المقتبس من أنباء الأندلس
سنة سبع وثلاثين
ومائتين
الوزير عبد الواحد بن يزيد الإسكندراني، وقد نيف على الثمانين سنة
والفقيه قاسم بن هلال القيسي. من كتاب ابن الفرضي:
(1/220)
قاسم بن هلال بن فرقد بن عمران القيسي،
يكنى أبا محمد، قرطبي تفقه على زياد بن عبد الرحمن، ورحل، فسمع من ابن
القاسم وابن وهب وغير واحد من المصريين والمدنيين من أصحاب مالك، وكان
عالماً بالمسائل، ولم يكن له علم بالحديث، وكان رجلاً معقلاً وقوراً،
حدث عنه بنوه وغيرهم.
سنة ثمان وثلاثين ومائتين
علي بن نافع الملقب بزرياب، مولى المهدي العباسي، في ربيع الأول من سنة
ثمان وثلاثين ومائتين، هلك قبل وفاة الأمير عبد الرحمن بأربعين يوماً.
وفيها مات هارون بن سالم، يكنى أبا عمر، قرطبي قديم، سمع من عيسى بن
دينار ويحيى بن يحيى، ورحل إلى المشرق، فلقي أشهب بن عبد العزيز وروى
عنه، وسمع من أصبغ بن الفرج، وعلي بن معبد، وسحنون، وغيرهم. وكان منقطع
القرين في الفضل والزهد والعلم، وكان يقال فيه إنه مجاب الدعوة. وكان
يحفظ المسائل حفظاً حسناً، إلا أن العبادة كانت أغلب عليه، وقد كانت
تعرف كرامته وإجابته في غير ما شيء ومات على ذلك حدثاً في الأربعين من
عمره، وكانت كتبه موقفة عند أحمد بن خالد وكانت بينه وبينه قرابة من
طريق أمه، وتوفي فيما ذكره أحمد سنة ثمان وثلاثين ومائتين.
وفيها مات الأمير عبد الرحمن بن الحكم ليلة الخميس لثلاث بقين من ربيع
الآخر منها وقد تقدم ذكر ذلك في مكانه.
(1/221)
ذكر خصال من مناقب
الأمير عبد الرحمن
بن الحكم لم تمر في عرض أخباره
قال أحمد بن محمد الرازي: كان الأمير عبد الرحمن مقدم الطبقة في
البلاغة، مطبوعاً في الكتابة، مقتدراً على ما حاول من سني البيان
المنشور والمنظوم، مؤثراً لمن يحسنهما، مقرباً بوسيلتهما، وكان له
التوقيع الوجيز والقريض المستحسن.
فمما شهر من موجز توقيعه: توقيع له إلى بعض من سأله من مواليه توليته
عملاً لم يكن من أهله: من لم يعرف وجه مطلبه كان الحرمان أولى به.
ووقع إلى ابنه المنذر - وكان من بين ولده بليغاً مفوهاً - فكتب إليه
يسأله أن يأذن له في اعتلاء المنبر بالبلد الذي كان يليه له ليقيم
الجمعة ويخطبهم، ليحيي رسوم سلفهم وينوه به في إتباعهم. فوقع على ظهر
كتابه: قالت الحكماء: لو كان الكلام من فضة، لكان الصمت من ذهب، وإني
لأشفق عليك مما تحسنه، فكيف مما توهم عليك بعض التقصير فيه؟ بملحم
سدادهما ومقتدح زنادهما ومجاريهما في مضمار باطلهما: زرياب المغني،
تالى وحي الشيطان،
(1/222)
وثالث أثافي السلوان، ما له من متعة نعيم
تملك القلوب، وتصور إليها الآذان، لو أن حياً يسلم من الحدثان.
جرت لهذا الأمير المترف معهم في مجالسه ومشاربه نوادر أخبار، تونس زهر
الروض غب القطار، وهي مبثوثة في الناس، على أن رسوم الباطل إلى بلي
وأندراس.
قرأت في كتاب معاوية بن هشام الشبينسي قال: من أبدع مكارم الأمير عبد
الرحمن بن الحكم الدالة على سروه ورفعة نفسه وفرط استحيائه ورقة وجهه
التي لم يكن يعدله فيهن أحد من أهل بيته أن أحضر يوماً مالاً كثيراً
أتاه من بعض النواحي جلس لإيعابه في بدره، وقد أمر خدمه الصقالبة بتولي
ذلك ونضده بين يديه إلى أن يأمر برفعه إلى بيت المال، فأخذوا في ذلك
على عينه.
واعترته سنة غض لها من طرفه، خالها بعض شرهائهم نعاساً، فمد يده إلى
بدرة من ذلك المال، أختلسها حين غفلة من أصحابه، فصيرها في حضنه،
والأمير ينظر إليه، فلما أكملوا نضد البدر أمرهم بإعادة عدها، فأصابوها
تنقص تلك البدرة المختلسة، فتراموا بسرقها، واشتد بينهم التنازع فيها،
فلما أكثروا قال لهم الأمير: حسبتم! كفوا عن ذكرها، فقد أخذها من لا
يردها، ورآه من لا يفضحه. فإياه وإياكم من العود لمثلها، فإن كبير
الذنب يهجم عن استنفاد العفو! ارفعوا المال وأقلوا المقال.
(1/223)
فاشتد عجب من سمع به من سعة كرمه وشدة
حيائه.
وقرأت فيه: كان مكان الأمير عبد الرحمن من صلة الرحم والحنو على
القرابة على حال لم يساوه فيها أحد من أهل بيته، وكان قد اختص فوقهم
جميعاً أخاه أبا عثمان سعيد الخير بن الأمير الحكم، فحباه بصداقته من
بين سائر إخوته من وقت نشأتهما أيام أبيهما، فلما أن صار الأمر إليه
تضاعف اختصاصه لسعيد، وأنسه به، ومباطنته إياه، وإلطافه له، فصار
ينادمه ويخلو به ويتصرف معه في مغازيه وصيوده، ولا يصبر عنه، حتى اعتلت
حال سعيد في أهل بيته، وحسدوه على ما أتيح له من الزلفى إلى الأمير عبد
الرحمن وكان سعيد في ذاته سيداً جواداً.
تذكرة للشامتين، وعظة للمتفكرين، وذاك أن قعد فيه في بعض خلواته للأنس
مع جواريه والالتذاذ بأغانيه، على استعداد كان منه ليومه ذلك واحتفال
في تهيئته.
فبينما هو منغمس في نعمته، لاه بحبرته، إذ انهارت تلك الستارة السامية
التي كان علاها على مجلسه الذي كان قاعداً فيه من داء استبطنها لم يشعر
به لما أراده الله من عرض قدرته عله، فخر المجلس على من كان فيه من
نسائه وخدمه، وسحقهم سحقاً، وقضى الله بنجاته من بينهم بأدق سبب، من
قبل جائزة صلبة من جيزان المجلس تعرضت فوقه، فأمسكت عنه أذى الهدم،
ونجا تحتها هو وجارية له حظية كان قد أجلسها إلى جنبه كانت تسمى منتهى
المنى أم ولده مروان، نجت بنجائه، وهلك جميع جواريه أشنع هلاك، وكن
أربع عشرة جارية.
فارتجت المدينة من شناعة قصته، واتصل خبره بأخيه الأمير عبد الرحمن،
فسر بخلوصه سروراً هون عنده جميع ما أصابه، وهنأه به أصحابه، واستدعى
سعيداً إلى نفسه
(1/224)
فسلاه على ما أصابه، وأخلف عليه بكل جارية هلكت ثنتين، فأرسل إليه ثمني
وعشرين جارية بما لهن من نشب وكسوة، ودفع إليه مالاً واسعاً يعيد له
بناءه، ويطرد به شعثه، فاعتدلت حال سعيد، وجبر كسره، واتصلت ألفته
بالأمير عبد الرحمن وبابنه الأمير محمد بعده.
وطالت حياته إلى أن توفي في أيام الأمير محمد صدر ربيع الآخر سنة
أربعين ومائتين فأرسل الأمير محمد بكفنه وحنوطه وطيبه من عنده، وعهد
إلى بنيه وإخوته وأهل بيته ووزرائه وأهل خدمته بشهوده والمشي بين يدي
نعشه. |