المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

بسم اللَّه الرحمن الرحيم
مقدمة المصنف
الحمد للَّه الَّذِي سبق الأزمان وابتدعها، والأكوان واخترعها والجواهر وجمعها، والأجسام وصنعها، والسماء ورفعها، والأنوار وشعشعها، والشمس واطلعها، والمياه وأنبعها، والأقوات وزرعها، منع آلات الحس عَن إدراكه وقطعها، ووهب لنفس الآدمي نفائس المعارف وأقطعها وخصها دُونَ الخلائق بمعاني أودعها، فعلمت أَنَّهَا أين كانت وكيف كانت فَهُوَ معها.
أحمده عَلَى نعم أكثرها وأوسعها، وأشهد بوحدانيته من براهين أكدت مَا أودعها إِلَى نفس تقر أَنَّهُ يعلم مستقرها ومستودعها.
وأصلي عَلَى رسوله مُحَمَّد أشرف من جاء بملة وشرعها، وألطف من ضاقت حاله عَلَى أمته فوسعها، وعلى أَصْحَابه وأتباعه إِلَى أَن تسكن كُل نفس من الْجَنَّة والنار موضعها، أما بَعْد:
فإني رأيت النفوس تشرئب إِلَى معرفة بدايات الأشياء، وتحب سماع أخبار الأنبياء، وتحن إِلَى مطالعة سير الملوك والحكماء، وترتاح إِلَى ذكر مَا جرى للقدماء.
ورأيت المؤرخين يختلف مقادهم فِي هذه الأنباء، فمنهم من يقتصر عَلَى ذكر الأنبياء الابتداء، وَمِنْهُم من يقتصر عَلَى ذكر الملوك والخلفاء، وأهل الأثر يؤثرون ذكر العلماء، والزهاد يحبون أحاديث الصلحاء، وأرباب الأرب يميلون إِلَى أهل الأدب والشعراء. ومعلوم أن الكل مطلوب، والمحذوف من ذَلِكَ مرغوب، فآتيتك بِهَذَا الكتاب الجامع لغرض كُل سامع، يحوي عيون المراد من جميع ذَلِكَ، والله المرشد إِلَى أصوب المسالك.

(1/115)


ذكر ترتيب هَذَا الكتاب
وأبتدئ بعون اللَّه وتوفيقه وأذكر الدليل عَلَى وجود الصانع سبحانه وتعالى، ثم أردف ذلك بذكر أول المخلوقات، ثُمَّ مَا يلي ذَلِكَ من الموجودات عَلَى ترتيب الوجود فِي الحادثات إلا أَن يخفى زمان حادث فيذكر فِي الجملة، ثُمَّ أتبع ذَلِكَ بذكر آدَم عَلَيْهِ السَّلام وأحواله وَمَا جرى لَهُ، ثُمَّ أذكر عظائم الحوادث الَّتِي كانت فِي زمانه ومن كَانَ فِي مدة ولايته من أَهْل الخير، ورءوس أَهْل الشر. ثُمَّ أذكر من خلفه من أولاده، وَمَا حدث فِي زمان ذَلِكَ الخالف من الأحداث، ومن كَانَ فِي وقته من أَهْل الخير والشر، ثُمَّ من يخلف ذَلِكَ كَذَلِكَ إِلَى زمان نبينا مُحَمَّد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيندرج فِي ذَلِكَ ذكر الأنبياء والملوك وَالْعُلَمَاء والزهاد والحكماء والفراعنة والنماردة ومن لَهُ خبر يصلح إيراده من العوام، وَمَا يحسن ذكره من الأمور والحوادث فِي كُل زمن.
فَإِذَا آل الأمر إِلَى نبينا عَلَيْهِ الصلاة والسلام، أبتدأ بذكر مولده ونسبه، وذكر عيون مَا جرى فِي سَنَة مولده من الحوادث، ثُمَّ مَا جرى فِي سنته الثَّانِيَة من مولده كَذَلِكَ إِلَى زمان نبوته، ثُمَّ بذكر مَا جرى فِي كُل سَنَة من سني النبوة إِلَى سَنَة هجرته إِلَى المدينة.
فَإِذَا انتهينا إِلَى مفتتح سني الهجرة، وَهِيَ الَّتِي عَلَيْهَا التاريخ إِلَى اليوم ذَكَرْنَا مَا كَانَ فِي [كُل [1]] سَنَة من الحوادث المستحسنة والمهمة وَمَا لا بأس بذكره، ونضرب عَن مَا لا طائل فِي الإطالة بِهِ تحته مِمَّا يضيع الزمان بكتابته، إِمَّا لعدم صحته أَوْ لفقد فائدته.
فَإِن خلفا من المؤرخين ملئوا كتبهم بِمَا يرغب عَن ذكره، تارة من المبتدءات البعيدة الصحة، المستهجن ذكرها عِنْدَ ذوي العقول كَمَا قَدْ ذكر فِي مبتدأ وهب بْن منبه وغيره من الأخبار الَّتِي تجري مجرى الخرافات، وتارة يذكر حوادث لا معنى لها ولا فائدة، وتارة يذكر أحوال ملوك يذكر عَنْهُم شرب الخمر، وفعل الفواحش، وتصحيح ذَلِكَ عَنْهُم عزيز، فَإِن صح كان ذَلِكَ إشاعة الفواحش، وإن لَمْ يصح كَانَ
__________
[1] ما بين المعقوفتين: أضيفت لاستقامة المعنى.

(1/116)


فِي مرتبة القذف، وَهُوَ فِي العاجل يهون عَلَى أبناء الجنس مَا هُمْ فِيهِ من الزلل عَلَى أَن الأخبار لا تسلم من بَعْض هَذَا.
ومن أَعْظَم خطأ السلاطين والأمراء نظرهم فِي سياسات متقدميهم وعملهم بمقتضاها من غير نظر، فيما ورد بِهِ الشرع، ومن خطأهم تسمية أفعالهم الخارجة عن الشرع سياسة بأن الشرع هُوَ السياسة لا عمل السلطان برأيه وهواه، ووجه خطأهم فِي ذَلِكَ أَن مضمون قولهم يقتضي أَن الشرع لَمْ يرد بِمَا يكفي فِي السياسة فاحتجنا إِلَى تتمة من رأينا، فَهُمْ يَقْتُلُونَ من لا يَجُوز قتله، ويفعلون مَا لا يحل فعله، ويسمون ذَلِكَ سياسة.
فصل
واعلم أَن فِي ذكر السير والتواريخ فوائد كثيرة، أهمها فائدتان، أحدهما: أَنَّهُ إِن ذكرت سيرة حازم ووصفت عاقبة حاله علمت حسن التدبير واستعمال الحزم، وإن ذكرت سيرته مفرط ووصفت عاقبته خويت من التفريط فيتأدب المسلط، ويعتبر المتذكر، ويتضمن ذَلِكَ شحذ صوارم العقول، ويكون روضة للمتنزه فِي المنقول.
وَالثَّانِيَة: أَن يطلع بِذَلِكَ عَلَى عجائب الأمور وتقلبات الزمن، وتصاريف القدر، والنفس تجد راحة بسماع الأخبار.
وَقَالَ أَبُو عَمْرو بْن العلاء لرجل من بَكْر بْن وائل قَدْ كبر حَتَّى ذهب منه لذة المأكل والمشرب والنكاح: أتحب أَن تموت؟ قَالَ: لا، قيل: فَمَا بقي من لذتك فِي الدنيا، قَالَ: أسمع بالعجائب.
فصل
فَإِذَا أنهينا ذكر المهم من الحوادث والحالات فِي كُل سَنَة ذَكَرْنَا من مَات فِي تلك السنة من الأكابر، ويتعرض بذكر الجرح والتعديل. وَقَدْ يختلف فِي سَنَة موته فنذكر الأصح، وذكر هَذَا من الحوادث أَيْضًا، وترتب أسماؤهم فِي كُل سَنَة عَلَى الحروف فنقدم من اسمه عَلَى حرف الألف عَلَى الباء، فَإِن خفي زمان موت ذاك الشخص ذكرناه مَعَ أقرانه.

(1/117)


فَقَدِ اجتمع فِي كتابنا هَذَا ذكر الأنبياء، والسلاطين، والأحداث والمحدثين/ وَالْفُقَهَاء والمحدثين، والزهاد، والمتعبدين، والشعراء، والمتأدبين، وَفِي الجملة جميع المتميزين من أَهْل الخير والشر أجمعين، فيحصل بِمَا يذكره مراد المسامر والمحدث، ومقصود الناقل المحدث، فكان هَذَا الكتاب مرآة يرى فِيهَا العالم كُلهُ والحوادث بأسرها إلا أَن يَكُون من لا وقع لَهُ فليس لِذَلِكَ ذكر أَوْ حادثة لا يغنى تحتها ولا وجه لذكرها، وَقَدِ انتقى كتابنا نقي التواريخ كلها، وأغنى من يعنى بالمهم منها عنها، وجمع محاسن الأحاديث والأخبار اللائقة بالتواريخ، وانتخب أَحْسَن الأشعار عِنْدَ ذكر قائلها، وسلم من فضول الحشو ومرذول الْحَدِيث، ومن لَمْ يدخل فِيهِ مَا يصلح حذفه.
وَقَدْ كنت عزمت عَلَى مد النفس فِيهِ بزيادة الأسانيد، وجمع وشرح أخبار الشخص كلها ثُمَّ رأيت أن تخير الأوساط خير من الانبساط، فأخذت فِي كف الكف عَن التطويل، وحذف أَكْثَر الأسانيد لئلا يوجب الطول بحر الكتاب، عَلَى أَنَّهُ كثير بالإضافة إلى قلة الهمم، والله تعالى ملهم الإصابة، ومسعف الإجابة بمنه.
ذكر الدليل عَلَى وجود الخالق سبحانه وتعالى [1]
قَدْ ثبت عِنْدَ العقول السليمة أَن العالم كُلهُ حادث، وكل حادث فلحدوثه سبب، والدليل عَلَى أَن العالم حادث أَن العالم كُل موجود سِوَى اللَّه عَزَّ وَجَلَّ والموجود إِذَا كَانَ متحيزا غَيْر مؤتلف سمي جوهرا فردا فَإِن ائتلف إِلَى غيره سمي جسما. والعرض مَا قام بغيره: كاللون، والطعم، وَهَذِهِ الموجودات لا تخلو من الحوادث، كالحركة والسكون، وكل مَا يخلو من الحوادث حادث.
ومعنى قولنا «حادث» أَنَّهُ وجد بَعْد عدمه، فلا يخلو وجوده قبل أَن يَكُون محالا أَوْ ممكنا، ولا يَجُوز أَن يَكُون محالا، لأن المحال لا يوجد أبدا.
فثبت أَنَّهُ ممكن، والممكن مَا يَجُوز أَن يوجد ويجوز أن لا يوجد، فلا بد
__________
[1] راجع: كنز الدرر للدواداري 14، ومرأة الزمان لسبط ابن الجوزي 1/ 45.

(1/118)


لوجوده من مرجح لَهُ عَلَى العدم، وَهَذَا أمر ضروري فِي العقل لا نزاع فِيهِ، فظهر منه أَنَّهُ لا بد للموجودات من موجد أوجده.
فَإِن قيل: يبطل هَذَا بالخالق فَإِنَّهُ موجود لا بموجد.
قلنا: الخالق واجب الوجود لَمْ يزل، وَهَذِهِ الأشياء جائزة الوجود وبدت بَعْد عدم فافتقر إِلَى موجد.
ويزيد مَا قلنا إيضاحا فنقول: اعلم أَن الأدلة عَلَى إثبات الصانع بعدد أجزاء أعيان الموجودات كلها، إذ مَا من شَيْء إلا وفيه دليل عَلَى صانعه، وَفِي كُل شَيْء لَهُ آية تَدُل عَلَى أَنَّهُ واحد، وَقَدْ ثبت فِي الأزمان أَنَّهُ لا كتابة إلا بكاتب، ولا بناء إلا ببان.
ومن الدليل عَلَيْهِ نظم العالم وتركيبه وترتيبه وإحكام صنعته، فَإِن تفكرت فِي هذه عَلَى لطف جرمها، كَيْفَ كونت وركبت أعضاؤها، ثم قد ركبت فِيهَا علم مصالحها، واجتناب مضارها، ومناقد أغذيتها، وسمعها وبصرها.
ومن أعجب الأدلة عَلَيْهِ تفاوت الهمم والطباع والصور، فَإِن تكونت بالطبع لتساوت. وَقَدْ أشار عَزَّ وَجَلَّ إِلَى ذَلِكَ، بقوله: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ في الْأُكُلِ 13: 4 [1] .
فَإِن قَالَ قائل جاهل: منها ومن فعل الطبيعة.
قلنا: إِن كانت حية عالمة قادرة حكيمة فليس خلافنا إلا فِي الاسم، وإن لَمْ يكن عَلَى هذه الأوصاف لَمْ يتصور عَنْهَا فعل محكم.
ومن ألطف الأدلة عَلَى وجوده: وَلَهُ النفوس، وقرع القلوب إِذَا نابت نائبة إِلَيْهِ، والكلام فِي هَذَا المعنى قَدِ استوفي فِي مسائل الأصول، ولما كَانَ هَذَا الكتاب لَمْ يوضع لِذَلِكَ اقتصرنا عَلَى هذه النبذة، وَقَدْ قَالَ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ: هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْباطِنُ ... 57: 3 الآية [2] .
وَأَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُصَيْنِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ الْحَسَنُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
__________
[1] سورة الرعد، الآية: 4
[2] سورة: الحديد، الآية: 3

(1/119)


المذهب، أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بْنِ مَالِكٍ الْقَطِيْعِيُّ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، أَخْبَرَنَا أَبُو مُعَاوِيَةَ، أَخْبَرَنَا الأَعْمَشُ، عَن جَامِعِ بْنِ شَدَّادٍ، عَنْ صَفْوَانَ بْنِ مِحْرِزٍ، عَنِ عِمْرَانَ بن الحصين، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
«اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا بَنِي تَمِيمٍ» ، قَالُوا: قَدْ بَشَّرْتَنَا فَاعْطِنَا، فَقَالَ: «اقْبَلُوا الْبُشْرَى يَا أَهْلَ الْيَمَنِ» ، قَالُوا: قَدْ قَبِلْنَا فَأَخْبِرْنَا عَن أَوَّلِ هَذَا الأَمْرِ كَيْفَ كَانَ، فَقَالَ: «كَانَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ قَبْلَ كُلِّ شَيْءٍ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ وَكَتَبَ فِي اللِّوْحِ الْمَحْفُوظِ ذِكْرَ كُلِّ شَيْءٍ» [1] .
ذِكْرُ بِدَايَةِ الْخَلْقِ
[2] أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن جعفر، أخبرنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ سِوَارٍ، أَخْبَرَنَا لَيْثٌ، عَنْ مُعَاوِيَةَ، عَنِ أيوب بن زياد، قال: حَدَّثَنِي عُبَادَةُ بْنُ الْوَلِيدِ بْنُ عُبَادَةَ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عُبَادَةِ بْنِ الصَّامِتِ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «إِنَّ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ تَعَالَى الْقَلَمَ، ثُمَّ قَالَ: اكْتُبْ، فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ» [3] .
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ القزاز، أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بْن ثابت الْخَطِيبِ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ أَحْمَدَ النَّدَّانُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَرَجِ عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْكَاتِبُ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبُو جَعْفَرٍ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نَصْرٍ الْقَاضِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ الْحَسَنِ الزُّرَقِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مُوسَى، قَالَ:
حَدَّثَتْنِي فَاطِمَةُ بِنْتُ سَعِيدِ بْنِ عُقْبَةَ بْنِ شَدَّادِ بْنِ أُمَيَّةَ الْجُهَنِيِّ، عَنْ أَبِيهَا، عَنِ زَيْدِ بْنِ عَلِيٍّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللَّهُ الْقَلَمُ ثُمَّ خَلَقَ الدَّوَاةَ، وَهُوَ قَوْلُهُ تَعَالَى: ن وَالْقَلَمِ ... 68: 1 [4] ثم قال للقلم:
__________
[1] الحديث أخرجه البخاري 4/ 128، وأحمد بن حنبل في المسند 4/ 431، وابن كثير في التفسير 4/ 240، والقرطبي في التفسير 9/ 8، والسيوطي في الدر المنثور 3/ 321.
[2] تاريخ الطبري 1/ 32، ومرآة الزمان 1/ 47.
[3] أخرجه الطبري في تاريخه 1/ 32، وفي تفسيره 29/ 11، وأخرجه أبو داود 4700، وأحمد بن حنبل 5/ 317، والبيهقي في السنن 10/ 204، والقرطبي في التفسير 18/ 225، والطبراني في المعجم الكبير 11/ 433، وابن كثير في البداية 1/ 8، وفي التفسير 7/ 460، 8/ 211.
[4] سورة: القلم، الآية: 1.

(1/120)


خُطَّ مَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ» [1] .
قَالَ المصنف: وَهَذَا هُوَ المراد بالحَدِيث الَّذِي أَخْبَرَنَاهُ أَبُو الْقَاسِمُ هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُصَيْنِ، أَخْبَرَنَا أبو علي الحسن بْنُ عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، قال: حدثني أبي، قال:
أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ، أَخْبَرَنَا حَيْوَةُ، حَدَّثَنَا أَبُو هَانِي الْخَوْلانِيُّ، أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجِيَلِيَّ يَقُولُ: سَمِعْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو، يَقُولُ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: «قَدَّرَ اللَّهُ الْمَقَادِيرَ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفِ سَنَةٍ» .
أَخْرَجَهُ أَبُو مَسْلَمَةَ [2] .
وإنما قُلْت: المراد بالقدر مَا كتب مِمَّا يَكُون، لأنه لا يَجُوز أَن يَكُون المراد بالتقدير علم مَا يَكُون من جهة أَن علم الحق عَزَّ وَجَلَّ قديم لا يستند إِلَى سنين معدودة، فعلم أن المراد بالقدر كتابة المقدور، وفائدة إظهار المعلوم بمكتوب أن يعلم ان المخلوقات إنما وجدت عَن تدبير تقدم وجودها.
وَقَدْ زعم مُحَمَّد بْن إِسْحَاق أَن أول مَا خلق اللَّه النور والظلمة [3] ، ولا يقبل هَذَا مَعَ الْحَدِيث المرفوع، والقياس يقتضي أَن يَكُون مَعَ القلم اللوح، لأنه يكتب فِيهِ، والدواة عَلَى مَا ذكرناه.
وَمَا رأيتهم ذكروا هَذَا، وإن كَانَ من الممكن خلق اللوح متأخرا، وأن تكون الكتابة متأخرة بَعْد المخلوقات.
قَالَ أَبُو جَعْفَر مُحَمَّد بْن جَرِير الطبري: [4] ثُمَّ ثنى خلق القلم الغمام، وهو السحاب الرقيق.
__________
[1] انظر الحديث في: تفسير ابن كثير 5/ 448، وحلية الأولياء 7/ 318، والتاريخ الكبير للبخاريّ 6/ 92، وتاريخ بغداد 13/ 40، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 5/ 300، وكشف الخفا 1/ 275، 306، وميزان الاعتدال 8298.
[2] أخرجه الترمذي 2156، وأحمد بن حنبل 2/ 169، والقرطبي في التفسير 9/ 52، والأسماء والصفات للبيهقي 374، وانظر: كشف الخفا 2/ 38، والدرر المنتثرة للسيوطي 314.
[3] انظر: تاريخ الطبري 1/ 34.
[4] تاريخ الطبري 1/ 37.

(1/121)


أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قال: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ مَرْوَانَ، أَخْبَرَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ يَعْلَى بْنِ عَطَاءٍ، عَنِ وَكِيعِ بْنِ عُدُسٍ، عَنْ عَمِّهِ أَبِي رُزَيْنٍ، قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَيْنَ كَانَ رَبِّنُا قَبْلَ أَنْ يَخْلِقَ خَلْقَهُ؟ قَالَ: «كَانَ عَمَاءً [1] ، مَا تَحْتَهُ هَوَاءٌ، وَمَا فَوْقَهُ/ سَمَاءٌ [2] ، ثُمَّ خَلَقَ عَرْشَهُ عَلَى الْمَاءِ» [3] .
قَالَ مُؤَلِفُهُ رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: وَاعْلَمْ أَنَّ ذِكْرَ الْفَوْقَ وَالتَّحْتَ وَالْهَوَاءَ عَائِدٌ إِلَى السَّحَابِ، لأَنَّ الْحَقَّ سُبْحَانَهُ لا يَعْلُوهُ شَيْءٌ وَلا يُحْمَلُ فِي شَيْءٍ. وَإِجْمَاعُ الأُمَّةِ عَلَى هَذَا، وبه يدفع توهم من يتوهم أَنَّ ذَلِكَ عَائِدٌ إِلَى الْحَقِّ سُبْحَانَهُ.
وَقَالَ أرطأة بْن المنذر: لما خلق اللَّه تَعَالَى القلم فكتب مَا هُوَ كائن سبحه، ذَلِكَ الكتاب ومجده القلم قبل أَن يخلق شَيْئًا من الخلق.
فصل
واختلفوا فِي الَّذِي خلق بَعْد الغمام [4] ، فَقَالَ قوم: العرش [5] ، وَقَالَ قوم:
الماء [6] ، وَهُوَ الصحيح [7] ، لقوله فِي حَدِيث أَبِي رزين: ثُمَّ خلق عرشه عَلَى الماء.
وَقَدْ روى سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: كان الماء عَلَى متن الريح.
فصل
قَالَ أَبُو جَعْفَر الطبري: [8] فلما أراد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ خلق السموات والأرض خلق
__________
[1] في إحدى نسخ الطبري الخطية: «كان في غمام» . والعماء بالفتح والمد: السحاب. قال أبو عبيد: لا يدرى كيف كان ذلك العماء. وراجع النهاية لابن الأثير 1/ 12، 3/ 130.
[2] في الطبري: «ما تحته هواء، وما فوقه هواء» .
[3] الحديث أخرجه الطبري في التاريخ 1/ 37، وفي التفسير 12/ 4، وابن كثير في تفسيره 4/ 240، والترمذي في السنن 3109، وأحمد بن حنبل 4/ 11، والطبراني في الكبير 19/ 207، وأورده السيوطي في الدر المنثور 3/ 322، والألباني في الأحاديث الضعيفة 2/ 284.
[4] في المختصر: «بعد العماء» .
[5] تاريخ الطبري 1/ 39، والكامل 1/ 18، ومرآة الزمان 1/ 50.
[6] تاريخ الطبري 1/ 39، والكامل 1/ 19، ومرآة الزمان 1/ 50.
[7] هذا أيضا رأي الطبري في تاريخه 1/ 40.
[8] تاريخ الطبري 1/ 41.

(1/122)


فيما ذكر أياما ستة، فسمى كُل يَوْم منها باسم. وَقَدْ ذكر الضَّحَّاك بْن مزاحم أسماءها، فَقَالَ: أَبُو جاد [1] ، هوز، حطي، كلمن، سعفص، قرشت [2] .
وَقَدْ حكاه الضَّحَّاك عَن زَيْد بْن أرقم. وَقَدْ يسمى بِهَذِهِ الأسماء ملوك سيأتي ذكرهم فِي قصة شُعَيْب عَلَيْهِ السَّلام.
وَرَوَى عَطَاءُ بْنُ أَبِي رَبَاحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ يَوْمًا وَاحِدًا فسماه الأحد، [ثم خلق ثَانِيًا فَسَمَّاهُ الاثْنَيْنِ] [3] . ثُمَّ خَلَقَ ثَالِثًا فَسَمَّاهُ الثُّلاثَاءَ، ثُمَّ خَلَقَ رَابِعًا فَسَمَّاهُ الأَرْبِعَاءَ، ثُمَّ خَلَقَ خَامِسًا فَسَمَّاهُ الْخَمِيسُ» [4] .
قَالَ الطبري [5] : وهذان القولان غَيْر مختلفين، إذ كَانَ جائزا أَن يَكُون مَا رواه عَطَاء بلسان العرب، وَمَا ذكره الضَّحَّاك بلسان الآخرين.
فصل
واختلف الْعُلَمَاء فِي أول يَوْم ابتدأ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ خلق السموات وَالأَرْض عَلَى ثلاثة أقوال [6] :
أحدها: السبت.
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا حَجَّاجٌ، قَالَ: حَدَّثَنِي ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي إِسْمَاعِيلُ بْنُ أُمَيَّةَ، عَنْ أَيُّوبَ بْنِ خَالِدٍ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ مَوْلَى أُمِ سَلَمَةَ، عن أبي هريرة، قال: أَخَذَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِيَدِي، فَقَالَ: «خَلَقَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ الْجِبَالَ فِيهَا يَوْمَ الأَحَدِ، وَخَلَقَ فِيهَا الشَّجَرَ يَوْمَ الاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ الْمَكْرُوهِ فِيهَا يَوْمَ الثُّلاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ يَوْمَ الأَرْبَعَاءِ، وبث فيها الدواب يوم الخميس،
__________
[1] في الطبري: «أبجد» .
[2] راجع: تاريخ الطبري 1/ 41، ومرآة الزمان 1/ 52، والآثار الباقية 64، والأزمنة والأمكنة 1/ 268.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أضفناه من الطبري [1/ 42] .
[4] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 42.
[5] تاريخ الطبري 1/ 43، ونقلة هنا المصنف بتصرف.
[6] انظر: تاريخ الطبري 1/ 43، ومرآة الزمان 1/ 52، وكنز الدرر 26.

(1/123)


وَخَلَقَ آَدَمَ بَعْدَ الْعَصْرِ يَوْمَ الْجُمُعَةِ [فَكَانَ] [1] آَخِرَ الْخَلْقِ فِي آَخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ» [2] .
فصل
[والقول الثَّانِي] : يَوْم الأحد [3] .
قَالَ عَبْد اللَّهِ بْن سلام: إِن اللَّه تَعَالَى ابتدأ الخلق فخلق الأَرْض يَوْم الأحد ويوم الاثنين.
وَقَالَ كعب: بدأ اللَّه تَعَالَى خلق السموات وَالأَرْض يَوْم الأحد والاثنين [4] ، فَقَالَ مجاهد والضَّحَّاك: ابتدأ الخلق يَوْم الأحد [5] .
قَالَ أَبُو جَعْفَر الطبري: وَهَذَا أولى الأقوال [6] .
والقول الثالث: يَوْم الاثنين.
قَالَ ابْن إِسْحَاق [7] : وَهُوَ قَوْل أَهْل الإنجيل.
قَالَ المصنف: وَالأَوَّل هُوَ الصحيح لمكان الْحَدِيث الَّذِي رويناه، وكيف يقدم عَلَى حَدِيث رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْل غيره.
فصل
وَقَدِ اختلفوا فِي الأَرْض والسماء، أيتهما خلق أولا عَلَى قولين: [8] رَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَلَقَ الله عز وجل الأرض بأقواتها
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، والمختصر.
[2] الحديث أخرجه أحمد بن حنبل في المسند 2/ 327، والبيهقي في السنن الكبرى 9/ 3، والحاكم في المستدرك 2/ 450، 543، وابن الجوزي في زاد المسير 3/ 211، 6/ 94، 7/ 243، وابن كثير في التفسير 1/ 99، 3/ 422، والقرطبي في التفسير 6/ 384، والبخاري في التاريخ الكبير 1/ 413، والبيهقي في الأسماء والصفات 26، 383، وابن كثير في البداية والنهاية 1/ 15، 17.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[4] راجع تاريخ الطبري 1/ 43، ومرآة الزمان 1/ 53.
[5] تاريخ الطبري 1/ 44.
[6] تاريخ الطبري 1/ 44.
[7] تاريخ الطبري 1/ 45 بتصرف.
[8] تاريخ الطبري 1/ 44.

(1/124)


مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْحُوهَا قَبْلَ السَّمَاءِ، ثُمَّ دَحَا الأَرْضَ بَعْد ذَلِكَ [1] .
وَقَدْ رَوِّينَا عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «خلق الله النجوم والشمس والقمر والملائكة يوم الجمعة إلى ثلاث ساعات منه» . وروى عطاء عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: خَلَقَ اللَّهُ الشَّجَرَ يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ وَالطَّيْرَ وَالْوُحُوشَ وَالسِّبَاعَ يَوْمَ الْخَمِيسِ.
وَقَالَ الرَّبِيع بْن أَنَس: خلق اللَّه الْمَلائِكَة يَوْم الأربعاء، وخلق الجن يَوْم الخميس.
وَقَدِ اختلف هل خلق الليل قبل النهار عَلَى قولين، أصحهما أَن الليل أسبق لأن النهار من ضوء الشمس.
فصل
ولا يختلف الناقلون أَن كُل يَوْم من هذه الأيام الستة المذكورة بمقدار السنة، وَرَوَى عكرمة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: الستة الأيام الَّتِي خلق اللَّه فِيهَا السموات وَالأَرْض كُل يَوْم منها كألف سَنَة [2] . وَكَذَلِكَ قَالَ كعب والضحاك.
فعلى هَذَا يَكُون مبتدأ الخلق إِلَى حِينَ تكامله سبعة آلاف سَنَة تنقص شَيْئًا، هَذَا مقدار لبث آدَم فِي الْجَنَّة، فَإِن آدَم عَلَيْهِ السَّلام آخر المخلوقات، وَقَدْ لبث فِي الْجَنَّة بَعْض يَوْم.
قَالَ المصنف: ولا أرى من ذهب إِلَى أَن كُل يَوْم مقداره ألف سَنَة أخذه إلا من قَوْله تَعَالَى: وَإِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ 22: 47 [3] . وَهَذَا المراد بِهِ أَيَّام الآخرة، وليس يقوم ذَلِكَ دليلا عَلَى أَن الأيام المتقدمة مثل المتأخرة. والذي أراه [أَن] [4] الستة أَيَّام الَّتِي خلقت فيها الأشياء عَلَى مثال أيامنا بدليل النقل والمعنى.
__________
[1] الخبر في الطبري 1/ 48، وهو هنا مختصر، وفي الطبري: «عن ابن عباس» : قوله عز وجل حيث ذكر خلق الأرض قبل السماء قبل الأرض، وذلك أن الله خلق الأَرْضَ بِأَقْوَاتِهَا مِنْ غَيْرِ أَنْ يَدْحُوهَا قَبْلَ السماء، ثم استوى الى السماء فسواهن سبع سماوات، ثم دحا الأرض بعد ذلك، فذلك قوله تعالى: وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها 79: 30.
[2] تاريخ الطبري 1/ 59.
[3] سورة: الحج، الآية: 47.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.

(1/125)


أما النقل: فقد صح عَنْ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم أَنَّهُ قَالَ: «خلق التربة يَوْم السبت وبث فِيهَا الجبال يَوْم الأحد» [1] . ونحن نعرف مقدار الأحد والسبت.
فأما المعنى: فَإِن المراد الأخبار بسرعة الإيجاد، فَإِذَا كَانَ اليوم كألف سَنَة لَمْ يحصل المقصود. وكنت أرى أني خالفت بِهَذَا الرأي أَهْل التفسير حَتَّى رأيت الْحَسَن البصري قَدْ قَالَ: هذه الأيام مثل أَيَّام الدنيا.
وإذا قيل: لو كَانَ المراد سرعة الإيجاد لقال لكل كن فكان فِي الحال، فَمَا فائدة الأيام؟
فالجواب: إِن إيجاد الشيء عَلَى تمهل يمنع قَوْل من قَالَ كَانَ بالإنتاق، ثُمَّ قَدْ رأت الْمَلائِكَة كثيرا من المخلوقات، فعرفت قدرة الخالق بإيجاده من لَمْ يكن [2] .
فصل
وَأَمَّا مدة بقاء الدنيا، فروى سَعِيد بْن جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ الله عنهما أنه قال: الدنيا جمعة من جمع الآخرة سبعة آلاف سَنَة [3] .
وَقَالَ كعب، ووهب: الدنيا ستة آلاف [4] .
وَقَدْ رَوَى ابْنُ عُمَرَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «أَجَلُكُمْ فِي أَجَلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ مِنْ صَلاةِ الْعَصْرِ إِلَى مَغْرِبِ الشَّمْسِ» [5] ، وَفِي لَفْظٍ: «مَا بَقِيَ لأُمَّتِي مِنَ الدُّنْيَا إِلاَّ كَمِقْدَارِ الشَّمْسِ إِذَا صَلَّيْتَ الْعَصْرَ» [6] .
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن جعفر، أخبرنا عبد الله بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ
__________
[1] سبق تخريجه.
[2] كذا في الأصل، وفي المختصر: «بإيجاده شيئا لم يكن» .
[3] تاريخ الطبري 1/ 10، وبقية الخبر: «فقد مضى ستة آلاف سنة ومائتا سنة، وليأتين عليها مئون من سنين، ليس عليها موحد» .
[4] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 10.
[5] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 11، وأحمد بن حنبل في المسند 2/ 112.
[6] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 11، والترغيب والترهيب للأصبهاني 1808، وتاريخ بغداد 12/ 252، وفتح الباري 11/ 350.

(1/126)


مالك، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أَنَّهُ قَالَ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ» ، وَأَشَارَ بِالْوُسْطَى وَالسَّبَّابَةِ. أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ [1] .
وَرَوَى جَابِرُ بْنُ سَمُرَةَ، قَالَ: كَأَنِّي أَنْظُرُ إِلَى أَصْبُعَيِ رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَشَارَ بِالْمُسَبِّحَةِ وَالَّتِي تَلِيهَا، وَهُوَ يَقُولُ: «بُعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَةَ كَهَاتَيْنِ أَوْ كَهِذِهِ مِنْ هَذِهِ» [2] .
قَالَ أَبُو جَعْفَر الطبري: [3] وقدر مَا بَيْنَ صلاة العصر فِي أوسط أوقاتها بالإضافة إِلَى باقي النهار نصف سبع اليوم تقريبا، وَكَذَلِكَ فصل مَا بَيْنَ الوسطى والسبابة. فَإذَا كانت الدنيا سبعة آلاف سنة، فنصف يوم خمسمائة سَنَة.
والذي مال إِلَيْهِ الطبري ونصره: أَنَّهُ قَدْ بقي من الدنيا من حِينَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هَذَا خمسمائة سَنَة، فَقَدْ ظهر بطلان هَذَا القول بِمَا قَدْ غبر من السنين.
وَقَدْ رَوَى الطبري حَدِيثا فِي صحته نظر، أَن النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «أنا فِي آخرها ألفا» . قَالَ المصنف: وَهَذَا وإن لَمْ يثبت صحة الرواية فَهُوَ الظاهر، والله أعلم.
ويتقوى هَذَا بِمَا تقدم من أَن عُمَر الدنيا سبعة آلاف سَنَة، وَقَدْ ذهبت اليونانية من النصارى إِلَى أَنَّهُ من لدن خلق آدَم عليه السلام إلى وقت هجرة نبينا صلّى الله عليه وسلم ستة آلاف سنة/ ينقص ثمان سنين، وقد مضى قريب من ستمائة فيبقى أربعمائة، والعلم بقدر الإيمان [5] ظاهر.
قَالَ الطبري: [4] وَقَدْ زعمت الْيَهُود أَن جميع مَا ثبت عندهم عَلَى مَا فِي التوراة مِمَّا بَيْنَ فِيهَا من لدن خلق آدَم إِلَى وقت الهجرة أربعة آلاف وستمائة واثنان وأربعون سنة وأشهر. والله أعلم.
__________
[1] الحديث: في الطبري 1/ 13، وصحيح البخاري 7/ 68، 8/ 131، 132، وصحيح مسلم الفتن 132، 133، 134، 135، والجمعة 34، وسنن النسائي 3/ 189، وسنن الترمذي 2214، وسنن ابن ماجة 45، 4040، ومسند أحمد بن حنبل 3/ 124، 130، 131، 193، 222، 237، 275، 278، 283، 311، 319، 4/ 309، 5/ 92، 335، والسنن الكبرى 3/ 206، وزاد المسير 3/ 129، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 4/ 199، 5/ 433، 7/ 121.
[2] الحديث أخرجه الطبري 1/ 12.
[3] تاريخ الطبري 1/ 16.
[4] تاريخ الطبري 1/ 18، وراجع أيضا مرآة الزمان 1/ 44.

(1/127)