المقتبس من أنباء الأندلس
ذكر المجاعة
وقال ابن هشام الشبينسي:
نالت أهل الأندلس مجاعة شديدة صدر أيام الأمير عبد الرحمن سنة سبع
ومائتين وكان سببها انتشار الجراد بالأرض ولحسه الغلات وتردده بالجهات،
فنالت الناس مجاعة عظيمة، كفى حدها الأمير بإطعام الضعفاء والمساكين من
أهل قرطبة، فيهم باسم أيوب العابد المستجاب، بعد أن تصفح وجوه الناس
حوله، فلم تقع عينه عليه، فنادى باسمه مستحلفاً له بالله أن يبرز إليه،
فلما أكثر من الإرجاف به برز ودنا منه، فاجتهد يحيى في الدعاء، وأيوب
يؤمن وينادي ربه فسقى الناس ليومهم. وغاب أيوب فلم يظهر.
ومضى ذكر هذا الخبر على اختلاف الرواة في تاريخ عامه واسم الإمام
المستسقى
(1/225)
وقرأت بخط عبادة الشاعر قال: كان الشريف
دحون بن الوليد، واسمه حبيب بن الوليد بن حبيب الداخل إلى الأندلس بن
عبد الملك بن عمر بن الوليد بن عبد الملك بن مروان، ودحون لقب له غلب
عليه، ويكنى أبا سليمان. وكان من سراة بني مروان بالأندلس وعلمائهم
وأدبائهم، وولد أيام الأمير الداخل في حياة جده حبيب بن عبد الملك
الداخل أيضاً، وجده الذي رباه وأدبه، إذ توفي أبوه الوليد في حياة
أبيه، فكفله بعده جده حبيب الذي هو والد جماعة هذا البطن الحبيبي من
بني أمية بالأندلس، فنشأ حبيب دحون هذا فيهم فقيهاً فاضلاً عالماً
أديباً شاعراً محسناً.
وكانت له رحلة إلى المشرق في أيام الأمير عبد الرحمن بن الحكم، حج فيها
ولقي عليه أهل الحديث، فكتب عنهم، وقدم إلى الأندلس بعلم كثير، فذهب
إلى نشره، فكان يتحلق في المسجد الجامع بقرطبة، وهو يلبس الوشي الهشامي
وما شاكله، فتكاثر الناس عليه، فكره ذلك الأمير عبد الرحمن، وأوصى إليه
بترك التحلق، وقال له: إنك جد كسر من قريش ومنا بحيث تعلمه، ولا يصلح
هذا الأمر بك فدعه! فترك ذلك.
قال: وجرت لدحون في سفرته مع وإلى بني العباس بدمشق - بيت سلفه - قصة
طريفة
(1/226)
حكاها إسحاق بن سلمة عن ابنه ولده عبدة بنت
بشر بن دحون عن أبيها بشر قال: دخل أبي دحون إلى مدينة دمشق - وطنهم
الأقدام - في رحلته إلى المشرق، وعاملها يومئذ لأبي إسحاق المعتصم عمر
بن فرج الرخجي مولى بني العباس، فاتفق أن وافق كونه بها أيام غلاء نزل
بأهلها وارتفاع سعر ضجوا منه، فأخذ الرخجي بضبطهم: بأن أمر بإزعاج من
عندهم من الطارئين عليهم من أهل البلاد والغرباء. وجعل على كل من أخذ
من أبناء السبيل بعد انقضاء الأجل الذي ضربه لهم أن يحل به أشد العقاب.
فابتدر الغرباء بالخروج عنها، وأقام دحون لم يتحرك، فجيء به إلى الرخجي
بعد الأجل، فقال له: ما بالك عصيت أمري؟ أوما سمعت ندائي؟ فقال له
دحون: ذاك قدر لأني ابن بجدتها! وانتمى له.
قال الرخجي: صدقت والله! ما أنت فيها بغريب، وإنك لأحق بالإقامة فيها
منا. فأقم ما أحببت وانصرف إذا شئت.
وذكر إسحاق بن سلمة عن أحمد بن عبد الله الحبيبي عن جده قال:
(1/227)
لما حج حبيب دحون اجتمع بمكة مع ابن عمه
محمد بن يزيد بن سلمة، وكان مطمئناً ببلده بالشام بحال حسنة، فوهب له
محمد جارية تسمى عابدة، وكانت سوداء حالكة من رقيق المدينة، وكانت تروى
عن مالك بن أنس وغيره من العلماء شيوخها، فتسند عشرة آلاف حديث عن
النبي صلى الله عليه وسلم، فقدم بها دحون إلى الأندلس، وهو قد أعجب
بعلمها وفهمها، فاتخذها لفراشه، فولدت له بشراً إبنه.
(1/228)
الداخلون إلى الأمير
عبد الرحمن من قومه
وفي كتاب معاوية بن هشام الشبينسي: من وجوه من دخل إلى الأندلس من بني
مروان أبو القاسم بكار بن عبد الواحد ين داود بن سليمان بن عبد الملك
بن مروان، دخلها أيام الأمير عبد الرحمن بن الحكم، ودخل معه ابن أخيه
أبو سعيد مسلمة بن عبد الملك بن عبد الواحد بن داود بن سليمان بن عبد
الملك فكرمهما الأمير عبد الرحمن ورحب بهما وأنزلهما وأحسن إليهما
وأقطعهما، وأجرى لكل واحد من الرزق بالمشاهرة ثلاثين ديناراً.
ودخل بعدهما من أهل بيتهما إلى الأمير عبد الرحمن أيضاً سنة ست وثلاثين
ومائتين سلمة بن عبد الملك بن عبد الواحد بن داود بن سليمان، فأجراه
مجراهما، وقد انقرض الآن عقب سلمة هذا.
قال:
ودخل الأندلس من هؤلاء المروانية أيام الأمير عبد الرحمن بن الحكم أصبغ
بن محمد بن هشام بن محمد بن سعيد الخير بن عبد الملك بن مروان، فأنزله
الأمير عبد الرحمن، وكرمه وأقطعه، فألقى عصاه بالأندلس وأنسل، فعرف
ولده ببني السعيدي، وهم بإشبيلية.
(1/229)
ما قيل في رثاء
الأمير عبد الرحمن بن الحكم
ووجدت بخط أبي بكر عبادة الشاعر لطاهر بن حزم الشاعر من قصيدة يرثي بها
الأمير عبد الرحمن ويهنئ الأمير محمداً ابنه بالخلافة: من الطويل
سقى الله قبراً بالنخيل غمامة ... تكاد إذا حلت عراها تفطر
رأى الله إذ ولى الأمير محمداً ... لكم عصمة يأيها الناس فاشكروا
فما نطق الأقوام فيه قناعةوهم في أبي بكر لعمري كثروا
تبسمت الدنيا إليه وأقبلت ... إليه قلوب الناس لا تتأخر
وخرج إلى مديح فأطال.
ولعبد الله بن بكر المنبز بالنذل في ذلك: من المتقارب
ألا إن في الدهر للمبصرين ... عجائب تبهر أنظارها
تسور المنايا فما من عزيز ... يدافع بالعز تسوارها!
وكان بالأمس سراج العلا ... يسوس البلاد وأقطارها
على حين أحكم ريب الدهور ... وعرف الأمور وإنكارها
(1/230)
أتته منيته بغتة ... وقد كان في الأرض جبارها
فوسد بعد وثير الحشايا ... خلال المقابر أحجارها
وخلاه أنصاره مفرداً ... وقد كان بالأمس أنصارها
فلله ما استودعت في النخيل ... أكف الرجال ومن زارها |