المنتظم في تاريخ الأمم والملوك
بَاب ذكر إِبْرَاهِيم الخليل عَلَيْهِ
السَّلام [1]
هُوَ: إِبْرَاهِيم بْن تارخ بْن ناحور بْن ساروغ بْن أرغو بْن فالغ بْن
عابر بْن شالخ بن قينان بن أرفخشد بْن سام بْن نوح.
قَالَ الزُّبَيْر بْن بكار: ويقولون إِبْرَاهِيم بْن آزر بْن الناحور
بْن الشارغ بْن الْقَاسِمِ، الَّذِي قسم الأَرْض بَيْنَ أهلها، ابْن
يعبر بْن السالح بْن سنحاريب.
واسم أمه نونا [2] بنت كرنبا بْن كوثا من بَنِي أرفخشد بْن سام.
وكرنبا هُوَ الَّذِي كرى نهر كوثا. وَكَانَ بَيْنَ الطوفان وإبراهيم
ألف سَنَة وتسع وتسعون سَنَة. وَقِيلَ: ألف ومائتا سَنَة وثلاث وستون،
وَذَلِكَ بَعْد خلق آدَم بثلاثة آلاف سَنَة وثلاثمائة وثلاثين سَنَة.
وَقَدْ رَوَى أَبُو أُمَامَةُ أَنَّ رجلا سأل رسول الله صلى اللَّه
عليه وَسَلَّمَ، فَقَالَ: كَمْ بَيْنَ نُوحٍ وِإْبَرَاهِيمَ؟
فَقَالَ: عَشْرَةُ قُرُونٍ. أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الْبَاقِي،
أَخْبَرَنَا الْجَوْهَرِيُّ، أخبرنا ابن حيويه، أخبرنا أحمد بن معروف،
أخبرنا الحارث بن أبي أسامة، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ،
حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عبد الله الأسدي، حدثنا سُفْيَان بْن سَعْد،
عَنْ أَبِيهِ، عَنْ عكرمة، قال: كان إبراهيم الخليل يكنى أبا الأضياف
[3] .
__________
[1] تاريخ الطبري 1/ 232، وتفسير الطبري 11/ 465، وطبقات ابن سعد 1/
46، ومروج الذهب 1/ 44، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 2/ 136، وعرائس المجالس
72، والبداية والنهاية 1/ 139، ونهاية الأرب 13/ 96، والكسائي 121،
والمعارف 30، وزاد المسير 3/ 70، والكامل في التاريخ 1/ 72.
[2] في ابن سعد: «نونا» ، وفي رواية: «أبيونا» . وفي المرآة «نوتا» .
في البداية: «بونا» وقيل: «أميلة» .
[3] طبقات ابن سعد 1/ 47.
(1/258)
واختلفوا فِي المكان الَّذِي ولد فِيهِ،
فَقَالَ بَعْضهم: ولد فِي بابل من أرض السواد، وَقَالَ بَعْضهم:
بالسواد بناحية كوثى، وَقَالَ بَعْضهم: ولد [بالسوس] [1] من أرض
الأهواز. وقيل: كَانَ بناحية كسكر ثُمَّ نقله أبوه إِلَى ناحية كوثى،
وَهِيَ المكان الَّذِي كَانَ بِهِ نمرود. وقيل: كَانَ مولده بحرّان،
ولكن أباه نقله إِلَى أرض بابل [2] .
وعامة العلماء على أَن الخليل ولد فِي عهد نمرود بْن كنعان بْن سنحاريب
بْن نمرود بْن كوش بْن حام. وَكَانَ نمرود هَذَا قَدْ ملك الشرق
والغرب. وَبَعْض المؤرخين يَقُول: نمرود هَذَا هُوَ الضَّحَّاك، وَهُوَ
الَّذِي أراد إحراق الخليل، وَقَدْ سبق ذكره.
قَالَ السدي عَنْ أشياخه: أول ملك ملك الأَرْض شرقها وغربها نمرود بن
كنعان.
وكانت الملوك الذين ملكوا الأَرْض كلها [أربعة:] نمرود، وسليمان بْن
داود، وذو القرنين، ونصر [3] .
قَالَ الْعُلَمَاء بالسير [4] : لَمْ يكن بَيْنَ نوح وإبراهيم نبي إلا
هود وصالح، فلما أراد الله تعالى إظهار إِبْرَاهِيم قَالَ المنجمون
لنمرود: إنا نجد فِي علمنا أَن غلاما يولد فِي قريتك هذه يقال لَهُ
إِبْرَاهِيم يفارق دينكم ويكسر أوثانكم فِي شَهْر كَذَا وكذا من سَنَة
كَذَا وكذا، فَلَمَّا دخلت السنة المذكورة بعث نمرود إِلَى كُل امرأة
حاملة بقريته فحبسها عنده وَلَمْ يعلم بحمل أم إِبْرَاهِيم، فجعل لا
يولد غلام فِي ذَلِكَ الشهر إلا ذبحه.
فلما وجدت أم إِبْرَاهِيم الطلق خرجت ليلا إِلَى مغارة ثُمَّ ولدت
إِبْرَاهِيم فِيهَا وأصلحت من شأنه ثُمَّ سدت عَلَيْهِ المغارة ثُمَّ
رجعت إِلَى بيتها وكانت تطالعه فِي المغارة لتنظر مَا فعل، فتجده يمص
إبهامه- قَدْ جعل اللَّه رزقه فِي ذَلِكَ، وَكَانَ آزر قد سألها عن
حملها، فقالت: ولدت غلاما فمات فسكت عَنْهَا. فكان إِبْرَاهِيم يشب فِي
شَهْر شباب سَنَة.
فلما تكلم قَالَ لأمه: أخرجيني أنظر، فنظر وَقَالَ: إِن الَّذِي رزقني
وأطعمني ما لي
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من الهامش.
[2] تاريخ الطبري 1/ 233، ومرآة الزمان 1/ 269.
[3] تاريخ الطبري 1/ 234. وما بين المعقوفتين من الطبري.
[4] تاريخ الطبري 1/ 234، ومرآة الزمان 1/ 269.
(1/259)
رب غيره، ثُمَّ رأى كوكبا ثُمَّ رأى الشمس
فَقَالَ مَا قصه اللَّه تَعَالَى عَلَيْنَا.
ثُمَّ ذهبت بِهِ أمه إِلَى أَبِيهِ فأخبرته مَا صنعت بِهِ فسر بسلامته.
وَكَانَ آزر يصنع الأصنام وَيَقُول لإبراهيم: بعها، فَيَقُول
إِبْرَاهِيم: من يشتري مَا يضره ولا ينفعه؟ فشاع بَيْنَ النَّاس
استهزاؤه بالأصنام، ثُمَّ أراد أَن يادي إِبْرَاهِيم قومه بالمخالفة،
فخرجوا إِلَى عيد لَهُمْ فقال: إِنِّي سَقِيمٌ 37: 89 [1] فلما ذهبوا،
قال: لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ 21: 57 [2] . فسمعها بَعْضهم، ثُمَّ
دَخَلَ إِبْرَاهِيم إِلَى بَيْت الآلهة وَقَدْ جعلوا بَيْنَ يديها
طعاما، فَقَالَ: ألا تأكلون؟ فلما لَمْ يجبه أحد، قَالَ: مَا لكم لا
تنطقون! فراغ عَلَيْهِم ضربا باليمين، ثُمَّ علق الفأس في عنق الصنم
الأكبر ثُمَّ خرج. فلما رجع الْقَوْم قالوا:
من فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا 21: 59 ثم ذكروا فقالوا: سَمِعْنا فَتًى
يَذْكُرُهُمْ 21: 60 [3] أي: يسبهم، فجاءوا بِهِ إِلَى ملكهم نمرود،
فقال: أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا 21: 62 ... يَا إِبْراهِيمُ. قَالَ بَلْ
فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا 21: 62- 63 [4] غضب أَن تعبد مَعَهُ هذه
الصغار وَهُوَ أكبر منها، فكسرهن، فَقَالُوا: مَا نراه إلا كَمَا
قَالَ، فَقَالَ لَهُ نمرود: فَمَا إلهك الَّذِي تعبد؟ قَالَ: ربي
الَّذِي يَحْيَى ويميت، قَالَ نمرود: أنا أحيي وأميت، آخذ رجلين قد
استوجبا القتل في حكمي فأقتل أحدهما فأكون قد أمته، وأعفو عَنِ الآخر
فأكون قَدْ أحييته، فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم/: فَإِنَّ اللَّهَ
يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ 2:
258 [5] فبهت عِنْدَ ذَلِكَ نمرود وحبسه سبع سنين [6] .
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي الْقَاسِمِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ
بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الأَصْبَهَانِيُّ،
حَدَّثَنَا أبو أَحْمَدُ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ سِيبَوَيْهِ، حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ رَاهَوَيْهِ،
حَدَّثَنَا بَهْزٌ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ التَّيْمِيُّ، عَنْ أَبِي
عُثْمَانَ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: جُوِّعَ لإِبْرَاهِيمَ عَلَيْهِ
السَّلامُ أَسَدَانِ ثُمَّ أُرْسِلا عَلَيْهِ، فَجَعَلا يَلَحَسَانِهِ
وَيَسْجُدَانِ لَهُ.
قَالَ عُلَمَاَءُ السَّيْرِ: ثُمَّ أَجْمَعَ نَمْرُودُ وقومه على
تحريقه، فقالوا: أحرقوه.
__________
[1] سورة: الصافات، الآية: 90.
[2] سورة: الأنبياء، الآية: 57.
[3] سورة: الأنبياء، الآية: 59، 60.
[4] سورة: الأنبياء، الآية: 60
[5] سورة: البقرة، الآية: 258.
[6] راجع الخبر في تاريخ الطبري 234- 240.
(1/260)
ذكر قصة إلقائه فِي النار [1]
قَالَ شُعَيْب بْن الجبائي: إِن الَّذِي قَالَ حرقوه خسف بِهِ الأَرْض
فَهُوَ يتجلجل فِيهَا إِلَى يَوْم الْقِيَامَة. وألقي إِبْرَاهِيم فِي
النار وَهُوَ ابْن ست عشرة سَنَة [2] .
قَالَ علماء السير: أمر نمرود بجمع الحطب فجمعوا، حَتَّى إِن كانت
المرأة [لتنذر] [3] فِي بَعْض مَا تطلب مِمَّا تحب إِن قَالَتْ كَذَا،
لتحتطبن عَلَى نار إِبْرَاهِيم احتسابا فِي دينها، فلما أوقدوا النار
أجمعوا عَلَى قذفه فِيهَا، قَالَتِ الخلائق: أي ربنا! إِبْرَاهِيم
لَيْسَ فِي أرضك أحد يعبدك غيره يحرق بالنار فيك! فأذن لنا فِي نصرته.
قَالَ: فَإِن استغاث بشيء منكم فأغيثوه، وإن لَمْ يدع غيري فأنا وليه،
فلما ألقي فِي النار قَالَ: يَا نارُ كُونِي بَرْداً وَسَلاماً عَلى
إِبْراهِيمَ 21: 69 [4] .
وجاء جبرئيل وإبراهيم موثق، قَالَ: ألك حاجة؟ قَالَ: أما إليك فلا [5]
.
قَالَ كعب: مَا أحرقت النار إلا وثاقه [6] .
قَالَ عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو: أول كلمة قالها إِبْرَاهِيم حِينَ طرح
فِي النار: حسبي اللَّه ونعم الوكيل.
قَالَ السدي عَنْ أشياخه [7] : رفع إِبْرَاهِيم رأسه إِلَى السماء،
وَقَالَ: اللَّهمّ أَنْتَ الْوَاحِد فِي السماء، وأنا الْوَاحِد فِي
الأَرْض، لَيْسَ [فِي الأَرْض أحد] [8] يعبدك غيري، حسبي اللَّه ونعم
الوكيل، فقذفوه [فِي النار] [9] ، فَقَالَ: يَا نارُ كُونِي بَرْداً
وَسَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ 21: 69 [10] .
__________
[1] راجع تاريخ ابن عساكر (تهذيب) 2/ 144 وما بعدها، مرآة الزمان 1/
275.
[2] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 241، ومرآة الزمان 1/ 275.
[3] ما بين المعقوفتين: من تاريخ الطبري 1/ 241، 242.
[4] سورة: الأنبياء، الآية: 69.
[5] تاريخ الطبري 1/ 243.
[6] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 243 عن قتادة، عن أبي سليمان.
[7] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 241، 242.
[8] ما بين المعقوفتين: من الهامش والطبري.
[9] ما بين المعقوفتين: من الطبري.
[10] سورة: الأنبياء، الآية: 69.
(1/261)
قَالَ ابْن عَبَّاس: لو لَمْ يتبع بردها
سلاما لمات إِبْرَاهِيم من بردها وَلَمْ تبق نار يَوْمَئِذٍ فِي
الأَرْض إلا طفئت، ظنت أَنَّهَا هِيَ الَّتِي تعنى.
فلما طفئت النار نظروا إِلَى إِبْرَاهِيم فَإِذَا هُوَ ورجل آخر
مَعَهُ، فَإِذَا رأس إِبْرَاهِيم فِي حجره يمسح عَنْ وجهه العرق وذكروا
أَن ذَلِكَ الرجل هُوَ ملك الظل، فأخرجوا إِبْرَاهِيم وأدخلوه عَلَى
الْمَلِك [1] .
وَقَالَ ابْن إِسْحَاق [2] : بعث اللَّه ملك الظل فقعد مَعَ
إِبْرَاهِيم يؤنسه، فمكث نمرود أياما لا يشك أَن النار قَدْ أكلت
إِبْرَاهِيم [ثُمَّ ركب فنظر فَإِذَا إِبْرَاهِيم] [3] وإلى جنبه رجل
جالس، فناداه نمرود: يا إِبْرَاهِيم، كبير إلهك الَّذِي بلغت قدرته أَن
حال بَيْنَ مَا أرى وبينك، هل تستطيع أَن تخرج منها؟
فقام إِبْرَاهِيم يمشي حَتَّى خرج، فَقَالَ لَهُ: يا إِبْرَاهِيم، من
الرجل الَّذِي رأيت معك؟ قال: ملك الظل، أرسله ربي ليؤنسني. فَقَالَ:
إني مقرب إِلَى إلهك قربانا لما رأيت من قدرته، فَقَالَ: إنه لا يقبل
منك مَا كنت عَلَى دينك، فَقَالَ: لا أستطيع ترك ملكي، ولكن سوف أذبحها
لَهُ، فذبح أربعة آلاف بقرة [4] ، وكف عَنْ إِبْرَاهِيم.
واستجاب لإبراهيم رجال من قومه لما رأوا من تلك الآية عَلَى خوف من
نمرود، فأمن لَهُ لوط- وَكَانَ ابْن أخيه- وَهُوَ لوط بْن هاران بْن
تارخ، وهاران أَخُو إِبْرَاهِيم، وَهُوَ الَّذِي بنى مدينة حران وإليه
تنسب. وآمنت بِهِ سارة وَهِيَ ابنة عمه فتزوجها [5] .
قَالَ السدي عَنْ أشياخه [6] : لما انطلق إِبْرَاهِيم ولوط إِلَى الشام
لقي إِبْرَاهِيم سارة وَهِيَ بنت ملك حران وَقَدْ طعنت عَلَى قومها فِي
دينهم، فتزوجها عَلَى أن لا يغيرها.
__________
[1] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 241، 242، وتفسيره 17/ 33.
[2] تاريخ الطبري 1/ 242.
[3] ما بين المعقوفتين: من الهامش.
[4] في الهامش: «ألف بقرة» . وهو خطأ، فالمثبت موافق لرواية ابن إسحاق
في الطبري 1/ 243.
[5] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 243، 244. وراجع مرآة الزمان 1/ 277.
[6] تاريخ الطبري 1/ 244.
(1/262)
ومن الأحداث فِي زمن الخليل عَلَيْهِ
السَّلام [1]
أَنَّهُ دعا أباه آزر إِلَى الإيمان، فَقَالَ: يا أبت لَمْ تعبد مَا لا
يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شَيْئًا، فأبى أبوه أَن يطيعه، فأعرض
عَنْهُ إِبْرَاهِيم، وَقَدْ كَانَ إِبْرَاهِيم يجاهده.
وَقَالَ أَبُو الْحَسَن بْن البراء: كان لإبراهيم ثلاثمائة يقاتلون
بالعصي. وَلَمْ يحارب من الأنبياء إلا هُوَ، وموسى، وَدَاوُد، ومحمد
عَلَيْهِم السَّلام [2] .
ومن الأحداث هجرة الخليل عَلَيْهِ السَّلام [3]
وَذَلِكَ أَن إِبْرَاهِيم ومن مَعَهُ من أَصْحَابه الْمُؤْمِنيِنَ
أجمعوا عَلَى فراق قومهم، فخرج إِبْرَاهِيم مهاجرا إِلَى ربه عَزَّ
وَجَلَّ، وخرج مَعَهُ لوط مهاجرا، وسارة زوجته. وَقَدْ ذَكَرْنَا
أَنَّهُ تزوجها فِي طريق هجرته بحران، وخرج بها من حران حَتَّى قدم مصر
وبها فرعون من الفراعنة الأَوَّل. وكانت سارة أَحْسَن النَّاس، فلما
وصف لفرعون حسنها بعث يطلبها [4] .
أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بن الحصين، أخبرنا الحسن بن عَلِيٍّ
التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ
بْنُ حَفْصٍ، عَنْ وَرْقَاءَ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ،
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «دَخَلَ إِبْرَاهِيم قَرْيَةً فِيهَا مَلِكٌ مِنَ
الْمُلُوكِ- أَوْ جبار مِنَ الْجَبَابِرَةِ، فَقِيلَ: دَخَلَ
إِبْرَاهِيمُ اللَّيْلَةُ بِامْرَأَةٍ مِنْ أَحْسَنَ النَّاسِ. قَالَ:
فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ: مَنْ هَذِهِ مَعَكَ؟ قَالَ: أُخْتِي، قَالَ:
أَرْسِلْ بِهَا، قَالَ: فَأَرْسَلَ بِهَا إِلَيْهِ، وَقَالَ: لا
تُكَذِّبِي قَوْلِي، فَإِنِّي قَدْ أَخْبَرْتُ أَنَّكِ أُخْتِي، أَنْ
لَيْسَ عَلَى الأَرْضِ مُؤْمِنٌ غَيْرِي وَغَيْرَكِ، قَالَ: فلما دخلت
إليه قام إليها. قال: فَأَقَبْلَتْ تُصَلِّي وَتَقُولُ: اللَّهمّ إِنْ
كُنْتَ تَعْلَمُ أني آمنت بك وبرسولك، وأحصنت فرجي إلا عَلَى زَوْجِي
فَلا تُسَلِّطُ عَلِيَّ الْكَافِرَ. قَالَ: فغطّ حتى ركض برجله [5] .
__________
[1] تاريخ الطبري 1/ 244، ومرآة الزمان 1/ 278.
[2] الخبر أورده صاحب المرآة 1/ 279، وذكر أنهم خمس أنبياء، وزاد عما
هو مذكور هنا سليمان بن داود.
[3] تاريخ الطبري 1/ 244، ومرآة الزمان 1/ 279.
[4] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 244.
[5] الحديث أخرجه أحمد بن حنبل 2/ 403، 404، والطبري في تاريخه 1/ 244،
245.
(1/263)
قَالَ أَبُو الزناد: قَالَ أَبُو سلمة،
عَنْ أبي هريرة: أنها قَالَتْ: اللَّهمّ إِن يمت قيل هِيَ قتلته. قال:
فأرسل ثُمَّ قام إِلَيْهَا فقامت تصلي وتقول: اللَّهمّ إن كنت تعلم أني
آمنت بك وبرسولك وأحصنت فرجي إلا على زوجي فلا تسلط عَلِي هَذَا
الكافر. قَالَ: فغط حَتَّى ركض برجله.
قال أبو الزناد: قال أبو سلمة، عَنْ أَبِي هُرَيْرَة: قَالَتْ:
اللَّهمّ إِن يمت قيل هِيَ قتلته، فأرسل. قَالَ: فَقَالَ فِي الثالثة
أَوِ الرابعة: مَا أرسلتم إلا شيطانا، أرجعوها إِلَى إِبْرَاهِيم
وأعطوها هاجر. قَالَ: فرجعت إِلَى إِبْرَاهِيم فَقَالَتْ لإبراهيم:
أشعرت أَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ رد كيد الكافر وأحذم وليدة.
قَالَ ابْن إِسْحَاق: وكانت هاجر جارية ذَات هيئة فوهبتها سارة
لإبراهيم، وَقَالَتْ:
إني أراها [امرأة] [1] وضيئة فخذها لعل اللَّه أَن يرزقك منها ولدا،
وكانت سارة قَدْ منعت الولد، فوقع عَلَيْهَا فولدت لَهُ إِسْمَاعِيل.
وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إِذَا
فتحتم مصر فاستوصوا بأهلها فَإِن لَهُمْ ذمة ورحما» . قَالَ الزهري:
الرحم أَن أم إِسْمَاعِيل كانت مِنْهُم.
ثُمَّ إِن إِبْرَاهِيم خرج من مصر إِلَى الشام فنزل السبع من أرض
فلسطين، ونزل لوط بالمؤتفكة، وهي من السبع عَلَى مسيرة يَوْم وليلة
أَوْ أقرب. فبعثه اللَّه نبيا. وأقام إِبْرَاهِيم بِذَلِكَ المقام
فاحتفر بِهِ بئرا فكانت غنمه تردها، واتخذ بِهِ مسجدا، ثُمَّ إِن أهلها
آذوه فخرج حَتَّى نزل بناحية فلسطين فنضب ماء تلك البئر الَّتِي
احتفرها، فندم أَهْل ذَلِكَ المكان عَلَى مَا صنعوا وَقَالُوا: أخرجنا
من بَيْنَ أظهرنا رجلا صالحا ولحقوه فسألوه أَن يرجع، قَالَ: مَا أنا
براجع إِلَى بلد أخرجت منه، قَالُوا: فَإِن الماء الَّذِي كنت تشرب منه
ونحن معك قَدْ نضب، فأعطاهم سبع أعنز من غنمه، وَقَالَ: أوردوها الماء
تظهر ولا تغرفن منها حائض. [فخرجوا بالأعنز فلما وقفت عَلَى البئر] [2]
ظهر إِلَيْهَا الماء.
وَكَانَ اللَّه تَعَالَى قَدْ أوسع عَلَى إِبْرَاهِيم وبسط لَهُ فِي
الرزق والخدم، وَكَانَ يضيف
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من تاريخ الطبري 1/ 247.
[2] ما بين المعقوفتين: من تاريخ الطبري 1/ 248.
(1/264)
كُل من نزل بِهِ، وَهُوَ أول من أضاف الضيف
وأول من ثرد الثريد وأول من رأى الشيب.
وَرَوَى عيسى بْن يُونُس، عَنْ....، عَنْ سَعْد بْن إِبْرَاهِيمَ، عَنْ
أَبِيهِ، قَالَ: أول من خطب عَلَى المنابر إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ
السَّلام. [1]
ومن الحوادث
أَن سارة لما وهبت هاجر لإبراهيم ليتسرى بها ولدت إِسْمَاعِيل وَهُوَ
أكبر ولد إِبْرَاهِيم فغارت سارة فأخرجتها وحلفت لتقطعن منها بضعة
فخفضتها [2] ، ثُمَّ قَالَتْ: لا تساكنّي فِي بلد. فأوحى اللَّه
تَعَالَى إِلَى إِبْرَاهِيم أَن يَأْتِي مَكَّة، فَذَهَبَ بها وبابنها
إِلَى مَكَّة [3] .
وزعم السدي عَنْ أشياخه: أَن سارة حملت بَعْد هاجر وأنهما ولدتا وكبر
الولدان فاقتتلا. وَلَيْسَ هَذَا بصحيح، لأن إِسْمَاعِيل إِنَّمَا خرج
وَهُوَ مرضع [4] .
ومن الحوادث خروج إِبْرَاهِيم إِلَى مَكَّة بإسماعيل وهاجر [5]
وَرَوَى ابْن إِسْحَاق عَنْ أشياخه: أَن إِبْرَاهِيم [خرج] [6] ومعه
جبرئيل، فكان لا يمر بقرية إلا قال: بهذه أمرت يا جبرئيل؟ فَيَقُول
جبرئيل: امضه، حَتَّى قدم بِهِ مَكَّة وَهِيَ ذَات عضاء وسلم وسمر،
وبها أناس يقال لَهُمْ العماليق خارج مَكَّة وحولها، والبيت يومئذ ربوة
حمراء، فقال لجبرئيل: أهاهنا [أمرت] [7] أَن أضعهما؟ قَالَ: نعم، فعمد
بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه، وأمر هاجر أَن تتخذ فِيهِ عريشا،
ثُمَّ انصرف إلى الشام فتركهما [8] .
__________
[1] الخبر أورده السيوطي في الأوائل 35.
[2] الخفض للجارية مثل الختان للصبي.
[3] تاريخ الطبري 1/ 253، ومرآة الزمان 1/ 281.
[4] تاريخ الطبري 1/ 253، 254.
[5] تاريخ الطبري 1/ 254، ومرآة الزمان 1/ 281.
[6] ما بين المعقوفتين: من الهامش
[7] ما بين المعقوفتين: من تاريخ الطبري
[8] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 254.
(1/265)
أخبرنا عبد الأول، أخبرنا ابن طلحة
الدراوردي، أخبرنا ابن أعين السرخسي، حدثنا أبو عبد الله الفربري،
حدثنا البخاري، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا عبد الرزاق، أخبرنا
معمر، عن أَيُّوبَ السِّخْتِيَانِيُّ، وَكَثِيرُ بْنُ كَثِيرِ بْنِ
الْمُطَّلِبِ. ابن أبي وداعة- يزيد أحدهما على الآخر- عن سَعِيدُ بْنُ
جُبَيْرٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ:
أَوَّلُ مَا اتَّخَذَ النِّسَاءُ الْمَنْطِقَ مِنْ قِبَلِ أُمِّ
إِسْمَاعِيلَ، اتَّخَذَتْ مَنْطِقًا لِتُعْفِيَ أَثَرَهَا عَلَى
سَارَةَ، ثُمَّ جَاءَ بِهَا إِبْرَاهِيمُ وَبِابْنِهَا إِسْمَاعِيلَ
وَهِيَ تُرْضِعُهُ حَتَّى وَضَعَهَا عِنْدَ الْبَيْتِ عِنْدَ دَوْحَةٍ
فَوْقَ زَمْزَمَ فِي أَعْلَى الْمَسْجِدِ، وَلَيْسَ بِمَكَّةَ
يَوْمَئِذٍ أَحَدٌ وَلَيْسَ بِهَا مَاءٌ، فَوَضَعَهُمَا هُنَالِكَ
وَوَضَعَ عِنْدَهُمَا جِرَابًا فِيهِ تَمْرٌ وَسِقَاءً فِيهِ مَاءٌ،
ثُمَّ قَفَّى إِبْرَاهِيمُ مُنْطَلِقًا فَتَبِعَتْهُ أُمُّ
إِسْمَاعِيلَ، فَقَالَتْ: يَا إِبْرَاهِيمُ أَيْنَ تَذْهَبُ
وَتَتْرُكُنَا بِهَذَا الْوَادِي الَّذِي لَيْسَ فِيهِ أَنِيسٌ ولا
شيء، فقالت له ذلك مرارا وَجَعَلَ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْهَا، فَقَالَتْ:
اللَّهُ أَمَرَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَتْ: إِذًا لا
يُضَيِّعُنَا.
ثُمَّ رَجَعَتْ فَانْطَلَقَ إِبْرَاهِيمُ حَتَّى إِذَا كَانَ عِنْدَ
الثَّنْيَةِ حَتَّى لا يَرَوْهُ، اسْتَقْبَلَ بِوَجْهِهِ الْبَيْتَ،
دَعَا بِهَؤُلاءِ الدَّعَوَاتِ، وَرَفَعَ يَدَيْهِ، فَقَالَ:
رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ
14: 37 حتى بلغ يَشْكُرُونَ 14: 37 [1] .
وَجَعَلَتْ أُمُّ إِسْمَاعِيلَ [تُرْضِعُ ابْنَهَا] [2] وَتَشْرَبُ
مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ حَتَّى إِذَا نَفِدَ مَا فِي ماء السقاء عطشت
وَعَطِشَ ابْنُهَا، وَجَعَلَتْ تَنْظُرُ إِلَيْهِ يَتَلَوَّى- أَوْ
قَالَ: يَتَلَبَّطُ- فَانْطَلَقَتْ كَرَاهِيَةَ أَنْ تَنْظُرَ
إِلَيْهِ، فَوَجَدَتِ الصَّفَا أَقْرَبَ جَبَلٍ فِي الأَرْضِ يَلِيهَا،
فَقَامَتْ عَلَيْهِ ثُمَّ اسْتَقْبَلَتِ الْوَادِيَ تَنْظُرُ هَلْ
تَرَى أَحَدًا، فَلَمْ تَرْ أَحَدًا، فَهَبَطَتْ مِنَ الصَّفَا حَتَّى
إِذَا بَلَغَتِ الْوَادِيَ رَفَعَتْ طَرْفَ درعها ثم سعت سعي الإنسان
الْمَجْهُودِ حَتَّى جَاوَزَتِ الْوَادِيَ، ثُمَّ أَتَتِ الْمَرْوَةَ
وَقَامَتْ عَلَيْهَا وَنَظَرَتْ هَلْ تَرَى أَحَدًا [فَلَمْ تر أحدا]
[3] ، ففعلت ذلك سبع مرات.
__________
[1] سورة: إبراهيم، الآية: 37.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[3] ما بين المعقوفتين: من صحيح البخاري.
(1/266)
قال ابن عباس: قال النبي صلى الله عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «فَلِذَلِكَ سَعَى النَّاسُ بَيْنَهُمَا» . فلما أشرفت
عَلَى المروة سمعت صوتا، فَقَالَتْ: صه- تريد نفسها- ثُمَّ تسمعت فسمعت
أَيْضًا، فَقَالَتْ: قد أسمعت إِن كَانَ عندك غواث، فَإِذَا هِيَ
بالملك عِنْدَ موضع زمزم فبحث بعقبه- أَوْ قال: بجناحه- حتى ظهر الماء،
فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا، وجعلت، تغرف من الماء فِي سقائهما
وَهُوَ يفور بعد ما تغرف.
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: «يَرْحَمُ اللَّهُ أُمَّ إِسْمَاعِيلَ لَوْ لَمْ تَغْرِفْ
مِنَ الْمَاءِ لَكَانَتْ زَمْزَمُ عَيْنًا مَعِينًا» . قَالَ: فشربت
وأرضعت ولدها، فَقَالَ لها الملك: لا تخافوا الضيعة فإن هاهنا بيتا
للَّه يبنيه هَذَا الغلام وأبوه، وإن اللَّه لا يضيع أهله، وَكَانَ
الْبَيْت مرتفعا من الأَرْض كالرابية، وتأتيه السيول فيأخذ عَنْ يمينه
وعن شماله، فكانت كَذَلِكَ حَتَّى مرت بهم رفقة من جرهم مقبلين من طريق
كداء، فنزلوا فِي أسفل مَكَّة، فرأوا طائرا عائفا، فقالوا ان هذا
الطائر ليدور عَلَى ماء لعهدنا بِهَذَا الوادي وَمَا فِيهِ ماء.
فأرسلوا جريا أَوْ جريين فَإِذَا هُمْ بالماء، فَقَالَ: أتأذنين لنا
أَن ننزل عندك؟ فَقَالَتْ:
نعم، ولكن لا حق لكم فِي الماء. قَالُوا: نعم.
قَالَ ابْن عَبَّاس: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: فألفى ذَلِكَ أم إِسْمَاعِيل وَهِيَ تحب الإنس، فنزلوا
وأرسلوا إِلَى أهاليهم [فجاءوا] [1] فنزلوا معهم حَتَّى إِذَا كَانَ
بها أَهْل أبيات مِنْهُم، وشب الغلام وتعلم العربية مِنْهُم وأنسهم
وأعجبهم حِينَ شب، فلما أدرك زوجوه امرأة مِنْهُم. وماتت أم إسماعيل
فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إِسْمَاعِيل يطالع تركته فلم يجد
إِسْمَاعِيل، فسأل امرأته عَنْهُ، فَقَالَتْ: خرج يبتغي لنا، ثُمَّ
سألها عَنْ عيشهم وهيئتهم، فَقَالَتْ: نحن بشر، [نحن] [2] فِي ضيق
وشدة، فشكت إِلَيْهِ. فَقَالَ: إِذَا جاء زوجك فاقرئي عَلَيْهِ
السَّلام وقولي لَهُ يغير عتبة بابه. فلما جاء إسماعيل كأنه آنس شيئا،
فقال:
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[2] ما بين المعقوفتين: من المرآة 1/ 283.
(1/267)
هَلْ جاءكم من أحد؟ قَالَتْ: نعم جاءنا شيخ
[من صفته] [1] كَذَا وكذا فسألني عنك فأخبرته، فسألني كَيْفَ عيشنا
فأخبرته أنا فِي جهد وشدة، قَالَ: فهل أوصاك بشيء؟
قَالَتْ: نعم أمرني أَن أقرأ عليك السَّلام وَيَقُول لَكَ: غَيْر عتبة
بابك. قَالَ: ذَلِكَ أَبِي وقد أمرني أن أفارقك، فالحقي بأهلك، فطلقها،
وتزوج مِنْهُم أُخْرَى. فلبث عَنْهُ إِبْرَاهِيم مَا شاء اللَّه، ثُمَّ
أتاهم فلم يجده، فدخل على امرأته فسألها عَنْهُ، فَقَالَتْ خرج يبتغي
لنا، قَالَ: كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم؟ فقالت: نحن بخير وسعة
وأثنت عَلَى اللَّه، فَقَالَ: مَا طعامكم؟ قَالَتْ: اللحم، قَالَ:
فَمَا شرابكم؟ قَالَتْ: الماء، قَالَ: اللَّهمّ بارك لَهُمْ فِي اللحم
والماء.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَلَمْ يكن
لَهُمْ يَوْمَئِذٍ الحب، ولو كَانَ لدعا لَهُمْ فِيهِ بالبركة» .
قَالَ: فهما لا يخلوا عليهما أحد بغير ملة إلا يوافقاه. قَالَ: فَإِذَا
جاء زوجك فاقرئي عَلَيْهِ السَّلام ومريه أَن يثبت عتبة بابه. فلما جاء
إِسْمَاعِيل، قَالَ: هل أتاكم من أحد؟
قالت: نعم، أتانا شيخ حسن الهيئة، وأثنت عَلَيْهِ فسألني كَيْفَ عيشنا
فأخبرته أنا بخير، قَالَ: أفأوصاك بشيء؟ قَالَتْ: نعم، هُوَ يقرأ عليك
السَّلام، ويأمرك أَن تثبت عتبة بابك، فَقَالَ: ذاك أبي، وأنت العتبة،
أمرني أَن أمسكك.
ثُمَّ جاء بَعْد ذَلِكَ وإسماعيل يبري نبلا تَحْتَ دوحة قريبا من زمزم،
فلما رآه قام إِلَيْهِ وصنعا كَمَا يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد،
ثُمَّ قَالَ: يا إِسْمَاعِيل إِن اللَّه قَدْ أمرني بأمر، قَالَ: فاصنع
مَا أمرك [ربك] [2] ، قَالَ: أوتعينني؟ قَالَ: وأعينك، قَالَ: فَإِن
اللَّه أمرني أن أبني ها هنا بيتا، وأشار إِلَى أكمة مرتفعة عَلَى مَا
حولها. قَالَ: فعند ذَلِكَ رفعا القواعد من الْبَيْت، فجعل إِسْمَاعِيل
يَأْتِي بالحجارة وإبراهيم يبني حَتَّى إِذَا ارتفع البناء جاء بِهَذَا
الحجر فوضعه، وقام عَلَيْهِ يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان:
رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ 2: 127
[3] .
انفرد بإخراجه البخاري [4] .
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[2] ما بين المعقوفتين: من الهامش.
[3] سورة: البقرة، الآية: 127.
[4] صحيح البخاري 4/ 172، 176.
(1/268)
وَقَدْ رَوَى عَطَاء بْن السائب، عَنْ
سَعِيد بْن جُبَيْر، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي هَذَا الْحَدِيث: أَن
زوجة إِسْمَاعِيل الثَّانِيَة قَالَتْ لإبراهيم لما قدم: انزل رحمك
اللَّه حَتَّى أغسل رأسك [فقد شعث] [1] ، فلم ينزل بِهِ فجاءته بالمقام
فوضعته عَنْ شقه الأيمن فوضع قدمه عَلَيْهِ [فبقي أثر قدمه عَلَيْهِ]
[2] فغسلت شق رأسه الأيمن، ثُمَّ حولت المقام إِلَى شقه الأيسر [فغسلت
شقه الأيسر] [3] . فَقَالَ لها: إذا جاء زوجك فاقرئيه السَّلام وقولي
لَهُ: قَدِ استقامت عتبة بابك.
ومن الحوادث أمر اللَّه عَزَّ وَجَلَّ الخليل ببناء الْبَيْت [4]
قَدْ ذَكَرْنَا أَن إِبْرَاهِيم عَلَيْهِ السَّلام قدم مَكَّة بهاجر
وإسماعيل، فوضعهما هنالك، ثم قدم لزيارة ابنه/ ثَلاث مرات، فلقيه فِي
الثالثة، وَقَالَ لَهُ: إِن اللَّه قَدْ أمرني أَن أبني بيتا هاهنا.
وَقَدْ رَوَى خَالِد بْن عرعرة، عَنْ عَلِي عَلَيْهِ السَّلام، قَالَ:
أوحى اللَّه تَعَالَى إِلَى إِبْرَاهِيم أَن ابْن لي بيتا فِي الأَرْض،
فضاق إِبْرَاهِيم بِذَلِكَ ذرعا، فأرسل عَزَّ وَجَلَّ السكينة وهي ريح
خجوج [5] ولها رأسان، فانتهت بِهِ إِلَى مَكَّة فتطوقت [6] عَلَى موضع
الْبَيْت كتطوي الجحفة [7] ، وأمر إِبْرَاهِيم أَن يبني حيث تستقر
السكينة، فبنى إِبْرَاهِيم وبقي حجر، فانطلق الغلام يلتمس له حجرا
فأتاه فوجده قَدْ ركب الحجر الأسود فِي مكانه،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[2] ما بين المعقوفتين: من الهامش.
[3] ما بين المعقوفتين: من الهامش.
[4] تاريخ الطبري 1/ 251، وزاد المسير 1/ 129، 424، والأزرقي 1/ 25،
والبداية والنهاية 1/ 163، وطبقات ابن سعد 1/ 52، ومرآة الزمان 1/ 285.
[5] الخجوج: الريح الشديدة الحر.
[6] في تاريخ الطبري: «فتطوّت» . وما أوردناه عن الأصل والمرآة.
[7] كذا في الأصل وفي المرآة، وبعدها في المرآة: «وهي على مثال الحية.»
وفي الطبري: «كتطوي الحية» .
(1/269)
فَقَالَ: يا أبت من أتاك بِهَذَا الحجر،
قَالَ: أتاني بِهِ من لَمْ يتكل عَلَى بنائك، جاء بِهِ جبرئيل من
السماء [1] . وَرَوَى حارثة بْن مضرب، عَنْ عَلِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ
قَالَ: لما قدم إِبْرَاهِيم مَكَّة رأى على رأسه في موضع الْبَيْت مثل
الغمامة فِيهِ مثل الرأس، فكلمه، فَقَالَ: يا إِبْرَاهِيم ابْن عَلِي
ظلي ولا تزد ولا تنقص [2] . حَدَّثَنَا مُحَمَّد بْن عَبْد الْبَاقِي،
أَخْبَرَنَا الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا ابن حيويه، أخبرنا أحمد بن
معروف، حدثنا الحارث بن أبي أسامة، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ،
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عمر، حَدَّثَنَا موسى بْن مُحَمَّد بْن
إِبْرَاهِيمَ، عَنْ أَبِي بَكْر بْن أَبِي الجهم، عَنْ أَبِي بَكْر
سُلَيْمَان بْن أَبِي خيثمة، عَنْ أَبِي جهم بْن حذيفة بْن غانم،
قَالَ: أوحى اللَّه إِلَى إِبْرَاهِيم أَن يبني الْبَيْت وَهُوَ
يَوْمَئِذٍ ابْن مائة سَنَة، وإسماعيل يَوْمَئِذٍ ابْن ثلاثين سَنَة
فبناه مَعَهُ [3] .
فَإِن قيل: هل بَنِي الْبَيْت قبل إِبْرَاهِيم؟
قلنا: ذَكَرْنَا فِي قصة آدَم أَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أنزل ياقوتة
فجعلها مكان البيت، وأمر آدم بالطواف حولها. وَفِي رواية: أَن آدَم
بناه ثُمَّ بناه بعده بنوه إلا أَن الغرق عفى أثره وبقي مكانه أكمة
إِلَى أَن بناه الخليل.
فأما حدود الحرم: [4] فأول من وضعها الخليل عَلَيْهِ السَّلام، وَكَانَ
جبرئيل يأمر بِهِ، ثُمَّ لَمْ يتحرك حَتَّى كَانَ قصي [بْن كلاب] [5]
فجددها، فقلعتها قريش فِي زمن نبينا صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فاشتد ذَلِكَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
فجاءه جبريل، فَقَالَ: إنهم سيعيدُونَها، فرأى رجال مِنْهُم فِي المنام
قائلا يَقُول: حرم أعزكم اللَّه بِهِ نزعتم أنصابه، الآن يتخطفكم
العرب، فأعادوها، فَقَالَ جبريل للنبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: يا مُحَمَّد أعادوها، فقال: فأصابوا؟ قال:
__________
[1] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 251، وفي تفسيره 3/ 70.
[2] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 252، والتفسير 3/ 68.
[3] طبقات ابن سعد 1/ 52، وقارن بالأزرقي 1/ 30، والقرى لقاصد أم القرى
602- 603.
[4] مرآة الزمان 1/ 288.
[5] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
(1/270)
ما وضعوا منها نصبا إلا بيد الْمَلِك.
ثُمَّ بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم في عام الفتح تميم بن راشد [1]
فجددها، ثُمَّ جددها عُمَر بْن الْخَطَّاب، ثُمَّ جددها مُعَاوِيَة،
ثُمَّ عَبْد الْمَلِك بْن مَرْوَان.
[فَإِن] قَالَ قائل: مَا السبب فِي بَعْد بَعْض الحدود وقرب بَعْضهَا؟
[2] ففيه ثلاثة أجوبة: أحدها: أَنَّهُ لما أهبط اللَّه عَزَّ وَجَلَّ
عَلَى آدم بيتا من ياقوت أضاء ما بين المشرق والمغرب ففرت الجن
والشيطان وأقبلوا ينظرون، فجاءت مَلائِكَة تردهم فوقفوا مكان حدود
الحرم. رواه سَعِيد بْن جُبَيْر عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ كَانَ فِي ذَلِكَ الْبَيْت قناديل فِيهَا نور
فانتهى ضوء ذَلِكَ النور إِلَى مواضع الحرم. قاله وهب بْن منبه.
والثالث: أَنَّهُ لما وضع الخليل الركن أضاء فالحرم إِلَى موضع انتهاء
نوره.
ومن الأحداث: أَنَّهُ لما فرغ إِبْرَاهِيم من بناء الْبَيْت أمره
اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أَن يؤذن فِي النَّاس بالحج [3]
قَالَ ابْن عَبَّاس: لما بَنِي الْبَيْت أوحى اللَّه تَعَالَى
إِلَيْهِ: أَن أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ 22: 27 [4] فَقَالَ: يا
رب وَمَا يبلغ صوتي؟ قَالَ: أذن وعلي البلاغ. فقام عَلَى الحجر فنادى:
أيها النَّاس إِن ربكم قَدِ اتخذ بيتا وأمركم أَن تحجوه، فسمعه من
بَيْنَ السماء وَالأَرْض وأسمع من فِي أصلاب الرجال وأرحام النِّسَاء،
فأجابه من سبق فِي علم اللَّه أَنَّهُ يحج إِلَى يَوْم الْقِيَامَة:
لبيك اللَّهمّ لبيك، فاستجاب لَهُ مَا سمعه من حجر أَوْ شجر أَوْ أكمة
[أَوْ تراب] [5] أَوْ شَيْء: لبيك اللَّهمّ لبيك [6] .
وَقَالَ عَبْد بْن عُمَر [7] : استقبل إِبْرَاهِيم اليمن فدعا إِلَى
اللَّه وإلى حج بيته، فأجيب:
__________
[1] في المرآة 1/ 288: تميم بن أسد.
[2] نقله سبط بن الجوزي في المرآة 1/ 289، وما بين المعقوفتين من هامش
المخطوط.
[3] تاريخ الطبري 1/ 260، والتفسير 17/ 106، وزاد المسير 5/ 423، ومرآة
الزمان 1/ 290.
[4] سورة: البقرة، الآية: 127.
[5] ما بين المعقوفتين: من تاريخ الطبري.
[6] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 260، وتفسيره 17/ 106.
[7] في الأصل: عبيد بن عمر، والتصحيح من الطبري 1/ 261.
(1/271)
لبيك لبيك، ثُمَّ إِلَى الشام فأجيب لبيك
لبيك.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، أَخْبَرَنَا
الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْن حَيَوَيْهِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّد
بْن معروف، أخبرنا الحارث بن أبي أسامة، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن
سَعْد، أَخْبَرَنَا هِشَام بْن مُحَمَّد، عَنْ أبيه قال: خرج
إِبْرَاهِيم إِلَى مَكَّة ثَلاث مرات دعا النَّاس إِلَى الحج فِي آخرهن
فأجابه كُل شَيْء سمعه، فأول من أجابه جرهم قبل العماليق ثُمَّ أسلموا
ورجع إِبْرَاهِيم إِلَى بلد الشام فمات به وهو ابْن مائتي سَنَة.
ومن الحوادث أَنَّهُ ابتدأ بفعل الحج بَعْد فراغه من الْبَيْت
فرَوَى ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «أَتَى
جِبْرَئِيلُ إِبْرَاهِيمَ يَوْمَ التَّرْوِيَةِ فَرَاحَ بِهِ إِلَى
مِنًى، فصلى بِهِ الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ وَالْمَغْرِبَ وَالْعِشَاءَ
[الآَخِرَةَ] [1] وَالْفَجْرَ بِمِنًى، ثُمَّ غَدَى بِهِ إِلَى
عَرَفَاتٍ فَأَنْزَلَهُ حَيْثُ يَنْزِلُ النَّاسَّ، فصلى بِهِ
الصَّلاتَيْنِ جَمِيعًا: الظُّهْرَ وَالْعَصْرَ، ثُمَّ وَقَفَ بِهِ
حَتَّى إِذَا كَانَ كَأَعْجَلَ مَا يصلّي أحد من الناس المغرب، أَفَاضَ
حَتَّى أَتَى جَمْعًا فصلى بِهِ الصَّلاتَيْنِ جَمِيعًا: الْمَغْرِبَ
وَالْعِشَاءَ، ثُمَّ أَفَاضَ حَتَّى إِذَا كان كأبطأ ما يصلي أحد من
المسلمين الْفَجْرَ أَفَاضَ بِهِ مِنْ مِنًى [2] فَرَمَى الْجَمْرَةَ
ثُمَّ ذَبَحَ وَحَلَقَ، ثُمَّ أَفَاضَ إِلَى الْبَيْتِ، ثُمَّ أَوْحَى
إِلَى مُحَمَّدٍ: أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ ... 16: 123 [3] .
ومن الحوادث أَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ أنزل عَلَى الخليل عشر صحائف [4]
أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي،
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ
الْمُهْتَدِي، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عَلِيٍّ
الْغَسَّانِيُّ، حَدَّثَنَا أَبِي، عَنْ جَدِّي، عَنْ أَبِي إِدْرِيسَ
الْخَوْلانِيِّ، عَنْ أَبِي ذَرٍّ [قَالَ] [5] : قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ كم كتاب أنزله الله؟ قال:
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من تاريخ الطبري.
[2] في تاريخ الطبري: «أفاض به إلى منى» .
[3] سورة: النحل، الآية: 123. والخبر في تاريخ الطبري 1/ 262.
[4] عرائس المجالس 100، والدر المنثور 6/ 341، ومرآة الزمان 1/ 292.
[5] ما بين المعقوفتين: من المرآة 1/ 292.
(1/272)
مِائَةُ كِتَابٍ وَأَرْبَعَةُ كُتُبٍ،
أَنْزَلَ عَلَى آَدَمَ عَشْرَ صَحَائِفَ، وَعَلَى شِيثٍ خَمْسِينَ
صَحِيفَةً، وَعَلَى خنوخ ثلاثين صَحِيفَةً، وَأَنْزَلَ عَلَى
إِبْرَاهِيمَ عَشْرَ صَحَائِفَ، وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ
وَالزَّبُورَ وَالْفُرْقَانَ. قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّه،
فَمَا كَانَ فِي صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ؟
قَالَ: كَانَتْ أَمْثَالا كُلُّهَا: أَيُّهَا الْمَلِكُ الْمُسَلَّطُ
الْمُبْتَلَى الْمَغْرُورُ إِنِّي لَمْ أَبْعَثْكَ لِتَجْمَعَ
الدُّنْيَا بَعْضهَا عَلَى بَعْضٍ وَلَكِنِّي بَعَثْتُكَ لِتَرُدَّ
عَنِّي دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ، فَإِنِّي لا أَرُدُّهَا وِإِنْ كَانَتْ
من كافر [1] . وكان فيها أمثال: [وعلى العاقل مَا لَمْ يَكَنُ
مَغْلُوبًا] [2] عَلَى عَقْلِهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ سَاعَاتٌ سَاعَةٌ
يُنَاجِي فِيهَا رَبَّهُ، وساع يُفَكِّرُ فِيهَا فِي صُنْعِ اللَّهِ،
وَسَاعَةٌ يُحَاسِبُ فِيهَا نَفْسَهُ فِيمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ،
وَسَاعَةٌ يَخْلُو فِيهَا لِحَاجَتِهِ مِنَ الْحَلالِ فِي الْمَطْعَمِ
وَالْمَشْرَبِ. وَعَلَى الْعَاقِلِ [أَنْ لا يَكُونَ طَاغِيًا إِلا فِي
ثَلاثٍ: تَزَوُّدٍ لِمَعادٍ، وَمَرمَّةٍ لِمَعَاشٍ، وَلَذَّةٍ فِي
غَيْرِ مُحَرَّمٍ، وَعَلَى الْعَاقِلِ أَنْ] [3] يَكُونَ بَصِيرًا
بِزَمَانِهِ، مُقْبِلا عَلَى شَأْنِهِ، حَافِظًا لِلِسَانِهِ. وَمَنْ
حَسِبَ كَلامَهُ مِنْ عَمَلِهِ قَلَّ كَلامُهُ إِلا فِيمَا يَعْنِيهِ،
[وَسَلامٌ عَلَى مَنْ أَكْرَمَ الضَّيْفَ، وَمَنْ أَهَانَهُ فَهُوَ فِي
الدَّرْكِ الأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ. قَالَ أَبُو ذَرٍّ: فَلِهَذَا
كَانَ إِبْرَاهِيمُ لا يَأْكُلُ إِلا مَعَ الضَّيْفِ] [4] .
من الحوادث اتخاذ اللَّه عَزَّ وَجَلَّ إِبْرَاهِيم خليلا [5]
اختلف الْعُلَمَاء فِي سبب ذَلِكَ عَلَى ثلاثة أقوال:
أحدها: لإطعامه الطعام فكان لا يأكل إلا مَعَ ضيف لسعة كرمه. وَفِي
حَدِيثِ عَبْد اللَّهِ بن عمرو بن العاص، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: «يَا جِبْرِيلُ لِمَ اتَّخَذَ
اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلا؟ قَالَ: لإِطْعَامِهِ الطَّعَامَ يَا
مُحَمَّدُ» . وَالثَّانِي: أَن النَّاس أصابتهم سَنَة فأقبلوا إِلَى
بَاب إِبْرَاهِيم يطلبون الطعام وكانت له
__________
[1] في المرآة: «أردها ولو كانت من كافر» .
[2] ما بين المعقوفتين: من المرآة.
[3] ما بين المعقوفتين: من هامش المخطوط.
[4] ما بين المعقوفتين: من المرآة 1/ 292.
[5] تفسير الطبري 9/ 251، وزاد المسير 2/ 211، وعرائس المجالس 980،
ومرآة الزمان 1/ 292.
(1/273)
ميرة من صديق لَهُ بمصر من كُل سَنَة، فبعث
غلمانه بالإبل إِلَى صديقه فلم يعطهم شَيْئًا، فَقَالُوا: لو احتملنا
من هذه البطحاء ليرى النَّاس أنا قَدْ [جئنا بشيء] [1] فملئوا الغرائر
رملا ثُمَّ أتوا إِبْرَاهِيم فأعلموه، فاغتم إِبْرَاهِيم لأجل الخلق
فنام، وجاءت سارة وَهِيَ لا تعلم مَا كَانَ، ففتحت الغرائر فَإِذَا
دقيق حواري، فأمرت الخبازين فخبزوا وأطعموا النَّاس، فاستيقظ
إِبْرَاهِيم، فَقَالَ: من أين هَذَا الطعام، فَقَالَتْ: من عِنْدَ
خليلك المصري/ قَالَ: بَل من عِنْدَ خليلي اللَّه. فَيَوْمَئِذٍ اتخذه
اللَّه خليلا. رواه أَبُو صَالِح، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
والثالث: أَنَّهُ اتخذه خليلا لكسره الأصنام وجداله قومه. قاله مقاتل.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي طَاهِرٍ الْبَزَّازُ، أَخْبَرَنَا
مُحَمَّدٌ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عُمَرَ بْنُ حيويه،
أخبرنا أحمد بن معروف، أخبرنا الحارث بن أبي أسامة، حَدَّثَنَا
مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، أَخْبَرَنَا هِشَامُ بْنُ مُحَمَّد، عَنْ
أَبِيهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: لَمَّا اتَّخَذَ اللَّهُ
[إِبْرَاهِيمَ] [2] خَلِيلا وَنَبِيًّا كَانَ له يومئذ ثلاثمائة عَبْدٍ
أَعْتَقَهُمْ، وَأَسْلَمُوا وَكَانُوا يُقَاتِلُونَ مَعَهُ
بِالْعِصِيِّ [3] .
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورِ بْنُ خَيْرُونَ، عَنْ أَبِي محمد الجوهري،
عن الدار الدّارقطنيّ، حدثنا عمر بن الحسن بن عَلِي، حَدَّثَنَا عَبْدُ
اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ
يَحْيَى، حَدَّثَنَا يمان بن سعيد، حدثنا خَالِدِ بْنِ يَزِيدَ
الْمُقْرِي، حَدَّثَنَا أَبُو رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ
مُزَاحِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: أَوَّلُ مَنْ عَمِلَ
الْقِسِيَّ الْعَرَبِيَّةَ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَمِلَ
لإِسْمَاعِيلَ قَوْسًا وَلإِسْحَاقَ قَوْسًا وَكَانُوا يَرْمُونَ بِهَا
وَعَلَّمَهُمَا الرَّمْيَ. وَأَوَّلُ مَنِ اتخذ القسيّ الفارسية [4]
نمرود.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: مكانها في الأصل خرم.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل وأوردناها من هامشها.
[3] طبقات ابن سعد 1/ 47.
[4] في المرآة: «القسي الأعجمية» .
(1/274)
ومن الحوادث سؤاله ربه عَزَّ وَجَلَّ أَن
يريه كَيْفَ يحيي الموتى [1]
واختلف الْعُلَمَاء فِي سؤاله ذَلِكَ عَلَى أربعة أقوال:
أحدها: أَنَّهُ رأى ميتة تمزقها الهوام والسباع، فسأل ذَلِكَ.
قَالَ ابْن عَبَّاس: مر إِبْرَاهِيم برجل ميت عَلَى ساحل البحر فرأى
دواب البحر وسباع الأَرْض تأكل منه، وَقَالَ قَتَادَة: مر عَلَى دابة
ميتة. وَقَالَ ابْن جريج: مر عَلَى جيفة حمار.
وَقَالَ ابْن يَزِيد: مر عَلَى حوت ميتة.
وَالثَّانِي: أَنَّهُ لما بشر بأن اللَّه تَعَالَى قَدِ اتخذه خليلا
سأل ذَلِكَ ليعلم بإجابته صحة البشارة. رواه السدي عَنْ أشياخه.
والثالث: أَنَّهُ أحب أَن يزيل عوارض الوساوس. وَهُوَ مذهب عطا بْن
أَبِي رباح.
والرابع: أَنَّهُ لما قَالَ: ربي الَّذِي يحيي ويميت أحب أَن يرى مَا
أخبر بِهِ عَنْ ربه.
ذكره ابْن إِسْحَاق.
وزعم مقاتل بْن سُلَيْمَان أَن هذه القصة جرت لإبراهيم بالشام قبل أَن
يَكُون لَهُ ولد وقبل نزول الصحف عَلَيْهِ، وَهُوَ ابْن خمس وسبعين
سَنَة.
ومن الحوادث أَن اللَّه تَعَالَى أمر بكلمات فأتمهن [2]
وَقَدِ اختلفوا فِي الكلمات عَلَى ستة أقوال:
أحدها: أَنَّهُ ابتلاه بالإسلام فأتمه. رواه عكرمة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
[3] .
وَالثَّانِي: ابتلاه بالطهارة، خمس فِي الرأس، وخمس فِي الجسد، في
الرأس:
__________
[1] تفسير الطبري 5/ 485، وزاد المسير 1/ 313، وتفسير ابن كثير 1/ 559،
ومرآة الزمان 1/ 293.
[2] تاريخ الطبري 1/ 278، وتفسير الطبري 3/ 7، وزاد المسير 1/ 139،
وعرائس المجالس 98، ومرآة الزمان 1/ 295.
[3] تاريخ الطبري 1/ 279، 280.
(1/275)
قص الشارب، والمضمضة، والاستنشاق، والسواك،
وفرق الرأس. وَفِي الجسد:
تقليم الأظفار، وحلق العانة، والختان، ونتف الإبط، وغسل أثر الغائط
والبول بالماء.
رواه طاووس عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [1] .
والثالث: أَنَّهَا ست فِي الإِنْسَان: حلق العانة، والختان، ونتف
الإبط، وتقليم الأظفار، وقص الشارب، والغسل يَوْم الجمعة. وأربع فِي
المشاعر: الطواف، والسعي بَيْنَ الصفا والمروة، ورمي الجمار، والإفاضة.
رواه حنش عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ [2] .
والرابع: أَنَّهَا مناسك الحج خاصة. رواه قَتَادَة عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ
[3] .
والخامس: أَنَّهَا قَوْله تَعَالَى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً
2: 124 [4] وآيات النسك [5] .
قاله أَبُو صَالِح [6] .
والسادس: أَنَّهُ ابتلاه بالكواكب والقمر وبالشمس وبالنار وبالهجرة
وبالختان [7] .
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُصَيْنِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ،
أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ
أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ حَفْصٍ،
أَخْبَرَنَا وَرْقَاءُ، عَنْ أَبِي الزِّنَادِ، عَنِ الأَعْرَجِ، عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرحمن عز وجل
بعد ما أَتَتْ لَهُ ثَمَانُونَ سَنَةً، وَاخْتَتَنَ بِالْقَدُّومِ» .
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَلَيْسَ فِي حَدِيثِهِمَا ذكر سِنِّهِ
يَوْمَئِذٍ. وَالْقَدُّومِ: مَوْضِعٌ [7] .
وَقَدْ أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عَبْدِ الْوَاحِدِ الدينَوَريّ،
أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عُمَرَ الْقَزْوِينِيُّ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ
بْنُ عُمَرَ بْنِ سَهْلٍ الْجَرِيرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ
عُمَيْرِ بْنِ حَوْصَا، حدثنا محمد بن
__________
[1] تاريخ الطبري 1/ 280.
[2] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 281.
[3] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 283، 284.
[4] سورة: بقرة، الآية: 124
[5] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 281، 282.
[6] تاريخ الطبري 1/ 284، 285، 286.
[7] الحديث أخرجه الطبري في تاريخ 1/ 286، والبخاري 4/ 170، 8/ 81،
ومسلم، الفضائل 151، وأحمد بن حنبل 2/ 418، 435، والبيهقي في السنن 8/
225.
(1/276)
الْوَزِيرِ الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا
الْوَلِيدُ بْنُ مُسْلِمٍ، أَخْبَرَنَا الأوزاعي، عن يحيى بن سعيد بن
المسيب، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله
عليه وسلم: «اخْتَتَنَ إِبْرَاهِيمُ وَهُوَ ابْنُ عِشْرِينَ وَمِائَةِ
سَنَةٍ، ثُمَّ عَاشَ بَعْد ذَلِكَ ثَمَانِينَ سَنَةً» . وَرَوَى
الضَّحَّاك، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: إِبْرَاهِيم أول من أضاف
الضيف، وأول من ثرد الثريد، وأول من لبس النعلين، وأول من قاتل
بالسَّيْف والسن، وأول من قسم الفيء، وأول من اختتن فِي موضع يقال لَهُ
القدوم، وَهُوَ ختن نَفْسه.
[وَرَوَى] [1] أَبُو الْحُسَيْن بْن المنادي من حَدِيث ابْن عَبَّاس،
أَنَّهُ قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيم بزازا يبيع الثياب فدعا ربه أَن
يستره إِذَا قام يصلي، فأهبط اللَّه إِلَيْهِ جبريل فقطع لَهُ السراويل
وخاطته سارة، فَهُوَ أول سراويل لبس فِي الأَرْض.
ومن الحوادث أَن اللَّه عَزَّ وَجَلَّ ابتلى الخليل بذبح ولده بَعْد
فراغه من الحج [2]
وَقَدِ اختلف الْعُلَمَاء فِي الذبيح، هل هُوَ إِسْمَاعِيل أَوْ
إِسْحَاق؟
فَرَوَى عَلِيُّ بْنُ زَيْدِ بْنِ جُدْعَانَ عَنِ الْحَسَنِ، عَنِ
الأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ، عَنِ الْعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ،
عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَفَدَيْناهُ
بِذِبْحٍ عَظِيمٍ 37: 107 [3] قَالَ:
«إِسْحَاقُ» [4] .
وَقَدْ رَوَاهُ مُبَارَكٌ، عَنِ الْحَسَنِ فَوَقَفَهُ عَلَى
الْعَبَّاسِ، وَهُوَ أَصَحُّ [5] .
وَكَذَلِكَ رَوَى عِكْرِمَةُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: الذَّبِيحُ
إِسْحَاقُ [6] .
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل.
[2] تاريخ الطبري 1/ 263، وتفسيره، وزاد المسير 7/ 73، وتهذيب ابن
عساكر 2/ 149، والبداية والنهاية 1/ 157، وعرائس المجالس 93، ومرآة
الزمان 1/ 296.
[3] ، سورة: الصافات، الآية: 107.
[4] الخبر أخرجه الطبري في التاريخ 1/ 263، وفي التفسير 23/ 51.
[5] الخبر أخرجه الطبري في المواضع السابقة.
[6] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 264.
(1/277)
وَبِهِ قَالَ ابْن مَسْعُود، وكعب، وعبد
بْن عمير ومسروق، وأبو ميسرة فِي خلق كثير.
وَقَدْ رَوَى مُعَاوِيَةُ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أَنَّ رَجُلا جَاءَهُ، فَقَالَ: يَا ابْنَ الذَّبِيحَيْنِ،
فَضَحِكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ [1] .
يُشِيرُ إِلَى إِسْمَاعِيلَ وَعَبْدِ اللَّهِ والد رسول الله صلَّى
اللَّه عَلَيْهِ وسلم، فإن عَبْدَ الْمُطَّلِبِ نَذَرَ أَنْ
يَذْبَحَهُ، وَهَذَا الْحَدِيث لا يثبت، ثم أن رسول الله لَمْ يقر
بِهِ، وجائز أَن يَكُون العم أبا، كَمَا قَالَ عَزَّ وَجَلَّ: نَعْبُدُ
إِلهَكَ وَإِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَإِسْماعِيلَ وَإِسْحاقَ 2: 133
[2] فأدخل إسماعيل في الآباء، وهو عم يعقوب.
وَقَدْ رَوَى الشَّعْبِي، وسعيد بْن جُبَيْر، ومجاهد، وعطاء بْن أَبِي
رباح، ويوسف بْن مهران، عن ابن عباس أَنَّهُ إِسْمَاعِيل [3] .
وَبِهِ قَالَ الشَّعْبِي، وَقَالَ: رأيت قرني الكبش فِي الكعبة. وإليه
يذهب الْحَسَن ومجاهد والقرظي، واحتج بأن اللَّه تَعَالَى لما فرغ من
قصة الذبيح، قال: وَبَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ 37: 112 [4] .
والقول الأَوَّل أصح، فَإِن الخليل لما هاجر عن قومه، قال: هَبْ لِي
مِنَ الصَّالِحِينَ فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ 37: 100- 101 [5] .
والبشارة كانت لسارة، فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ 37: 102 [6] ،
أي كبر، وبلغ أَنَّهُ سعى مَعَ ابنه. فأما إِسْمَاعِيل فَقَدْ
ذَكَرْنَا أَنَّهُ أسكنه مَكَّة وَلَمْ يره حَتَّى تزوج امرأتين.
والاحتجاج بقرني الكبش لَيْسَ بشيء، لأنه من الجائز أَن يكونا حملا من
الشام، واحتجاج المحتج [7] بقوله: وَبَشَّرْناهُ 37: 112 يدل عَلَى
أَنَّهُ إِسْحَاق لأن الواو لا تقتضي الترتيب.
__________
[1] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 264، وفي التفسير 23/ 54.
[2] سورة: البقرة، الآية: 133.
[3] تاريخ الطبري 1/ 267، 268، 269.
[4] سورة: الصافات، الآية: 112. والخبر في تاريخ الطبري 1/ 269.
[5] سورة: الصافات، الآية: 101.
[6] سورة: الصافات، الآية: 102.
[7] في الأصل: «واحتج المحتج» ، والتصحيح من الهامش.
(1/278)
الإشارة إِلَى قصة الذبح سبب أمر اللَّه
خليله بذبح ولده:
مَا رَوَى السدي عَنْ أشياخه [1] . أَن جبريل لما بشر سارة بإسحاق،
قَالَتْ: وَمَا آية ذَلِكَ؟ فأخذ عودا يابسا فِي يده فلواه بَيْنَ
أَصَابِعه فاهتز أخضر، فَقَالَ إِبْرَاهِيم: هُوَ للَّه إِذَا ذبيح،
فلما كبر إِسْحَاق أتى إِبْرَاهِيم فِي النوم فقيل لَهُ: أوف بنذرك
الَّذِي نذرت، فَقَالَ لإسحاق: انطلق نقرب قربانا إِلَى اللَّه، فأخذ
سكينا وحبلا ثُمَّ انطلق مَعَهُ حَتَّى إِذَا ذهب بِهِ بَيْنَ الجبال
قال له الغلام: يا أبتاه، أين قربانك؟ قَالَ: يا بَنِي إني أرى فِي
المنام أني أذبحك، فَقَالَ إسحاق: اشدد رباطي حَتَّى لا اضطرب، واكفف
عني ثيابك [حَتَّى] [2] لا ينتضح عَلَيْهَا/ من دمي فتراه سارة فتحزن،
وأسرع مر السكين عَلَى حلقي ليكون أهون للموت عَلِي، وإذا أتيت سارة
فاقرأ عَلَيْهَا السَّلاَم.
فأقبل عَلَيْهِ إِبْرَاهِيم يقبله، وَقَدْ ربطه وَهُوَ يبكي وإسحاق
يبكي، ثُمَّ إنه جرّ السكين على حلقه فلم يحك السكين، فأضجعه عَلَى
جبينه فنودي: يا إِبْرَاهِيم قَدْ صدقت الرؤيا. فَإِذَا بكبش فأخذه،
وخلى عَنِ ابنه، وأكب عَلَى ابنه يقبله وَيَقُول: اليوم يا بَنِي وهبت
لي. فرجع إلى سارة فأخبرها الْخَبَر فجزعت سارة، وَقَالَتْ: يا
إِبْرَاهِيم أردت أَن تذبح ابني ولا تعلمني.
قَالَ شُعَيْب الجبائي: لما علمت بِذَلِكَ ماتت يَوْم الثالث.
وروى ابن إسحاق، عن بعض أهل العلم: [3] إِن إِبْرَاهِيم لما خرج بابنه
ليذبحه اعترضه إبليس، فقال: أين تريد أيها الشيخ؟ فَقَالَ: أريد هَذَا
الشعب لحاجة لي فِيهِ، فَقَالَ: والله إني لأرى الشَّيْطَان قَدْ جاءك
فِي منامك فأمرك بذبح ابنك. فعرفه إِبْرَاهِيم، فَقَالَ: إليك عني عدو
الله، فو اللَّه لأمضين لأمر ربي فِيهِ، فلما يئس عدو اللَّه إِبْلِيس
من إِبْرَاهِيم اعترض الولد، فَقَالَ: يا غلام هل تدري أين يذهب بك
أبوك؟ قَالَ: يحتطب لأهلنا من هَذَا الشعب، قال: والله ما يريد إلا أَن
يذبحك، قَالَ: لَمْ؟ قَالَ: زعم أَن ربه أمره بِذَلِكَ، قَالَ: فليفعل
مَا أمره ربه، فسمعا وطاعة، فلما امتنع منه الغلام ذهب إلى
__________
[1] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 272، 273، وتفسيره 23/ 49.
[2] ما بين المعقوفتين: من الطبري.
[3] تاريخ الطبري 1/ 274، وابن عساكر 2/ 149، وعرائس المجالس 1/ 94،
ومرآة الزمان 1/ 296.
(1/279)
أمه، فَقَالَ: هل تدرين أين ذهب
إِبْرَاهِيم بابنه؟ فَقَالَتْ: ذهب بِهِ يحتطبان من هَذَا الشعب،
قَالَ: مَا ذهب بِهِ إلا ليذبحه، قَالَتْ: هُوَ أرحم بِهِ وأشد حبا من
ذَلِكَ، قَالَ: إنه يزعم أَن اللَّه يأمره بِذَلِكَ، قَالَتْ: فَإِن
كَانَ ربه أمره بِذَلِكَ فتسليما لأمر اللَّه. فرجع عدو اللَّه لَمْ
يصب من آل إِبْرَاهِيم شَيْئًا مِمَّا أراد.
فَقَالَ: يا أبت إِذَا أردت ذبحي فاشدد رباطي، فَإِن الْمَوْت شديد،
واشحذ شفرتك حَتَّى تجهز عَلِي فتريحني. فَإِذَا أَنْتَ أضجعتني فعلى
وجهي فإني أخشى إِن نظرت فِي وجهي أَن تدركك رقة تحول بينك وبين أمر
اللَّه فِي، وإن رأيت أَن ترد قميصي إِلَى أمي فَإِنَّهُ عسى أَن
يَكُون أسلى لها عنّي. فَقَالَ لَهُ إِبْرَاهِيم: نعم العون أَنْتَ يا
بَنِي عَلَى أمر اللَّه. فربطه كَمَا أمره، ثم شحذ شفرته ثُمَّ تله
للجبين، واتقى النظر فِي وجهه، ثُمَّ أدخل الشفرة، فقبلها اللَّه
تَعَالَى ونودي: قد صدقت الرؤيا.
قَالَ ابْن عَبَّاس: خرج عَلَيْهِ كبش من الْجَنَّة قَدْ رعاها قبل
ذَلِكَ أربعين خريفا، وَهُوَ الكبش الَّذِي قربه هابيل فنحره فِي منى
[1] .
وَقَالَ عَلِي بْن أَبِي طالب رَضِيَ اللَّه عَنْهُ: كَانَ كبشا أبيض
أقرن أعين مربوطا بسمر فِي ثبير [2] .
وَقَالَ عَبْد بْن عمير: ذبح بالمقام.
وَقَالَ الْحَسَن: أهبط عَلَيْهِ من ثبير.
قَالَ وهب بْن منبه، وشعيب الجبائي، وغيرهما: كَانَ ذَلِكَ بإيليا من
أرض الشام.
ومن الأحداث فِي زمن الخليل عَلَيْهِ السَّلام احتيال نمرود فِي صعود
السماء وبنيان الصرح [3]
رأى نمرود سلامة إِبْرَاهِيم من النار وَمَا آمن، ثُمَّ زاد عتوه
وتمرده فبقي أربعمائة
__________
[1] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 277.
[2] تاريخ الطبري 1/ 276.
[3] تاريخ الطبري 1/ 289، وتفسير الطبري 13/ 161، ومرآة الزمان 1/ 307.
(1/280)
عام لا تزيده الحجج إلا تماديا. ثُمَّ إنه
حلف ليطلبن إله إِبْرَاهِيم.
قَالَ السدي عَنْ أشياخه: أخذ نمرود أربعة أفرخ من فراخ النسور فرباهن
باللحم والخمر حَتَّى إِذَا كبرن وغلظن واستعلجن، قرنهن بتابوت، وقعد
فِي ذَلِكَ التابوت، ثُمَّ رفع رجلا من لحم لهنّ، فطرن بِهِ، حَتَّى
إِذَا ذهبن فِي السماء أشرف ينظر إِلَى الأَرْض فرأى الأَرْض تحته
كأنها فلكة فِي ماء، ثُمَّ صعد فوقع فِي ظلمة، فلم ير مَا فوقه ولا مَا
تحته، ففزع فألقى اللحم فاتبعته منقضات، فلما رأت الجبال ذَلِكَ كادت
تزول، فذلك قَوْله تَعَالَى: وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ
الْجِبالُ 14: 46 [1] .
فلما رأى أَنَّهُ لَمْ يطق شَيْئًا أخذ فِي بنيان الصرح، فبناه، ثُمَّ
ارتقى ينظر وسقط الصرح، وتبلبلت ألسن النَّاس يَوْمَئِذٍ من الفزع [2]
.
ومن الأحداث فِي زمن الخليل عَلَيْهِ السَّلام هلاك نمرود
قَالَ زَيْد بْن أسلم: بعث اللَّه إِلَى نمرود ملكا أَن آمن بي وأتركك
عَلَى ملكك.
قَالَ: فهل رب غيري؟ فأتاه الثَّانِيَة فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ فأبى
عَلَيْهِ، ثُمَّ أتاه الثالثة، فَقَالَ لَهُ ذَلِكَ فأبى عَلَيْهِ،
فَقَالَ لَهُ الْمَلِك: اجمع جموعك إِلَى ثلاثة أَيَّام، فجمع جموعه،
فأمر اللَّه الملك ففتح عليه بابا من البعوض، وطلعت الشمس فلم يروها من
كثرتها، فبعثها اللَّه عَلَيْهِم فأكلت لحومهم وشربت دماءهم فلم يبق
إلا العظام والجبار كَمَا هُوَ لَمْ يصبه من ذَلِكَ شَيْء، فبعث اللَّه
عليه بعوضة فدخلت في منخره فمكث أربعمائة سَنَة يضرب رأسه بالمطارق،
وأرحم النَّاس بِهِ من جمع يديه ثُمَّ ضرب بهما رأسه فعذبه الله
أربعمائة عام كَمَا ملكه وأماته اللَّه. وَهُوَ الَّذِي بنى صرحا إِلَى
السماء، [فأتى اللَّه بنيانه من القواعد، وَهُوَ قَالَ اللَّه] [3] :
فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ من الْقَواعِدِ 16: 26 [4] .
__________
[1] سورة: إبراهيم، الآية: 46.
[2] في تبلبل ألسن الناس، قال في المرآة: هذا وهم لأنها تبلبلت في زمان
نوح (مرآة الزمان 1/ 308) .
[3] ما بين المعقوفتين: من تاريخ الطبري.
[4] سورة: النحل، الآية: 26. والخبر في تاريخ الطبري 1/ 288، وتفسيره
5/ 433- 434.
(1/281)
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَن قوما يقولون نمرود
هُوَ الضَّحَّاك الَّذِي سبق ذكره، وليس كَذَلِكَ، لأن نسب نمرود في
النبط، ونسب الضَّحَّاك فِي عجم الفرس [1] .
وذكر قوم أَن الضَّحَّاك ضم إِلَى نمرود السواد وَمَا اتصل بها،
وَكَانَ عاملا لَهُ، وكانت ولايته بابل من قبل الضَّحَّاك، فلما ملك
أفريدُونَ وقهر الضَّحَّاك قتل نمرود وشرد النبط. والله أعلم.
ومن الأحداث فِي زمن الخليل عَلَيْهِ السَّلام إرسال ابنه إِسْحَاق
إِلَى أرض الشام
وَكَانَ إِبْرَاهِيم بفلسطين وإسماعيل إِلَى جرهم ولوط إِلَى سدوم،
ويعقوب إلى أرض كنعان، فهؤلاء كلهم أرسلوا فِي زمانه.
ومن الأحداث فِي أَيَّام الخليل عَلَيْهِ السَّلام هلاك قوم لوط [2]
قَدْ ذَكَرْنَا أَن لوطا عَلَيْهِ السَّلام هاجر مَعَ عمه إِبْرَاهِيم
عَلَيْهِ السَّلام مؤمنا بِهِ متبعا لَهُ عَلَى دينه إِلَى الشام معهما
سارة. وَقَدْ قيل: كَانَ معهم تارخ أَبُو إِبْرَاهِيم وَهُوَ عَلَى
غَيْر دينه حَتَّى صاروا إلى حرّان، فمات تاريخ بحران عَلَى كفره. وشخص
إِبْرَاهِيم ولوط وسارة إِلَى الشَّام، واختتن لوط مَعَ إِبْرَاهِيم
ولوط ابْن ثَلاث وخمسين سَنَة، ثُمَّ مضوا إِلَى مصر فصادفوا هناك
فرعونا من فراعنتها، ويقال لَهُ أَخُو الضَّحَّاك، وجهه الضَّحَّاك
عاملا عَلَيْهَا من قبله، فرجعوا عودا عَلَى بدئهم إِلَى الشام، فنزل
إِبْرَاهِيم فلسطين ونزل لوط الأردن، فأرسل الله تعالى لوطا وَذَلِكَ
فِي وسط عُمَر إِبْرَاهِيم.
وَهُوَ: لوط بْن هاران بْن تارخ، ورأيت بخط أَبِي الْحُسَيْن بْن
المنادي: «هازن» ، بالزاء المعجمة من غير ألف.
__________
[1] راجع تاريخ الطبري 291.
[2] تاريخ الطبري 1/ 292، ونهاية الأدب 13/ 115، وشفاء الغرام 2/ 3،
وعرائس المجالس 100، والبداية والنهاية 1/ 191، ومرآة الزمان 1/ 309.
(1/282)
بعث إِلَى أَهْل سدوم، فكانوا أَهْل كفر
باللَّه وركوب الفاحشة.
قَالَ مجاهد: كَانَ بَعْضهم يجامع بَعْضًا فِي المجالس.
قَالَ الْعُلَمَاء بالسير: كَانَ لوط يدعوهم إِلَى عُبَادَة اللَّه
وينهاهم عَنِ الفاحشة ولا يزجرهم وعيده ولا يزيدهم إلا عتوا، فسأل
اللَّه تَعَالَى أَن ينصره عَلَيْهِم، فبعث اللَّه تَعَالَى جبرئيل
وميكائيل وإسرافيل، فأقبلوا مشاة فِي صورة رجال شباب فنزلوا عَلَى
إِبْرَاهِيم، وَكَانَ قَدِ احتبس عَنْهُ الضيف أياما ففرح بهم ورآهم
فِي غاية الْحَسَن والجمال، فقام يخدمهم فجاء بعجل سمين، فأمسكوا،
فَقَالَ: ألا تأكلون؟ فَقَالُوا: لا نأكل طعاما إلا بثمنه، قَالَ:
فَإِن لَهُ ثمنا، قَالُوا: وَمَا هُوَ؟ قَالَ: تذكرون اسم اللَّه عَلَى
أوله وتحمدُونَه عَلَى آخره، فنظر جبرئيل إِلَى ميكائيل وَقَالَ: حق
لِهَذَا أَن يتخذه اللَّه خليلا، ثُمَّ رأى إمساكهم ففزع مِنْهُم وظنهم
لصوصا، قَالُوا: لا تخف إنا أرسلنا إِلَى قوم لوط فضحكت سارة تعجبا
وَقَالَتْ: لحقتم بابنا ولا تأكلون طعامنا؟ / فَقَالَ جبرئيل: أيتها
الضاحكة أبشري بإسحاق ومن وراء إِسْحَاق يعقوب، وكانت بنت تسعين سَنَة
وإبراهيم ابْن مائة وعشرين سَنَة.
فلما سكن روعه، وأعلموا لماذا أرسلوا فناظرهم فِي ذَلِكَ كَمَا قَالَ
اللَّه عَزَّ وَجَلَّ:
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَجاءَتْهُ الْبُشْرى
يُجادِلُنا في قَوْمِ لُوطٍ 11: 74 [1] .
وَكَانَ جداله إياهم أَن الْمَلائِكَة قَالُوا: إِنَّا مُهْلِكُوا
أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ 29: 31 [2] . فقال لهم: أتهلكون قرية فيها
أربعمائة مؤمنون؟ قالوا: لا، قال: ثلاثمائة؟ قَالُوا: لا، قَالَ
مائتان، قَالُوا: لا، قَالَ: مائة، قَالُوا لا، قَالَ: أربعون، قَالُوا
لا، قال: أربعة عشر، قالوا: لا. وكان يعدهم أربعة عشر مَعَ امرأة لوط.
فسكت واطمأنت نَفْسه. هَذَا قَوْل سَعِيد بْن جُبَيْر.
قَالَ ابْن عَبَّاس: قَالَ الْمَلِك لإبراهيم: إِن كَانَ فِيهَا خمسة
يصلون رفع عَنْهُم العذاب.
قَالَ حذيفة: جاءت الرسل لوطا وَهُوَ فِي أرض لَهُ يعمل فِيهَا، وَقَدْ
قيل لَهُمْ والله
__________
[1] سورة: هود، الآية: 74. والخبر في تاريخ الطبري 1/ 297.
[2] سورة: العنكبوت، الآية: 31.
(1/283)
أعلم: لا تهلكوهم حَتَّى يشهد عَلَيْهِم
لوط، فأتوه فَقَالُوا: إنا مضيفوك الليلة. فانطلق بهم فلما مشى ساعة
التفت فَقَالَ: أما تعلمون مَا يعمل أَهْل هذه القرية؟ والله مَا أعلم
على ظهر الأَرْض ناسا أخبث مِنْهُم. فانطلق بهم فلما بصرت عجوز السوء
امرأته بهم انطلقت وأنذرتهم [1] .
وَقَالَ السدي، عَنْ أشياخه [2] : لما خرجت الْمَلائِكَة من عِنْدَ
إِبْرَاهِيم نَحْو قرية لوط أتوهم نصف النهار، فلما بلغوا نهر سدوم
لقوا ابنة لوط تستقي الماء لأهلها، وكانت لَهُ ابنتان، اسم الْكُبْرَى
ريثا، والصغرى رعرثا، فَقَالُوا لَهَا: يا جارية هل من منزل؟
قَالَتْ: نعم، مكانكم لا تدخلوا حَتَّى آتيكم فزعت عَلَيْهِم [3] من
قومها فأتت أباها فَقَالَتْ يا أبتاه أدركت فتيانا على باب المدينة مَا
رأيت وجوه قوم هِيَ أَحْسَن من وجوههم، لا يأخذهم قومك فيفضحوهم،
وَقَدْ كان قومه نهوه أَن يضيف رجلا، فجاء بهم فلم يعلم أحد إلا أَهْل
بَيْت لوط، فخرجت امرأته فاخبرت قومها وَقَالَتْ: إِن فِي [بَيْت] [4]
لوط رجالا مَا رأيت مثل وجوههم قط. فجاء قومه يهرعون إِلَيْهِ.
قَالَ علماء السير: فلما أتاه قومه جعل يلطف بهم وَيَقُول: اتقوا
اللَّه ولا تخزوني فِي ضيفي. وَيَقُول: هَؤُلاءِ بناتي [هن أطهر لكم
مِمَّا تريدُونَ] [5] .
فلما لَمْ يلتفتوا إِلَى قَوْله قَالَ: لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً
11: 80 [6] أي: لو أَن لي أنصارا ينصرونني عليكم أَوْ عشيرة يمنعونني
منكم لحلت بينكم وبين مَا جئتم. فلما اشتد الأمر عَلَيْهِ، قَالَتِ له
الرسل: إنا رسل ربك لَنْ يصلوا إليك، فَقَالَ: أهلكوهم الساعة.
فَقَالَ جبرئيل: إِن موعدهم الصبح. فطمس جبرئيل أعينهم، فَقَالُوا: يا
لوط جئتنا بقوم سحرة كَمَا أَنْتَ حَتَّى تصبح. فأمر أَن يسري بأهله،
فخرج وقت سحر، ثم أدخل جبرئيل جناحه في أرضهم فرفعها، وكانت خمس قريات
أعظمها سدوم حَتَّى سمع أهل
__________
[1] الخبر في التاريخ 1/ 298.
[2] الخبر في تاريخ الطبري 1/ 299.
[3] في تاريخ الطبري: «فرقت عليهم» .
[4] ما بين المعقوفتين: من الطبري.
[5] ما بين المعقوفتين: من تاريخ الطبري 1/ 300.
[6] سورة: هود، الآية: 80.
(1/284)
السماء صياح الديكة ونباح الكلاب، فجعل
عاليها سافلها، ورموا بالحجارة فكانوا أربعة آلاف ألف، وتبعت الحجارة
شذاذ الْقَوْم، وسمعت امرأة لوط الهدة، فقالت: وا قوماه، فأدركها حجر
فقتلها.
وتوفي لوط وَهُوَ ابْن ثمانين سَنَة، وعلى مقتضى الحساب يَكُون وفاة
لوط قبل إِبْرَاهِيم بسنين كثيرة.
ومن الحوادث فِي أَيَّام الخليل عَلَيْهِ السَّلام موت سارة [1]
فإنها توفيت بالشام، وقيل: ماتت بأرض كنعان، وَهِيَ بنت مائة وسبع
وعشرين سَنَة، فدفنت بمزرعة اشتراها إِبْرَاهِيم.
وَأَمَّا هاجر فَقَدْ ذَكَرْنَا فِي الْحَدِيث الصحيح أَنَّهَا ماتت
بمكة قبل بناء الْبَيْت.
ومن الحوادث تزوج الخليل بَعْد سارة [2]
قَالَ ابْن إِسْحَاق: لما ماتت سارة تزوج بعدها من الكنعانيين من العرب
العاربة، واسمها قنطورا بنت يقطان. ويقال: بنت مقطور، وَقَدْ قَالَ
حذيفة: يوشك بنو قنطورا أَن يخرجوا أَهْل البصرة منها.
قَالَ شيخنا أَبُو مَنْصُور اللغوي: يقال أَن قنطورا كانت جارية
لإبراهيم، فولدت لَهُ أولادا، والترك من نسلها.
قَالَ ابْن إِسْحَاق: ولدت لَهُ قنطورا ستة نفر: مِنْهُم مدين وأولاده
الَّذِينَ أرسل إليهم شُعَيْب.
وقيل: تزوج أُخْرَى اسمها حجون [3] ، فولدت لَهُ خمس بنين.
__________
[1] تاريخ الطبري 1/ 308، والبداية والنهاية 1/ 174، وعرائس المجالس
97، ومرآة الزمان 1/ 304.
[2] تاريخ الطبري 1/ 309، 311، والمعرب للجواليقي 262.
[3] في الطبري: «حجور بنت أرهير» .
(1/285)
وَكَانَ مِمَّن يتبع فِي زمن إِبْرَاهِيم
الخليل عَلَيْهِ السَّلام ذو الْقَرْنَيْنِ [1]
وإن كَانُوا قَدِ اختلفوا فِي زمان كونه.
فروي عَنْ عَلِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ من القرون
الأَوَّل من ولد يافث بْن نوح. وقيل: إنه من ولد عيلم بْن سام. وأنه
ولد بأرض الروم حِينَ نزلها ولد سام.
وَقَالَ الْحَسَن البصري: كَانَ بَعْد ثمود.
وذكر أَبُو الْحُسَيْن بْن المنادي أَنَّهُ كَانَ فِي زمان الخليل،
ومات فِي ذَلِكَ الزمان.
وَهَذَا الأشبه.
فَقَدْ رَوَى الفضل بْن عطية، عَنْ عَطَاء، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: أَن
ذا الْقَرْنَيْنِ لقي إِبْرَاهِيم الخليل بمَكَّة فسلم عَلَيْهِ وصافحه
واعتنقه.
وجاء فِي حَدِيث آخر: أَن إِبْرَاهِيم الخليل كَانَ جالسا فِي مكان
فسمع صوتا، فقال: ما هذا الصوت؟ قيل لَهُ: هَذَا ذو الْقَرْنَيْنِ فِي
جنوده. فَقَالَ لرجل عنده: ائت ذا الْقَرْنَيْنِ وأقرئه مني السَّلاَم،
فأتاه، فَقَالَ: إِن إِبْرَاهِيم يقرأ عليك السَّلام، قَالَ: ومن
إِبْرَاهِيم؟ قَالَ: خليل الرحمن، قال: وَإِنَّهُ لَهَا هنا؟ قَالَ:
نعم، فنزل [عَنْ فرسه ومشى] [2] ، فقيل لَهُ: إِن بينك وبينه مسافة،
فقال: ما كنت أركب فِي بلد فِيهِ إِبْرَاهِيم، فمشى إِلَيْهِ فسلم
عَلَيْهِ، وأوصاه، وأهدى إِلَيْهِ إِبْرَاهِيم بقرا وغنما.
واختلف الْعُلَمَاء فِي اسم ذي الْقَرْنَيْنِ عَلَى أربعة أقوال:
أحدها: عَبْد اللَّهِ. قاله علي رضي الله عَنْهُ. وَقَالَ ابْن
عَبَّاس: اسمه عَبْد اللَّهِ بْن الضَّحَّاك.
وَالثَّانِي: الإسكندر، قاله وهب. وقيل: هُوَ الإسكندر بْن قيصر. قاله
أَبُو الْحُسَيْن
__________
[1] كتب التفسير في الآيات 83- 98 من سورة الكهف، ونهاية الأرب 14/
298، وتهذيب تاريخ ابن عساكر 5/ 254- 261، وعرائس المجالس 359،
والبداية والنهاية 2/ 102، ومرآة الزمان 1/ 321.
[2] ما بين المعقوفتين: من المرآة.
(1/286)
ابن المنادي، وَكَانَ قيصر هَذَا أول
القياصرة وأقدمهم، وإنما سمي بذي القرنين بعد ذلك بزمان طويل.
والثالث: عياش، قاله مُحَمَّد بْن عَلِي بْن الْحُسَيْن. والرابع:
الصعب بْن جاثر بْن القلمس. ذكره أبو بكر بن أبي خثيمة.
واختلفوا هل كَانَ نبيا أم لا.
فَقَالَ عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو، وسعيد بْن الْمُسَيِّب، والضحاك بْن
مزاحم: كَانَ نبيا.
وخالفهم الأكثرون فِي هَذَا، فروينا عَنْ عَلِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عبدا صالحا أمر قومه بتقوى اللَّه، لَمْ يكن نبيا
ولا ملكا. وَقَالَ وهب: كَانَ ملكا وَلَمْ يوح إِلَيْهِ.
وقال أحمد بن جعفر المنادي: كَانَ عَلَى دين إِبْرَاهِيم.
واختلفوا فِي سبب تسميته بذي الْقَرْنَيْنِ. عَلَى عشرة أقوال:
أحدها: أَنَّهُ دعا قومه إِلَى اللَّه تَعَالَى فضربوه عَلَى قرنه فهلك
فغبر زمانا ثُمَّ بعثه الله تعالى فدعاهم إِلَى اللَّه فضربوه عَلَى
قرنه الآخر فهلك فذلك قرناه. قاله عَلِي بْن أَبِي طَالِب رَضِيَ
اللَّه عَنْهُ فِي رواية. وَالثَّانِي: أَنَّهُ سمي بذي الْقَرْنَيْنِ
لأنه سار إِلَى مغرب الشمس وإلى مطلعها، رواه أَبُو صَالِح، عَنِ ابْنِ
عَبَّاسٍ.
وَأَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ الأَرْمُويِّ، أَخْبَرَنَا أَبُو
الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُهْتَدِي، أَخْبَرَنَا عمر بن شاهين، حدثنا
مُحَمَّدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْبَاغَنْدِيُّ، حَدَّثَنَا عُثْمَانُ
بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، قَالَ: حَدَّثَنِي
زَائِدَةُ، عَنْ سِمَاكِ بْنِ حَرْبٍ، عَنْ حَبِيبِ بْنِ جَادِمٍ،
قَالَ: قَالَ رَجُلٌ لِعَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: كَيْفَ بَلَغَ
ذُو الْقَرْنَيْنِ الْمَشْرِقَ وَالْمَغْرِبَ؟ فَقَالَ عَلِيٌّ:
سُخِّرَ لَهُ السَّحَابُ وَمُدَّتْ لَهُ الأَسْبَابُ وَبُسِطَ لَهُ
النُّورُ. وَفِي رواية أُخْرَى عَنْ عَلِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ
أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عبدا صالحا ناصح للَّه وأطاعه فسخر له السحاب
فحمله عَلَيْهِ/ وبسط النور. والثالث: لأن صفحتي رأسه كانتا من نحاس.
(1/287)
والرابع: لأنه رأى فِي النوم كأنه امتد من
السماء إِلَى الأَرْض، فأخذ بقرني الشمس، فقص ذلك عَلَى قومه فسمي بذي
الْقَرْنَيْنِ.
والخامس: لأنه ملك فارس والروم.
والسادس: لأنه كَانَ فِي رأسه شبه القرنين. رويت هذه الأقوال الأربعة
عن وهب ابن منبه.
والسابع: لأنه كانت لَهُ غديرتان من شعر. قاله الْحَسَن.
قَالَ أَبُو بَكْر بْن الأنباري: والعرب تسمى الضفيرتين من الشعر
غديرتين وضفيرتين وقرنين. ومن قَالَ سمي بِذَلِكَ لأنه ملك فارس والروم
قَالَ: لأنهما عاليان عَلَى جانبين من الأَرْض، فقال لهما قرنان.
والثامن: لأنه كَانَ كريم الطرفين من أَهْل بَيْت ذوي شرف.
والتاسع: لأنه انقرض فِي زمانه قرنان من النَّاس وَهُوَ حي.
والعاشر: لأنه سلك الظلمة والنور. ذكر هذه الأقوال [الأربعة] [1] أَبُو
إِسْحَاق الثعلبي [2] .
قَالَ مجاهد: ملك الأَرْض أربعة، مؤمنان وكافران، فالمؤمنان:
سُلَيْمَان بْن دَاوُد، وذو الْقَرْنَيْنِ، والكافران: نمرود، ونصر.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْن أَحْمَد بْن جَعْفَر: زعموا أَن ذا
الْقَرْنَيْنِ أحد عظماء ملوك الأَرْض إلا أن الله أعطاه مَعَ ذَلِكَ
التوحيد والطاعة واصطناع الخير، ومد لَهُ فِي الأسباب وأعانه عَلَى
أعدائه، وفتح المدائن والحصون، وغلب الرجال وعمر عمرا طويلا بلغ فِيهِ
المشارق والمغارب وبنى السد فيما بَيْنَ النَّاس وبين يأجوج ومأجوج،
وَكَانَ في ذلك رحمة للمؤمنين، وحرزا منيعا من البلاء الَّذِي لا طاقة
لَهُمْ به.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: مطموس في الأصل.
[2] عرائس المجالس 1/ 360.
(1/288)
ذكر طرف من أخباره
رَوَى أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الْمُنَادَى بِإِسْنَادٍ لَهُ عَنْ
عُتْبَةَ بْنِ عَامِرٍ الْجُهَنِيِّ [1] ، أَنّ النَّبِيَّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر ذَا الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ: «إِنَّ
أَوَّلَ أَمْرُهُ أَنَّهُ كَانَ غُلامًا مِنَ الرُّومِ أُعْطِيَ
مُلْكًا حَتَّى أَتَى أَرْضَ مِصْرَ، فَابْتَنَى عِنْدَهَا مَدِينَةً
يُقَالُ لَهَا الإِسْكَنْدَرِيَّةُ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ بِنَائِهَا
أَتَاهُ مَلَكٌ فَعَرَجَ بِهِ فَقَالَ لَهُ: انْظُرْ مَا تَحْتَكَ،
قَالَ: مَا أَرَى مَدِينَتِي وَأَرَى مَدَائِنَ مَعَهَا، ثُمَّ عَرَجَ
بِهِ، فَقَالَ له: انظر، فقال: قد اخْتَلَطَتِ الْمَدَائِنُ، ثُمَّ
زَادَ فَقَالَ لَهُ: انْظُرْ، فَقَالَ: أَرَى مَدِينَتِي وَحْدَهَا لا
أَرى غَيْرَهَا، فقال له الْمَلِكُ: إِنَّمَا تِلْكَ الأَرْضُ كُلُّهَا
وَهَذَا السَّوَادُ الَّذِي تَرَى مُحِيطًا بِهِ الْبَحْرَ، وَإِنَّمَا
أَرَادَ الله أَنْ يُرِيَكَ الأَرْضَ وَقَدْ جَعَلَ لَكَ سُلْطَانًا
فِيهَا، فَسِرْ فِي الأَرْضِ عَلِّمِ الْجَاهِلَ وَثَبِّتِ الْعَالِمَ.
[فَسَارَ] [2] حَتَّى بَلَغَ مَغَرْبَ الشَّمْسِ ثُمَّ أَتَى
السَّدَّيْنِ، وَهُمَا جَبَلانِ لَيِّنَانِ يَنْزِلُ عَنْهُمَا كُلُّ
شَيْءٍ، فَبَنَى السَّدُّ، ثُمَّ سَارَ فَوَجَدَ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ
يُقَاتِلُونَ قَوْمًا وُجُوهَهُمْ كَوُجُوهِ الْكِلابِ ثُمَّ
قَطَعَهُمْ، فَوَجَدَ أُمَّةً قِصَارًا يُقَاتِلُونَ الَّذِينَ
وُجُوهَهُمْ كَوُجُوهِ الْكِلاب، ثُمَّ مَضَى فَوَجَدَ أُمَّةً من
الغرانيق يقاتلون القوم الْقِصَارَ، ثُمَّ مَضَى فَوَجَدَ أُمَّةً مِنَ
الْحَيَّاتِ تَلْتَقِمُ الْحَيَّةُ مِنْهَا الصَّخْرَةَ الْعَظِيمَةَ،
ثُمَّ أَفْضَى إِلَى الْبَحْرِ الْمَدِيرِ بِالأَرْضِ» . وَرَوَى أَبُو
الْحُسَيْنِ بِإِسْنَادٍ لَهُ عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ بْنِ
عَلِيٍّ [، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ] [3] بْنِ أَبِي
[طَالِبٍ] رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ ذُو
الْقَرْنَيْنِ عَبْدًا صَالِحًا، وَكَانَ قَدْ مَلَكَ مَا بَيْنَ
الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، وَكَانَ لَهُ خَلْيلٌ مِنَ الْمَلائِكَة
اسْمُهُ رَفَائِيلُ [4] يَأْتِي ذَا الْقَرْنَيْنِ وَيَزُورُهُ،
فَبَيْنَمَا هُمَا [5] يَوْمًا يَتَحَدَّثَانِ، قَالَ ذُو
الْقَرْنَيْنِ: يَا رَفَائِيلُ، حَدَّثَنِي كَيْفَ عِبَادَتُكُمْ فِي
السَّمَاءِ، فَبَكَى رَفَائِيلُ وَقَالَ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ وَمَا
عِبَادَتُكُمْ عِنْدَ عِبَادَتِنَا، إِنَّ فِي السموات من الملائكة
هُوَ قَائِمٌ أَبَدًا لا يَجْلِسُ، وَمِنْهُم السَّاجِدُ لا يَرْفَعُ
رَأْسَهُ أَبَدًا، وَمِنْهُمُ الرَّاكِعُ لا يَسْتَوِي قَائِمًا
أَبَدًا، وَمِنْهُم الرَّافِعُ وَجْهَهُ لا يجلس أبدا، وهم يقولون:
سبحان
__________
[1] الخبر في تهذيب تاريخ ابن عساكر 5/ 256، ومرآة الزمان 5/ 256.
[2] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل.
[3] ما بين المعقوفتين: من مرآة الزمان، وقد نقل هذا الخبر من المنتظم.
(مرآة الزمان 1/ 329) . وراجع أيضا عرائس المجالس 1/ 329.
[4] في المرآة: «اسمه ربائيل» .
[5] في الأصل: «هو» .
(1/289)
الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ رِبِّ الْمَلائِكَةِ
وَالرُّوحِ رَبَّنَا مَا عَبَدْنَاكَ حَقَّ عِبَادِتَكَ. فَبَكَى ذُو
الْقَرْنَيْنِ بُكَاءً شَدِيدًا، ثُمَّ قَالَ: يَا رَفَائِيلُ إِنِّي
لأُحِبُّ أَنْ أَعِيشَ فَأَبْلُغُ مِنْ عِبَادَةِ رَبِّي حَقَّ طاعته.
فقال رفائيل: أو تحبّ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَإِنَّ للَّه
عَيْنَا فِي الأَرْضِ تُسَمَّى عَيْنُ الْحَيَاةِ فِيهَا عَزِيمَةٌ
أَنَّهُ مَنْ شَرِبَ مِنْهَا شَرْبَةً إِنَّهُ لَنْ يَمُوتَ حَتَّى
يَكُونَ هُوَ الَّذِي يَسْأَلُ الْمَوْتَ. قَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ:
فَهَلْ تَعْلَمُونَ أَنْتُمْ مَوْضِعَ تِلْكَ الْعَيْنِ، فَقَالَ
رَفَائِيلُ: لا، غَيْرُ أَنَّنَا نَتَحَدَّثُ فِي السَّمَاءِ أَنَّ
للَّه فِي الأَرْضِ ظُلْمَةٌ لا يَطَؤُهَا إِنْسٌ وَلا جَانٌّ،
فَنَحْنُ نَظُنُّ أَنَّ تِلْكَ الْعَيْنَ هِيَ الَّتِي فِي تِلْكَ
الظُّلْمَةِ، فَجَمَعَ ذُو الْقَرْنَيْنِ حُكَمَاءَ أَهْلِ الأَرْضِ،
وَأَهْلِ دِرَاسَةِ الْكُتُبِ وَآَثَارِ النُّبُوَّةِ، وَقَالَ:
أَخْبِرُونِي هَلْ وَجَدْتُمْ فِيمَا قَرَأْتُمْ مِنْ كُتُبِ اللَّهِ
وَمَا جَاءَكُمْ مِنْ أَحَادِيثَ الأَنْبِيَاءِ، وَحَدِيثِ مِنْ كَانَ
قَبْلَكُمْ مِنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ فِي الأَرْضِ
عَيْنًا سَمَّاهُ عَيْنَ الْحَياةِ؟ فَقَالَتِ الْعُلَمَاءُ: لا،
فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: فَهَلْ وَجَدْتُمْ فِيهَا أَنَّ اللَّهَ
وَضَعَ فِي الأَرْضِ ظُلْمَةً لا يَطَؤُهَا إِنْسٌ وَلا جَانٌّ؟
قَالُوا: لا، فَقَالَ عَالِمٌ [مِنَ] [1] الْعُلَمَاءِ وَاسْمُهُ
أَفْشَنْجِيرُ:
أَيُّهَا الْمَلِكُ لِمَ تَسْأَلُ عَنْ هَذَا؟ فَأَخْبَرَهُ بالحَدِيثِ
وَمَا قَالَ لَهُ رَفَائِيلُ فِي الْعَيْنِ وَالظُّلْمَةِ، فَقَالَ:
أَيُّهَا الْمَلِكُ، إِنِّي قَرَأْتُ وَصِيَّةَ آَدَمَ فَوَجَدْتُ
فِيهَا أَنَّ اللَّهَ وَضَعَ فِي الأرض ظلمة لا يطؤها إنس ولا جان،
فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: فَأَيُّ أَرْضٍ وَجَدْتَهَا فِي الأَرْضِ؟
قَالَ: وَجَدْتَهَا عَلَى قَرْنِ الشَّمْسِ.
فَبَعَثَ ذُو الْقَرْنَيْنِ فِي الأَرْضِ فَحُشِرَ النَّاسُ إِلَيْهِ
الْفُقَهَاءُ وَالأَشْرَافُ وَالْمُلُوكُ، ثُمَّ سَارَ يَطْلُبُ
مَطْلعَ الشَّمْسِ، فَسَارَ إِلَى أَنْ بَلَغَ طَرَفَ الظُّلْمَةَ
ثِنْتَيْ عَشْرَةَ سَنَةً، فَإِذَا الظُّلْمَةُ لَيْسَتْ بِلَيْلٍ
وَظُلْمَةٌ تَفُورُ مِثْلَ الدُّخَانِ، فَعَسْكَرَ ثُمَّ جَمَعَ
عُلَمَاءَ عَسْكَرِهِ، فَقَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْلُكَ هَذِهِ
الظُّلْمَةَ، فَقَالَتِ الْعُلَمَاءُ: أَيُّهَا الْمَلِك، إِنَّهُ مَنْ
كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الأَنْبِياءِ لَمْ يَطْلُبُوا هَذِهِ الظُّلْمَةَ
فَلا تَطْلُبْهَا، فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَتَّفِقَ عَلَيْكَ مِنْهَا
[أَمْرٌ] [2] تَكْرَهُهُ، وَيَكُونُ فِيهَا فَسَادُ الأَرْضِ، فَقَالَ:
مَا بُدٌّ مِنْ أَنْ أَسْلُكَهَا، فَخَرَّتِ الْعُلَمَاءُ سُجَّدًا،
وَقَالُوا: أَيُّهَا الْمَلِكُ كُفَّ عَنْ هَذِهِ الظُّلْمَةِ وَلا
تَطْلُبْهَا فَإِنَّا لَوْ نَعْلَمُ أَنَّكَ إِنْ طَلَبْتَهَا ظَفَرَتَ
بِمَا تُرِيدُ وَلَكِنَا نَخَافُ الْعتبَ مِنَ اللَّهِ، وَيَتَّفِقُ
عَلَيْكَ أَمْرٌ يَكُونُ فِيهِ فَسَادُ الأَرْضِ وَمَا عَلَيْهَا،
فَقَالَ: مَا بُدٌّ مِنْ أَنْ أَسْلُكَهَا، فقالت العلماء: شأنك بها،
فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: أَيُّ الدَّوَابِ بِاللَّيْلِ أَبْصَرُ؟
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل وأوردناها من المرآة 1/ 330.
[2] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل.
(1/290)
قَالُوا: الْخَيْلُ، قَالَ: فَأَيُّهَا
أَبْصَرُ؟ قَالُوا: الإِنَاثُ أَبْصَرُ، قَالَ: فَأَيُّ الإِنَاثِ؟
قَالُوا:
الْبَكَارَةُ.
فَأَرْسَلَ ذُو الْقَرْنَيْنِ فَجُمِعَ لَهُ سِتَّةُ آَلافِ فَرَسٍ
أُنْثَى بَكَارَةً، ثُمَّ انْتَخَبَ مِنْ أَهْلِ عَسْكَرِهِ. أهل الجلد
وَالْعَقْلِ سِتَّةَ آَلافِ رَجُلٍ، فَدَفَعَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ
فَرَسًا، وَعَقَدَ لِلْخَضْرِ عَلَى مُقَدِّمَتِهِ عَلَى أَلْفَيْنِ،
وَكَانَ الْخَضْرُ وَزِيرَ ذِي الْقَرْنَيْنِ، وَهُوَ ابْنُ خَالَتِهِ.
وَبَقِيَ ذُو الْقَرْنَيْنِ فِي أَرْبَعَةِ آَلافٍ، فَقَالَ ذُو
الْقَرْنَيْنِ لِلنَّاسِ: لا تَبْرَحُوا مِنْ عَسْكَرِكُمْ هَذَا
اثْنَتَي عَشْرَةَ سَنَةً فَإِنْ نَحْنُ رَجَعْنَا إِلَيْكُمْ فَذَلِكَ
وَإِلا فَارْجعُوا إِلَى بِلادِكُمْ، فَقَالَ الْخَضْرُ: أَيُّهَا
الْمَلِكُ إِنَّا نَسْلُكُ ظُلَّمَةً لا نَدْرِي كَمُ السَّيْر فِيهَا
وَلا يُبْصِرُ بَعْضُنَا بَعْضًا، فَكَيْفَ نَصْنَعُ بِالضَّلالِ إِذَا
أَصَابَنَا؟
فَدَفَعَ ذُو الْقَرْنَيْنِ إِلَى الْخَضْرِ خَرَزَةً حَمْرَاءَ،
فَقَالَ: حَيْثُ يُصِيبُكَ الضَّلالُ فَاطْرَحْ هَذِهِ الْخَرَزَةِ
إِلَى الأَرْضِ فَإِذَا صَاحَتْ فَلْيَرْجِعْ إِلَيْهَا أَهْلُ
الضَّلالِ. فَسَارَ الْخَضْرُ بَيْنَ يَدَي ذِي الْقَرْنَيْنِ
يَرْتَحِلُ وَنَزَلَ ذُو الْقَرْنَيْنِ وَقَدْ عَرَفَ الخضر مَا
يَطْلُبُ ذُو الْقَرْنَيْنِ، وَذُو الْقَرْنَيْنِ يَكْتُمُ الْخَضْرَ.
فَبَيْنَمَا الْخَضْرُ يَسِيرُ إِذْ عَارَضَهُ وَادٍ، فَظَنَّ
الْخَضْرُ أَنَّ الْعَيْنَ فِي الْوَادِي، فَلَّمَا قَامَ عَلَى
شَفِيرِ الْوَادِي قَالَ لأَصْحَابِهِ: قِفُوا وَلا يَبْرَحَنَّ رَجُلٌ
مِنْ مَوْقِفِهِ، وَرَمَى بِالْخَرَزَةِ في الوادي، فمكث طويلا ثم
أضاءته الْخَرَزَةَ وَطَلَبَ صَوْتَهَا، فَانْتَهَى إِلَيْهَا فَإِذَا
هِيَ على حافة العين، فنزع الخضر ثِيَابَهُ ثُمَّ دَخَلَ الْعَيْنَ،
فَإِذَا مَاءٌ أَشَدُّ بَيَاضًا مِنَ اللَّبَنِ، وَأَحْلَى/ مِنَ
الشَّهْدِ فَشَرِبَ وَاغْتَسَلَ وَتَوَّضَّأَ ثُمَّ خَرَجَ فَلَبِسَ
ثِيَابَهُ ثُمَّ رَمَى بِالْخَرَزَةِ نَحْو أَصْحَابِهِ فَصَاحَتْ،
فَرَجَعَ الْخَضْرُ إِلَى صَوْتِهَا وَإِلَى أَصْحَابِهِ، فَأَخَذَهَا
وَرَكِبَ فَسَارَ. وَمَرَّ ذُو الْقَرْنَيْنِ فَأَخْطَأَ الْوَادِي
فَسَلَكُوا تِلْكَ الظلمة أربعين يَوْمًا وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً،
فَخَرَجُوا إِلَى ضَوْءٍ لَيْسَ بِضَوْءِ شَمْسٍ وَلا قَمَرٍ، وَأَرْضٍ
حَمْرَاءَ، وَرَمْلَةٍ. وَإِذَا قَصْرٌ مَبْنِيٌّ فِي تِلْكَ الأَرْضِ
طَوْلُهُ فَرْسَخٌ فِي فَرْسَخٍ مُسَوَّرٌ لَيْسَ عَلَيْهِ بَابٌ،
فَنَزَلَ ذُو الْقَرْنَيْنِ بِعَسْكَرِهِ ثُمَّ خَرَجَ وَحْدَهُ حَتَّى
دَخَلَ الْقَصْرَ، فَإِذَا حَدِيدَةٌ طَرَفَاهَا عَلَى حَافَّتَي
الْقَصْرِ، وَإِذَا طَائِرٌ أَسْوَدٌ كَأَنَّهُ الْخُطَّافُ أَوْ
شُبِّهَ بِالْخُطَّافِ، مَذْمُومٌ بِأَنْفِهِ إِلَى الْحَدِيدَةِ،
مُعَلَّقٌ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْض فَلَمَّا سَمِعَ الطَّائِرُ
خَشْخَشَةَ ذِي الْقَرْنَيْنِ، قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَنَا ذُو
الْقَرْنَيْنِ، فَقَالَ الطَّائِرُ: يَا ذَا القرنين أما كفاك ما وراءك
حتى وصلت إِلَيَّ، يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ حَدَّثَنِي هَلْ كَثُرَ
الْبِنَاءُ بِالأجُرِ وَالْجُصِّ؟
(1/291)
قَالَ: نَعَمْ. فَانْتَفَضَ الطَّائِرُ
انْتِفَاضَةً ثُمَّ انْتَفَخَ فَبَلَغَ ثُلُثَ الْحَدِيدَةِ، ثُمَّ
قَالَ: هَلْ كَثُرَتْ شَهَادَاتِ الزُّورِ فِي الأَرْض؟ قَالَ: نَعَمْ.
فَانْتَفَضَ الطَّائِرُ ثُمَّ انْتَفَخَ فَبَلَغَ ثُلُثَي
الْحَدِيدَةِ، ثُمَّ قَالَ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ: حَدَّثَنِي هَلْ
كَثُرَتِ الْمَعَازِفُ فِي الأَرْضِ؟ قَالَ: نَعَمْ. فَانْتَفَضَ ثُمَّ
انتفخ فملأ الحديدة وسد ما بَيْنَ جِدَارَيِّ الْقَصْرِ، فَاجْتثَّ [1]
ذُو الْقَرْنَيْنِ فرحًا، فَقَالَ الطَّائِرُ: هَلْ تَرَكَ النَّاسُ
شَهَادَةَ أَنَّ لا إله إِلا اللَّهُ؟ قَالَ: لا، فَانْضَمَّ
الطَّائِرُ ثُلُثًا ثُمَّ قَالَ: هَلْ تُرِكَتِ الصَّلاةُ
الْمَفْرُوضَةُ؟ قَالَ: لا، فَانْضَمَّ الطَّائِرُ ثُلُثًا، ثُمَّ
قَالَ: هَلْ تَرَكَ النَّاسُ غُسْلَ الْجَنَابَةِ، قَالَ: لا، فَعَاد
الطَّائِرُ كَمَا كَانَ ثُمَّ قَالَ: يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ اسْلُكْ
هَذِهِ الدَّرَجَةَ إِلَى أَعْلَى الْقَصْرِ، فَسَلَكَهَا فَإِذَا
سَطْحٌ وَعَلَيْهِ رَجُلٌ قَائِمٌ، فَلَمَّا سَمِعَ خَشْخَشَةَ ذِي
الْقَرْنَيْنِ قَالَ: مَنْ هَذَا؟ قَالَ: أَنَا ذُو الْقَرْنَيْنِ،
قَالَ: يَا ذَا القرنين أما كفاك ما وراءك حتى وصلت إِلَيَّ؟ قَالَ:
وَمَنْ أَنْتَ؟ قَالَ: أَنَا صَاحِبُ الصُّورِ، وَإِنَّ السَّاعَةَ
اقْتَرَبَتْ وَأَنَا أَنْتَظِرُ أَمْرَ رَبِّي أَنِ انْفُخْ
فَأَنْفُخُ. ثُمَّ نَاوَلَهُ حَجَرًا، فَقَالَ: خُذْهَا فَإِنْ شَبِعَ
شَبِعْتَ وَإِنْ جَاعَ جُعْتَ، فَرَجَعَ بِهِ إِلَى أَصْحَابِهِ
فَوَضَعُوا الْحَجَرَ فِي كَفِّهِ وَوَضَعُوا حَجَرًا آَخَرَ
مُقَابِلهُ، فَإِذَا بِهِ يَمِيلُ، فَتَرَكُوا آَخَرَ كَذَلِكَ إِلَى
أَلْفِ حَجَرٍ، فَمَالَ ذَلِكَ الْحَجَرُ بِالْكُلِّ. فَأَخَذَ
الْخَضْرُ [كفا من تراب] [2] وتركه فِي إِحْدَى الْكِفَّتَيْنِ
وَأَخَذَ حَجَرًا مِنْ تِلْكَ الْحِجَارَةِ فَوَضَعَهُ فِي الْكِفَّةِ
الأُخْرَى وَتَرَكَ مَعَهُ كَفًا مِنْ تُرَابٍ فَوَضَعَهُ عَلَى
الْحَجَرِ الَّذِي جَاءَ بِهِ ذُو الْقَرْنَيْنِ، فَاسْتَوَى فِي
الْمِيزَانِ، فَقَالَ الْخَضْرُ: هَذَا مَثَلٌ ضُرِبَ لَكُمْ إِنَّ
ابْنَ آَدَمَ لا يَشْبَعُ أَبَدًا دُونَ أَنْ يُحْثَى عَلَيْهِ
التُّرَابُ كَمَا لَمْ يَشْبَعْ هَذَا الحجر حَتَّى وَضَعْتُ عَلَيْهِ
التُّرَابَ. قَالَ: صَدَقْتَ يَا خَضْرُ لا جَرَمَ، لا طَلَبْتُ
أَثَرًا فِي الْبِلادِ بَعْدِ مَسِيرِي هَذَا، فَارْتَحَلَ رَاجِعًا
حَتَّى إِذَا كَانَ فِي وَسْطِ الظُّلْمَةِ وَطِئَ الْوَادِي الَّذِي
فِيهِ زَبَرْجَدُ، فَقَالَ مَنْ مَعَهُ: مَا هَذَا الَّذِي تَحْتَنَا؟
فَقَالَ ذُو الْقَرْنَيْنِ: خُذُوا مِنْهُ، فَإِنَّهُ مَنْ أَخَذَ
نَدِمَ وَمَنْ تَرَكَ نَدِمَ. فَأَخَذَ قَوْمٌ وَتَرَكَ قَوْمٌ،
فَلَمَّا خَرَجُوا مِنَ الظُّلْمَةِ إِذَا هُوَ بِزَبَرْجَدٍ، فَنَدِمَ
الآَخِذُ وَالتَّارِكُ. ثُمَّ رَجَعَ ذُو الْقَرْنَيْنِ إِلَى دُومَةِ
الْجَنْدَلِ وَكَانَتْ مَنْزِلُهُ فَأَقَامَ بِهَا حَتَّى مَاتَ [3] .
__________
[1] في المرآة: «ففزع» .
[2] ما بين المعقوفتين: من هامش الأصل.
[3] بعد أن نقل سبط بن الجوزي هذا الخبر في المرآة 1/ 331، قال: «ومن
العجائب أن جدي رحمه الله ما ذكر في الموضوعات هذه الحكاية، فإنه قد
ذكر في الموضوعات والواهية أسماء جماعة فيها مثل
(1/292)
قَالَ الْحَسَن البصري: إِن ذا
الْقَرْنَيْنِ كَانَ يركب وعلى مقدمته ستمائة ألف، وعلى ساقته ستمائة
ألف.
كتاب أم الإسكندر إِلَيْهِ [1]
قَالَ كعب الأحبار: إِن أم ذي الْقَرْنَيْنِ كانت حازمة عاقلة، فلما
بلغها أَن ابنها قَدْ فتح المدائن واستعبد الرجال، ودانت لَهُ الملوك
كتبت إِلَيْهِ.
بسم اللَّه الرحمن الرحيم. من روقية أم الإسكندر إِلَى الإسكندر الموتى
لَهُ، الضعيف الّذي بقوة ربه قوي، وبقدرته قهر، وبعزته استعلى، يا
بَنِي لا تدع للعجب فيك مساغا فَإِن ذَلِكَ يرديك، ولا تدع للعظمة فيك
مطمعا فَإِن ذَلِكَ يضعفك، يا بَنِي ذلل نفسك [للذي رفعك] [2] . واعلم
أنك عَنْ قليل محول عما أَنْتَ فِيهِ، يا بَنِي إياك والشح فَإِن الشح
يرديك ويزري بك، وانظر هذه الكنوز الَّتِي جمعتها أَن تعجل حملها إلي
كلها مَعَ رجل مفرد عَلَى فرس أجرد.
فلما ورد عَلَيْهِ الكتاب جمع النَّاس، فَقَالَ: انظروا فيما كتبت أمي
وسألتني فِيهِ:
أَن أرسل بهذه الأموال، فقالوا: وكيف السبيل إِلَى حملها عَلَى فرس؟
فَقَالَ: هل عندكم غير هذا؟ قالوا: لا، فدعا كاتبه فَقَالَ: اكتب كُل
مال جمعته فاحصه واجعله فِي كتاب وبين مواضعها وعدتها، ففعل الكاتب
ثُمَّ ختم الكتاب، وحمل رجل عَلَى فرس، ثُمَّ قَالَ لَهُ: امض بِهَذَا
الكتاب إِلَى أمي، ثُمَّ قَالَ لَهُمْ: إِنَّمَا سألتني أمي أن أبعث
إليها بعلم ما لي أجمع ومواضعها. قَالَ: إِن ذَلِكَ إِلَى اليوم معروف
بالروم فِي بَيْت مملكتهم وبيوت أموالهم يجدُونَ علم ذَلِكَ فِي أرض
كَذَا وكورة كَذَا، وموضع كَذَا وكذا، ومن المال كَذَا
__________
[ () ] إبراهيم بن سعيد الجوزقي، وإسماعيل بن مسعدة، وإسحاق الفروي،
وفي متنها ألفاظ ركيكة جدا، منها: الخرزة، وقد كان الإسكندر أحوج إلى
الخضر منها. وكذا كون الخضر وقع على عين الحياة ولم يخبر بها الإسكندر
وقد علم مقصوده، فكان الخضر خائنا له، وكذا الطائر فإنه الدجال، وهو في
جزائر الهند، وكذا سؤاله عن الصلوات الخمس وغسل الجنابة ونحوها، فإن
هذه الأشياء لم تكن مشروعة في ذلك الوقت.
[1] مختار الحكم 233، ومرآة الزمان 1/ 333.
[2] ما بين المعقوفتين: من مرآة الزمان 1/ 333.
(1/293)
وكذا مِمَّا كنزه الإسكندر، وَكَانَ اللَّه
لَمْ يجعل فِيهِ من الحرص شَيْئًا، وَلَمْ يجمع الدنيا إلا مَا كَانَ
يسر بمن مَعَهُ فيقويهم عَلَى ذَلِكَ، وَكَانَ مسيرة ذَلِكَ رحمة
للمؤمنين.
صفة بناء السد [1]
ذكر أَبُو الْحُسَيْن بْن المنادي عَنِ الموجود فِي أيدي الفرس عَنْ
كتبهم الموروثة: أَن ذا الْقَرْنَيْنِ لما عزم عَلَى المسير إِلَى مطلع
الشمس أخذ عَلَى طريق كابل في الهند وتبت، فتلقته [2] الملوك بالهدايا
العظيمة والتحايا الكريمة والطاعة والأموال إِلَى أَن صار إِلَى
الأَرْض المنتنة السوداء، فقطعها سيرا فِي شَهْر، ثُمَّ جاءته الأدلاء
فانتهوا به إلى الحصون الشامخة والمدن المعطلة من أهلها وَقَدْ بقيت
مِنْهُم فِيهَا بقايا سألوه بأجمعهم أَن يسد عَنْهُمْ الفج الَّذِي
بينهم وبين يأجوج ومأجوج، فسار إِلَيْهِ ونزل بجيشه العظيم الهائل ومعه
الفلاسفة والصناع والحدادُونَ، فاتخذ قدور الحديد الكبار والمغارف
الحديدية، وأمر أن يجعل كُل أربعة من تلك القدور عَلَى ديكدان طول كُل
واحد خمسين ذراعا أَوْ نحوها، وأمر الصناع أَن يضربوا اللبن الحديد،
فاتخذوا النحاس والحديد وأضرموا عليه النار فصارت حجارة لَمْ ير
النَّاس مثلها كأنها تشبه جبل السد. طول كُل لبنة ذراع ونصف بالذراع
الأعظم، وسمكها شبر.
فَمَا زالوا يبنون السد من جانب الجبل، وجعل فِي وسطه بابا عظيما طوله
أقل من عرضه، فالعرض مائة ذراع، كُل مصراع خمسين ذراعا، والطول خمسين
ذراعا، وعليه قفل عظيم نَحْو عشرة أذرع، وفوقه بأذرع غلق أطول من
ذَلِكَ القفل. وكل ذَلِكَ أملس كملاسة الجبل وبلونه.
فذكروا أَنَّهُ لما فرغ من بناء السد أمر بالنار فأضرمت عَلَيْهِ من
أسفله إِلَى أعلاه، فصار معجونا كأنه حجر واحد مثل الجبل سواء، فلما
فرغ من بناءه مال راجعا بَعْد أَن لقي الأمم الَّتِي خلف يأجوج ومأجوج.
قَالَ أَبُو الْحُسَيْن: وبلغني عَنْ خرداذبه، قَالَ: [3] حَدَّثَنِي
سلام الترجمان: أَن
__________
[1] مرآة الزمان 1/ 326، والمسالك والممالك لابن خرداذبه 162- 70.
[2] في الأصل: «فتلقتها» .
[3] المسالك والممالك 162- 170، ومرآة الزمان 1/ 327.
(1/294)
الواثق لما رأى فِي المنام أَن السد
الَّذِي سده ذو الْقَرْنَيْنِ ببناء بَيْنَ يأجوج ومأجوج انفتح وجهني
فَقَالَ: عاينه واتني بخبره، وضم إلي خمسين رجلا ووصلني بخمسة آلاف
دينار وأعطاني ديتي عشرة آلاف درهم، وأمر بإعطاء كُل رجل معي ألف درهم
ورزق ستة أشهر، وأعطاني مائتي بغل يحمل الزاد والماء. فشخصنا من سرمن
رأى بكتاب من الواثق إِلَى إِسْحَاق بْن إِسْمَاعِيل صاحب أرمينية
وَهُوَ بتفليس، فِي إنفاذنا فكتب لنا إِلَى إِسْحَاق صاحب السرير، وكتب
لنا ذاك إِلَى ملك الدان، فكتب لنا إِلَى قلانشاه، فكتب لنا إِلَى ملك
الخرز، [وسرنا من عِنْدَ ملك الخرز] ، يوما وليلة، ثُمَّ وجه معنا
خمسين رجلا أدلاء، فسرنا من عنده خمسة وعشرين يوما، ثُمَّ سرنا إِلَى
أرض سوداء منتنة الريح وَقَدْ كنا تزودنا قبل دخولها طيبا/ نشمه
للرائحة المكروهة، فسرنا فِيهَا عشرة أَيَّام، ثُمَّ صرنا إِلَى مدن
خراب فسرنا فِيهَا سبعة وعشرين يوما فسألنا عَنْ تلك المدن الَّتِي
كَانَ يأجوج ومأجوج طرقوها فخربوها، ثم صرنا إِلَى حصون بالقرب من جبل
السد فِي شعب منه.
وَفِي تلك الحصون قوم يتكلمون بالعربية والفارسية مسلمون يقرءون
الْقُرْآن، لَهُمْ كتاتيب ومساجد، فسألوا: من أين أقبلتم؟ فأخبرناهم
أنا رسل أمِير الْمُؤْمِنيِنَ، فأقبلوا يتعجبون ويقولون: أمِير
الْمُؤْمِنيِنَ!! قلنا: نعم، فَقَالُوا: أشيخ هُوَ أم شاب؟ فقلنا:
شاب، فتعجبوا وَقَالُوا: أَيْنَ يَكُون؟ قلنا: بالعراق فِي مدينة يقال
لها سرمن رأى، فَقَالُوا:
مَا سمعنا بِهَذَا قط.
ثُمَّ سرنا إِلَى جبل أملس لَيْسَ عَلَيْهِ خضراء، وإذا جبل مقطوع بواد
عرضه مائة وخمسون ذراعا [1] ، [وفيه السد] [2] ، وإذا عضادتان مبنيتان
للمشي مِمَّا يلي الجبل من جنبتي الوادي، عرض كُل عضادة خمسة وعشرون
ذراعا الظاهر من تحتها عشرة أذرع خارج الباب، وعليه بناء مكين من حديد
مغيب فِي نحاس فِي سمك خمسين ذراعا. وإذا دروند حديد طرفاه عَلَى
العضادتين، طوله مائة وعشرون ذراعا، قَدْ ركب عَلَى العضادتين، عَلَى
كُل واحد بمقدار عشرة أذرع فِي عرض خمسة أذرع، وَفَوْقَ الدروند
__________
[1] في المرآة: «خمسمائة ذراع وأكثر» .
[2] ما بين المعقوفتين: من المرآة.
(1/295)
بناء بِذَلِكَ الحديد المغيب فِي النحاس
إِلَى رأس الجبل فِي ارتفاعه مد البصر، وَفَوْقَ ذَلِكَ شرف حديد فِي
كُل شرفة قرنان يشير كُل [1] واحد منهما إِلَى صاحبه وإذا بَاب حديد
مصراعين معلقين، عرض كُل مصراع خمسون ذراعا فِي ارتفاع خمسين ذراعا فِي
ثخن خمسة أذرع، وقائمتاهما فِي دوارة فِي قدر، وعلى الباب قفل طوله
سبعة أذرع فِي غلظ ذراع فِي الاستدارة، وارتفاع القفل من الأَرْض خمس
وعشرون ذراعا، وَفَوْقَ القفل بقدر خمس أذرع غلق طوله أَكْثَر من طول
القفل، وقعر، كُل واحد منهما ذراعان، وعلى الغلق مفتاح مغلق طوله ذراع
ونصف، وَلَهُ اثنتا عشرة دندانجة كُل واحد كدستج أكبر مَا يَكُون من
هاوون معلق فِي سلسلة طولها ثمانية أذرع فِي استدارة أربعة أشبار،
والحلقة الَّتِي فِيهَا السلسلة مثل حلقة المنجنيق، وعتبة الباب عشرة
أذرع بسط مائة ذراع سِوَى مَا تَحْتَ العضادتين، والظاهر منها خمس
أذرع، وَهَذَا الذراع كُلهُ بالذراع السوداء.
ورئيس تلك الحصون يركب فِي كُل جمعة فِي عشرة فوارس مَعَ كُل فارس
مرزبة حديد، في كل واحدة خمسون ومائة من، فيضرب القفل بتلك المرزبات
فِي كُل يَوْم مرات ليسمع من نقباء الباب الصوت، فيعلموا أَن هنالك
حفظة، ويعلم هَؤُلاءِ أَن أولئك لَمْ يحدثوا فِي الباب حدثا، وإذا ضرب
أَصْحَابنا القفل وضعوا آذانهم فيسمعون بمن داخل دويا.
وبالقرب من هَذَا الموضع حصن كبير يَكُون وعشرة فراسخ فِي عشر فراسخ
بكسر مائة فرسخ ومع الباب حصنان يَكُون كُل واحد منهما بمائتي ذراع فِي
مائتي ذراع، وعلى بَاب هذين الحصنين شجرتان، وبين الحصنين عين عذبة،
فِي أحد الحصنين آلة البناء الَّذِي كَانَ بَنِي بِهِ السد من القدور
والحديد والمغارف الحديد، عَلَى كُل أنصبة أربع قدور مثل قدور الصابون،
وهنالك بقية من اللبن قَدِ التزق بَعْضهَا ببعض من الصداء، واللبنة
ذراع ونصف فِي سمك شبر.
وسألوا من هنالك: هل رأوا أحدا من يأجوج ومأجوج، فذكروا أنهم رأوا مرة
عددا فَوْقَ الشرف، فهبت ريح سوداء فألقتهم إِلَى جانبهم، فكان مقدار
الرجل مِنْهُم فِي رأي العين شبرا ونصفا.
__________
[1] في الأصل: «قرنان ينثني» . وما أوردناه من الهامش.
(1/296)
قَالَ سلام الترجمان: فلما انصرفنا أخذتنا
الأدلاء إِلَى ناحية خراسان فسرنا إِلَيْهَا حَتَّى خرجنا خلف سمرقند
سبع فراسخ، وَقَدْ كَانَ أَصْحَاب الحصون زودُونَا مَا كفانا، ثُمَّ
صرنا إِلَى عَبْد اللَّه بْن طاهر.
قَالَ سلام: فوصلني بمائة ألف درهم، ووصل كُل رجل معي بخمسمائة درهم.
وأجرى للفارس خمسة دراهم وللراجل ثلاثة دراهم فِي كُل يَوْم إِلَى
الَّذِي. فرجعنا إلى سرمن رأى بعد خروجنا بثمانية وعشرين شهرا.
قَالَ ابْن خرداذبه: فحدثني سلام الترجمان بجملة هَذَا الْخَبَر ثُمَّ
أتليته من كتاب كتبه الواثق.
وَقَدْ رَوَى أَن يأجوج ومأجوج يحفرون السد كُل يَوْم.
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ،
أَخْبَرَنَا، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بن جعفر، أخبرنا عبد الله بن أحمد،
قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، حَدَّثَنَا رَوْحٌ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ
أَبِي عَرُوبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، حَدَّثَنَا أَبُو رافع، عن أبي
هريرة، أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: «إِنَّ
يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ لَيَحْفُرُونَ السَّدَّ كُلَّ يَوْمٍ حَتَّى
إِذَا كَادُوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم ارجعوا
فَسَتَحْفِرُونَهُ غَدَا، فَيَعُودُونَ إِلَيْهِ فَيَرَوْنَهُ أَشَدَّ
مَا كَانَ حَتَّى إِذَا بَلَغَتْ مُدَّتَهُمْ وَأَرَادَ اللَّهُ عَزَّ
وَجَلَّ أَنْ يَبْعَثَهُمْ عَلَى النَّاس حَفَرُوا حَتَّى إِذَا
كَادُوا يَرَوْنَ شُعَاعَ الشَّمْسِ قَالَ الَّذِي عَلَيْهِمْ:
ارْجِعُوا فَسَتَحْفِرُونَ غَدًا إِنْ شَاءَ اللَّهُ، فَيَعُودُونَ
إِلَيْهِ وَهُوَ كَهَيْئَتِهِ حِينَ تَرَكُوهُ، فَيَحْفِرُونَهُ
وَيَخْرُجُونَ عَلَى النَّاسِ، فَيُنَشِّفُونَ الْمِيَاهَ
وَيَتَحَصَّنُ النَّاسُ مِنْهُمْ فِي حُصُونِهِمْ، فَيَرْمُونَ
بِسَهَامِهِمْ نَحْوَ السَّمَاءِ فَتَرْجِعُ وَعَلَيْهَا كَهَيْئَةِ
الدَّمِ، فَيَقُولُونَ: قَهَرْنَا أَهْلَ الأَرْض وَعَلَوْنَا أَهْلَ
السَّمَاءِ. فَيَبْعَثُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَغْفًا فِي
أَقْفَائِهِمْ فَيَقْتُلُهُمْ بِهَا» . فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ
إِنَّ دَوَابَّ الأَرْضِ لَتَسْمَنُ وَتَشْكُرُ مِنْ لُحُومِهِمْ
وَدِمَائِهِمْ» [1] .
أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرحمن بن محمد القزاز، أخبرنا أَحْمَدُ بْنُ
عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، أَخْبَرَنَا أَبُو
__________
[1] الحديث أخرجه أحمد بن حنبل في المسند 2/ 510، 511، وابن كثير في
التفسير 5/ 193، وفي البداية 2/ 112، وابن ماجة 4080، والطبري في
التفسير 16/ 18،
(1/297)
الْحَسَنِ مُحَمَّدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ
بْنِ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ
الْبُحْتِرِيُّ، حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ بِشْرٍ
الدِّمَشْقِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ،
حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ يَزِيدَ بْنِ
جَابِرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ يَحْيَى بْنِ جَابِرٍ، عَنْ عَبْدِ
الرَّحْمَنِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ نُفَيْرٍ، عَنْ أَبِيهِ جُبَيْرِ بْنِ
نُفَيْرٍ، عَنْ النَّوَّاسِ بْنِ سَمْعَانَ الكلابي، قَالَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذكر يَأْجُوجَ
وَمَأْجُوجَ، فَقَالَ: «لَيَسْتَوْقِدُ الْمُسْلِمُونَ مِنْ
جُعَابِهِمْ وَثِيَابِهِمْ وَتَرَاسِيهِمْ وَقِسِيِّهِمْ سَبْعَ
سِنِينَ» .
ذكر أشياء جرت لذي الْقَرْنَيْنِ فِي المسير
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر الْحَافِظ، أَخْبَرَنَا محفوظ بْن
أَحْمَد الفقيه، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِي مُحَمَّد بْن الحسين الجازري،
حَدَّثَنَا المعافى بْن زَكَرِيَّا، حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بْن
مُحَمَّد بْن جَعْفَر الأزدي، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن أَبِي
الدنيا، حَدَّثَنَا القاسم بْن هاشم، حدثنا الحكم بن نافع، حدثنا صفوان
بْن عَمْرو بْن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْد اللَّهِ الخزاعي: أَن ذا
الْقَرْنَيْنِ أتى عَلَى أمة من الأمم لَيْسَ فِي أيديهم شَيْء مِمَّا
يستمتع بِهِ النَّاس من دنياهم وَقَدِ احتفروا قبورا، فَإِذَا أصبحوا
تعهدوا تلك القبور وكنسوها وصلوا عندها، ورعوا البقل كَمَا ترعى
البهائم، وَقَدْ قيض لَهُمْ فِي ذَلِكَ معاش من نبات الأَرْض، فأرسل ذو
الْقَرْنَيْنِ إِلَى ملكهم، فَقَالَ الرسول: أجب الْمَلِك، فَقَالَ:
مَا لي إِلَيْهِ حاجة، فأقبل إِلَيْهِ ذو الْقَرْنَيْنِ فَقَالَ: إني
أرسلت إليك لتأتيني، فَمَا أتيت، فها أنا ذا قَدْ جئتك، فَقَالَ: لو
كانت لي إليك حاجة لأتيتك، فَقَالَ لَهُ ذو الْقَرْنَيْنِ: مَا لي
أراكم عَلَى الحال الَّتِي رأيت، لَمْ أر أحدا من الأمم عَلَيْهَا.
قَالُوا: وَمَا ذاك؟ قال: ليس لكم دنيا ولا شَيْء، أفلا اتخذتم الذهب
والفضة واستمتعتم بها، فقال: إنما كرهنا لأن أحدا لم يعط منها شَيْئًا
إلا تاقت نَفْسه إِلَى أفضل منه، فَقَالَ: مَا بالكم قَدِ احتفرتم
قبورا فإذا أصبحتم تعهدتموها وكنستموها وصليتم عندها، قَالُوا: أردنا:
إِذَا نظرنا إِلَيْهَا وألهتنا الدُّنْيَا منعت قبورنا من الأمل،
قَالَ:
وأراكم لا طعام لكم إلا البقل من الأرض، أفلا اتخذتم البهائم من
الأنعام فاحتلبتموها وذبحتموها واستمتعتم بها، فَقَالُوا: رأينا أَن
فِي نبات الأَرْض بلاغا، ثُمَّ/ بسط ملك تلك الأَرْض يده خلف ذي
الْقَرْنَيْنِ، فتناول جمجمة، فَقَالَ: يا ذا الْقَرْنَيْنِ أتدري من
هَذَا؟
(1/298)
قَالَ: لا، من هُوَ؟ قَالَ: ملك من ملوك
الأَرْض أعطاه اللَّه سلطانا عَلَى أَهْل الأَرْض فغشم وظلم وعتى، فلما
رأى [اللَّه] [1] ذَلِكَ منه حسمه بالموت فصار كالحجر الملقى، قد أحصى
الله عليه عمله حَتَّى يجازيه بِهِ فِي آخرته. ثُمَّ تناول جمجمة
أُخْرَى إِلَيْهِ، فَقَالَ: يا ذا الْقَرْنَيْنِ، هل تدري من هَذَا؟
قَالَ: لا من هَذَا؟ قَالَ: ملك ملكه اللَّه بعده قَدْ كَانَ يرى مَا
يصنع الَّذِي قبله بِالنَّاس من الظلم والغشم التجبر، فتواضع وخشع
للَّه عَزَّ وَجَلَّ وعمل بالعدل فِي أَهْل مملكته، فصار كَمَا ترى
قَدْ أحصى اللَّه عَلَيْهِ عمله حَتَّى يجزيه بِهِ فِي آخرته، ثُمَّ
أهوى إِلَى جمجمة ذي الْقَرْنَيْنِ، [وَقَالَ: وَهَذِهِ الجمجمة تصير
إِلَى مَا صارت إِلَيْهِ هذه الجماجم، فانظر يا عَبْد اللَّهِ مَا
أَنْتَ صانع] [2] ، فَقَالَ لَهُ ذو الْقَرْنَيْنِ: هل لَكَ فِي صحبتي
فأتخذك وزيرا وشريكا فيما أنا فِيهِ من هَذَا المال، فَقَالَ:
مَا أصلح أنا وأنت فِي مكان، قَالَ: وَلَمْ؟ قَالَ: من أجل أَن النَّاس
كلهم لَكَ عدو ولي صديق، قَالَ: وَلَمْ ذَلِكَ؟ قَالَ: يعادُونَك لما
فِي يدك من الْمَلِك ولا أجد أحدا يعاديني لرفضي ذَلِكَ فانصرف عَنْهُ
ذو الْقَرْنَيْنِ [3] .
وذكروا أَن ذا الْقَرْنَيْنِ لما رجع عَنْ سلوك الظلمة قصد بلاد
خراسان، فلما صار إِلَى نهر بَلْخ هاله أمره، فأمرهم بشق الخشب الغلاظ
وترقيقها، ثُمَّ أمر الحدادين فضربوا المسامير ثم أمر بثلاثمائة سفينة
فصنعت، وأمر بحبال من ليف وبحبال من قنب فنصعت غلاظا طوالا، فأمر ببناء
[جسر] [4] من جانبي النهر وشدت تلك الحبال منهما ممدودا عَلَى الماء
عرضا، وجعلت السفن جسرا بَيْنَ الحبال فِي صدور السفن وَفِي إعجازها
لتمسكها، ثُمَّ أمر بالخشب فقطع بمقدار عرض السفن، وقصدت سقفا، وهيل
عَلَيْهِ التراب ولب بالماء حَتَّى اطمأن ونشف، فلما أمكن العبور
عَلَيْهِ عبره بجيوشه سائرا إِلَى قومس، فاشتكى فأخذه الرعاف حَتَّى
مَات فِي طريقه، وَقَدْ كَانَ حِينَ بلغ الصين أمر بمدن كثيرة فبنيت
هنالك، فمنها: الدبواسية، وحمدان، وشيرك، وبرج الحجارة، وَكَذَلِكَ أمر
حِينَ بلغ الهند فبنى هنالك مدينة سرنديب، وَلَهُ غَيْر هذه الأبنية
فِي النواحي التي طافها.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من المرآة.
[2] ما بين المعقوفتين: من المرآة.
[3] الخبر في مرآة الزمان 1/ 332، ومختار الحكم 238- 239.
[4] ما بين المعقوفتين: من مرآة الزمان 1/ 334.
(1/299)
أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ،
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِي بْن الْمُذَهَّبِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ
جَعْفَرِ بْنِ حَمْدَانَ، أخبرنا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ
حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، قَالَ: حَدَّثَنِي الْحَسَنُ بْنُ
يَحْيَى مِنْ أَهْلِ مَرْوٍ، حَدَّثَنَا أَوْسُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ بُرَيْدَةَ، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَخِي سَهْلُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ
بْنِ بُرَيْدَةَ، عَنْ أبيه، عن جده بريدة، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
«سَيَكُونُ بَعْدِي بُعُوثٌ كَثِيرَةٌ فَكُونُوا فِي بَعْثِ
خُرَاسَانَ، ثُمَّ أنْزِلُوا مَدِينَةَ مَرْوٍ، فَإِنَّهُ بَنَاهَا ذُو
الْقَرْنَيْنِ وَدَعَا لَهَا بِالْبَرَكَةِ وَلا يُضَرُّ أَهْلَهَا
بِسُوءٍ» [1]
. ذكر وفاته
قَدْ روينا أَن الخضر شرب من عين الحياة، وفاتت ذا الْقَرْنَيْنِ فزعم
أقوام أَنَّهَا لما فاتته اغتم، فَقَالَ لَهُ الحساب: لا تحزن إنا نرى
لَكَ مدة وإنك لا تموت إلا عَلَى أرض من حديد، وسماء من خشب، فانصرف
راجعا يريد الروم، فأقبل يدفن كنوز كُل أرض بها، ويكتب ذكر ذَلِكَ
ومبلغ مَا دفن وموضعه وحمل الكتاب مَعَهُ حَتَّى بلغ بابل فرعف وَهُوَ
فِي مسير فسقط عن دابته، فبسط له درع، وكانت الدرع إذ ذاك صفائح، فنام
عَلَى تلك الدرع، فآذته الشمس، فدعوا ترسا فأظلوه تطرفا، فَإِذَا هُوَ
مضطجع عَلَى حديد وفوقه خشب، فَقَالَ: هذه أرض من حديد وسماء من خشب،
فأيقن الْمَوْت.
ذكر كتابه إِلَى أمه يعزيها عَنْ نَفْسه [2]
أَنْبَأَنَا ثابت بْن يَحْيَى بْن بندار، قَالَ: أَخْبَرَنِي أَبِي،
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِي الحسن بن الحسين بن دوما، أخبرنا مخلد بْن
جَعْفَر بْن مخلد الباقرجي، أَخْبَرَنَا الْحَسَن بْنُ عَلِيٍّ
الْقَطَّانُ، أَخْبَرَنَا إِسْمَاعِيلُ بْنُ عِيسَى العطار،
أَخْبَرَنَا أَبُو حذيفة إِسْحَاق بْن بشر القرشي، عن عبد الله بن
زياد، قال: حَدَّثَنِي بَعْض من قرأ الكتب: أَن ذا القرنين لما رجع من
__________
[1] الحديث أخرجه أحمد بن حنبل في المسند 5/ 357، وأبو نعيم في دلائل
النبوة 196، وابن حبان في المجروحين 1/ 345، وأورده الهيثمي في مجمع
الزوائد 10/ 64، وأورده المصنف في العلل 1/ 308، 309.
[2] مرآة الزمان 1/ 335، ومختار الحكم 239.
(1/300)
مشارق الأَرْض ومغاربها بلغ أرض بابل فمرض
مرضا شديدا أشفق من مرضه أَن يموت بعد ما دوخ البلاد وجمع الأَمْوَال،
فنزل بابل فدعا كاتبه، فَقَالَ: خفف عَلِي فِي الموتة بكتاب تكتبه
إِلَى أمي تعزيها بي، واستعن ببعض علماء أَهْل فارس، ثُمَّ اقرأه
[عَلِي] [1] . فكتب الكتاب.
بسم اللَّه الرحمن الرحيم، من الإسكندر بْن قيصر رفيق أَهْل الأَرْض
بجسده قليلا، ورفيق أَهْل السماء بروحه طويلا إِلَى أمه روقية ذَات
الصفاء الَّتِي لَمْ تمتع بثمرتها فِي دار القرب، وَهِيَ مجاورته عما
قليل فِي دار البعد، يا أمتاه، يا ذَات الحكمة [2] أسألك برحمتي وودي
وولادتك إياي، هل وجدت لشيء قرارا باقيا وخيالا دائما، ألم تري إلى
الشجرة كيف تنضر أغصانها وتخرج ثمرتها وتلتف أوراقها ثُمَّ لا يلبث
الغصن أَن يتهشم والثمر أَن يتساقط، والورق أَن يتباين؟! ألم تري النبت
الأزهر يصبح نضيرا ثُمَّ يمسي هشيما؟! ألم تري إِلَى النهار المضيء
ثُمَّ يخلفه الليل المظلم؟! ألم تري إِلَى القمر الزاهر ليلة بدره
كَيْفَ يغشاه الكسوف؟! ألم تري إِلَى شهب النار الموقدة مَا أوشك مَا
تخمد؟! ألم تري إِلَى عذب المياه الصافية مَا أسرعها إِلَى البحور
المتغيرة؟! ألم تري إِلَى هَذَا الخلق كَيْفَ يعيش فِي الدُّنْيَا قَدِ
امتلأت منه الآفاق، واستعلت بِهِ الأشياء، وولهت بِهِ الأبصار
والقلوب؟! إِنَّمَا هما شيئان: إِمَّا مولود وإما ميت، كلاهما مقرون
بالفناء، ألم تري أَنَّهُ قيل لهذه الدار روحي بأهلك فإنك لست لَهُمْ
بدار؟! يا واهبة الْمَوْت [3] ، ويا موروثة الأحزان، ويا مفرقة بَيْنَ
الأحبة، ويا مخربة العمران، ألم تري إِلَى كُل مخلوق يجري عَلَى مَا لا
يدري؟ هل رأيت يا أماه معطيا لا يأخذ، ومقرضا لا يتقاضى، ومستودعا لا
يسترد وديعته؟! يا أماه إِن كَانَ أحد بالبكاء حقيقا فلتبك السماء
عَلَى نجومها، ولتبك الحيتان عَلَى بحورها وليبك الجو عَلَى طائره،
ولتبك الأَرْض عَلَى أولادها والنبت الَّذِي يخرج منها، وليبك
الإِنْسَان عَلَى نَفْسه الَّتِي تموت فِي كُل ساعة وعند كُل طرفة. يا
أمتاه إِن الْمَوْت لا يعتقني [4] من أجل أني كنت عارفا أَنَّهُ نازل
بي، فلا
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من الهامش.
[2] في المرآة: «يا ذات الحلم» .
[3] في المرآة: «يا والدة الموت» .
[4] في المرآة: «الموت لا يدعني من أجل» .
(1/301)
يتعبك الحزن فإنك لَمْ تكوني جاهلة بأني من
الَّذِينَ يموتون. يا أمتاه إني كتبت كتابي هَذَا وأنا أرجو أَن تعتبري
بِهِ ويحسن موقعه منك، فلا تخلفي ظني ولا تحزني روحي، يا أمتاه إني
قَدْ علمت يقينا أَن الَّذِي أذهب إِلَيْهِ خير من مكاني الّذي أنا
فيه، وأطهر من الهموم والأحزان والأسقام والنصب والأمراض فاغتبطي لي
بمذهبي، واستعدي لاتباعي، يا أمتاه إِن ذكري قَدِ انقطع من الدنيا
وَمَا كنت أذكر بِهِ من الْمَلِك والرأي، فاجعلي لي من بعدي ذكرا أذكر
بِهِ فِي حلمك وصبرك والرضا [بِمَا يَقُول الحكماء، يا أمتاه إِن
النَّاس سينظرون إِلَى هَذَا منك وَهُمْ راض وكاره ومستمع وقائل،
فأحسني إلي وإلى نفسك فِي ذَلِكَ، يا أمتاه السَّلام فِي هَذَا الدار
قليل زائل فليكن عليك] [1] وَعَلَيْنَا فِي دار الأزل السَّلام الدائم.
فتفكري بفهم وديعة نفسك أَن تكوني شبه النِّسَاء فِي الجزع كَمَا كنت
لا أرضى شبه الرجال فِي الاستكانة والضعف، وَلَمْ يكن ذَلِكَ يرضيك
فِي.
ثُمَّ مَات رحمه اللَّه.
وَفِي رواية أَنَّهُ كَانَ فِي كتابه إِلَيْهَا: [يا أماه] [2] اصنعي
طعاما واجمعي من قدرت عَلَيْهِ من نساء أَهْل المملكة، ولا يأكل طعامك
من أصيب بمصيبة. فصنعت طعاما وجمعت النَّاس وَقَالَتْ: لا يأكل من أصيب
بمصيبة قط، فلم يأكل أحد، فعلمت مَا أراد [3] .
فلما حمل تابوته إِلَيْهَا تلفتت بعظماء أَهْل المملكة، فلما رأته
قَالَتْ: يا ذا الَّذِي بلغ السماء حلمه وجاز أقطار الأَرْض ملكه،
ودانت الملوك عنوة لَهُ، مَالِك/ اليوم نائما لا تستيقظ، وساكتا لا
تتكلم، من بلغك عني بأنك وعظتني فاتعظت، وعزيتني فتعزيت، فعليك
السَّلاَم حيا وميتا. ثُمَّ أمرت بدفنه [4] .
واختلف فِي قدر عمره، فذكر عَنْ أَهْل الكتاب أَنَّهُ عاش ثلاثة آلاف
سنة. وذكر أبو بكر بن أبي خيثمة أنه عاش ألفا وستمائة سنة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل وأوردناه من المرآة.
[2] ما بين المعقوفتين: من المرآة.
[3] مرآة الزمان 1/ 336، ومختار الحكم 242.
[4] مرآة الزمان 1/ 336، ومختار الحكم 241.
(1/302)
فأما من يَقُول عاش نحوا من أربعين سَنَة
فإنما اشتبه عَلَيْهِ بالإسكندر اليوناني، وَذَلِكَ يَأْتِي ذكره بَعْد
يُونُس عَلَيْهِ السَّلام.
ومن الحوادث وفاة الخليل صلوات اللَّه عَلَيْهِ وسلامه [1]
لما أراد اللَّه عَزَّ وَجَلَّ قبض إِبْرَاهِيم أمر ملك الْمَوْت أَن
يتلطف لَهُ.
فروى السدي عَنْ أشياخه، قَالَ: كَانَ إِبْرَاهِيم يطعم النَّاس
ويضيفهم، فبينا هُوَ يطعم النَّاس إِذَا هُوَ بشيخ كبير يمشي فِي الحر،
فبعث إِلَيْهِ بحصان فركبه حَتَّى إِذَا أتاه أطعمه، فجعل الشيخ يأخذ
اللقمة يريد أَن يدخلها فاه فيدخلها فِي عينه وأذنه ثُمَّ يدخلها فاه،
فَإِذَا دخلت جوفه خرجت من دبره، وَكَانَ إِبْرَاهِيم قَدْ سأل ربه أَن
لا يقبض روحه حَتَّى يَكُون هُوَ الَّذِي يسأله الْمَوْت. فَقَالَ
إِبْرَاهِيم للشيخ: مَا بالك يا شيخ تصنع هَذَا؟
قَالَ: يا إِبْرَاهِيم الكبر، قَالَ: ابْن كم أَنْتَ؟ قَالَ: فزاد
عَلَى عُمَر إِبْرَاهِيم سنتين، فَقَالَ إِبْرَاهِيم: إِنَّمَا بيني
وبينك سنتان، فإذا بلغت ذَلِكَ صرت مثلك، قَالَ: نعم، قَالَ
إِبْرَاهِيم: اللَّهمّ أقبضني إليك، فقام الشيخ فقبض نَفْسه [2] .
واختلفوا فِي قدر عُمَر إِبْرَاهِيم، فَقَالَ قوم: مائتا سَنَة.
وَقَالَ آخرون: مائة وخمس وسبعون. ودفن عِنْدَ قبر سارة فِي مزرعة
حبرون.
__________
[1] تاريخ الطبري 1/ 312، وعرائس المجالس 97، وتهذيب تاريخ ابن عساكر
2/ 160، والبداية والنهاية 1/ 173 ومثير الغرام 176، ومرآة الزمان 1/
305.
[2] في الأصل: «فقبض نفسه» والتصحيح من الهامش والطبري.
والخبر في تاريخ الطبري 1/ 312.
(1/303)
|