ بالباطل ألا وإن طلحة والزبير وأم
المؤمنين قد تمالؤوا على سخط إمارتي ودعوا الناس إلى الإصلاح وسأصبر ما
لم أخف على جماعتكم وأكف إن كفوا وأقتصر على ما بلغني عنهم.
__________
1 - أي الى المدينة.
(1/108)
استنفار أهل المدينة:
ثم أتاه أنهم يريدون البصرة لمشاهدة الناس والإصلاح فتعبى للخروج إليهم
وقال: إن فعلوا هذا فقد انقطع نظام المسلمين وما كان عليهم في المقام
فينا
(1/108)
مؤونة ولا إكراه فاشتد على أهل المدينة
الأمر فتثاقلوا فبعث إلى عبد الله ابن عمر كميلا النخعي فجاء به فقال:
انهض معي فقال: أنا مع أهل المدينة إنما أنا رجل منهم وقد دخلوا في هذا
الأمر فدخلت معهم فلا أفارقهم فإن يخرجوا أخرج وإن يقعدوا أقعد قال:
فاعطني زعيما بألا تخرج قال ولا أعطيك زعيما قال لولا ما اعرف من سوء
خلقك صغيرا وكبيرا لأنكرتني دعوه فأنا به زعيم فرجع عبد الله بن عمر
إلى المدينة وهم يقولون: لا والله ما ندري كيف نصنع فإن هذا الأمر
لمشتبه علينا ونحن مقيمون حتى يضيء لنا ويسفر.
فخرج من تحت ليلته وأخبر أم كلثوم بنت علي بالذي سمع من أهل المدينة
وأنه يخرج معتمرا مقيما على طاعة علي ما خلا النهوض وكان صدوقا فاستقر
عندها وأصبح علي فقيل له: حدث البارحة حدث هو أشد عليك من طلحة والزبير
وأم المؤمنين ومعاوية قال: وما ذلك؟ قال: خرج إبن عمر إلى الشام فأتى
علي السوق ودعا بالظهر فحمل الرجال وأعد لكل طريق طلابا وماج أهل
المدينة وسمعت أم كلثوم بالذي هو فيه فدعت ببغلتها فركبتها في رحل ثم
أتت عليا وهو واقف في السوق يفرق الرجال في طلبه فقالت: ما لك لا تزند1
من هذا الرجل؟ إن الأمر على خلاف ما بلغته وحدثته قالت: أنا ضامنة له
فطابت نفسه وقال: انصرفوا لا والله ما كذبت ولا كذب وإنه عندي ثقة
فانصرفوا.
ولما رأى علي2 من أهل المدينة ما رأى لم يرض طاعتهم حتى يكون معها
نصرته قام فيهم وجمع إليه وجوه أهل المدينة وقال إن آخر هذا الأمر
__________
1 - تزند: ضاق صدره. رجل مزند: سريع الغضب.
2 - عن محمد وطلحة, ط 4 – 447.
(1/109)
لا يصلح إلا بما صلح أوله فقد رأيتم عواقب
قضاء الله عز وجل على من مضى منكم فانصروا الله ينصركم ويصلح لكم أمركم
فأجابه رجلان من أعلام الأنصار أبو الهيثم بن التيهان - وهو بدري -
وخزيمة بن ثابت - وليس بذي الشهادتين مات ذو الشهادتين في زمن عثمان
رضي الله عنه.
[وقد سئل الحكم] 1: أشهد خزيمة بن ثابت ذو الشهادتين الجمل؟ فقال: ليس
به ولكنه غيره من الأنصار مات ذو الشهادتين في زمن عثمان إبن عفان رضي
الله عنه.
قال الشعبي2: بالله الذي لا إله إلا هو ما نهض في تلك الفتنة إلا ستة
بدريين ما لهم سابع أو سبعة ما لهم ثامن.
[وفي رواية أخرى] عن الشعبي3 قال: بالله الذي لا إله إلا هو ما نهض في
ذلك الأمر إلا ستة بدريين ما لهم سابع فقلت: اختلفتما قال: لم نختلف إن
الشعبي شك في أبي أيوب: أخرج حيث أرسلته أم سلمة إلى علي بعد صفين أم
لم يخرج! إلا أنه قدم عليه فمضى إليه وعلي يومئذ بالنهروان.
وعن سعيد بن زيد أنه قال4: ما اجتمع أربعة من أصحاب النبي صلى الله
عليه وسلم ففازوا على الناس بخير يجوزونه إلا وعلي بن أبي طالب أحدهم
__________
1 - عن محمد, عن عبيد الله, عن الحكم, ط 4 – 447.
2 - عن مجالد, عن الشعبي.
3 - عن عمرو بن محمد, عن الشعبي.
4 - عن عبد الله بن سعيد بن ثابت, عن رجل.
(1/110)
ثم إن زياد بن حنظلة لما رأى تثاقل الناس
عن علي ابتدر إليه وقال: من تثاقل عنك فإنا نخف معك ونقاتل دونك وبينما
علي يمشي في المدينة إذ سمع زينب ابنة أبي سفيان وهي تقول: ظلامتنا عند
مدمم وعند مكحلة [هما محمد بن أبي بكر ومحمد بن جعفر] فقال: إنها لتعلم
ما هما لها بثأر.
(1/111)
وصول الخبر إلى
عائشة:
قتل عثمان في ذي الحجة1 لثمان عشرة خلت منه وكان على مكة عبد الله ابن
عامر الحضرمي وعلى الموسم يومئذ عبد الله بن عباس بعثه عثمان وهو محصور
فتعجل اناس في يومين فادركوا مع ابن عباس فقدموا المدينة بعدما قتل
وقبل أن يبايع علي وهرب بنوا امية فلحقوا بمكة وبويع علي لخمس بقين من
ذي الحجة يوم الجمعة وتساقط الهراب إلى مكة وعائشة مقيمة بمكة تريد
عمرة المحرم فلما تساقط إليها الهراب استخبرتهم فأخبروها أن قد قتل
عثمان رضي الله عنه ولم يجبهم إلى التأمير أحد فقالت عائشة رضي الله
عنها: ولكن اكياس هذا غب ما كان يدور بينكم من عتاب الاستصلاح. حتى إذا
قضت عمرتها وخرجت فانتهت إلى سرف لقيها رجل من أخوالها من بني ليث -
وكانت واصلة لهم رفيقة عليهم - يقال له عبيد بن أبي سلمة يعرف بأمه أم
كلاب فقالت: مهيم فأصم ودمدم فقالت: ويحك! علينا أو لنا؟ فقال: لا
تدري؟ قتل عثمان وبقوا ثمانيا قالت: ثم صنعوا ماذا؟ فقال: أخذوا أهل
المدينة بالاجتماع على علي والقوم الغالبون على المدينة فرجعت إلى مكة
وهي لا تقول شيئا ولا يخرج منها شيء حتى نزلت على باب المسجد وقصدت
للحجر فسترت فيه واجتمع الناس إليها فقالت: يا أيها الناس إن الغوغاء
__________
1 - عن محمد وطلحة, ط 4 – 448.
(1/111)
من أهل الأمصار وأهل المياه وعبيد أهل
المدينة اجتمعوا أن عاب الغوغاء على هذا المقتول بالأمس الإرب واستعمال
من حدثت سنه وقد استعمل اسنانهم قبله ومواضع من مواضع الحمى حماها لهم
وهي أمور قد سبق بها لا يصلح غيرها فتابعهم ونزع لهم عنها استصلاحا لهم
فلما لم يجدوا حجة ولا عذرا خلجوا وبادوا بالعدوان ونبا فعلهم عن قولهم
فسفكوا الدم الحرام واستحلوا البلد الحرام وأخذوا المال الحرام
واستحلوا الشهر الحرام والله لإصبع عثمان خير من طباق الارض أمثالهم
فنجاة من اجتماعكم عليهم حتى ينكل بهم غيرهم ويشرد من بعدهم ووالله لو
أن الذي اعتدوا به عليه كان ذنبا لخلص منه كما يخلص الذهب من خبثه أو
الثوب من درنه إذ ماصوه1 كما يماص الثوب بالماء فقال عبد الله بن عامر
الحضرمي: هأنذا لها أول طالب - وكان أول مجيب ومنتدب.
__________
1- في نهاية ابن الأثير: "في حديث عائشة قالت عن عثمان: مصتموه كما يمص
الثوب, ثم عدوتم عليه فقتلتموه, الموص: الغسل بالأصابع, يقال: مصته
أموصه موصا, أرادت أنهم استتابوه عما نقموا منه, فلما أعطاهم ما طلبوه
قتلوه.
(1/112)
توجه عائشة إلى
المدينة وعودتها:
خرجت عائشة2 رضي الله عنها نحو المدينة من مكة بعد مقتل عثمان فلقيها
رجل من أخوالها فقالت: ما وراءك؟ قال: قتل عثمان واجتمع الناس على علي
والأمر أمر الغوغاء فقالت: ما أظن ذلك تاما ردوني فانصرفت راجعة إلى
مكة حتى إذ دخلتها أتاها عبد الله بن عامر الحضرمي – وكان
__________
2- عن عمرو بن محمد, عن الشعبي, ط 4 – 449.
(1/112)
أمير عثمان عليها - فقال: ما ردك يا أم
المؤمنين؟ قالت: ردني أن عثمان قتل مظلوما وأن الأمر لا يستقيم ولهذه
الغوغاء أمر فاطلبوا بدم عثمان تعزوا الإسلام فكان أول من أجابها عبد
الله بن عامر الحضرمي وذلك أول ما تكلمت بنو أمية بالحجاز ورفعوا
رؤوسهم وقام معهم سعيد بن العاص والوليد بن عقبة وسائر بني أمية وقد
قدم عليهم عبد الله بن عامر من البصرة1 ويعلي بن أمية من اليمن وطلحة
والزبير من المدينة واجتمع ملؤهم بعد نظر طويل في أمرهم على البصرة
وقالت [عائشة] : أيها الناس إن هذا حدث عظيم وأمر منكر فانهضوا فيه إلى
إخوانكم من أهل البصرة فأنكروه فقد كفاكم أهل الشام ما عندهم لعل الله
عز وجل يدرك لعثمان وللمسلمين بثأرهم.
[وفي رواية أخرى] 2:
كان أول من أجاب إلى ذلك عبد الله بن عامر وبنو أمية وقد كانوا سقطوا
إليها بعد مقتل عثمان ثم قدم عبد الله بن عامر ثم قدم يعلي بن أمية
فاتفقا بمكة ومع يعلي ستمائة بعير وستمائة ألف3 فأناخ بالأبطح معسكرا
وقدم معهما طلحة والزبير فلقيا عائشة رضي الله عنها فقالت: ما وراءكما؟
فقالا: وراءنا أنا تحملنا بقليتنا4 هرابا من المدينة من غوغاء وأعراب
وفارقنا قوما حيارى لا يعرفون حقا ولا ينكرون باطلا ولا يمنعون أنفسهم
قالت: فاتمروا أمرا ثم انهضوا إلى هذه الغوغاء وتمثلت:
ولو أن قومي طاوعتني سراتهم ... لأنقذتهم من الحبال أو الخيل
__________
1 - بعدها في ابن الأثير "بمال كثير".
2 - عن محمد وطلحة, ط 4 – 450.
3 - أي ستمائة الف درهم.
4 - ارتحل القوم بقليتهم: لم يدعوا وراءهم شيئا.
(1/113)
وقال القوم فيما ائتمروا به: الشام فقال
عبد الله بن عامر: قد كفاكم الشام من يستمر في حوزته فقال: له طلحة
والزبير: فأين؟ قال: البصرة فإن لي بها صنائع ولهم في طلحة هوى قالوا:
قبحك الله! فوالله ما كنت بالمسالم ولا بالمحارب فهلا اقمت كما اقام
معاوية فنكتفي بك ونأتي الكوفة فنسد على هؤلاء القوم المذاهب! فلم
يجدوا عنده جوابا مقبولا حتى إذا استقام له الرأي على البصرة قالوا: يا
أم المؤمنين دعي المدينة فإن من معنا لا يقرنون لتلك الغوغاء التي بها
واشخصي معنا إلى البصرة فإنا نأتي بلدا مضيعا وسيحتجون علينا فيه ببيعة
علي بن أبي طالب فتنهضينهم كما أنهضت أهل مكة ثم تقعدين فإن أصلح الله
الأمر كان الذي تريدين وإلا احتسبنا ودفعنا عن هذا الامر بجهدنا حتى
يقضي الله ما أراد.
فلما قالوا ذلك لها - ولم يكن ذلك مستقيما إلا بها – قالت: نعم وقد كان
أزواج النبي صلى الله عليه وسلم معها على قصد المدينة فلما تحول رأيها
إلى البصرة تركن ذلك وانطلق القوم بعدها إلى حفصة فقالت: رأي تبع لرأي
عائشة حتى إذا لم يبق إلا الخروج قالوا: كيف نستقل وليس معنا مال نجهز
به الناس! فقال يعلي بن أمية: معي ستمائة ألف وستمائة بعير فاركبوها
وقال ابن عامر: معي كذا وكذا فتجهزوا به فنادى المنادي إن أم المؤمنين
وطلحة والزبير شاخصون إلى البصرة فمن كان يريد إعزاز الإسلام وقتال
المحلين والطلب بثأر عثمان ومن لم يكن عنده مركب -ولم يكن له جهاز فهذا
جهاز وهذه نفقة فحملوا ستمائة رجل على ستمائة ناقة سوى من كان له مركب
- وكانوا جميعا ألفا - وتجهزوا بالمال ونادوا بالرحيل واستقلوا ذاهبين
وأرادت حفصة الخروج فأتاها عبد الله بن عمر فطلب إليها أن تقعد فقعدت
وبعثت إلى عائشة: أن عبد الله حال بيني وبين الخروج فقالت: يغفر الله
لعبد الله! وبعثت أم الفضل بنت الحارث رجلا من جهينة يدعى ظفرا
فاستأجرته على أن يطوي ويأتي عليا بكتابها فقدم على علي بكتاب أم الفضل
بالخبر.
(1/114)
[و] خرج المغيرة1 وسعيد بن العاص معهم
مرحلة من مكة فقال سعيد للمغيرة: ما الرأي؟ قال: الرأي والله الاعتزال
فإنهم ما يفلح أمرهم فإن أظفره الله أتيناه فقلنا: كان هوانا وصغونا2
معك فاعتزلا فجلسا فجاء سعيد مكة فأقام بها ورجع معها عبد الله بن خالد
بن أسيد.
[وفي رواية أخرى] :
لما انتهت عائشة رضي الله عنها3 إلى سرف راجعة في طريقها إلى مكة لقيها
عبد بن أم كلاب - وهو عبد بن أبي سلمة ينسب إلى أمه - فقالت له: مهيم؟
قال: قتلوا عثمان رضي الله عنه فمكثوا ثمانيا قالت: ثم صنعوا ماذا؟
قال: أخذها أهل المدينة بالاجتماع فجازت بهم الأمور إلى خير مجاز
اجتمعوا على علي بن أبي طالب فقالت: والله ليت أن هذه انطبقت على هذه
أن تم الأمر لصاحبك! ردوني ردوني فانصرفت إلى مكة وهي تقول: قتل والله
عثمان مظلوما والله لأطلبن بدمه فقا: لها ابن أم كلاب: ولم؟ فوالله إن
أول من أمال حرفه لأنت ولقد كنت تقولين: اقتلوا نعثلا فقد كفر قالت:
إنهم استتابوه ثم قتلوه وقد قلت وقالوا: وقولي الاخير خير من قولي
الأول فقال لها ابن أم كلاب:
فمنك البداء ومنك الغير ... ومنك الرياح ومنك المطر
وأنت أمرت بقتل الإمام ... وقلت لنا إنه قد كفر
فهبنا أطعناك في قتله ... وقاتله عندنا من أمر
ولم يسقط السيف من فوقنا ... ولم تنكسف شمسنا والقمر
__________
1- عن محمد وطلحة, ط 4 – 452.
2- صغونا: ميلنا.
3- عن سيف بن عمر, عن محمد بن نويرة وطلحة بن الأعلم الحنفي, ط 4 –
458.
(1/115)
وقد بايع الناس ذا تدرإ1 ... يزيل الشبا
ويقيم الصعر
ويلبس للحرب أثوابها ... وما من وفى مثل من قد غدر
فانصرفت إلى مكة فنزلت على باب المسجد فقصدت الحجر فسترت واجتمع إليها
الناس فقالت: يا ايها الناس إن عثمان قتل مظلوما والله لأطلبن بدمه.
__________
1- ذو تدرأ: ذو عدة وقوة.
(1/116)
توجه عائشة وطلحة
والزبير إلى البصرة:
لما اجتمع2 إلى مكة بنو أمية ويعلي بن منية وطلحة والزبير ائتمروا
أمرهم وأجمع ملؤهم على الطلب بدم عثمان وقتال السبئية حتى يثأروا
وينتقموا فأمرتهم عائشة رضي الله عنها بالخروج إلى المدينة واجتمع
القوم على البصرة وردوها عن رأيها وقال لها طلحة والزبير: إنا نأتي
أرضا قد أضيعت وصارت إلى علي وقد أجبرنا على بيعته وهم محتجون علينا
بذلك وتاركوا أمرنا إلا أن تخرجي فتأمري بمثل ما أمرت بمكة ثم ترجعي
فنادى المنادي: إن عائشة تريد البصرة وليس في ستمائة بعير ما تغنون به
غوغاء وجلبة الأعراب وعبيدا قد انتشروا وافترشوا أذرعهم مسعدين لأول
واعية وبعثت إلى حفصة فارادت الخروج فعزم عليها ابن عمر فأقامت فخرجت
عائشة ومعها طلحة والزبير وأمرت على الصلاة عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد
فكان يصلي بهم في الطريق وبالبصرة حتى قتل وخرج معها مروان وسائر بني
أمية إلا من خشع وتيامنت عن أوطاس وهم ستمائة راكب سوى من كانت له مطية
فتركت الطريق ليلة وتيامنت عنها كأنهم سيارة ونجعة مساحلين
__________
2 - عن محمد بن قيس, عن الأعز ط 4 – 453.
(1/116)
لم يدن من المنكدر ولا واسط ولا فلج منهم
أحد حتى أتوا البصرة في عام خصيب وتمثلت:
دعي بلاد جموع الظلم إذ صلحت ... فيها المياه وسيري سير مذعور
تخيري النبت فارعي ثم ظاهرة ... وبطن واد من الضمار ممطور
[وقد] جمع الزبير1 بنيه حين اراد الرحيل فودع بعضهم وأخرج بعضهم وأخرج
ابني أسماء جميعا فقال: يا فلان أقم يا عمرو أقم فلما رأى ذلك عبد الله
بن الزبير قال: يا عروة أقم ويا منذر اقم فقال الزبير: ويحك! استصحب
ابني واستمتع منهما فقال: إن خرجت بهم جميعا فاخرج وإن خلفت منهم أحدا
فخلفهما ولا تعرض أسماء للثكل من بين نسائك فبكى وتركهما فخرجوا حتى
إذا انتهوا إلى جبال أوطاس تيامنوا وسلكوا طريقا نحو البصرة وتركوا
طريقها يسارا حتى إذا دنوا منها فدخلوها ركبوا المنكدر.
خرج الزبير وطلحة2 ففصلا ثم خرجت عائشة فتبعها أمهات المؤمنين إلى ذات
عرق فلم ير يوم كان أكثر باكيا على الإسلام أو باكيا له من ذلك اليوم
كان يسمى يوم النحيب وأمرت عبد الرحمن بن عتاب فكان يصلي بالناس وكان
عدلا بينهم.
[و] لما تيامن3 عسكرها عن أوطاس اتوا على مليح بن عوف السلمي وهو
__________
1- عن سعيد بن عبد الله, عن أبي مليكة, ط 4 – 460.
2- عن ابن الشهيد, عن أبي مليكة, ط 4 – 460.
3- عن محمد بن عبد الله, عن يزيد بن معن السلمي, ط 4 – 461.
(1/117)
مطلع ماله فسلم على الزبير وقال: يا أبا
عبد الله ما هذا؟ قال: عدي على أمير المؤمنين رضي الله عنه فقتل بلا
ترة ولا عذر قال: ومن؟ قال: الغوغاء من الأمصار ونزاع القبائل وظاهرهم
الأعراب والعبيد قال: فتريدون ماذا؟ قال: ننهض الناس فيدرك بهذا الدم
لئلا يبطل فإن في إبطاله توهين سلطان الله بيننا أبدا إذا لم يفطم
الناس عن أمثالها لم يبق إمام إلا قتله هذا الضرب قال: والله إن ترك
هذا لشديد ولا تدرون إلى اين ذلك يسير! فودع كل واحد منهما صاحبه
وافترقا ومضى الناس.
(1/118)
موقف عبد الله بن
عمر:
لما إجتمع الرأي1 من طلحة والزبير وأم المؤمنين ومن بمكة من المسلمين
على السير إلى البصرة والانتصار من قتلة عثمان رضي الله عنه خرج الزبير
وطلحة حتى لقيا ابن عمر ودعواه إلى الخفوف2 فقال: إني إمرؤ من أهل
المدينة فإن يجتمعوا على النهوض أنهض وإن يجتمعوا على القعود اقعد
فتركاه ورجعا.
__________
1- عن سيف, عن محمد وطلحة , ط 4 – 460.
2- أي الخفة معهم وإعانتهم على ما يريدون.
(1/118)
خروج علي إلى الربذة
يريد البصرة:
كان علي في هم من توجه القوم3 لا يدري إلى أين يأخذون! وكان أن يأتوا
البصرة أحب إليه فلما تيقن أن القوم يعارضون طريق البصرة سر بذلك
__________
1- عن سيف, عن محمد وطلحة , ط 4 – 460.
2- أي الخفة معهم وإعانتهم على ما يريدون.
(1/118)
وقال: الكوفة فيها رجال العرب وبيوتاتهم
فقال: له ابن عباس: إن الذي يسرك من ذلك ليسوءني إن الكوفة فسطاط فيه
أعلام من أعلام العرب ولا يحملهم عدة القوم ولا يزال فيهم من يسمو إلى
أمر لا يناله فإذا كان كذلك شغب على الذي نال حتى يفثأه فيفسد بعضهم
على بعض فقال علي: إن الأمر ليشبه ما تقول ولكن الأثرة لأهل الطاعة
وألحق بأحسنهم سابقة وقدمة فإن استووا أعفيناهم واجتبرناهم فإن أقنعهم
ذلك كان خيرا لهم وإن لم يقنعهم كلفونا إقامتهم وكان شرا على من هو شر
له فقال ابن عباس: إن ذلك لأمر لا يدرك إلا بالقنوع.
جاء عليا الخبر1 عن طلحة والزبير وأم المؤمنين فأمر على المدينة تمام
بن العباس وبعث إلى مكة قثم بن العباس وخرج وهو يرجو أن يأخذهم بالطريق
واراد ان يعترضهم فاستبان له بالربذة أن قد فاتوه وجاءه بالخبر عطاء بن
رئاب مولى الحارث بن حزن.
بلغ عليا الخبر2 - وهو بالمدينة - باجتماعهم على الخروج إلى البصرة
وبالذي اجتمع عليه ملؤهم طلحة والزبير وعائشة, ومن تبعهم وبلغه قول
عائشة وخرج على يبادرهم في تعبيته التي كان تعبي بها إلى الشام وخرج
معه من نشط من الكوفيين والبصريين متخففين في سبعمائة رجل وهو يرجو أن
يدركهم فيحول بينهم وبين الخروج فلقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه
وقال: يا امير المؤمنين لا تخرج منها فوالله لئن خرجت منها لا ترجع
إليها ولا يعود إليها سلطان المسلمين أبدا فسبوه فقال: دعوا الرجل فنعم
الرجل من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وسار حتى انتهى إلى الربذة
فبلغه ممرهم فأقام حين فاتوه يأتمر بالربذة.
__________
1- عن سهل بن يوسف, عن القاسم بن محمد, ط 4 – 455.
2- عن محمد وطلحة, ط 4 – 455.
(1/119)
قال طارق بن شهاب1: خرجنا من الكوفة
معتمرين حين أتانا قتل عثمان رضي الله عنه فلما إنتهينا إلى الربذة -
وذلك في وجه الصبح - إذا الرفاق وإذا بعضهم يحدو بعضا فقلت: ما هذا؟
فقالوا: أمير المؤمنين فقلت: ما له؟ قالوا: غلبه طلحة والزبير فخرج
يعترض لهما ليردهما فبلغه أنهما قد فاتاه فهو يريد أن يخرج في آثارهما
فقلت إنا لله وإنا إليه راجعون آتي عليا فأقاتل معه هذين الرجلين وأم
المؤمنين أو أخالفه إن هذا لشديد فخرجت فأتيته فأقيمت الصلاة بغلس
فتقدم فصلى فلما إنصرف أتاه ابنه الحسن فجلس فقال: قد أمرتك فعصيتني
فتقتل غدا بمضيعة لا ناصر لك فقال علي: إنك لا تزال تخن خنين الجارية!
وما الذي أمرتني فعصيتك؟ قال: أمرتك يوم أحيط بعثمان رضي الله عنه أن
تخرج من المدينة فيقتل ولست بها ثم أمرتك يوم قتل ألا تبايع حتى يأتيك
وفود أهل الأمصار والعرب وبيعة كل مصر ثم أمرتك حين فعل هذان الرجلان
ما فعلا أن تجلس في بيتك حتى يصطلحوا فإن كان الفساد كان على يدي غيرك
فعصيتني في ذلك كله قال: أي بني أما قولك: لو خرجت من المدينة حين أحيط
بعثمان فوالله لقد أحيط بنا كما أحيط به وأما قولك: لا تبايع حتى تأتي
بيعة الأمصار فإن الأمر أمر اهل المدينة وكرهنا ان يضيع هذا الامر وأما
قولك حين خرج طلحة والزبير فإن ذلك كان وهنا على أهل الإسلام ووالله ما
زلت مقهورا مذ وليت منقوصا لا أصل إلى شيء مما ينبغي وأما قولك: إجلس
في بيتك فكيف لي بما قد لزمني؟ أو من تريدني؟ أتريد ان أكون مثل الضبع
التي يحاط بها ويقال: دباب دباب2 ليست هاهنا حتى يحل عرقوباها ثم تخرج
وإذا لم أنظر فيما لزمني من هذا الأمر ويعنيني فمن ينظر فيه فكف عنك أي
بني.
__________
1- عن خالد بن مهران البجلي, عن مروان بن عبد الرحمن الخميسي, ط 4 –
455.
2- دباب كقطام: دعاء الضبع للضبع, أي دبي, ط 4 – 458.
(1/120)
الموقف في البصرة:
ومضى الناس1 حتى إذا عاجوا عن الطريق وكانوا بفناء البصرة لقيهم عمير
ابن عبد الله التميمي فقال: يا أم المؤمنين أنشدك بالله أن تقدمي اليوم
على قوم تراسلي منهم أحدا فيكفيكهم! فقالت جئتني بالرأي امرؤ صالح قال:
فعجلي ابن عامر فليدخل فإن له صنائع فليذهب إلى صنائعه فليلقوا الناس
حتى تقدمي ويسمعوا ما جئتم فيه فأرسلته فاندس إلى البصرة فأتى القوم
وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى رجال من أهل البصرة وكتبت إلى الأحنف
ابن قيس وصبرة بن شيمان وأمثالهم من الوجوه ومضت حتى إذا كانت بالحفير
انتظرت الجواب بالخبر ولما بلغ ذلك أهل البصرة دعا عثمان بن حنيف عمران
ابن حصين - وكان رجل عامة - وألزه2 بأبي الاسود الدؤلي - وكان رجل خاصة
- فقال: انطلقا إلى هذه المرأة فاعلما علمها وعلم من معها فخرجا
فانتهيا إليها وإلى الناس وهم بالحفير فاستأذنا فأذنت لهما فسلما
وقالا: إن أميرنا بعثنا إليك نسألك عن مسيرك فهل أنت مخبرتنا؟ فقالت:
والله ما مثلي يسير بالأمر المكتوم ولا يغطي لبنيه الخبر إن الغوغاء من
أهل الأمصار ونزاع القبائل غزوا حرم رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأحدثوا فيه الأحداث وآووا فيه المحدثين واستوجبوا فيه لعنة الله ولعنة
رسوله مع ما نالوا من قتل إمام المسلمين بلا ترة ولا عذر فاستحلوا الدم
الحرام فسفكوه وانتهبوا المال الحرام وأحلوا البلد الحرام والشهر
الحرام ومزقوا الأعراض والجلود واقاموا في دار قوم كانوا كارهين
لمقامهم ضارين مضرين غير نافعين ولا متقين لا يقدرون على إمتناع ولا
يأمنون فخرجت في المسلمين أعلمهم ما أتى هؤلاء القوم وما فيه الناس
وراءنا وما ينبغي لهم أن يأتوا في إصلاح هذا وقرأت: {لا خَيْرَ فِي
__________
1- عن محمد وطلحة, ط 4 – 461.
2- أي الصقه, ألحقه.
(1/121)
كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ
أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} 1.
ننهض في الإصلاح ممن أمر الله عز وجل وأمر رسول الله صلى الله عليه
وسلم الصغير والكبير والذكر والأنثى فهذا شأننا إلى معروف نأمركم به
ونحضكم عليه ومنكر ننهاكم عنه ونحثكم على تغييره.
فخرج أبو الأسود2 وعمران من عندها فأتيا طلحة فقالا: ما أقدمك؟ قال:
الطلب بدم عثمان قالا: ألم تبايع عليا؟ قال: بلى واللج3 على عنقي وما
استقيل عليا إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان ثم أتيا الزبير فقالا:
ما أقدمك؟ قال: الطلب بدم عثمان قالا: ألم تبايع عليا؟ قال: بلى واللج
على عنقي وما استقيل عليا إن هو لم يحل بيننا وبين قتلة عثمان فرجعا
إلى أم المؤمنين فودعاها فودعت عمران وقالت: يا أبا الأسود إياك أن
يقودك الهوى إلى النار {كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ
بِالْقِسْطِ..} 4 فسرحتهما ونادى مناديها بالرحيل ومضى الرجلان حتى
دخلا على عثمان بن حنيف فبدر أبو الأسود عمران فقال:
يابن حنيف قد أتيت فانفر ... وطاعن القوم وجالد واصبر
وابرز لهم مستلئما وشمر
فقال عثمان: إنا لله وإنا إليه راجعون! دارت رحى الإسلام ورب الكعبة
فانظروا بأي زيفان تزيف؟ فقال عمران: إي والله لتعركنكم عركا طويلا ثم
__________
1- سورة النساء, الآية: 114.
2- عن محمد وطلحة, ط 4 – 462.
3- اللج: السيف.
4- سورة المائدة, الآية: 8.
(1/122)
لا يساوي ما بقي منكم كثير شيء قال: فأشر
علي يا عمران قال: إني قاعد فاقعد فقال عثمان: بل امنعهم حتى يأتي أمير
المؤمنين علي قال عمران: بل يحكم الله ما يريد فانصرف إلى بيته وقام
عثمان في أمره فأتاه هشام بن عامر فقال: يا عثمان إن هذا الأمر الذي
تروم يسلم إلى شر مما تكره إن هذا فتق لا يرتق وصدع لا يجبر فسامحهم
حتى يأتي أمر علي ولا تحادهم فابى ونادى عثمان في الناس وأمرهم بالتهيؤ
ولبسوا السلاح واجتمعوا إلى المسجد الجامع وأقبل عثمان على الكيد فكاد
الناس لينظر ما عندهم وأمرهم بالتهيؤ وامر رجلا ودسه إلى الناس خدعا
كوفيا قيسيا فقام فقال: يا ايها الناس أنا قيس بن الفقدية الحميسي إن
هؤلاء القوم الذين جاؤوكم إن كانوا جاؤوكم خائفين فقد جاؤوا من المكان
الذي يأمن فيه الطير وإن كانوا جاؤوا يطلبون بدم عثمان رضي الله عنه
فما نحن بقتلة عثمان أطيعوني في هؤلاء القوم فردوهم من حيث جاؤوا فقام
الاسود ابن سريع السعدي فقال: أوزعموا أنا قتلة عثمان رضي الله عنه؟
فإنما فزعوا إلينا يستعينون بنا على قتلة عثمان منا ومن غيرنا فإن كان
القوم أخرجوا من ديارهم كما زعمت فمن يمنعهم من إخراجهم الرجال او
البلدان فحصبه الناس فعرف عثمان أن لهم بالبصرة ناصرا ممن يقوم معهم
فكسره ذلك واقبلت عائشة رضي الله عنها فيمن معها حتى إذا انتهوا إلى
المربد ودخلوا من أعلاه أمسكوا ووقفوا حتى خرج عثمان فيمن معه وخرج
إليها من أهل البصرة من أراد أن يخرج إليها ويكون معها فاجتمعوا
بالمربد وجعلوا يثوبون حتى غص بالناس.
فتكلم طلحة وهو في ميمنة المربد ومعه الزبير وعثمان في مسيرته فأنصتوا
له فحمد الله وأثنى عليه وذكر عثمان رضي الله عنه وفضله والبلد وما
استحل منه وعظم ما أتى إليه ودعا إلى الطلب بدمه وقال: إن في ذلك
(1/123)
إعزاز دين الله عز وجل وسلطانه وأما الطلب
بدم الخليفة المظلوم فإنه حد من حدود الله وإنكم إن فعلتم أصبتم وعاد
أمركم إليكم وإن تركتم لم يقم لكم سلطان ولم يكن لكم نظام.
فتكلم الزبير بمثل ذلك فقال من في ميمنة المربد: صدقا وبرا وقالا: الحق
وأمرا بالحق وقال من في ميسرته: فجرا وغدرا وقالا الباطل وأمرا به قد
بايعا ثم جاء يقولان ما يقولان! وتحاثى1 الناس وتحاصبوا وأرهجوا فتكلمت
عائشة - وكانت جهورية يعلو صوتها كثرة كأنه صوت امرأة جليلة - فحمدت
الله عز وجل وأثنت عليه وقالت: كان الناس يتجنون على عثمان رضي الله
عنه ويزرون على عماله ويأتوننا بالمدينة فيستشيروننا فيما يخبروننا
عنهم ويرون حسنا من كلامنا في صلاح بينهم فننظر في ذلك فنجده بريا تقيا
وفيا ونجدهم فجرة كذبة يحاولون غير ما يظهرون فلما قووا على المكاثرة
كاثروه فاقتحموا عليه داره واستحلوا الدم الحرام والمال الحرام والبلد
الحرام بلا ترة ولا عذر ألا إن مما ينبغي لا ينبغي لكم غيره أخذ قتلة
عثمان رضي الله عنه وإقامة كتاب الله عز وجل: {أَلَمْ تَرَ إِلَى
الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ
اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} 2.
فافترق أصحاب عثمان بن حنيف فرقتين فقالت فرقة: صدقت والله وبرت وجاءت
والله بالمعروف وقال الآخرون: كذبتم والله ما نعرف ما تقولون فتحاثوا
وتحاصبوا وأرهجوا فلما رأت ذلك عائشة انحدرت وانحدر أهل الميمنة
مفارقين لعثمان حتى وقفوا في المربد في موضع الدباغين وبقي اصحاب عثمان
على حالهم يتدافعون حتى تحاجزوا ومال بعضهم إلى
__________
1- الحثي كالرمي: ما رفعت به يدك, ط 4 – 464.
2- سورة آل عمران, الآية: 23.
(1/124)
عائشة وبقي بعضهم مع عثمان على فم السكة
وأتى عثمان بن حنيف فيمن معه حتى إذا كانوا على فم السكة سكة المسجد عن
يمين الدباغين استقبلوا الناس فأخذوا عليهم بفمها.
وأقبل جارية بن قدامة السعدي1 فقال: يا أم المؤمنين والله لقتل عثمان
بن عفان أهون من خروجك من بيتك على هذا الجمل الملعون عرضة للسلاح! إنه
قد كان لك من الله ستر وحرمة فهتكت سترك وأبحت حرمتك إنه من رأى قتالك
فإنه يرى قتلك وإن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك وإن كنت أتيتنا
مستكرهة فاستعيني بالناس قال: فخرج غلام شاب من بني سعد إلى طلحة
والزبير فقال: أما أنت يا زبير فحواري رسول الله صلى الله عليه وسلم
وأما أنت يا طلحة فوقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدك وأرى أمكما
معكما فهل جئتما بنسائكما قالا: لا قال: فما أنا منكما في شيء واعتزل.
وقال السعدي في ذلك:
صنتم حلائلكم وقدتم أمكم ... هذا لعمرك قلة الانصاف
أمرت بجر ذيولها في بيتها ... فهوت تشق البيد بالإيجاف
غرضا يقاتل دونها أبناؤها ... بالنبل والخطي والاسياف
هتكت بطلحة والزبير ستورها ... هذا المخبر عنهم والكافي
وأقبل غلام من جهينة على محمد بن طلحة - وكان محمد رجلا عابدا - فقال:
__________
1- عن نصر بن مزاحم, عن سيف, عن سهل بن يوسف, عن القاسم بن محمد, ط 4 –
465.
(1/125)
أخبرني عن قتلة عثمان! فقال: نعم دم عثمان
ثلاثة أثلاث ثلث على صاحبة الهودج - يعني عائشة - وثلث على صاحب الجمل
الأحمر - يعني طلحة - وثلث على علي بن أبي طالب فضحك الغلام وقال ألا
اراني على ضلال ولحق بعلي وقال في ذلك شعرا:
سألت ابن طلحة عن هالك ... بجوف المدينة لم يقبر
فقال ثلاثة رهط هم ... أماتوا ابن عفان واستعبر
فثلث على تلك في خدرها ... وثلث على راكب الأحمر
وثلث على علي ابن أبي طالب ... ونحن بدوية قرقر
فقلت صدقت على الأولين ... وأخطأت في الثالث الأزهر
(1/126)
قتال عائشة وعثمان
بن حنيف:
فخرج أبو الأسود1 وعمران وأقبل حكيم بن جبلة وقد خرج وهو على الخيل
فأنشب القتال وأسرع أصحاب عائشة رضي الله عنها رماحهم وأمسكوا ليمسكوا
فلم ينته ولم يثن فقاتلهم وأصحاب عائشة كافون إلا ما دافعوا عن أنفسهم
وحكيم يذمر خيله ويركبهم بها ويقول: إنها قريش ليردينها جبنها والطيش
واقتتلوا على فم السكة وأشرف أهل الدور ممن كان له في واحد من الفريقين
هوى فرموا باقي الآخرين بالحجارة وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى
انتهوا إلى مقبرة بني مازن فوقفوا بها مليا وثار إليهم الناس فحجز
الليل بينهم فرجع عثمان إلى القصر ورجع الناس إلى
__________
1- من هنا يرجع الحديث إلى رواية سيف بن محمد وطلحة, ط 4 – 466.
(1/126)
قبائلهم وجاء أبو الجرباء - أحد بني عثمان
بن مالك بن عمرو بن تميم - إلى عائشة وطلحة والزبير فاشار عليهم بأمثل
من مكانهم فاستنصحوه وتابعوا رأيه فساروا من مقبرة بني مازن فأخذوا على
مسناة البصر من قبل الجبانة حتى انتهوا إلى الزابوقة ثم أتوا مقبرة بنو
حصن وهي متنحية إلى دار الرزق فباتوا يتأهبون وبات الناس يسيرون إليهم
واصبحوا وهم على رجل في ساحة دار الرق وأصبح عثمان بن حنيف فغاداهم
وغدا حكيم بن جبلة وهو يبربر وفي يده الرمح فقال له رجل من عبد القيس:
من هذا الذي تسب وتقول له ما أسمع؟ قال: عائشة قال: يابن الخبيثة ألأم
المؤمنين تقول هذا فوضع حكيم السنان بين ثدييه فقتله ثم مر بامرأة وهو
يسبها - يعني عائشة – فقالت: من هذا الذي ألجأك إلى هذا؟ قال: عائشة
قالت: يابن الخبيثة ألأم المؤمنين تقول هذا؟ فطعنها بين ثدييها فقتلها
ثم سار فلما اجتمعوا واقفوهم فاقتتلوا بدار الرزق قتالا شديدا من حين
بزغت الشمس إلى أن زال النهار وقد كثر القتلى في أصحاب ابن حنيف وفشت
الجراحة في الفريقين ومنادي عائشة يناشدهم ويدعوهم إلى الكف فيأبون حتى
إذا مسهم الشر وعضهم1 نادوا أصحاب عائشة إلى الصلح والمتاب فأجابوهم
وتواعدوا وكتبوا بينهم كتابا على أن يبعثوا رسولا إلى المدينة وحتى
يرجع الرسول من المدينة فإن كانا أكرها خرج عثمان وأخلى لهما البصرة
وإن لم يكونا أكرها خرج طلحة والزبير:
__________
1 - في ابن الأُير: "وعضتهم الحرب".
(1/127)
الاتفاق على وقف
القتال بين عثمان بن حنيف وعائشة:
بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما اصطلح عليه طلحة والزبير ومن معهما من
المؤمنين والمسلمين وعثمان بن حنيف ومن معه من المؤمنين والمسلمين إن
عثمان
(1/127)
يقيم حيث ادركه الصلح على ما في يده وإن
طلحة والزبير يقيمان حيث أدركهما الصلح على ما في أيديهما حتى يرجع
أمين الفريقين ورسولهم كعب بن سور من المدينة ولا يضار واحد من
الفريقين الآخر في مسجد ولا سوق ولا طريق ولا فرضة بينهم عيبة مفتوحة
حتى يرجع كعب بالخبر فإن رجع بأن القوم أكرهوا طلحة والزبير فالأمر
أمرهما وإن شاء عثمان خرج حتى يلحق بطيته وإن شاء دخل معهما وإن رجع
بأنهما لم يكرها فالأمر أمر عثمان فإن شاء طلحة والزبير أقاما على طاعة
علي وإن شاءا اخرجا حتى يلحقا بطيتهما والمؤمنون أعوان الفالح منهما.
فخرج كعب حتى يقدم المدينة فاجتمع الناس لقدومه وكان قدومه يوم جمعة
فقام كعب فقال: يا اهل المدينة إني رسول أهل البصرة إليكم أأكره هؤلاء
القوم هذين الرجلين على بيعة علي أم أتيا طائعين؟ فلم يجبه أحد من
القوم إلا ما كان من أسامة بن زيد فإنه قام فقال: اللهم إنهما لم
يبايعا إلا وهما كارهان فأمر به تمام فواثبه سهل بن حنيف والناس وثار
صهيب بن سنان وأبو أيوب بن زيد في عدة من أصحاب رسول الله صلى الله
عليه وسلم فيهم محمد بن مسلمة حين خافوا ان يقتل أسامة فقال: اللهم نعم
فانفرجوا عن الرجل فانفرجوا عنه وأخذ صهيب بيده حتى أخرجه فأدخله منزله
وقال: قد علمت أن أم عامر حامقة أما وسعك ما وسعنا من السكوت؟ قال: لا
والله ما كنت أرى أن الأمر يترامى إلى ما رأيت وقد أبسلنا1 لعظيم فرجع
كعب وقد اعتد طلحة والزبير فيما بين ذلك بأشياء كلها كانت مما يعتد به
منها أن محمد بن طلحة - وكان صاحب صلاة - قام مقاما قريبا من عثمان بن
حنيف
__________
1- أبسلت فلانا: أسلمته للهلكة, ط 4 – 468.
(1/128)
فخشي بعض الزط والسيابجة1 أن يكون جاء لغير
ما جاء له فبعثا إلى عثمان هذه واحدة وبلغ عليا الخبر الذي كان
بالمدينة من ذلك فبادر بالكتاب إلى عثمان يعجزه ويقول: والله ما أكرها
إلا كرها على فرقة ولقد أكرها على جماعة وفضل فإن كانا يريدان الخلع
فلا عذر لهما وإن كانا يريدان غير ذلك نظرنا ونظرا فقدم الكتاب على
عثمان بن حنيف.
__________
1- السيابجة: قوم من السند كانوا بالبصرة.
(1/129)
فأصبح طلحة والزبير1 وبيت المال والحرس في
ايديهما والناس معهما ومن لم يكن معهما مغمور مستسر وبعثا حين أصبحا
بأن حكيما في الجمع فبعثت: لا تحبسا عثمان ودعاه ففعلا فخرج عثمان فمضى
لطلبته وأصبح حكيم بن جبلة في خيله على رجل فيمن تبعه من عبد القيس ومن
نزع إليهم من افناء ربيعة ثم وجهوا نحو دار الرزق وهو يقول: لست باخيه
إن لم أنصره وجعل يشتم عائشة رضي الله عنها فسمعته امرأة من قومه
فقالت: يا ابن الخبيثة انت أولى بذلك فطعنها فقتلها فغضبت عبد القيس
إلا من كان اغتمر منهم فقالوا: فعلت بالأمس وعدت لمثل ذلك اليوم! والله
لندعنك حتى يقيدك الله فرجعوا وتركوه ومضى حكيم بن جبلة فيمن غزا معه
عثمان ابن عفان وحصره من نزاع القبائل كلها وعرفوا أن لا مقام لهم
بالبصرة فاجتمعوا إليه فانتهى بهم إلى الزابوقة عند دار الرزق وقالت
عائشة: لا تقتلوا إلا من قاتلكم ونادوا من لم يكن من قتلة عثمان رضي
الله عنه فليكفف عنا فإنا لا نريد إلا قتلة عثمان ولا نبدأ أحدا فأنشب
حكيم القتال ولم يرع للمنادي فقال طلحة والزبير: الحمد لله الذي جمع
لنا ثأرنا من أهل البصرة اللهم لا تبق منهم أحدا وأقد منهم اليوم
فاقتلهم فجادوهم القتال فاقتتلوا اشد قتال ومعه أربعة قواد فكان حكيم
بحيال طلحة وذريح بحيال الزبير وابن المحرش بحيال عبد الرحمن بن عتاب
وحرقوص بن زهير بحيال عبد الرحمن ابن الحارث بن هشام فزحف طلحة لحكيم
وهو في ثلثمائة رجل وجعل حكيم يضرب بالسيف ويقول:
أضربهم باليابس ... ضرب غلام عابس
من الحياة آيس ... في الغرفات نافس
__________
1- ما زال الحديث حديث سيف عن محمد وطلحة, ط 4 – 470.
(1/130)
فضرب رجل رجله فقطعها فحبا حتى أخذها فرمى
بها صاحبه فأصاب جسده فصرعه فأتاه حتى قتله ثم اتكأ عليه وقال:
يا فخذ لن تراعي ... إن معي ذراعي
أحمي بها كراعي
وقال وهو يرتجز:
ليس علي أن أموت عار ... والعار في الناس هو الفرار
والمجد لا يفضحه الدمار
فأتى عليه رجل وهو رثيث1 رأسه على الآخر فقال: مالك يا حكيم؟ قال: قتلت
قال: من قتلك؟ قال: وسادتي فاحتمله فضمه في سبعين من أصحابه فتكلم
يومئذ حكيم وأنه لقائم على رجل وإن السيوف لتأخذهم فما يتعتع ويقول:
إنا خلفنا هذين وقد بايعا عليا وأعطياه الطاعة ثم أقبلا محالفين
محاربين يطلبان بدم عثمان بن عفان ففرقا بيننا ونحن أهل دار وجواد
اللهم إنهم لم يريدا عثمان فنادى مناد: يا خبيث جزعت حين عضك نكال الله
عز وجل إلى كلام من نصبك وأصحابك بما ركبتم من الإمام المظلوم وفرقتم
من الجماعة وأصبتم من الدماء ونلتم من الدنيا فذق وبال الله عز وجل
وانتقامه وأقيموا فيمن أنتم.
وقتل ذريح ومن معه وأفلت حرقوص بن زهير في نفر من أصحابه فلجؤوا إلى
قومهم ونادى منادي الزبير وطلحة بالبصرة: ألا من كان فيهم من
__________
1- الرثيث: الجريح وبه رمق.
(1/131)
قبائلكم أحد ممن غزا المدينة فليأتنا بهم
فجئ بهم كما يجاء بالكلاب فقتلوا فما أفلت منهم من أهل البصرة جميعا
إلا حرقوص بن زهير فإن بني سعد منعوه وكان من بني سعد فمسهم في ذلك أمر
شديد وضربوا لهم فيه أجلا وخشنوا صدور بني سعد وإنهم لعثمانية حتى
قالوا: نعتزل وغضبت عبد القيس حين غضبت سعد لمن قتل منهم بعد الوقعة
ومن كان هرب إليهم إلى ما هم عليه من لزوم طاعة علي فأمر للناس
بإعطياتهم وأرزاقهم وحقوقهم وفضلا بالفضل أهل السمع والطاعة فخرجت عبد
القيس وكثير من بكر بن وائل حين زووا عنهم الفضول فبادروا إلى بيت
المال وأكب عليهم الناس فأصابوا منهم وخرج القوم حتى نزلوا على طريق
علي وأقام طلحة والزبير ليس معهما بالبصرة ثأر إلا حرقوص وكتبوا إلى
أهل الشام بما صنعوا وصاروا إليه: إنا خرجنا لوضع الحرب وإقامة كتاب
الله عز وجل بإقامة حدوده في الشريف والوضيع والكثير والقليل حتى يكون
الله عز وجل هو الذي يردنا عن ذلك فبايعنا خيار أهل البصرة ونجباؤهم
وخالفنا شرارهم ونزاعهم فردونا بالسلاح وقالوا فيما قالوا: نأخذ أم
المؤمنين رهينة أن أمرتهم بالحق وحثتهم عليه فأعطاهم الله عز وجل سنة
المسلمين مرة بعد مرة حتى إذا لم يبق حجة ولا عذرا استبسل قتلة أمير
المؤمنين فخرجوا إلى مضاجعهم فلم يفلت منهم مخبر إلا حرقوص بن زهير
والله سبحانه مقيده إن شاء الله وكانوا كما وصف الله عز وجل وإنا
نناشدكم الله في أنفسكم إلا نهضتم بمثل ما نهضنا به فنلقى الله عز وجل
وتلقونه وقد أعذرنا وقضينا الذي علينا.
وبعثوا به مع سيار العجلي وكتبوا إلى أهل الكوفة بمثله مع رجل من بني
عمرو بن أسد يدعى مظفر بن معرض وكتبوا إلى أهل اليمامة وعليها سبرة بن
عمرو العنبري مع الحارث السدوسي وكتبوا إلى أهل المدينة مع ابن قدامة
القشيري فدسه إلى أهل المدينة.
(1/132)
وكتبت عائشة رضي الله عنها إلى أهل الكوفة
مع رسولهم: أما بعد فإني أذكركم الله عز وجل والإسلام أقيموا كتاب الله
بإقامة ما فيه إتقوا الله واعتصموا بحبله1 وكونوا مع كتابه فإنا قدمنا
البصرة فدعوناهم إلى إقامة كتاب الله بإقامة حدوده فأجابنا الصالحون
إلى ذلك واستقبلنا من لا خير فيه بالسلاح وقالوا: لنتبعنكم عثمان
ليزيدوا الحدود تعطيلا فعاندوا فشهدوا علينا بالكفر وقالوا لنا المنكر
فقرأنا عليهم: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ
الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ} 2
فأذعن لي بعضهم واختلفوا بينهم فتركناهم وذلك فلم يمنع ذلك من كان منهم
على رأيه الأول من وضع السلاح في أصحابي وعزم عليهم عثمان بن حنيف إلا
قاتلوني حتى منعني الله عز وجل بالصالحين فرد كيدهم في نحورهم فمكثنا
ستا وعشرين ليلة ندعوهم إلى كتاب الله وإقامة حدوده - وهو حقن الدماء
أن تهراق دون من قد حل دمه - فأبوا واحتجوا بأشياء فاصطلحنا عليها
فخافوا وغدروا وخانوا فجمع الله عز وجل لعثمان رضي الله عنه ثأرهم
فاقادهم فلم يفلت منهم إلا رجل وأردأنا الله ومنعنا منهم بعمير بن مرثد
ومرثد بن قيس ونفر من قيس ونفر من الرباب والأزد فالزموا الرضا إلا عن
قتلة عثمان بن عفان حتى يأخذ الله حقه ولا تخاصموا الخائنين ولا
تمنعوهم ولا ترضوا بذوي حدود الله فتكونوا من الظالمين فكتبت إلى رجال
بأسمائهم فثبطوا الناس عن منع هؤلاء القوم ونصرتهم واجلسوا في بيوتكم
فإن هؤلاء القوم لم يرضوا بما صنعوا بعثمان بن عفان رضي الله عنه
وفرقوا بين جماعة الأمة وخالفوا الكتاب والسنة حتى شهد واعلينا فيما
أمرناهم به وحثثناهم عليه من إقامة كتاب الله وإقامة حدوده بالكفر
وقالوا لنا المنكر فأنكر
__________
1- ط 4 – 473.
2- سورة آل عمران, الآية: 23.
(1/133)
ذلك الصالحون وعظموا ما قالوا وقالوا: ما
رضيتم أن قتلتم الإمام حتى خرجتم على زوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم أن
أمرتكم بالحق لتقتلوها وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأئمة
المسلمين! فعزموا وعثمان بن حنيف معهم على من أطاعهم من جهال الناس
وغوغائهم على زطهم وسيابجهم فلذنا منهم بطائفة من الفسطاط فكان ذلك
الدأب ستة وعشرين يوما ندعوهم إلى الحق وألا يحولوا بيننا وبين الحق
فغدروا وخانوا فلم نقايسهم1 واحتجوا ببيعة طلحة والزبير فأبردوا بريدا
فجاءهم بالحجة فلم يعرفوا الحق ولم يصبروا عليه فغادوني في الغلس
ليقتلوني والذي يحاربهم غيري فلم يبرحوا حتى بلغوا سدة بيتي ومعهم هاد
يهديهم إلي فوجدوا نفرا على باب بيتي منهم عمير بن مرثد ومرثد بن قيس
ويزيد بن عبد الله بن مرثد ونفر من قيس ونفر من الرباب والأزد فدارت
عليهم الرحى فأطاف بهم المسلمون فقتلوهم وجمع الله عز وجل كلمة أهل
البصرة على ما أجمع عليه الزبير وطلحة فإذا قتلنا بثأرنا وسعنا الغدر.
وكانت الوقعة لخمس ليال بقين من ربيع الآخر سنة ست وثلاثين.
وكتب عبيد بن كعب في جمادى.
__________
1- أي لم مجارهم ونقابلهم المثل بالمثل.
(1/134)
مسير على بن أبي
طالب إلى البصرة
...
أياما وأتاه عن القوم أنهم يريدون البصرة فسري بذلك عنه وقال: إن أهل
الكوفة أشد إلي حبا وفيهم رؤوس العرب وأعلامهم فكتب إليهم: إني قد
اخترتكم على الأمصار وإني بالأثرة1.
[و] لما قدم علي الربذة2 أقام بها وسرح منها إلى الكوفة محمد بن أبي
بكر ومحمد بن جعفر وكتب إليهم: إني اخترتكم على الأمصار وفزعت إليكم
لما حدث فكونوا لدين الله أعوانا وأنصارا وأيدونا وانهضوا إلينا
فالإصلاح ما نريد لتعود الأمة إخوانا ومن أحب ذلك وآثره فقد أحب الحق
وآثره ومن أبغض ذلك فقد أبغض الحق وغمصه3 فمضى الرجلان وبقي علي
بالربذة يتهيأ وأرسل إلى المدينة فلحقه ما أراد من دابة وسلاح وأمر
أمره4 وقام في الناس فخطبهم وقال: إن الله عز وجل أعزنا بالإسلام
ورفعنا به وجعلنا به إخوانا بعد ذلة وقلة وتباغض وتباعد فجرى الناس على
ذلك ما شاء الله الإسلام دينهم والحق فيهم والكتاب أمامهم حتى أصيب هذا
الرجل بأيدي هؤلاء القوم الذين نزغهم الشيطان لينزغ بين هذه الأمة ألا
إن هذه الأمة لا بد مفترقة كما افترقت الأمم قبلهم فنعوذ بالله من شر
ما هو كائن ثم عاد ثانية فقال: إنه لا بد مما هو كائن أن يكون ألا وإن
هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين فرقة شرها فرقة تنتحلني ولا تعمل
بعملي فقد أدركتم ورأيتم فالزموا دينكم واهدوا بهدي نبيكم صلى الله
عليه وسلم واتبعوا سنته
__________
1- الأثره: الحال غير المرضية – المكرمة المتوارثة. (أقرب الموارد) .
2- عن محمد وطلحة , ط 4 – 478.
3- غمصه: أي تهون به.
4- أمر أمره: اشتد أمره.
(1/135)
وأعرضوا ما أشكل عليكم على القرآن فما عرفه
القرآن فالزموه وما أنكره فردوه وأرضوا بالله جل وعز ربا وبالإسلام
دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبيا وبالقرآن حكما وإماما.
[و] لما اراد علي1 الخروج من الربذة إلى البصرة قام إليه ابن لرفاعة بن
رافع فقال: يا أمير المؤمنين اي شيء تريد؟ وإلى أين تذهب بنا؟ فقال:
أما الذي نريد وننوي فالإصلاح إن قبلوا منا وأجابونا إليه قال: فإن لم
يجيبوا إليه؟ قال: ندعهم بعذرهم ونعطيهم الحق ونصبر قال: فإن لم يرضوا؟
قال: ندعهم ما تركونا قال: فإن لم يتركونا؟ قال: امتنعنا منهم قال:
فنعم إذا وقام الحجاج بن غزية الأنصاري فقال: لأرضينك بالفعل كما
أرضيتني بالقول وقال:
دراكها دراكها قبل الفوت ... وانفر بنا واسم نحو الصوت
لا وألت نفسي إن هبت الموت
والله لأنصرن الله عز وجل كما سمانا أنصارا فخرج أمير المؤمنين وعلى
مقدمته أبو ليلى بن عمر بن الجراح والراية مع محمد بن الحنفية وعلى
الميمنة عبد الله بن عباس وعلى الميسرة عمر بن أبي سلمة أو عمرو بن
سفيان بن عبد الأسد وخرج علي وهو في سبعمائة وستين وراجز علي يرجز به:
سيروا أبابيل وحثوا السيرا ... إذا عزم السير وقولوا خيرا
حتى يلاقوا وتلاقوا خيرا ... نغزو بها طلحة والزبيرا
وهو أمام أمير المؤمنين وأمير المؤمنين علي على ناقة له حمراء يقود
فرسا
__________
1- عن محمد وطلحة, ط 4 – 478.
(1/136)
كميتا فتلقاهم بفيد غلام من بني سعد بن
ثعلبة بن عامر يدعى مرة فقال: من هؤلاء؟ فقيل: أمير المؤمنين فقال:
سفرة فانية فيها دماء من نفوس فانية فسمعها علي فدعاه فقال: ما اسمك؟
قال: مرة قال: أمر الله عيشك كاهن سائر اليوم؟ قال: بل عائف1 فلما نزل
بفيد أتته أسد وطيء فعرضوا عليه أنفسهم فقال: الزموا قراركم في
المهاجرين كفاية وقدم رجل من أهل الكوفة فيد قبل خروج علي فقال: من
الرجل؟ قال: عامر بن مطر قال: الليثي؟ قال: الشيباني قال: أخبرني عما
وراءك قال: فأخبره حتى سأله عن أبي موسى فقال: إن أردت الصلح فأبو موسى
صاحب ذلك وإن أردت القتال فأبو موسى ليس بصاحب ذلك قال: والله ما أريد
إلا الإصلاح حتى يرد علينا قال: قد أخبرتك الخبر وسكت وسكت علي.
ولما نزل علي الثعلبية2 أتاه الذي لقي عثمان بن حنيف وحرسه فقام وأخبر
القوم الخبر وقال: اللهم عافني مما ابتليت به طلحة والزبير من قتل
المسلمين وسلمنا منهم أجمعين ولما انتهى إلى الإساد أتاه ما لقي حكيم
بن جبلة وقتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه فقال: الله أكبر ما ينجيني
من طلحة والزبير إذ أصابا ثأرهما أو ينجيهما؟ وقرأ: {مَا أَصَابَ مِنْ
مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ
مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} 3 وقال:
دعا حكيم دعوة الزماع ... حل بها منزلة النزاع
__________
1- العائف: هو الذي يزجر الطير (يتكهن بجهة طيران الطير ويتنبأ به) .
2- عن محمد وطلحة, ط 4 – 481.
3- سورة الحديد, الآية: 22.
(1/137)
ولما انتهوا إلى ذي قار انتهى إليه فيها
عثمان بن حنيف وليس في وجهه شعر فلما رآه علي نظر إلى أصحابه فقال:
انطلق هذا من عندنا وهو شيخ فرجع إلينا وهو شاب فلم يزل بذي قار يتلوم
محمدا ومحمدا وأتاه الخبر بما لقيت ربيعة وخروج عبد القيس ونزولهم
بالطريق فقال: عبد القيس خير ربيعة في كل ربيعة خير وقال:
يا لهف نفسي على ربيعة ... ربيعة السامعة المطيعة
قد سبقتني فيهم الوقيعة ... دعا علي دعوة سميعة
حلوا بها المنزلة الرفيعة
قال: وعرضت عليه بكر بن وائل فقال لهم مثل ما قال لطيء وأسد.
(1/138)
موقف أبي موسى
الأشعري:
ولما قدم محمد ومحمد على الكوفة وأتيا أبو موسى بكتاب امير المؤمنين
وقاما في الناس بأمره فلم يجابا إلى شيء فلما أمسوا دخل ناس من أهل
الحجي على أبي موسى فقالوا: ما ترى في الخروج؟ فقال: كان الرأي بالأمس
ليس باليوم إن الذي تهاونتم به فيما مضى هو الذي جر عليكم ما ترون وما
بقي إنما هما أمران: القعود سبيل الآخرة والخروج سبيل الدنيا فاختاروا
فلم ينفر إليه أحد فغضب الرجلان وأغلظا لأبي موسى فقال أبو موسى: والله
إن بيعة عثمان رضي الله عنه لفي عنقي وعنق صاحبكما فإن لم يكن بد من
قتال لا نقاتل أحدا حتى يفرغ من قتلة عثمان حيث كانوا فانطلقا إلى علي
فوافياه بذي قار وأخبراه الخبر وقد خرج مع الأشتر وقد كان يعجل إلى
الكوفة فقال علي: يا اشتر أنت صاحبنا في أبي موسى والمعترض في كل شيء
إذهب أنت وعبد الله بن عباس فأصلح ما أفسدت.
(1/138)
فخرج عبد الله بن عباس ومعه الأشتر فقدما
الكوفة وكلما أبا موسى واستعانا عليه بأناس من الكوفة فقال للكوفيين:
أنا صاحبكم يوم الجرعة وأنا صاحبكم اليوم فجمع الناس فخطبهم وقال: أيها
الناس إن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الذين صحبوه في المواطن أعلم
بالله جل وعز وبرسوله صلى الله عليه وسلم ممن لم يصحبه وإن لكم علينا
حقا فأنا مؤديه إليكم؟ كان الرأي ألا تستخفوا بسلطان الله عز وجل ولا
تجترئوا على الله عز وجل وكان الرأي الثاني أن تأخذوا من قدم عليكم من
المدينة فتردوهم إليها حتى يجتمعوا وهم أعلم بمن تصلح له الإمامة منكم
ولا تكلفوا الدخول في هذا فأما إذ كان ما كان فإنها فتنة صماء النائم
فيها خير من اليقظان واليقظان فيها خير من القاعد والقاعد خير من
القائم والقائم خير من الراكب فكونوا جرثومة من جراثيم العرب فاغمدوا
السيوف وأنصلوا الأسنة واقطعوا الأوتار وآووا المظلوم والمضطهد حتى
يلتئم هذا الأمر وتنجلي هذه الفتنة.
ولما رجع1 ابن عباس إلى علي بالخبر دعا الحسن بن علي فأرسله فأرسل معه
عمار بن ياسر فقال له: انطلق فأصلح ما أفسدت فأقبلا حتى دخلا المسجد
فكان أول من أتاهما مسروق بن الأجدع فسلم عليهما وأقبل عمار فقال: يا
أبا اليقظان علام قتلتم عثمان رضي الله عنه؟ قال: على شتم أعراضنا وضرب
أبشارنا! فقال: والله ما عاقبتم بمثل ما عوقبتم به ولئن صبرتم لكان
خيرا للصابرين فخرج أبو موسى فلقي الحسن فضمه إليه وأقبل على عمار
فقال: يا أبا اليقظان أعدوت فيمن عدا على أمير المؤمنين فأحللت نفسك مع
الفجار؟ فقال: لم أفعل ولم تسؤني؟ وقطع عليهما الحسن فاقبل على أبي
موسى فقال: يا أبا موسى لم تثبط الناس عنا؟ فوالله ما أردنا إلا
__________
1- ما زال الحديث عن محمد وطلحة, ط 4 – 483.
(1/139)
الإصلاح ولا مثل أمير المؤمنين يخاف على
شيء فقال: صدقت بأبي أنت وأمي ولكن المستشار مؤتمن سمعت رسول الله صلى
الله عليه وسلم يقول: "إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم
والقائم خير من الماشي والماشي خير من الراكب" قد جعلنا الله عز وجل
إخوانا وحرم علينا أموالنا ودماءنا, وقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} 1 {وَلا
تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} 2. وقال
جل وعز: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزَاؤُهُ
جَهَنَّمُ} 3 فغضب عمار وساءه وقام وقال: يا أيها الناس إنما قال له
خاصة: أنت فيها قاعدا خير منك قائما وقام رجل من بني تميم فقال لعمار:
أسكت أيها العبد أنت أمس مع الغوغاء واليوم تسافه أميرنا وثار زيد بن
صوحان وطبقته وثار الناس وجعل أبو موسى يكفكف الناس ثم انطلق حتى أتى
المنبر وسكن الناس واقبل زيد على حمار حتى وقف بباب المسجد ومعه
الكتابان من عائشة رضي الله عنها إليه وإلى اهل الكوفة وقد كان طلب
كتاب العامة فضمه إلى كتابه فأقبل بهما ومعه كتاب الخاصة وكتاب العامة:
أما بعد فثبطوا أيها الناس واجلسوا في بيوتكم إلا عن قتلة عثمان بن
عفان رضي الله عنه.
فلما فرغ من الكتاب قال: أمرت بأمر وأمرنا بأمر أمرت أن تقر في بيتها
وأمرنا أن نقاتل حتى لا تكون فتنة فأمرتنا بما أمرت به وركبت ما أمرنا
به فقام إليه شبث بن ربعي فقال: يا عماني - وزيد من عبد القيس عمان
وليس من أهل البحرين - سرقت بجلولاء فقطعك الله وعصيت أم المؤمنين
فقتلك الله! ما أمرت إلا بما أمر الله عز وجل به بالإصلاح بين الناس
فقلت:
__________
1- سورة النساء, الآية: 92.
2- سورة النساء, الآية: 92.
3- سورة النساء, الآية: 93.
(1/140)
ورب الكعبة وتهاوى الناس وقام أبو موسى
فقال: أيها الناس أطيعوني تكونوا جرثومة من جراثيم العرب يأوي اليكم
المظلوم ويأمن فيكم الخائف إنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم أعلم بما
سمعنا إن الفتنة إذا أقبلت شبهت وإذا أدبرت بينت وإن هذه الفتنة باقرة
كداء البطن تجري بها الشمال والجنوب والصبا والدبور فتسكن أحيانا فلا
يدرى من أين تؤتى تذر الحليم كابن أمس شيموا1 سيوفكم وقصدوا2 رماحكم
وأرسلوا سهامكم واقطعوا أوتاركم والزموا بيوتكم خلوا قريشا - إذا أبوا
إلا الخروج من دار الهجرة وفراق أهل العلم بالإمرة - ترتق فتقها وتشعب
صدعها فإن فعلت فلأنفسها سعت وإن أبت فعلى أنفسها منت3, سمنها تهريق في
أديمها استنصحوني ولا تستغشوني وأطيعوني يسلم لكم دينكم ودنياكم ويشقى
بحر هذه الفتنة من جناها.
فقام زيد فشال يده المقطوعة فقال: يا عبد الله بن قيس رد الفرات عن
دراجه4 اردده من حيث يجيء حتى يعود كما بدأ فإن قدرت على ذلك فستقدر
على ما تريد فدع عنك ما لست مدركه ثم قرأ: {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ
يُتْرَكُوا} 5 إلى آخر الآيتين, سيروا إلى أمير المؤمنين وسيد المسلمين
وانفروا إليه أجمعين تصيبوا الحق.
فقام القعقاع بن عمرو فقال: إني لكم ناصح وعليكم شفيق أحب أن ترشدوا
ولأقولن لكم قولا هو الحق أما ما قال الأمير فهو الأمر لو أن إليه
__________
1- شام السيف: أغمده.
2- قصدوا رماحكم: اكسروها.
3- أي جلبت لنفسها المنية.
4- أي منحدره وطريقه.
5- سورة العنكبوت, الآية: 2.
(1/141)
سبيلا وأما ما قال زيد فزيد في الامر فلا
تستنصحوه فإنه لا ينتزع أحد من الفتنة طعن فيها وجرى إليها والقول الذي
هو القول إنه لا بد من إمارة تنظم الناس وتزغ الظالم وتعز المظلوم وهذا
علي يلي بما ولي وقد أنصف في الدعاء وإنما يدعو إلى الإصلاح فانفروا
وكونوا من هذا الامر بمرأى ومسمع.
وقال سيحان: ايها الناس إنه لا بد لهذا الأمر وهؤلاء الناس من وال يدفع
الظالم ويعز المظلوم ويجمع الناس وهذا واليكم يدعوكم لينظر فيما بينه
وبين صاحبيه وهو المأمون على الأمة الفقيه في الدين فمن نهض إليه فإنا
سائرون معه.
ولان عمار بعد نزوته الأولى فلما فرغ سيحان من خطبته تكلم عمار فقال:
هذا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم يستنفركم إلى زوجة رسول الله
صلى الله عليه وسلم وإلى طلحة والزبير1 وإني أشهد أنها زوجته في الدنيا
والآخرة فانظروا ثم انظروا في الحق فقاتلوا معه فقال رجل: يا أبا
اليقظان لهو مع من شهدت له بالجنة على من لم تشهد له فقال الحسن: اكفف
عنا يا عمار فإن للإصلاح أهلا.
وقام الحسن بن علي فقال: يا أيها الناس أجيبوا دعوة أميركم وسيروا إلى
إخوانكم فإنه سيوجد لهذا الأمر من ينفر إليه والله لأن يليه أولو النهي
أمثل في العاجلة وخير في العاقبة فأجيبوا دعوتنا وأعينونا على ما
ابتلينا به وابتليتم فسامح الناس وأجابوا ورضوا به وأتى قوم من طيء
عديا فقالوا: ماذا ترى وماذا تأمر؟ فقال: ننتظر ما يصنع الناس فأخبر
بقيام الحسن وكلام من تكلم فقال: قد بايعنا هذا الرجل وقد دعانا إلى
جميل وإلى هذا الحدث العظيم لننظر فيه ونحن سائرون وناظرون.
__________
1- ما زالت الرواية عن محمد وطلحة, ط 4 – 485.
(1/142)
وقام هند بن عمرو فقال: إن أمير المؤمنين
قد دعانا وأرسل إلينا رسله حتى جاءنا ابنه فاسمعوا إلى قوله وانتهوا
إلى أمره وانفروا إلى أميركم فانظروا معه في هذا الأمر وأعينوه برأيكم.
وقام حجر بن عدي فقال: أيها الناس أجيبوا أمير المؤمنين وانفروا خفافا
وثقالا: وأنا أولكم وقام الأشتر فذكر الجاهلية وشدتها والإسلام ورخاءه
وذكر عثمان رضي الله عنه فقام إليه المقطع بن الهيثم بن فجيع العامري
ثم البكائي؛ فقال: اسكت قبحك الله كلب خلي والنباح فثار الناس فأجلسوه.
وقام المقطع فقال: إنا والله لا نحتمل بعدها أن يبوء أحد بذكر أحد من
أئمتنا وإن عليا عندنا لمقنع والله لئن يكن هذا الضرب لا يرضى به علي
فعض امرؤ على لسانه في مشاهدنا فأقبلوا على ما أحثاكم.
فقال الحسن: صدق الشيخ وقال الحسن: ايها الناس إني غاد فمن شاء منكم ان
يخرج معي على الظهر ومن شاء فليخرج في الماء فنفر معه تسعة آلاف فأخذ
بعضهم البر وأخذ بعضهم الماء وعلى كل سبع رجل أخذ البر ستة آلاف
ومائتان وأخذ الماء ألفان وثمانمائة.
(1/143)
نزول أمير المؤمنين
علي ذا قار:
لما التقوا بذي قار1 تلقاهم علي في أناس فيهم ابن عباس فرحب بهم.
__________
1- عن عمرو, عن الشعبي, ط 4 – 487.
(1/143)
وقال: يا أهل الكوفة أنتم وليتم شوكة العجم
وملوكهم وفضضتم جموعهم حتى صارت إليكم مواريثهم فأغنيتم حوزتكم وأعنتم
الناس على عدوهم وقد دعوتكم لتشهدوا معنا إخواننا من أهل البصرة فإن
يرجعوا فذاك ما نريد وإن يلجوا داويناهم بالرفق وبايناهم حتى يبدؤونا
بظلم ولن ندع أمرا فيه صلاح إلا آثرناه على ما فيه الفساد إن شاء الله
ولا قوة إلا بالله.
فاجتمع بذي قار سبعة آلاف ومائتان وعبد القيس بأسرها في الطريق بين علي
وأهل البصرة ينتظرون مرور علي بهم وهم آلاف - وفي الماء ألفان
وأربعمائة.
(1/144)
مساعي الإصلاح:
[وفي رواية اخرى] 1.
لما نزل علي ذا قار أرسل ابن عباس والأشتر بعد محمد بن أبي بكر ومحمد
بن جعفر وأرسل الحسن بن علي وعمار بعد ابن عباس والأشتر فخف في ذلك
الامر جميع من كان نفر فيه ولم يقدم فيه الوجوه اتباعهم فكانوا خمسة
آلاف أخذ نصفهم في البر ونصفهم في البحر وخف من لم ينفر فيها ولم يعمل
لها وكان على طاعته2 ملازما للجماعة فكانوا أربعة آلاف فكان رؤساء
الجماعة القعقاع بن عمرو وسعد3 بن مالك وهند بن عمرو والهيثم بن شهاب
وكان رؤساء النفار: زيد بن صوحان والأشتر مالك بن الحارث وعدي بن حاتم
والمسيب بن نجبة ويزيد بن قيس ومعهم اتباعهم وأمثال
__________
1 - عن محمد وطلحة, ط 4 – 486.
2 - في نسخة "وكان علي ظاعنا".
3 - في نسخة: "سعد".
(1/144)
لهم ليسوا دونهم إلا أنهم لم يؤمروا منهم
حجر بن عدي وابن محدوج البكري وأشباه لهما لم يكن في أهل الكوفة أحد
على ذلك الرأي غيرهم فبادروا في الوقعة إلا قليلا فلما نزلوا على ذي
قار دعا القعقاع بن عمرو فارسله إلى أهل البصرة وقال له: الق هذين
الرجلين يابن الحنظلية - وكان القعقاع من أصحاب النبي صلى الله عليه
وسلم - فادعهما إلى الالفة والجماعة وعظم عليهما الفرقة وقال له: كيف
أنت صانع فيما جاءك منهما مما ليس عندك فيه وصاة مني؟ فقال: نلقاهم
بالذي أمرت به فإذا جاء منهما أمر ليس عندنا منك فيه رأي اجتهدنا الرأي
وكلمناهم على قدر ما نسمع ونرى أنه ينبغي قال: أنت لها فخرج القعقاع
حتى قدم البصرة فبدأ بعائشة رضي الله عنها فسلم عليها وقال: أي أمة ما
أشخصك وما أقدمك هذه البلدة؟ قالت: أي بني إصلاح بين الناس قال: فابعثي
إلى طلحة والزبير حتى تسمعي كلامي وكلامهما فبعثت إليهما فجاءا فقال:
إني سالت أم المؤمنين ما أشخصها وأقدمها هذه البلاد؟ فقالت: إصلاح بين
الناس فما تقولان أنتما؟ أمتابعان أم مخالفان؟ قالا: متابعان قال:
فأخبراني ما وجه هذا الإصلاح فوالله لئن عرفنا لنصلحن ولئن أنكرناه لا
نصلح قالا: قتلة عثمان رضي الله عنه فإن هذا إن ترك كان تركا للقرآن
وإن عمل به كان إحياء للقرآن فقال: قد قتلتما قتلة عثمان من أهل البصرة
وأنتم قبل قتلهم أقرب إلى الإستقامة منكم اليوم قتلتم ستمائة إلا رجلا
فغضب لهم ستة آلاف واعتزلوكم وخرجوا من بين أظهركم وطلبتم ذلك الذي
أفلت - يعني حرقوص بن زهير - فمنعه ستة آلاف وهم على رجل فإن تركتموه
كنتم تاركين لما تقولون وإن قاتلتموهم والذين إعتزلوكم فأديلوا عليكم
فالذي حذرتم وقربتم به هذا الامر أعظم مما أراكم تكرهون وأنتم أحميتم
مضر وربيعة من هذه البلاد فاجتمعوا على حربكم وخذلانكم نصرة لهؤلاء كما
اجتمع هؤلاء لأهل هذا الحدث العظيم والذنب الكبير فقالت أم المؤمنين:
فتقول أنت
(1/145)
ماذا؟ قال: اقول هذا الأمر دواؤه التسكين
وإذا سكن اختلجوا فإن أنتم بايعتمونا فعلامة خير وتباشير رحمة ودرك
بثأر هذا الرجل وعافية وسلامة لهذه الأمة وإن أنتم أبيتم إلا مكابرة
هذا الأمر واعتسافه كانت علامة شر وذهاب هذا الثأر وبعثة الله في هذه
الأمة هزاهزها فآثروا العافية ترزقوها وكونوا مفاتيح الخير كما كنتم
تكونون ولا تعرضونا للبلاء ولا تعرضوا له فيصرعنا وإياكم وأيم الله إني
لأقول هذا وأدعوكم إليه وإني لخائف ألا يتم حتى يأخذ الله عز وجل حاجته
من هذه الأمة التي قل متاعها ونزل بها ما نزل فإن هذا الأمر الذي حدث
أمر ليس يقدر وليس كالأمور ولا كقتل الرجل الرجل ولا النفر الرجل ولا
القبيلة الرجل فقالوا: نعم إذا قد أحسنت وأصبت المقالة فارجع فإن قدم
علي وهو على مثل رأيك صلح هذا الأمر فرجع إلى علي فأخبره فاعجبه ذلك
وأشرف القوم على الصلح كره ذلك من كرهه ورضيه من رضيه.
وأقبلت وفود البصرة نحو علي حين نزل بذي قار فجاءت وفود تميم وبكر قبل
رجوع القعقاع لينظروا ما رأي إخوانهم من أهل الكوفة وعلى أي حال نهضوا
إليه وليعلموهم أن الذي عليه رأيهم الإصلاح ولا يخطر لهم قتال على بال
فلما لقوا عشائرهم من أهل الكوفة بالذي بعثهم فيه عشائرهم من أهل
البصرة وقال لهم الكوفيون مثل مقالتهم وأدخلوهم على علي فأخبروه خبرهم
سأل علي جرير بن شرس عن طلحة والزبير فأخبره عن دقيق أمرهما وجليله حتى
تمثل له:
ألا ابلغ بني بكر رسولا ... فليس إلى بني كعب سبيل
سيرجع ظلمكم منكم عليكم ... طويل الساعدين له فضول
(1/146)
وتمثل علي عندها:
ألم تعلم أبا سمعان أنا ... نرد الشيخ مثلك ذا الصداع
ويذهل عقله بالحرب حتى ... يقوم فيستجيب لغير داع
فدافع عن خزاعة جمع بكر ... وما بك يا سراقة من دفاع
[و] لما جاءت1 وفود أهل البصرة إلى أهل الكوفة ورجع القعقاع من عند أم
المؤمنين وطلحة والزبير بمثل رأيهم جمع علي الناس ثم قام على الغرائر
فحمد الله عز وجل وأثنى عليه وصلى على النبي صلى الله عليه وسلم وذكر
الجاهلية وشقاءها والإسلام والسعادة وإنعام الله على الأمة بالجماعة
بالخليفة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم الذي يليه ثم حدث هذا
الحدث الذي جره على هذه الأمة أقوام طلبوا هذه الدنيا حسدوا من أفاءها
الله عليه على الفضيلة وأرادوا رد الاشياء على أدبارها والله بالغ أمره
ومصيب ما أراد ألا وإني راحل غدا فارتحلوا ألا ولا يرتحلن غدا أحد أعان
على عثمان بشيء في شيء من أمور الناس وليغن السفهاء عني أنفسهم.
__________
1- عن محمد وطلحة, ط 4 – 493.
(1/147)
رؤوس الفتنة يحبطون
مساعي الإصلاح:
فاجتمع نفر منهم علباء بن الهيثم وعدي بن حاتم وسالم بن ثعلبة العبسي
وشريح بن أوفى بن ضبيعة والأشتر في عدة ممن سار إلى عثمان ورضي بسير من
سار وجاء معهم المصريون: ابن السوداء وخالد بن ملجم وتشاوروا فقالوا:
ما الرأي؟ وهذا والله علي وهو أبصر الناس بكتاب الله وأقرب ممن
(1/147)
يطلب قتلة عثمان وأقربهم إلى العمل بذلك
وهو يقول ما يقول ولم ينفر إليه إلا هم والقليل من غيرهم فكيف به إذا
شام القوم وشاموه1 وإذا رأوا قلتنا في كثرتهم؟ أنتم والله ترادون وما
أنتم بأنجى من شيء فقال الأشتر: أما طلحة والزبير فقد عرفنا أمرهما
وأما علي فلم نعرف أمره حتى كان اليوم ورأي الناس فينا والله واحد وإن
يصطلحوا وعلي فعلى دمائنا فهلموا فلنتواثب على علي فلنلحقه بعثمان
فتعود فتنة يرضى منا فيها بالسكون.
فقال عبد الله بن السوداء: بئس الرأي رأيت! أنتم يا قتلة عثمان من أهل
الكوفة بذي قار الفان وخمسمائة أو نحو من ستمائة وهذا ابن الحنظلية
وأصحابه في خمسة آلاف بالأشواق إلى أن يجدوا إلى قتالكم سبيلا فارقأ
على ظلعك2.
وقال علباء بن الهيثم: انصرفوا بنا عنهم ودعوهم فإن قلوا كان أقوى
لعدوهم عليهم وإن كثروا كان أحرى أن يصطلحوا عليكم دعوهم وارجعوا
فتعلقوا ببلد من البلدان حتى يأتيكم فيه من تتقون به وامتنعوا من
الناس.
فقال ابن السوداء: بئس ما رأيت ود والله الناس أنكم على جديلة3 ولم
تكونوا مع أقوام برآء ولو كان ذلك الذي تقول لتخطفكم كل شيء فقال عدي
بن حاتم: والله ما رضيت ولا كرهت ولقد عجبت من تردد من تردد عن قتله في
خوض الحديث فاما إذ وقع ما وقع ونزل من الناس
__________
1- أي حققوا حملات الحرب.
2- أرقا على ظلعك: أي أصلح أمرك أولا.
3- أي على رأي واحد.
(1/148)
بهذه المنزلة فإن لنا عتادا من خيول وسلاح
محمودا فإن أقدمتم أقدمنا وإن أمسكتم أحجمنا فقال ابن السوداء: أحسنت.
وقال سالم بن ثعلبة: من كان أراد بما أتى الدنيا فإني لم أرد ذلك والله
لئن لقيتهم غدا لا أرجع إلى بيتي ولئن طال بقائي إذا أنا لاقيتهم لا
يزد على جزر جزور وأحلف بالله إنكم لتفرقون السيوف فرق قوم لا تصير
أمورهم إلا إلى السيف فقال ابن السوداء: قد قال قولا.
وقال شريح بن أوفى: أبرموا أموركم قبل أن تخرجوا ولا تؤخروا أمرا ينبغي
لكم تعجيله ولا تعجلوا أمرا ينبغي لكم تأخيره فإنا عند الناس بشر
المنازل فلا أدري ما الناس صانعون غدا إذا ما هم التقوا.
وتكلم ابن السوداء فقال: يا قوم إن عزكم في خلطة الناس فصانعوهم وإذا
التقى الناس غدا فأنشبوا القتال ولا تفرغوهم للنظر فإذا من أنتم معه لا
يجد بدا من أن يمتنع ويشغل الله عليا وطلحة والزبير ومن رأى رأيهم عما
تكرهون فأبصروا الرأي وتفرقوا عليه والناس لا يشعرون.
وأصبح علي على ظهر فمضى ومضى الناس حتى إذا انتهى إلى عبد القيس نزل
بهم وبمن خرج من أهل الكوفة وهم أمام ذلك ثم ارتحل حتى نزل على أهل
الكوفة وهم أمام ذلك1 والناس متلاحقون به وقد قطعهم ولما بلغ أهل
البصرة رأيهم ونزل علي بحيث نزل قام أبو الجرباء إلى الزبير بن العوام
فقال: إن الرأي أن تبعث الآن ألف فارس فيمسوا هذا الرجل ويصبحوه قبل أن
يوافي أصحابه فقال الزبير: يا أبا الجرباء إنا لنعرف أمور الحرب,
__________
1- ط 4 – 495.
(1/149)
ولكنهم أهل دعوتنا وهذا أمر حدث في أشياء
لم تكن قبل اليوم هذا أمر من لم يلق الله عز وجل فيه بعذر انقطع عذره
يوم القيامة ومع ذلك إنه قد فارقنا وافدهم على أمر وأنا أرجوا أن يتم
لنا الصلح فأبشروا وأصبروا وأقبل صبرة بن شيمان فقال: يا طلحة يا زبير
انتهزا بنا هذا الرجل فإن الرأي في الحرب خير من الشدة فقالا: يا صبرة
إنا وهم مسلمون وهذا أمر لم يكن قبل اليوم فينزل فيه قرآن أو يكون فيه
من رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة إنما هو حدث وقد زعم قوم أنه لا
ينبغي تحريكه اليوم وهم علي ومن معه فقلنا: نحن لا ينبغي لنا أن نتركه
اليوم ولا نؤخره فقال علي: هذا الذي ندعوكم إليه من إقرار هؤلاء القوم
شر وهو خير من شر منه وهو كأمر لا يدرك وقد كاد أن يبين لنا وقد جاءت
الأحكام بين المسلمين بإيثار أعمها منفعة وأحوطها.
وأقبل كعب بن سور فقال: ما تنتظرون يا قوم بعد توردكم أوائلهم؟ اقطعوا
هذا العنق من هؤلاء فقالوا: ياكعب إن هذا أمر بيننا وبين إخواننا وهو
أمر ملتبس لا والله ما أخذ أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم مذ بعث الله
عز وجل نبيه طريقا إلا علموا أين مواقع أقدامهم حتى حدث هذا فإنهم لا
يدرون أمقبلون هم أم مدبرون! إن الشيء يحسن عندنا اليوم ويقبح عند
إخواننا فإذا كان من الغد قبح عندنا وحسن عندهم وإنا لنحتج عليهم
بالحجة فلا يرونها حجة ثم يحتجون بها على أمثالها ونحن نرجوا الصلح إن
أجابوا إليه وتموا وإلا فإن آخر الدواء الكي.
وقام إلى علي بن أبي طالب أقوام من أهل الكوفة يسألونه عن إقدامهم على
القوم فقام إليه فيمن قام الأعور بن بنان المنقري فقال له علي: على
الإصلاح
(1/150)
وإطفاء النائرة1 لعل الله يجمع شمل هذه
الأمة بنا ويضع حربهم وقد أجابوني قال: فإن لم يجيبونا؟ قال: تركناهم
ما تركونا, قال: فإن لم يتركونا؟ قال: دفعناهم عن أنفسنا قال: فهل لهم
مثل ما عليهم من هذا؟ قال: نعم.
وقام إليه ابو سلامة الدألاني فقال2: أترى لهؤلاء القوم حجة فيما طلبوا
من هذا الدم إن كانوا أرادوا الله عز وجل بذلك؟ قال: نعم, قال: فترى لك
حجة بتأخيرك3 ذلك؟ قال: نعم, إن الشيء إذا كان لايدرك, فالحكم فيه
أحوطه وأعمه نفعا, قال: فما حالنا وحالكم إن ابتلينا فدا؟ قال: إني
لأرجو ألا يقتل أحد نقي قلبه لله منا ومنهم إلا أدخله الله الجنة.
وقام إليه مالك بن حبيب, فقال: ما أنت صانع إذا لقيت هؤلاء القوم؟ قال:
قد بان لنا ولهم أن الإصلاح الكف عن هذا الأمر فإن بايعونا فذلك فإن
أبوا وأبينا إلا القتال فصدع لا يلتئم قال: فإن ابتلينا فما بال
قتلانا؟ قال: من أراد الله عز وجل نفعه ذلك وكان نجاءه.
وقام علي فخطب الناس غحمد الله وأثنى عليه وقال: يا أيها الناس, املكوا
أنفسكم كفوا أيديكم وألسنتكم عن هؤلاء القوم, فأنهم إخوانكم واصبروا
على ما يأتيكم, وإياكم أن تسبقونا فإن المخصوم غدا من خصم اليوم.
ثم ارتحل وأقدم ودفع تعبيته التي قدم فيها, حتى إذا أطل على القوم بعث
إليهم حكيم بن سلامه ومالك بن حبيب: إن كنتم على ما فارقتم عليه
القعقاع بن عمرو فكفوا وأقرونا ننزل وننظر في هذا الأمر.
__________
1- النائرة: العداوة والشحناء. (المنجد) .
2- ط 4 – 496.
3- ابن الأثير: "بتأخير ذلك". النويري: "بتأخير ذلك إلى اليوم".
(1/151)
فخرج إليه الأحنف بن قيس وبنو سعد مشمرين
قد منعوا حرقوص بن زهير ولا يرون القتال مع علي بن أبي طالب فقال: يا
علي إن قومنا بالبصرة يزعمون إنك إن ظهرت عليهم غدا أنك تقتل رجالهم
وتسبي نساءهم فقال: ما مثلي يخاف هذا منه وهل يحل هذا إلا ممن تولى
وكفر ألم تسمع إلى قول الله عز وجل {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ
إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ} 1 وهم قوم مسلمون! هل أنت مغن عني
قومك؟ قال: نعم واختر مني واحدة من ثنتين إما أن أكون آتيك فأكون معك
بنفسي وإما أن أكف عنك عشرة آلاف سيف فرجع إلى الناس فدعاهم إلى القعود
وقد بدأ فقال: يال خندف فأجابه ناس ثم نادى يال تميم فأجابه ناس ثم
نادى: يال سعد فلم يبق سعدي إلا أجابه فاعتزل بهم ثم نظر ما يصنع الناس
فلما وقع القتال وظفر علي جاؤوا وافرين فدخلوا فيما دخل فيه الناس.
[كذلك] أرسل عمران بن حصين2 في الناس يخذل من الفريقين جميعا كما صنع
الأحنف وأرسل إلى بني عدي فيما أرسل فاقبل رسوله حتى نادى على باب
مسجدهم: ألا إن أبا نجيد عمران بن الحصين يقرئكم السلام ويقول لكم:
والله لأن أكون في جبل حضن3 مع أعنز خضر وضأن أجز أصوافها وأشرب
ألبانها أحب إلى من أن أرمي في شيء من هذين الصفين بسهم فقالت بنو عدي
جميعا بصوت واحد: إنا والله لا ندع ثقل رسول الله صلى الله عليه وسلم
لشيء - يعنون أم المؤمنين.
__________
1- سورة الغاشية, الآية 22 – 23.
2- عن محمد وطلحة, ط 4 – 502.
3- في نسخة "حصين".
(1/152)
وأهل البصرة فرق1: فرقة مع طلحة والزبير
وفرقة مع علي وفرقة لا ترى القتال مع أحد من الفريقين وجاءت عائشة رضي
الله عنها من منزلها الذي كانت فيه حتى نزلت في مسجد الحدان في الأزد
وكان القتال في ساحتهم ورأس الأزد يومئذ صبرة بن شيمان فقال له كعب بن
سور: إن الجموع إذا تراءوا لم تستطع وإنما هي بحور تدفق فأطعني ولا
تشهدهم واعتزل بقومك فإني أخاف ألا يكون صلح وكن وراء هذه النطفة ودع
هذين الغارين من مضر وربيعة فهما إخوان فإن اصطلحا فالصلح ما اردنا وإن
اقتتلا كنا حكاما عليهم غدا - وكان كعب في الجاهلية نصرانيا - فقال
صبرة: أخشى أن يكون فيك شيء من النصرانية أتأمرني أن أغيب عن إصلاح بين
الناس وأن أخذل أم المؤمنين وطلحة والزبير وإن ردوا عليهم الصلح وأدع
الطلب بدم عثمان لا أفعل ذلك أبدا فأطبق أهل اليمن على الحضور.
[و] لما رجع الأحنف2 بن قيس من عند علي لقيه هلال بن وكيع بن مالك ابن
عمرو فقال: ما رأيك قال: الاعتزال فما رأيك؟ قال: مكانفة أم المؤمنين
أفتدعنا وأنت سيدنا؟ قال: إنما أكون سيدكم غدا إذا قتلت وبقيت فقال
هلال: هذا وأنت شيخنا؟ فقال: انا الشيخ المعصي وأنت الشاب المطاع
فاتبعت بنو سعد الأحنف فاعتزل بهم إلى وادي السباع واتبعت بنو حنظلة
هلال وتابعت بنو عمرو أبا الجرباء فقاتلوا.
__________
1- حديث سيف هنا عن محمد وطلحة, ط 4 – 503.
2- عن الضريس البجلي, عن ابن يعمر, ط 4 – 504.
(1/153)
[و] لما أقبل الأحنف نادى: يا لأد1 اعتزلوا
هذا الامر وولوا هذين الفريقين كيسة وعجزه فقام المنجاب بن راشد فقال:
يال الرباب لا تعتزلوا واشهدوا هذا الأمر وتولوا كيسه ففارقوا فلما
قال: يال تميم اعتزلوا هذا الأمر وولوا هذين الفريقين كيسه وعجزه قام
أبو الجرباء - وهو من بني عثمان بن مالك بن عمرو بن تميم - فقال: يال
عمرو لا تعتزلوا هذا الأمر وتولوا كيسه فكان أبو الجرباء على بني عمرو
بن تميم والمنجاب بن راشد على بني ضبة فلما قال: يال زيد مناة اعتزلوا
هذا الامر وولوا هذين الفريقين كيسه وعجزه قال هلال بن وكيع: لا
تعتزلوا هذا الأمر ونادى: يال حنظلة تولوا كيسه فكان هلال على حنظلة
وطاوعت سعد الأحنف واعتزلوا إلى وادي السباع.
كان على هوازن2 وعلى بني سليم والأعجاز مجاشع بن مسعود السلمي وعلى
عامر زفر بن الحارث وعلى غطفان أعصر بن النعمان الباهلي وعلى بكر ابن
وائل مالك بن مسمع واعتزلت عبد القيس إلى علي إلا رجلا فإنه أقام ومن
بكر بن وائل قيام واعتزل منهم مثل من بقي منهم عليهم سنان وكانت الأزد
على ثلاثة رؤساء: صبرة بن شيمان ومسعود وزياد ابن عمرو والشواذب عليهم
رجلان: على مضر الخريت بن راشد وعلى قضاعة والتوابع الرعبي الجرمي -
وهو لقب - وعلى سائر اليمن ذو الآجرة الحميري.
فخرج طلحة والزبير فنزلا بالناس من الزابوقة في موضع قرية الأرزاق
فنزلت مضر جميعا وهم لا يشكون في الصلح ونزلت ربيعة فوقهم جميعا وهم لا
__________
1- عن محمد, وعن أبي عثمان, ط 4 – 504, في نسخة "يا لزيد" وهو أد بن
طابخة, أصل تميم.
2- عن محمد وطلحة, ط 4 – 505.
(1/154)
يشكون في الصلح ونزلت اليمن جميعا أسفل
منهم وهم لا يشكون في الصلح وعائشة في الحدان والناس في الزابوقة على
رؤسائهم هؤلاء وهم ثلاثون ألفا وردوا حكيما ومالكا إلى علي بأنا على ما
فارقنا عليه القعقاع فأقدم فخرجا حتى قدما عليه بذلك فارتحل حتى نزل
عليهم بحيالهم فنزلت القبائل إلى قبائلهم مضر إلى مضر وربيعة إلى ربيعة
واليمن إلى اليمن وهم لا يشكون في الصلح فكان بعضهم بحيال بعض وبعضهم
يخرج إلى البعض ولا يذكرون ولا ينوون إلا الصلح وخرج أمير المؤمنين
فيمن معه وهم عشرون الفا وأهل الكوفة على رؤسائهم الذين قدموا معهم ذا
قار وعبد القيس على ثلاثة رؤساء: جذيمة وبكر على ابن الجارود والعمور
على عبد الله بن السوداء وأهل هجر على ابن الأشج وبكر بن وائل من أهل
البصرة على ابن الحارث ابن نهار وعلى دنور بن علي الزط والسبابجة وقدم
علي ذا قار في عشرة آلاف وانضم إليه عشرة آلاف.
فلما نزل الناس واطمأنوا خرج علي وطلحة والزبير فتواقفوا وتكلموا فيما
اختلفوا فيه فلم يجدوا أمرا هو أمثل من الصلح ووضع الحرب حين رأوا
الأمر قد أخذ في الإنقشاع وأنه لا يدرك فافترقوا عن موقفهم على ذلك
ورجع علي إلى عسكره وطلحة والزبير إلى عسكرهما.
(1/155)
المعركة:
وبعث علي من العشي1 عبد الله بن عباس إلى طلحة والزبير وبعثاهما من
العشي محمد بن طلحة إلى علي وأن يكلم كل واحد منهما أصحابه فقالوا: نعم
__________
1- عن محمد وطلحة, ط 4 – 506.
(1/155)
فلما أمسوا وذلك في جمادى الآخرة أرسل طلحة
والزبير إلى رؤساء أصحابهما وأرسل علي إلى رؤساء أصحابه ما خلا أولئك
الذي هضوا عثمان فباتوا على الصلح وباتوا بليلة لم يبيتوا بمثلها
للعافية من الذي أشرفوا عليه والنزوع عما اشتهى الذين اشتهوا وركبوا ما
ركبوا وبات الذين أثاروا أمر عثمان بشر ليلة باتوها قط قد أشرفوا على
الهلكة وجعلوا يتشاورون ليلتهم كلها حتى إجتمعوا على إنشاب الحرب في
السر واستسروا بذلك خشية أن يفطن بما حاولوا من الشر فغدوا مع الغلس
وما يشعر بهم جيرانهم انسلوا إلى ذلك الأمر انسلالا وعليهم ظلمة فخرج
مضريهم إلى مضريهم وربعيهم إلى ربعيهم ويمانيهم إلى يمانيهم فوضعوا
فيهم السلاح فثار أهل البصرة وثار كل قوم في وجوه أصحابهم الذين
بهتوهم1.
وخرج الزبير وطلحة في وجوه الناس من مضر فبعثا إلى الميمنة وهم ربيعة
يعبؤها2 عبد الرحمن بن الحارث بن هشام وإلى الميسرة عبد الرحمن بن عتاب
ابن أسيد وثبتا في القلب فقال: ما هذا؟ قالوا: طرقنا أهل الكوفة ليلا
فقالا: قد علمنا أن عليا غير منته حتى يسفك الدماء ويستحل الحرمة وأنه
لن يطاوعنا ثم رجعا بأهل البصرة وقصف أهل البصرة أولئك حتى ردوهم إلى
عسكرهم فسمع علي وأهل الكوفة الصوت وقد وضعوا رجلا قريبا من علي ليخبره
بما يريدن فلما قال: ما هذا؟ قال ذاك الرجل ما فجئنا إلا وقوم منهم
بيتونا فرددناهم من حيث جاؤوا فوجدنا القوم على رجل فركبونا وثار الناس
وقال علي لصاحب ميمنة: إئت الميمنة وقال لصاحب ميسرته: إئت الميسرة
ولقد علمت أن طلحة والزبير غير منتهين حتى يسفكا
__________
1 - بهتوهم: كذبوهم.
2 - أي يرأسها.
(1/156)
الدماء ويستحلا الحرمة وإنهما لن يطاوعانا
والسبئية لا تفتر إنشابا ونادى علي في الناس: ايها الناس كفوا فلا شيء
فكان من رأيهم جميعا في تلك الفتنة ألا يقتتلوا حتى يبدؤوا يطلبون بذلك
الحجة ويستحقون1 على الآخرين ولا يقتلوا مدبرا ولا يجهزون على جريح ولا
يتبعوا فكان مما اجتمع عليه الفريقان ونادوا فيما بينهما.
وأقبل2 كعب بن سور حتى أتى عائشة رضي الله عنها فقال: أدركي فقد أبى
القوم إلا القتال لعل الله يصلح بك فركبت والبسوا هودجها الأدراع ثم
بعثوا جملها وكان جملها يدعى عسكرا حملها عليه يعلي بن أمية اشتراه
بمائتي دينار فلما برزت من البيوت - وكانت بحيث تسمع الغوغاء - وقفت
فلم تلبث أن سمعت غوغاء شديدة فقالت: ما هذا؟ قالوا: ضجة العسكر قالت:
بخير أو بشر؟ قالوا: بشر قالت: فأي الفريقين كانت منهم هذه الضجة فهم
المهزومون, وهي واقفة فوالله ما فجئها إلا الهزيمة فمضى الزبير من
سننه3 في وجهه فسلك وادي السباع وجاء طلحة سهم غرب4 يخل ركبته بصفحة
الفرس فلما إمتلأ موزجه5 دما وثقل قال لغلامه: اردفني وأمسكني وابغني6
مكانا أنزل فيه فدخل البصرة وهو يتمثل مثله ومثل الزبير:
__________
1- يستحقون: يطلبون الحق.
2- عن محمد وطلحة وأبي عمر, ط 4 – 507.
3- سنان الرمح: نصله.
4- سهم غرب: لا يدري راميه.
5- موزجه: حفه, والموزج معرب من الفارسية, جمعه موازج. (أقرب الموارد)
6- أبغنى مكانا: التمس لي مكانا.
(1/157)
فإن تكن الحوادث أقصدتني ... وأخطأهن سهمي
حين أرمي
فقد ضيعت حين تبعت سهما ... سفاها ما سفهت وضل حلمي
ندمت ندامة الكسعي لما ... شريت رضا بني سهم برغمي
أطعتهم بفرقة آل لأي ... فألقوا للسباع دمي ولحمي
[وفي رواية أخرى] :
ولما انهزم الناس1 في صدر النهار نادى الزبير: أنا الزبير هلموا إلي
أيها الناس ومعه مولى له ينادي: أعن حواري رسول الله صلى الله عليه
وسلم تنهزمون؟ وانصرف الزبير نحو وادي السباع واتبعه فرسانه وتشاغل
الناس عنه بالناس فلما رأى الفرسان تتبعه عطف عليهم ففرق بينهم فكروا
عليه فلما عرفوه قالوا: الزبير! فدعوه فلما نفر فيهم علباء بن الهيثم
ومر القعقاع في نفر بطلحة وهو يقول: إلي عباد الله الصبر الصبر! قال
له: يا أبا محمد إنك لجريح وإنك عما تريد لعليل فادخل الأبيات فقال: يا
غلام أدخلني وابغني مكانا فدخل البصرة ومعه غلام ورجلان فاقتتل الناس
بعده فأقبل الناس في هزيمتهم تلك وهم يريدون البصرة فلما رأوا الجمل
أطافت به مضر عادوا قلبا كما كانوا حيث التقوا وعادوا إلى أمر جديد
ووقفت ربيعة البصرة منهم ميمنة ومنهم ميسرة وقالت عائشة: خل يا كعب عن
البعير وتقدم بكتاب الله عز وجل فادعهم إليه ودفعت إليه مصحفا وأقبل
القوم وأمامهم السبئية يخافون أن يجري الصلح فاستقبلهم كعب بالمصحف
وعلي من خلفهم يزعهم ويأبون إلا إقداما فلما دعاهم كعب رشقوه رشقا
واحدا فقتلوه ورموا عائشة في هودجها فجعلت تنادي: يا بني البقية البقية
- ويعلو صوتها كثرة - الله الله اذكروا الله عز وجل والحساب فيابون إلا
__________
1- حديث سيف, عن محمد وطلحة, ط 4 – 512.
(1/158)
إقداما فكان أول شيء أحدثته حين أبوا أن
قالت: أيها الناس إلعنوا قتلة عثمان وأشياعهم واقبلت تدعو.
وضج أهل البصرة بالدعاء وسمع علي بن ابي طالب الدعاء فقال: ما هذه
الضجة؟ فقالوا: عائشة تدعو ويدعون معها على قتلة عثمان وأشياعهم فأقبل
يدعو ويقول: اللهم العن قتلة عثمان وأشياعهم وأرسلت إلى عبد الرحمن ابن
عتاب وعبد الرحمن بن الحارث: اثبتا مكانكما وذمرت الناس حين رأت أن
القوم لا يريدون غيرهما ولا يكفون عن الناس فازدلفت مضر البصرة فقصفت
مضر الكوفة حتى زوحم علي فنخس علي قفا محمد وقال: احمل فنكل فأهوى علي
إلى الراية ليأخذها منه فحمل فترك الراية في يده وحملت مضر الكوفة
فاجتلدوا قدام الجمل حتى ضرسوا والمجنبات1 على حالها لا تصنع شيئا2 ومع
علي أقوام غير مضر فمنهم زيد بن صوحان فقال له رجل من قومه: تنح إلى
قومك ما لك ولهذا الموقف ألست تعلم أن مضر بحيالك وأن الجمل بين يديك
وأن الموت دونه؟ فقال: الموت خير من الحياة الموت ما أريد فأصيب وأخوه
سيحان وارتث صعصعة واشتدت الحرب فلما رأى ذلك علي بعث إلى اليمن وإلى
ربيعة: أن اجتمعوا على من يليكم فقام رجل من عبد القيس فقال: ندعوكم
إلى كتاب الله عز وجل قالوا: وكيف يدعونا إلى كتاب الله من لا يقيم
حدود الله سبحانه ومن قتل داعي الله كعب بن سور! فرمته ربيعة رشقا
واحدا فقتلوه وقام مسلم بن عبد الله العجلي مقامه فرشقوه رشقا واحدا
فقتلوه ودعت يمن الكوفة يمن البصرة فرشقوهم.
__________
1- ابن الأثير: "والمجبنتان على حالهما".
2- ط 4 – 514.
(1/159)
[و] كان القتال الأول يستحر إلى انتصاف
النهار1 واصيب فيه طلحة رضي الله عنه وذهب فيه الزبير فلما أووا إلى
عائشة وأبى أهل الكوفة إلا القتال ولم يريدوا إلا عائشة ذمرتهم2 عائشة
فاقتتلوا حتى تنادوا فتحاجزوا فرجعوا بعد الظهر فاقتتلوا وذلك يوم
الخميس في جمادى الآخرة فاقتتلوا صدر النهار مع طلحة والزبير وفي وسطه
مع عائشة وتزاحف الناس فهزمت يمن البصرة يمن الكوفة وربيعة البصرة
ربيعة الكوفة ونهد علي بمضر الكوفة إلى مضر البصرة وقال: إن الموت ليس
منه فوت يدرك الهارب ولا يترك المقيم.
[و] اقتتلت المجنبتان3 حين تزاحفتا قتالا شديدا يشبه ما فيه القلبان
واقتتل أهل اليمن فقتل على راية أمير المؤمنين من أهل الكوفة عشرة كلما
أخذها رجل قتل خمسة من همذان وخمسة من سائر اليمن فلما رأى ذلك يزيد
ابن قيس أخذها فثبتت في يده وهو يقول:
قد عشت يا نفس وقد غنيت ... دهرا فقطك اليوم ما بقيت
أطلب طول العمر ما حييت
وإنما تمثلها وهو قول الشاعر قبله. وقال نمران بن أبي نمران الهمداني:
جردت سيفي في رجال الأزد ... أضرب في كهولهم والمرد
كل طويل الساعدين نهد
__________
1 - عن محمد وطلحة, ط 4- 514.
2 - زمر: حض.
3 - أي قلب جيش على وقلب جيش عائشة, ط 4 – 515.
(1/160)
وأقبلت ربيعة فقتل على راية الميسرة من أهل
الكوفة زيد وصرع صعصعة ثم سيحان ثم عبد الله بن رقبة بن المغيرة ثم أبو
عبيدة بن راشد ابن سلمى وهو يقول: اللهم أنت هديتنا من الضلالة
واستنقذتنا من الجهالة وابتليتنا بالفتنة فكنا في شبهة وعلى ريبة حتى
قتل ثم الحصين بن معبد ابن النعمان فأعطاها ابنه معبدا وجعل يقول: يا
معبد قرب لها بوها تحدب فثبتت في يده.
[و] لما رأت الكماة من مضر الكوفة ومضر البصرة الصبر تنادوا في عسكر
عائشة وعسكر علي: يا أيها الناس طرفوا إذا فرغ الصبر ونزع النصر فجعلوا
يتوجؤون1 الاطراف: الأيدي والارجل فما رئيت وقعة قط قبلها ولا بعدها
ولا يسمع بها أكثر يدا مقطوعة ورجلا مقطوعة منها ولا يدرى من صاحبها
وأصيبت يد عبد الرحمن بن عتاب يومئذ قبل قتله وكان الرجل من هؤلاء
وهؤلاء إذا أصيب شيء من أطرافه استقتل إلى أن يقتل.
[و] اشتد2 الأمر حتى أرزت ميمنة الكوفة إلى القلب حتى لزقت به ولزقت
ميسرة البصرة بقلبهم ومنعوا ميمنة أهل الكوفة أن يختلطوا بقلبهم وإن
كانوا إلى جنبهم وفعل مثل ذلك ميسرة الكوفة وميمنة البصرة فقالت عائشة
رضي الله عنها لمن عن يسارها: من القوم قال صبرة بن شيمان: بنوك الأزد
قالت: يا آل غسان حافظوا اليوم جلادكم الذي كنا نسمع به وتمثلت:
__________
1- يتوجؤون الأطراف: يضربونهم في أيديهم وأرجلهم, ط 4 – 516.
2- عن الصعب بن عطية بن بلال, عن أبيه, ط 4 – 516.
(1/161)
وجالد من غسان اهل حفاظها ... وهنب وأوس
جالدت وشبيب
وقالت لمن عن يمينها: من القوم؟ قالوا: بكر بن وائل قالت: لكم يقول
القائل:
وجاءوا الينا في الحديد كأنهم ... من العزة القعساء بكر بن وائل
إنما بازائكم عبد القيس فاقتتلوا أشد القتال من قتالهم قبل ذلك وأقبلت
على كتيبة بين يديها فقالت: من القوم؟ قالوا: بنو ناجية قالت: بخ بخ
سيوف أبطحية وسيوف قرشية فجالدوا جلادا يتفادى منه ثم أطافت بها بنو
ضبة فقالت: ويها جمرة الجمرات! حتى إذا رقوا خالطهم بنو عدي وكثروا
حولها فقالت: من أنتم؟ قالوا: بنو عدي خالطنا إخواننا فقالت: ما زال
رأس الجمل معتدلا حتى قتلت بنو ضبة حولي فأقاموا رأس الجمل ثم ضربوا
ضربا ليس بالتعذير ولا يعدلون بالتطريف حتى إذا كثر ذلك وظهر في
العسكرين جميعا راموا الجمل وقالوا: لا يزال القوم أو يصرع وأرزت مجنتا
علي فصارتا في القلب وفعل ذلك أهل البصرة وكره القوم بعضهم بعضا
وتلاقوا جميعا بقلبيهم وأخذ بن يثربي برأس الجمل وهو يرتجز وادعى قتل
علباء بن الهيثم وزيد بن صوحان وهند بن عمرو فقال:
أنا لمن ينكرني ابن يثربي ... قاتل علباء وهند الجملي
وابن لصوحان على دين علي
فناداه عمار: لقد لعمري لذت1 بحريز وما إليك سبيل فإن كنت صادقا فاخرج
من هذه الكتيبة إلي فترك الزمام في يد رجل من بني عدي حتى
__________
1 - ابن الأثير: "عذت".
(1/162)
كان بين أصحاب عائشة وأصحاب علي فزحم الناس
عمارا حتى أقبل إليه فاتقاه عمار بدرقته فضربه فانتشب سيفه فيها فعالجه
فلم يخرج فخرج عمار إليه لا يملك من نفسه شيئا فأسف عمار لرجليه
فقطعهما فوقع على أسته وحمله أصحابه فارتث بعد فأتى به علي فأمر بضرب
عنقه ولما أصيب ابن يثربي ترك ذلك العدوي الزمام ثم خرج فنادى: من
يبارز؟ فخنس عمار وبرز إليه إليه ربيعة العقيلي - والعدوي يدعى عمرة بن
بجرة أشد الناس صوتا - وهو [أي ربيعة] يقول:
يا امنا أعق أم نعلم ... والأم تغدو ولدا وترحم
ألا ترين كم شجاع يكلم ... وتختلى منه يد ومعصم
ثم اضطربا فأثخن كل واحد منهما صاحبه فماتا
وقال عطية بن بلال: ولحق بنا من آخر النهار رجل يدعى الحارث من بني ضبة
فقام مقام العدوي فما رأينا رجلا قط أشد منه وجعل يقول:
نحن بني ضبة أصحاب الجمل ... ننعى ابن عفان بأطراف الأسل
الموت أحلى عندنا من العسل ... ردوا علينا شيخنا ثم بجل1
[و] جعل2 أبو الجرباء يومئذ يرتجز ويقول:
أسامع أنت مطيع لعلي ... من قبل أن تذوق حد المشرفي
وخاذل في الحق أزواج النبي ... أعرف قوما لست فيه بعني
__________
1 - يجل: أي حسب.
2 - عن الصعب بن عطية, عن أبية, ط 4 – 525.
(1/163)
[وقد] كانت1 ام المؤمنين في حلقة من أهل
النجدات والبصائر من أفناء مضر فكان لا يأخذ أحد بالزمام إلا كان يحمل
الراية واللواء لا يحسن تركها وكان لا يأخذه إلا معروف عند المطيفين
بالجمل فينتسب لها: أنا فلان ابن فلان فوالله إن كانوا ليقاتلون عليه
وإنه للموت لا يوصل إليه إلا بطلبة وعنت وما رامه احد من أصحاب علي إلا
قتل أو أفلت ثم لم يعد ولما اختلط الناس بالقلب جاء عدي بن حاتم فحمل
عليه ففقئت عينه ونكل فجاء الأشتر فحامله عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد
وإنه لأقطع منزوف فاعتنقه ثم جلد به الارض عن دابته فاضطرب تحته فأفلت
وهو جريض.
[و] بما أنه كان لا يجيء2 رجل فيأخذ بالزمام حتى يقول: أنا فلان بن
فلان يا أم المؤمنين فجاء عبد الله بن الزبير فقالت حين لم يتكلم: من
أنت؟ فقال: أنا عبد الله أنا ابن أختك قالت: واثكل أسماء! - تعني أختها
- وانتهى إلى الجمل الأشتر وعدي بن حاتم فخرج عبد الله بن حكيم بن حزام
إلى الأشتر فمشى إليه الأشتر فاختلفا ضربتين فقتله الأشتر ومشى إليه
عبد الله بن الزبير فضربه الأشتر على رأسه فجرحه جرحا شديدا وضرب عبد
الله الأشتر ضربة خفيفة واعتنق كل واحد منهما صاحبه وخرا إلى الارض
يعتركان فقال عبد الله بن الزبير: "اقتلوني ومالكا"3.
وكان مالك يقول: ما أحب أن يكون قال: "والأشتر" وإن لي حمر النعم وشد
ناس من أصحاب علي وأصحاب عائشة فافترقا وتنقذ كل واحد من الفريقين
صاحبه.
__________
1- عن محمد وطلحة, ط 4 – 525.
2- عن هشام بن عروة, عن أبيه, ط 4 – 525.
3- فذهبت هذه الكلمة مثلا.
(1/164)
وجاء محمد بن طلحة1 فأخذ بزمام الجمل فقال:
يا أمتاه مريني بامرك قالت: آمرك أن تكون كخير بني آدم إن تركت قال:
فحمل فجعل لا يحمل عليه أحدا إلا حمل عليه ويقول: "حم لا ينصرون"
واجتمع عليه نفر فكلهم ادعى قتله: المكعبر الأسدي والمكعبر الضبي
ومعاوية بن شداد العبسي وعفان بن الأشقر النصري فأنفذه بعضهم بالرمح
ففي ذلك يقول قاتله منهم:
وأشعث قوام بآيات ربه ... قليل الأذى فيما ترى العين مسلم
هتكت له بالرمح جيب قميصه ... فخر صريعا لليدين وللفم
يذكرني حم والرمح شاجر ... فهلا تلا حم قبل التقدم
على غير شيء غير ان ليس تابعا ... عليا ومن لا يتبع الحق يندم
قال القعقاع بن عمرو للأشتر يؤلبه: يومئذ هل لك في العود؟ فلم يجبه
فقال: يا أشتر بعضنا أعلم بقتال بعض منك فحمل القعقاع وإن الزمام مع
زفر بن الحارث وكان آخر من أعقب في الزمام فلا والله ما بقي من بني
عامر يومئذ شيخ إلا أصيب قدام الجمل فقتل فيمن قتل يومئذ ربيعة جد
إسحاق بن مسلم وزفر يرتجز ويقول:
يا أمنا يا عيش لن تراعي ... كل بنيك بطل شجاع
ليس بوهام ولا براعي
__________
1- عن الصعب بن عطية, عن أبيه, ط 4 – 526.
(1/165)
وقام القعقاع يرتجز ويقول:
إذا وردنا آجنا جهرناه ... ولا يطاق ورد ما منعناه
تمثلها تمثلا.
[و] كان آخر من قاتل1 ذلك اليوم زفر بن الحارث فزحف إليه القعقاع فلم
يبق حول الجمل عامري مكتهل إلا أصيب يتسرعون إلى الموت وقال القعقاع:
يا بجير بن دلجة صح بقومك فليعقروا الجمل قبل أن يصابوا وتصاب أم
المؤمنين فقال: يال ضبة يا عمرو بن دلجة ادع بي إليك فدعا به فقال: أنا
آمن حتى ارجع؟ قال: نعم قال: فاجتث ساق البعير فرمى بنفسه على شقه
وجرجر البعير وقال القعقاع لمن يليه: أنتم آمنون واجتمع هو وزفر على
قطع بطان البعير وحملا الهودج فوضعاه ثم أطافا به وتفار من وراء ذلك من
الناس.
لما أمسى الناس2 وتقدم علي وأحيط بالجمل ومن حوله وعقره بجير بن دلجة
وقال: انكم آمنون كف بعض الناس عن بعض - وقال علي في ذلك حين أمسى
وانخنس عنهم القتال:
__________
1- عن محمد وطلحة, ط 4 – 527.
2- عن الصعب بن عطية, عن أبيه.
(1/166)
إليك أشكو عجري وبجري ... ومعشرا عشوا علي
بصري
قتلت منهم مضرا بمضري ... شفيت نفسي وقتلت معشري
قال طلحة يومئذ1: اللهم اعط عثمان مني حتى يرضى فجاء سهم غرب وهو واقف
فخل ركبته بالسرج وثبت حتى امتلأ موزجه2 دما فلما ثقل قال لمولاه:
أردفني وابغني مكانا لا أعرف فيه فلم أر كاليوم شيخا أضيع دما [مني] 3.
فركب مولاه وأمسكه وجعل يقول: قد لحقنا القوم حتى انتهى به إلى دار من
دور البصرة خربة وأنزله في فيئها فمات في تلك الخربة ودفن رضي الله عنه
في بني سعد.
كانت ربيعة4 مع علي يوم الجمل ثلث اهل الكوفة ونصف الناس يوم الوقعة
وكانت تعبيتهم مضر ومضر وربيعة وربيعة واليمن واليمن فقال بنو صوحان:
يا أمير المؤمنين ائذن لنا نقف عن مضر ففعل فأتى زيد فقيل له: ما يوقفك
حيال الجمل وبحيال مضر؟ الموت معك وبإزائك فاعتزل الينا فقال: الموت
نريد فأصيبوا يومئذ وأفلت صعصعة من بينهم.
__________
1- عن اسماعيل بن أبي خالد, عن حكيم بن جابر, ط 4 – 527.
2- الموزج: الخف, كلمة فارسية معربة.
3- من ابن الأثير.
4- عن البختري العبدي, عن أبيه.
(1/167)
قال الصعب بن عطية1: كان رجل منا يدعى
الحارث فقال يومئذ: يال مضر علام يقتل بعضكم بعضا؟ تبادرون لا ندري إلا
أنا إلى قضاء وما تكفون في ذلك.
كان القتال2 يومئذ في صدر النهار مع طلحة والزبير فانهزم الناس وعائشة
توقع الصلح فلم يفجأها إلا الناس فأحاطت بها مضر ووقف الناس للقتال
فكان القتال نصف النهار مع عائشة وعلي ... 3 كعب بن سور أخذ مصحف عائشة
وعلي فبدر بين الصفين يناشدهم الله عز وجل في دمائهم وأعطى درعه فرمى
بها تحته وأتي بترسه فتنكبه فرشقوه رشقا واحدا فقتلوه رضي الله عنه ولم
يمهلوهم أن شدوا عليهم والتحم القتال فكان أول مقتول بين يدي عائشة من
أهل الكوفة.
قال والد مخلد بن كثير4: ارسلنا مسلم بن عبد الله يدعو بني أبينا
فرشقوه - كما صنع القلب بكعب - رشقا واحدا فقتلوه فكان أول من قتل بين
يدي امير المؤمنين وعائشة رضي الله عنهما فقالت أم مسلم ترثيه:
__________
1- ط 4 - 528.
2- عن ابن صعصعة المزني- أو عن صعصعة- عن عمرو بن جأوان، عن جرير بن
أشرس.
3- يوجد نقص في الأصل.
4- عن سيف عن مخلد بن كثير عن أبيه، ط4- 529.
(1/168)
لا هم إن مسلما أتاهم
... مستسلما للموت إذ دعاهم
إلى كتاب الله لا يخشاهم ... فرملوه من دم إذ جاهم
وأمهم قائمة تراهم ... يأتمرن الغي لا تنهاهم
لما انهزمت1 مجنبتا الكوفة عشية الجمل صاروا إلى القلب - وكان ابن
يثربي قاضي البصرة قبل كعب بن سور فشهدهم هو وأخوه يوم الجمل وهما عبد
الله وعمرو فكان واقفا أمام الجمل على فرس - فقال علي: من رجل يحمل على
الجمل؟ فانتدب له هند بن عمرو المرادي فاعترضه ابن يثربي فاختلفا
ضربتين فقتله ابن يثربي ثم حمل سيحان بن صوحان فاعترضه ابن يثربي
فاختلفا ضربتين فقتله ابن يثربي ثم حمل علباء بن الهيثم فاعترضه ابن
يثربي فقتله ثم حمل صعصعة فضربه فقتل ثلاثة أجهز عليهم في المعركة:
علباء وهند وسيحان وارتث2 صعصعة وزيد فمات أحدهما وبقي الآخر.
أخذ الخطام3 يوم الجمل سبعون رجلا من قريش كلهم يقتل وهو آخذ بالخطام
وحمل الأشتر فاعترضه عبد الله بن الزبير فاختلفا ضربتين ضربة الأشتر
فأمه4 وواثبه عبد الله فاعتنقه فخر به وجعل يقول: "اقتلوني
__________
1- عن سيف, عن الصعب بن حكيم بن شريك, عن أبيه عن جده.
2- ارتث: حمل جريحا.
3- عن عمرو بن محمد, عن الشعبي, ط 4 – 530.
4- أمه: جرحه جرحا بليغا في رأسه.
(1/169)
ومالكا - وكان الناس لا يعرفونه بمالك ولو
قال:" والأشتر" وكانت له الف نفس ما نجا منها شيء - وما زال يضطرب في
يدي عبد الله حتى أفلت وكان الرجل إذا حمل على الجمل ثم نجا لم يعد
وجرح يومئذ مروان وعبد الله ابن الزبير.
ارتجز يومئذ ابن يثربي1.
أنا لمن أنكرني ابن يثربي ... قاتل علباء وهند الجملي
وابن لصوحان على دين علي
وقال: من يبارز؟ فبرز له رجل فقتله ثم برز له آخر فقتله وارتجز وقال:
أقتلهم وقد أرى عليا ... ولو أشأ أوجرته عمريا
فبرز له عمار بن ياسر وإنه لأضعف من بارزه وإن الناس ليسترجعون حين قام
عمار وانا أقول لعمار من ضعفه: هذا والله لاحق بأصحابه وكان قضيفا2 حمش
الساقين3 وعليه سيف حمائله تشف عنه قريب من إبطه,
__________
1- عن داود بن أبي هند, عن شيخ من بني ظبة.
2- القضيف: الدقيق العظم, القليل اللحم.
3- حمش الساقين: دقيقهما.
(1/170)
فيضربه ابن يثربي بسيفه فنشب في حجفته1
وضربه عمار وأوهطه2 ورمى أصحاب علي ابن يثربي بالحجارة حتى أثخنوه
وارتثوه3.
لما قال الضبي يوم الجمل4:
نحن بني ضبة أصحاب الجمل ... ننعى ابن عفان بأطراف الأسل
ردوا علينا شيخنا ثم بجل
قال عمير بن أبي الحارث:
كيف نرد شيخكم وقد قحل5 ... نحن ضربنا صدره حتى انجفل6
[وقد] عقر الجمل7 [كما مر معنا] رجل من بني ضبه يقال له: ابن دلجة -
عمرو أو بجير - وقال في ذلك الحارث بن قيس - وكان من أصحاب عائشة:
نحن ضربنا ساقه فانجدلا ... من ضربة بالنفر كانت فيصلا
لو لم نكون للرسول ثقلا ... وحرمة لاقتسمونا عجلا
وقد نحل ذلك المثنى بن مخرمة من أصحاب علي.
__________
1- الجحفة: الترس.
2- أوهطة: أضعفه وأثخنه ضربا.
3- أي حملوه من المعركة جريحا.
4- عن سيف, عن حماد البرجمي, عن خارجة بن الصلت.
5- قحل: مات وجف جلده (اللسان) .
6- انجفل: سقط.
7- عن الصعب بن حكيم, عن أبيه عن جده, ط 4 – 531.
(1/171)
صفة القتال يوم
الجمل:
قال القعقاع1: ما رأيت شيئا أشبه بشيء من قتال القلب يوم الجمل بقتال
صفين لقد رأيتنا ندافعهم بأسنتنا ونتكيء على ازجتنا وهم مثل ذلك حتى لو
أن الرجال مشت عليها لاستقلت بهم.
__________
1- عن محمد بن نويرة, عن أبي عثمان, ط 4 – 532.
(1/172)
إنزال هودج عائشة:
أتى محمد بن أبي بكر2 وعمار بن ياسر عائشة وقد عقر الجمل فقطعا غرضة3
الرحل واحتملا الهودج فنحياه حتى أمرهما علي فيه أمره بعد قال: أدخلاها
البصرة فأدخلاها دار عبد الله بن خلف الخزاعي.
[و] أمر علي4 نفرا بحمل الهودج من بين القتلى وقد كان القعقاع وزفر ابن
الحارث انزلاه عن ظهر البعير فوضعاه إلى جنب البعير فاقبل محمد بن أبي
بكر إليه ومعه نفر فأدخل يده فيه فقالت: من هذا؟ قال: أخوك البر قالت:
عقوق قال عمار بن ياسر: كيف رأيت ضرب بنيك اليوم يا أمه؟ قالت: من أنت؟
قال: أنا إبنك البار عمار قالت: لست لك بأم قال: بلى وإن كرهت. قالت:
فخرتم إن ظفرتم وأتيتم مثل ما نقمتم هيهات والله لن يظفر من كان هذا
رأبه وأبرزوها بهودجها من القتلى
__________
1- عن محمد بن نويرة, عن أبي عثمان, ط 4 – 532.
2- عن محمد بن راشد السلمي, عن ميسرة أبي جميلة, ط 4 – 533.
3- الغرضة للرحل كالحزام للسرج.
4- عن محمد وطلحة, ط 4 – 533.
(1/172)
ووضعوها ليس قربها أحد وكأن هودجها فرخ
مقصب1 مما فيه من النبل وجاء أعين بن ضبيعة المجاشعي حتى أطلع في
الهودج فقالت: إليك لعنك الله فقال: والله ما أرى إلا حميراء قالت: هتك
الله سترك وقطع يدك وأبدى عورتك فقتل بالبصرة وسلب وقطعت يده ورمي به
عريانا في خربة من خربات الأزد فانتهى إليها علي فقال: اي أمه يغفر
الله لنا ولكم قالت غفر الله لنا ولكم.
[وفي رواية اخرى] 2.
انتهى محمد بن ابي بكر ومعه عمار فقطع الانساع عن الهودج واحتملاه فلما
وضعاه أدخل محمد يده وقال: اخوك محمد فقالت: مذمم قال: يا أخية هل
أصابك شيء؟ قالت: ما أنت من ذاك؟ قال: فمن إذن؟ الضلال؟ قالت: بل
الهداة وانتهى إليها علي فقال: كيف أنت يا أمه؟ قالت بخير قال: يغفر
الله لك قالت: ولك.
ولما كان3 من آخر الليل خرج محمد بعائشة حتى أدخلها البصرة فأنزلها في
دار عبد الله بن خلف الخزاعي على صفية ابنة الحارث بن طلحة بن أبي طلحة
ابن عبد العزي بن عثمان بن عبد الدار وهي ام طلحة الطلحات بن عبد الله
ابن خلف.
__________
1 - في نسخة "معضب", والفرخ: الزرع اذا تهيأ للانشقاق بعدما يطلع.
ومقصب: أي ذو أنابيب.
2 - عن الصعب بن حكيم ابن شريك, عن أبيه, عن جد, ط 4 – 534.
3 - عن محمد وطلحة, ط 4 – 534.
(1/173)
[وكانت الواقعة يوم الخميس لعشر خلون من
جمادى الآخرة سنة 36 في قول الواقدي] .
(1/174)
مقتل الزبير بن
العوام:
لما انهزم الناس1 يوم الجمل عن طلحة والزبير ومضى الزبير رضي الله عنه
حتى مر بعسكر الأحنف فلما رآه وأخبر به قال: والله ما هذا بخيار2 وقال
للناس: من يأتينا بخبره؟ فقال: عمرو بن جرموز لأصحابه: أنا فاتبعه فلما
لحقه نظر إليه الزبير - وكان شديد الغضب – قال: ما وراءك؟ قال: إنما
أردت أن أسألك فقال غلام للزبير يدعى عطية كان معه: إنه معد فقال: ما
يهولك من رجل؟ وحضرت الصلاة فقال ابن جرموز: الصلاة فقال الزبير:
الصلاة فنزلا واستدبره ابن جرموز فطعنه من خلفه في جربان3 درعه فقتله
وأخذ فرسه وخاتمه وسلاحه وخلى عن الغلام فدفنه بوادي السباع ورجع إلى
الناس بالخبر فأما الأحنف فقال: والله ما أدري أحسنت أم اسأت؟ ثم انحدر
إلى علي وابن جرموز معه فدخل عليه فأخبره فدعا بالسيف فقال: سيف طالما
جلى الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعث بذلك إلى عائشة ثم
أقبل على الأحنف فقال: تربصت فقال: ما كنت أراني إلا قد أحسنت وبأمرك
كان ما كان يا أمير المؤمنين فارفق فإن طريقك الذي سلكت بعيد وأنت إلي
غدا أحوج منك أمس فاعرف إحساني واستصف مودتي لغد ولا تقولن مثل هذا
فإني لم أزل لك ناصحا.
__________
1- عن سيف, عن الوليد بن عبد الله, عن أبيه, ط 4 – 543.
2- أي باختيار منه إنما اضطر إلى ذلك؟
3- الجربان: الجيب.
(1/174)
من انهزم يوم الجمل
فاختفى ومضى في البلاد:
ومضى الزبير1 في صدر يوم الهزيمة راجلا نحو المدينة فقتله ابن جرموز
وخرج عتبة بن أبي سفيان وعبد الرحمن ويحيى ابنا الحكم يوم الهزيمة قد
شججوا في البلاد فلقوا عصمة بن أبير التيمي فقال: هل لكم في الجوار؟
قالوا: من أنت؟ قال عصمة بن أبير قالوا: نعم قال: فأنتم في جواري إلى
الحول فمضى بهم ثم حماهم وأقام عليهم حتى برئوا ثم قال: اختاروا أحب
بلد إليكم أبلغكموه قالوا: الشام فخرج بهم في اربعمائة راكب من تيم
الرباب حتى إذا وغلوا في بلاد كلب بدومة قالوا: قد وفيت ذمتك وذممهم
وقضيت الذي عليك فارجع فرجع وفي ذلك يقول الشاعر:
وفي ابن أبير والرماح شوارع ... بآل أبي العاصي وفاء مذكرا
وأما ابن عامر فإنه خرج أيضا مشججا فتلقاه رجل من بني حرقوص يدعى مريا
فدعاه للجوار فقال نعم فأجاره واقام عليه؟ وقال: اي البلدان أحب إليك؟
قال: دمشق فخرج به في ركب من بني حرقوص حتى بلغوا به دمشق وقال حارثة
بن بدر - وكان مع عائشة واصيب في الوقعة ابنه أو أخوه زراع2.
أتاني من الأنباء ان ابن عامر ... أناخ والقى في دمشق المراسيا
__________
1- عن محمد وطلحة, ط 4 – 535.
2- في نسخة "دراع".
(1/175)
وأوى مروان بن الحكم إلى أهل بيت من عنزة
يوم الهزيمة فقال لهم: اعلموا مالك بن مسمع بمكاني فأتوا مالكا فأخبروه
بمكانه فقال لاخيه مقاتل: كيف نصنع بهذا الرجل الذي قد بعث إلينا
يعلمنا بمكانه؟ قال: أبعث ابن أخي فأجره والتمسوا له الأمان من علي فإن
آمنه فذاك الذي نحب وإن لم يؤمنه خرجنا به وبأسيافنا فإن عرض له جالدنا
دونه بأسيافنا فإما أن نسلم وإما أن نهلك كراما وقد استشار غيره من
أهله من قبل في الذي استشار فيه مقاتلا فنهاه فأخذ برأي أخيه وترك
رأيهم فأرسل إليه فأنزله داره وعزم على منعه إن اضطر إلى ذلك وقال:
الموت دون الجوار وفاء وحفظ لهم بنو مروان ذلك بعد وانتفعوا به عندهم
وشرفوهم بذلك وأوى عبد الله بن الزبير إلى دار رجل من الأزد يدعى وزيرا
وقال: إئت أم المؤمنين فأعلمها بمكاني وإياك أن يطلع على هذا محمد بن
أبي بكر فأتى عائشة رضي الله عنها فأخبرها فقالت: علي بمحمد فقال: يا
أم المؤمنين إنه قد نهاني أن يعلم به محمد فأرسلت إليه فقالت: إذهب مع
هذا الرجل حتى تجيئني بابن اختك فانطلق معه فدخل بالأزدي على ابن
الزبير قال1: جئتك والله بما كرهت وأبت أم المؤمنين إلا ذلك فخرج عبد
الله ومحمد وهما يتشاتمان فذكر محمد عثمان فشتمه وشتم عبد الله محمدا
حتى انتهى إلى عائشة في دار عبد الله ابن خلف - وكان عبد الله بن خلف
قبل يوم الجمل مع عائشة وقتل عثمان أخوه مع علي - وأرسلت عائشة في طلب
من كان جريحا فضمت منهم ناسا وضمت مروان فيمن ضمت فكانوا في بيوت
الدار.
__________
1- ط 4 – 537.
(1/176)
وغشي الوجوه عائشة1 وعلي في عسكره ودخل
القعقاع بن عمرو على عائشة في أول من دخل فسلم عليها فقالت: إني رأيت
رجلين بالأمس اجتلدا بين يدي وارتجزا بكذا فهل تعرف كوفيك منهما؟ قال:
نعم ذاك الذي قال: "أعق أم نعلم" وكذب والله إنك لأبر أم نعلم ولكن لم
تطاعي فقالت: والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة وخرج فأتى
عليا فأخبره أن عائشة سألته فقال: ويحك من الرجلان قال ذلك أبو هالة
الذي يقول:
كيما أرى صاحبه عليا
فقال: والله لوددت أني مت قبل هذا اليوم بعشرين سنة فكان قولهما واحدا.
وتسلل الجرحى2 في جوف الليل ودخل البصرة من كان يطيق الإنبعاث منهم
وسألت عائشة يومئذ عن عدة من الناس منهم من كان معها ومنهم من كان
عليها وقد غشيها الناس وهي في دار عبد الله بن خلف فكلما نعي لها منهم
واحد قالت: يرحمه الله فقال لها رجل من أصحابها: كيف ذلك؟ قالت: كذلك
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فلان في الجنة وفلان في الجنة وقال
علي بن أبي طالب يومئذ: إني لارجو ألا يكون أحد من هؤلاء نقى قلبه إلا
أدخله الله الجنة.
قال علي3: ما نزل على النبي صلى الله عليه وسلم آية أفرح له من قول
الله عز وجل:
__________
1- عن محمد وطلحة, ط 4 – 537.
2- عن محمد وطلحة, ط 4 – 537.
3- عن عطية, عن أبي أيوب, عن علي, ط 4 – 537.
(1/177)
{وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا
كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ} 1 فقال صلى الله عليه
وسلم: "ما أصاب المسلم في الدنيا من مصيبة في نفسه فبذنب وما يعفو الله
عز وجل عنه أكثر وما أصابه في الدنيا فهو كفارة له وعفو منه لا يعتد
عليه فيه عقوبة يوم القيامة وما عفا الله عز وجل عنه في الدنيا فقد عفا
عنه والله أعظم من أن يعود في عفوه".
__________
1- سورة الشورى, الآية 30.
(1/178)
دفن القتلى وتوجع
علي عليهم:
وأقام علي2 بن ابي طالب في عسكره ثلاثة أيام لا يدخل البصرة وندب الناس
إلى موتاهم فخرجوا إليهم فدفنوهم فطاف علي معهم في القتلى فلما أتي
بكعب بن سور قال: زعمتم أنما خرج معهم السفهاء وهذا الحبر قد ترون وأتى
على عبد الرحمن بن عتاب فقال: هذا يعسوب القوم - يقول الذي كانوا
يطيفون به - يعني أنهم قد كانوا اجتمعوا عليه ورضوا به لصلاتهم وجعل
علي كلما مر برجل فيه خير قال: زعم من زعم أنه لم يخرج إلينا إلا
الغوغاء هذا العابد المجتهد وصلى على قتلاهم من أهل البصرة وعلى قتلاهم
من أهل الكوفة وصلى على قريش من هؤلاء وهؤلاء فكانوا مدنيين ومكيين
ودفن علي الأطراف في قبر عظيم وجمع ما كان في العسكر من شيء ثم بعث به
إلى مسجد البصرة أن من عرف شيئا فليأخذه إلا سلاحا كان في الخزائن عليه
سمة السلطان فإنه لما بقي لم يعرف خذوا ما أجلبوا به عليكم من مال الله
عز وجل لا يحل لمسلم من مال المسلم المتوفي شيء وإنما كان ذلك السلاح
في أيديهم من غير تنفيل3 من السلطان.
__________
2- عن محمد وطلحة, ط 4 – 538.
3- أي محمد وطلحة من السلطان, ط 4 – 539.
(1/178)
عدد قتلى الجمل:
كان قتلى الجمل1 حول الجمل عشرة آلاف نصفهم من أصحاب علي ونصفهم من
أصحاب عائشة من الازد ألفان ومن سائر اليمن خمسمائة ومن مضر ألفان
وخمسمائة من قيس وخمسمائة من تميم وألف من بني ضبة وخمسمائة من بكر بن
وائل وقيل: قتل من أهل البصرة في المعركة الاولى خمسة آلاف وقتل من أهل
البصرة في المعركة الثانية خمسة آلاف فذلك عشرة آلاف قتيل من أهل
البصرة ومن أهل الكوفة خمسة آلاف وقتل من بني عدي يومئذ سبعون شيخا
كلهم قد قرأ القرآن سوى الشباب ومن لم يقرأ القرآن.
وقالت عائشة رضي الله عنها: ما زلت أرجو النصر حتى خفيت أصوات بني عدي.
__________
1- عن محمد وطلحة, ط 4 – 539.
(1/179)
دخول عائشة على علي
ومعاقبته من أساء إليها:
ودخل علي البصرة يوم الاثنين فانتهى إلى المسجد فصلى فيه ثم دخل البصرة
فأتاه الناس ثم راح إلى عائشة على بغلته فلما انتهى إلى دار عبد الله
بن خلف وهي أعظم دار بالبصرة وجد النساء يبكين على عبد الله وعثمان
ابني خلف مع عائشة وصفية1 ابنة الحارث مختمرة2 تبكي فلما رأته قالت: يا
علي يا قاتل الأحبة يا مفرق الجمع3 أيتم الله بنيك منك كما أيتمت ولد
عبد الله منه فلم يرد عليها شيئا ولم يزل على حاله حتى دخل على عائشة
فسلم عليها وقعد عندها وقال لها: جبهتنا صفية أما إني لم أرها منذ كانت
جارية حتى اليوم فلما
__________
2- مختمرة: أي واضعة الخمار على وجهها.
3- ما زال الحديث عن محمد وطلحة, ط 4 – 540.
(1/179)
خرج علي أقبلت عليه فأعادت عليه الكلام فكف
بغلته وقال: اما لهممت - وأشار إلى الأبواب من الدار - أن أفتح هذا
الباب واقتل من فيه ثم هذا فاقتل من فيه ثم هذا فاقتل من فيه - وكان
أناس من الجرحى قد لجئوا إلى عائشة فأخبر علي بمكانهم عندها فتغافل
عنهم - فسكتت فخرج علي فقال رجل من الأزد والله لا تفلتنا هذه المرأة
فغضب وقال: صه لا تهتكن سترا ولا تدخلن دارا ولا تهيجن امرأة بأذى وإن
شتمن أعراضكم وسفهن أمراءكم وصلحاءكم فإنهن ضعاف ولقد كنا نؤمر بالكف
عنهن وإنهن لمشركات وإن الرجل ليكافيء المرأة ويتناولها بالضرب فيعير
بها عقبه من بعده فلا يبلغني عن أحد عرض لامرأة فانكل به شرار الناس
ومضى علي فلحق به رجل فقال: يا أمير المؤمنين قام رجلان ممن لقيت على
الباب فتناولا من هو أمض لك شتيمة من صفية قال: ويحك لعلها عائشة قال:
نعم قام رجلان منهم على باب الدار فقال أحدهما:
جزيت عنا أمنا عقوقا
وقال الآخر:
يا أمنا توبي فقد خطيت
فبعث القعقاع بن عمرو إلى الباب فأقبل بمن كان عليه فأحالوا على رجلين
فقال: اضرب أعناقهما ثم قال: لأنهكنهما عقوبة فضربهما مائة مائة
وأخرجهما من ثيابهما.
[و] هما رجلان من أزد الكوفة1 يقال لهما عجل وسعد ابنا عبد الله.
__________
1- عن الحارث بن حصيرة. عن أبي الكنود, ط 4 – 540.
(1/180)
بيعة أهل البصرة
عليا وقسمه ما في بيت المال عليهم:
بايع الأحنف من العشي لأنه كان خارجا هو وبنو سعد ثم دخلوا جميعا
البصرة فبايع أهل البصرة على راياتهم وبايع علي أهل البصرة حتى الجرحى
والمستأمنة فلما رجع مروان لحق بمعاوية وقال قائلون: لم يبرح المدينة
حتى فرغ من صفين.
ولما فرغ علي1 من بيعة أهل البصرة نظر في بيت المال فإذا فيه ستمائة
ألف وزيادة فقسمها على من شهد معه [الوقعة] فأصاب كل رجل منهم خمسمائة
خمسمائة وقال: لكم إن أظفركم الله عز وجل بالشام مثلها إلى اعطياتكم
وخاض في ذلك السبئية وطعنوا على علي من وراء وراء.
__________
1- عن محمد وطلحة, ط 4 – 541.
(1/181)
سيرة علي فيمن قاتل
يوم الجمل:
كان من سيرة علي2 ألا يقتل مدبرا ولا يدفف3 على جريح ولا يكشف سترا ولا
يأخذ مالا فقال قوم يومئذ: ما يحل لنا دماءهم ويحرم علينا اموالهم؟
فقال علي: القوم أمثالكم من صفح عنا فهو منا ونحن منه ومن لج حتى يصاب
فقتاله مني على الصدر والنحر وإن لكم في خمسه لغنى فيومئذ تكلمت
الخوارج.
__________
2- عن محمد بن راشد, ط 4 – 541.
3- لا يذفف: لا يجهز.
(1/181)
خروج عائشة من
البصرة إلى مكة:
قصدت عائشة مكة1 فكان وجهها من البصرة وانصرف مروان والاسود ابن أبي
البختري إلى المدينة من الطريق وأقامت عائشة بمكة إلى الحج ثم رجعت إلى
المدينة.
__________
1- عن محمد وطلحة, ط 4 – 542.
(1/182)
كتابة علي إلى عامله
بالكوفة:
وكتب علي بالفتح إلى عامله بالكوفة2 حين كتب في أمرها وهو يومئذ بمكة:
من عبد الله علي امير المؤمنين أما بعد فإنا التقينا في النصف من جمادى
الآخرة بالخريبة - فناء من أفنية البصرة - فأعطاهم الله عز وجل سنة
المسلمين وقتل منا ومنهم قتلى كثيرة وأصيب ممن أصيب منا ثمامة بن
المثنى وهند بن عمرو وعلباء بن الهيثم وسيحان وزيد ابنا صوحان ومحدوج.
[وكتب عبيد الله بن رافع وكان الرسول زفر بن قيس إلى الكوفة بالبشارة
في جمادى الآخرة] .
[وقد] علم أهل المدينة3 بيوم الجمل يوم الخميس قبل أن تغرب الشمس من
نسر مر بما حول المدينة معه شيء متعلقه فتأمله الناس فوقع فإذا كف فيها
خاتم نقشه "عبد الرحمن بن عتاب" وجفل من بين مكة والمدينة من أهل
__________
2- عن محمد وطلحة, ط 4 – 542.
3- عن محمد وطلحة, ط 4 – 543.
(1/182)
البصرة من قرب البصرة أو بعد وقد علموا
بالوقعة مما ينقل إليهم النسور من الايدي والأقدام.
(1/183)
تجهيز علي عائشة
وإرسالها إلى المدينة:
وجهز1 علي عائشة بكل شيء ينبغي لها من مركب أو زاد أو متاع وأخرج معها
كل من نجا ممن خرج معها إلا من أحب المقام واختار لها أربعين امرأة من
نساء أهل البصرة المعروفات وقال: تجهز يا محمد فبلغها فلما كان اليوم
الذي ترتحل فيه جاءها حتى وقف لها وحضر الناس فخرجت على الناس وودعوها
وودعتهم وقالت: يا بني تعتب بعضنا على بعض استبطاء واستزادة فلا يعتدن
أحد منكم على أحد بشيء بلغه من ذلك إنه والله ما كان بيني وبين علي في
القديم إلا ما يكون بين المرأة وأحمائها وإنه عندي على معتبتي من
الاخيار وقال علي: يا أيها الناس صدقت والله وبرت ما كان بيني وبينها
إلا ذلك وإنها لزوجة نبيكم صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة.
وخرجت يوم السبت لغرة رجب سنة 36 هـ وشيعها علي أميالا وسرح بنيه معها
يوما.
[تمت نصوص رواية سيف بن عمر المتعلقة بمقتل عثمان ووقعة الجمل] .
__________
1- عن محمد وطللحة, ط 4 – 544.
(1/183)
|