المنتظم في تاريخ الأمم والملوك

ثُمَّ دخلت سنة ست عشرة
فمن الحوادث فيها فتح مدينة بهرسير [1]
أخبرنا القزاز، قال: أخبرنا الخطيب، قال [2] : والمدائن على جانبي دجلة شرقا وغربا، ودجلة تشق بينهما، وتسمى المدينة الشرقية العتيقة، وفيها القصر الأبيض القديم الذي لا يدرى من بناه، ويتصل بها المدينة التي كانت الملوك تنزلها، وفيها الإيوان وتعرف بأسبانير. وأما المدينة الغربية فتسمى بهرسير، وكان الإسكندر قد بنى بالمغرب الإسكندرية، وبخراسان العليا سمرقند ومدينة الصغد، وبخراسان السفلى مرو، وهراة، وجال في الأرض، فلم يختر منزلا سوى المدائن فنزلها. وبنى بها مدينة عظيمة، وجعل عليها سورًا أثره باق إلى الآن، وهي المدينة التي تسمى الرومية في جانب دجلة الشرقي، وأقام الإسكندر بها ومات، فحمل منها إلى الإسكندرية لمكان أمه. وكل الملوك اختاروا المدائن، وإنما سميت المدائن لكثرة من بنى بها من الملوك الأكاسرة. والذي بنى الإيوان هو شابور بن هرمز المعروف بذي الأكتاف، وكان ملكه اثنتين وسبعين سنة.
/ قال علماء السير: أمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه سعد بن أبي وقاص بعد القادسية بالمسير إلى المدائن، وعهد إليه أن يخلف النساء والعيال بالعتيق، ويجعل معهم من يحرسهم من الجند ويسهم لأولئك الجند من المغنم ما داموا يحفظون عيال
__________
[1] في الأصول: «نهر سير» ، وما أوردناه عن كتب التاريخ.
[2] تاريخ بغداد 1/ 128.

(4/203)


المسلمين، فأقام سعد بعد الفتح شهرين بالقادسية، ثم ارتحل بعد الفراغ من أمرها لأيام بقين من شوال، ولقي جماعة من أصحابه جموعا من فارس يوم برس فهزموهم إلى بابل، فلحقوهم فقتلوا منهم.
وأقام سعد ببابل أياما ثم جاء إلى كوثى، وأتى المكان الذي حبس فيه إبراهيم عليه السلام، وقدم سعد زهرة بن الحوية إلى بهرسير، فتلقاه شيرزاد بساباط بالصلح وتأدية الجزية، فبعثه إلى سعد، ولحق سعد بزهرة فنزلوا بهرسير، وبث سعد الخيل فأغارت ما بين دجلة إلى من له عهد من أهل الفرات، فأصابوا مائة ألف فلاح، فكتب بذلك إلى عمر، فكتب عُمَر: إذا كان الفلاحون مقيمون لم يعينوا عليكم فهو أمانهم، ومن هرب فأدركتموه فشأنكم بِهِ.
فخلى سبيلهم، وتحصنت العجم بيهرسير، ونصب عليهم سعد عشرين منجنيقا.
وحصروهم شهرين حتى أكلوا الكلاب والسنانير، وربما خرج الأعاجم يمشون على المسنيات [1] المشرفة على دجلة لقتال المسلمين فلا يقومون لهم، [ثم تجردوا يوما للحرب، فقاتلهم المسلمون فلم يثبتوا لهم] [2] ، فنزلوا، ووقع سهم في زهير بن الحياة، فقال زهرة: أخرجوه، فقال: دعوني فإن نفسي معي ما دام في لعلي أصيب منهم بطعنة أو ضربة أو خطوة، فمضى نحو العدو، فضرب بسيفه شهربراز فقتله، ثم أحيط به فقتل.
كل هذا وملكهم متحصن في مدينة، فبعث إلى المسلمين رسولا يقول لهم: إن الملك يقول لكم هل لكم في المصالحة على أن لنا ما يلينا من دجلة وجبلنا، ولكم ما يليكم من دجلة إلى جبلكم؟ أما شبعتم لا أشبع الله بطونكم. فكلمه الأسود بن/ قطبة بكلمات فولى فقيل له: ما قلت له؟ قال: والله ما أدري وإنما هي كلمات جرت على لساني.
فخرج من القوم رجل يستأمن، فأمنوه، فقال: والله ما بقي في المدينة أحد فما يمنعكم، فتسورها الرجال وقالوا له: لأي شيء هربوا؟ فقال: بعث الملك يعرض عليكم الصلح فأجبتموه بأنه لا يكون بيننا وبينك صلح حتى نأكل من عسل أفريذين بأترج كوثى.
__________
[1] المسناة: ضفيرة تقام على النهر لترد الماء.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وورد مكانه: «فلم يلثوهم» .

(4/204)


فلما دخل سعد والمسلمون بهرسير- وهي المدينة الدنيا- طلبوا السفن ليعبروا إلى المدينة القصوى، وهي المدائن، فلم يقدروا على شيء ووجدوا القوم قد ضموا السفن ولاح للمسلمين الأبيض [1] ، فكبروا وقالوا: هذا أبيض كسرى، هذا ما وعد الله ورسوله.
فأقاموا ببهرسير أياما من صفر، ثم جاء أعلاج، فدلوهم على مخاضة، فتردد سعد في ذلك، ثم فاجأهم المد، فرأى رؤيا، أن خيول المسلمين قد اقتحمت، فعبرت، فقال للناس: إني قد عزمت عَلَى قطع هذا البحر إليهم، فقالوا: عزم الله لنا ولك على الرشد، فافعل.
وأتى بعض العلوج فقال لسعد: إن أقمت ثلاثا ذهب يزدجرد بكل شيء من المدائن، فهيجه عَلَى العبور.
فقال سعد: من يبدأ ويحمي لنا الفراض حتى تتلاحق به الناس لكيلا يمنعوهم من الخروج؟ فانتدب له عاصم بن عمرو أول الناس، وانتدب معه ستمائة من أهل النجدات، فسار فيهم عاصم حتى وقف على شاطئ دجلة، ثم اقتحموا. فجاءت الأعاجم فقال عاصم: الرماح، فطعنوا القوم فلحقوهم فقتلوا عامتهم. فحينئذ أذن سعد للناس في الاقتحام، فاقتحموا دجلة، وإنها لترمى بالزبد، وإن الناس ليتحدثون في عومهم كما يتحدثون على وجه الأرض، فكان الفرس يقوم براكبه، فربما لم يبلغ الماء الحزام، وربما أعيا الفرس فتظهر له تلعة فيستريح عليها.
وكان سعد يقول في عومه: حسبنا الله ونعيم الوكيل، وسلمان يحادثه في عومه حتى خرجوا فلم يفقدوا شيئا، ولم يغرق إلا رجل وقع من فرسه في الماء، فعاد إليه رجل، فأخذ بيده فعبر. ووقع من رجل قدح، فأخذه آخر، فجاء به إلى/ العسكر فعرفه صاحبه.
فلما رأى العدو ذلك هربوا لا يلوون على شيء، وجعلوا يقولون: إنما تقاتلون
__________
[1] قال ياقوت: «الأبيض قصر الأكاسرة بالمدائن، كان من عجائب الدنيا، لم يزل قائما إلى أيام المكتفي في حدود سنة 290» .

(4/205)


الجن لا الإنس، وتركوا جمهور أموالهم، وكان في بيوت الأموال ثلاثة ألف ألف، فأخذوا نصف ذلك وهربوا وتركوا [الباقي، وخرجوا من المتاع بما يقدرون عليه، وتركوا] من الثياب والمتاع والأواني، وما أعدوا للحصار من البقر والغنم والطعام ما لا يحصى قيمته. وكان يزدجرد قد أخرج عياله إلى حلوان، فلحق بعياله، فدخل المسلمون المدائن وليس فيها أحد إلا أنه قد بقي في القصر الأبيض قوم قد تحصنوا به، فعرض عليهم المسلمون الإسلام أو الجزية أو القتل، فاختاروا الجزية.
ونزل سعد القصر الأبيض، واتخذ الإيوان مصلى، وجعل يقرأ: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ. [وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ. وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ. كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها] قَوْماً آخَرِينَ 44: 25- 26- 27- 28 [1] . وأتم الصلاة، ثُمَّ دخلها لأنه كان على نية الإقامة، وصلى الجمعة، وكانت أول جمعة جمعت بالعراق جمعة المدائن.
[أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أحمد بن علي الْحَافِظُ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ عُمَرَ بْنِ بُرْهَانَ، وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُعَدَّلُ، قَالا: أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحَمَد الدَّقَّاقُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَوْفٍ الْبُزُورِيُّ، حدّثنا عمرو بن حماد [يعني بن طَلْحَةَ الْقَنَّادُ] [2] ، حَدَّثَنا أَسْبَاطٌ، عَنْ سِمَاكٍ] [3] ، عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: «لَيَفْتَتِحَنَّ رَهْطٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَنْزَ كِسْرَى الَّذِي فِي الأَبْيَضِ» . فَكُنْتُ أَنَا وَأَبِي مِنْهُمْ، فَأَصَبْنَا مِنْ ذَلِكَ أَلْفَيْ دِرْهَمٍ [4] . [أَخْبَرَنَا أبو منصور القزاز، قَالَ: أَخْبَرَنَا أحمد بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا ابْنُ رِزْقٍ، حَدَّثَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْمُزَكِّي، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ إِسْحَاقَ السَّرَّاجُ، حَدَّثَنَا سَعْدَانُ بْنُ نَصْرٍ حَدَّثَنَا شَبَابَةُ بْنُ سِوَّارٍ، حَدَّثَنَا أَيُّوبُ بن طهمان] :
__________
[1] سورة: الدخان، الآية: 25- 28.
[2] ما بين المعقوفتين: من تاريخ بغداد.
[3] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن جابر» .
[4] تاريخ بغداد 1/ 186.

(4/206)


أَنَّهُ رَأَى عَلِيَّ] [1] بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حِينَ دَخَلَ الإِيوَانَ بِالْمَدَائِنِ أَمَرَ بالتماثيل التي في القبلة فقطع رءوسها ثُمَّ صَلَّى فِيهَا
. فصل [في ذكر قسم الفيء الذي أصيب بالمدائن] [2]
قال علماء السير: وقسم سعد الفيء بعد ما خمسه، فأصاب الفارس اثنا عشر ألفا، وقسم دور المدائن بين الناس، وبعث إلى العيالات فأنزلوهم إياها، وأقاموا بالمدائن حين فرغوا من جلولاء وحلوان وتكريت والموصل، ثم تحولوا إلى الكوفة بعد.
وبعث سعد في آثار القوم زهرة في جماعة، وأمره أن يبلغ جسر النهروان، فبلغوا هناك ثم رجعوا، ومضى المشركون نحو حلوان.
[أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قالا: أخبرنا ابن النقور، أخبرنا المخلص، أخبرنا أحمد بن عبد الله بن سَيْفٍ، أَخْبَرَنَا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ النضر بن السري، عن ابن الرفيل] [3] ، عن أبيه الرفيل، قال [4] :
خرج زهرة/ يتبعهم حتى انتهى إلى جسر النهروان وهم عليه، فازدحموا عليه، فوقع بغل في الماء، فكلبوا عليه، فقال زهرة: إني أقسم باللَّه أن لهذا البغل لشأنا، وإلا ما كان القوم كلبوا عليه [5] ولا صبروا للسيوف بهذا الموقف الضنك [إلا لشيء بعد ما أرادوا تركه] [6] ، وإذا الذي عليه حلية كسرى وثيابه وخرزاته ووشاحه، ودرعه التي كان فيه الجوهر، وكان يجلس فيها للمباهاة، وترجل زهرة يومئذ حتى إذا أزاحهم أمر
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل روى المؤلف بإسناده أن علي بن أبي طالب.
[2] تاريخ الطبري 4/ 20.
[3] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن الرفيل» .
[4] الخبر في تاريخ الطبري 4/ 17.
[5] في أ، والطبري: «لشأنا ما كلب القوم عليه» .
[6] ما بين المعقوفتين: من الطبري.

(4/207)


أصحابه بالبغل فاحتملوه، فأخرجوه فجاءوا بما عليه حتى ردوه إلى الأقباض، ما يدرون ما عَلَيْهِ.
[وعن سيف، عن الأعمش] [1] ، عن حبيب بن صهبان، قال: دخلنا المدائن فأتينا على قباب تركية مملوءة سلالا مختمة بالرصاص، فما حسبناها إلا طعاما، فإذا هي آنية الذهب والفضة، فقسمت بعد في الناس [2] .
[وقال حبيب] [3] : وقد رأيت الرجل يطوف ويقول: من معه بيضاء بصفراء؟ وأتينا على كافور كثير، فَما حسبناه إلا ملحا، فجعلنا نعجن به حتى وجدنا مرارته في الخبز.
[قال: وحدثنا سيف، عن عبدة بن معتب، عن رجل من بني الحارث بن طريف] [4] ، عن عصمة بن الحارث الضبي، قال:
خرجت فيمن خرج يطلب، فإذا حمار معه حمار، فلما رآني حثه حتى لحق بآخر قدامه، فحثا حماريهما، فانتهيا إلى جدول قد كسر جسره، فأتيتهما فقتلت واحدا منهما وأفلت الآخر، فرجعت إلى الحمارين، فأتيت بهما صاحب الأقباض، فنظر ما عليهما فإذا على أحدهما سفطان في أحدهما فرس من ذهب مسرج بسرج فضة، على ثغره ولببه الياقوت والزمرد منظوم على الفضة، ولجام كذلك، وفارس من فضة مكلل بالجوهر، وإذا في الآخر ناقة من فضة عليها شليل من ذهب وبطان من ذهب، ولها زمام من ذهب، وكل ذلك منظوم بالياقوت، وإذا عليها رجل من ذهب مكلل بالجوهر كان كسرى يضعهما على أسطوانة التاج.
[قال: وحدثنا سيف، عن هبيرة بن الأشعث] [5] ، عن أبي عبيدة العنبري، قال:
/ لما هبط [6] المسلمون المدائن، وجمعوا الأقباض، أقبل رجل بحقّ معه،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن حبيب» .
[2] الخبر في الطبري 4/ 17.
[3] ما بين المعقوفتين: من الطبري.
[4] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «وعن عصمة بن الحارث» .
[5] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «وعن أبي عبيدة العنبري» .
[6] في الأصل: «فلما أهبط» .

(4/208)


فدفعه إلى صاحب الأقباض، فقال [1] الذي معه ما رأينا مثل هذا قط، ما يعدله ما عندنا ولا يقاربه، فقالوا له: هل أخذت منه شيئا، فقال: أما والله، لولا الله ما أتيتكم به، فعرفوا أن للرجل شأنا، فقالوا: من أنت؟ فقال: والله ما أخبركم لتحمدوني، ولا غيركم ليقرظوني، ولكني أحمد الله وأرضى بثوابه. فأتبعوه رجلا حتى انتهى إلى أصحابه، فسأل عنه، فإذا هو عامر بن عبد قيس.
[قَالَ: وَحَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ مُبَشِّرِ بْنِ الْفُضَيْلِ] [2] ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ [3] :
وَاللَّهِ الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ، مَا أُطْلِعْنَا عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْقَادِسِيَّةِ، أَنَّهُ يُرِيدُ الدُّنْيَا مَعَ الآخِرَةِ، وَلَقَدِ اتَّهَمْنَا ثَلاثَةَ نَفَرٍ، فَمَا رَأَيْنَا كَمَا هَجَمْنَا عَلَيْهِ مِنْ أَمَانَتِهِمْ وَزُهْدِهِمْ:
طُلَيْحَةَ بْنَ خُوَيْلِدٍ، وعمرو بن معديكرب، وَقَيْسَ بْنَ الْمَكْشُوحِ.
[قَالَ: وَحَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ مَخْلَدِ بْنِ قَيْسٍ الْعجلِيِّ، عَنْ أَبِيهِ،] [4] قَالَ: لَمَّا قُدِمَ بِسَيْفِ كِسْرَى وَمَنْطِقَتِهِ عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنَّ أَقْوَامًا أَدَّوْا هَذَا لَذَوُو أَمَانَةٍ، فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: إِنَّكَ عَفَفْتَ فَعَفَّتِ الرَّعِيَّةُ. [وقال: وحدثنا سيف] [5] ، عن محمد وطلحة وزياد والمهلب، قالوا [6] : جمع سعد الخمس، وأدخل فيه كل شيء أراد أن يعجب به عمر، من ثياب كسرى وحليه وسيفه ونحو ذلك، وفضل بعد القسم بين النّاس، وأخرج خمس القطف، وهو بساط، فلم تعتدل قيمته، فقال للمسلمين: هل لكم في أن تطيب أنفسنا عن أربعة أخماس، ونبعثه إلى عمر فيضعه حيث يرى، قالوا: نعم، فبعث به وكان ستين ذراعًا في ستين ذراعا، فيه طرق كالأنهار، وقصور كالدور، وفي حافاته كالأرض المزروعة المبقلة [بالنبات] [7] في
__________
[1] في الأصل: «فقالوا» .
[2] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «وعن جابر» .
[3] تاريخ الطبري 4/ 19.
[4] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «وعن قيس العجليّ» .
[5] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «وعن محمد» .
[6] تاريخ الطبري 4/ 21.
[7] ما بين المعقوفتين: من الطبري.

(4/209)


الرَّبيع. فلما قدم على عمر رضي الله عنه، قال: أشيروا علي فيه، قالوا: قد جعل ذلك لك فر رأيك، إلا ما كان من علي رضي الله عنه، فإنه قال: يا أمير المؤمنين، الأمر كما قالوا: ولم يبق إلا التروية، إنك إن تقبله على هذا اليوم لم تعدم في غد من يستحق به ما ليس لَهُ، فقال: صدقتني، فقطعه بينهم.
[قال: وحدثنا سيف] [1] ، عن عبد الملك بن عمير، قال: أصاب المسلمون يوم المدائن بهار كسرى، وكانوا يعدونه للشتاء إذا ذهبت الرياحين، فكانوا إذا أرادوا الشرب شربوا عليه، فكأنهم في رياض وكان بساط واحد ستين ذراعا في ستين، أرضه مذهب، ووشيه بفصوص، ومموه بجوهر، وورقه بحرير وماؤه ذهب، وكانت العرب تسميه القطف، فلما قسم سعد فيهم فضل عنهم ولم يتفق قسمه، فجمع سعد المسلمين، فقال: إن الله تعالى قد ملأ أيديكم وقد عسر قسم هذا البساط، ولا يقوى على شرائه أحد، فأرى أن تطيبوا به أنفسنا لأمير المؤمنين يضعه حيث شاء، ففعلوا.
فلما قدم على عمر المدينة جمع الناس فاستشارهم في البساط، فمن بين مشير بقبضه، وآخر مفوض إليه، وآخر مرقق، فقام علي رضي الله عنه، فقال: لم تجعل علمك جهلا، ويقينك شكا، إنه لَيْسَ لك من الدنيا إلا ما أعطيت فأمضيت، أو لبست فأبليت، أو أكلت فأفنيت، فقال: صدقتني، فقطعه فقسمه بين الناس، فأصاب عليا رضي الله عنه قطعة منه فباعها بعشرين ألفا، وما هي بأجود تلك القطع.
[أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا الحسين بن القَاسِم الكوكبي، قال: حدثنا أبو العباس المبرد، قال: أخبرني] [2] القاسم بن سهل النوشجاني:
إن ستر باب الإيوان أخرقه المسلمون لما افتتحوا المدائن فأخرجوا منه ألف ألف مثقال ذهبا، فبيع المثقال بعشرة دراهم، فبلغ عشرة آلاف ألف [ألف] [3] درهم.
[أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدٍ، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «وعن عبد الملك» .
[2] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن القاسم بن سهل» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، ظ.

(4/210)


أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُعَدَّلُ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ صَفْوَانَ الْبَرْذَعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الله بْن محمد بن أَبِي الدُّنْيَا، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ صَالِحٍ، قَالَ] [1] : أَبُو بَكْرِ بْنُ عَيَّاشٍ: لَمَّا خَرَجَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى صِفِّينَ، مَرَّ بِخَرَابٍ، فَتَمَثَّلَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ:
/ جَرَتِ الرِّيَاحُ عَلَى مَحِلِّ دِيَارِهِمْ ... فَكَأَنَّمَا كَانُوا عَلَى مِيعَادِ
وَإِذَا النَّعِيمُ وَكُلُّ مَا يُلْهَى بِهِ ... يَوْمًا يَصِيرُ إِلَى بَلًى وَنَفَاذِ
فَقَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: لا تَقُلْ هَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ [كَمَا قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ] [2] :
كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ [وَزُرُوعٍ وَمَقامٍ كَرِيمٍ وَنَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ كَذلِكَ وَأَوْرَثْناها] قَوْماً آخَرِينَ 44: 25- 26- 27- 28 [3] . إِنَّ هَؤُلاءِ [الْقَوْمَ] كَانُوا وَارِثِينَ فَأَصْبَحُوا مَوْرُوثِينَ، وَإِنَّ هَؤُلاءِ [الْقَوْمَ] اسْتَحَلُّوا الْحَرَامَ فَحَلَّتْ بِهُمُ النِّقَمُ [فَلا تَسْتَحِلُّوا الْحَرَامَ فَتَحِلُّ بِكُمُ النِّقَمُ] . [أَخْبَرَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُحَمَّدِ الْقَزَّازِ، قَالَ: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْمُعَدَّلُ، أَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ الدَّقَّاقُ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْبَرَاءِ [4] ، أَخْبَرَنَا الْقَاسِمُ بْنُ أَبِي شَيْبَةَ، حَدَّثَنَا حَفْصُ بْنُ غِيَاثٍ، عَنِ الشَّيْبَانِيِّ، عَنْ أَبِي عَوْنٍ] [5] ، عَنِ السَّائِبِ بْنِ الأَقْرَعِ [6] :
أَنَّهُ كَانَ جَالِسًا فِي إِيوَانِ كِسْرَى [7] ، فَنَظَرَ إِلَى تِمْثَالٍ يُشِيرُ بِأُصْبُعِهِ إِلَى مَوْضِعٍ قَالَ:
فَوَقَعَ فِي رَوْعِي أَنَّهُ يُشِيرُ إِلَى كَنْزٍ، قَالَ: فَاحْتَفَرْتُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ، فَاسْتَخْرَجْتُ كَنْزًا عَظِيمًا، فَكَتَبْتُ إِلَى عُمَرَ أُخْبِرُهُ، فَكَتَبَ إِنَّ هَذَا شَيْءٌ أَفَاءَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ دُونَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: إِنَّكَ أَمِيرُ من أمراء المسلمين، فاقسمه بين المسلمين.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المصنف بإسناده عن أبي بكر بن عباس» .
[2] ما بين المعقوفتين: من أ.
[3] سورة: الدخان، الآية: 26. وما بين المعقوفتين ورد في الأصل: «إلى قوله» .
[4] في تاريخ بغداد: «محمد بن البراء» .
[5] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن ابن السائب الأقرع» .
[6] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 203.
[7] في الأصل، ظ: «جالسا على إيوان كسرى» .

(4/211)


[أخبرنا عبد الرحمن بن محمد، قال: أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت، قال:
أخبرنا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الجوهري، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بن عمران المرزباني، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو الحسين عَبْد الواحد بْن محمد الحسيني، قال: حدثني] [1] أَحْمَد بْن إسماعيل، قَالَ:
لما صارت الخلافة إلى المنصور هم بْنقض [إيوان المدائن] [2] ، فاستشار جماعة من أصحابه، فكلهم أشار بمثل ما هم به، وَكَانَ معه كاتب من الفرس، فاستشاره فِي ذلك، فقال له: يا أمير المؤمنين، أتعلم أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ خرج من تلك القرية، وكان له بها مثل ذلك المنزل ولأصحابه مثل تلك الحجر، فخرج أصحاب ذلك الرسول حَتَّى جاءوا مَعَ ضعفهم إِلَى صاحب هَذَا الإيوان مَعَ عزته وصعوبة أمره، فغلبوه وأخذوه من يده قسرا، ثم قتلوه فيجيء الجائي من أقاصي الأرض، فينظر إِلَى تلك المدينة وإلى هَذَا الإيوان، [ويعلم أن صاحبها قهر صاحب هَذَا الإيوان] ، فلا يشك أنه بأمر الله، وأنه هو الَّذِي أيده وَكَانَ معه ومع أصحابه، وفي تركه فخر لكم. فاستغشه المنصور واتهمه لقرابته من القوم، ثم بعث في نقض الإيوان، فنقض منه الشيء اليسير، ثُمَّ كتب إليه:
إننا نغرم في نقضه/ أكثر مما نسترجع منه، إن هذا تلف الأموال وذهابها. فدعا الكاتب فاستشاره فيما كتب إليه به، فقال: لقد كنت أشرت بشيء لم تقبل مني، فأما الآن فإني آنف لكم أن يكونوا أولئك يبنون بْناء تعجزون أنتم عَنْ هدمه، والصواب أن تبلغ به الماء، ففكر المنصور فعلم أنه قد صدق، فإذا هدمه يتلف الأموال، فأمر بالإمساك عنه
. ومن الحوادث في هذه السنة، وقعة جلولاء [3]
لما توطن المسلمون المدائن، وبعثوا إلى عمر بالأخماس، أتاهم الخبر بأن مهران قد عسكر بجلولاء وخندق، وأن أهل الموصل قد عسكروا بتكريت. فكتب سعد بذلك إلى عمر رضي الله عنه، فكتب إليه: أن سرح هاشم بن عتبة إلى جلولاء في اثني
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن أحمد بن إسماعيل» .
[2] في الأصل: «بنقض الإيوان» .
[3] تاريخ الطبري 4/ 24.

(4/212)


عشر ألفا، واجعل على مقدمته القعقاع بن عمرو، وعلى ميمنته سعد بن مالك، وعلى ميسرته عَمْرو بن مالك بن عتبة، وعلى ساقته عمرو بن مرة الجهني.
وكان الأعاجم لما هربوا من المدائن إلى جلولاء، قالوا: إن افترقتم لم تجتمعوا أبدا، فهلموا فلنجتمع للعرب ولنقاتلهم، فإن كانت لنا فهو الذي نريد، وإن كانت علينا كنا قد قضينا الذي علينا، فاحتفروا الخندق، واجتمعوا على مهران الرازي، ونفذ [1] يزدجرد إلى حلوان فنزل بها، ورماهم بالرجال والأموال.
ففصل هاشم [2] بن عتبة بالناس من المدائن في صفر سنة ست عشرة، في اثني عشر ألفا، فيهم وجوه المهاجرين والأنصار وأعلام العرب، فقدم جلولاء فحاصرهم [فخرجوا] [3] على المسلمين، فاقتتلوا، وبعث الله عز وجل عليهم ريحا أظلمت عليهم البلاد، فتهافتت فرسانهم في الخندق، ثم اقتتلوا قتالا شديدا لم ير مثله، وانهزموا، / واتبعهم المسلمون وقتل منهم يومئذ مائة ألف، فجللت القتلى المجال، وما بين يديه وما حوله، فسميت جلولاء لما جللها من قتلاهم.
وطلبهم القعقاع حتى بلغ خانقين، فأدرك مهران فقتله، ولما بلغت الهزيمة يزدجرد سار من حلوان نحو الجبل، واقتسم في جلولاء على كل فارس سبعة آلاف وتسعة من الدواب.
[أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْحَاجِّيُّ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ السمرقندي، قالا:
أخبرنا ابن النقور، أخبرنا المخلص، أخبرنا أحمد بن عبد الله بن سيف، أخبرنا السري بن يحيى، أخبرنا شعيب بن إِبْرَاهيم، عن سيف بن عمر التميمي، عن مجالد] [4] ، عن الشعبي، قال [5] :
اقتسم الناس في جلولاء على ثلاثين ألف ألف، وكان الخمس ستة آلاف ألف.
__________
[1] في الأصل: «وتقدم يزدجرد» .
[2] تاريخ الطبري 4/ 25.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من أ.
[4] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن الشعبي» .
[5] الخبر في تاريخ الطبري 4/ 29.

(4/213)


[وَحَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ زُهْرَةَ، وَمُحَمَّدٌ] [1] ، عَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: لَمَّا قُدِمَ عَلَى عُمَرَ بِالأَخْمَاسِ مِنْ جَلُولاءَ، قَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لا يُجِنَّهُ سَقْفِ بَيْتٍ حَتَّى أُقَسِّمَهُ. فَبَاتَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَرْقَمَ يَحْرُسَانِهِ فِي الْمَسْجِدِ، فَلَمَّا أَصْبَحَ عُمَرُ جَاءَ فَكَشَفَ عَنْهُ الأَنْطَاعَ، فَلَمَّا نَظَرَ إِلَى يَاقُوتِهِ وَزَبَرْجَدِهِ وَلُؤْلُؤِهِ وَجَوْهَرِهِ بَكَى، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ: مَا يُبْكِيكَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ إِنَّ هذا لموطن شَكْرٌ، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ مَا ذَاكَ يُبْكِينِي، وتاللَّه مَا أَعْطَى اللَّهُ هَذَا قَوْمًا إِلا تَحَاسَدُوا وَتَبَاغَضُوا، وَلا تَحَاسَدُوا إِلا أَلْقَى بَأْسَهُمْ بَيْنَهُمْ.
[أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْن عَلِيٍّ الصَّيْرَفِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيم بْن عُمَرَ الْبَرْمَكِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ زَكَرِيَّا، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سَلْمَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الْحُنَيْنِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنِ الصَّلْتِ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَمِيعُ بْنُ عُمَيْرٍ اللَّيْثِيُّ، قَالَ: سَمِعْتُ] [2] عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ، يَقُولُ:
شَهِدْتُ جَلُولاءَ وَابْتَعْتُ مِنَ الْغَنَائِمِ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَقَدِمْتُ بِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى عُمَرَ، فَقَالَ: مَا هَذَا؟ فَقُلْتُ: ابْتَعْتُ مِنَ الْغَنَائِمِ بِأَرْبَعِينَ أَلْفًا، فَقَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ، لَوِ انْطُلِقَ بِي إِلَى النَّاسِ كُنْتَ مُفْتَدِي، قُلْتُ: نَعَمْ بِكُلِّ شَيْءٍ أَمْلِكُ، قال: فإنّي مخاصم وكأني بك بتابع وَالنَّاسُ بِجَلُولاءَ يَقُولُونَ: هَذَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ صَاحِبُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وَابْنُ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ وَأَكْرَمُ أَهْلِهِ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُرَخِّصُوا عَلَيْكَ كَذَا وَكَذَا دِرْهَمًا أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِنْ أَنْ يَغُلُّوا عَلَيْكَ بِدِرْهَمٍ، وَسَأُعْطِيكَ مِنَ الرِّبْحِ أَفْضَلَ مَا رَبِحَ رَجُلٌ مِنْ قُرَيْشٍ. ثُمَّ أَتَى بَابَ صَفِيَّةَ/ بِنْتِ أَبِي عُبَيْدٍ، فَقَالَ: يَا بِنْتَ أَبِي عُبَيْدٍ، اقْتَسَمْتُ عَلَيْكِ أَنْ تُخْرِجِي مِنْ بَيْتِكِ شَيْئًا أَوْ تُخْرُجْنَ مِنْهُ، وَإِنْ كَانَ عُنُقَ ظَبْيَةٍ، فَقَالَتْ: يا أمير المؤمنين لَكَ ذَلِكَ.
ثُمَّ تَرَكَنِي سَبْعَةَ أَيَّامٍ، ثُمَّ دعي التُّجَّارَ ثُمَّ قَالَ: يَا عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ إِنِّي مَسْئُولٌ، قَالَ: فَبَاعَ مِنَ التُّجَّارِ متاعا بأربعمائة ألف، فأعطاني ثمانين ألفا، وأرسل ثلاثمائة وَعِشْرِينَ أَلْفًا إِلَى سَعْدٍ، فَقَالَ: اقْسِمْ هَذَا الْمَالَ فِي مَنْ شَهِدَ الْوَقْعَةَ، وَإِنْ كَانَ أحدهم
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن أبي سلمة» .
[2] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن عبد الله» .

(4/214)


مَاتَ فَابْعَثْ نَصِيبَهُ إِلَى وَرَثَتِهِ.
وَكَانَ فَتْحُ جَلُولاءَ فِي ذِي الْقَعْدَةِ سَنَةَ سِتَّ عَشْرَةَ، وَبَيْنَهَا وَبَيْنَ الْمَدَائِنِ تَسْعَةُ أَشْهُرٍ
. وَكَانَ مِنَ الْحَوَادِثِ فِي هَذِهِ السَّنَةِ يَوْمُ حُلْوَانَ
[أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَأَبُو الْقَاسِمِ إِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالا:
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ النَّقُّورِ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْمُخْلِصُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بن سيف، أخبرنا السري بن يحيى، أخبرنا شُعَيْبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ] [1] ، عن محمد، وطلحة، والمهلب، وعمرو، وَسَعِيدٍ، قَالُوا [2] :
كَانَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَتَبَ إِلَى سَعْدٍ: إِنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ جَلُولاءَ فَسَرِّحِ الْقَعْقَاعَ بْنَ عَمْرٍو فِي آثَارِ الْقَوْمِ حَتَّى يَنْزِلَ بِحُلْوَانَ، فَيَكُونَ رِدْءًا لِلْمُسْلِمِينَ وَيُحْرِزَ اللَّهُ لَكُمْ سَوَادَكُمْ. فَلَمَّا هَزَمَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ أَهْلَ جَلُولاءَ، أَقَامَ هَاشِمُ بْنُ عُتْبَةَ بِجَلُولاءَ، وَخَرَجَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو فِي آثَارِ الْقَوْمِ إِلَى خَانِقِينَ فَأَدْرَكَ سَبْيًا مِنْ سَبْيِهِمْ، وَقَتَلَ مَهْرَانَ وَخَلْقًا وَأَفْلَتَ الْفيرزانُ، وَلَمَّا بَلَغَ يَزْدَجِرْدَ هَزِيمَةُ أَهْلِ جَلُولاءَ وَمُصَابُ مَهْرَانَ، خَرَجَ مِنْ حُلْوَانَ سَائِرًا نَحْوَ الرِّيِّ، وَخَلَّفَ بِحُلْوَانَ خَيْلا عَلَيْهَا خِسْرُوشَنُومُ، فَأَقْبَلَ الْقَعْقَاعُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِقَصْرِ شِيرِينَ عَلَى رَأْسِ فَرْسَخٍ مِنْ حُلْوَانَ خَرَجَ إِلَيْهِ خِسْرُوشَنُومُ، وَقَدِمَ دَهْقَانُ حُلْوَانَ، فَلَقِيَهُ الْقَعْقَاعُ فَاقْتَتَلُوا عَلَى الْقَصْرِ [فَقُتِلَ الدِّهْقَانُ، وَهَرَبَ خِسْرُوشَنُومُ وَاسْتَوْلَى الْمُسْلِمُونَ عَلَى حُلْوَانَ، ولم يزل القعقاع على الثغر] [3] إلى أن تَحَوُّلِ سَعْدٍ عَنِ الْمَدَائِنِ إِلَى الْكُوفَةَ فَلَحِقَ بِهِ
. ومن الحوادث في هذه السنة يوم تكريت [4]
وكان في جمادى. قهر المسلمون أهلها وقسموا، وقسموا للفارس ثلاثة آلاف، وللرجال ألفا.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن محمد وطلحة ... » .
[2] الخبر في تاريخ الطبري 4/ 34.
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوأوردناه من ظ.
[4] تاريخ الطبري 4/ 35.

(4/215)


[ذكر فتح ماسبذان]
وقهروا [أهل] ماسبذان، وأخذوها عنوة، فتطاير أهلها في الجبال، ثم استجابوا للمسلمين
. [ذكر فتح قرقيسياء]
ثم أخذ المسلمون قرقيسياء عنوة
. [ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر]
[1]
187- أم سليم بنت ملحان بن خالد بن زيد بن حرام، وهي الرميصاء: [2]
واختلفوا في اسمها، فروى البغوي عن علي بن المديني، قال: اسمها مليكة، ولقبها الرميصاء. وقال غيره: اسمها سهيلة [3] ، وقيل: رميلة، وقيل: رميثة، وقيل:
أنيفة.
تزوجها مالك بن النضر، فولدت له أنس بن مالك، ثم لقيه عدو فقتله، فخطبها أبو طلحة.
[أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي بن سلمان، قال: أخبرنا حمد بن أحمد، قال:
أخبرنا أحمد بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْبَهَانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَّدَثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ، قَالَ: حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ سُلَيْمَانَ، عَنْ ثَابِتٍ] [4] ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ:
خَطَبَ أَبُو طَلْحَةَ أُمَّ سَلِيمٍ قَبْلَ أَنْ يُسْلِمَ، فَقَالَتْ أَمَا إِنِّي فِيكَ لَرَاغِبَةٌ، وَمَا مثلك
__________
[1] ما بين المعقوفتين: بياض في الأصل: وأوردناه من أ، ظ.
[2] طبقات ابن سعد 8/ 311.
[3] كذا في الأصول، وفي ابن سعد «سهلة» .
[4] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن أنس» .

(4/216)


يُرَدُّ، وَلَكِنَّكَ رَجُلٌ كَافِرٌ وَأَنَا امْرَأَةٌ مُسْلِمَةٌ، فَإِنْ تُسْلِمْ فَذَاكَ مَهْرِي، وَلا أَسْأَلُكَ غَيْرَهُ، فَأَسْلَمَ أَبُو طَلْحَةَ فَتَزَوَّجَهَا.
[أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ الْمُذْهِبِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ، قال: حدثني أَبِي، حَدَّثَنَا أَبُو أُسَامَةَ، عَنْ سُلْيَمَانَ بْنِ الْمُغِيرَةِ، عَنْ ثَابِتٍ] [1] ، عَنْ أَنَسٍ، قَالَ:
جَاءَ أَبُو طَلْحَةَ يَوْمَ حُنَيْنٍ يَضْحَكُ إِلَى رَسُولِ الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مِنْ أُمِّ سُلَيْمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلَمْ تَرَ إِلَى أُمِّ سُلَيْمٍ مَعَهَا خِنْجَرٌ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «مَا تَصْنَعِينَ يَا أُمَّ سُلَيْمٍ» ؟ قَالَتْ: أَرَدْتُ إِنْ دَنَا مِنِّي أَحَدٌ مِنْهُمْ طَعَنْتُهُ.
[أخبرنا أبو بكر بن أبي طاهر، قال: أَنْبَأَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ أَخْبَرَنَا ابْنُ حَيَّوَيْهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهْمِ، حَدَّثَنَا محمد بْن سعد، قال: أخبرنا محمد بْنُ الْفُضَيْلِ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ حُسَيْنِ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ] [2] ، قَالَ: زَارَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أُمَّ سَلِيمٍ فصلى فِي بَيْتِهَا تَطَوُّعًا، وَقَالَ: «يَا أُمَّ سَلِيمٍ، إِذَا صَلَّيْتِ الْمَكْتُوبَةَ فَقُولِي: سُبْحَانَ اللَّهِ عَشْرًا، وَالْحَمْدُ للَّه عَشْرًا، وَاللَّهُ أَكْبَرُ عَشْرًا، ثُمَّ سَلِي اللَّهَ مَا شِئْتِ، فَإِنَّهُ يُقَالُ لَكِ نَعَمْ نَعَمْ نَعَمْ» . [أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي، أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَضْلِ بْنُ أَحْمَدَ الْحَدَّادُ، أَخْبَرَنَا أَبُو نُعَيْمٍ الأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ، حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ سَعِيدٍ الرَّازِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَلَمِ بْنِ دَارَةَ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدِ بْنِ سَابِقٍ، حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ أَبِي قَيْسٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، عَنْ عَبَايَةَ بْنِ رِفَاعَةَ] [3] ، عَنْ أُمِّ سَلِيمٍ، قَالَتْ:
تُوُفِّيَ ابْنٌ لِي وَزَوْجِي غَائِبٌ، فَقُمْتُ فَسَجَّيْتُهُ فِي نَاحِيَةٍ مِنَ الْبَيْتِ، فَقَدِمَ زَوْجِي، فَتَطَيَّبْتُ لَهُ، فَوَقَعَ عَلَيَّ، ثُمَّ أَتَيْتُهُ بِطَعَامٍ، فَجَعَلَ يَأْكُلُ، فَقُلْتُ: أَلا أُعْجِبُكَ من
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن أنس» .
[2] الخبر في طبقات ابن سعد 8/ 312.
[3] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن أم سليم» .

(4/217)


جِيرَانِنَا، قَالَ: وَمَا لَهُمْ؟ قُلْتُ: أُعِيرُوا عَارِيَةً فَلَمَّا طُلِبَتْ مِنْهُمْ جَزِعُوا، قَالَ: بِئْسَ مَا صَنَعُوا، فَقُلْتُ: هُوَ ابْنُكَ، فَقَالَ: لا جَرَمَ، لا تَغْلِبِينِي عَلَى الصَّبْرِ اللَّيْلَةَ، فَلَمَّا أَصْبَحَ غَدَا عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: «بِتُّمَا عَرُوسَيْنِ وَهُوَ إِلَى جَانِبِكُمَا [1] ، اللَّهمّ بَارِكْ لَهُمْ فِي لَيْلَتِهِمْ» ، فَلَقَدْ رَأَيْتُ لَهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْمَسْجِدِ سَبْعَةً كُلُّهُمْ قَدْ قَرَءُوا الْقُرْآنَ
. 188- سعد بن عبيد بن النعمان بن قيس- وهو الذي يقال له سعد القاري-، ويكنى أبا زيد:
[2] .
ويروي الكوفيون أنه ممن جمع القرآن على عهد رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ، وشهد بدرا والمشاهد كلها مع رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وابنه عمر بن سعد، ولاه عمر على بعض الشام.
وقتل سعد شهيدا يوم القادسية وهو ابن أربع وستين سنة [3]
. 189- مارية القبطية [4] :
أهداها المقوقس إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، فوطئها بملك اليمين، فولدت منه إبراهيم، ومات رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ، وكان أبو بكر رضي الله عنه ينفق عليها حتى توفي، ثم أنفق عليها عمر رضي الله عنها فتوفيت في محرم هذه السنة، فجمع عمر الناس لشهود جنازتها، وصلى عليها، وقبرها بالبقيع.
__________
[1] «بتما عروسين وهو إلى جانبكما» : ساقطة من أ، ط.
[2] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 30.
[3] جاء في الأصل بعدها: «وهو يسمى سعد القاري» . وهي زيادة لا فائدة لها لتكرارها في أول الترجمة.
[4] طبقات ابن سعد 8/ 153.

(4/218)


ثم دخلت سنة سبع عشرة
فمن الحوادث فيها اختطاط الكوفة وتحول سعد بن أبي وقاص إليها وقد كان مكان الكوفة معروفا [1]
[أخبرنا أبو المناقب حيدرة بن عمر بن إبراهيم بن محمد بن حمزة الكوفي، أَخْبَرَنَا أَبُو الْغَنَائِمِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ميمون، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْد اللَّه مُحَمَّدً بْن عَلِيّ بن عبد الرحمن الحسني، أَخْبَرَنَا محمد بن الحسين بن جعفر السلمي، أخبرنا عبد الله بن زيدان العجلي [2] ، أخبرنا إِبْرَاهيم بن قتيبة، عن عمرو بن شبيب، عن صدقة] [3] بن المثنى النخعي، قال:
إن إبراهيم خليل الرحمن خرج من كوثي مهاجرا إلى الله عز وجل على حمار، ومعه ابن أخيه لوط يسوق غنما ويحمل دلوا على عنقه حتى نزل بانقيا، وكان بها قرية طولها اثنا عشر فرسخا، وكانوا يزلزلون كل ليلة، فلما/ بات بها إبراهيم لم يزلزلوا تلك الليلة، فمشي بعضهم إلى بعض، فقالوا: بتم بمثل هذه الليلة قط؟ فقالوا: لا، فقال صاحب منزل إِبْرَاهيم عليه السلام: إن كان دفع عنكم بشيء فبشيخ بات عندي البارحة لم يزل يصلي حتى أصبح، فأتوه فقالوا: إنما خرجت لطلب المعيشة، فأقم فينا ونقاسمك شطر أموالنا فتكون أكثر الناس مالا، قال: ليس لذلك خرجت، إنما خرجت مهاجرا إلى الله، فخرج حتى نزل القادسية، فأتته عجوز، فقالت: إني أراك شيخا حسن الهيئة
__________
[1] تاريخ الطبري 4/ 40.
[2] في ظ: «البجلي» .
[3] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن ابن المثنى» .

(4/219)


وأراك شعثا، فهل لك أن آتيك بغسول تغسل به رأسك ولحيتك؟ قال: ما شئت، فأتته بغسول، فغسل رأسه ولحيته، فأفاض عليه من الماء وأخذ فضل ما بقي من الإناء فأبعد وقال: كوني مقدسة- للقادسية- منك يخرج وفد الله، وفيك موضع رحالهم، فسمت بدعوة إبراهيم القادسية.
ثم خرج نحو الشام فمر بالنجف فرأى فيه علامات وكان يقرأها في الكتب، فقال:
لمن هذا الجبل؟ فقالوا: لأهل القرية التي بت فيها- يعنون بانقيا- فأتاهم إبراهيم فظنوا أنه أتاهم للذي عرضوا عليه، فقال: بيعوني أرضكم هذه- يعني ظهر الكوفة- فقالوا:
هي لك، ما ملكنا أرضا هي أقل خيرا منها، ما تنبت رعيا، ولا لنا فيها منفعة، فاشتراها منهم بغنمه.
[قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الْحَسَنِيُّ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْجُعْفِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ سَعِيدٍ إِجَازَةً، قَالَ: حَدَّثَنَا عَلِيُّ بْنُ الْحَسَنِ الْبَجَلِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عِيسَى العيسى، عن عيسى بن عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ] [1] ، عَنْ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ:
مِنْ مَسْجِدِ الْكُوفَةِ فَارَ التَّنُّورُ، وَكَانَ بَيْتَ نُوحٍ عَلَيْهِ السَّلامُ وَمَسْجِدُهُ، ثُمَّ جَاءَ إِبْرَاهِيمُ خَلِيلُ الرَّحْمَنِ إِلَى كوثى وَبِهَا ابْنُ أَخِيهِ، فَأَقَامَ عِنْدَهُ غَيْرَ كَثِيرٍ، ثُمَّ خَرَجَ حَتَّى جَاءَ إِلَى مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، فَكَلَّمَ مَلِكًا/ كَانَ عَلَيْهَا، وَقَالَ لَهُ: إِنِّي أُحِبُّ أَنْ تَبِيعَنِي هَذَا الْمَكَانَ- لِمَسْجِدِ الْكُوفَةِ- وَكَانَ ذَلِكَ الْمَلِكُ تُزَلْزَلُ بِهِ كُلَّ لَيْلَةٍ [الأَرْضُ] ، فَلَمَّا صَارَ إِبْرَاهِيمُ إِلَيْهِ كَفَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ تِلْكَ الزَّلْزَلَةَ، فَقَالَ: الْمَلِكُ يَدْعُو لَكَ، فَقَالَ: مَا أُرِيدُ أَخْذَهُ إلِا بِثَمَنٍ، قَالَ: فَاشْتَرِهِ بِمَا شِئْتَ، قَالَ: فَإِنِّي آخُذُه بِأَتَانِي هَذِهِ وَشَاتِي، قَالَ: أَمَّا الشَّاةُ فَلَيْسَ مَعَكَ زَادٌ إِلا لَبَنُهَا تَشْرَبُهُ، وَأَمَّا الأَتَانُ فَهَلُمَّهَا نَحْنُ نَأْخُذُهَا، فَاشْتَرَاهَا بِالأَتَانِ. فَبَدَأَ أَسَاسَ نُوحٍ، وَبَنَاهُ بِنَاءً لاطِيًا عَلَى نَحْوٍ مِنْ ذِرَاعٍ أَوْ ذِرَاعَيْنِ، ثُمَّ سَارَ هُوَ وَلُوطٌ إِلَى الشَّامِ. [قَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْعَبَّاسِ الْحَذَّاءُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عبد الرحمن بن يونس، عن
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى أبو عبد الله الحسيني بإسناده عن علي» .

(4/220)


إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ] [1] ، عَنْ قَيْسِ بْنِ أَبِي حَازِمٍ، قَالَ:
لَمَّا نَزَلَ الْمُسْلِمُونَ الْمَدَائِنَ اصْفَرَّتْ أَلْوَانُهُمْ، وَعَظُمَتْ بُطُونُهُمْ، وَدَقَّتْ عِظَامُهُمْ، وَذَلِكَ لَمَّا اجْتَوَوْهَا، فَكَتَبَ عُمَرِ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ [2] إِنَّ يَطْلُبُوا مَنْزِلا غَيْرَهُ، فَنَزَلُوا الْكُوفَةَ، فَوَفَدْنَا إِلَى عُمَرَ، فَقَالَ: إِنِّي لأَعْرِفُ فَضْلَ مَنْزِلِكُمْ هَذَا عَلَى الآخَرِ فَصِفُوهُ لِي، فَقُلْنَا: هِيَ آخِرُ السَّوَادِ فِي الْعَرَبِ، وَهِيَ أرض برية بحرية، أرض شيح وَقَيْصُومٍ، وَأَرْضُ ضَبٍّ وَحُوتٍ.
قال حسين بن حميد: [وحدثنا عثمان بن أبي شيبة، قال: حدثنا قبيصة] [2] ، عن سفيان، قال:
أول من بنى الكوفة بالآجر خباب بن الأرت، وعبد الله بن مسعود.
[قال لي أبو عبد الله: وحدثنا أبو الحسين محمد بن علي بن عامر الكندي، قال:
حدثنا عَلِيّ بْن الحسن بن إسماعيل البزار، قال: حدثنا] بشر بن عبد الوهاب، ذكر] [3] أنه قدر الكوفة فكانت ستة عشر ميلا، وثلثي ميل، وذكر أن فيها خمسة آلاف دار للعرب من ربيعة ومضر، وأربعة عشر ألف دار لسائر العرب، وستة وثلاثين ألف دار لليمنيين.
[أخبرني بذلك في سنة أربع وستين ومائتين] [4] .
[قال أبو عبد الله: وأخبرنا زيد بن مروان إجازة، قال: حدثنا علي بن محمد، قال: حدثنا إِبْرَاهيم بن إسماعيل الطلحي، قال: حدثنا أبي] [5] ، قال:
رأيت بالكوفة في مسجد الجامع مائة حلقة فقه.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى أبو عبد الله الحذاء بإسناده عن قيس بن أبي حازم، قال» :
[2] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «فقال حسن بن حمد بإسناده عن سفيان» .
[3] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى أبو عبد الله بإسناده عن بشر بن عبد الوهاب، قال:» .
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وظ، وأوردناه من أ.
[5] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى أبو عبد الله بإسناده إلى الطلحي قال» .

(4/221)


[أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ النَّقُّورِ، أَخْبَرَنَا أَبُو طَاهِرٍ الْمُخْلِصُ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حدثنا السري بن يحيى، حدثنا شعيب بن إبراهيم، حدثنا سيف، عَنْ مُحَمَّدٍ وَطَلْحَةَ وَالْمُهَلَّبِ وَعَمْرٍو وَسَعِيدٍ، قَالُوا] [1] :
لَمَّا جَاءَ فَتْحُ جَلُولاءَ وَحُلْوَانَ وَنَزَلَ الْقَعْقَاعُ بْنُ عَمْرٍو بِحُلْوَانَ فِيمَنْ مَعَهُ، وَجَاءَ فَتْحُ تِكْرِيتَ وَالْحِصْنَيْنِ، وَقَدِمَتِ الْوُفُودُ بِذَلِكَ عَلَى/ عُمَرَ، قَالَ لَهُمْ: مَا غَيَّرَكُمْ، قَالُوا:
وُخُومَةُ الْبِلادِ، فَنَظَرَ فِي حَوَائَجِهِمْ، وَعَجَّلَ سَرَاحَهُمْ.
وَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ [2] : أَنْبِئْنِي مَا الَّذِي غَيَّرَ لَوْنَ الْعَرَبِ وَلُحُومَهُمْ؟ فَكَتَبَ إِلَيْهِ:
وُخُومَةُ الْمَدَائِنِ وَدِجْلَةَ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: إِنَّ الْعَرَبَ لا يُوَافِقُهَا إِلا ما وافق إبلها من البلدان، فابعث سليمان رائدا وَحُذَيْفَةَ فَلْيَرْتَادَا مَنْزِلا بَرِيًّا بَحْرِيًّا، لَيْسَ بَيْنِي وَبَيْنِكُمْ بَحْرٌ وَلا جِسْرٌ.
فَبَعَثَ حُذَيْفَةَ وَسَلْمَانَ، فَخَرَجَ سَلْمَانُ فَسَارَ لا يَرْضَى شَيْئًا حَتَّى أَتَى الْكُوفَةَ، وَخَرَجَ حُذَيْفَةُ حَتَّى أَتَى الْكُوفَةَ، وفيها ديرات ثلاثة، فأعجبتهما البقعة، فنزلا فصليا، وَقَالا:
اللَّهمّ بَارِكْ لَنَا فِي هَذِهِ الْكُوفَةِ وَاجْعَلْهُ مَنْزِلَ ثَبَاتٍ، وَرَجَعَا إِلَى سَعْدٍ بِالْخَبَرِ، فَارْتَحَلَ سَعْدٌ بِالنَّاسِ مِنَ الْمَدَائِنِ حَتَّى عَسْكَرَ بِالْكُوفَةِ فِي مَحَرَّمٍ سَنَةَ سَبْعَ عَشَرَةَ، وَكَانَ بين وقعة المدائن ونزول الكوفة أحد عشرا شَهْرًا. فَكَتَبَ سَعْدٌ إِلَى عُمَرَ: إِنِّي قَدْ نَزَلْتُ بِكُوفَةَ مَنْزِلا بَيْنَ الْحِيرَةِ وَالْفُرَاتِ بَرِّيًّا بَحْرِيًّا يُنْبِتُ الْجَلِيَّ وَالنَّصِيَّ [3] ، وَخَيَّرْتُ الْمُسْلِمِينَ بِالْمَدَائِنِ، فَمَنْ أَعْجَبَهُ الْمُقَامُ فِيهَا تَرَكْتُهُ [كَالْمَسْلَحَةِ] [4] .
[وَحَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ يَحْيَى التَّيْمِيِّ] [5] ، عَنْ أَبِي مَاجِدٍ، قَالَ: قَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: الْكُوفَةُ رُمْحُ الإِسْلامِ، وَقُبَّةُ الإِسْلامِ، وَحُجَّةُ الْعَرَبِ، يُكْفُوْنَ ثغورهم ويمدون الأمصار.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى محمد بن الحسين بإسناده: لما جاء فتح» .
والخبر في تاريخ الطبري 4/ 40.
[2] تاريخ الطبري 4/ 41.
[3] النصي: نبت سبط ناعم أبيض من أفضل المراعي.
[4] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأوردناه من أ، والطبري 4/ 43.
[5] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى سيف بإسناده عن أبي ماجد» .

(4/222)


[أَخْبَرَنَا سَيْفٌ، عَنْ سَعْدٍ، عَنِ الأَصْبَغِ] [1] ، عَنْ عَلِي رَضِيَ اللَّه عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ الْكُوفَةَ لَقُبَّةُ الإِسْلامِ، وَلَيَأْتِيَنَّ عَلَيْهَا زَمَانٌ لا يَبْقَى مُؤْمِنٌ إِلا أَتَاها أَوْ حَنَّ إِلَيْهَا، وَاللَّهِ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ بِأَهْلِهَا كَمَا انْتَصَرَ بِالْحِجَارَةِ مِنْ قَوْمِ لُوطٍ
. وفي هذه السنة إعانة أهل حمص من المسلمين في المحرم [2]
روى محمد بن الحسين، بإسناده عن [3] محمد وطلحة والمهلب وعمرو وسعد، قالوا: خرجت الروم وقد تكاتبوا هم وأهل الجزيرة يريدون أبا عبيدة والمسلمين بحمص، فضم أبو عبيدة/ إليه مسالحه، فعسكر بفناء مدينة حمص، وأقبل خالد من قنسرين حتى انضم إليه، فاستشارهم أبو عبيدة في المناجزة والتحصن إلى مجيء الغياث، فكان خالد يأمره أن يناجزهم، وكان سائرهم يأمرونه بأن يتحصن ويكتب إلى عمر، فأطاعهم وعصى خالدا، وكتب عمر إلى سعد: أندب الناس مع القعقاع بن عمرو، وسرحهم في يومهم الذي يأتيك فيه كتابي إلى حمص، فإن أبا عبيدة قد أحيط به، وتقدم إليهم في الجد والحث.
وكتب إليه أيضا: أن سرح سهيل بن عدي إلى الجزيرة [4] في الجند، وليأت الرقة فإن أهل الجزيرة هم الذين استثاروا الروم على أهل حمص. فمضى القعقاع في أربعة آلاف نحو حمص، وخرج عمر من المدينة مغيثا لأبي عبيدة يريد حمص حتى نزل الجابية، وخرج أبو عبيدة ففتح الله عليه، وانقض العدو، وقدم القعقاع بعد ثلاث من يوم الوقعة، وكتب إلى عمر بالفتح وهو بالجابية، فكتب عمر: أشركوهم فإنهم نفروا إليكم، وتفرق بهم عدوكم.
وانتهى سهيل بن عدي إلى أهل الرقة، وقد ارفض أهل الجزيرة فحاصرهم فصالحوه، وخرج عَبْد الله بن عبد الله بن عتبان إلى نصيبين فصالحوه كما فعل أهل الرقة، وسار عياض مع سهيل وعبد الله إلى حران، فأخذ ما دونها، فلما انتهى إليها اتقوه بالجزية فقتل منهم.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى سيف بإسناده عن علي» .
[2] تاريخ الطبري 4/ 50.
[3] كذا في الأصول الثلاثة، والخبر في تاريخ الطبري 4/ 50.
[4] في الأصول: «إلى الحيرة» .

(4/223)


ومضى سهيل وعبد الله إلى الرهاء فأجابوه بالجزية، واستعمل عمر حبيب بن سلمة على عجم الجزيرة وحربها، واستعمل الوليد بن عقبة على عرب الجزيرة.
وقد ذكرنا أن عمر أتى الشام أربع مرات، مرتين في سنة ستة عشر، ومرتين في سنة سبعة عشر، فأما هذه المرة فإنه لم يدخلها لأجل الطاعون، والخرجة الرابعة أذن له بلال حين حضرت الصلاة، فبكى الناس عند ذكر رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، / فكان أشدهم بكاء عمر رضي الله عنه.
[أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الدَّاوُدِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ أَعْيَنَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْفَرَبْرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ يُوسُفَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مَالِكٌ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ، عَنْ عَبْدِ الْحَمِيدِ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدِ بْنِ الْخَطَّابِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بن عبد الله بن الحارث بن نوفل] [1] ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ [2] :
أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَرَجَ إِلَى الشَّامِ حَتَّى إِذَا [كَانَ] يَسْرَغُ لَقِيَهُ أُمَرَاءُ الأَجْنَادِ- أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ وَأَصْحَابُهُ- فَأَخْبَرَهُ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وَقَعَ بِالشَّامِ، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: قَالَ لِي عُمَرُ: ادْعُ لِيَ الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ. فَدَعَوْتُهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ، وَأَخْبَرَهُمْ أَنَّ الْوَبَاءَ قَدْ وقع بالشام [3] ، فَاخْتَلَفُوا، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: قَدْ خَرَجْتَ لأَمْرٍ، وَلا نَرَى أَنْ تَرْجِعَ عَنْهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: مَعَكَ بَقِيَّةُ النَّاسِ وَأَصْحَابُ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ، وَلا نَرَى أَنْ تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي. ثُمَّ قَالَ: ادْعُ لِيَ الأَنْصَارَ، فَدَعَوْتُهُمْ، فَاسْتَشَارَهُمْ، فَسَلَكُوا سَبِيلَ الْمُهَاجِرِينَ، وَاخْتَلَفُوا كَاخْتِلافِهِمْ. فَقَالَ: ارْتَفِعُوا عَنِّي. ثُمَّ قَالَ: ادع لي من كان [ها هنا] مِنْ مَشْيَخَةِ قُرَيْشٍ مِنْ مُهَاجِرَةِ الْفَتْحِ، فَدَعَوْتُهُمْ فَلَمْ يَخْتَلِفْ مِنْهُمْ عَلَيْهِ رَجُلانِ، فَقَالُوا: نَرَى أَنْ تَرْجِعَ بِالنَّاسِ وَلا تُقْدِمَهُمْ عَلَى هَذَا الْوَبَاءِ. فَنَادَى عُمَرُ فِي النَّاسِ: إِنِّي مُصْبِحٌ عَلَى ظَهْرٍ، فَأَصْبِحُوا عَلَيْهِ. فَقَالَ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ:
أَفِرَارٌ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ؟ فَقَالَ عُمَرُ: لَوْ غَيْرُكَ قَالَهَا يَا أَبَا عُبَيْدَةَ، نَعَمْ نَفِرُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ إِلَى قَدَرِ اللَّهِ، أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ لَكَ إِبِلٌ هَبَطَتْ وَادِيًا لَهُ عُدْوَتَانِ: إِحَداهُمَا خَصِيبَةٌ، وَالأْخُرْىَ جَدِبَةٌ،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى عبد الأول بإسناده عن ابن عباس» .
[2] الخبر في صحيح البخاري 10/ 179، حديث 5729.
[3] في صحيح البخاري: «قد وقع في الشام» .

(4/224)


أَلَيْسَ إِنْ رَعَيْتَ [1] الْخَصِيبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ، وَإِنْ رَعَيْتَ الْجَدِبَةَ رَعَيْتَهَا بِقَدَرِ اللَّهِ؟ قَالَ: فَجَاءَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ- وَكَانَ مُتَغِيِّبًا فِي بَعْضِ حَاجَتِهِ- فَقَالَ: إِنَّ عِنْدِي فِي هَذَا عِلْمًا، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ: «إِذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ» . قَالَ فَحَمِدَ اللَّهَ عُمَرُ، ثُمَّ انْصَرَفَ.
أَخْرَجَاهُ فِي الصَّحِيحَيْنِ
. وخطب عمر خطبة/ بليغة بالجابية
[أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَسَنِ الْبَاقِلاوِيُّ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: حَدَّثَنَا دَعْلَجٌ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ اللَّهِ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَعْقُوبُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الزُّهْرِيُّ، قَالَ:] [2] حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ عُقْبَةَ، قَالَ:
هَذِهِ خُطْبَةُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ النَّاسَ يَوْمَ الْجَابِيَةِ، فَقَالَ [3] :
أَمَّا بَعْدُ، فَإِنِّي أُوصِيكُمْ بِتَقْوَى اللَّهِ الَّذِي يَبْقَى وَيَفْنَى مَا سِوَاهُ، الَّذِي بِطَاعَتِهِ يُكْرَمُ أَوْلِيَاؤُهُ، وَبِمَعْصِيَتِهِ يُضَلُّ أَعْدَاؤُهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لِهَالِكٍ هَلَكَ مَعْذِرَةٌ فِي تَعَمُّدِ ضَلالَةٍ حَسِبَهَا هُدًى، وَلا فِي تَرْكِ حَقٍّ حَسِبَهُ ضَلالَةً، وَإِنَّ أَحَقَّ مَا تَعَاهَدَ الرَّاعِي مِنْ رَعِيَّتِهِ أَنْ يَتَعَاهَدَهُمْ بِالَّذِي للَّه عَلَيْهِمْ مِنْ وَظَائِفِ دِينِهِمُ الَّذِي هَدَاهُمُ اللَّهُ لَهُ، وَإِنَّمَا عَلَيْنَا أَنْ نَأْمُرَكُمْ بِمَا أَمَرَكُمُ اللَّهُ بِهِ مِنْ طَاعَتِهِ، وَنَنْهَاكُمْ عَمَّا نَهَاكُمُ اللَّهُ عَنْهُ مِنْ مَعْصِيَتِهِ، وَأَنْ نُقِيمَ فِيكُمْ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي قَرِيبِ النَّاسِ وَبَعِيدِهِمْ، ثُمَّ وَلا نُبَالِي عَلَى مَنْ مَالَ الْحَقُّ، وَقَدْ عَلِمْتُ أَنَّ أَقْوَامًا يَتَمَنَّوْنَ فِي دِينِهِمْ فَيَقُولُونَ: نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ الْمُصَلِّينَ وَنُجَاهِدُ مَعَ الْمُجَاهِدِينَ، وَنَنْتَحِلُ الْهِجْرَةَ، وَكُلُّ ذَلِكَ يَفْعَلُهُ أَقْوَامٌ لا يَحْمِلُونَهُ بِحَقِّهِ، وَإِنَّ الإِيمَانَ لَيْسَ بِالتَّحَلِّي، وَإِنَّ لِلصَّلاةِ وَقْتًا اشْتَرَطَهُ اللَّهُ فَلا مُصْلِحَ إِلا بِهِ، فَوَقْتُ صَلاةِ الْفَجْرِ حِينَ يُزَايِلُ الْمَرْءَ لَيْلُهُ، وَيَحْرُمُ عَلَى
__________
[1] في الأصل: «رأيت» .
[2] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى عبد الوهاب بإسناده عن موسى بن عقبة قال» .
[3] الخبر في كثر العمال 8/ 210، وحياة الصحابة 3/ 327.

(4/225)


الصَّائِمِ طَعَامُهُ وَشَرَابُهُ.. فَذكر أَوْقَاتَ الصَّلَوَاتِ، قَالَ: وَيَقُولُ الرَّجُلُ: قَدْ هَاجَرْتُ [وَلَمْ يُهَاجِرْ] [1] ، وَإِنَّ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ هَجَرُوا السَّيِّئَاتِ، وَيَقُولُ أَقْوَامٌ: جَاهَدْنَا، وَإِنَّ الْجِهَادَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ مُجَاهَدَةُ الْعَدُوِّ وَاجْتِنَابُ الْحَرَامِ، فَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُقَاتِلُ بِطَبِيعَتِهِ مِنَ الشَّجَاعَةِ فَيَحْمِي، فَافْهَمُوا مَا تُوعَظُونَ بِهِ، فَإِنَّ الْجَرِبَ مَنْ جَرِبَ دِينَهُ، وَإِنَّ السَّعِيدَ مَنْ وُعِظَ بِغَيْرِهِ، وَإِنَّ الشَّقِيَّ مَنْ شَقِيَ فِي بَطْنِ أُمِّهِ، وَإِنَّ شَرَّ الأُمُورِ مُبْتَدَعَاتُهَا، وَإِنَّ الاقْتِصَادَ فِي سُنَّةٍ خَيْرٌ مِنَ الاجْتِهَادِ فِي بِدْعَةٍ، وَإِنَّ لِلنَّاسِ نَفْرَةً مِنْ سُلْطَانِهِمْ، فَعَائِذٌ باللَّه أَنْ تُدْرِكَنِي، فَإِيَّاكُمْ وَضَغَائِنَ مَجْبُولَةً وَأَهْوَاءً مُتَّبَعَةً وَدُنْيَا مُؤْثَرَةً، عَلَيْكُمْ بِهَذَا الْقُرْآنِ فَإِنَّ فِيهِ نُورًا وَشِفَاءً، فَقَدْ قَضَيْتُ الَّذِي عَلَيَّ فِيمَا وَلانِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ أُمُورِكُمْ/ وَوَعَظْتُكُمْ نُصْحًا لَكُمْ، وَقَدْ أَمَرْنَا لَكُمْ بِأَرْزَاقِكُمْ، فَلا حُجَّةَ لَكُمْ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَلِ الْحُجَّةُ لَهُ عَلَيْكُمْ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتِغْفُر اللَّهَ لِي وَلَكُمْ
. وفي هذه السنة حمى عمر رضي الله عنه الربذة لخيل المسلمين، وقيل: في سنة ست عشرة.
وفيها اتخذ عمر دار الدقيق، فجعل فيها الدقيق والسويق والتمر والزيت، وما يحتاج إليه المنقطع والضعيف الذين ينزلون بعمر، ووضع عمر في طريق السبيل ما بين مكة والمدينة ما يصلح لمن ينقطع به ويحمل من ماء إلى ماء.
ومن الحوادث في هذه السنة أن عمر رضي الله عنه كتب التاريخ
وذلك في سنة خمس من ولايته، وسنذكر سبب ذلك.
قال الشعبي: لما هبط آدم من الجنة، وانتظر ولده أرخ بنو آدم من هبوط آدم،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من حياة الصحابة 3/ 327.

(4/226)


فكان التأريخ حتى بعث الله نوحا، فأرخوا من مبعث نوح حتى كان الغرق، وكان التاريخ من الطوفان إلى نار إبراهيم، فلما كثر ولد إسماعيل افترقوا، فأرخ بنو إسحاق من نار إِبْرَاهيم إلى مبعث يوسف، ومن مبعث يوسف إلى مبعث موسى، ومن مبعث موسى إلى ملك سليمان، ومن ملك سليمان إلى مبعث عيسى، ومن مبعث عيسى إلى أن بعث رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ وعليهم أجمعين.
وأرخ بنو إسماعيل من نار إبراهيم إلى بناء البيت، ومن بناء البيت حتى تفرقت معد، وكانت للعرب أيام وأعلام يعدونها، ثم أرخوا من موت كعب بن لؤي إلى الفيل، وكان التأريخ من الفيل حتى أرخ عمر بن الخطاب من الهجرة.
وإنما أرخ عمر بعد سبع عشرة من مهاجرة رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، وذلك أن أبا موسى الأشعري كتب إِلى عمر: إنه يأتينا منك كتب ليس لها تاريخ. قال: فجمع عمر الناس للمشورة، فقال بعضهم: أرخ لمبعث/ رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ، وقال بعضهم: أرخ لمهاجر رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، فقال عمر: لا بل نؤرخ لمهاجر رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ، فإن مهاجره فرق بين الحق والباطل.
وقال ميمون بن مهران: رفع إلى عمر صك محله في شعبان، فقال عمر: أي شعبان؟ الذي هو آت أو الذي نحن فيه؟ قال: ثم قال لأصحاب النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: ضعوا للناس شيئا يعرفونه، فقال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الروم، فقيل: إنهم يكتبون من عهد ذي القرنين، فهذا يطول. وقال بعضهم: اكتبوا على تاريخ الفرس، فقيل: إن الفرس كلما قام ملك طرح ما كان قبله، فاجتمع رأيهم على أن ينظروا كم أقام رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بالمدينة، فوجدوا عشر سنين، فكتب التاريخ من هجرة رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ.
وقال ابن سيرين: قام رجل إلى عمر فقال: أرخوا، فقال عمر: ما أرخوا؟ قال:
شيء تفعله الأعاجم، يكتبون في شهر كذا من سنة كذا، قال عمر: حسن فأرخوا، فقال: من أي السنين نبدأ؟ فقالوا: من مبعثه، وقالوا: من وفاته، ثم أجمعوا على الهجرة، ثم قال: فبأي الشهور نبدأ، فقالوا: من رمضان، ثم قالوا: المحرم فإنه منصرف الناس من حجهم، وهو شهر حرام، فأجمعوا عَلَى المحرم.

(4/227)


وقال سعيد بن المسيب [1] : جمع عمر الناس فسألهم فقال: من أي يوم نكتب؟
فقال علي رضي الله عَنْهُ: من يوم هاجر رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ، وترك أرض الشرك. ففعله عمر رضي الله عنه.
وقال عثمان رضي الله عنه: أرخوا المحرم أول السنة.
قال مؤلف الكتاب [2] : فقد قدموا التأريخ شهرين وبعض الآخر، لأن رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلم قدم المدينة لاثنتي عشرة خلت من ربيع الأول.
وقد قيل: إنما كتب عمر التاريخ في سنة ست عشرة.
وقال/ قدامة بن جعفر الكاتب: تاريخ كل شيء آخره، وهو في الوقت غايته والموضع الّذي انتهى إليه، يقال: فلان تاريخ قومه، أي إليه انتهى شرفهم. ويقال:
ورخت الكتاب توريخا، وأرخته تأريخا، اللغة الأولى لتميم، والأخرى لقيس، ولكل مملكة وأهل ملة تأريخ، وقد كان الروم أرخوا على حسب ما وقع من الأحداث إلى أن استقر تأريخهم على وفاة ذي القرنين، وكانت الفرس تؤرخ بأعدل ملك لها إلى أن استقر تأريخها على هلاك يزدجرد الذي كان آخر ملوكهم، وكانت العرب تؤرخ بتفرق ولد إسماعيل وخروجهم عن مكة، ثم أرخوا بعام الغدرة، وقال: إن ملكا من ملوك حمير وجه إلى الكعبة بكسوة وطيب، فاعترض قوم من بني يربوع بن حنظلة الرسل فقتلوهم، فانتهبوا ذلك، وكانوا لا يفعلون ذلك في الأشهر الحرم، فسمي عام الغدرة. ثم أرخوا بعام الفيل، وكان في اليوم الثاني عشر من شباط سنة ثمانمائة واثنين وثمانين لذي القرنين، ثم أرخ بسني الهجرة، ابتدأ بذلك عمر بن الخطاب.
والتواريخ العربية إنما هي على الليالي، وسائر تواريخ الأمم على الأيام لأن سنيهم تجري على أمر الشمس، وهي نهارية، وسنو العرب يعمل فيها على القمر، وابتداء رؤيتنا له الليل، فيقال في أول ليلة مستهل، ولا يقال ذلك في النهار، ويقال في آخر الشهر يوم كذا: انسلاخ شهر كذا، لأن الشهر يبتدئ بابتداء الليل وينقضي بانقضاء
__________
[1] تاريخ الطبري 4/ 39.
[2] في الأصل: «قلت» .

(4/228)


النهار، وما قبل الخامس عشر يعرف بالليالي المواضي، وإذا كان بعده عرف بالليالي البواقي
. ومن الحوادث في هذه السنة/ أن عمر عزل سعد بن أبي وقاص عن الكوفة
لأن قوما من بني أسد من أهل الكوفة تكلموا على سعد وقالوا: اعفنا منه، فبعث عمر من يسأل أهل الكوفة عنه، فقالوا: لا نعلم عنه إلا خيرا، وسكت قوم فلم ينطقوا بشيء. وقال رَجُل يقال له أسامة: إنه لا يقسم بالسوية.
وقيل: إنما عزله في سنة عشرين، وقيل: بل في سنة اثنتين وعشرين، فعزله وأمر أبا موسى الأشعري، فشكوا منه، فصرفه إلى البصرة، وأمر عليهم المغيرة.
[أَخْبَرَنَا عَبْدُ الأَوَّلِ، أَخْبَرَنَا الدَّاوُدِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ أَعْيَنَ، حَدَّثَنَا الْفَرْبَرِيُّ، حَدَّثَنَا الْبُخَارِيُّ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا أَبُو عَوَانَةَ] [1] ، عَنْ عَبْدِ الْمَلِكِ بْنِ عُمَيْرٍ، [عَنْ جَابِرِ بْنِ سَمُرَةَ] [2] ، قَالَ:
شَكَى أَهْلُ الْكُوفَةِ سَعْدًا إِلَى عُمَرَ فَقَالُوا: لا يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّي، فَذكر عُمَرُ لَهُ ذَلِكَ، فَقَالَ: أَمَّا صلاة رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ فَقَدْ كُنْتُ أُصَلِّي بِهِمْ أَرْكُدُ فِي الأَوَّلَتَيْنِ وَأَحْذِفُ فِي الآخِرَتَيْنِ، فَقَالَ: ذَاكَ الظَّنُّ بِكَ يَا أَبَا إِسْحَاقَ، فَأَرْسِلْ مَعَهُ رَجُلا- أَوْ رِجَالا- يَسْأَلُ عَنْهُ أَهْلَ الْكُوفَةِ، وَلَمْ يَدَعْ مسجد إِلا سَأَلَ عَنْهُ وَيَقْنُونَ عَنْهُ مَعْرُوفًا حَتَّى دَخَلَ مَسْجِدًا لِبَنِي عَبْسٍ، فَقَامَ رَجُلٌ مِنْهُمْ يُقَالُ لَهُ أُسَامَةُ بْنُ قَتَادَةَ، فَقَالَ: أَمَّا إِذَ نَشَدْتَنَا فَإِنَّ سَعْدًا كَانَ لا يَسِيرُ بِالسَّوِيَّةِ، وَلا يَعْدِلُ فِي الْقَضِيَّةِ، فَقَالَ سَعْدٌ: أَمَا وَاللَّهِ لأَدْعُوَنَّ بِثَلاثٍ: اللَّهمّ إِنْ كَانَ عَبْدُكَ هَذَا كَاذِبًا قَامَ رِيَاءً وَسُمْعَةً فَأَطِلْ عُمْرَهُ وَأَطِلْ فَقْرَهُ، وَعَرِّضْهُ لِلْفِتَنِ، فَكَانَ بَعْدَ ذَلِكَ أُسَامَةُ إِذَا سُئِلَ يَقُولُ: شَيْخٌ كَبِيرٌ مَفْتُونٌ، أَصَابَتْنِي دَعْوَةُ سَعْدٍ.
قَالَ عَبْدُ الْمَلِكِ: فَأَنَا رَأَيْتُهُ بَعْدُ قَدْ سَقَطَ حَاجِبَاهُ عَلَى عَيْنَيْهِ مِنَ الْكِبَرِ] ، وَإِنَّهُ لَيَتَعَرَّضُ لِلْجَوَارِي فِي الطريق يغمزهن.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى عبد الأول بإسناده عن عبد الملك بن عمير، قال شكى» .
[2] ما بين المعقوفتين: من البخاري.

(4/229)


وفي هذه السنة حج بالناس عمر، واستخلف على المدينة زيد بن ثابت، وكان عامله في هذه السنة على مكة عتاب بن السائب، وعلى الطائف عثمان بن أبي العاص، وعلى اليمن يعلى بن منبه، وعلى اليمامة/ والبحرين العلاء بن الحضرمي، وعلى عمان حذيفة بن محصن، وعلى الشام كلها أبو عبيدة بن الجراح، وعلى الكوفة سعد بن أبي وقاص، فلما عزله عمر قيل له: من خليفتك يا سعد على الكوفة، فقال: عبد الله بن عبد الله بن عتبان.
وفي هذه السنة [عزل خالد بن الوليد] [1]
خرج خالد بن الوليد وعياض بن غنم فسارا في دروب المشركين فأصابا أموالا عظيمة، فلما قفل خالد [2] انتجعه الأشعث بن قيس فأجازه بعشرة آلاف، وكان عمر لا يخفى عليه من عماله شيء، فكتب إليه بما يجري، فدعا البريد وكتب معه إلى أبي عبيدة أن يقيم خالدا ويعقله بعمامته، وينزع عنه قلنسوته حتى يعلمكم من أين إجازة الأشعث، أمن ماله، أم من إصابة أصابها؟ فإن زعم أنها من إصابة أصابها فقد باء بجناية، [وإن زعم أنها من ماله فقد أسرف] ، فاعزله على كل حال.
فكتب أبو عبيدة إلى خالد فقدم عليه، فجمع له أناس وجلس [لهم] على المنبر، وتكلم البريد فقال: [يا خالد، أمن مالك أجزت بعشرة آلاف أم من إصابة؟ فلم يجبه حتى أكثر عليه، فقام بلال فقال] [3] : إن أمير المؤمنين أمر فيك بكذا، وتناول عمامته فنفضها، ووضع قلنسوته ثُمَّ عقله بعمامته، وقال: ما تقول، أمن مالك أم من إصابة؟، قال: لا بل من مالي، فأطلقه وأعاد قلنسوته ثم عممه بيده.
فخرج خالد حتى قدم على عمر، فقال عمر: من أين هذا الثراء؟ قال: من الأنفال
__________
[1] تاريخ الطبري 3/ 66.
[2] في الأصل: «فلما فصل» .
[3] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأوردنا من أ، والطبري.

(4/230)


والسهمان، فقال عمر: لا تغلبني بعد اليوم، وكتب عمر إلى الأمصار: إني لم أعزل خالدا عن سخطة ولا عن خيانة، ولكن الناس قد فتنوا به، فخفت أن يوكلوا إليه، فأحببت أن يعلموا أن الله عز وجل هو الصانع
. [ذكر تجديد المسجد الحرام والتوسعة فيه]
[1] وفي هذه السنة اعتمر عمر وخلف على المدينة زيد بن ثابت، وبنى المسجد الحرام/ ووسع فيه، وأقام بمكة عشرين ليلة، وتزوج في مكة ابنة حفص بن المغيرة، فأخبر أنها عاقر فطلقها قبل أن يدخل بها فرجعت إلى زوجها الأول.
وفي هذه العمرة: أمر بتجديد أنصاب الحرم، وأمر بذلك مخرمة بن نوفل، وأزهر بن [عبد] عوف، وحويطب بن عبد العزى، وسعيد بن يربوع.
ومر عمر في طريقه فكلمه أهل المياه أن يبتنوا منازل بين مكة والمدينة، فأذن لهم وشرط عليهم أن ابن السبيل أحق بالظل والماء.
[عزل المغيرة عن البصرة، وولاية أبي موسى الأشعري]
[2] وفي هذه السنة ولى عمر أبا موسى الأشعري البصرة، وأمره أن يشخص إليه المغيرة لأجل الحدث الذي قيل عَنْهُ.
قال علماء السير: كان المغيرة يختلف إلى أم جميل- امرأة من بني هلال- وليس لها زوج، فأعظم ذلك أهل البصرة، فدخل عليها يوما وقد وضعوا له الرصد، فكشفوا الستر فرأوه قد واقعها، فركب أبو بكرة إلى عمر رضي الله عنه، فقص عليه القصة، وكان معه نافع بن كلدة، وزياد، وشبل بن معبد، وهم الذين شهدوا على المغيرة.
فقال المغيرة: هؤلاء الأعبد كيف رأوني؟ إن كان استقبلوني فكيف لم أستتر، أو
__________
[1] تاريخ الطبري 4/ 68.
[2] تاريخ الطبري 4/ 69.

(4/231)


استدبروني فبأي شيء استحلوا النظر إلي في منزلي على امرأتي، والله ما أتيت إلا امرأتي- وكانت تشبهها- فشهد أبو بكرة أنه رآه بين رجلي أم جميل وهو يدخله ويخرجه كالميل في المكحلة، وشهد شبل مثل ذلك، وشهد نافع مثل ذلك، ولم يشهد زياد بمثل شهادتهم، وإنما قال: رأيته جالسا بين رجلي امرأة، ورأيت قدمين مخضوبتين تخفقان، واستين مكشوفين، وسمعت حفزانا شديدا، فقال له: هل رأيت كالميل في المكحلة؟
قال/: لا، قال: فهل تعرف المرأة؟ قَالَ: لا، ولكن أشبهها، قال: فتنح، وأمر بالثلاثة فجلدوا الحد. وقرأ: فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ الله هُمُ الْكاذِبُونَ 24: 13 [1] .
وقد قيل إن هذا كان في سنة خمس عشرة.
قال مؤلف الكتاب: من الجائز أن يكون قد تزوجها ولم يعلم أحدا، وقد كانت تشبه زوجته.
قال ابن عقيل: للفقهاء تأويلات، فقد كانت المتعة عقدا في الشرع، وكان نكاح السر عند قوم زنا، ولا يجوز أن ينسب إلى الصحابي ما لا يجوز لأنه جهل بمقدار الضرر في ذلك
. وفيها فتحت سوق الأهواز ومناذر ونهر تيري
وبعضهم يقول: إنما كان ذلك في سنة ست عشرة
. وفيها فتحت تستر
وبعضهم يقول: في سنة تسع عشرة
وفيها كان فتح رامهرمز والسوس وفيها أسر الهرمزان
[أخبرنا محمد بن الحسين، وإسماعيل، قالا: أخبرنا ابن النقور، قال: أخبرنا
__________
[1] سورة: النور، الآية: 33.

(4/232)


المخلص، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَبْد اللَّه، قَالَ: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف] [1] ، عن مُحَمَّدٍ، وَطَلْحَةَ، وَالْمُهَلَّبِ، وَعَمْرٍو، قَالُوا [2] :
لَمْ يَزَلْ يَزْدَجِرْدَ يُثِيرُ أَهْلَ فَارِسَ أَسَفًا عَلَى مَا خَرَجَ مِنْهُمْ، فَكَتَبَ إِلَيْهِمْ وَهُوَ بِمَرْوَ وَيُذَكِّرُهُمُ الأَحْفَادَ وَيُؤَنِّبُهُمْ، أَنْ قَدْ رَضِيتُمْ يَا أَهْلَ فَارِسَ أَنْ قَدْ غَلَبَتْكُمُ الْعَرَبُ عَلَى السَّوَادِ وَمَا وَالاهُ وَالأَهْوَازِ. ثُمَّ لَمْ يَرْضَوْا بِذَلِكَ حَتَّى يُورِدُوكُمْ فِي بِلادِكُمْ وَعُقْرِ دَارِكُمْ، فَتَحَرَّكُوا، وَتَكَاتَبَ أَهْلُ فَارِسَ وَأَهْلُ الأَهْوَازِ وَتَعَاهَدُوا وَتَوَاثَقُوا عَلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ، فَكُتِبَ إِلَى عُمَرَ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ: أَنِ ابْعَثْ إِلَى الأَهْوَازِ بَعْثًا كَثِيفًا مَعَ النُّعْمَانِ بْنِ مُقَرِّنٍ، وَعَجِّلْ وَابْعَثْ مَعَهُ سُوَيْدَ بْنَ مُقَرِّنٍ، وَجَرِيرَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ، فَلْيَنْزِلُوا بِإِزَاءِ الْهُرْمُزَانِ حَتَّى يَتَبَيَّنُوا [3] أَمْرَهُ. وَكَتَبَ إِلَى أَبِي مُوسَى: أَنِ ابْعَثْ/ إِلَى الأَهْوَازِ جُنْدًا كَثِيفًا، وَأَمِّرْ عَلَيْهِمْ سَهْلَ بْنَ عَدِيٍّ، وَابْعَثْ مَعَهُ الْبَرَاءَ بْنَ مَالِكٍ فِي جَمَاعَةٍ سَمَّاهُمْ، وَعَلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ وَأَهْلِ الْبَصْرَةِ جَمِيعًا أَبَا سَبْرَةَ بْنَ أَبِي رُهْمٍ، فَكُلُّ مَنْ أَتَاهُ فَمَدِّدْ لَهُ.
وَخَرَجَ النعمان بن مقران فِي أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَأَخَذَ وَاسِطَ السَّوَادِ حَتَّى قَطَعَ دِجْلَةَ بِحِيَالِ مَيْسَانَ، ثُمَّ أَخَذَ الْبَرَّ إلى الأهواز، فانتهى إلى نهر تيري فَجَازَهَا، ثُمَّ جَازَ مَنَاذِرَ، ثُمَّ جَازَ سُوقَ الأَهْوَازِ، ثُمَّ سَارَ نَحْوَ الْهُرْمُزَانِ- وَالْهُرْمُزَانُ يَوْمَئِذٍ بِرَامَهُرْمُزَ- وَلَمَّا سَمِعَ الْهُرْمُزَانُ بِمَسِيرِ النُّعْمَانِ إِلَيْهِ بادره، فالتقيا فَاقْتَتَلا قِتَالا شَدِيدًا، ثُمَّ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هَزَمَ الْهُرْمُزَانَ فَلَحِقَ بِتُسْتَرَ. وَسَارَ النُّعْمَانُ حَتَّى نَزَلَ بِرَامَهُرْمُزَ، وَكَانَ الْهُرْمُزَانُ قَدْ صَالَحَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ نَكَثَ، فَحَاصَرَهُ الْمُسْلِمُونَ فَأَكْثَرُوا فِيهِمُ الْقَتْلَ. وقتل البراء بن مالك فيما بين أول ذَلِكَ الْحِصَارِ إِلَى أَنْ فَتَحَ اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِائَةَ مُبَارَزَةٍ، وَزَاحَفَهُمُ الْمُسْلِمُونَ [4] فِي أَيَّامِ تُسْتَرَ ثَمَانِينَ مَرَّةً فِي حِصَارِهِمْ، حَتَّى إِذَا كَانَ فِي آخِرِ زَحْفٍ مِنْهَا وَاشْتَدَّ الْقِتَالُ، قَالَ الْمُسْلِمُونَ: يَا بَرَاءُ، أَقْسِمْ عَلَى رَبِّكَ لَيَهْزِمَنَّهُمْ لَنَا، فَقَالَ: اللَّهمّ اهْزِمْهُمْ لَنَا وَاسْتَشْهِدْنِي، فَهَزَمُوهُمْ حَتَّى أَدْخَلُوهُمْ فِي خَنَادِقِهِمْ، ثُمَّ اقْتَحَمُوهَا عَلَيْهِمْ، وَأَرَزُوا إِلَى مَدِينَتِهِمْ وَأَحَاَطُوا بِهَا. فَبَيْنَا هُمْ عَلَى ذَلِكَ خَرَجَ إِلَى النُّعْمَانِ رَجُلٌ فاستأمنه على أن يدله
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده، عن محمد» .
[2] الخبر في تاريخ الطبري 4/ 83.
[3] في الأصل: «يلتئثوا» .
[4] في الطبري 4/ 85: «وزاحفهم المشركون» .

(4/233)


عَلَى مَدْخَلٍ يُؤْتُونَ مِنْهُ، فَآمَنَهُ فَدَلَّهُمْ، فَأَقْبَلَوُا إلى ذلك المكان، فأناموا كلّ مقاتل، وأرزأوا الْهُرْمُزَانَ إِلَى الْقَلْعَةِ، وَأَطَافُوا بِهِ، فَقَالَ: مَعِي مِائَةُ نُشَّابَةٍ، وَاللَّهِ لا تَصِلُونَ إِلَيَّ مَا دَامَتْ مَعِي مِنْهَا وَاحِدَةٌ، قَالُوا: تُرِيدُ مَاذَا، قَالَ: أَنْ أَضَعَ يَدِي فِي أَيْدِيكُمْ عَلَى حُكْمِ عُمَرَ يَصْنَعُ بِي مَا يَشَاءُ، قَالُوا: فلك ذلك، فرمى قوسه فأكنهم مِنْ نَفْسِهِ، فَشَدُّوهُ وَثَاقًا، وَاقْتَسَمُوا مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ، وَكَانَ سَهْمُ الْفَارِسِ فِيهَا ثَلاثَةَ آلافٍ، وَالرَّاجِلُ أَلْفًا.
وَخَرَجَ مِنْ تُسْتَرَ فَلٌّ/ فَقَصَدُوا السُّوسَ، فَاتَّبَعَهُمْ أَبُو سَبْرَةَ، وَخَرَجَ مَعَهُ بِالنُّعْمَانِ وَأَبِي مُوسَى وَالْهُرْمُزَانِ، فَلَمَّا أَحَاطُوا بِهِ كَتَبُوا بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، وَوَفَّدَ أَبُو سَبْرَةَ ووفدا إِلَى عُمَرَ فِيهِمْ أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ، وَالأَحْنَفُ بْنُ قَيْسٍ، وَأَرْسَلَ الْهُرْمُزَانَ مَعَهُمْ، فَلَمَّا دَخَلُوا الْمَدِينَةَ هَيَّئُوا الْهُرْمُزَانَ فِي هَيْئَتِهِ، فَأَلْبَسُوهُ كُسْوَتَهُ، وَوَضَعُوا عَلَى رَأْسِهِ التَّاجَ، فَوَجَدُوا عُمَرَ نَائِمًا فِي جَانِبِ الْمَسْجِدِ، فَقَالَ الْهُرْمُزَانُ: أَيْنَ عُمَرُ؟ قَالُوا: هَا هُوَ ذَا، قَالَ: أَيْنَ حُرَّاسُهُ وَحُجَّابُهُ، قَالُوا: لَيْسَ لَهُ حَارِسٌ وَلا حَاجِبٌ، قَالَ: فَيَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ نَبِيًّا، قَالُوا: بَلْ يَعْمَلُ عَمَلَ الأَنْبِيَاءِ.
وَاسْتَيْقَظَ عُمَرُ، فَقَالَ: الْهُرْمُزَانُ، قَالُوا: نَعَمْ هَذَا مَلِكُ الأَهْوَازِ فَكَلِّمْهُ، فَقَالَ: لا حَتَّى لا يَبْقَى مِنْ حُلِيِّهِ شَيْءٌ، فَرَمَوْا مَا عَلَيْهِ وَأَلْبَسُوهُ ثَوْبًا صَفِيقًا، فَقَالَ عُمَرُ: يَا هُرْمُزَانُ كَيْفَ رَأَيْتَ وَبَالَ الْغَدْرِ؟ فَقَالَ: يَا عُمَرُ، إِنَّا وَإِيَّاكُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانَ اللَّهُ قَدْ خَلَّى بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ، فَغَلَبْنَاكُمْ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَعَنَا وَلا مَعَكُمْ، فَلَمَّا كَانَ مَعَكُمْ غَلَبْتُمُونَا. فَقَالَ عُمَرُ: مَا عُذْرُكَ [وَمَا حُجَّتُكَ] [1] فِي انْتِقَاضِكَ مَرَّةً بَعْدَ مَرَّةٍ؟ فَقَالَ: أَخَافُ أَنْ تَقْتُلَنِي قَبْلَ أَنْ أُخْبِرَكَ، قَالَ: لا تَخَفْ ذَلِكَ، وَاسْتَسْقَى مَاءً فَأُتِيَ به في قدح غليظ، فقال: لومت عَطَشًا لَمْ أَسْتَطِعْ أَنْ أَشْرَبَ فِي هَذَا، فَأُتِيَ بِهِ فِي إِنَاءٍ يَرْضَاهُ، فَجَعَلَتْ يَدُهُ تَرْعَدُ، وَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ أَنْ أُقْتَلَ وَأَنَا أَشْرَبُ الْمَاءَ، فَقَالَ عُمَرُ: لا بَأْسَ عَلَيْكَ حَتَّى تَشْرَبَهُ، فَأَكْفَأَهُ، فَقَالَ عُمَرُ: أَعِيدُوا عَلَيْهِ، وَلا تَجْمَعُوا عَلَيْهِ الْقَتْلَ وَالْعَطَشَ، فَقَالَ: لا حَاجَةَ لِي فِي الْمَاءِ، إِنَّمَا أَرَدْتُ أَنْ أُسْتَأْمَنَ بِهِ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: إِنِّي قَاتِلُكَ، قال: قد آمنتني، قال: كذبت، فقال:
أَنَسٌ: صَدَقَ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَدْ آمَنْتَهُ، قَالَ: وَيْحَكَ يَا أَنَسُ، أَنَا أُؤْمِنُ قَاتِلَ مَجْزَأَةَ بْنِ ثَوْرٍ وَالْبَرَاءِ بْنِ مَالِكٍ، وَاللَّهِ لَتَأْتِيَنَّ بِمَخْرَجٍ أَوْ لأُعَاقِبَنَّكَ، قَالَ: قُلْتَ لَهُ: لا بأس عليك
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأوردناه من ظ، أ.

(4/234)


حَتَّى تُخْبِرَنِي، وَقُلْتَ: لا بَأْسَ عَلَيْكَ حَتَّى تَشْرَبَهُ، وَقَالَ لَهُ مَنْ حَوْلَهُ مِثْلَ ذَلِكَ، فَأَقْبَلَ عَلَى الْهُرْمُزَانِ، وَقَالَ/: تَخْدَعُنِي، وَاللَّهِ لا أَنْخَدِعُ إِلا أَنْ تُسْلِمَ فَأَسْلَمَ. فَفَرَضَ لَهُ عَلَى ألْفَيْنِ، وَأَنْزَلَهُ الْمَدِينَةَ.
فصل
وقال الأحنف لعمر [1] : يا أمير المؤمنين إنك نهيتنا عن الانسياح في البلاد، وأمرتنا بالاقتصار على ما في أيدينا، وإن ملك فارس حي بين أظهرهم، وإنهم لا يزالون يساجلوننا [2] ما دام ملكهم فيهم، ولم يجتمع ملكان فاتفقا حتى يخرج أحدهما صاحبه، وإن ملكهم هو الّذي يبعثهم، فلا يزال هذا دأبهم حتى تأذن لنا فنسيح في بلادهم حتى نزيله عن فارس، ونخرجه من مملكته، ونقتله أو نلجئه إلى غير مملكته، وغير أمته، فهنالك ينقطع رجاء أهل فارس، فقال: صدقتني والله وشرحت لي الأمر. ثم نظر في حوائجهم وسرحهم.
وقدم على عمر الكتاب باجتماع أهل نهاوند
. [ذكر فتح السوس]
[3] وأقام [4] أبو سبرة على السوس يحاصرهم، فأشرف عليهم الرهبان، فقالوا: يا معشر العرب، إن مما عهد إلينا علماؤنا أنه لا يفتح السوس إلا الدجال أو قوم معهم الدجال، وكان ابن صياد مع المسلمين، فأتى باب السوس فدفعه برجله، وقال: انفتح، فتقطعت السلاسل وتفتحت الأبواب، ودخل المسلمون، فألقى المشركون بأيديهم، وقالوا: الصلح الصلح، فأجابوهم واقتسموا ما أصابوا قبل الصلح، ثم افترقوا.
__________
[1] الخبر في تاريخ الطبري 4/ 89.
[2] الأصل، وابن حبيش: «يساحلونا» ، وابن الأثير والنويري: «يقاتلوننا» وما أوردناه من أ، والطبري، وظ.
[3] تاريخ الطبري 4/ 89.
[4] الخبر في تاريخ الطبري 4/ 91.

(4/235)


وقيل لأبي سبرة [1] : هذا جسد دانيال عليه السلام في هذه المدينة، قال: وما علمي به، وكان دانيال قد مات بالسوس، [وكانوا يستسقون بجسده، فلما ولى أبو سبرة إلى جنديسابور أقام أَبُو موسى بالسوس] [2] ، وكتب إلى عمر رضي الله عنه في أمر دانيال عليه السلام، فكتب إليه يأمره أن يواريه، فكفنه ودفنه المسلمون. وكتب أبو موسى إلى عمر بأنه كان عليه خاتم فهو عندنا، فكتب إليه أن تختمه، وفي فصه نقش رجل بين أسدين.
ولما ذهب أبو سبرة إلى جنديسابور، أقام إلى أن رمى إليهم بالأمان من عسكر المسلمين، ففتحوا الأبواب، وخرج السرح، فقال المسلمون: ما لكم؟ قالوا: رميتم إلينا بالسلام فقبلناه، وأقررنا لكم [3] / بالجزية، قالوا: ما فعلنا. فسأل المسلمون فيما بينهم، فإذا عبد يدعى مكنفا كان أصله منها، هو الذي كتب لهم. فقالوا: إنما هو عبد، وكتبوا بذلك إلى عمر، فأجاز ذلك وانصرفوا عنهم
. فصل
ثم أن عمر رضي الله عنه أذن في الانسياح في بلاد فارس في هذه السنة، وانتهى في ذلك إِلى رأي الأحنف بن قيس الذي قدمنا ذكره، فأمر الأمراء وبعث إليهم الألوية ليخرجوا إِلى الكور، فلم يستتب مسيرهم حتى دخلت سنة ثمان عشرة، وأمدهم عمر، وكان يزدجرد بن شهريار بن كسرى وهو يومئذ ملك أهل فارس لما انهزم أهل جلولاء خرج يريد الري، ثم خرج إِلى أصبهان، ثم إلى خرسان، فنزول مرو، وبنى للنار بيتا، واتخذ بستانا، وبنى فرسخين من مرو إلى البستان، واطمأن في نفسه، وأمن أن يؤتى، وكاتب من بقي من الأعاجم مما لم يفتحه المسلمون، فدانوا له.
__________
[1] تاريخ الطبري 4/ 92.
[2] ما بين المعقوفتين من هامش الأصل.
[3] في الأصل: «أقررناكم» .

(4/236)


وفي هذه السنة تزوج عمر رضي الله عنه أم كلثوم بنت علي رضي الله عنه [1]
وهي ابنة فاطمة رضي الله عنها، وكان قد خطبها إلى علي، فقال: يا أمير المؤمنين إنها صبية، فقال: إنك والله ما بك ذلك، ولكن قد علمنا ما بك فأمر علي بها فصنعت، ثم أمر ببرد فطواه، ثم قال: انطلقي بهذا إلى أمير المؤمنين فقولي: أرسلني أبي إليك وهو يقرئك السلام ويقول إن رضيت البرد فأمسكه، وإن سخطته فرده، فلما أتت عمر قال: بارك الله فيك وفي أبيك قد رضينا. قالت: فرجعت إلى أبيها، فقالت: ما نشر البرد وما نظر إلا إلي، فزوجها إياه، ولم تكن قد بلغت، فدخل بها في ذي القعدة، ثم ولدت له زيدا.
[أَخْبَرَنَا ابْنُ الْحُصَيْنِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو طَالِبٍ مُحَمَّدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ غَيْلانَ، قَالَ:
حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الشَّافِعِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ كزالٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ بْنُ الْمُنْذِرِ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْمَلِكِ الأَنْصَارِيُّ، قَالَ:
حَدَّثَنَا مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ] [2] ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ الله، قَالَ:
تَزَوَّجَ عُمَرُ/ بْنُ الْخَطَّابِ أُمَّ كُلْثُومٍ بِنْتَ فَاطِمَةَ بِنْتِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ عَلَى أَرْبَعِينَ أَلْفَ دِرْهَمٍ.
[أَنْبَأَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْوَهَّابِ بِإِسْنَادِهِ] [3] عَنِ الزُّبَيْرِ بِنْ بَكَّارٍ، قَالَ:
كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ خَطَبَ أُمَّ كُلْثُومٍ إِلَى عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ، فَقَالَ لَهُ [عَلِيٌّ] : إِنَّها صَغِيرَةٌ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: زَوِّجْنِيهَا يَا أَبَا الْحَسَنِ، فَإنِّي أَرْصُدُ مِنْ كَرَامَتِهَا مَا لا يَرْصُدُ أَحَدٌ، فَقَالَ لَهُ عَلِيٌّ: أَنَا أَبْعَثُهَا إِلَيْكَ، فَإِنْ رَضِيتَهَا زَوِّجْتَكَهَا، فَبَعَثَهَا إِلَيْهِ بِبُرْدٍ، وَقَالَ لَهَا: قُولِي لَهُ: هَذَا الْبُرْدُ الَّذِي قُلْتُ لَكَ، فَقَالَتْ ذَلِكَ لِعُمَرَ، فَقَالَ: قُولِي قَدْ رَضِيتُهُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْكِ، وَضَعَ يَدَهُ عَلَى سَاقِهَا وَكَشَفَهَا، فَقَالَتْ لَهُ: أَتَفْعَلُ هَذَا، لَوْلا أَنَّكَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ لَكَسَرْتُ أَنْفَكَ، ثُمَّ خَرَجَتْ حَتَّى جَاءَتْ أَبَاهَا، فَأَخْبَرَتْهُ الْخَبَرَ وَقَالَتْ: بَعَثْتَنِي إِلَى شَيْخِ سُوءٍ، فَقَالَ: مَهْلا يَا بُنَيَّةَ، فَإِنَّهُ زَوْجُكِ، فَجَاءَ عُمَرُ بن الخطاب إلى مجلس
__________
[1] تاريخ الطبري 4/ 69.
[2] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن جابر بن عبد الله» .
[3] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن الزبير» .

(4/237)


الْمُهَاجِرِينَ فِي الرَّوْضَةِ، وَكَانَ يَجْلِسُ فِيهِ الْمُهَاجِرُونَ الأولون، فجلس إليهم، فقال لهم: رفئوني، فَقَالُوا: لِمَاذَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، قَالَ: تَزَوَّجْتُ أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، سمعت رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ: كُلُّ نَسَبٍ وَسَبَبٍ وَصِهْرٍ مُنْقَطِعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلا نَسَبِي وَسَبَبِي وَصِهْرِي، فَكَانَ لِي بِهِ السَّبَبُ وَالنَّسَبُ، وَأَرَدْتُ أَنْ أَجْمَعَ إِلَيْهِ الصهر، فرفئوه رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ
. ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
190- البراء بن مالك بن النضر بن ضمضم بن زيد بن حرام:
أمه أم سليم بنت ملحان، وهو أخو أنس لأبويه، شهد أحدا والمشاهد كلها مع رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ، وكان شجاعا ذا نكاية في الحروب، وكان عمر يكتب: لا تستعملوا البراء على جيش من جيوش/ المسلمين، إنه مهلكه، يقدم بهم، وإنه ركب فرسه يوم اليمامة، وقال: يا أيها الناس، إنها والله الجنة وما إلى المدينة [من] [1] سبيل، فمضغ فرسه مضغات [2] ، ثم كبس وكبس الناس معه، فهزم الله المشركين، وكانت في مدينتهم ثلمة.
[أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا البرمكي، أَخْبَرَنَا ابْنُ حَيَّوَيْهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ، أَخْبَرَنَا ابن الفهم، أخبرنا محمد بن سعد، قال: حدثنا حجاج بن محمد، قال: أخبرنا السري بن يَحْيَى] [3] ، عن محمد بن سيرين:
أن المسلمين انتهوا إلى حائط قد أغلق بابه فيه رجال من المشركين، فقعد البراء بن مالك على ترس وقال: ارفعوني برماحكم فالقوني إليهم، ففعلوا فأدركوه وقد قتل منهم خمسة عشر [4] .
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: وأوردناه من أ.
[2] في الأصل: وفي أبدون نقط.
[3] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن ابن سيرين.
[4] في أ، «قتل منهم عشرة» .

(4/238)


[أَخْبَرَنَا أَبُو الْبَرَكَاتِ ابْنُ عَلِيٍّ الْبَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أحمد بن علي الطرثيثي، أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ الْحَسَنِ الطَّبَرِيُّ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ زِيَادٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَزِيزٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي سَلامَةُ بْنُ رَوْحٍ، عَنْ عُقَيْلٍ، عَنِ ابْنِ شِهَابٍ] [1] ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ:
«كَمْ مِنْ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ ذِي طِمْرَيْنِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ، مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ» . وأن البراء لقي زحفا من المشركين وقد أوجف المشركون في المسلمين، فقالوا: يا براء إن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ قال إنك لو أقسمت على الله لأبرك، فاقسم على ربك، فقال: أقسمت عليك يا رب لما منحتنا أكتافهم، فمنحوا أكتافهم. ثم التقوا على قنطرة السوس فأوجفوا في المسلمين، فقالوا: اقسم يا براء على ربك، [فقال: أقسمت عليك يا ربي] [2] لما منحتنا أكتافهم وألحقتني بنبيي صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، فمنحوا أكتافهم، وقتل شهيدا.
قال مؤلف الكتاب: قد ذكرنا آنفا أنه قتل يوم تستر
. 191-[حدير: [3]
جاء في الحديث أن رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ قسم في بعض الأيام قسما ونسي حديرا، فنزل جبريل فقال: يا محمد نسيت حديرا، فأرسل النبي صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ في طلبه، قال الذي ذهب في طلبه: فأدركته وهو يقول: سبحان الله، والحمد للَّه ولا إله إلا الله والله أكبر، فقلت: يا هذا ارجع إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فقد عوتب فيك، فقال: يا من لم تنس حديرا اجعل حديرا لا ينساك.
أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن نَاصِرٍ، أَخْبَرَنَا الْمُبَارَك بْن عَبْدِ الْجَبَّارِ، أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَلِيٍّ الأَزَجِيُّ، أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ جَعْفَرٍ الساجي، حدّثنا عبد العزيز بن
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن أنس بن مالك» .
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل: وأوردناه من أ.
[3] هذه الترجمة من أ، وفي الأصل: «بعده حدير حكايته في صفة الصفوة» . وترجمته في حلية الأولياء 6/ 100.

(4/239)


جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْجَلالُ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ عَطَاءِ بْنِ مُسْلِمٍ الْبَاهِلِيُّ، حَدَّثَنَا الْمُغِيرَةُ، حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ أَبِي رُوَّادٍ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ:
أَنَّ رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ بَعَثَ جَيْشًا فِيهِمْ رَجُلٌ يُقَالُ لَهُ حُدْيَرٌ، وَكَانَتْ تِلْكَ السَّنَةُ قَدْ أَصَابَتْهُمْ شِدَّةٌ مِنْ قِلَّةِ الطَّعَامِ، فَزَوَّدَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ وَنَسِيَ أَنْ يُزَوِّدَ حُدَيْرًا، فَخَرَجَ حُدَيْرٌ صابرا محتسبا وَهُوَ فِي آخِرِ الرَّكْبِ يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَسُبْحَانَ اللهِ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلا باللَّه، وَيَقُولُ: نِعْمَ الزَّادُ هُوَ يَا رَبُّ، فَهُوَ يُرَدِّدُهَا وَهُوَ في آخر الركب.
قالَ: فَجَاءَ جِبْرِيلُ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ، وَقَالَ لَهُ: إِنَّ رِبِّي أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ يُخْبِرُكَ أَنَّكَ زَوَّدْتَ أَصْحَابَكَ وَنَسِيتَ أَنْ تُزَوِّدَ حُدَيْرًا، وَهُوَ فِي آخِرِ الرَّكْبِ يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْحَمْدُ للَّه، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه، وَيَقُولُ: نِعْمَ الزَّادُ هُوَ يَا رَبُّ. قَالَ: وَكَلامُهُ ذَلِكَ لَهُ نُورٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ فَابْعَثْ إِلَيْهِ بِزَادٍ، فدعا النبي صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ رَجُلا فَدَفَعَ إِلَيْهِ الزَّادَ، حَفِظَ عَلَيْهِ مَا يَقُولُ، وَيَقُولُ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم يقرئك السَّلامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ، وَيُخْبِرُكَ أَنَّهُ كَانَ نَسِيَ أَنْ يُزَوِّدَكَ، وَإِنَّ رَبِّي تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَرْسَلَ إِلَيَّ جِبْرِيلَ يُذَكِّرُنِي بِكَ، فَذَكَّرَهُ جِبْرِيلُ وَأَعْلَمَهُ مَكَانَكَ. قَالَ: فَانْتَهَى إِلَيْهِ وَهُوَ يَقُولُ: لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، وَاللَّهُ أَكْبَرُ، وَالْحَمْدُ للَّه، وسبحان الله، ولا حول ولا قوة إلا باللَّه، وَيَقُولُ: نِعْمَ الزَّادُ هَذَا يَا رَبُّ. قَالَ: فَدَنَا مِنْهُ ثُمَّ قَالَ لَهُ: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يقرئك السَّلامَ وَرَحْمَةَ اللَّهِ، وَقَدْ أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ بِزَادٍ ويقول: إنما نَسِيتُكَ فَأُرْسِلَ إِلَيَّ جِبْرِيلُ مِنَ السَّمَاءِ يُذَكِّرُنِي بِكَ.
قَالَ: فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ وَصَلَّى على النبي صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ للَّه رَبُّ الْعَالَمِينَ ذكرني ربي من فوق سبع سماوات وَفَوْقَ عَرْشِهِ وَرَحِمَ جُوعِي وَضَعْفِي، يَا رَبُّ كَمَا لَمْ تَنْسَ حُدَيْرًا فَاجْعَلْ حُدَيْرًا لا يَنْسَاكَ. قَالَ: فَحَفِظَ مَا قَالَ فَرَجَعَ إِلَى النبي صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فَأَخْبَرَهُ بِمَا سَمِعَ مِنْهُ حِينَ أَتَاهُ، وَبِمَا قَالَ حِينَ أَخْبَرَهُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «أَمَا إِنَّكَ لَوْ رَفَعْتَ رَأْسَكَ إِلَى السَّمَاءِ لَرَأَيْتَ لِكَلامِهِ نُورًا سَاطِعًا مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»
. 192- الحباب بن المنذر بن الجموح [1] [بن زيد بن حرام، أبو عمرو] [2] :
وهو الذي أشار على رسول الله صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ يوم بدر بالمكان الذي نزل فيه، فقال جبريل:
__________
[1] في أ: «المنذر بن الحمق» .
[2] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 109.

(4/240)


الرأي ما أشار به الحباب، وشهد بدرا وثبت مع رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ يوم أحد، وبايعه على الموت، / وشهد المشاهد كلها معه، وهو القائل يوم السقيفة: أَنَا جُذَيْلُهَا الْمُحَكِّكُ وَعُذَيْقُهَا الْمُرَجِّبُ، مِنَّا أَمِيرٌ ومنكم أمير
. 193- ربيعة بن الحارث بن عبد المطلب بن هاشم، أبو أروى [1] :
وكان من أولاده صبي استرضع له في هذيل فقتله بنو ليث بن بكر في حرب كانت بينهم، وكان حينئذ يحبو أمام البيوت، فرموه بحجر فرضخ رأسه، فقال رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وسلم يوم الفتح، ألا إن كل دم في الجاهلية فهو تحت قدمي، وأول دم أضعه دم [ابن] [2] ربيعة بن الحارث» . وقد اختلفوا في اسم هذا الصبي، فقال بعضهم: تمام، وقال بعضهم: إياس، وقال بعضهم: آدم، وكان غلط من هؤلاء لأنهم رأوا في الكتاب دم ابن ربيعة، فزادوا ألفا.
وكان ربيعة أسن من عمه العباس بسنتين. ولما خرج المشركون إلى بدر كان ربيعة غائبا بالشام، فلم يشهدها معهم، فلما خرج العباس ونوفل إلى رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ سبقهما ربيعة بن الحارث إلى الأبواء، ثم أراد الرجوع إلى مكة، فقالا: أين ترجع؟ إلى دار الشرك يقاتلون رَسُول الله صلّى الله عليه وآله وسلم ويكذبونه، وقد عز وكثرت أصحابه [3] ، ارجع. فرجع معهما حتى قدموا على رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مسلمين، فشهد ربيعة مع رسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فتح مكة والطائف وحنين، وثبت معه يومئذ، وتُوُفّي في خلافة عمر رضي الله عنه بعد أخويه نوفل وأبي سفيان
. 194- العلاء بن الحضرمي، واسم الحضرمي عبد الله بن ضماد بن سلمى:
من حضرموت من اليمن، وأخوه ميمون بن الحضرمي صاحب البئر التي بأعلى مكة، يقال لها: بئر ميمون، مشهورة على طريق العراق، وكان حفرها في الجاهلية.
__________
[1] طبقات ابن سعد 4/ 1/ 32.
[2] ما بين المعقوفتين: من أ.
[3] في أ، وابن سعد: «وقد عز وكثف أصحابه» .

(4/241)


وأسلم العلاء قديما، وبعثه رسول الله صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ منصرفه من الجعرانة إلى المنذر بن ساوي العبدي بالبحرين، وكتب معه كتابا/ يدعوه فيه إلى الإسلام، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ ولى العلاء البحرين ثم عزله عنها، وبعث أبا سعيد [1] عاملا عليها فلم يزل عليها إلى أن توفي رَسُول الله صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، فأقبل إلى المدينة وترك العمل، فبعث أبو بكر العلاء.
[أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ عبد الباقي، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا علي بن مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَيْفٍ، عَنْ أَبِي إِسْمَاعِيلَ الْهَمْدَانِيُّ، وَغَيْرِهِ، عَنْ مُجَالِدٍ] [2] ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ:
كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ إلى العلاء بن الحضرمي وهو بالبحرين: أن سِرْ إِلَى عُتْبَةَ بْنِ غَزْوَانَ فَقَدْ وَلَّيْتُكَ عمله، واعلم أنك تقدم على رجل من الْمُهَاجِرِينَ الأَوَّلِينَ الَّذِينَ قَدْ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ الْحُسْنَى، لَمْ أَعْزِلْهُ أَنْ لا يَكُونَ عَفِيفًا صَلِيبًا شَدِيدَ الْبَأْسِ، وَلَكِنِّي ظَنَنْتُ أَنَّكَ أَغْنَى عَنِ الْمُسْلِمِينَ فِي تِلْكَ النَّاحِيَةِ مِنْهُ، فَاعْرِفْ لَهُ حَقَّهُ، وَقَدْ وَلَّيْتُ قَبْلَكَ رَجُلا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ، فَإِنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَلِيَ عُتْبَةُ فَالْخَلْقُ وَالأَمْرُ للَّه رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وَاعْلَمْ أَنَّ أَمْرَ اللَّهِ مَحْفُوظٌ بِحِفْظِهِ الَّذِي أَنْزَلَهُ، فَانْظُرْ إِلَى الَّذِي خُلِقْتَ لَهُ، فَاكْدَحْ لَهُ وَدَعْ مَا سِوَاهُ فَإِنَّ الدُّنْيَا أَمَدٌ وَالآخِرَةُ أَبَدٌ، وَلا يَشْغَلَنَّكَ شَيْءٌ مُدْبِرٌ خَيْرُهُ عَنْ شَيْءٍ بَاقٍ خَيْرُهُ، وَاهْرُبْ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ سَخَطِهِ، فَإِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ يَجْمَعُ لِمَنْ شَاءَ الْفَضِيلَةَ فِي حُكْمِهِ وَعِلْمِهِ، نَسْأَلُ اللَّهَ لَنَا وَلَكَ الْعَوْنَ عَلَى طَاعَتِهِ وَالنَّجَاةَ مِنْ عَذَابِهِ.
قَالَ: فَخَرَجَ الْعَلاءُ مِنَ الْبَحْرَيْنِ، وَقَدِمَ الْبَصْرَةَ فِي رَهْطٍ مِنْهُمْ أَبُو هُرَيْرَةَ [وَأَبُو بَكْرَةَ] فَلَمَّا كَانُوا قَرِيبًا مِنْ أَرْضِ تَمِيمٍ مَاتَ الْعَلاءُ، فَرَجَعَ أَبُو هُرَيْرَةَ إِلَى الْبَحْرَيْنِ، وَأَبُو بَكْرَةَ قَدِمَ الْبَصْرَةَ، فَكَانَ أَبُو هُرَيْرَةَ يَقُولُ: رَأَيْتُ مِنَ الْعَلاءِ بْنِ الْحَضْرَمِيِّ ثَلاثَةَ أَشْيَاءَ لا أَزَالُ أُحِبُّهُ أَبَدًا: رَأَيْتُهُ قَطَعَ الْبَحْرَ عَلَى فَرَسِهِ يَوْمَ دَارِينَ، وَقَدِمَ مِنَ الْمَدِينَةِ يُرِيدُ البحرين،
__________
[1] في أ: «وبعث سعيد» .
[2] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن الشعبي» .

(4/242)


فلما كُنَّا بِالدِّهْنَاءِ فُقِدَ مَاؤُهُمْ، فَدَعَا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ فَنَبَعَ لَهُمْ مَاءٌ مِنْ تَحْتِ رَمْلِهِ، فَارْتَوَوْا وَارْتَحَلُوا، وَنَسِيَ رَجُلٌ مِنْهُمْ بَعْضَ مَتَاعِهِ فَرَجَعَ فَأَخَذَهُ وَلَمْ يَجِدِ الْمَاءَ. وَخَرَجَتْ مَعَهُ مِنَ الْبَحْرَيْنِ إِلَى الْبَصْرَةِ فَمَاتَ وَنَحْنُ عَلَى غَيْرِ مَاءٍ فَأَبْدَى اللَّهُ لَنَا سَحَابَةً، فَمُطِرْنَا/ فَغَسَّلْنَاهُ وَحَفَرْنَا لَهُ بِسُيُوفِنَا وَلَمْ نُلَحِّدْ لَهُ، فَدَفَنَّاهُ وَمَضَيْنَا، فَقُلْنَا: رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ دَفَنَّاهُ وَلَمْ نُلَحِّدْ لَهُ، فَرَجَعْنَا فَلَمْ نَجِدْ مَوْضِعَ قَبْرِهِ
. 195- عمرو بن عنبسة بن خالد بن حذيفة، أبو نجيح السلمي:
قديم الإسلام، كان يقول: رغبت عن آلهة قومي في الجاهلية، ورأيت أنها باطلة، فلقيت رجلا من أهل الكتاب، فقلت: إني امرؤ ممن يعبد الحجارة فينزل الحي ليس معهم إله، فيخرج الرجل منهم فيأتي بأربعة أحجار فينصب ثلاثة لقدره ويجعل أخيرها إلها يعبده، ثُمَّ لعله يجد أحسن منه فيتركه ثم يأخذ غيره، فرأيت أن هذا باطل فدلني على خير من هذا، فَقَالَ: يخرج من مكة رجل يرغب عن آلهة قومه، فإذا رأيت ذلك فاتبعه فإنه يأتي بأفضل الدّين، فلم يكن لي همة إلا مكة، فآتي فأسأل: هل حدث بها حدث؟ فيقال: لا ثم قدمت مرة فسألت فقالوا: حدث، رجل يرغب عن آلهة قومه، فسألت عنه فوجدته مستخفيا، ووجدت قريشا عَلَيْهِ أشداء، فتلطفت حتى دخلت عليه، فسألته، فقلت: أي شيء أنت؟ قال: نبي، قلت: ومن أرسلك؟ قَالَ: الله، قلت: وبما أرسلك؟ قال: بعبادة الله وحده لا شريك له، وبحقن الدماء، وبكسر الأوثان، وصلة الرحم، وأمان السبيل. قلت: نعم ما أرسلك به، قد آمنت بك وصدقتك، فمن تبعك؟
قَالَ: حر وعبد، وليس معه إلا أبو بكر وبلال، فلقد رأيتني وأنا رابع الإسلام، ثم قلت:
أتأمرني أن أمكث معك أو أنصرف، فقال: ألا ترى كراهية الناس لما جئت به، فلا تستطيع أن تمكث، كن في أهلك، فإذا سمعت بي قد خرجت مخرجا فاتبعني، فمكثت في أهلي حتى إذا خرج إِلى المدينة سرت إليه، فقدمت المدينة، فقلت: يا نبي الله، أتعرفني؟ قال: أنت السلمي الذي أتيتني بمكة، فسألتني عن كذا، فقلت لك: كذا، فقلت: أي الليل أسمع؟ قال: الثلث الأخير.
/ قال الواقدي: كان عمرو بن عنبسة ينزل صفنه وجادة، وهي من أرض بني

(4/243)


سَليم، فلم يزل مقيما هناك حتى مضت بدر وأحد والخندق والحديبية وخيبر [1] ، ثم قدم بعد ذَلِكَ عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ
. 196- عتبة بن غزوان [بن جابر المازني] [2] :
وقد تقدم خبره بمسيرة إلى فرج الهند [3] ، ويكنى أبا عبد الله. [4] [هاجر إلى الحبشة الهجرة الثانية، وشهد بدرا، واستعمله عمر على البصرة، وهو الذي مصرها واختطها، ثم قدم على عمر فرده إلى البصرة واليا، فمات في الطريق في هذه السنة.
وقيل: في سنة خمس عشرة، وهو ابن سبع وخمسين، وقيل: خمس وخمسين.
أَخْبَرَنَا عبد الرحمن بن محمد القزاز، أخبرنا أَحْمَدَ بْنِ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ، قَالَ:
أَخْبَرَنِي الأزهري، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ الْبَزَّارُ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ أَحْمَدَ الْمَرْوَزِيُّ، حَدَّثَنَا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، حدثنا شعيب بن إِبْرَاهِيمَ، حَدَّثَنَا سَيْفُ بْنُ عُمَرَ، عَنْ مُحَمَّدِ وَطَلْحَةُ وَالْمُهَلَّبُ وَزِيَادٌ وَعَمْرٌو، قَالُوا:
مَصَّرَ الْمُسْلِمُونَ الْمَدَائِنَ وَأَوْطَنُوهَا، حَتَّى إِذَا فَرَغُوا مِنْ جَلُولاءَ وَتِكْرِيتَ، وَأَخَذُوا الْحِصْنَيْنِ، كَتَبَ عُمَرُ إِلَى سَعْدٍ: أَنِ ابْعَثْ عُتْبَةَ بْنَ غَزْوَانَ إِلَى فرْجِ الْهِنْدِ فَلْيَرْتَدْ مَنْزِلا يُمَصِّرُهُ، وابعث معه سَبْعِينَ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم، فخرج عتبة بن غزوان في سبعمائة من المدائن، فسار حتى نزل شَاطِئِ دِجْلَةَ، وَتَبَوَّأَ دَارَ مُقَامِهِ.
أَخْبَرَنَا هِبَةُ اللَّهِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُصَيْنِ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيٍّ التَّمِيمِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بن أحمد، قال: حدثني أبي، حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ أَسَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ المغيرة، حدّثنا حميد بن هلال، عن مخالد بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ:
خَطَبَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ فحمد الله وأثنى عليه، ثم قَالَ: أما بَعْدُ، فَإِنَّ الدُّنْيَا قَدْ آذَنَتْ بِصُرْمٍ وَوَلَّتْ حَذَّاءَ، وَلَمْ يَبْقَ مِنْهَا إِلا صَبَابَةٌ كَصَبَابَةِ الإناء يتصابها صاحبها، وأنتم
__________
[1] في الأصل: «حنين» .
[2] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 69، وتاريخ بغداد 1/ 55.
[3] فرج الهند هو ثغره، وكان يومئذ من البصرة.
[4] من هنا ساقط في الأصل، حتى آخر الترجمة، وكتب الناسخ: «ذكر موعظته في صفة الصفوة» .

(4/244)


مُنْتَقِلُونَ بَعْدَهَا إِلَى دَارٍ لا زَوَالَ لَهَا، فَانْتَقِلُوا بِخَيْرِ مَا بِحَضْرَتِكُمْ، فَإِنَّهُ قَدْ ذكر لنا أن الحرج يُلْقَى مِنْ شُقَّةِ جَهَنَّمَ، فَيَهْوِي فِيهَا سَبْعِينَ عَامًا مَا يُدْرِكُ لَهَا قَعْرًا، وَاللَّهِ لَتُمْلأنَّ، أَفَعَجِبْتُمْ، وَاللَّهِ لَقَدْ ذكر لَنَا أَنَّ مَا بَيْنَ مِصْرَاعَيِ الْجَنَّةِ مَسِيرَةُ أَرْبَعِينَ عَامًا، وَلَيَأْتِيَنَّ عليه يوم وهو كظيظ بالزحام، وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي وَأَنَا سَابِعُ سَبْعَةٍ مَعَ رَسُولِ الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مَا لَنَا طَعَامٌ إِلا وَرَقَ الشَّجَرِ حَتَّى قُرِّحَتْ أَشْدَاقُنَا، وَإِنِّي الْتَقَطْتُ بُرْدَةَ فَشَقَقْتُهَا بَيْنِي وَبَيْنَ سَعْدٍ فَاتَّزَرَ بِنِصْفِهَا، وَاتَّزَرْتُ بِنِصْفِهَا، فما أَصْبَحَ الْيَوْمَ مِنَّا أَحَدٌ إِلا أَصْبَحَ أَمِيرَ مِصْرٍ مِنَ الأَمْصَارِ، وَإِنِّي أَعُوذُ باللَّه أَنْ أَكُونَ فِي نَفْسِي عَظِيمًا وَعِنْدَ اللَّهِ صَغِيرًا، وَإِنَّهَا لَمْ تَكُنْ نُبُوَّةٌ قَطُّ إِلا تَنَاسَخَتْ حَتَّى يَكُونَ آخِرُهَا مَلِكًا فَسَتَخْبُرُونَ وَتُجَرِّبُونَ الأُمَرَاءُ بَعْدَنَا.
انْفَرَدَ بِإِخْرَاجِهِ مُسْلِمٌ، وَلَيْسَ لِعُتْبَةَ فِي الصَّحِيحِ غَيْرُهُ [1] .
رَوَاهُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا بَهْزُ بْنُ رَاشِدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْمُغِيرَةِ، قَالَ: حَدَّثَنَا حُمَيْدٌ- يَعْنِي ابْنَ هِلالٍ- عَنْ خَالِدِ بْنِ عُمَيْرٍ، قَالَ: خَطَبَ عُتْبَةُ بْنُ غَزْوَانَ ...
أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ الْقَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أحمد بْن علي بْن ثَابِتٍ، أَخْبَرَنَا ابْنُ بِشْرَانَ، أَخْبَرَنَا ابْنُ صَفْوَانَ، حَدَّثَنَا ابْنُ أَبِي الدُّنْيَا، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ من ولد عتبة بن غزوان، قَالا [2] :
قَدِمَ عُتْبَةُ الْمَدِينَةَ فِي الْهِجْرَةِ وَهُوَ ابْنُ أَرْبَعِينَ سَنَةً، وَتُوُفِّيَ وَهُوَ ابْنُ خَمْسٍ وَسَبْعِينَ سَنَةً، وَكَانَ طوالا جميلا، يكنى أبا عَبْدِ اللَّهِ، وَمَاتَ سَنَةَ سَبْعَ عَشَرَةَ بِطَرِيقِ الْبَصْرَةِ عَامِلا لِعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ عَلَيْهَا.
قال ابن سعد [3] : وأخبرني الهيثم بن عدي قال: كانت كنيته أبا غزوان.
__________
[1] صحيح مسلم، كتاب الزهد والرقائق، الباب 1، حديث 19، وحديث 21 مختصرا.
وأخرجه الترمذي في صفة جهنم، الباب 2 حديث 1، وفي الشمائل، الباب 53، حديث 1، والنسائي في الكبرى (تحفة 7/ 334) ، وابن ماجة في الزهد، الباب 12، حديث 2.
[2] الخبر في تاريخ بغداد 1/ 156، وطبقات ابن سعد 3/ 1/ 69.
[3] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 69، وتاريخ بغداد 1/ 156.

(4/245)


قال الواقدي: يقال: كان عتبة مع سعد بن أبي وقاص، فوجهه إلى البصرة بكتاب عمر إليه يأمره بذلك، فوليها ستة أشهر، ثم خرج على عمر.
وقد قال خليفة بن خياط: توفي سنة أربع عشرة.
وقال أبو حسان الزيادي: سنة خمس عشرة.
وقيل: ستة عشرين.
وسبع عشرة أصح، لأن المدائن فتحت سنة ست عشرة، ثم مصرت البصرة بعد ذلك] [1]
. 197- مالك بن قيس بن ثعلبة بن العجلان، أبو خيثمة:
شهد أحدا والمشاهد بعدها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ، وتخلف عن تبوك عشرة أيام، فدخل يوما على امرأتين له في يوم حار، فوجدهما في عريشين لهما قد رشت كل واحدة منهما عريشها، وبردت له ماء وهيأت له طعاما، فقال: سبحان الله، رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ في الضح والريح والحر وأبو خيثمة في ظلال باردة وطعام مهيأ وامرأتين حسناوين، والله لا أدخل عريش واحدة منكما ولا أكلمكما حتى ألحق برسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، فَخَرَجَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فقال له: أولى لك يا أبا خيثمة، فأخبر النبي صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ خبره، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ خيرا ودعا له
. 198- أم عطية الأنصارية، واسمها نسيبة- بضم النون وفتح السين- بنت كعب:
أسلمت وبايعت رسول الله صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ، وغزت معه سبع غزوات، وكانت تخلفهم في الرجال، وتصنع لهم الطعام، وتقوم على المرضى، وتداوي الجرحى.
__________
[1] إلى هنا انتهى السقط من الأصل.

(4/246)


ثُمَّ دخلت سنة ثمان عشرة
فمن الحوادث فيها طاعون عمواس [1]
تفانى فيه الناس، ومات فيه خمسة وعشرون ألفا.
قال سيف: إنما كان في سنة سبع عشرة.
[أخبرنا ابن الحصين، قال: أخبرنا ابن المذهب، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ جَعْفَرٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْد اللَّه بْن أحمد، قال: حدثني أبي، عن محمد بن إسحاق، عن أبان بن صالح] [2] ، عن شهر بن حوشب الأشعري، عن رابة- رجل من قومه، وكان قد خلف على أمه بعد أبيه، كان/ شهد طاعون عمواس- قَالَ: [3] لما اشتعل الوجع قام أبو عبيدة بن الجراح في الناس خطيبا، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن أبا عبيدة يسأل الله أن يقسم لَهُ منه حظه، قال: فطعن فمات، واستخلف على الناس معاذ بن جبل، فقام خطيبا بعده، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، وموت الصالحين قبلكم، وإن معاذا يسأل الله أن يقسم لآل معاذ منه حظه، قال: فطعن ابنه عبد الرحمن فمات، ثم قام فدعا ربه لنفسه فطعن في راحته، فلقد رأيته ينظر إليها ثم يقبل ظهر كفه، ثم يقول: ما أحب أن لي بما فيك شيئا من الدنيا.
__________
[1] عمواس: ضبطه ياقوت بفتحات، وقال: «رواه الزمخشريّ بكسر أوله وسكون الثاني، ورواه غيره بفتح أوله وثانيه، وآخره سين مهملة.
[2] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن شهر» .
[3] الخبر في تاريخ الطبري 4/ 61.

(4/247)


فلما مات استخلف على الناس عمرو بن العاص، فقام فينا خطيبا، فقال: أيها الناس، إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتجبلوا [1] منه في الجبال، فقال له وائلة الهُذَليّ: كذبت، والله لقد صحبت رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ وأنت شر من حماري هذا، قال: والله ما أرد عليك ما تقول، وايم الله لا نقيم عليه. ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا، ورفعه الله عنهم، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأي عمرو، فو الله ما كرهه.
[أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن نَاصِرٍ، أَخْبَرَنَا الْمُبَارَك بْن عَبْد الْجَبَّارِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن عَلِي بْن الْفَتْحِ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَخِي سُمَيٍّ، حَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ نُصَيْرٍ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ مَسْرُوقٍ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ، وَحَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ الْمِقْدَادِ، عَنْ عَمِّهِ مُوسَى بْنِ يعقوب، عن عمه] [2] يَزِيدَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ:
عَلَّقَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ بِعَمُودِ خِبَائِهِ سَبْعِينَ سَيْفًا كُلُّهَا ورثه عن كلالة عام طاعون عمواس، ولم يَكُنْ أَحْدٌ يَقُولُ لأَحَدٍ: كَيْفَ أَصْبَحْتَ وَلا كَيْفَ أَمْسَيْتَ [حِينَ كَثُرَ فِيهِمُ الْمَوْتُ] .
وقد ذكر الواقدي [3] أن الرقة والرها وحران فتحت في هذه السنة على يدي عياض بن غنم، وأن عين وردة فتحت على يدي عمير بن سعد، وقد ذكرنا الخلاف في هذا فيما تقدم.
[أَنْبَأَنَا مُحَمَّد بْن ناصر الحافظ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أحمد السمرقندي، قال: حَدَّثَنَا أبو محمد بن عبد العزيز بن أحمد الكناني، حدثنا أبو الحسين عبد الوهاب بن جعفر بن علي بن جعفر الميداني، حدثنا أبو حفص محمد بن علي العتكي، قال: حدثني محمد بن الوراق، حدثنا أحمد بن يحيى بن خالد بن حيان، قال: حدثني علي بن أبي عبد الله] [4] ، عن الهيثم بن عدي، قال:
__________
[1] تجبل القوم: أي دخلوا الجبال.
[2] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن يزيد» .
[3] تاريخ الطبري 4/ 102.
[4] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن الهيثم» .

(4/248)


افتتح غار بجبل لبنان فإذا فيه رجل مسجى على سرير من ذهب، وإلى جانبه لوح من ذهب مكتوب فيه بالرومية: أنا سابا بن بوناس بن سابا، خدمت عيص بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرب الأكبر، وعشت بعده دهرا طويلا، ورأيت عجبا كثيرا، فلم أر أعجب من غافل عن الموت وقد عاين مصارع آبائه، ووقف على قبور أحبائه، وعلم أنه صائر إلى الموت لا محالة، والذي بعد الموت من حساب الديان أعظم، ورد حق المظلومين أعظم من الموت حقا، حفرت قبري هذا قبل أن أصل إليه [1] بمائة وخمسين عاما، ووضعت سريري هذا فيه أغدو وأروح، وقد علمت أن الحفاة الأجلاف الجاهلية يخرجوني من غاري هذا وينزلوني عن سريري وهم يومئذ مقرون بربوبية الديان الأعظم، وعند ذلك يتغير الزمان، ويتأمر الصبيان، ويكثر الحدثان، ويظهر البهتان، فمن أدرك ذلك الزمان عاش قليلا، ومات ذليلا، وبكى كثيرا، ولا بد مما هو كائن أن يكون، والعاقبة للمتقين، وقد رأيت الثلج والبرد في تموز مرارا، فإن رأيتم ذلك فلا تعجبوا
. ومن الحوادث في هذه السنة [ذكر الرمادة] [2]
أن نفرا من المسلمين أصابوا الشراب، فكتب أبو عبيدة إلى عمر، كتابا وذكر فيه: إنا سألناهم فتأولوا، وقالوا: خيرنا فاخترنا، قال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ 5: 91 [3] . فكتب إليه عمر رضي الله عنه إن المراد «فانتهوا» . فادعهم، فإن زعموا أنها حلال فاقتلهم، وإن زعموا أنها حرام فاجلدهم ثمانين [جلدة] [4] ، فسألهم فقالوا: حرام، فجلدهم ثمانين [ثمانين] [5] ، فندموا على لجاجتهم، وقال: ليحدثن فيكم يا أهل الشام حادث، / فحدثت الرمادة في هذه السنة.
__________
[1] في أ: «أن أصير إليه» .
[2] تاريخ الطبري 4/ 96.
[3] سورة: المائدة، الآية: 91.
[4] ما بين المعقوفتين: من الطبري.
[5] ما بين المعقوفتين: من أ، والطبري.

(4/249)


وذلك أن الناس أصابهم جدب وقحط وجوع شديد حتى جعلت الوحش تأوي إلى الإنس، وكانت الريح تسفي ترابا كالرماد، فسمي ذلك العام عام الرمادة، وكان الرجل يذبح الشاة فيعافها من قبحها، وإنه لمعسر. فآلى عمر ألا يذوق سمنا ولا لبنا ولا لحما حتى يحيى النّاس، وإن غلاما لعمر اشترى عكة من سمن ورطبا من لبن بأربعين، ثم أتى بهما عمر، فقال عُمَر رضي الله عنه: تصدق بهما فإني أكره أن آكل إسرافا، كيف يعنيني شأن الرعية إذا لم يمسسني ما مسهم
. ومن الحوادث أن عمر رضي الله عنه استسقى للناس
[أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قالا: أخبرنا ابن النقور، أخبرنا المخلص، حدثنا أحمد بن عبد الله، حدثنا السري بن يحيى، حَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ سَهْلِ بْنِ يُوسُفَ] [1] ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ كَعْبٍ، قَالَ [2] :
أَقْبَلَ بِلالُ بْنُ الْحَارِثِ الْمُزَنِيُّ فَاسْتَأْذَنَ عَلَى عُمَر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: أَنَا رَسُولُ [رَسُولِ] [3] اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ إِلَيْكَ، يَقُولُ لَكَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «لَقَدْ عَهِدْتُكَ كَيِّسًا، وَمَا زِلْتَ عَلَى رِجْلٍ، فَمَا شَأْنُكَ؟ فَقَالَ: مَتَى رَأَيْتَ هَذَا؟ فَقَالَ: الْبَارِحَةَ، فَخَرَجَ فَنَادَى فِي النَّاسِ:
الصَّلاةُ جَامِعَةٌ، فصلى بِهِمْ رَكْعَتَيْنِ، ثُمَّ قَامَ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ، أُنْشِدُكُمْ باللَّه هَلْ تَعْلَمُونَ مِنِّي أَمْرًا غَيْرُهُ خَيْرٌ مِنْهُ؟ قَالُوا: اللَّهمّ لا، قَالَ: فَإِنَّ بِلالَ بْنَ الْحَارِثِ يَزْعُمُ ذَيَّةَ وَذَيَّةَ [4] ، فَقَالُوا: صَدَقَ بِلالٌ، فَاسْتَغَثْتُ اللَّهَ تَعَالَى وَالْمُسْلِمُونَ، فَقَالَ عُمَرُ: اللَّهُ أَكْبَرُ، بَلَغَ الْبَلاءُ مُدَّتَهُ فَانْكَشَفَ، مَا أَذِنَ اللَّهُ لِقَوْمٍ فِي الطَّلَبِ إِلا وَقَدْ رَفَعَ عَنْهُمُ الْبَلاءُ، فَكَتَبَ إِلَى أُمَرَاءِ الأَمْصَارِ: أَنْ أَغِيثُوا أَهْلَ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا، وَأُخْرِجَ النَّاسُ إِلَى الاسْتِسْقَاءِ، فَخَرَجَ وَخَرَجَ مَعَهُ بِالْعَبَّاسِ مَاشِيًا، فَخَطَبَ فَأَوْجَزَ، ثُمَّ صَلَّى، ثُمَّ جَثَا لِرُكْبَتَيْهِ، وَقَالَ:
اللَّهمّ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ، اللَّهمّ اغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وارض عنّا، ثم انصرف، فما بلغوا المنزل راجعين حتى خاضوا الغدران.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن عبد الرحمن» .
[2] الخبر في تاريخ الطبري 4/ 98.
[3] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل ومن الطبري.
[4] ذية وذية: مثل قولهم كذا وكذا.

(4/250)


[وَحَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ مُحَمَّدِ] [1] بْنِ عُبَيْدِ اللَّهِ، قَالَ: خَرَجَ/ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِالنَّاسِ إِلَى الاسْتِسْقَاءِ، وَخَرَجَ بِالْعَبَّاسِ وَبِعَبْدِ اللَّهِ، فَخَطَبَ، وَصَلَّى بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ تَأَخَّرَ حَتَّى كَانَ بَيْنَ الْعَبَّاسِ وَعَبْدِ اللَّهِ، ثُمَّ أَخَذَ بِعَضُدَيْهِمَا، وَقَالَ:
اللَّهمّ هَذَا عَمُّ نَبِيِّكَ نَتَقَرَّبُ إِلَيْكَ بِهِ، فَمَا بَلُغُوا بُيُوتَهُمْ حَتَّى خَاضُوا الْمَاءَ، وَإِنَّهُ لَبَيْنَ الْعَبَّاسِ وَعَبْدِ اللَّهِ.
[وَحَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنِ ابْنِ شُبْرُمَةَ، وَمُجَالِدٌ] [2] ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ:
صَعَدَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ المنبر سنة الاستسقاء بعد ما صَلَّى رَكْعَتَيْنِ تَطَوُّعًا بِالنَّاسِ، وَقَالَ: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ، إنه كان غفارا، استغفروا ربكم ثم توبوا إليه، ثُمَّ نَزَلَ وَلَمْ يَذكر: اسْقِنَا، فَقَالُوا: لِمَ لَمْ تَسْتَسْقِ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: لَقَدْ دَعَوْتُ بِمَخَارِج السَّمَاءِ الَّتِي نُسْقَى بِهَا الْمَطَرَ، [الاسْتِغْفَارُ]
. ومن الحوادث أن عمر رضي الله عنه كتب في عام الرمادة إلى أمراء الأمصار يستمدهم [3]
[أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قالا: أخبرنا ابن النقور، أخبرنا المخلص، حدثنا أحمد بن عبد الله، حدثنا السَّرِيُّ بْنُ يَحْيَى، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا] [4] سَيْفٌ، عَنْ أَشْيَاخِهِ، قَالُوا:
كَتَبَ عُمَرُ إِلَى أُمَرَاءِ الأَمْصَارِ يَسْتَغِيثُهُمْ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَيَسْتَمِدَّهُمْ، فَكَانَ أَوَّلَ مَنْ قَدِمَ عَلَيْهِ أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ فِي أَرْبَعَةِ آلافِ رَاحَلَةٍ مِنْ طَعَامٍ، فَوَلاهُ قِسْمَتَهَا فِيمَنْ حَوْلَ الْمَدِينَةِ، فَلَمَّا فَرَغَ وَرَجَعَ إِلَى الْمَدِينَةِ أَمَرَ لَهُ بِأَرْبَعَةِ آلافِ دِرْهَمٍ، فَقَالَ: لا حَاجَةَ لِي فِيهَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، إِنَّمَا أَرَدْتُ اللَّهَ وَمَا قبله، فلا تدخل عليّ الدنيا،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن عبد الله» .
[2] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن الشعبي» .
[3] تاريخ الطبري 4/ 100.
[4] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن سيف» .

(4/251)


فَقَالَ: خُذْهَا فَلا بَأْسَ بِذَلِكَ إِذَا لَمْ تَطْلُبْهُ، فَأَبَى، فَقَالَ: خُذْهَا فَإِنِّي وَقَدْ وُلِّيتُ لرسول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مِثْلَ هَذَا فَقَالَ لِي مِثْلَ مَا قُلْتُ لَكَ، فَقُلْتُ لَهُ كَمَا قُلْتَ لِي فَأَعْطَانِي. فَقَبِلَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَانْصَرَفَ إِلَى عَمَلِهِ، وَتَتَابَعَ النَّاسُ وَاسْتَغْنَى أَهْلُ الْحِجَازِ، وَأَحْيَوْا مَعَ أَوَّلِ الْحَيَا.
وَجَاءَ كِتَابُ عَمْرِو [1] بْنِ الْعَاصِ إِلَى عُمَرَ: إِنَّ الْبَحْرَ الشَّامِيَّ حَفَرَ [لِمَبْعَثِ رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ] [2] حَفِيرًا، فَصَبَّ فِي بَحْرِ الْعَرَبِ، فَسَدَّهُ الرُّومُ وَالْقِبْطُ، فَإِنْ أَحْبَبْتَ أَنْ يَقُومَ سِعْرُ الطَّعَامِ بِالْمَدِينَةِ كَسِعْرِ مِصْرَ، حَفَرْتُ لَهُمْ نَهْرًا وَبَنَيْتُ لَهُمْ قَنَاطِرَ، فَكَتَبَ [لَهُ عُمَرُ] [3] : أَنِ افْعَلْ، وَعَجِّلْ ذَلِكَ [4] ، فَقَالَ لَهُ أَهْلُ مِصْرَ: خَرَاجُكَ زَاجٍ، وَأَمْرُكَ رَاضٍ، وَإِنْ تَمَّ هَذَا انْكَسَرَ الْخَرَاجُ، فَكَتَبَ إِلَى عُمَرَ بِذَلِكَ، فَذكر أَنَّ فِيهِ انْكِسَارَ خَرَاجِ مِصْرَ وَخَرَابِهَا. فَكَتَبَ إِلَيْهِ عُمَرُ: اعْمَلْ فِيهِ وَعَجِّلْ، أَخْرَبَ اللَّهُ خَرَاجَ مِصْرَ فِي عُمْرَانِ الْمَدِينَةِ وَصَلاحِهَا، فَعَالَجَهُ عَمْرٌو وَهُوَ الْقَلْزَمُ، وَكَانَ سِعْرُ الْمَدِينَةِ كَسِعْرِ مِصْرَ، وَلَمْ يَزِدْ مِصْرَ ذَلِكَ إِلا رَخَاءً.
وَكَانَ عُمَرُ إِذَا بَلَغَهُ عَنْ نَاحِيَةٍ مِنْ نَوَاحِي الْمُسْلِمِينَ غَلاءٌ حَطَّ نَفْسَهُ عَلَى قَدْرِ مَا يَبْلُغُهُ، وَيَقُولُ: كَيْفَ يَكُونُونَ مِنِّي عَلَى بَالٍ إِذَا لَمْ يَمْسَسْنِي مَا مَسَّهُمْ، وَإِنَّهُ غَلَّظَ عَلَى نَفْسِهِ وَأَقْبَلَ عَلَى خُبْزِ الشَّعِيرِ فَقَرْقَرَ فِي بَطْنِهِ يَوْمًا، فَقَالَ: هُوَ مَا تَرَى حَتَّى يَحْيَى أَهْلُ مَدِينَةِ كَذَا
. ومن الحوادث في هذه السنة فتح جرجان [5]
وقد قيل: إنما سميت جرجان لأنه بناها جرجان بن لاوذ بن سام بن نوح.
ولما قتل النعمان بن مقرن، ولى أخاه سويد بن مقرن، وكاتب ملك جرجان، ثم
__________
[1] تاريخ الطبري 4/ 100.
[2] ما بين المعقوفتين: من ظ، والطبري.
[3] ما بين المعقوفتين: من الطبري.
[4] في ظ، والأصل: «أعجل ذلك» .
[5] تاريخ الطبري 4/ 152.

(4/252)


سار إليها ففتحها وصالحوه على أخذ الجزية منهم.
ومن الناس من يقول: كان فتحها في سنة اثنتين وعشرين.
وقال المدائني: إنما فتحت في زمان عثمان سنة ثلاثين
. وفيها فتح أذربيجان على يدي عتبة [1]
وكتب لهم كتاب أمان، وهذا في رواية سيف.
وقال أبو معشر: كانت أذربيجان في سنة اثنتين وعشرين.
وفي هذه الغزاة: بعث عتبة إلى عمر رضي الله عنه بخبيص أهداه إليه.
[أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قالا: أخبرنا ابن النقور، أخبرنا المخلص، حدثنا أحمد بن عبد الله، حدثنا السري بن يَحْيَى، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ بْنِ أَبِي خَالِدٍ، عَنْ قَيْسٍ أَوْ عَامِرٍ] [2] ، عَنْ عُتْبَةَ بْنِ فَرْقَدٍ، قَالَ:
قَدِمْتُ عَلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِسِلالٍ مِنْ خَبِيصٍ، فَشَهِدْتُ غَدَاهُ، فَأَتَى بِجَفْنَةٍ مِنْ ثَرِيدٍ، فَأَخَذَ وَأَخَذْنَا، فَجَعَلْتُ أرى عليه الشيء أحبسه سَنَامًا، فَإِذَا لُكْتُهُ وَجَدْتُهُ عَلِيًّا، فَأَتَطَلَّبُ غَفْلَتَهُ حَتَّى أَجْعَلَهُ بَيْنَ الْخِوَانِ وَالْقَصْعَةِ/ فَفَعَلْتُ ذَلِكَ مرارا، وكففت. ثم دعي بِعُسٍّ مِنْ عِسَاسِ الْعَرَبِ فِيهِ نَبِيذٌ شَدِيدٌ، فَشَرِبَ ثُمَّ نَاوَلَنِي فَلَمْ أُطِقْهُ، ثُمَّ قَالَ: نَأْكُلُ مِنْ هَذَا اللَّحْمِ، وَنَشْرَبُ عَلَيْهِ مِنْ هَذَا النَّبِيذِ الشَّدِيدِ فَيُقَطِّعُهُ فِي بُطُونِنَا، إِنَّا لننحر للمسلمين الجزور فنطعم المسلمين أطائبها، وَيَأْكُلُ عُمَرُ وَآلُ عُمَرَ عَنَقَهَا، فَقُلْتُ لَهُ:
إِنَّكَ مَشْغُولٌ بِحَوَائِجِ الْمُسْلِمِينَ وَقَدْ أَهَدَيْتُ لَكَ طَعَامًا يَعْصِمُكَ وَيُقَوِّيكَ، قَالَ: فَاعْرِضْهُ عَلَيَّ، قَالَ: فَأَدَّيْتُ لَهُ تِلْكَ السِّلالِ وَكَشَفْتُ لَهُ عَنْهَا، فَقَالَ: أَقْسَمْتُ عَلَيْكَ، لَمَا لَمْ تَدَعْ أَحَدًا مِنَ الْمُسْلِمِينَ إِلا أَهْدَيْتَ لَهُ مِثْلَ هَذَا، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، وَاللَّهِ لَوْ جُمِعَ مال
__________
[1] تاريخ الطبري 4/ 153.
[2] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن عتبة» .

(4/253)


قَيْسِ بْنِ عَيْلانَ مَا وَسِعَ لِذَاكَ، فَقَالَ: ضُمَّ هَدِيَّتَكَ إِلَيْكَ، فَإِنَّهُ لا حَاجَةَ لِي فِي شَيْءٍ لا يُشْبِعُ الْمُسْلِمِينَ
. وفي هذه السنة فتح طبرستان
وقيل: إنه كان في سنة اثنتين وعشرين
. وفيها: استقضى عمر شريح بن الحارث الكندي على الكوفة.
وعلى البصرة كعب بن سور الأزدي
. وفي هذه السنة حج عمر بالناس
وكانت ولاته على الأمصار الولاة الذين كانوا في سبع عشرة.
وفيها: حول عمر المقام في ذي الحجة إلى موضعه اليوم، وكان ملصقا بالبيت قبل ذلك
. ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
قد ذكرنا أنه توفي في طاعون عمواس خمسة وعشرون ألفا، ونذكر من كبارهم من له خبر.
199- أويس بن عامر بن جرير بن مالك القرني [1] :
وقيل: هو أويس بن أنس، وقيل: أويس بن الخليص. كان من الزهد على
__________
[1] له ترجمة في تاريخ ابن عساكر، وحلية الأولياء وميزان الاعتدال والكامل لابن عدي 2/ الورقة 211- 212.

(4/254)


غاية، كان يلتقط الكسر من المزابل فيغسلها ويأكل بعضها ويتصدق ببعضها، وعرى حتى جلس في قوصره.
[أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا جعفر بْن أحمد السراج، قَالَ: أخبرنا أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْمُذْهِبِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بكر بْن مالك، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ، حَدَّثَنِي أَبِي قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ الْقَوَارِيرِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا مُعَاذُ بْنُ هِشَامٍ، قَالَ: حَدَّثَنِي أَبِي، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ زُرَارَةَ بْنِ أَبِي أَوْفَى] [1] ، / عَنْ أَسِيرِ بْنِ جَابِرٍ، قَالَ:
كَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِذَا أَتَتْ عَلَيْهِ أَمْدَادُ أَهْلِ الْيَمَنِ سَأَلَهُمْ: هَلْ فِيكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرِ بْنِ مُرَادٍ؟ حَتَّى أَتَى عَلَى أُوَيْسٍ، فَقَالَ: أَنْتَ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرِ بن مراد قال: نعم، قال: كان بِكَ بَرَصٌ فَبَرِأْتَ مِنْهُ إِلا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ:
لَكَ وَالِدَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إِلا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ، فَاسْتَغْفِرْ لِي. فَاسْتَغْفَرَ لَهُ، فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أَيَن تُرِيدُ؟ قَالَ: الْكُوفَةَ فَقَالَ: أَلا أَكْتُبُ لَكَ إِلَى عَامِلِهَا فَيَسْتَوْصِي بِكَ، فَقَالَ: لأَنْ أَكُونَ فِي غَبْرَاءِ النَّاسِ أَحَبُّ إِلَيَّ، قَالَ: فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْعَامِ الْمُقْبِلِ حَجَّ رَجُلٌ مِنْ أَشْرَافِهِمْ، فَوَافَقَ عُمَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ أُوَيْسٍ كَيْفَ تَرَكْتَهُ؟ قَالَ:
تَرَكْتُهُ رَثَّ الْبَيْتِ، قَلِيلَ الْمَتَاعِ، فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَأْتِي عَلَيْكُمْ أُوَيْسُ بْنُ عَامِرٍ مع أمداد أهل اليمن من مراد ثم من قرن، كان به برص فبرأ منه إِلا مَوْضِعَ دِرْهَمٍ، لَهُ وَالِدَةٌ هُوَ بِهَا بَرٌّ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأَبَرَّهُ، فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ يَسْتَغْفِرَ لَكَ فَافْعَلْ» [2] .
فَلَمَّا قَدِمَ الْكُوفَةَ أَتَى أُوَيْسًا، فَقَالَ: اسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ: أَنْتَ أَحْدَثُ عَهْدًا بِسَفْرٍ صَالِحٍ فَاسْتَغْفَرْ، لَقِيتَ عمر؟ قال: نعم، فاستغفر له.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن الإمام أحمد، عن أسير بن جابر» .
[2] «فافعل» : سقطت من أ.

(4/255)


فَفَطِنَ لَهُ النَّاسُ فَانْطَلَقَ عَلَى وَجْهِهِ، قَالَ أَسِيرُ: وَكُسَوتُهُ بُرْدًا، فَكَانَ إِذَا رَآهُ إِنْسَانٌ عَلَيْهِ قَالَ: مِنْ أَيْنَ لأُوَيْسٍ هَذَا الْبُرْدُ.
[أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْن مَنْصُورٍ الصُّوفِيُّ، أَخْبَرَنَا الْمُعْتَمِرُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدٍ الثَّعَالِبِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السَّلَمِيُّ، أَخْبَرَنَا عُمَرُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ عُثْمَانَ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ صَدَقَةَ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَبِي خَيْثَمَةَ، حَدَّثَنَا مُوسَى بْنُ إِسْمَاعِيلَ، حَدَّثَنَا حَمَّادٌ، عَنِ الْجَرِيرِيِّ] [1] ، عَنْ أَسِيرِ بْنِ جَابِرٍ:
إِنَّ أُوَيْسًا الْقَرَنِيَّ كَانَ إِذَا حَدَّثَ يَقَعُ حَدِيثُهُ فِي قُلُوبِنَا مَوْقِعًا لا يَقَعُ حَدِيثُ غَيْرِهِ.
[أخبرنا محمد بن أبي القاسم، أخبرنا محمد بْن أَحْمَد، أَخْبَرَنَا أَبُو نعيم، أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَبْد اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر مُحَمَّد بْن أَحْمَد، حَدَّثَنَا الْحَسَن بْن مُحَمَّد، حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بْن عَبْد الكريم، حَدَّثَنَا سَعِيد بْن أسد بْن موسى، حَدَّثَنَا ضمرة بْن ربيعة] [2] ، عَن أصبغ بْن زَيْد، قَالَ:
كَانَ أويس القرني إِذَا أمسى يَقُول: هذه ليلة الركوع، فيركع حَتَّى يصبح، وَكَانَ يَقُول/ إِذَا أمسى: هذه ليلة السجود، فيسجد حَتَّى يصبح، وَكَانَ إِذَا أمسى تصدق بِمَا فِي بيته من الفضل والثياب، ثُمَّ يَقُول: اللَّهمّ من مَات جوعا فلا تؤاخذني بِهِ، ومن مَات عريانا فلا تؤاخذني بِهِ.
[أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن أَبِي الْقَاسِم، أَخْبَرَنَا حمد بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر بْن مَالِك، حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بْن أَحْمَد بْن حَنْبَلٍ، حَدَّثَنَا زكريا بْن يَحْيَى بْن حموية، حَدَّثَنَا الهيثم بْن عدي، حَدَّثَنَا عَبْد اللَّهِ بْن عَمْرو بْن مرة، عَن أَبِيهِ] [3] ، عَن عَبْد اللَّهِ بْن سلمة، قَالَ:
غزونا أذربيجان زمان عُمَر بْن الْخَطَّاب رضي اللَّه عَنْهُ ومعنا أويس القرني، فلما رجعنا مرض عَلَيْنَا فحملنا فلم يستمسك فمات، فنزلت فَإِذَا قبر محفور، وماء مسكوب،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن أسير بن جابر» .
[2] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن أصبغ» .
[3] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن عبد الله بن سلمة» .

(4/256)


وكفن وحنوط، فغسلناه، وكفناه، وصلينا عَلَيْهِ، فَقَالَ بعضنا لبعض: لو رجعنا فعلمنا قبره، فرجعنا فَإِذَا لا قبر ولا أثر.
وَقَدْ روي أنه عاش بَعْد ذَلِكَ طويلا حَتَّى قتل مَعَ علي رضي اللَّه عَنْهُ يَوْم صفين.
[وَالأَوَّل أثبت] [1]
. 200- الْحَارِث بْن هِشَام بْن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم، أبو عبد الرحمن المخزومي القرشي [2] :
أمه أسماء بنت مخرمة. لَمْ يزل مقيما عَلَى كفره إِلَى يَوْم الفتح، فدخل عَلَى أم هانئ فأجارته، ثُمَّ لقي رَسُول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فأسلم، وشهد مَعَهُ حنينا، فأعطاه من غنائمها مائة من الإبل، ثُمَّ لَمْ يزل مقيما بمكة حَتَّى توفي رَسُول اللَّه صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ. فلما جاء كتاب أَبِي بَكْر يستنفر الْمُسْلِمِينَ إِلى غزو الروم قدم المدينة، ثُمَّ خرج غازيا إِلَى الشام، فشهد قحل وأجنادين. وَقَدْ روى عَن رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ.
[أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ الأَنْمَاطِيُّ، قال: أنبأنا أبو الفتح أحمد بن محمد بْنِ الْحَدَّادِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ إِبْرَاهِيم بْنِ مَيْمُونٍ الْحَافِظُ، أَن الْحَاكِمَ أَبَا أَحْمَدَ مُحَمَّدَ بْنَ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ إِسْحَاقَ النَّيْسَابُورِيُّ الْحَافِظُ أَخْبَرَهُ، أَخْبَرَنَا أَبُو يُوسُفَ مُحَمَّدُ بْنُ سُفْيَانَ الصَّفَّارُ، حَدَّثَنَا سَعِيدُ بْنُ رَحْمَةَ بْنِ نُعَيْمٍ الأَصْبَحِيُّ، قَالَ:
سَمِعْتُ ابْنَ الْمُبَارَكِ، عَنِ الأَسْوَدِ بْنِ شَيْبَانَ السَّدُوسِيِّ] [3] ، عَن أَبِي نَوْفَلِ بْنِ أَبِي عَقْرَبٍ، قَالَ:
خَرَجَ الْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ مِنْ مَكَّةَ فَجَزِعَ أَهْلُ مَكَّةَ جَزَعًا شَدِيدًا، فَلَمْ يَبْقَ أَحَدٌ يَطْعَمُ إِلا خَرَجَ يُشَيِّعُهُ حَتَّى إِذَا كَانَ بِأَعْلَى الْبَطْحَاءِ أَوْ حَيْثُ شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فوقف وَوَقَفَ النَّاسُ حَوْلَهُ يَبْكُونَ، فَلَمَّا رَأَى جَزَعَ النَّاسِ، قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، [إِنِّي] [4] وَاللَّهِ مَا خَرَجْتُ رَغْبَةً بِنَفْسِي عَنْ أَنْفُسِكُمْ وَلا اخْتِيَارَ بَلَدٍ عَلَى بَلَدِكُمْ، وَلَكِنْ كَانَ الأَمْرُ. فخرجت
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأوردناه من أ.
[2] طبقات ابن سعد 5/ 329.
[3] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن أبي نوفل» .
[4] ما المعقوفتين: من أ.

(4/257)


فِيهِ رِجَالٌ مِنْ قُرَيْشٍ، وَاللَّهِ مَا كَانُوا مِنْ ذَوِي أَنْسَابِهَا وَلا فِي بُيُوتَاتِهَا، فَأَصْبَحْنَا وَلَوْ أَنَّ جِبَالَ مَكَّةَ ذَهَبٌ فَأَنْفَقْنَاهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا أَدْرَكْنَا يَوْمًا مِنْ أَيَّامِهِمْ، وَاللَّهِ لَئِنْ فَاتُونَا بِهِ فِي الدُّنْيَا لَنَلْتَمِسَنَّ أَنْ نُشَارِكَهُمْ فِي الآخِرَةِ، فَاتَّقَى اللَّهَ امْرُؤٌ فَتَوَجَّهَ غَازِيًا إِلَى الشَّامِ، وَاتَّبَعُه ثِقَلُهُ، فَأُصِيبَ شَهِيدًا.
وَفِي رواية: إنه مَات فِي طاعون عمواس من هذه السنة
. 201- سهيل بْن عَمْرو بن عبد شمس بن عبد ودّ بْن نضر بْن مَالِك بْن حسل بْن عامر بْن لؤي، أَبُو زَيْد: [1]
كَانَ من أشراف قومه [2] ، والمنظور إِلَيْهِ مِنْهُم، شهد مَعَ المشركين بدرا، فأسره مَالِك بْن الدخشم، ثُمَّ أنه أفلت، فخرج النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فِي طلبه، وَقَالَ: «من وجده فليقتله» ، فوجده رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ فأمر بِهِ فربطت يده إِلَى عنقه، ثُمَّ قرنه إِلَى راحلته، فلم يركب حَتَّى ورد المدينة، ثُمَّ قدم فِي فدائه مكرز بْن حفص، فبذل أربعة آلاف، فَقَالُوا:
هات المال، قَالَ: نعم، اجعلوني فِي مكانه رهنا حَتَّى يرسل إليكم، فخلي سبيل سهيل، وحبسوا مكرزا، فبعث سهيل بالمال.
وسهيل هُوَ الَّذِي خرج إلى رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ بالحديبية، وكتب القضية عَلَى أَن يرجع رَسُول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فِي ذَلِكَ العام، ويعود من قابل، فأقام عَلَى دينه إِلَى زمان الفتح [3] .
[أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: أخبرنا أبو عمرو بن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْجَوْهَرِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بن حيوية، قال: أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أخبرنا الحسين بن الفهم، قال: حدثنا محمد بن سعد، قال: أخبرنا محمد بن عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا مَوسَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ بْنِ الْحَارِثِ التَّيْمِيُّ] [4] ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ: قَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو:
لَمَّا دَخَلَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مَكَّةَ اقْتَحَمْتُ بَيْتِي وَغَلَّقْتُ عَلَيَّ بَابِي، وَأَرْسَلْتُ إِلَى ابْنِي عَبْدِ اللَّهِ- وَكَانَ عَبْدُ اللَّهِ قَدْ أَسْلَمَ وَشَهِدَ بَدْرًا: اطْلُبْ لِي جِوَارًا مِنْ مُحَمَّدٍ فَإِنِّي لا آمَنُ أَنْ
__________
[1] طبقات ابن سعد 5/ 325 وفي الأصل: «ابن زيد» .
[2] في الأصل: «أشراف قريش» .
[3] في الأصل: «إلى أن بان الفتح» .
[4] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن سهيل.»

(4/258)


أُقْتَلَ، فَذَهَبَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبِي تُؤَمِّنُهُ، فَقَالَ: «نَعَمْ هُوَ آمِنٌ بِأَمَانِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فَلْيَظْهَرْ» . ثُمَّ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ لِمَنْ حَوْلَهُ: «مَنْ لَقِيَ سُهَيْلَ بْنَ عَمْرٍو فَلا يَشُدَّ النَّظَرَ إِلَيْهِ، فَلِعَمْرِي/ أَنَّ سُهَيْلا لَهُ عَقْلٌ وَشَرَفٌ وَمَا مِثْلُ سُهَيْلٍ جَهِلَ الإِسْلامَ» ، فَخَرَجَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُهَيْلٍ إِلَى أَبِيهِ فَخَبَّرَهُ بِمَقَالَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، فَقَالَ سُهَيْلٌ:
كَانَ وَاللَّهِ بَرًّا صَغِيرًا وَكَبِيرًا، فَكَانَ سُهَيْلٌ يُقْبِلُ وَيُدْبِرُ آمِنًا، وَخَرَجَ إِلَى حُنَيْنٍ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى شِرْكِهِ حَتَّى أَسْلَمَ بِالْجِعْرَانَةَ، فأعطاه رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ مِنْ غَنَائِمَ حُنَيْنٍ مِائَةً مِنَ الإِبِلِ.
[قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: حَدَّثَنِي] [1] ابْنُ قماذين، قَالَ: لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ مِنْ كُبَرَاءِ قُرَيْشٍ الَّذِينَ تَأَخَّرَ إِسْلامُهُمْ فَأَسْلَمُوا يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ أَكْثَرَ صَلاةً وَلا صَوْمًا وَلا صَدَقَةً وَلا أَقْبَلُ عَلَى مَا يُعِينُهُ مِنْ أَمْرِ الآخِرَةِ مِنْ سُهَيْلِ بْنِ عَمْرٍو، حَتَّى إِنْ كَانَ لَقَدْ شَحَبَ وَتَغَيَّرَ لَوْنُهُ، وَكَانَ يُكْثِرُ الْبُكَاءَ رَقِيقًا عند سماع القرآن [2] .
ولقد رئي يختلف إلى معاذ بن جبل يقرئه [الْقُرْآنَ] [3] وَهُوَ بِمَكَّةَ حَتَّى خَرَجَ مُعَاذٌ مِنْ مَكَّةَ، وَحَتَّى قَالَ لَهُ ضِرَارُ بْنُ الْخَطَّابِ: يَا أَبَا يَزِيدَ، يَخْتَلِفُ إِلَيَّ هَذَا الْخَزْرَجِيُّ يقرئك الْقُرْآنَ، أَلا يَكُونُ اخْتِلافُكَ إِلَى رَجُلٍ مِنْ قَوْمِكَ، فَقَالَ: يَا ضِرَارُ، إِنَّ هَذَا الَّذِي صَنَعَ بِنَا مَا صَنَعَ حَتَّى سَبَقَنَا كُلَّ السَّبْقِ، إِنِّي لِعَمْرِي أَخْتَلِفُ إِلَيْهِ، فَقَدْ وَضَعَ الإِسْلامُ أَمْرَ الْجَاهِلِيَّةِ، وَرَفَعَ أَقْوَامًا بِالإِسْلامِ كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّةِ كَانُوا لا يُذْكَرُونَ، فَلَيْتَنَا [كُنَّا] [4] مَعَ أُولَئِكَ فَتَقَدَّمْنَا وَإِنِّي لأَذكر مَا قَسَمَ اللَّهُ لِي فِي تَقَدُّمِ إِسْلامِ [5] أَهْلِ بَيْتِي الرَّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَمَوْلاي عُمَيْرِ بْنِ عَوْفٍ فَأُسَرُّ بِهِ وَأَحْمَدُ اللَّهَ عَلَيْهِ، وَأَرْجُو أَن يَكُونَ اللَّهُ يَنْفَعُنِي بِدُعَائِهِمْ أَنْ لا أَكُونَ مِتُّ أَوْ قُتِلْتُ عَلَى مَا مَاتَ نُظَرَائِي أَوْ قُتِلُوا، قَدْ شَهِدْتُ مَوَاطِنَ كُلُّهَا أَنَا فِيهَا مُعَانِدٌ لِلْحَقِّ: يَوْمَ بَدْرٍ، وَيَوْمَ أُحُدٍ، وَالْخَنْدَقَ. وَأَنَا وُلِّيتُ أَمْرَ الْكِتَابِ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، يَا ضِرَارُ إِنِّي لأَذكر مُرَاجَعَتِي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ يَوْمَئِذٍ، وَمَا كُنْتُ أَلَظُّ بِهِ مِنَ الباطل، فأستحي
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن ابن قماذ» .
[2] في أ: «عند قراءة القرآن» .
[3] ما بين المعقوفتين من أ.
[4] ما بين المعقوفتين: من أ.
[5] في الأصل: «في تقدم الإسلام» .

(4/259)


من رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ وَأَنَا بِمَكَّةَ وَهُوَ بِالْمَدِينَةِ، وَلَكِنْ مَا كَانَ فِينَا مِنَ الشِّرْكِ أَعْظَمُ مِنْ ذَلِكَ.
وَلَقَدْ رَأَيْتُنِي يَوْمَ بَدْرٍ وَأَنَا فِي حَيِّزِ الْمُشْرِكِينَ وَأَنَا أَنْظُرُ إِلَى ابْنِي عَبْدِ اللَّهِ وَمَوْلاي عُمَيْرِ بْنِ عَوْفٍ قَدْ فَرَّا مِنِّي فَصَارَا في حيز محمد صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، وَمَا عُمِّيَ عَلَيَّ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْحَقِّ لِمَا أَنَا فِيهِ مِنَ الْجَهَالَةِ، وَمَا أَرَادَهُمَا اللَّهُ بِهِ مِنَ الْخَيْرِ، ثُمَّ قُتِلَ ابْنِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ سُهَيْلٍ يَوْمَ الْيَمَامَةِ شَهِيدًا، فَعَزَّانِي أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ وَقَالَ: قال رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ: «إِنَّ الشَّهِيدَ لَيُشَفَّعُ [لِسَبْعِينَ] [1] مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ» ، فَأَنَا أَرْجُو أَن أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ يَشْفَعُ لَهُ.
[قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَأَخْبَرَنَا عَبْدُ الْحَمِيدِ بْنُ جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ زِيَادِ بْنِ مِينَا، عَنْ أَبِي سَعِيدِ بْنِ أَبِي فَضَالَةَ الأَنْصَارِيِّ] [2] ، قَالَ:
اصْطَحَبْتُ أَنَا وَسُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو إِلَى الشَّامِ لَيَالِيَ أَغْزَانَا أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقِ، فَسَمِعْتُ سُهَيْلا يَقُولُ: [سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ] : [3] «مُقَامُ أَحَدِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سَاعَةً خَيْرٌ مِنْ عَمَلِهِ [عُمْرَهَ] [4] فِي أَهْلِهِ» ، قَالَ سُهَيْلٌ: وَأَنَا أُرَابِطُ حَتَّى أَمُوتَ وَلا أَرْجِعَ إِلَى مَكَّةَ أَبَدًا.
فَلَمْ يَزَلْ بِالشَّامِ حَتَّى مَاتَ فِي طَاعُونِ عَمْوَاسٍ سَنَةَ ثَمَانِ عَشَرَةَ.
[أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن نَاصِرٍ الْحَافِظ، أَخْبَرَنَا جَعْفَر بْنُ أَحْمَدَ السَّرَّاجُ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ الْمُذْهِبِ، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ حَمْدَانَ، حدثنا عبد الله بن أحمد، قال: حدثني أَبِي، حَدَّثَنَا عَفَّانُ، حَدَّثَنَا جَرِيرُ بْنُ حَازِمٍ، قَالَ: سَمِعْتُ] [5] الْحَسَنَ قَالَ:
حَضَرَ بَابَ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو، وَالْحَارِثُ بْنُ هِشَامٍ، وَأَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَنَفَرٌ مِنَ تلك الرُّءُوسِ، وَصُهَيْبٌ، وَبِلالٌ، وَتِلْكَ الْمَوَالِيَ الَّذِينَ شَهِدُوا بَدْرًا، فَخَرَجَ إِذْنُ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَأَذِنَ لَهُمْ وَتَرَكَ هَؤُلاءِ، فَقَالَ أَبُو سُفْيَان: لَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ قَطُّ يَأْذَنُ لِهَؤُلاءِ الْعَبِيدِ وَيَتْرُكُنَا عَلَى بَابِهِ لا يَلْتَفِتُ إِلَيْنَا، فَقَالَ سُهَيْلُ بْنُ عَمْرٍو- وَكَانَ رَجُلا عَاقِلا: أَيُّهَا الْقَوْمُ إِنِّي وَاللَّهِ قَدْ أَرَى الّذي في وجوهكم، إن كنتم غضابا
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ.
[2] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «عن أبي سعد الأنصاري» .
[3] «سمعت رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ يقول» : سقطت من أ.
[4] ما بين المعقوفتين: من أ.
[5] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن الحسن» .

(4/260)


فَاغْضَبُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ، دُعِيَ الْقَوْمُ وَدُعِيتُمْ فَأَسْرَعُوا وأبطأتم فكيف بكم إذا دعوا يوم القيامة وَتُرِكْتُمْ، أَمَا وَاللَّهِ لَمَا سَبَقُوكُمْ إِلَيْهِ مِنَ الْفَضْلِ مِمَّا لا تَرَوْنَ أَشَدُّ عَلَيْكُمْ قُوتًا مِنْ بَابِكُمْ هَذَا الَّذِي تُنَافِسُونَهُمْ عَلَيْهِ. قَالَ: ونفض ثوبه وانطلق.
قال الحسن: / [و] [1] صدق والله سهيل، لا يجعل اللَّه عبدا أسرع إِلَيْهِ كعبد أبطأ عَنْهُ
. 202- شرحبيل بْن حسنة، وَهِيَ أمه، وَهُوَ ابْن عَبْد اللَّهِ بْن المطاع بْن عَمْرو، ويكنى أبا عَبْد اللَّهِ:
هاجر إِلَى الحبشة الهجرة الثَّانِيَة، وغزا مَعَ رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ غزوات، وَهُوَ أحد الأمراء الَّذِينَ عقد لهم أَبُو بَكْر الصديق إِلَى الشام، وتوفي فِي هذه السنة بالشام وَهُوَ ابْن سبع وستين سنة
. 203- عامر بْن عَبْد اللَّهِ بْن الجراح، أَبُو عبيدة الفهري [2] :
منسوب إِلَى فهر قريش، وكذلك حبيب بْن مسلمة الفهري، وَقَدْ ينسب قوم إِلَى فهر الأنصار، مِنْهُم عبادة وأوس ابنا الصامت.
كَانَ أَبُو عبيدة نحيف البدن، معروق الوجه، خفيف اللحية طوالا، أحنى أثرم الثنيتين. أسلم قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ دار الأرقم، وهاجر إِلَى الحبشة فِي بَعْض الروايات، ثُمَّ إِلَى المدينة، وشهد بدرا وأحدا، وثبت يومئذ مَعَ رَسُول اللَّه صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ حِينَ انهزم النَّاس، وبعثه رَسُول اللَّه صلّى الله عليه وآله وسلم سرية في ثلاثمائة وبضعة عشر، وألقى لهم البحر حوتا يقال لَهُ العنبر، فأكلوا منه. وأقام ضلعًا من أضلاعه، ورحّل بعير فأجازه تحته.
وقدم أَهْل اليمن عَلَى رَسُول اللَّه صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فسألوه أَن يبعث معهم رجلا يعلمهم السنة والإسلام، فأخذ بيد أَبِي عبيدة وَقَالَ: هَذَا أمين هذه الأمة.
[أَخْبَرَنَا ابْن أَبِي طاهر، قال: أخبرنا الجوهري، قال: أخبرنا ابن حيوية، قال:
أخبرنا أحمد بن معروف، قال: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهِمِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سعد، قال:
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ.
[2] في أ: «الضمريّ» .

(4/261)


أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنِي إِسْحَاقُ بْنُ يَحْيَى، عَنْ عِيسَى بْنِ طَلْحَةَ] [1] ، عَن عَائِشَةَ، قَالَتْ: سَمِعْتُ أَبَا بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يَقُولُ:
لَمَّا كَانَ يَوْمُ أُحُدٍ وَرُمِيَ رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ فِي وَجْهِهِ حَتَّى دَخَلَتْ فِي وَجْنَتِهِ حَلْقَتَانِ مِنَ الْمِغْفَرِ، فَأَقْبَلْتُ أَسْعَى إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَإِنْسَانٌ قَدْ أَقْبَلَ يَطِيرُ طَيَرَانًا، فَقُلْتُ: اللَّهمّ اجْعَلْهُ/ طَلْحَةَ حَتَّى تُوَافِينَا إِلَى رَسُولِ الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، فَإِذَا أَبُو عُبَيْدَةَ بْنُ الْجَرَّاحِ بَدَرَنِي فَقَالَ:
أَسْأَلُكَ باللَّه يَا أَبَا بَكْرٍ إِلا تَرَكْتَنِي فَأَنْزِعَهُ مِنْ وَجْنَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، فَتَرَكْتُهُ فَأَخَذَ بِثَنِيَّتِهِ أَحَدَ حَلْقَتَيِ الْمِغْفَرِ فَنَزَعَهَا فَسَقَطَ عَلَى ظَهْرِهِ، وَسَقَطَتْ ثَنِيَّةُ أَبِي عُبَيْدَةَ. ثُمَّ أَخَذَ الْحَلْقَةَ الأُخْرَى بِثَنِيَّتِهِ الأُخْرَى، فَسَقَطَتْ فَكَانَ أَبُو عُبَيْدَةَ فِي النَّاسِ أَثْرَمَ.
توفي أَبُو عبيدة فِي طاعون عمواس، وَهُوَ ابْن ثمان وخمسين سَنَة
. 204- العاص بْن سهيل بْن عَمْرو، ويكنى أبا جندل:
أسلم قديما بمكة فقيده أبوه، فلما نزل رَسُول اللَّه صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ الحديبية أقبل يرسف فِي قيده [2] ، فَقَالَ سهيل: هَذَا أول مَا أقاضيك عَلَيْهِ، فرده فأفلت ومضى إِلَى أَبِي بصير بالعيص، فكانوا يتعرضون عير قريش، فمات أَبُو بصير، فقدم أَبُو جندل فلم يغز مَعَ رَسُول اللَّه صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ حَتَّى توفي ثُمَّ خرج إِلَى الشام فجاهد فتوفي فِي طاعون عمواس
. 205-[عتبة بْن مَسْعُود بْن حبيب، أخو عَبْد اللَّهِ بْن مَسْعُود لأبيه وأمه:
[3] وَكَانَ قديم الإِسْلام بمكة، وهاجر إِلَى الحبشة الهجرة الثَّانِيَة، ثُمَّ قدم فشهد أحدا والمشاهد بعدها، ومات فِي خلافة عُمَر، وصلى عَلَيْهِ] [4]
. 206- عمير بْن عدي [5] بْن خرشة بْن أمية بْن عامر بْن حطمة، وَهُوَ عمير القاري:
وَكَانَ قديم الإِسْلام ضرير البصر، وكانت عصماء بنت مَرْوَان تؤذي رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وسلم
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن عائشة قالت» .
[2] في الأصل: «يوسف في قيده» .
[3] هذه الترجمة ساقطة من الأصل، ظ، وأوردناها من أ.
[4] إلى هنا انتهى السقط السابق الإشارة إليه.
[5] في الأصل: «عمير بن عيسى» .

(4/262)


وتحرض عَلَيْهِ وتعيب الإِسْلام وتقول فِي ذَلِكَ الشعر، فلما غاب رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ ببدر نذر عمير إِن اللَّه رد رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ سالما أَن يقتل عصماء، فلما رجع رَسُول الله صلّى الله عليه وآله وسلم من بدر أتاها عمير فِي جوف الليل فقتلها، ثُمَّ أتى رَسُول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فأخبره، فَقَالَ رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ: «لا ينتطح فِيهَا عنزان» . وكانت هذه الكلمة أول مَا سمعت من رَسُول اللَّه صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، ثُمَّ قَالَ: إِذَا أحببتم أَن تنظروا إِلَى رجل نصر اللَّه ورسوله بالغيب فانظروا إِلَى عمير بْن عدي» . وَكَانَ عمير يؤذن لقومه
. 207- الفضل بْن العباس بْن عَبْد المطلب بْن هاشم، أَبُو مُحَمَّد:
أمه أم الفضل، وَهِيَ لبابة الكبرى، وَهُوَ أسن ولد العباس، غزا مع رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مكة وحنينا وثبت مَعَهُ يومئذ حِينَ انهزم النَّاس فيمن ثبت مَعَهُ من أَهْل بيته، وشهد مَعَهُ حجة الوداع، وأردفه رَسُول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وراءه وَكَانَ من جملة من حضر غسل رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ وتولى دفنه، ثُمَّ خرج بَعْد ذَلِكَ إِلَى الشام مجاهدا، فمات فِي ناحية الأردن فِي هذه السنة
. 208-[عدي بْن أَبِي الزغباء، واسم أَبِي الزغباء سنان بْن سبيع: [1]
بعثه النَّبِي صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مَعَ بسبس بْن عَمْرو الجهني طليعة يتجسسان خبر العير، فوردا بدرا فوجدا العير قد مرت وفاتتهما- فرجعا فأخبر النبي صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ.
وشهد عدي بدرا والمشاهد كلها مَعَ رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ.
وتوفي فِي خلافة عُمَر بْن الْخَطَّاب رضي اللَّه عَنْهُ، وليس لَهُ عقب
. 209- عويم بْن ساعدة بْن عائش بْن قيس بْن النعمان، يكنى أبا عَبْد الرَّحْمَنِ [2] :
ويروى أنه كَانَ فِي الثمانية الَّذِينَ لقوا رَسُول اللَّه صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ من الأنصار بمكة فأسلموا.
وشهد العقبتين، وتوفي وهو ابن خمس وستين سنة] [3] .
__________
[1] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 58. وهذه الترجمة ساقطة من الأصل، وظ.
[2] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 30، وهذه الترجمة ساقطة أيضا من الأصل، وظ.
[3] إلى هنا انتهى السقط المشار إليه.

(4/263)


210- معاذ بْن جبل بْن عَمْرو بْن أوس بْن عائذ بْن عدي بْن كعب، أَبُو عَبْد الرَّحْمَنِ: [1]
كَانَ طولا أبيض حسن الثغر، براق الثنايا، عظيم العينين، مجموع الحاجبين، جعدا قططا. شهد العقبة مع السبعين.
وآخى رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ بينه وبين ابْن مَسْعُود، وشهد بدرا وَهُوَ ابْن عشرين سَنَة، أَوْ إحدى وعشرين، وشهد أحدا والمشاهد كلها مع رسول الله. صلى الله عليه وآله وسلم. وبعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ إِلَى اليمن فِي ربيع الآخر سَنَة تسع من الهجرة، وشيعه رَسُول اللَّه صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وأوصاه بحسن الخلق، وتوفي رَسُول اللَّه صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَهُوَ عَلَى اليمن، ولما أصيب أَبُو عبيدة فِي طاعون عمواس استخلف معاذ بْن جبل فأخذه الطاعون، فجعل يَقُول وَهُوَ يغمى عليه: وعزتك إنك لتعلم أني أحبك جزعني مَا أردت.
[أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ، قَالَ: أَنْبَأَنَا أَبُو إِسْحَاقَ الْبَرْمَكِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ حَيُّوَيْهِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ مَعْرُوفٍ، حَدَّثَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهْمِ، حَدَّثَنَا محمد بن سَعْدٍ، أَخْبَرَنَا عُبَيْدُ اللَّهِ بْنُ مُوسَى عَنْ شَيْبَانَ، عَنِ الأَعْمَشِ، عَن شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ] [2] ، عَنِ الْحَارِثِ بْنِ عُمَيْرَةَ، قَالَ:
إِنِّي لَجَالِسٌ عِنْدَ مُعَاذٍ وَهُوَ/ يَمُوتُ فَهُوَ يُغْمَى عَلَيْهِ مَرَّةً، وَيَفِيقُ مَرَّةً، فَسَمِعْتُهُ يَقُولُ عِنْدَ إِفَاقَتِهِ: اخنق خنقك، فو عزّتك إِنِّي أُحِبُّكَ [3] .
[قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَأَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا سَعِيدُ بْنُ أَبِي عَرُوبَةَ، قَالَ:
سَمِعْتُ] [4] شَهْرَ بْنَ حَوْشَبٍ يَقُولُ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ:
لَوْ أَدْرَكْتَ [5] مُعَاذَ بْنَ جَبَلٍ فَاسْتَخْلَفْتُهُ فَسَأَلَنِي عَنْهُ رَبِّي لَقُلْتُ: رب سمعت نبيك يَقُولُ: «إِنَّ الْعُلَمَاءَ إِذَا اجْتَمَعُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَانَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ قَذْفَةَ حجر» .
__________
[1] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 12.
[2] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى ابن سعد بإسناده عن الحارث بن عميرة» .
والخبر في طبقات ابن سعد 3/ 2/ 124، 125.
[3] في طبقات ابن سعد: «فو عزّتك إني لأحبك» .
[4] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى ابن سعد بإسناده عن شهر بن حوشب» .
[5] في الأصل: «أدركني» .

(4/264)


[أَخْبَرَنَا ابْنُ نَاصِرٍ، أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأنماطي، أَخْبَرَنَا أَبُو حَامِدٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ الْمَرْوَزِيُّ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ الْحَارِثِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عبد الكريم، حدثنا الهيثم بن عدي، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ رَاشِدٍ الْخُزَاعِيُّ] [1] ، عَنْ مَحْفُوظِ بْنِ عَلْقَمَةَ، عَنْ أَبِيهِ:
أَنَّ مُعَاذًا كَانَ يَأْكُلُ تُفَّاحًا وَمَعَهُ امْرَأَةٌ لَهُ وَغُلامٌ، فَأَكَلَتِ امْرَأَتُهُ نِصْفَ تُفَّاحَةٍ ثُمَّ نَاوَلَتِ الْغُلامَ نِصْفَهَا، فَأَوْجَعَهَا ضَرْبًا. وَرَأَى امْرَأَتَهُ تَطَّلِعُ مِنْ كَوَّةٍ فَأَوْجَعَهَا ضَرْبًا.
توفي معاذ فِي طاعون عمواس بناحية الأردن من الشام وَهُوَ ابْن ثمان وثلاثين سَنَة.
وقيل: ثَلاث وثلاثين سَنَة
. 211- محلم بْن جثامة بْن قيس:
[أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي الْبَزَّازُ، أَخْبَرَنَا أَبُو مُحَمَّدٍ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا أَبُو عَمْرِو بْنُ حَيُّوَيْهِ، أَخْبَرَنَا ابْنُ معروف، حدثنا ابْنُ الْفَهْمِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ، أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ، قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ قُسَيْطٍ، عَنْ أَبِيهِ] [2] ، عَنْ عَبْد الرَّحْمَنِ بْن عَبْد اللَّه بْن أَبِي حَدْرَدٍ الأَسْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ، قَالَ:
لَمَّا وَجَّهَنَا رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ مَعَ أَبِي قَتَادَةَ الأَنْصَارِيِّ إِلَى بَطْنِ أطم، فبينا نحن ننظر أطم مَرَّ بِنَا عَامِرُ بْنُ الأَضْبَطِ الأَشْجَعِيُّ، فَسَلَّمَ عَلَيْنَا بِتَحِيَّةِ الإِسْلامِ، فَأَمْسَكْنَا عَنْهُ وَحَمَلَ عَلَيْهِ مُحَلِّمُ بْنُ جَثَّامَةَ فَقَتَلَهُ وَسَلَبَهُ بَعِيرَهُ وَمَتَاعًا وَوَطْيًا مِنْ لَبَنٍ، فَلَمَّا لَحِقَنَا النَّبِيُّ صَلَّى الله عليه وآله وسلم نزل فيه القرآن: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً ... 4: 94 [3] الآيَةَ.
قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ [4] : وَحَدَّثَنَا غَيْرُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ، قَالَ: لَمَّا كَانَ رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ بِحُنَيْنٍ صَلَّى يَوْمًا الظُّهْرَ ثُمَّ تَنَحَّى إِلَى شَجَرَةٍ فَقَامَ إِلَيْهِ عُيَيْنَةُ بْنُ بَدْرٍ وَهُوَ سَيِّدُ قَيْسٍ يَطْلُبُ دَمَ عَامِرِ بْنِ الأَضْبَطِ، فَقَامَ الأَقْرَعُ بْنُ حَابِسٍ يَدْفَعُ عَنْ مُحَلِّمٍ/ لمكان خندف [5] ،
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن محفوظ» .
[2] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن عبد الرحمن» .
[3] سورة النساء، الآية: 94.
[4] في الأصل: «روى محمد بن عمر بإسناده عن عبد الله بن يزيد» .
[5] كذا بالأصول.

(4/265)


فَاخْتَصَمَا بَيْنَ يَدَيِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم، فقال النبي صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ: «يَأْخُذُ الدِّيَةَ» . فَأَبَى عُيَيْنَةُ، فَلَمْ يَزَلْ رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ حَتَّى قَبِلُوهَا، فَقَالَ النَّاسُ لِمُحَلِّمٍ: ائْتِ رَسُولَ الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ يَسْتَغْفِرْ لَكَ، فَقَامَ وَعَلَيْهِ حُلَّةٌ قَدْ تَهَيَّأَ فِيهَا لِلْقَصَاصِ حَتَّى جَلَسَ بَيْنَ يَدَيِ النبي صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَعَيْنَاهُ تَدْمَعَانِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَدْ كَانَ مِنَ الأَمْرِ مَا بَلَغَكَ، وَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَقَالَ:
مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: مُحْلِمُ بْنُ جِثَّامَةَ، قَالَ: قَتَلْتَهُ بِسِلاحِكَ فِي غَيْرَةِ الإِسْلامِ، اللَّهمّ لا تَغْفِرْ لِمُحْلِمِ بْنِ جُثَامَةَ، بِصَوْتٍ عَالٍ أَنْفَذَ بِهِ النَّاسَ، فَعَادَ فَقَالَ: قَدْ كَانَ الَّذِي بَلَغَكَ، وَإِنِّي أَتُوبُ إِلَى اللَّهِ فَاسْتَغْفِرْ لِي، فَعَادَ النبي صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِصَوْتٍ عَالٍ: «اللَّهمّ لا تَغْفِرْ لِمُحْلِمِ بْنِ جُثَامَةَ» ثَلاثًا. فَقَامَ مِنْ بَيْنَ يَدَيْ رَسُول اللَّهِ صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ يَتَلَقَّى دُمُوعَهُ بِفَضْلِ رِدَائِهِ. فَقَالَ ضَمْرَةُ الأَسْلَمِيُّ: كُنَّا نَتَحَدَّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ حَرَّكَ شَفَتَيْهِ بِالاسْتِغْفَارِ، وَلَكِنَّهُ أَرَادَ أَن يُعَلِّمَ النَّاسَ قَدْرَ الدَّمِ عِنْدَ اللَّهِ، وَكَانَ ضَمْرَةَ قَدْ شَهِدَ ذَلِكَ الْيَوْمَ.
وَقَالَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ: لَمَّا مَاتَ مُحْلِمُ بْنُ جِثَّامَةَ لَفَظَتْهُ الأَرْضُ بَعْدَ دَفْنِهِ، ثُمَّ دَفَنُوهُ فَلَفَظَتْهُ الأَرْضُ، فَطَرَحُوهُ فَأَكَلَتْهُ السِّبَاعُ.
وَقَالَ الْحَسَنُ: إِنَّهَا لَتُقْبَلُ مِمَّنْ هُوَ شَرٌّ مِنْهُ، وَلَكِنَّ اللَّهَ أَحَبَّ أَن يُرِيَكُمْ.
قَالَ الواقدي: نزل محلم حمص وتوفي بها
.

(4/266)


ثُمَّ دخلت سَنَة تسع عشرة
فمن الحوادث فِيهَا وقعة نهاوند [1]
قَالَ ابْن إِسْحَاق: كانت فِي سَنَة إحدى وعشرين، وَقَالَ غيره: فِي سَنَة ثماني عشرة.
وَكَانَ من حَدِيث نهاوند أَن النعمان بْن مقرن كتب إِلَى عُمَر/ يخبره أَن سَعْد بْن أَبِي وقاص استعمله عَلَى جباية الخراج وأنه قَدْ أحب الجهاد، فكتب عُمَر إِلَى سَعْد.
ابعث بِهِ إِلَى نهاوند، ثُمَّ كتب عُمَر إِلَى النعمان: أما بَعْد، فَقَدْ بلغني أَن جموعا كثيرة قَدْ جمعوا [لكم] [2] بمدينة نهاوند، فَإِذَا أتاك كتابي هذا فسر [بأمر الله، و] [3] بعون اللَّه [وبنصر اللَّه] [3] بمن معك من الْمُسْلِمِينَ. كَذَا فِي رواية.
وأصح من هَذَا [4] مَا [أَخْبَرَنَا بِهِ أَبُو مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ عَلِيٍّ الْمُدَبِّرُ، أَخْبَرَنَا أَبُو الْغَنَائِمِ عَبْدُ الصَّمَدِ بْنُ عَلِيِّ بْنِ الْمَأْمُونِ، قَالَ: أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ عمر الدار الدَّارَقُطْنِيُّ، قَالَ:
قُرِئَ عَلَى أَبِي مُحَمَّدٍ يَحْيَى بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ صَاعِدٍ وَأَنَا أَسْمَعُ: حَدَّثَكُمْ يَعْقُوبُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مَهْدِيٍّ، قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْن سَلَمَةَ، عَنْ أَبِي عِمْرَانَ الْجَوْنِيِّ، عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ الْمُزَنِيِّ] [5] ، عَنْ مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ:
__________
[1] تاريخ الطبري 4/ 114.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصول، أوردناه من الطبري.
[3] ما بين المعقوفتين: من الطبري.
[4] «من» : ساقطة من أ.
[5] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن معقل» .

(4/267)


أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ شَاوَرَ الْهُرْمُزَانَ، فَقَالَ: مَا تَرَى؟ أَنْ أَبْدَأَ بِفَارِسَ أَوْ بِأَذْرَبَيْجَانَ أَوْ بِأَصْبَهَانَ؟ قَالَ: إِنَّ فَارِسَ وَأَذْرَبَيْجَانَ الْجَنَاحَانِ، وَالرَّأْسَ أَصْبَهَانُ، فَإِن قَطَعْتَ أَحَدَ الْجَنَاحَيْنِ يَأْتِي الرَّأْسُ بِالْجَنَاحِ الآخَرِ، وَإِنْ قَطَعْتَ الرَّأْسَ وَقَعَ الْجَنَاحَانِ، فَابْدَأْ بِالرَّأْسِ أَصْبَهَانَ.
فَدَخَلَ عُمَرُ الْمَسْجِدَ وَالنُّعْمَانُ بْنُ مُقْرِنٍ يُصَلِّي، فَقَعَدَ إِلَى جَنْبِهِ، فَلَمَّا قَضَى صَلاتَهُ قَالَ: إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَسْتَعْمِلَكَ، قَالَ: أَمَّا جَابِيًا فَلا، وَلَكِنْ غَازِيًا، قَالَ: وَأَنْتَ غَازٍ.
فَوَجَّهَهُ إِلَى أَصْبَهَانَ، وَكَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ أَنْ يُمِدُّوهُ. فَأَتَاهُمُ الْعَدُوُّ وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمُ النَّهْرُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِمُ الْمُغِيرَةَ بْنَ شُعْبَةَ فَأَتَاهُمْ، فَقِيلَ لِمَلِكِهِمْ- وَكَانَ يُقَالُ لَهُ ذُو الْجَنَاحَيْنِ [1] : إِنَّ رَسُولَ الْعَرَبِ عَلَى الْبَابِ، فَشَاوَرَ أَصْحَابَهُ، فَقَالَ: مَا تَرَوْنَ؟ أَقْعُدُ لَهُ فِي [بَهْجَةِ الْمُلْكِ] [2] وَهَيْئَةِ الْمُلْكِ أَوْ [أَقْعُدُ لَهُ فِي] هَيْئَةِ الْحَرْبِ؟ فَقَالُوا اقْعُدْ لَهُ فِي هَيْئَةِ الْمُلْكِ، فَقَعَدَ عَلَى سَرِيرِهِ وَوَضَعَ التَّاجَ عَلَى رَأْسِهِ، وَقَعَدَ أَبْنَاءُ الْمُلُوكِ نَحْوَ السِّمَاطَيْنِ، عَلَيْهِم الْقُرُطُ وَأَسْوِرَةُ الذَّهَبِ وَثِيَابُ الدِّيبَاجِ، ثُمَّ أَذِنَ لَهُ، فَدَخَلَ وَمَعَهُ رُمْحُهُ وَفَرُسُهُ، فَجَعَلَ يَطْعَنُ بِرُمْحِهِ [3] فِي بُسُطِهِمْ لِيَتَطَيَّرُوا، وَقَدْ أَخَذَ بِضَبْعَيْهِ رَجُلانِ، فَقَامَ بَيْنَ يَدَيْهِ، فَتَكَلَّمَ مَلِكُهُمْ فَقَالَ:
إِنَّكُمْ مَعْشَرَ الْعَرَبِ أَصَابَتْكُمْ مَجَاعَةٌ وَجُهْدٌ فَإِن شِئْتُمْ أَمَرْنَاكُمْ وَرَجَعْتُمْ، فَتَكَلَّمَ الْمُغِيرَةُ/ فَحَمِدَ اللَّهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّا مَعْشَرَ الْعَرَبِ [4] كُنَّا نَأْكُلُ الْجِيَفَ وَالْمَيْتَةَ، وَيَطَئُونَا النَّاسُ وَلا نَطَؤُهُمْ، وَأَنَّ اللَّهَ ابْتَعَثَ مِنَّا نَبِيًّا صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ كَانَ أَوْسَطَنَا نَسَبًا، وَأَصْدَقَنَا حَدِيثًا- فَذكر النبي صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بِمَا هُوَ أَهْلُهُ- وَأَنَّهُ وَعَدَنَا أَشْيَاءَ وَجَدْنَاهَا كَمَا قَالَ، وَأَنَّهُ وَعَدَنَا فِيمَا وَعَدَنَا أنّا سنظهر عليكم ونغلب على ما ها هنا، وَإِنِّي أَرَى عَلَيْكُمْ بَزَّةً وَهَيْئَةً، وَمَا أَرَى مَنْ خَلْفِي يَذْهَبُونَ حَتَّى يُصِيبُوهَا، قَالَ: ثُمَّ قَالَتْ لِي نَفْسِي: لَوْ جَمَعْتَ جَرَامِيزَكَ فَوَثَبْتُ وَثْبَةً فَقَعَدْتُ مَعَ الْعِلْجِ عَلَى سَرِيرِهِ حَتَّى يَتَطَيَّرَ. قَالَ: فَوَجَدْتُ غَفْلَةً، فَوَثَبْتُ، فَإِذَا أَنَا معه على سريره. قال: فأخذوه فجعلوا يتوجأونه ويطئونه بأرجلهم، قال: قلت: هكذا
__________
[1] في أ: «ذو الجناح» .
[2] ما بين المعقوفتين: من أ، ط.
[3] في الأصل: «يطق برمحه» .
[4] في الأصل: «فإنا معشر الكتاب» .

(4/268)


تَفْعَلُونَ بِالرُّسُلِ، إِنَّا لا نَفْعَلُ هَذَا بِرُسُلِكُمْ، إِنْ كُنْتُ أَسَأْتُ أَوْ أَخْطَأْتُ فَإِنَّ الرُّسُلَ لا يُفْعَلُ بِهِمْ هَذَا، قَالَ الْمَلِكُ: إِنْ شِئْتُمْ قَطَعْتُمْ إِلَيْنَا، وَإِنْ شِئْتُمْ قَطَعْنَا إِلَيْكُمْ. قَالَ: قُلْتُ: بَلْ نَقْطَعُ إِلَيْكُمْ، فَقَطَعْنَا إِلَيْهِمْ، فَتَسَلْسَلُوا كُلُّ عَشْرَةٍ فِي سِلْسِلَةٍ، وَكُلُّ خَمْسَةٍ، وَكُلُّ ثَلاثَةٍ، قَالَ: فَصَافَفْنَاهُمْ، فَرَشَقُونَا حَتَّى أَسْرَعُوا فِينَا فَقَالَ- يَعْنِي النُّعْمَانُ: إِنِّي هَازٌّ لِوَائِي ثَلاثَ هَزَّاتٍ، فَأَمَّا الْهِزَّةُ الأُولَى فَقَضَى رَجُلٌ حَاجَتَهُ وَتَوَضَّأَ، وَأَمَّا الثَّانِيَةُ فَنَظَرَ رَجُلٌ فِي سَلاحِهِ وَفِي شِسْعِهِ فَأَصْلَحَهُ، وَأَمَّا الثَّالِثَةُ فَاحْمِلُوا وَلا يَلْوِيَنَّ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، فَإِنْ قُتِلَ النُّعْمَانُ فَلا يَلْوِيَنَّ عَلَيْهِ أَحَدٌ، وَإِنِّي دَاعِ اللَّهَ بِدَعْوَةٍ، فَعَزَمْتُ عَلَى كُلِّ امْرِئٍ مِنْكُمْ لَمَّا أَمِنَ عَلَيْهَا، اللَّهمّ أَعْطِ النُّعْمَانَ الْيَوْمَ الشَّهَادَةَ فِي نَصْرِ الْمُسْلِمِينَ، وَفَتْحٍ عَلَيْهِمْ، فَهَزَّ لواؤه أَوَّلَ مَرَّةٍ، / ثُمَّ هَزَّهُ الثَّانِيَةَ، ثُمَّ هَزَّهُ الثَّالِثَةَ، ثُمَّ تَمَثَّلَ دِرْعَهُ، ثُمَّ حَمَلَ فَكَانَ أَوَّلَ صَرِيعٍ رَحِمَهُ اللَّهُ [1] .
قَالَ مَعْقِلٌ: فَأَتَيْتُ عَلَيْهِ فَذَكَرْتُ عَزِيمَتَهُ، فَجَعَلْتُهُ عَلَمًا، ثُمَّ ذَهَبْتُ، فَكُنَّا إِذَا قَتَلْنَا رَجُلا شُغِلَ عَنَّا أَصْحَابُهُ، وَوَقَعَ ذُو الْجَنَاحَيْنِ عَنْ بَغْلَتِهِ فَانْشَقَّ بَطْنُهُ. [قَالَ:] [2] فَهَزَمَهُمُ اللَّهُ. ثُمَّ جِئْتُ إِلَى النُّعْمَانِ وَمَعِي إِدَاوَةٌ فِيهَا مَاءٌ، فَغَسَلْتُ عَنْ وَجْهِهِ، فَقَالَ: مَنْ أَنْتَ؟
قَالَ: قُلْتُ: مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ، فَقَالَ: مَا فَعَلَ النَّاسُ؟ قُلْتُ: فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْهِم، قَالَ: الْحَمْدُ للَّه، اكْتُبُوا بِذَلِكَ إِلَى عُمَرَ، وَفَاضَتْ نَفْسُهُ رَحِمَهُ اللَّهُ.
قَالَ: وَاجْتَمَعَ النَّاسُ إِلَى الأَشْعَثِ بْنِ قَيْسٍ، وَفِيهِمُ ابْنُ عُمَرَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ- أَوِ الزُّبَيْرُ- وَعَمْرُو بْنُ مَعْدِيَكْرُبَ وَحُذَيْفَةُ، فَبَعَثُوا إِلَى أُمِّ وَلَدِهِ، فَقَالُوا: مَا عَهِدَ إِلَيْكِ عَهْدًا، فَقَالَتْ: هَا هُنَا سَفَطَ فِيهِ كِتَابٌ، فَأَخَذُوهُ، وَكَانَ فِيهِ: فَإِن قُتِلَ النُّعْمَانُ فَفُلانٌ فَإِنْ قُتِلَ فُلانٌ فَفُلانٌ.
[أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَإِسْمَاعِيلُ، قَالا: أخبرنا ابن النقور، قال: أخبرنا المخلص، قال: أخبرنا أحمد بن عبد الله، قال: حدثنا السري، قال: حدثنا شعيب، قال: حدثنا سيف] [3] ، عن محمد، وطلحة، وعمرو، وسعيد، قالوا:
__________
[1] في أ: «رحمة الله عليه» .
[2] ما المعقوفتين: من أ.
[3] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن محمد» .
والخبر في تاريخ الطبري 4/ 122.

(4/269)


كَانَ سَبُبُ نُهَاوَنْدَ فِي زَمَانِ سَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ، وَاجْتِمَاعُ الأَعَاجِمِ [إِلَيْهَا خُرُوجَ] [1] بُعُوثٍ المسلمين نَحْوَهُمْ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ مَعَ عَزْلِهِ، وَقَدْ أَقَرَّ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَلَى الْكُوفَةِ خَلِيفَتَهُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عِتْبَانَ، وَكَانَتِ الْوَقْعَةُ وَالْفَتْحُ فِي إِمَارَةِ عَبْدِ اللَّهِ، وَكَانَ مِنْ حَدِيثِهِمْ أَنَّهُمْ نَفَرُوا لِكِتَابِ يَزْدَجِرْدَ الْمَلِكِ، فَتَوَافَوْا إِلَى نُهَاوَنْدَ، [فَتَوَافَى إِلَيْهَا مِنْ بَيْنِ خُرَاسَانَ إِلَى حُلْوَانَ، وَمِنْ بَيْنِ الْبَابِ إِلَى حُلْوَانَ، وَمِنْ بَيْنِ سِجِسْتَانَ إِلَى حُلْوَانَ، فَاجْتَمَعَتْ حَلَبَةُ فَارِسَ وَالْفهلوجِ أَهْلِ الْجِبَالِ مِنْ] [2] بَيْنِ الْبَابِ إِلَى حُلْوَانَ ثَلاثُونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَمِنْ بَيْنِ خُرَاسَانَ إِلَى حُلْوَانَ سِتُّونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَمِنْ بَيْنِ سِجِسْتَانَ إِلَى فَارِسَ وَحُلْوَانَ سِتُّونَ أَلْفَ مُقَاتِلٍ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى الْفِيرَزَانِ.
قَالُوا: إِنَّ عُمَرَ قَدْ تَنَاوَلَكُمْ وَأَتَى أَهْلَ فَارِسَ فِي عُقْرِ دَارِهِمْ، وَهُوَ آتِيكُمْ إِنْ لَمْ تَأْتُوهُ، وَقَدْ أَخْرَبَ بَيْتَ مَمْلَكَتِكُمْ، وَلَيْسَ بِمُنْتَهٍ إِلا أَنْ تُخْرِجُوا مَنْ فِي بِلادِكُمْ مِنْ جُنُودِهِ، وَتَقْلَعُوا هَذَيْنِ الْمِصْرَيْنِ، ثُمَّ تَشْغِلُوهُ فِي/ بِلادِهِ وَقَرَارِهِ، فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ وَكَتَبُوا بَيْنَهُمْ كِتَابًا. فَكَتَبَ عَبْدُ اللَّهِ إِلَى عُمَرَ أَنَّهُ قَدِ اجْتَمَعَ مِنْهُمْ خَمْسُونَ وَمِائَةُ أَلْفِ [مُقَاتِلٍ] [3] ، فَإِنْ جَاءُونَا قَبْلَ أَنْ نَبْدَأَهُمْ [4] ازْدَادُوا جُرْأَةً وَقُوَّةً، وَإِنْ نَحْنُ عَاجَلْنَاهُمْ كَانَ ذَلِكَ لَنَا.
وَقَدِمَ بِالْكِتَابِ قَرِيبُ بْنُ ظَفْرٍ الْعَبْدِيُّ، فَقَالَ لَهُ عُمَرُ: مَا اسْمُكَ؟ قَالَ: قَرِيبٌ، قَالَ: ابْنُ مَنْ؟ قَالَ: ابن ظَفْرٍ، فَتَفَاءَلَ بِذَلِكَ وَقَالَ: ظَفْرٌ قَرِيبٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ، وَلا قُوَّةَ إِلا باللَّه، وَنُودِيَ فِي النَّاسِ: الصَّلاةُ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، وَوَاَفَاهُ سَعْدٌ فَتَفَاءَلَ بِمَجِيءِ سَعْدٍ، ثُمَّ قَامَ عُمَرُ خَطِيبًا، وَأَخْبَرَ النَّاسَ الْخَبَرَ وَاسْتَشَارَهُمْ، وَآلَ الأَمْرُ إِلَى أَنْ وَلَّى النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ.
فَلَمَّا الْتَقَوْا [5] سَارَ فِي النَّاسِ، فَجَعَلَ يَقِفُ عَلَى كُلِّ رَايَةٍ، فَيَحْمَدُ اللَّهَ وَيُثْنِي عَلَيْهِ وَيَقُولُ: قد علمتم ما أعزكم الله به من هذا الذين، وَمَا وَعَدَكُمْ مِنَ الظُّهُورِ، وَقَدْ أَنْجَزَ لَكُمْ هَوَادِيَ [6] مَا وَعَدَكُمْ، وَإِنَّمَا بَقِيَتْ أَعْجَازُهُ وَأَكَارِعُهُ، والله منجز وعده، ولا يكونن على
__________
[1] في الأصل: «عليها بعوث» .
[2] ما بين المعقوفتين: من أ.
[3] ما بين المعقوفتين: من الطبري.
[4] في الطبري: «قبل أن نبادرهم» .
[5] تاريخ الطبري 4/ 131.
[6] في الأصل: «وهذا» .

(4/270)


دُنْيَاهُمْ أَحْنَى مِنْكُمْ [1] عَلَى دِينِكُمْ، وَإِنَّكُمْ تَنْتَظِرُونَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ: مِنْ بَيْنِ شَهِيدٍ حَيٍّ مَرْزُوقٍ، أَوْ فَتْحٍ قَرِيبٍ، فَاسْتَعِدُّوا، فَإِنِّي مُكَبِّرٌ ثَلاثًا، فَإِذَا كَبَّرْتُ التَّكْبِيرَةَ الأُولَى فَلْيَتَهَيَّأْ مَنْ لَمْ يَكُنْ تَهَيَّأَ، فَإِذَا كَبَّرْتُ الثَّانِيَةَ فَلْيَشُدَّ سِلاحَهُ وَلْيَتَأَهَّبْ لِلنُّهُوضِ، فَإِذَا كَبَّرْتُ الثَّالِثَةَ فَإِنِّي حَامِلٌ إِنْ شَاءَ اللَّهُ فَاحْمِلُوا مَعًا، اللَّهمّ أَعِزَّ دِينَكَ، وَانْصُرْ عِبَادَكَ، وَاجْعَلِ النُّعْمَانَ أَوَّلَ شَهِيدٍ.
فَلَمَّا كَبَّرَ وَحَمَلَ حَمَلَ النَّاسُ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالا لَمْ يَسْمَعِ السَّامِعُونَ بِمِثْلِهِ، فَزَلِقَ فَرَسُ النُّعْمَانِ بِهِ فِي الدِّمَاءِ فَصَرَعَهُ، وَأُصِيبَ النُّعْمَانُ حِينَئِذٍ، فَتَنَاوَلَ الرَّايَةَ مِنْهُ نُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَسَجَّى النُّعْمَانَ بِثَوْبٍ، وَأَتَى حُذَيْفَةُ فَأَقَامَ اللِّوَاءَ، وَقَالَ الْمُغِيرَةُ: اكْتُمُوا مُصَابَ أَمِيرِكُمْ حَتَّى نَنْظُرَ مَا يَصْنَعُ اللَّهُ فِينَا/ وَفِيهِمْ، لَكَيْلا يَهِنَ النَّاسُ، فَاقْتَتَلُوا حَتَّى إِذَا أَظْلَمَ اللَّيْلُ [2] ، انْكَشَفَ الْمُشْرِكُونَ، وَالْمُسْلِمُونَ مُلِظُّونَ بِهُمْ، فَتَهَافَتُوا فِي الْحَفْرِ الَّذِي نَزَلُوا دُونَهُ، فَمَاتَ مِنْهُمْ مِائَةُ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ، سِوَى مَنْ قُتِلَ فِي الْمَعْرَكَةِ، وَلَمْ يَفْلِتُ إِلا الشَّرِيدُ، وَنَجَا الْفِيرَزَانُ، فَهَرَبَ نَحْوَ هَمَذَانَ، فَأَتْبَعَهُ نُعَيْمُ بْنُ مُقَرِّنٍ، وَقَدِمَ الْقَعْقَاعُ قُدَّامَهُ، فَأَدْرَكَهُ حَتَّى انْتَهَى [3] إِلَى ثَنِيَّةِ هَمَذَانَ، وَالثَّنِيَّةُ مَشْحُونَةٌ بَيْنَ بِغَالٍ وَحَمِيرٍ مُوَقَّرَةٍ عَسَلا، فَحَبَسَتْهُ الدَّوَابُّ عَلَى أَجَلِهِ، فَقَتَلَهُ عَلَى الثَّنِيَّةِ. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ للَّه جُنُودًا مِنْ عَسَلٍ، وَاسْتَاقُوا الْعَسَلَ، وَمَضَى الْفُلالُ حَتَّى انْتَهَوْا إِلَى هَمَذَانَ وَالْخَيْلُ فِي آثَارِهِمْ، فَدَخَلُوهَا، فَنَزَلَ الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِم، وَحَوَوْا مَا حَوْلَهَا، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ خِسْرُوشنومَ [4] اسْتَأَمَنَهُمْ عَلَى أَنْ يَضْمَنَ لَهُمْ هَمَذَانَ [وَدَسْتَبَي] [5] .
وَدَخَلَ الْمُسْلِمُونَ بَعْدَ هَزِيمَةِ الْمُشْرِكِينَ يَوْمَ نُهَاوَنْدَ مَدِينَةَ نُهَاوَنْدَ وَاحْتَوَوْا مَا فِيهَا وَمَا حَوْلَهَا.
فَبَيْنَمَا هُمْ يَتَوَقَّعُونَ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ إِخْوَانِهِمْ بِهَمَذَانَ، أَقْبَلَ الْهِرْبِذُ عَلَى أَمَانٍ، فَقَالَ لِحُذَيْفَةَ: أَتُؤْمِنُنِي عَلَى أَنْ أُخْبِرَكَ بِمَا أَعْلَمُ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: إِنَّ النّخيرجانَ وَضَعَ عِنْدِي
__________
[1] في الطبري: «أحمى منكم» .
[2] في الطبري: «أظلهم الليل» .
[3] في الطبري: «حين انتهى» .
[4] في الأصل: «خرشنوم» .
[5] ما بين المعقوفتين: من الطبري.

(4/271)


ذَخِيرَةً لِكِسْرَى، فَأَنَا مُخْرِجُهَا لَكَ عَلَى أَمَانِي وَأَمَانِ مَنْ شِئْتُ، فَأَعْطَاهُ ذَلِكَ، فَأَخْرَجَ لَهُ جَوْهَرَ كِسْرَى [كَانَ] [1] أَعَدَّهُ لِنَوَائِبِ الزَّمَانِ، فَنَظَرُوا فِي ذَلِكَ فَأَجْمَعَ رَأْيُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى رَفْعِهِ إِلَى عُمَرَ وَجَعْلِهِ لَهُ، فَبَعَثُوا بِهِ. وَقَسَمَ حُذَيْفَةُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ غَنَائِمَهُمْ، فَكَانَ سَهْمُ الْفَارِسِ يَوْمَ نُهَاوَنْدَ سِتَّةَ آلافٍ، وَسَهْمُ الرَّاجِلِ أَلْفَيْنِ.
وَكَانَ عُمَرُ يَتَمَلْمَلُ فِي اللَّيَالِي الَّتِي قَدَّرَ أَنَّهُمْ يَلْتَقُونَ فِيهَا، فَبَيْنَا رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ دَخَلَ الْمَدِينَةَ لَيْلا لَحِقَ بِهِ رَاكِبٌ، فَقَالَ: يَا عَبْد اللَّه، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ؟ قَالَ: مِنْ نُهَاوَنْدَ، قَالَ: مَا الْخَبَرُ؟ قَالَ: [الْخَبَرُ خَيْرٌ] [2] فَتَحَ اللَّهُ عَلَى النُّعْمَانِ، وَاسْتُشْهِدَ، وَقَسَمَ الْمُسْلِمُونَ الْفَيْءَ فَأَصَابَ الْفَارِسُ سِتَّةَ آلافٍ، فَدَخَلَ الرَّجُلُ، فَأَصْبَحَ يَتَحَدَّثُ، فَبَلَغَ عُمَرَ الْخَبَرُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ يَسْأَلُهُ، فَأَخْبَرَهُ، فَقَالَ: صَدَقْتَ/ هَذَا بَرِيدُ الْجِنِّ [3] ثُمَّ جَاءَ الْخَبَرُ وَالأَخْمَاسُ وَالذَّخِيرَةُ فَرَدَّ الذَّخِيرَةُ إِلَى حُذَيْفَةَ، وَقَالَ: اقْسِمْهَا عَلَى مَا أَفَاءَهَا اللَّهُ عَلَيْهِ.
[قَالَ المصنف] [4] : وَقَدْ روي لنا فتح نهاوند من طريق آخر:
[أَنْبَأَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا الْمُبَارَكُ بْنُ عَبْدِ الْجَبَّارِ الصَّيْرَفِيُّ، قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو الْفَتْحِ عَبْدُ الْكَرِيمِ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ أَحْمَدَ الْمَحَامِلِيُّ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ بْنُ شَاذَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا إِبْرَاهِيمُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ عَرَفَةَ، قَالَ: حَدَّثَنَا شُعَيْبُ بْنُ أَيُّوبَ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو يَحْيَى الْحِمَّانِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو بَكْرٍ الْهُذَلِيُّ] [5] ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ:
كَانَتْ عُظَمَاءُ الأَعَاجِمِ مِنْ أَهْلِ قُومَسَ وَأَهْلِ الرَّيِّ وَأَهْلِ هَمَذَانَ وَأَهْلِ نَهَاوَنْدَ قَدْ تَكَاتَبُوا وتعاهدوا عَلَى أَنْ يُخْرِجُوا الْعَرَبَ مِنْ بِلادِهِمْ وَيَغْزُوهُمْ، فَبَلَغَ ذَلِكَ أَهْلَ الْكُوفَةِ فَفَزِعُوا فِيهِ إِلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَلَمَّا قَدِمُوا عَلَيْهِ نَادَى فِي النَّاسِ:
الصَّلاةُ جَامِعَةٌ، فَاجْتَمَعَ النَّاسُ، ثُمَّ صَعَدَ الْمِنْبَرَ، فَقَالَ: أَيُّهَا الناس، إن الشيطان قد
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من الطبري.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وفي أ: «الخبر فتح» ، وما أوردناه من الطبري.
[3] في الطبري: «هذا غنيم يريد الجن» .
[4] ما بين المعقوفتين: من أ.
[5] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن الحسن» .

(4/272)


جَمَعَ جُمُوعًا، فَأَقْبَلَ بِهَا لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ، أَلا إِنَّ أَهْلَ قُومَسَ وَأَهْلَ الرَّيِّ وَأَهْلَ هَمَذَانَ وَأَهْلَ نَهَاوَنْدَ قَدْ تَعَاهَدُوا عَلَى أَنْ يُخْرِجُوا الْعَرَبَ مِنْ بِلادِهِمْ، وَيَغْزُوكُمْ فِي بِلادِكُمْ فَأَشِيرُوا عَلَيَّ. فَقَامَ طَلْحَةُ فَقَالَ: أَنْتَ وَلِيُّ هَذَا الأَمْرِ، وَقَدْ أَحْكَمْتَ التَّجَارِبَ، فَادْعُنَا نُجِبْ وَمُرْنَا نُطِعْ، فَأَنْتَ مُبَارَكُ الأَمْرِ مَيْمُونُ النَّقِيبَةِ، ثُمَّ جَلَسَ. فَقَالَ عُمَرُ: تَكَلَّمُوا، فَقَامَ عُثْمَانُ فَقَالَ: أَرَى أَنْ تَكْتُبَ إِلَى أَهْلِ الشَّامِ فَيَسِيرُونَ مِنْ شَأْمِهِمْ، وَتَكْتُبَ إِلَى أَهْلِ الْيَمَنِ فَيَسِيرُونَ مِنْ يَمَنِهِمْ، وَتَسِيرُ أَنْتَ بِنَفْسِكَ مِنْ هَذَيْنِ الْحَرَمَيْنِ إِلَى هَذَيْنِ الْمِصْرَيْنِ، مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ وَالْبَصْرَةِ، فَتَلْقَى جُمُوعَ الْمُشْرِكِينَ فِي جُمُوعِ الْمُسْلِمِينَ.
ثُمَّ قَامَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ فَقَالَ: إِنَّكَ إِنْ أَشْخَصْتَ أَهْلَ الشَّامِ سَارَتِ الرُّومُ إِلَى ذَرَارِيهِمْ [1] ، وَإِنَّكَ إِنْ أَشْخَصْتَ أَهْلَ الْيَمَنِ سَارَتِ الْحَبَشَةُ إِلَى ذَرَارِيهِمْ، وَإِنَّكَ مَتَى شَخَصْتَ مِنْ هَذَيْنِ الْحَرَمَيْنِ انْتَقَضَتْ عَلَيْكَ الأَرْضُ مِنْ أَقْطَارِهَا حَتَّى تَكُونَ مَا تَخْلُفُ خَلْفَكَ مِنَ الْعَوْرَاتِ أَهَمَّ إِلَيْكَ مِمَّا بَيْنَ يَدَيْكَ، وَلَكِنْ أَرَى أَنْ تَكْتُبَ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ فَيَفْتَرِقُونَ، فَفِرْقَةٌ/ تُقِيمُ فِي أَهَالِيهَا، وَفِرْقَةٌ يَسِيرُونَ إِلَى إِخْوَانِهِمْ بِالْكُوفَةِ، وَأَمَّا مَا ذَكَرْتَ مِنْ كَثْرَةِ الْقَوْمِ فَإِنَّا لَمْ نَكُنْ نُقَاتِلُهُمْ فِيمَا خَلا بِالْكَثْرَةِ وَلَكِنَّا نُقَاتِلُهُمْ بِالنَّصْرِ. فَقَالَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: صَدَقْتَ يا أبا الحسن، هذا رأي وَلَئِنْ شَخَصْتُ [مِنَ الْبَلْدَةِ] [2] لَتَنْقَضَّنَّ عَلَيَّ الأَرْضُ مِنْ أَقْطَارِهَا، وَلَيُمِدَّنَّهُمْ مَنْ لَمْ يَكُنْ يُمِدُّهُمْ، فَأَشِيرُوا عَلَيَّ بِرَجُلٍ أُوَلِّيهِ [3] ذَلِكَ الثَّغْرَ، قَالُوا: أَنْتَ أَفْضَلُنَا رَأْيًا، قَالَ: أَشِيرُوا عَلَيَّ بِهِ، [4] وَاجْعَلُوهُ عِرَاقِيًّا، قَالُوا: أَنْتَ أَعْلَمُ بِأَهْلِ الْعِرَاقِ، قَالَ: لأُولِّيَنَّ ذَلِكَ الثَّغْرَ رَجُلا يَكُونُ قَتِيلا فِي أَوَّلِ سَنَةٍ، قَالُوا: وَمَنْ هُوَ؟ قَالَ: النُّعْمَانُ بْنُ مُقَرِّنٍ ثُمَّ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِمَا أَشَارَ بِهِ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، ثُمَّ كَتَبَ إِلَى أَهْلِ الْكُوفَةِ إِنِّي اسْتَعْمَلْتُ عَلَيْكُمُ النُّعْمَانَ بْنَ مُقَرِّنٍ الْمُزَنِيَّ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَلَيْكُمْ حُذَيْفَةُ بْنُ الْيَمَانِ، فَإِنْ قُتِلَ عليكم جرير بن عبد الله [البجلي] ،
__________
[1] في أ: «دارهم» وما أوردناه من الأصل والطبري.
[2] ما بين المعقوفتين: من الطبري.
[3] في الطبري: «أوله ذلك» .
[4] «برجل أوليه ... أشيروا عليّ به: ساقط من أ.

(4/273)


فَإِنْ قُتِلَ فَعَلَيْكُمُ الْمُغِيرَةُ بْنُ شُعْبَةَ، فَإِنْ قُتِلَ فَعَلَيْكُمُ الأَشْعَثُ بْنُ قَيْسٍ.
وَكَتَبَ إِلَى النُّعْمَانِ: أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ مَعَكَ فِي جُنْدِكَ عَمْرَو بْنَ مَعْدِيَكْرُبَ الْمُذْحَجِيَّ، وَطُلَيْحَةَ بْنَ خُوَيْلِدٍ الأَسَدِيَّ، فَأَحْضِرْهُمَا النَّاسَ، وَشَاوِرْهُمَا فِي الْحَرْبِ، وَلا تُوَلِّهِمَا عَمَلا، ثُمَّ دَعَا السَّائِبَ بْنَ الأَقْرَعِ، فَدَفَعَ إِلَيْهِ الْكِتَابَ وَقَالَ: انْطَلِقْ فَاقْرَأْ كِتَابِي عَلَى النَّاسِ، وَانْظُرْ ذَلِكَ الْجَيْشَ، فَإِنِ اللَّهُ أَعَزَّهُمْ وَنَصَرَهُمْ كُنْتَ أَنْتَ الَّذِي تَلِي مَغَانِمَهُمْ وَمَقَاسِمَهُمْ، وَلا تَرْفَعَنَّ إِلَيَّ بَاطِلا، وَلا تُنْقِصْ أَحَدًا شَيْئًا هُوَ لَهُ، وَإِنْ ذَلِكَ الْجَيْشُ ذَهَبَ فَاذْهَبْ فِي الأَرْضِ، وَلا أَرَاكَ بِوَاحِدَةٍ مِنْ عَيْنَيَّ مَا بَقِيتُ أَبَدًا، فَسَارَ السَّائِبُ حَتَّى قَدِمَ الْكُوفَةَ، وَبَعَثَ إِلَى أَهْلِ الْبَصْرَةِ بِكِتَابِهِمْ، فَفَعَلُوا مَا أَرَادَ، وَسَارَ النَّاسُ وَأَقْبَلَتِ الأَعَاجِمُ بِمَجْمُوعِهَا حَتَّى نَزَلُوا نَهَاوَنْدَ، وَسَارَ النُّعْمَانُ بن مقرن بالناس حَتَّى إِذَا كَانَ بِبَعْضِ الطَّرِيقِ بَعَثَ بَكِيرَ بْنَ شَدَّاخٍ اللَّيْثِيَّ وَطُلَيْحَةَ بْنَ خُوَيْلِدٍ الأَسَدِيَّ، فَأَمَّا بَكِيرُ فَرَجَعَ، فَقِيلَ لَهُ: مَا وَرَاءَكَ؟ / قَالَ: أَرْضُ الأَعَاجِمِ وَأَنَا بِهَا جَاهِلٌ، فَخَشِيتُ أَنْ يُؤْخَذَ عَلَيَّ بِمَضَايِقِ الْجِبَالِ، وَنَفَذَ طُلَيْحَةُ حَتَّى عَلِمَ الْخَبَرَ، وَسَارَ النَّاسُ حَتَّى نَزَلُوا نَهَاوَنْدَ، فَأَقَامُوا ثَلاثَةَ أَيَّامٍ وَلَيَالِيهِنَّ، فَأَجْمَعُوا أَنْفُسَهُمْ وَدَوَابَّهُمْ، ثُمَّ غَدُوا يَوْمَ الأَرْبِعَاءِ فِي الْحَدِيدِ فَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا حَتَّى كَثُرَ الْقَتْلَى فِي الْفَرِيقَيْنِ وَالْجِرَاحَاتُ حَتَّى حَجَزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ، فَرَجَعَ الْفَرِيقَانِ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ، فَبَاتَ الْمُسْلِمُونَ يُعَصِّبُونَ بِالْخِرَقِ، وَتُوقَدُ لَهُمُ النِّيرَانُ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ فِي الْمَعَازِفِ وَالْخُمُورِ حَتَّى أَصْبَحُوا، [ثُمَّ غَدُوا يَوْمَ الْخَمِيسِ عَلَى الْبَرَاذِينَ وَأَقْبِيَةِ الدِّيبَاجِ وَالسُّيُوفِ الْمُحَلاةِ، فَاقْتَتَلُوا قِتَالا شَدِيدًا حَتَّى كَثُرَ الْقَتْلَى فِي الْفَرِيقَيْنِ والجراحات، وَحَجَزَ بَيْنَهُمُ اللَّيْلُ فَرَجَعَ الْفَرِيقَانِ إِلَى مُعَسْكَرِهِمْ، فَبَاتَ الْمُسْلِمُونَ يُعَصِّبُونَ وَتُوقَدُ لَهُمُ النِّيرَانُ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ فِي الْمَعَازِفِ وَالْخُمُورِ] [1] .
ثُمَّ غَدُوا يَوْمَ الْجُمُعَةِ فَرَكِبَ النُّعْمَانُ بْنُ مُقْرِنٍ- وَكَانَ رَجُلا قَصِيرًا آدَمَ- فَرِسًا أَبْيَضَ، وَعَلَيْهِ قِبَاءٌ أَبْيَضُ وعمامة بيضاء، ورفعت الرايات، ثم قال: أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّكُمْ بَابٌ بَيْنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ، فَإِنْ كُسِرَ ذَلِكَ الْبَابُ دَخَلَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ ذَلِكَ أَمْرٌ عَظِيمٌ، فَلْيَشْغَلْ كُلُّ رَجُلٍ مِنْكُمْ قَرِينَهُ، أَلا إِنِّي أَهُزُّ الرَّايَةَ هِزَّةً فَلْيَتَعَاهَدِ الرَّجُلُ حِزَامَهُ وَسِلاحَهُ، ثُمَّ إِنِّي هَازٌّ الثَّانِيَةَ فَلْيَنْظُرِ الرَّجُلُ إِلَى مُصَوَّبِ رُمْحِهِ وَمَوْضِعِ سلاحه
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأوردناه من أ، ظ.

(4/274)


ووجه مقاتله، ثم اني هاز الثلاثة فَمُكَبِّرٌ فَكَبِّرُوا، وَحَامِلٌ فَاحْمِلُوا، وَمُسْتَنْصِرٌ اللَّهَ بِرَحْمَتِهِ [1] فَاسْتَنْصِرُوا اللَّهَ، فَقَالَ رَجُلٌ: قَدْ فَهِمْنَا مَا أَمَرْتَ أَيُّهَا الأَمِيرُ، وَنَحْنُ وَاقِفُونَ عِنْدَ رَأْيِكَ، وَمُنْتَهُونَ إِلَى أَمْرِكَ، وَأَيُّ النَّهَارِ تُرِيدُ، أَوَّلَهُ أَمْ آخِرَهُ؟ فَقَالَ: لا أُرِيدُ أَوَّلَهُ وَلَكِنْ أُرِيدُ آخِرَهُ، فَإِنَّ فِيهِ تَهُبُّ الرِّيَاحُ وَيَنْزِلُ النَّصْرَ مِنَ السَّمَاءِ لِمَوَاقِيتِ الصَّلاةِ، فَلَمَّا زَالَتِ الشَّمْسُ هَزَّ الرَّايَةَ فَتَعَاهَدَ النَّاسُ حُزُمَ دَوَابِّهِمْ وَخُيُولِهِمْ، ثُمَّ مَكَثَ حَتَّى مَالَتِ الشَّمْسُ عَنْ كَبِدِ السَّمَاءِ هَزَّهَا الثَّانِيَةَ وَصَلَّى بِالنَّاسِ رَكْعَتَيْنِ خَفِيفَتَيْنِ، ثُمَّ وَثَبَ الرِّجَالُ عَلَى مُتُونِ الْخَيْلِ، فَوَضَعَ/ كُلُّ رَجُلٍ رُمْحَهُ بَيْنَ أُذُنَيْ فَرَسِهِ، وَشَدَّتِ الرِّجَالُ مَنَاطِقَهَا وَأَقْبِيَتَهَا عَلَى ظُهُورِهَا وَحَسَرُوا عَنْ شَمَائِلِهِمْ وَأَخَذُوا السُّيُوفَ بِأَيْمَانِهِمْ، ثُمَّ كَبَّرَ الثَّالِثَةَ وَهَزَّ الرَّايَةَ ثُمَّ صَوَبَّهَا كَأَنَّهَا جَنَاحُ طَائِرٍ، ثُمَّ حَمَلَ وَحَمَلَ الْمُسْلِمُونَ، فَكَانَ النُّعْمَانُ أَوَّلَ قَتِيلٍ، وَأَتَى عَلَيْهِ أَخُوهُ وَهُوَ قَتِيلٌ، فَطَرَحَ عَلَيْهِ ثَوْبَهُ لِئَلا يُعْرَفَ، وَرَفَعَ الرَّايَةَ فَإِذَا هِيَ تَنْضَحُ بِالدِّمَاءِ، وَهَزَمَ اللَّهُ الْعَدُّوَ، وَاتَّبَعَهُمُ الْمُسْلِمُونَ، فَأَتَى السَّائِبُ بْنُ الأَقْرَعِ بِالْغَنَائِمِ مِثْلِ الآكَامِ، ثُمَّ أَتَاهُ دِهْقَانُ، فَقَالَ لَهُ: أَنْتَ السَّائِبُ بْنُ الأَقْرَعِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: أَنْتَ صَاحِبُ غَنَائِمِ الْعَرَبِ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَهَلْ لَكَ أَنْ تُؤَمِّنَنِي عَلَى دَمِي وَعَلَى دَمِ ذَوِي قَرَابَتِي وَأَدُلُّكَ عَلَى كَنْزِ النخيرجانِ؟ قَالَ: وَيْحَكَ إِنَّكَ تَسْأَلُنِي الأَمَانَ عَلَى دِمَاءِ قَوْمٍ لا أَدْرِي لَعَلَّهُمْ يَكُونُونَ أَمَّةً كَثِيرَةً وَلا أَدْرِي مَا كَنْزُكَ، قَالَ: هُوَ كَنْزُ النخيرجان، أَنَّهُ كَانَ لَهُ امْرَأَةٌ يَنْتَابَهَا الْعَالَمُ، وَأَنَّ كِسْرَى كَانَ يَخْتَلِفُ إِلَيْهَا يَزُورُهَا وَمَعَهُ وَصَائِفُ عَلَيْهِنَّ الْمَنَاطِقُ الْمُفَضَّضَةُ وَأَقْبِيَةُ الدِّيبَاجِ، وَكَانَ لِكِسْرَى تَاجٌ يَاقُوتٌ، وَذَلِكَ التَّاجُ وَالْحُلِيُّ مَدْفُونٌ لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ غَيْرِي، فَانْطَلِقْ حَتَّى أَدُلُّكَ عَلَيْهِ لِيَكُونَ لِعُمَرَ لا حَقَّ فِيهِ لأَحَدٍ، لأَنَّهُ دُفِنَ دَفَنُوهُ وَلَمْ يَجْلِبُوا عَلَيْهِ فِي الْحَرْبِ، فَأَخَذَ السَّائِبُ الْمِعْوَلَ ثُمَّ خَرَجَ، فَانْطَلَقَ بِهِمْ حَتَّى أَدْخَلَهُمْ قَلْعَةً، فَإِذَا هُمْ بِصَخْرَةٍ، فَقَالَ: اقْلَعُوهَا فَقَلَعُوهَا فَإِذَا تَحْتَهَا سَفَطَانُ فَفَتَحَهُمَا، فَرَأَى فِيهِمَا السَّائِبُ شَيْئًا لَمْ يَرَ مِثْلَهُ، وَخَوَاتِيمَ مِنْ ذَهَبٍ. قَالَ السَّائِبُ: فَكَتَمْتُهُ النَّاسَ، وَأَسْرَعْتُ بِهِ السَّيْرَ إِلَى عُمَرَ حَتَّى قَدِمْتُ بِهِ عَلَيْهِ، فَلَمَّا رَآنِي نَادَانِي مِنْ بَعِيدٍ: ويحك ما وراءك، فو الله مَا بِتُّ هَذِهِ اللَّيْلَةَ، وَمَا أَتَتْ لَيْلَةٌ بعد وفاة رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانَتْ أَعْظَمَ عَلَيَّ مِنْهَا. قَالَ السَّائِبُ:
فَقُلْتُ: أَبْشِرْ بِفَتْحِ اللَّهِ وَنَصْرِهِ، الْتَقَيْنَا بِنَهَاوَنْدَ ... وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقِصَّةَ إِلَى قَتْلِ النُّعْمَانِ.
[فَقَالَ عمر: إنا للَّه وإنا إليه راجعون، يَرْحَمُ اللَّهُ النُّعْمَانَ، يَرْحَمُ اللَّّهُ النُّعْمَانَ، يَرْحَمُ الله
__________
[1] في الأصل: «مستنصر باللَّه» .

(4/275)


النُّعْمَانَ] قُلْتُ: يَا أَمِيرَ/ الْمُؤْمِنيِنَ: مَا قُتِلَ بَعْدَهُ رَجُلٌ فَعُرِفَ وَجْهُهُ، فَقَالَ: هَؤُلاءِ الضُّعَفَاءِ الَّذِينَ لا يَعْرِفُهُمْ عُمَرُ، وَمَا مَعْرِفَةُ عُمَرَ، وَمَا مَعْرِفَةُ عُمَرَ لَكِنِ اللَّهُ يَعْرِفُهُمُ، الَّذِي رَزَقَهُمُ الشَّهَادَةَ، وَسَاقَهُمْ إِلَيْهَا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُمْ مِنْ مَعْرِفَةِ عُمَرَ، ثُمَّ وَضَعَ يَدَهُ عَلَى صَدْرِهِ، فَبَكَى طَوِيلا ثُمَّ أَقْبَلَ إِلَيَّ، فَقَالَ: أُعْطِيَتْ أَبْشَارُهُمْ أَمْ دَفَنْتُمُوهُمْ، فَقُلْتُ: لا بَلْ دفناهم، تم قَامَ عُمَرُ فَأَخَذْتُ بِثَوْبِهِ فَقُلْتُ. إِنَّ لِي إِلَيْكَ حَاجَةً، قَالَ: وَمَا حَاجَتُكَ؟ فَجَلَسَ فَأَرَيْتُهُ ذَلِكَ، وَأَخْبَرْتُهُ خَبَرَ الدِّهْقَانِ فَدَعَا عَلِيًّا، وَابْنَ مَسْعُودٍ، وَعَبْدَ اللَّهِ بْنَ أَرْقَمَ صَاحِبَ الْخِزَانَةِ، فَقَالَ: ضَعُوا عَلَى هَذِهِ خَوَاتِيمَكُمْ، وَوَضَعَ خَاتَمَهُ ثم قال لعبد اللَّهِ بْنِ أَرْقَمَ:
ارْفَعْ هَذَا عِنْدَكَ، ثُمَّ انْصَرَفَ السَّائِبُ حَتَّى قَدِمَ الْكُوفَةَ، فَأَتَاهُ بَرِيدُ عُمَرَ [يَدْعُوهُ] [1] مُسْتَعْجِلا، فَأَتَاهُ، فَلَمَّا رَآهُ نَادَاهُ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَيْهِ: أَخْبِرْنِي خَبَرَ السَّفَطَيْنِ، فَقَالَ: وَاللَّهِ لَئِنْ رَدَدْتُ عَلَيْكَ حَدِيثَهُمَا فَزِدْتُ حَرْفًا أَوْ نَقَّصْتُ حَرْفًا لأَكْذَبْتُكَ، قَالَ: وَيْحَكَ، إِنَّهُ لَمَّا فَارَقْتَنِي وَأَخَذْتُ مَضْجَعِي مِنَ اللَّيْلِ لِمَنَامِي أَتَانِي مَلائِكَةٌ فَأَوْقَدُوا سُفْطَيْكَ عَلَى جَمْرَةٍ، ثُمَّ جَعُلُوا يَدْفَعُونَهَا فِي نَحْرِي، وَأَنَا أَنْكَبُّ وَأُعَاهِدُ اللَّهَ لأَرُدَّنَّهُمَا عَلَى مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، وَكَادَ ابْنُ الْخَطَّابِ يَحْتَرِقُ بِالنَّارِ، فَانْطَلِقْ بِهَذَيْنِ السَّفطَيْنِ فَضَعْهُمَا فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، فَإِنْ وَجَدْتَ بِهِمَا عَطَاءَ الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِيَّةِ فَبِعْهُمَا وَاقْسِمْهُمَا عَلَى مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْهِ، فَإِنْ لَمْ تَجِدْ بِهِمَا إِلا نِصْفَ عَطَاءِ الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِيَّةِ فَبِعْهُمَا.
فَوَضَعْتُهُمَا فِي مَسْجِدِ الْكُوفَةِ، فَمَرَّ بِنَا عَمْرُو بْنُ حُرَيْثٍ فَاشْتَرَاهُمَا بِعَطَاءِ الْمُقَاتِلَةِ وَالذُّرِيَّةِ، فَبَاعَ أَحَدَ السَّفَطَيْنِ مِنْ أَهْلِ الْحِيرَةِ، ثُمَّ اشْتَرَاهُمَا بِهِ، وَبَقِيَ الآخَرُ رِبْحًا، وَكَانَ أَوَّلُ قُرَيْشٍ عَقَدَ بِالْكُوفَةِ مَالا.
[أَنْبَأَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ الأَنْمَاطِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو طَاهِرٍ أَحْمَدُ بْنُ الْحُسَيْنِ بْنِ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو عَلِيِّ بْنِ شَاذَانَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا دَعْلَجُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالَ: أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ زَيْدٍ الصَّائِغُ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَعْدُ بْنُ مَنْصُورٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا شَهْرُ بْنُ حَوْشَبٍ، عَنِ الْحَجَّاجِ بْنِ دِينَارٍ، عَنْ مَنْصُورِ بْنِ الْمُعْتَمِرِ، قَالَ: حَدَّثَنِي شَقِيقُ بْنُ سَلَمَةَ الأَسَدِيُّ، عَنِ الرَّسُولِ الَّذِي جَرَى بَيْنَ عُمَرَ وَسَلَمَةَ بْنِ قيس الأشجعي] [2] ، قال:
__________
[1] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، وأوردناه من أ، ظ.
[2] ما بين المعقوفتين: وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده قال» .

(4/276)


نَدَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ النَّاسَ مَعَ سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ الأَشْجَعِيِّ بِالْحَرَّةِ إِلَى/ بَعْضِ أَهْلِ فَارِسَ، فَقَالَ: انْطَلِقُوا [بِسْمِ الله و] [1] في سَبِيلِ اللَّهِ تُقَاتِلُونَ مَنْ كَفَرَ باللَّه، لا تُغْلُوا، وَلا تَغْدِرُوا وَلا تُمَثِّلُوا وَلا تَقْتُلُوا امْرَأَةً وَلا صَبِيًّا وَلا شَيْخًا [هَرِمًا] [2] ، وَإِذَا انْتَهَيْتَ إِلَى الْقَوْمِ فَادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلامِ، فَإِن قَبِلُوا فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَأَعْلِمْهُمْ أَنَّهُ لا نَصِيبَ لَهُمْ فِي الْفَيْءِ، فَإِن أَبَوْا فَادْعُهُمْ إِلَى الْجِزْيَةِ، فَإِنْ قَبِلُوا فَضَعْ عَلَيْهِمْ بِقَدْرِ طَاقَتِهِمْ، وضع فيهم جيشا يقاتل من وراءهم، وَخَلِّهِمْ وَمَا وَضَعْتَهُ عَلَيْهِمْ، فَإِنْ أَبَوْا فَقَاتِلْهُمْ، وَإِنْ دَعَوْكُمْ إِلَى أَنْ تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَذِمَّةَ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ فَلا تُعْطُوهُمْ ذِمَّةَ اللَّهِ وَلا ذِمَّةَ محمد، وَلَكِنْ أَعْطُوهُمْ ذِمَّةَ أَنْفُسِكُمْ ثُمَّ وَفُّوا لَهُمْ فَإِنْ أَبَوْا عَلَيْكُمْ فَقَاتِلُوهُمْ، فَإِنَّ اللَّهَ نَاصِرُكُمْ عَلَيْهِمْ.
فَلَمَّا قَدِمْنَا الْبِلادَ دَعَوْنَاهُمْ إِلَى كُلِّ مَا أُمِرْنَا بِهِ، فَأَبَوْا، فَلَمَّا مَسَّهُمُ الْحَصْرُ نادوا:
أعطونا ذمة الله وذمة محمد، فَقُلْنَا: لا، وَلَكِنْ نُعْطِيكُمْ ذِمَّةَ أَنْفُسِنَا ثُمَّ نَفِي لَكُمْ، فَأَبَوْا فَقَاتَلْنَاهُمْ فَأُصِيبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ فَتَحَ عَلَيْنَا فَمَلأَ الْمُسْلِمُونَ أَيْدِيَهُمْ مِنْ مَتَاعٍ وَرَقِيقٍ وَرِقَّةٍ مَا شَاءُوا، ثُمَّ إِنَّ سَلَمَةَ بْنَ قَيْسٍ أَمِيرَ الْقَوْمِ دَخَلَ، فَجَعَلَ يَتَخَطَّى بُيُوتَ نَارِهِمْ، فَإِذَا سَفَطَيْنِ مُعَلَّقَيْنِ بِأَعْلَى الْبَيْتِ، فَقَالَ: مَا هَذَانِ السِّفْطَانِ، فَقَالُوا: شَيْءٌ كَانَتْ تُعَظِّمُ بِهَا الْمُلُوكُ بُيُوتَ نَارِهِمْ، قَالَ: اهْبِطُوهُمَا إِلَيَّ، فَإِذَا عَلَيْهِمَا طَوَابِعُ الْمُلُوكِ بَعْدَ الْمُلُوكِ، قَالَ: مَا أَحْسَبُهُمْ طَبَعُوا إِلا عَلَى أَمْرٍ نَفِيسٍ، عَلَيَّ بِالْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا جَاءُوا أَخْبَرَهُمْ خَبَرَ السَّفَطَيْنِ، فَقَالَ: أَرَدْتُ أن أفضلهما بِمَحْضِرٍ مِنْكُمْ، فَفَضَّهُمَا فَإِذْ هُمَا مَمْلُوءَانِ جَوْهَرًا لَمْ يُرَ مِثْلَهُ- أَوْ قَالَ: لَمْ أَرَ مِثْلَهُ- فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ قَدْ عَلِمْتُمْ مَا أَبْلاكُمُ اللَّهُ فِي وَجْهِكُمْ هَذَا، فَهَلْ لَكُمْ أَنْ تَطِيبُوا بِهَذَيْنِ السِّفْطَيْنِ أَنْفُسًا لأَمِيرِ الْمُؤْمِنيِنَ لِحَوَائِجِهِ وَأُمُورِهِ وَمَا يَنْتَابُهُ، فَأَجَابُوهُ/ بِصَوْتِ رَجُلٍ وَاحِدٍ: إِنَّا نُشْهِدُ اللَّهَ أَنَّا قَدْ قَبِلْنَا وَطَابَتْ أَنْفُسَنَا لأَمِيرِ الْمُؤْمِنيِنَ، فَدَعَانِي فَقَالَ: قَدْ عَهِدْتَ أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ يَوْمَ الْحَرَّةِ وَمَا أَوْصَانَا بِهِ وَمَا اتبعنا من وَصِيَّتَهُ، وَأَمْرَ السِّفْطَيْنِ وَطِيبَ أَنْفُسِ الْمُسْلِمِينَ لَهُ بِهِمَا، فَقَدْ عَلِمْتُ بِهِ، فَامْضِ بِهِمَا إِلَيْهِ، وَاصْدُقْهُ الْخَبَرَ ثُمَّ ارْجِعْ إِلَيَّ بِمَا يَقُولُ لَكَ، فَقُلْتُ مَا لِيَ بُدٌّ مِنْ صَاحِبٍ، فَقَالَ: خُذْ بِيَدِكَ مَنْ أَحْبَبْتَ، فَأَخَذْتُ بِيَدِ رجل من القوم وانطلقنا
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ.
[2] ما بين المعقوفتين: من أ، ظ.

(4/277)


بِالسِّفْطَيْنِ حَتَّى قَدِمْنَا بِهِمَا الْمَدِينَةَ، فَأَجْلَسْتُ صَاحِبَيَّ مَعَ السِّفْطَيْنِ وَانْطَلَقْتُ فِي طَلَبِ أَمِيرِ الْمُؤْمِنيِنَ عُمَرَ، فَإِذَا بِهِ يُغَدِّي النَّاسَ وَهُوَ يَتَوَكَّأُ عَلَى عُكَّازٍ وَهُوَ يَقُولُ: يَا بَرْقِيُّ ضَعْ هَا هُنَا. فَجَلَسْتُ فِي عرْضِ الْقَوْمِ لا آكُلُ شَيْئًا، فَمَرَّ بِي فَقَالَ: أَلا تُصِيبُ مِنَ الطَّعَامِ، فَقُلْتُ: لا حَاجَةَ لِي إِلَيْهِ، فَرَآنِي النَّاسُ وَهُوَ قَائِمٌ يَدُورُ [1] فِيهِمْ فَقَالَ: يَا بَرْقِيُّ خُذْ خِوَانَكَ وَقِصَاعَكَ، ثُمَّ أَدْبَرَ فَاتَّبَعْتُهُ فَجَعَلَ يَتَخَلَّلُ طُرُقَ الْمَدِينَةِ حَتَّى انْتَهَى إِلَى دَارٍ قَوْرَاءَ عَظِيمَةٍ، فَدَخَلَهَا فَدَخَلْتُ فِي أَثَرِهِ، ثُمَّ انْتَهَى إِلَى حُجْرَةٍ مِنَ الدَّارِ فَدَخَلَهَا فَقُمْتُ مَلِيًّا حَتَّى ظَنَنْتُ أَنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ قَدْ تَمَكَّنَ مِنْ مَجْلِسِهِ، فَقُلْتُ: السَّلامُ عَلَيْكَ، فَقَالَ: وَعَلَيْكَ السَّلامُ، ادْخُلْ، فَدَخَلْتُ فَإِذَا هُوَ جَالِسٌ عَلَى وِسَادَةٍ [مُرْتَفِقًا أُخْرَى، فَلَمَّا رَآنِي نَبَذَ إِلَيَّ الَّتِي كَانَ مُرْتَفِقًا، فَجَلَسْتُ عَلَيْهَا] [2] فَإِذَا هِيَ تَعْرَى، وَإِذَا حَشْوُهَا لِيفٌ، قَالَ: يَا جَارِيَةُ أَطْعِمِينَا، فَجَاءَتْ بِقَصْعَةٍ فِيهَا قَدْرٌ مِنْ خُبْزٍ يَابِسٍ، فَصَبَّ عَلَيْهَا زَيْتًا مَا فِيهِ مِلْحٌ وَلا خَلٌّ، فَقَالَ: أَمَا أَنَّهَا لَوْ كَانَت رَاضِيَةٌ لأَطْعَمَتْنَا أَطْيَبَ مِنْ هَذَا، فَقَالَ لِي: ادْنُ، فَدَنَوْتُ، قَالَ: فَذَهَبْتُ أَتَنَاوَلُ مِنْهَا قَدْرَهُ، فَلا وَاللَّهِ لا أَسْتَطِيعُ أَنْ أُجِيزَهَا، فَجَعَلْتُ أَلُوكُهَا مَرَّةً مِنْ ذَا الْجَانِبِ/ وَمَرَّةً مِنْ ذَا الْجَانِبِ فَلَمْ أَقْدِرْ عَلَى أَنْ أَسِيغَهَا، وَأَكَلَ هُوَ أَحْسَنُ النَّاسِ أَكْلا لَمْ يَتَعَلَّقْ لَهُ طَعَامٌ بِثَوْبٍ أَوْ شَعْرٍ، حَتَّى رَأَيْتُهُ يَلْطَعُ جَوَانِبَ الْقَصْعَةِ، ثُمَّ قَالَ: يَا جَارِيَةُ اسْقِنَا، فَجَاءَتْ بِسُوَيْقٍ سُلَّتْ، فَقَالَ: أَعْطِهِ، فَنَاوَلَتْنِيهُ، فَجَعَلْتُ إِذَا أَنَا حَرَّكْتُهُ ثَارَ لَهُ غُبَارٌ، فَلَمَّا رَآنِي قَدْ بَشِعْتُ ضَحِكَ، فَقَالَ: مَا لَكَ، أَرِنِيهُ إِنْ شِئْتَ، فَنَاوَلْتُهُ، فَشَرِبَ حَتَّى وَضَعَ عَلَى جَبْهَتِهِ هَكَذَا، ثُمَّ قَالَ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي أَطْعَمَنَا وَسَقَانَا فَأَرْوَانَا وَجَعَلَنَا مِنْ أُمَّةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ، قُلْت:
قَدْ أَكَلَ أَمِيرُ الْمُؤْمِنيِنَ فَشَبِعَ فَرُوِيَ، حَاجَتِي جَعَلَنِي اللَّهُ فِدَاكَ، قَالَ: للَّه أَبُوكَ، فَمَنْ أَنْتَ؟ قُلْت: رَسُولُ سَلَمَةَ بْنِ قَيْسٍ، قَالَ: فباللَّه، لَكَأَنَّمَا خَرَجْتُ مِنْ بَطْنِهِ تَخَفُّفًا عَلَيَّ وَحَبَا، ثُمَّ قَالَ: لِتُخْبِرَنِي عَنْ مَنْ جِئْتَ مِنْ هَذِهِ، وَجَعَلَ يَقُولُ وَهُوَ يَزْحَفُ إِلَيَّ: للَّه أَبُوكَ، كَيْفَ تَرَكْتَ سَلَمَةَ بْنَ قَيْسٍ؟ كَيْفَ الْمُسْلِمُونَ؟ مَا صَنَعْتُمْ؟ كَيْفَ حَالُكُمْ؟
قُلْتُ: مَا تُحِبُّ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ، وَقَصَصْتُ عَلَيْهِ الْخَبَرَ عَلَى أَنَّهُمْ نَاصَبُونَا الْقِتَالَ، فَأُصِيبَ رَجُلٌ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَاسْتَرْجَعَ وَبَلَغَ مِنْهُ مَا شَاءَ اللَّهُ، وَتَرَحَّمَ عَلَيْهِ- أَعْنِي عَلَى الرَّجُلِ- طَوِيلا، قُلْتُ: ثُمَّ إِنَّ اللَّهَ فَتَحَ عَلَيْنَا يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ، فَتْحًا عَظِيمًا، فَمَلأَ
__________
[1] في الأصل: «وشبع وهو قائم عليهم يدور» .
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، أوردناه من أ، ظ.

(4/278)


الْمُسْلِمُونَ أَيْدِيَهُمْ مِنْ مَتَاعٍ وَرَقِيقٍ وَرَفَهٍ مَا شَاءُوا، قَالَ: وَيْحَكَ، كَيْفَ اللَّحْمُ بِهَا فَإِنَّهَا شَجَرَةُ الْعَرَبِ لا تَصْلُحُ الْعَرَبُ إِلا بِشَجَرَتِهَا [1] ، قُلْتُ: الشَّاةُ بِدِرْهَمَيْنِ، فَقَالَ: اللَّهُ أَكْبَرُ، ثُمَّ قَالَ: وَيْحَكَ هَلْ أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ غَيْرُ ذَلِكَ الرَّجُلِ؟ قُلْتُ: لا، قَالَ: مَا يَسُرُّنِي، إِنَّمَا يَسُرُّكُمْ أُضَعِّفُ لَكُمْ، وَإِنَّهُ أُصِيبَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رَجُلٌ آخَرُ.
قَالَ: وَجِئْتُ إِلَى ذكر السَّفَطَيْنِ فَأَخْبَرْتُهُ خَبَرَهُمَا، فباللَّه الَّذِي لا إِلَهَ إِلا هُوَ لَكَأَنَّمَا أَرْسَلْتُ عَلَيْهِ الأَفَاعِي وَالأَسَاوِدَ وَالأَرَاقِمَ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ/ [بِوَجْهِهِ] [2] آخِذًا بِحِقْوَيْهِ، وَقَالَ: للَّه أَبُوكَ وَعَلَى مَا يَكُونَانِ لِعُمَرَ، وَاللَّهِ لَيَسْتَقْبِلَنَّ الْمُسْلِمُونَ الظَّمَأَ وَالْجُوعَ فِي نُحُورِ الْعَدُوِّ [3] ، وَعُمَرُ يَغْدُو بَيْنَ أَهْلِهِ وَيَرُوحُ إِلَيْهِمْ يَتَّبِعُ إِمَاءَ الْمَدِينَةِ، ارْجِعْ بِمَا جِئْتَ بِهِ فَلا حَاجَةَ لِي فِيهِ، فَقُلْتُ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ، إِنَّهُ أَبْدَعُ بِي وَبِصَاحِبَيَّ، فَاحْمِلْنَا، فَقَالَ: لا وَلا كَرَامَةَ لِلآخَرِ، مَا جِئْتَ بِمَا أُسَرُّ بِهِ فَأَحْمِلُكَ، قُلْتُ: يَا لَعِبَادِ اللَّهِ أَيُتْرَكُ رَجُلٌ بَيْنَ أَرْضَيْنِ، قَالَ: أَمَا لَوْلا أَنْ قُلْتَهَا [قُلْتُ] يَا بَرْقِيُّ انْطَلِقْ بِهِ فَاحْمِلْهُ وَصَاحِبَهُ عَلَى نَاقَتَيْنِ ظَهِيرَتَيْنِ مِنْ إِبِلِ الصدقة ثم انخس بهما حتى تخرجهما مِنَ الْحَرَّةِ، ثُمَّ الْتَفَتَ إِلَيَّ فَقَالَ: أَمَا لَئِنْ شَتَا الْمُسْلِمُونَ فِي مَشْتَاهُمْ قَبْلَ أَنْ يَقْتَسِمَا بَيْنَهُمْ لأُعَذِّرَنَّ مِنْكَ وَمِنْ صُوَيْحِبِكَ، ثُمَّ قَالَ: إِذَا انْتَهَيْتَ إِلَى الْبِلادِ فَانْظُرْ أَحْوَجَ مَنْ تَرَى مِنَ الْمُسْلِمِينَ فَادْفَعْ إِلَيْهِ النَّاقَتَيْنِ.
ثُمَّ خَرَجْنَا مِنْ عِنْدَ عُمَرَ، وَسِرْنَا حَتَّى آتَيْنَا سَلَمَةَ بْنَ قَيْسٍ، فَأَخْبَرْنَاهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ:
ادْعُ لِي الْمُسْلِمِينَ، فَلَمَّا جَاءُوا قَالَ لَهُمْ: إِنَّ أَمِيرَ الْمُؤْمِنيِنَ قَدْ وَفَّرَ عَلَيْكُمْ سَفَطِيكُمْ [4] ، ورآكم أحق بهما منه، فَاقْتَسِمُوا عَلَى بَرَكَةِ اللَّهِ، فَقَالُوا: أَصْلَحَكَ اللَّهُ أَيُّهَا الأَمِيرُ، إِنَّهُ يَنْبَغِي لَهُمَا نَظَرٌ وَتَقْوِيمٌ وَقِسْمَةٌ [5] . فَقَالَ: وَاللَّهِ لا تَبْرَحُونَ وَأَنْتُمْ تُطَالِبُونِي مِنْهَا بِحَجَرٍ وَاحِدٍ [6] . فَعَدَّ الْقَوْمَ وَعَدَّ الْحِجَارَةَ، فَرُبَّمَا طَرَحُوا إِلَى الرَّجُلِ الْحَجَرَيْنِ، وَفَلَقُوا الْحَجَرَ بين اثنين.
__________
[1] كذا في الأصل.
[2] ما بين المعقوفتين: ساقط من الأصل، أوردناه من أ.
[3] في الأصل: «في نحور الأعداء» .
[4] في الأصل: «قد وفركم سفطيكم» .
[5] في الأصل: «إنه ينبغي فيها النظر التام والتقويم ثم القسمة» .
[6] «واحد» : سقط من أ، ظ.

(4/279)


[أَنْبَأَنَا مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ، قَالا: أخبرنا ابن النقور، أخبرنا المخلص، أخبرنا أحمد بن عبد الله، حدثنا السري بن يَحْيَى، حَدَّثَنَا شُعَيْبٌ، حَدَّثَنَا سَيْفٌ، عَنْ عَمْرِو بْنِ مُحَمَّدٍ] [1] ، عَنِ الشَّعْبِيِّ، قَالَ:
لَمَّا قُدِمَ بِغَنَائِمِ نُهَاوَنْدَ عَلَى عُمَرَ بَكَى، فَقَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ: لَيْسَ هَذَا مَكَانَ حُزْنٍ [وَلا بُكَاءٍ] [2] ، وَلَكِنْ بُشْرَى، فَافْرَحْ وَاحْمَدِ اللَّهَ، فقال: ويحك يا ابن عَوْفٍ، وَاللَّهِ مَا كَثُرَتِ الصَّفْرَاءُ وَالْبَيْضَاءُ فِي قَوْمٍ قَطُّ إِلا فُتِنُوا فَتَقَاتَلُوا وَتَدَابَرُوا حَتَّى يُدَمِّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ.
قَالَ: وَجَعَلَ أَبُو لُؤْلُؤَةَ/ لا يَلْقَى مِنَ السَّبْيِ صَغِيرًا إِلا مَسَحَ رَأْسَهُ وَبَكَى [3] ، وَقَالَ: أَكَلَ عُمَرُ كَبِدِي، وَلا يَلْقَى أَيْضًا [4] كَبِيرًا إِلا بَكَى إِلَيْهِ وَأَسْعَدَهُ، وَكَانَ نُهَاوَنْدِيًّا فَأَسَرَتْهُ الرُّومُ أَيَّامَ فَارِسَ [5] .
وَافْتُتِحَتْ نُهَاوَنْدُ [6] فِي أَوَّلِ سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ. وَقَدْ ذكر أَبُو مَعْشَرٍ أَنَّ فَتْحَ جَلُولاءَ وَقَيْسَارِيَّةَ كان في سَنَةَ تِسْعَ عَشْرَةَ. قَالَ: وَكَانَ الأَمِيرُ عَلَى فَتْحِ قَيْسَارِيَّةَ مُعَاوِيَةَ بْنَ أَبِي سُفْيَانَ.
وَذكر ابْنُ إِسْحَاقَ [7] أَنَّ فَتْحَ الْحِيرَةِ وَالرُّهَا وَحَرَّانَ وَرَأْسِ الْعَيْنِ وَنَصِيبِينَ كَانَ فِي سَنَةِ تِسْعَ عَشْرَةَ
. وَفِي هذه السنة بنى عُمَر رضي اللَّه عَنْهُ مَسْجِد رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ
وزاد فِي مقدمه إِلَى موضع المقصورة، وزاد فِي ناحية دار مَرْوَان، وعمل بالجريد سقفه، وجعل عمده الخشب، وَقَالَ: هَذَا بَاب للنساء.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن الشعبي» .
[2] ما بين المعقوفتين: من أ.
[3] «رأسه» : سقط من أ، ظ.
[4] «لقي أيضا» : سقط من أ.
[5] الخبر في تاريخ الطبري 4/ 136.
[6] الخبر في تاريخ الطبري 4/ 102.
[7] تاريخ الطبري 4/ 102.

(4/280)


وَفِي هذه السنة [فتح الجزيرة] .
أمر سَعْد بْن أَبِي وقاص، فبعث عياض بْن غنم إِلَى الجزيرة، فنزل بجنده عَلَى الرها، فصالحه أهلها عَلَى الجزية، وصالحت حران حِينَ صالحت الرها، ثُمَّ بعث أبا موسى الأشعري إِلَى نصيبين، وسار سَعْد يتبعه إِلَى دارا فافتتحها. وفتح أبا موسى نصيبين.
ثُمَّ وجه عُثْمَان بْن أَبِي العاص إِلَى أرمينية، فكان هناك قتال أصيب فِيهِ صفوان بْن المعطل واستشهد، ثُمَّ صالحه أهلها عَلَى كُل أَهْل بَيْت دينار
. وفيها سالت حرة ليلى نارا.
فيما ذكر الواقدي [1] ، فأراد عُمَر الخروج إِلَيْهَا بالرجال، ثُمَّ أمرهم بالصدقة، فجاء عُثْمَان وعبد الرَّحْمَن وغيرهما بأموال، فقام عُمَر يقسمها فانطفأت.
وَقَالَ ابْن حبيب: هذه النار خرجت بخيبر
. وفيها حج عُمَر رضي اللَّه عَنْهُ بالناس
وَكَانَ عماله عَلَى الأمصار وقضاته الَّذِينَ كَانُوا فِي سَنَة ثمان عشرة
. ذكر من توفي فِي هذه السنة من الأكابر
212- الأغلب بْن جشم/ بْن سَعْد بْن عجل بْن جشم:
عُمَر فِي الجاهلية طويلا، وأدرك الإِسْلام، فحسن إسلامه، وهاجر، ثُمَّ كَانَ مِمَّن توجه إِلَى الكوفة مَعَ سَعْد بْن أَبِي وقاص، فاستشهد فِي وقعة نهاوند، فقبره هناك مَعَ قبور الشهداء، وَهُوَ أول من رجز الأراجيز، وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَدْ كتب إِلَى
__________
[1] تاريخ الطبري 4/ 102.

(4/281)


المُغِيرة بْن شُعْبَة وَهُوَ عَلَى الكوفة: أَن استنشد من قبلك من الشعراء مَا قالوه فِي الإِسْلام، فَقَالَ لبيد: أبدلني اللَّه سورة البقرة مكان الشعر، وجاء الأغلب بْن المغيرة، فَقَالَ:
أرجزا تريد أم قصيدا ... لَقَدْ سألت هينا موجودا
فكتب المغيرة بِذَلِكَ إِلَى عُمَر، فنقص من عطاء الأغلب خمسمائة وجعلها في عطاء لبيد، [فكتب الأغلب إِلَى عُمَر: أتنقص عطائي إِن أطعتك، فرد عليه خمسمائة وأقرها فِي عَطَاء لبيد] [1]
. 213- صفوان بْن المعطل بْن رخيصة أَبُو عَمْرو الذكواني السلمي:
أسلم قبل غزوة المريسيع، وشهدها مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وشهد الخندق والمشاهد بعدها، قتل يَوْم أرمينية، وقيل: مات بشميشاط سَنَة ستين
. 214- طليحة بْن خويلد بْن نوفل بْن نضلة بْن الأشتر بْن جحوان:
وَكَانَ طليحة يعد بألف فارس لشدته وشجاعته وبصره بالحرب.
وفد طليحة عَلَى رَسُول اللَّه صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فِي سَنَة تسع فِي جَمَاعَة فأسلموا، ثُمَّ ارتدوا، وادعى النبوة- عَلَى مَا سبق شرحه- فلما أوقع بهم خَالِد بْن الْوَلِيد ببزاخة هرب طليحة حَتَّى قدم الشام، فأقام حَتَّى توفي أَبُو بَكْر رضي اللَّه عَنْهُ، ثُمَّ خرج محرما بالحج، وقدم مكة، فلما رآه عُمَر قَالَ: يا طليحة، لا أحبك بَعْد قتل الرجلين الصالحين: عكاشة بْن محصن، وثابت بْن أقرم- وكانا طليعتين لخالد بْن الْوَلِيد فلقيهما طليحة وأخوه سلمة فقتلاهما- فَقَالَ طليحة/: يا أمير المؤمنين، رجلان أكرمهما اللَّه بيدي وَلَمْ يهني بأيديهما. فأسلم إسلاما صحيحا، وشهد القادسية ونهاوند، وكتب عُمَر رضي اللَّه عَنْهُ:
شاوروا طليحة فِي حربكم ولا تولوه شَيْئًا، وقتل بنهاوند
. 215- عَمْرو بن معديكرب بْن عبيد الله بْن عَمْرو بْن عصم بْن عَمْرو بْن زبيد، أَبُو ثور الزبيدي:
كَانَ فارسا شجاعا شاعرا، لَهُ فِي الجاهلية الغارات العظيمة والوقائع العجيبة، وَكَانَ عَلَى سَيْفه مكتوب:
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.

(4/282)


ذكر عَلَى ذكر يصول بصارم ... ذكر يمان فِي يمين يماني
كَانَ عَمْرو لقي حيي الكندية بذي المجاز- وَهِيَ سوق عرفات- فأعجبه جمالها وعقلها، فعرض عَلَيْهَا نَفْسه وَقَالَ: هل لك في كفؤ كريم ضروب لهام الرجال غشوم موات لَكَ طيب الجسم من سَعْد العشيرة فِي الصميم، قالت: أمن سَعْد العشيرة؟ قَالَ:
من سَعْد العشيرة في أرومة محتدها وعزتها المنيرة إِن كنت بالفرصة بصيرة، قالت: إِن لي بعلا يصدق اللقاء، ويخيف الأعداء، ويجزل العطاء، قال: لو علمت أَن لَكَ بعلا مَا سمتك نفسك ولا عرضت نفسي عليك، فكيف أَنْتَ إِن قتلته؟ قالت: لا أصيف عنك ولا أعدل بك ولا أقصر دونك، وإياك أَن يغرك قولي فتعرض نفسك للقتل، فإني أراك مفردا من الناصر والأهل، وصاحبي فِي عزة من الأهل وكثرة المال، فانصرف عَنْهَا عَمْرو، وجعل يتبعها وَهِيَ لا تعلم، فلما قدمت عَلَى زوجها سألها عما رأت فِي طريقها، فقالت: رأيت رجلا مخيلا للناس يتعرض للقتال، ويخطب حلائل الرجال، فعرض نَفْسه عليّ فوصفتك لَهُ. / فَقَالَ زوجها [1] : ذاك عَمْرو، ولدتني أمه إِن لَمْ أتك به مقرونا مجنونا إلى حمل صعب المراس غَيْر ذلول.
فلما سمع عَمْرو كلامه دَخَلَ عَلَيْهِ بغتة فقتله، ووقع عَلَيْهَا، فلما قضى وطره منها قَالَ لَهَا: إني لَمْ أقع عَلَى امرأة قط- فِي جماعي إلا حملت، ولا أراك إلا قَدْ فعلت، فَإِن رزقت غلاما فسميته الخزر، وإن رزقت جارية فسميها عكرشة، وجعل ذَلِكَ بينهما إمارة، ثُمَّ مضى لطيبه، ثُمَّ خرج يوما يتعرض للقتال [2] ، فَإِذَا هُوَ برجل عَلَى فرس شاكي السلاح، فدعاه عَمْرو للمبارزة، فلما اتحدا صرع الفتى عمرا وجلس عَلَى صدره يريد ذبحه، فَقَالَ لَهُ: من أَنْتَ؟ قَالَ: أنا عَمْرو، فقام الفتى عَن صدره وَقَالَ: أنا ابنك الخزر، فَقَالَ لَهُ عَمْرو: سر إِلَى صنعاء ولا تنافني فِي بلد، فلم يلبث أَن ساد من هُوَ بَيْنَ ظهريه، فاستنفروه وأمروه بقتال أَبِيهِ، وشكوا إِلَيْهِ غارات عَمْرو عَلَيْهِم، فالتقيا فقتله عمرو.
__________
[1] «زوجها» : سقطت من أ.
[2] في أ: «فما كان إلا برهة حتى خرج يوما يتعرض للقتال» .

(4/283)


[وَرَوَى عَبَّاسُ بْنُ هِشَامِ بْنِ مُحَمَّدٍ الْكَلْبِيُّ، قَالَ: حَدَّثَنِي] [1] أَبُو الْمُنْذِرِ، عَن أَبِيهِ، قَالَ: لما انتهى خبر رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ إِلَى عَمْرِو بْنِ مَعْدِيَكْرُبَ قَالَ لِقَيْسِ بْنِ مَكْشُوحٍ: يَا قَيْسُ إِنَّكَ سَيِّدُ قَوْمِكَ، وَقَدْ ذكر لِي أَمْرَ هَذَا الْقُرَشِيِّ الظَّاهِرِ بِالْحِجَازِ الَّذِي يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ فَانْطَلِقْ بِنَا إِلَيْهِ فَلْنَعْلَمْ عِلْمَهُ، فَإِنْ كَانَ نَبِيًّا كَمَا يَقُولُ لَمْ يَخْفَ عَلَيْنَا أَمْرُهُ، فَأَبَى قَيْسٌ وَسَفَّهَ رَأْيَهُ، فَرَكِبَ عَمْرٌو رَاحِلَتَهُ مَعَ وَفْدٍ مِنْ بَنِي زُبَيْدٍ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ.
قَالَ عَمْرٌو: فَوَافَيْتُهُ قَافِلا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَذَهَبْتُ أَتَقَدُّم إِلَيْهِ فَمُنِعْتُ مِنْ ذَلِكَ حَتَّى أَذِنَ لِي رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ وَقَالَ: خَلُّوا سَبِيلَ الرَّجُلِ، فَأَقْبَلْتُ حَتَّى دَنَوْتُ مِنْهُ، فَقُلْتُ لَهُ: أَنْعِمْ صَبَاحًا أَبَيْتَ اللَّعْنَ، / فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: «يَا عَمْرُو، إِنَّ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ، فَآمِنْ باللَّه ورسوله يؤمنك الله يَوْمَ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ» . قَالَ عَمْرٌو: مَا الْفَزَعُ؟ فَإِنِّي لا أَفْزَعُ مِنْ شَيْءٍ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وسلم: «إنه لَيْسَ بِمَا تَرَى وَتَحْسَبُ، إِنَّهُ إِذَا كَانَ يَوْمُ الْفَزَعِ الأَكْبَرِ صِيحَ بِالنَّاسِ صَيْحَةً لا يَبْقَى ذُو رُوحٍ إِلا مَاتَ، وَلا مَيِّتٍ إِلا نُشِرَ، وَمَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، وَتَلَجُّ تِلْكَ الصَّيْحَةَ حَتَّى تَدُورُ مِنْهَا الأَرْضُ، وَتَخِرُّ مِنْهَا الْجِبَالُ، وَتَنْشَقُّ مِنْهَا السَّمَاءُ، وَتَبْرُزُ النَّارُ لَهَا لِسَانَانِ تَرْمِي بِشَرَرٍ مِثْلَ أَفْلاقِ الْجِبَالِ، فَلا يَبْقَى ذُو رُوحٍ إِلا انْخَلَعَ قَلْبُهُ، وَذكر ذَنْبَهُ، فَأَيْنَ أَنْتَ مِنَ الْفَزَعِ يَا عَمْرُو؟» . قَالَ عَمْرٌو: لا أَيْنَ يَا رَسُولَ اللَّهِ. قَالَ: «فَأَسْلِمْ إِذَنْ» قَالَ عَمْرٌو: فَأَسْلَمْتُ.
قَالَ علماء السير: أسلم عَمْرو، وسمع من رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ، وروى عَنْهُ، ثُمَّ ارتد بَعْد رَسُول اللَّه صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، ثُمَّ عاد إِلَى الإِسْلام، وبعثه عُمَر إِلَى سَعْد بْن أَبِي وقاص بالقادسية، وكتب إِلَيْهِ: قَدْ أمددتك بألفي رجل: عَمْرو بْن معديكرب، وطليحة بْن خويلد، فشاورهما فِي الحرب ولا تولهما شَيْئًا، فأبلى عَمْرو يومئذ بلاء حسنا. قَالَ عَمْرو: وكانت خيل الْمُسْلِمِينَ تنفر من الفيلة يَوْم القادسية وخيل الفرس لا تنفر، فأمرت رجلا فترس عني ثُمَّ دنوت من الفيل وضربت خطمه فقطعته، [فنفر] [2] ونفرت الفيلة فحطمت العسكر، وألح المسلمون عَلَيْهِم حَتَّى انهزموا، وَكَانَ لعمرو يومئذ من العمر ثلاثين ومائة سنة.
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى أبو المنذر» .
[2] ما بين المعقوفتين: من أ.

(4/284)


وَكَانَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ يسأل عمرو بن معديكرب عَن أشياء، فسأله عَن الحرب، فَقَالَ: مرة المذاق إِذَا كشفت عَن ساق، من صبر فِيهَا عرف، ومن ضعف فِيهَا تلف. وسأله عَن السلاح، فَقَالَ: مَا تقول فِي الرمح؟ / فَقَالَ: أخوك وربما خانك، قَالَ: فالنبل؟ قَالَ: منايا تخطىء وتصيب، قَالَ: فالدرع؟ قَالَ: مشغلة للفارس متعبة للراجل، وإنه لحصن حصين، قَالَ: فالترس؟ قَالَ: هُوَ المجن عَلَيْهِ تدور الدوائر، قَالَ: فالسَّيْف؟ قال: عندها فارتقتك أمك عَن الثكل، فَقَالَ لَهُ عُمَر: بَل أمك، قَالَ: بَل أمي والحمى أضرعتني لَكَ، وَهَذَا مثل معناه: أَن الإِسْلام أدلني ولو كنت فِي الجاهلية لَمْ تجسر أَن ترد علي.
وَقَالَ لَهُ يوما: حَدَّثَنِي عَن أشجع من لقيت، وأجبن من لقيت. فَقَالَ مَا.
[أَخْبَرَنَا مُحَمَّد بْن ناصر الْحَافِظ، أَخْبَرَنَا الْمُبَارَك بْن عَبْد الجبار، أَخْبَرَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الْجَوْهَرِيُّ، أَخْبَرَنَا ابْنُ حيويه، أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْر بْن خلف، وحدثنا عَنْهُ مُحَمَّد بْن حريث، أَخْبَرَنَا القاسم بْن الْحَسَن، أَخْبَرَنَا العمري، أَخْبَرَنَا الهيثم بْن عدي، عَن عَبْد اللَّهِ بْن عياش، عَن مجالد] [1] ، عَنِ الشعبي، قَالَ:
دَخَلَ عمرو بن معديكرب يوما عَلَى عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ لَهُ:
يا عَمْرو أخبرني عَن أشجع من لقيت، وأحيل من لقيت، وأجبن من لقيت، قَالَ: نعم يا أمير الْمُؤْمِنيِنَ.
خرجت مرة أريد الغارة، فبينما [2] أنا أسير إِذَا أنا بفرس مشدود ورمح مركوز، وإذا رجل جالس، و [إذا] هُوَ كأعظم [3] مَا يَكُون من الرجال خلقة، وَهُوَ مجتب بسَيْف، فَقُلْتُ لَهُ: خذ حذرك فإني قاتلك، فَقَالَ: من أَنْتَ؟ فَقُلْتُ: أنا عمرو بن معديكرب، فشهق شهقة فمات، فهذا أجبن من رأيت يا أمير الْمُؤْمِنيِنَ.
وخرجت يوما آخر حَتَّى انتهيت إِلَى حي، فَإِذَا أنا بفرس مشدود ورمح مركوز، وإذا صاحبه فِي وهدة يقضي حاجته، فَقُلْتُ لَهُ: خذ حذرك فإني قاتلك، قال: من أنت؟
__________
[1] ما بين المعقوفتين: من أ، وفي الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن الشعبي» .
[2] في الأصل: «فبينا أنا في السير وإذا بفرس» .
[3] في الأصل: «وهو كأعظم» .

(4/285)


قلت: أنا عمرو بن معديكرب، فَقَالَ: يا أبا ثور مَا أنصفتني، أَنْتَ عَلَى ظهر فرسك، وأنا فِي بئر، فاعطني عهدا أنك لا تقتلني حَتَّى أركب فرسي وآخذ حذري، فأعطيته عهدا ألا أقتله حَتَّى يركب فرسه ويأخذ حذره، فخرج من الموضع الَّذِي كَانَ فِيهِ، ثُمَّ اجتبى بسَيْفه وجلس، فَقُلْتُ: مَا/ هَذَا؟ قَالَ: مَا أنا براكب فرسي ولا بمقاتلك، فهذا يا أمير الْمُؤْمِنيِنَ أحيل من رأيت.
ثُمَّ إني خرجت يوما آخر حَتَّى انتهيت إِلَى موضع كنت أقطع فِيهِ، فلم أر أحدا فأجريت فرسي يمينًا وشمالا، فَإِذَا أنا بفارس، فلما دنا مني إِذَا هُوَ غلام وجهه من أجمل من رأيت من الفتيان وأحسنهم، وإذا هُوَ قَدْ أقبل من نَحْو اليمامة، فلما قرب مني سلم، فرددت عَلَيْهِ وقلت: من الفتى؟ فَقَالَ: الْحَارِث بْن سَعْد فارس الشهباء، فَقُلْتُ لَهُ: خذ حذرك فإني قاتلك، فمضى وَلَمْ يلتفت إلي فَقُلْتُ لَهُ: يا فتى خذ حذرك فإني قاتلك.
قَالَ: الويل لَكَ، من أَنْتَ؟ قلت: أنا عمرو بن معديكرب، قَالَ: الحقير الذليل، والله مَا يمنعني من قتلك إلا استصغارك، قَالَ: فتصاغرت نفسي إلي وعظم عندي مَا استقبلني بِهِ، فَقُلْتُ لَهُ: خذ حذرك، فو الله لا ينصرف إلا أحدنا، قال: أغرب ثكلتك أمك فإني من أَهْل بَيْت مَا نكلنا عَن فارس قط، فَقُلْتُ: هُوَ الَّذِي نسمع، فاختر لنفسك، فَقَالَ: إِمَّا أَن تطرد لي أَوْ أطرد لَكَ، فاغتممتها منه فَقُلْتُ: أطرد لي، فأطرد وحملت عَلَيْهِ حَتَّى إِذَا قُلْت إني قَدْ وضعت الرمح بَيْنَ كتفيه إِذَا هُوَ قَدْ صار حزاما لفرسه ثُمَّ اتبعني فقرع بالقناة رأسي وَقَالَ: يا عَمْرو خذها إليك واحدة، فو الله لولا أني أكره قتل مثلك لقتلتك، فتصاغرت إلي نفسي وَكَانَ الْمَوْت والله يا أمير الْمُؤْمِنيِنَ أحب إلي مِمَّا رأيت، فَقُلْتُ: والله لا ينصرف إلا أحدنا، فَقَالَ: اختر لنفسك، فَقُلْتُ: أطرد لي فأطرد، فظننت أني قَدْ تمكنت منه، فاتبعته حَتَّى إِذَا ظننت أني قَدْ وضعت الرمح بَيْنَ كتفيه، فَإِذَا هُوَ قَدْ صار لببا لفرسه، ثُمَّ اتبعني فقرع رأسي بالقناة وَقَالَ: يا عَمْرو خذها إليك اثنتين/ فتصاغرت إلي نفسي فَقُلْتُ: والله لا ينصرف إلا أحدنا، فَقَالَ: اختر لنفسك، فَقُلْتُ:
أطرد لي، فأطرد حَتَّى إِذَا قُلْتُ وضعت الرمح بين كتفيه، وثبت عَن فرسه، فَإِذَا هُوَ عَلَى الأرض فأخطأته ومضيت فاستوى عَلَى فرسه فاتبعني فقرع رأسي بالقناة، وَقَالَ: يا عَمْرو خذها إليك ثلاثا، ولولا أني أكره قتل مثلك لقتلتك، فَقُلْتُ لَهُ: اقتلني أحب إلي مِمَّا أرى بنفسي وأن يسمع فتيان العرب هذا، فقال لي: يا عَمْرو، إِنَّمَا العفو ثَلاث مرات،

(4/286)


إني إِن استمكنت منك الرابعة قتلتك، وأنشأ يرتجز وَيَقُول:
وكدت أغلاظا من الإيمان ... إِن عدت يا عَمْرو إِلَى الطغيان
لتوجزن لهب الشبان ... وإلا فلست من بَنِي شيبان
فلما قَالَ هَذَا هبته هيبة شديدة، وقلت لَهُ إِن بي إليك حاجة، قَالَ: وَمَا هِيَ؟
قُلْت: أكون لَكَ صاحبًا، ورضيت بِذَلِكَ يا أمير الْمُؤْمِنيِنَ، قَالَ: لست من أَصْحَابي، وَكَانَ ذَلِكَ والله أشد وأعظم مِمَّا صنع، فلم أزل أطلب إِلَيْهِ حَتَّى قَالَ [1] : ويحك وهل تدري أين أريد؟ قُلْت: لا، قَالَ: أريد الْمَوْت عيانًا، فَقُلْتُ: رضيت بالموت معك، قَالَ: امض بنا فسرنا جميعا يوما حَتَّى جننا الليل وذهب شطره، فوردنا عَلَى حي من أحياء العرب، فَقَالَ لي: يا عَمْرو، فِي هَذَا الحي الْمَوْت، وأومأ إِلَى قبة فِي الحي، فَقَالَ: وَفِي تلك القبة الْمَوْت الأحمر، فإما أَن تمسك علي فرسي فأنزل فآتي بحاجتي، وإما أَن أمسك عليك فرسك وتأتيني بحاجتي، فَقُلْتُ: لا بَل انزل، / فأنت أعرف بموضع حاجتك، فرمى إلي بعنان فرسه ونزل، ورضيت والله يا أمير الْمُؤْمِنيِنَ أَن أكون له سائسا، ثم مضى حَتَّى دَخَلَ القبة فاستخرج منها جارية لَمْ تر عيناي قط مثلها حسنا وجمالا، فحملها عَلَى ناقة ثُمَّ قَالَ لي: يا عَمْرو، قُلْت: لبيك، قَالَ: إِمَّا أَن تحميني وأقود أنا، وإما أَن أحميك وتقود أَنْتَ، قُلْت: لا بَل تحميني [2] وأقود أنا، فرمى إلي بزمام ناقته ثُمَّ سرنا بَيْنَ يديه وَهُوَ خلفنا حَتَّى إِذَا أصبحنا قَالَ لي: يا عَمْرو، قُلْت: لبيك مَا تشاء، قَالَ: التفت فانظر هل ترى أحدًا؟ فالتفت فَقُلْتُ: أرى جمالا، قَالَ: اغذذ السير، ثُمَّ قَالَ لي: يا عَمْرو، قُلْت: لبيك، قَالَ: انظر فَإِن كَانَ الْقَوْم قليلا فالجلد والقوة وَهُوَ الْمَوْت، وإن كانوا كثيرا فليسوا بشيء، قال: فالتفت فَقُلْتُ: هم أربعة أَوْ خمسة، قَالَ:
أغذ السير، ففعلت وسمع وقع الخيل عَن قرب، فَقَالَ لي: يا عَمْرو، كن عَن يمين الطريق وقف وحول وجوه دوابنا [إِلَى الطريق] ففعلت ووقفت عن يمين الراحلة، ووقف هُوَ عَن يسارها، ودنا الْقَوْم منا فَإِذَا هم ثلاثة نفر فيهم شيخ كبير، وَهُوَ أَبُو الجارية،:
وأخواها غلامان شابان، فسلموا فرددنا السَّلام [3] ووقفوا عَن يسار الطريق، فَقَالَ
__________
[1] في الأصل: «فلم أزل أخضع له، قال» .
[2] «لا بل تحميني» : ساقطة من أ.
[3] «فسلموا فرددنا السلام» : ساقطة من أ.

(4/287)


الشَّيْخ: خل عَن الجارية يا ابْن أخي، فَقَالَ: مَا كنت لأخليها ولا لِهَذَا أخذتها، فَقَالَ لأصغر ابنيه: اخرج إِلَيْهِ، فخرج وَهُوَ يجر رمحه، وحمل عَلَيْهِ الْحَارِث وَهُوَ يرتجز وَيَقُول:
من دون مَا ترجوه خضب الذابل ... من فارس مستكتم مقاتل
ينمي إِلَى شيبان خير وابل ... مَا كَانَ سيري نحوها بباطل
ثُمَّ شد عَلَيْهِ فطعنه طعنة دق منها صلبه فسقط ميتا. فَقَالَ الشيخ لابنه الآخر:
اخرج إِلَيْهِ يا بَنِي فلا خير فِي الحياة عَلَى الذل، فخرج إِلَيْهِ فأقبل الْحَارِث يرتجز وَيَقُول:
لَقَدْ رأيت كَيْفَ كانت طعنتي ... [والطعن] للقرن شديد بهمتي
والموت خير من فراق خلتي ... فقتلي اليوم ولا مذلتي
ثُمَّ شد عَلَيْهِ فطعنه طعنة سقط منها ميتا، فَقَالَ لَهُ الشيخ: خل عَن الظعينة يا ابْن أخي، فأنى لست كمن رأيت، قَالَ: مَا كنت لأخليها ولا لِهَذَا قصدت، فَقَالَ الشيخ:
اختر يا ابْن أخي، فَإِن شئت طاردتك، وإن شئت نازلتك، قَالَ: فاغتنمها الفتى فَقَالَ:
نازلني [1] ، ثُمَّ نزل ونزل الشيخ وَهُوَ يرتجز وَيَقُول:
مَا أرتجي عِنْدَ فناء عمري ... سأجعل السنين مثل الشهر [2]
شيخ يحامي دون بيض الخدر ... إِن استباح البيض قصم الظهر
سوف ترى كَيْفَ يَكُون صبري فأقبل إِلَيْهِ الْحَارِث وَهُوَ يرتجز وَيَقُول:
بَعْد ارتحالي وطويل سفري ... وَقَدْ ظفرت وشفيت صدري
والموت خير من لباس الغدر ... والعار أهديه لحي بَكْر
ثُمَّ دنا فَقَالَ لَهُ الشيخ: يا ابْن أخي إِن شئت ضربتك، فَإِن بقيت فيك قوة ضربتني، وإن شئت فاضربني فَإِن بقيت فِي قوة ضربتك، فاغتنمها الفتى فَقَالَ: أنا أبدأ
__________
[1] «فقال نازلني» : ساقطة من أ.
[2] في الأصل: «مثل شهر» .

(4/288)


أول [1] ، قَالَ: هات، فرفع الْحَارِث السَّيْف، فلما نظر الشيخ أنه قَدْ أهوى بِهِ إِلَى رأسه ضرب بطنه ضربة قَدْ منها أمعاءه، ووقعت ضربة الْحَارِث فِي رأسه فسقطا ميتين، فأخذت يا أمير المؤمنين أربعة أفراس وأربعة أسياف، ثُمَّ أقبلت إِلَى الناقة، فقدت أعنة الأفراس بعضها إِلى بَعْض وجعلت أقودها، فقالت لي الجارية: يا عَمْرو، إِلَى أين ولست لي بصاحب ولست كمن رأيت، ولو كنت صاحبي لسلكت سبيلهم، فَقُلْتُ: اسكتي، قالت: فَإِن كنت صادقا فاعطني رمحا أو سيفا فإن غلبتني فأننا لَكَ وإن غلبتك قتلتك، فَقُلْتُ لَهَا: مَا [أنا] [2] بمعطيك ذَلِكَ وَقَدْ عرفت أصلك وجرأة قومك وشجاعتهم، فرمت بنفسها عَن البعير ثُمَّ أقبلت إلي وَهِيَ ترتجز وتقول:
أبعد شيخي وبعد أخوتي ... أطلب عيشا بعدهم فِي لذتي
هلا يَكُون قبل ذا منيتي
ثُمَّ أهوت إِلَى الرمح وكادت تنتزعه من يدي، فلما رأيت ذَلِكَ منها خفت إِن هِيَ ظفرت بي أَن تقتلني فقتلتها.
فهذا أشد مَا رأيت يا أمير الْمُؤْمِنيِنَ، فَقَالَ عُمَر: صدقت.
قَالَ علماء السير: قتل النعمان وطليحة وعمرو بن معديكرب يَوْم نهاوند وقبورهم هناك.
/ وَقَالَ بَعْض الْعُلَمَاء: دفن عمرو بن معديكرب بروذة [3] وَهِيَ بَيْنَ قم والري، وهناك مَات.
ورثته امرأة فقالت:
لَقَدْ غادر الركب [4] الَّذِينَ تحملوا ... بروذة شخصا لا ضعيفا ولا غمرا
فقل لزبيد بَل لمذحج كلها ... فقدتم أبا ثور سبابتكم عمرا
وإن تجزعوا لَمْ تغن ذَلِكَ مغره ... ولكن سلوا الرحمن يعقبكم صبرا
__________
[1] في الأصل: «أنا أبدؤك» .
[2] ما بين المعقوفتين: من أ.
[3] معجم ما استعجم 2/ 684، والروض المعطار 274.
[4] في أ: «لقد عادل الركب» .

(4/289)


وقيل: إنه بقي إِلَى خلافة عُثْمَان. وقيل: أدرك خلافة مُعَاوِيَة، وَالأَوَّل أصح
. 216- عياش بْن [أَبِي] ربيعة بْن المغيرة بْن عَبْد اللَّهِ بْن عُمَر بْن مخزوم [1] :
أمه أسماء بنت مخرمة، أم أَبِي جهل، فَهُوَ أخو أَبِي جهل لأمه. أسلم قبل دخول رَسُول اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم دار الأرقم، وهاجر إلى الحبشة الهجرة الثَّانِيَة، ثُمَّ قدم مكة، ثُمَّ هاجر إِلَى المدينة وصاحب عُمَر بْن الْخَطَّاب، فلما نزل قباء قدم عَلَيْهِ أخواه لأمه، أَبُو جهل والحارث ابنا هِشَام، فلم يزالا بِهِ حَتَّى رداه إِلَى مكة فأوثقاه وحبساه، ثُمَّ أفلت فقدم المدينة، فلم يزل بها. فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ خرج إِلَى الشام مجاهدا، ثُمَّ عاد إِلَى مكة، فتوفي بها. رحمه اللَّه
. 217- النعمان بْن عَمْرو بْن مقرن بْن عائذ بْن عَمْرو:
شهد الخندق مَعَ النَّبِي صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ فِي ستة أخوة لَهُ، النعمان، وسويد، وسنان، ومعقل، وعقيل، وعبد الرَّحْمَن.
وَكَانَ النعمان يحمل أحد ألوية مزينة الثلاثة يَوْم الفتح، وكان أمير الناس يوم نهاوند، وعلى ميمنته الأشعث بْن قيس، وعلى ميسرته المغيرة بْن شُعْبَة.
وَكَانَ النعمان أول قتيل قتل يومئذ، على ما سبق ذكره/ [2] .
__________
[1] طبقات ابن سعد 5/ 329.
[2] «على ما سبق ذكره» : ساقطة من أ، ظ.

(4/290)


ثُمَّ دخلت سَنَة عشرين
ذكر ابْن إِسْحَاق أَن فتح قيسارية، وهرب هرقل، وفتح مصر كَانَ فِي سَنَة عشرين.
وَقَدْ ذَكَرْنَا عَن أَبِي معشر أَن قيسارية فتحت فِي سَنَة عشر. [وَقَالَ سَيْف: فتحت مصر وقيسارية فِي سَنَة ست عشرة، وَقَالَ أَبُو معشر] [1] : فتحت إسكندرية فِي سَنَة عشرين.
قَالَ الواقدي: ومصر أيضا. وَقَالَ يَزِيد بْن أَبِي حبيب: فتحت مصر يَوْم الجمعة مستهل المحرم سَنَة عشرين. وَقَالَ سَيْف: فتحتا سَنَة ست وعشرين. وَقَالَ زِيَاد بْن جراء الزبيدي: فتحتا فِي سَنَة إحدى وعشرين، أَوِ اثنتين وعشرين [2] .
ذكر الْخَبَر عَن فتح مصر والإسكندرية [3]
قَالَ ابْن إِسْحَاق: لما فرغ عُمَر من الشام كلها كتب إِلَى عَمْرو بْن العاص أَن يسير إِلَى مصر، فخرج حَتَّى افتتح بَاب البون فِي سَنَة عشرين، ثُمَّ افتتح القرى، فأرسل صاحب الإسكندرية إِلَى عَمْرو بْن العاص: «قَدْ كنت أخرج الجزية إِلَى من هُوَ أبغض إلي منكم: فارس والروم، فَإِن أحببت أَن أعطيك الجزية عَلَى أَن ترد علي مَا أصبتم من سبايا أرضي فعلت» .
فبعث إِلَيْهِ عَمْرو بْن العاص: «إِن ورائي أميرا لا أستطيع أَن اصنع أمرا دونه، فَإِن شئت أَن أمسك عنك وتمسك عني حَتَّى أكتب إِلَيْهِ» .
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] تاريخ الطبري 4/ 104.
[3] تاريخ الطبري 4/ 104- 112. البداية والنهاية 7/ 107- 110. والكامل 2/ 405- 408.

(4/291)


فَقَالَ: نعم، فكتب إِلَى عُمَر، فكتب إِلَيْهِ عُمَر: «اعرض عَلَى صاحب الإسكندرية أَن يعطيك الجزية عَلَى أَن تخيروا من فِي أيديكم من سبيهم بَيْنَ الإِسْلام وبين دين قومه، فمن اختار الإِسْلام فَهُوَ من الْمُسْلِمِينَ، ومن اختار دين قومه أدى الجزية كقومه، فأما من تفرق من سبيهم بأرض العرب، فبلغ مكة والمدينة واليمن، فإنه/ لا يقدر عَلَى ردهم» .
فَقَالَ صاحب الإسكندرية: قَدْ فعلت، ثُمَّ فتحت لنا الإسكندرية، فدخلناها.
وَقَالَ أَبُو عُمَر مُحَمَّد بْن يُوسُف التجيبي: قَالَ سَعِيد بْن عفير عن أشياخه: لمّا جاز المسلمون الحصن- يَعْنِي حصن مصر- اجمع عَمْرو عَلَى المسير إِلَى الإسكندرية، فسار إِلَيْهَا فِي ربيع الأَوَّل سَنَة عشرين، وأمر بفسطاطه أَن يقوض، فَإِذَا بحمامة [1] قَدْ باضت فِي أعلاه فَقَالَ: لَقَدْ تحرمت بجوارنا، أقروها الفسطاط حَتَّى تطير فراخها. فأقروا الفسطاط، ووكل بِهِ أَن لا تهاج حَتَّى تشتد فراخها، فبذلك سميت الفسطاط فسطاطا.
[أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ الْحُسَيْنِ، وَإِسْمَاعِيلُ بْنُ أَحْمَدَ قالا: أخبرنا ابن النقور، أخبرنا المخلص أحمد بن عبد الله، حدثنا السري بن يَحْيَى، أَخْبَرَنَا شُعَيْب، حَدَّثَنَا سَيْف، حَدَّثَنَا أَبُو عُثْمَان] [2] ، عَن خَالِد وعبادة قالا: خرج عَمْرو إلى مصر بعد ما رجع عُمَر إِلَى المدينة، حَتَّى انتهى إِلَى بَاب مصر، واتبعه الزُّبَيْر، فاجتمعا، فلقيهم هناك أَبُو مريم جاثليق [3] مصر، ومعه الأسقف الَّذِي بعثه المقوقس لمنع بلادهم، فلما نزل بهم عَمْرو قاتلوه، فأرسل إليهم: لا تعجلوا لنقدر إليكم وتروا رأيكم بَعْد، فكفوا أَصْحَابكم [4] .
وأرسل إليهم عَمْرو، فإني بارز فليبرز إلي أَبُو مريم وأَبُو مرياهم. فأجابوه إِلَى ذَلِكَ، وأمن بَعْضهم بَعْضًا، فَقَالَ لهما عَمْرو: أنتما راهبا هذه المدينة فاسمعا: إِن اللَّه عز وجل بعث محمدا صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ بالحق، وأمره بِهِ، فأمرنا بِهِ مُحَمَّد صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ، وأدى إلينا كُل الَّذِي أمر [5] بِهِ،
__________
[1] في الأصل: «فإذا الحمامة» .
[2] في الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن خالد وعبادة» .
[3] في الأصل: «بوم يم جاثليق مصر» وما أثبتناه من ت.
[4] في الأصل: «أصحابهم» .
[5] في الأصل: «أمرنا» .

(4/292)


ثُمَّ مضى وَقَدْ قضى الَّذِي عَلَيْهِ [1] ، وتركنا عَلَى الواضحة، وَكَانَ مِمَّا أمرنا بِهِ الاعتذار إِلَى النَّاس، فنحن ندعوكم إِلَى الإِسْلام، فمن أجابنا إِلَيْهِ قبلناه، ومن لَمْ يجبنا إِلَيْهِ عرضنا عليه الجزية، وَقَدْ أعلمنا أننا مفتتحوكم، وأوصانا بكم حفظا لرحمنا/ فيكم، فَإِن لكم إِن أجبتمونا إِلَى ذَلِكَ ذمة إِلَى ذمة، ومما عهد إلينا أميرنا «استوصوا بالقبطيين خيرا» فَإِن رَسُول الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ أوصاني بالقبطيين خيرا، لأن لهم رحما وذمة.
فقالا: قرابة بعيدة، فلا يصل مثلها إلا الأنبياء وأتباع الأنبياء معروفة شريفة، كانت بنت ملكنا، فصارت إِلَى إِبْرَاهِيم، مرحبا بك وأهلا، أمنا حَتَّى نرجع إليك.
فَقَالَ عَمْرو: إِن مثلي لا يخدع، ولكني أؤجلكما ثلاثا لتنظرا أَوْ لينظر قومكما، وإلا ناجزتكم.
فقالا: زدنا. فزادهما يوما [2] ، قالا: زدنا. فزادهما يوما، فرجعا إلى المقوقس فهم، فأبي أرطبون [3] أَن يجيبهما، وأمر بمناجزتهم، فركب المسلمون أكتافهم، وَقَالَ أَهْل الفسطاط- يَعْنِي [4] مصر- لملكهم: مَا تريد إِلَى قوم قَدْ قتلوا كسرى وقيصر، وغلبوهم عَلَى بلادهم، صالح الْقَوْم وَكَانَ صلحهم: هَذَا مَا أعطى عَمْرو بْن العاص أَهْل مصر الأمان على أنفسهم، وأموالهم، وكنائسهم، وصليبهم، وعليهم أَن يعطوا الجزية، ومن دَخَلَ في صلحهم من الروم والنوب فله مثل مَا لهم، ومن أبى واختار الذهاب فَهُوَ آمن حَتَّى يبلغ مأمنه، فدخل فِي ذَلِكَ أَهْل مصر، وقبلوا الصلح.
فمصر عَمْرو الفسطاط وتركه المسلمون، وأمره عُمَر رضي اللَّه عَنْهُ عَلَيْهَا، فأقام بها، ووضع مسالح مصر عَلَى [5] السواحل وغزة، وَكَانَ داعية ذَلِكَ أَن قيصر غزا مصر والشام فِي البحر [6] ، ونهد لأهل حمص بنفسه.
__________
[1] في الأصل: «قضى ما عليه» .
[2] في الأصل: «فزادهم يوما» وكذلك في الموضع التالي.
[3] في الأصل: «أرطيون» .
[4] الفسطاط- يعني» . ساقط من ت.
[5] في الأصل: «ووضع مسالح أهل مصر» .
[6] في ت: «والبحر» .

(4/293)


ذكر زوال السنة السيئة الَّتِي كانت فِي نيل مصر [1]
[أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ الْحَافِظُ قال: أخبرنا المبارك بن عبد الجبار قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الصُّورِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ النَّحَّاسِ قَالَ:
أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ حَفْصٍ الْحَضْرَمِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا حَسَنُ بْنُ عَرَفَةَ الأَنْصَارِيُّ قَالَ: حَدَّثَنِي هَانِئُ بْنُ الْمُتَوَكِّلِ قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ لَهِيعَةَ] عَنْ قَيْسِ بْنِ الْحَجَّاجِ [2] قَالَ: لَمَّا فُتِحَتْ مِصْرُ أَتَى أَهْلَهَا إِلَى عَمْرِو بن العاص حين دخل بؤونة مِنْ أَشْهُرِ الْعَجَمِ، فَقَالُوا لَهُ: / أَيُّهَا الأَمِيرُ، إِنَّ لِنِيلِنَا هَذَا سُنَّةً لا يَجْرِي إِلا بِهَا. فَقَالَ لَهُمْ: وَمَا ذَاكَ؟ قَالُوا: إِذَا دَخَلَتْ ثِنْتَا عَشَرَةَ لَيْلَةً مِنْ هَذَا الشَّهْرِ عَمَدْنَا إِلَى جَارِيَةٍ بَكْرٍ بَيْنَ أَبَوَيْهَا، فَأَرْضَيْنَا أَبَاهَا، وَحَمَلْنَا عَلَيْهَا مِنَ الْحُلِيِّ وَالثِّيَابِ أَفْضَلَ مَا يَكُونُ، ثُمَّ أَلْقَيْنَاهَا فِي النِّيلِ. قَالَ لَهُمْ: إِنَّ هَذَا لا يَكُونُ فِي الإِسْلامِ، إن الإسلام يهدم ما كان قبله. فأقاموا بؤونة، وَأَبِيبَ، وَمَسْرَى لا يَجْرِي قَلِيلا وَلا كَثِيرًا، حتى هموا بالجلاء عنها [3] ، فَلَمَّا رَأَى ذَلِكَ عَمْرُو بْنُ الْعَاصِ كَتَبَ إِلَى عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ بِذَلِكَ، فَكَتَبَ إليه عمر: «إنك قد أَصَبْتَ، لأَنَّ الإِسْلامَ يَهْدِمُ مَا كَانَ قَبْلَهُ» وَكَتَبَ بِطَاقَةً دَاخِلَ كِتَابِهِ، وَكَتَبَ إِلَى عَمْرٍو: «إِنِّي قَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكَ بِبَطَاقَةٍ دَاخِلِ كِتَابِي، فَأَلْقِهَا فِي النِّيلِ» فَلَمَّا قَدِمَ كِتَابُ عُمَرَ إِلَى عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ أَخَذَ الْبِطَاقَةَ، فَإِذَا فِيهَا: «مِنْ عَبْدِ اللَّهِ أمير الْمُؤْمِنيِنَ إِلَى نِيلِ مِصْرَ، أَمَّا بَعْدُ: فَإِنْ كُنْتَ تَجْرِي مِنْ قِبَلِكَ فَلا تَجْرِ، وَإِنْ كَانَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ هُوَ الَّذِي يُجْرِيكَ فَنَسْأَلُ اللَّهَ الْوَاحِدَ الْقَهَّارَ أَنْ يُجْرِيكَ» فَأَلْقَى الْبِطَاقَةَ فِي النِّيلِ قَبْلَ يَوْمِ الصَّلِيبِ بِيَوْمٍ وَقَدْ تَهَيَّأَ [4] أَهْلُ مِصْرَ لِلْجَلاءِ وَالْخُرُوجِ، لأَنَّهُ لا تَقُومُ مَصْلَحَتُهُمْ فِيهَا إِلا بِالنِّيلِ. فَلَمَّا أَلْقَى الْبِطَاقَةَ [أَصْبَحُوا] [5] يَوْمَ الصَّلِيبِ وَقَدْ أَجْرَاهُ اللَّهُ سِتَّةَ عَشَرَ ذِرَاعًا فِي لَيْلَةٍ وَاحِدَةٍ، فَقَطَعَ اللَّهُ تِلْكَ السُّنَّةَ السُّوءَ عَنْ أَهْلِ مِصْرَ إِلَى الْيَوْمِ.
وَفِي هذه السنة:
غزا أَبُو بحرية الكندي عَبْد اللَّهِ بْن قيس أرض الروم، وهو أول من دخلها فيما
__________
[1] انظر البداية والنهاية 7/ 111، 112.
[2] في الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن قيس بن الحجاج» . وحذف باقي السند، وأثبتناه من ت.
[3] في ت: «بالجلاء منها» .
[4] في الأصل: «قد تهيأوا أهل مصر» .
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل، وأثبتناه من ت.

(4/294)


قِيلَ. وقيل: أول من دخلها ميسرة بْن مسروق العبسي، فسلم وغنم [1]
. وَفِي/ هذه السنة: زلزلت المدينة [2] .
[أَخْبَرَنَا أَحْمَد بْن عَلِي الْمُجَلِّي قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ:
أَخْبَرَنَا أَبُو الْحَسَنِ بْنُ بِشْرَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ صَفْوَانَ قَالَ: أَخْبَرَنَا عَبْد اللَّهِ بْن مُحَمَّد القرشي قَالَ: حَدَّثَنِي عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْبَاهِلِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ،] [3] عَنْ نَافِعٍ، عَنْ صَفِيَّةَ قَالَتْ [4] : زُلْزِلَتُ الْمَدِينَةُ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ: أَيُّهَا النَّاسُ مَا أَسْرَعَ مَا أَحْدَثْتُمْ، لَئِنْ عَادَتْ لا أُسَاكِنُكُمْ فِيهَا [5] .
وَفِي هذه السنة: عزل عُمَر قدامة بْن مظعون عَن البحرين وحده فِي شراب شربه، واستعمل عُمَر أبا هُرَيْرَة- وقيل: أبا بكرة- عَلَى اليمامة والبحرين [6] .
وفيها: قسم عُمَر خيبر بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ وأجلى منها اليهود، لأنهم قَدْ بدعوا أبدا ابْن عُمَر [7] .
وفيها: بعث أبا حبيبة إِلَى أَهْل فدك، فأعطاهم نصف الأرض، ومضى إِلَى وادي القرى فقسمها [8] .
وفيها: بعث عُمَر علقمة بْن محرز المدلجي إِلَى الحبشة فِي مائتي رجل،
__________
[1] تاريخ الطبري 4/ 112. والكامل 2/ 409.
[2] كشف الصلصلة عن وصف الزلزلة، للسيوطي ص 65، 66.
[3] في الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن نافع» وحذف باقي السند، وأثبتناه من ت.
[4] في ت: «قال» .
[5] في الأصل: «لأسلّنكم عنها» .
وفي ت: «لا ساكنتكم فيها» .
وانظر الخبر في: مصنف ابن أبي شيبة 2/ 473. وسنن البيهقي 3/ 342. والعقوبات لابن أبي الدنيا (ق 104/ ب) مخطوط.
[6] تاريخ الطبري 4/ 112.
[7] تاريخ الطبري 4/ 112.
[8] تاريخ الطبري 4/ 112. وقد سقطت لفظة: «الأرض» من أصول الطبري وأشار المحقق إلى ذلك.

(4/295)


حملهم فِي أربع مراكب، فأصيبوا فنجا [مِنْهُم] [1] فحلف عُمَر لا يحمل فِيهِ أحدا أبدا [2] .
وفيها: حج عُمَر رضي اللَّه عَنْهُ بالناس [3]
. ذكر من توفي في هذه السنة من الأكابر
218- أسيد بْن حضير بْن سماك بْن عتيك بْن امرئ القيس [4] .
كَانَ أبوه [5] شريفا فِي الجاهلية، رئيس الأوس يَوْم بعاث، وَكَانَ أسيد بَعْد أَبِيهِ شريفا فِي قومه، يعد من ذوي العقول والآراء، وَكَانَ يكتب بالعربية، ويحسن العوم والرمي، وَكَانَ فِي الجاهلية يسمون من جمع فِيهِ هذه الخصال: «الكامل» . وأسلم هُوَ وسعد بْن معاذ عَلَى يدي مُصْعَب بن عمير فِي يَوْم واحد، وشهد أسيد العقبة الأخيرة مَعَ السبعين، وَكَانَ أحد النقباء الاثني عشر، وَلَمْ يشهد بدرا لأنه لَمْ يظن أنه يجري قتال، وشهد أحدا وثبت يومئذ مع رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ وجرح بسبع جراحات، وشهد الخندق والمشاهد/ بعده.
[أَخْبَرَنَا ابْنُ أَبِي طَاهِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَبُو إِسْحَاق البرمكي قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن حيوية قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الفهم قال: حدثنا محمد بن سعد قال: أَخْبَرَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، وَعَفَّانُ، وَسُلَيْمَانُ بْنُ حَرْبٍ قَالُوا: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ سَلَمَةَ، عَنْ ثَابِتٍ،] [6] عَنْ أَنَسٍ قَالَ: كَانَ أُسَيْدُ بْنُ خُضَيْرٍ وَعَبَّادُ بْنُ بِشْرٍ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ حِنْدِسٍ، فَتَحَدَّثَا عِنْدَهُ حتى إِذَا خَرَجَا أَضَاءَتْ لَهُمَا عَصًا، فَمَشَيَا فِي
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] تاريخ الطبري 4/ 112.
[3] تاريخ الطبري 4/ 113.
[4] البداية والنهاية 7/ 112. وطبقات ابن سعد 3/ 2/ 135.
[5] في الأصل: «كان أبو شريفا» .
[6] في الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن أنس» . وباقي السند حذف، وأثبتناه من ت.

(4/296)


ضَوْئِهَا، فَلَمَّا تَفَرَّقَ بِهِمَا الطَّرِيقُ أَضَاءَتْ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَصَاهُ، فَمَشَى فِي ضَوْئِهَا [1] . أَخْرَجَهُ البخاري.
توفي أسيد [بن حضير] [2] فِي شعبان فِي هذه السنة، فصلى عَلَيْهِ عُمَر بالبقيع
. 219- بلال بْن رباح، مولى أَبِي بَكْر الصديق رضي اللَّه عَنْهُ، ويكنى أبا عَبْد اللَّهِ [3] .
من مولدي السراة، واسم أمه حمامة، وَكَانَ أدم شديد الأدمة، نحيف، طوالا، أحنى، أشفر [4] ، [لَهُ شعر كثير] [5] ، خفيف العارضين، بِهِ سمط كثير [6] لا يغير.
[أَخْبَرَنَا مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْجَوْهَرِيُّ قَالَ: أخبرنا ابن حيوية قال:
أخبرنا ابْن معروف قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن الفهم قَالَ: حدثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قَالَ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي مِزْوَدٍ، عَنْ يَزِيدَ بْنِ رُومَانَ] ، عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ قَالَ: كَانَ بِلالُ بْنُ رَبَاحٍ مِنَ الْمُسْتَضْعَفِينَ، وَكَانَ يُعَذَّبُ حِينَ أَسْلَمَ ليرجع عن دينه فما أعطاه [7] قَطُّ كَلِمَةً مِمَّا يُرِيدُونَ، وَكَانَ الَّذِي يُعَذِّبُهُ أُمَيَّةُ بْنُ خَلَفٍ [8] .
[قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ سَعْدٍ: وَأَخْبَرَنَا عُثْمَانُ بْنُ عُمَرَ، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَنْصَارِيُّ قَالا: حَدَّثَنَا] [9] عَوْنُ بْنُ عُمَيْرِ بْنِ إِسْحَاقَ قَالَ: كَانَ بِلالٌ إِذَا اشْتَدُّوا عَلَيْهِ فِي الْعَذَابِ قَالَ: أَحَدٌ أَحَدٌ. قَالَ: فيقولون له: قُلْ كَمَا نَقُولُ. فَيَقُولُ: إِنَّ لِسَانِي لا يحسنه [10] .
__________
[1] طبقات ابن سعد 3/ 2/ 137.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[3] البداية والنهاية 7/ 113. وطبقات ابن سعد 3/ 1/ 165- 170.
[4] «أشفر» ساقطة من ت.
[5] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[6] في الأصل: «شميط كثير» .
[7] في الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن عروة» وما أثبتناه من ت.
[8] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 165.
[9] في الأصل: «وروى ابن سعد بإسناده عن عون» .
[10] الطبقات الكبرى 3/ 1/ 165.

(4/297)


[قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَأَخْبَرَنَا جَرِيرٌ، عَنْ مَنْصُورٍ [1]] ، عَنْ مُجَاهِدٍ قَالَ: أَوَّلُ مَنْ أَظْهَرَ الإِسْلامَ بعد رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ: أَبُو بَكْرٍ، وَبِلالٌ، وَخَبَّابٌ، وَصُهَيْبٌ، وَعَمَّارٌ، وَسُمَيَّةُ، وَأُمُّ عَمَّارٍ [2] . فَأَمَّا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وآله وَسَلَّمَ فَمَنَعَهُ عُمَرُ، وَأَمَّا أَبُو بَكْرٍ فَمَنَعَهُ قَوْمُهُ، وَأُخِذَ الآخَرُونَ فَأَلْبَسُوهُمْ/ أَدْراعَ الْحَدِيدِ، ثُمَّ صَهَرُوهُمْ فِي الشَّمْسِ حَتَّى بَلَغَ الْجُهْدُ مِنْهُمْ كُلَّ مَبْلَغٍ فَأَعْطُوهُمْ مَا سَأَلُوا، فَجَاءَ إِلَى كُلِّ رَجُلٍ مِنْهُمْ قَوْمُهُ بِأَنْطَاعِ الأَدَمِ، فِيهَا الْمَاءُ، فَأَلْقُوهُمْ فِيهِ، وَحَمَلُوا جَوَانِبَهُ إِلا بِلالا، فَلَمَّا كَانَ الْعِشَاءُ جَاءَ أَبُو جَهْلٍ، فَجَعَلَ يَشْتُمُ سُمَيَّةَ وَيَرْفُثُ، ثُمَّ طَعَنَهَا فَقَتَلَهَا، فَهِيَ أَوَّلُ شَهِيدٍ اسْتُشْهِدَ فِي الإِسْلامِ. وَأَمَّا [3] بِلالٌ فَإِنَّهُ هَانَتْ عَلَيْهِ نَفْسَهُ فِي اللَّهِ. حَتَّى مَلُّوهُ [4] ، فَجَعَلُوا فِي عُنُقِهِ حَبْلا، ثُمَّ أَمَرُوا صِبْيَانَهُمْ أَنْ يَشْتَدُّوا بِهِ [5] بَيْنَ أَخْشَبَيْ مَكَّةَ، فَجَعَلَ يَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ [6] .
[قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: وَأَخْبَرَنَا عَامِرُ بْنُ الْفَضْلِ قَالَ: حَدَّثَنَا حَمَّادُ بْنُ زَيْدٍ، عَنْ أَيُّوبَ] [7] ، عَنْ مُحَمَّدٍ: أَنَّ بِلالا أَلْقُوهُ فِي الْبَطْحَاءِ وَجَلَدُوا ظَهْرَهُ [8] ، فَجَعَلُوا يقولون:
ربك اللات والعزة. فَيَقُولُ: أَحَدٌ أَحَدٌ. فَأَتَى عَلَيْهِ أَبُو بَكْرٍ فَقَالَ: عَلامَ تُعَذِّبُونَ هَذَا الإِنْسَانَ؟ فَاشْتَرَاهُ بِسَبْعِ أواق فأعتقه فذكر ذلك للنّبيّ صلّى الله عليه وآله وسلم فَقَالَ: «الشِّرْكَةُ يَا أَبَا بَكْرٍ» قَالَ: قَدْ أَعْتَقْتُهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ [9] .
[قَالَ ابْنُ سَعْدٍ: أَنْبَأَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا سُفْيَانُ بْنُ عُيَيْنَةَ، عَنْ إِسْمَاعِيلَ،] [10] عَنْ قَيْسٍ قَالَ: اشْتَرَى أَبُو بكر بلالا بخمس أواق [11] .
__________
[1] في الأصل: روى ابن سعد باسناده عن مجاهد» .
[2] في الأصل: «أم عمام» .
[3] في ابن سعد: «إلا بلالا» .
[4] في الأصل: «حتى قال» .
[5] في الأصل: «أن يشدوه» .
[6] طبقات ابن سعد 3/ 1/ 166.
[7] في الأصل: «روى ابن سعد بإسناده عن محمد» .
[8] في الأصل: «أن بلالا ألقي عليه من البطحاء جلد بقرة» . وفي ابن سعد: «أن بلالا أخذه أهله فمطوه وألقوا عليه من البطحاء جلد بقرة» .
[9] الطبقات الكبرى 3/ 1/ 165.
[10] في الأصل: «روى ابن سعد بإسناده عن قيس» .
[11] الطبقات الكبرى 3/ 165، 166.

(4/298)


[وَأَخْبَرَنَا الْفَضْلُ بْنُ دُكَيْنٍ قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي سَلَمَةَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْمُنْكَدِرِ] [1] ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ: أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كَانَ يَقُولُ: أَبُو بَكْرٍ سَيِّدُنَا، وَأَعْتَقَ سَيِّدَنَا يَعْنِي بِلالا [2] .
قَالَ علماء السير: شهد بلال بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وأمره رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ فأذن يَوْم الفتح عَلَى ظهر الكعبة والحارث بْن هِشَام وصفوان بْن أمية قاعدان، فَقَالَ: أحدهما للآخر: أنظر إِلَى هَذَا الحبشي فَقَالَ الآخر: إِن يكرهه اللَّه يغيره [3] .
ولما مَات رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ كَانَ بلال يؤذن، فَإِذَا قَالَ «أشهد أَن محمدا رسول الله» انتحب النّاس، فلما دفن رَسُول اللَّه/ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ أَبُو بَكْر: أذن. فَقَالَ لَهُ: إِن كنت إِنَّمَا اعتقتني لأن أكون معك، فسبيل ذَلِكَ، وإن كنت أعتقتني للَّه فخلني ومن أعتقتني لَهُ.
فَقَالَ: مَا أعتقتك إلا للَّه. قَالَ: فإني لا أؤذن لأحد بعد رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ. قَالَ: فذاك إليك. قَالَ: فأقام حَتَّى خرجت بعوث الشَّام، فسار معهم.
وقيل: إِنَّمَا أقام حياة أَبِي بَكْر، فلما ولي عُمَر رحل [إِلَى] [4] الشام، فمات هناك فِي هذه السنة. وَهُوَ ابْن بضع وستين سَنَة
. 220- خويلد بْن مرة، أَبُو خراش الهذلي [5] .
شاعر مجيد من شعراء هذيل، أدرك الجاهلية والإسلام فأسلم، وَلَمْ أر أحدا ذكره فِي الصَّحَابَة، وعاش بَعْد رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ حَتَّى مَات فِي خلافة عُمَر، نهشته أفعى فمات، وَكَانَ إِذَا عدا سبق الخيل.
قَالَ الأصمعي: حَدَّثَنِي رجل من هذيل قَالَ: دَخَلَ أَبُو خراش الهذلي مكة وللوليد بْن المغيرة فرسان يريد أَن يرسلهما فِي الحلبة، فَقَالَ للوليد: ما تجعل لي إن
__________
[1] في الأصل: «روى ابن سعد بإسناده عن جابر» .
[2] الطبقات الكبرى 3/ 1/ 166.
[3] الطبقات الكبرى 3/ 1/ 167.
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[5] البداية والنهاية 7/ 116.

(4/299)


سبقتهما؟ قَالَ: إِن فعلت ذَلِكَ فهما لَكَ. فأرسلا وعدا بينهما فسبقهما وأخذهما
. 221- زينب بنت جحش [1] .
تزوجها زَيْد بْن حارثة ثُمَّ طلقها، فتزوجها رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ فِي سَنَة أربع، وبسببها نزلت آية الحجاب، وكانت تفخر عَلَى النِّسَاء فتقول: زوجكن أهاليكن، وزوجني اللَّه من فَوْقَ سبع سماوات، ولما نزل قوله عز وجل: زَوَّجْناكَها 33: 37 دَخَلَ عَلَيْهَا رَسُول اللَّه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ بلا إذن، وكانت تعمل بيدها وتتصدق.
[أَخْبَرَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَلِيٍّ الْمُقْرِئُ، وَمُحَمَّدُ بْنُ نَاصِرٍ الْحَافِظُ قَالا: أَخْبَرَنَا طِرَادُ بْنُ مُحَمَّدٍ، أَخْبَرَنَا عَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ بِشْرَانَ، حَدَّثَنَا ابْن صَفْوَانَ، حَدَّثَنَا أَبُو بَكْر الْقُرَشِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ هَارُونَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي يَزِيدُ بْنُ خُصَيْفَةَ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ رَافِعٍ] [2] ، / عَنْ بَرْزَةَ [3] بِنْتِ رَافِعٍ قَالَتْ: لَمَّا جَاءَ الْعَطَاءُ بَعَثَ عُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ إِلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ بِالَّذِي لَهَا، فَلَمَّا دَخَلَ عَلَيْهَا قَالَتْ: غَفَرَ اللَّهُ لِعُمَرَ، لَغَيْرِي مِنْ أَخَوَاتِي كَانَ أَقْوَى عَلَى قَسْمِ هَذَا مِنِّي. قَالُوا: هَذَا كُلُّهُ لَكِ. فَقَالَتْ: سُبْحَانَ اللَّهِ. وَاسْتَتَرَتْ دُونَهُ بِثَوْبٍ وَقَالَتْ: صُبُّوهُ وَاطْرَحُوا عَلَيْهِ ثَوْبًا. وَقَالَتْ لِي: أَدْخِلِي يَدَكِ فَاقْبِضِي مِنْهُ قَبْضَةً، فَاذْهَبِي بِهَا إِلَى فُلانٍ وَإِلَى فُلانٍ مِنْ أَيْتَامِهَا وَذَوِي رَحِمِهَا، فَقَسَّمَتْهُ حَتَّى بَقِيَتْ مِنْهُ بَقِيَّةٌ فَقَالَتْ لَهَا بَرْزَةُ [3] : غَفَرَ اللَّهُ لَكِ، وَاللَّهِ لَقَدْ كَانَ لَنَا فِي هَذَا حَظٌّ، قَالَتْ:
فَلَكُمْ مَا تَحْتَ الثَّوْبِ. قَالَتْ: فَرَفَعْنَا الثَّوْبَ فَوَجَدْنَا خَمْسَةً وَثَمَانِينَ دِرْهَمًا، ثُمَّ رَفَعَتْ يَدَيْهَا فَقَالَتْ: اللَّهمّ لا يُدْرِكْنِي عَطَاءٌ لِعُمَرَ بَعْدَ عَامِي هَذَا، فَمَاتَتْ [قَبْلَ الْحَوْلِ] [4] .
[أَنْبَأَنَا أَبُو بكر بن عبد الباقي قَالَ: أخبرنا الجوهري، أخبرنا ابن حيويه، أخبرنا أحمد بن مَعْرُوفٍ، أَخْبَرَنَا الْحُسَيْنُ بْنُ الْفَهِمِ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْن سعد قال: أخبرنا محمد بن عمر قَالَ: حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، عَنِ الزُّهْرِيِّ] [5] ، عن سالم، عن أبيه،
__________
[1] البداية والنهاية 7/ 115. والطبقات الكبرى 8/ 20- 24.
[2] في الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن بريرة» .
[3] في الأصل: «بريرة» .
[4] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[5] في الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن سالم» .

(4/300)


قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ [1] وَهُوَ جَالِسٌ مَعَ نِسَائِهِ: «أَطْوَلُكُنَّ [بَاعًا] [2] أَسْرَعُكُنَّ لُحُوقًا بِي» فَكُنَّ يَتَطَاوَلْنَ إِلَى الشَّيْءِ إِنَّمَا عَنَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم بذلك الصدقة. وكانت زينب امرأة صنعا، وَكَانَتْ تَتَصَدَّقُ بِهِ، وَكَانَتْ أَسْرَعَ نِسَائِهِ بِهِ لُحُوقًا.
[قَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ: وَحَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ عِمْرَانَ، عَنْ عَاصِمِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ [3] ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة قَالَ: رَأَيْتُ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ صَلَّى عَلَى زَيْنَبَ بِنْتِ جَحْشٍ سَنَة عِشْرِينَ، فِي يَوْمٍ صَائِفٍ، وَرَأَيْتُ ثَوْبًا مُدَّ عَلَى قَبْرِهَا وَعُمَرُ قَائِمٌ، وَالأَكَابِرُ مِنْ أَصْحَابِ رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ قِيَامٌ، فَأَمَرَ عُمَرُ مُحَمَّدَ بْنَ عَبْدِ اللَّهِ بن جحش، وأسامة بن زيد، وعبد اللَّهِ بْنَ أَبِي أَحْمَدَ بْنِ جَحْشٍ، وَمُحَمَّدَ بْنَ طَلْحَةَ- وَهُوَ ابْنُ أُخْتِهَا- فَنَزَلُوا مِنْ قَبْرِهَا.
قَالُوا: وتوفيت بنت ثَلاث وخمسين سَنَة
. 222- سَعِيد بْن عامر بْن حذيم بْن سلامان [4] .
أسلم/ قبل خيبر، وشهدها مَعَ رَسُول اللَّه صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وَمَا بعدها.
[أَخْبَرَنَا أَبُو بَكْرٍ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْبَاقِي قَالَ: أخبرنا الجوهري قال: أخبرنا ابن حيوية قال: أخبرنا أحمد بن معروف قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْن الفهم قَالَ: حَدَّثَنَا ابْنُ سَعْدٍ قَالَ:
حَدَّثَنَا مَالِكُ بْنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو غَسَّانَ النَّهْدِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا مَسْعُودُ بْنُ سَعْدٍ الْجُعْفِيُّ قَالَ:
حَدَّثَنَا يَزِيدُ بْنُ أَبِي زِيَادٍ] [5] ، عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ سَابِطٍ قَالَ: أَرْسَلَ عُمَرُ إِلَى سَعِيدِ بْنِ عَامِرٍ فَقَالَ: إِنَّا مُسْتَعْمِلُوكَ عَلَى هَؤُلاءِ تَسِيرُ بِهِمْ إِلَى أَرْضِ الْعَدُوِّ فَتُجَاهِدُ بِهِمْ. فَقَالَ: يَا عُمَرُ، لا تَفْتِنِّي، فَقَالَ عُمَرُ: وَاللَّهِ لا أَدَعُكُمْ، جَعَلْتُمُوهَا فِي عُنُقِي ثُمَّ تَخَلَّيْتُمْ مِنِّي، إِنَّمَا أبعثك على قوم ليست بِأَفْضَلِهِمْ، وَلَسْتَ أَبْعَثُكَ لِتَضْرِبَ أَبْشَارَهُمْ وَلا تَنْتَهِكَ أَعْرَاضَهُمْ، وَلَكِنْ تُجَاهِدُ بِهِمْ عَدُوَّهُمْ وَتَقْسِمُ بَيْنَهُمْ فيهم. فقال: اتّق الله يَا عُمَرُ، أَحِبَّ لأَهْلِ الإِسْلامِ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَحُضَّ الْعَمَرَاتِ إِلَى الْحَقِّ حَيْثُ عَلِمْتَهُ، ولا تخش في الله
__________
[1] في ت: «كان رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ» .
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[3] في الأصل: «يروى المؤلف باسناده عن عبد الله» .
[4] البداية والنهاية 7/ 113. والطبقات الكبرى 7/ 2/ 121.
[5] في الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن عبد الرحمن بن سابط» .

(4/301)


لَوْمَةَ لائِمٍ. فَقَالَ عُمَرُ: وَيْحَكَ يَا سعيد، ومن يطق هَذَا؟ فَقَالَ: مَنْ وَضَعَ اللَّهُ فِي عُنُقِهِ مِثْلَ الَّذِي وَضَعَ فِي عُنُقِكَ، إِنَّمَا عَلَيْكَ أَنْ تَأْمُرَ فَيُطَاعُ أَمْرُكَ، أَوْ تَتْرُكَ فَيَكُونُ لَكَ الْحُجَّةُ.
فَقَالَ عُمَرُ: إِنَّا سَنَجْعَلُ لَكَ رِزْقًا. قَالَ: لَقَدْ أُعْطِيتُ مَا يَكْفِينِي دُونَهُ- يَعْنِي عَطَاءَهُ- وَمَا أَنَا بِمُزْدَادٍ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِينَ شَيْئًا. قَالَ: وَكَانَ إِذَا خَرَجَ عَطَاؤُهُ نَظَرَ إِلَى قُوتِ أَهْلِهِ مِنْ طَعَامِهِمْ وَكِسْوَتِهِمْ وَمَا يُصْلِحُهُمْ فَيَعْزِلُهُ، وَيَنْظُرُ إِلَى بَقِيَّتِهِ فَيَتَصَدَّقُ بِهِ، فَيَقُولُ أَهْلُهُ: أَيْنَ بَقِيَّةُ الْمَالِ؟ فَيَقُولُ: أَقْرَضْتُهُ. قَالَ: فَأَتَاهُ نَفَرٌ مِنْ قَوْمِهِ، فَقَالُوا: لَوْلا [1] أَنَّ لأَهْلِكَ عَلَيْكَ حَقًّا وَإِنَّ لأَصْهَارِكَ عَلَيْكَ حَقًّا، وَإِنَّ لِقَوْمِكَ عَلَيْكَ حَقًّا. فَقَالَ: مَا اسْتَأْثَرَ عَلَيْهِمْ أَنْ يَرَى لَمْعَ أَيْدِيهِمْ، وَمَا أَنَا بِطَالِبٍ أَوْ مُلْتَمِسٍ رِضَى أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ بِطَلَبِي الْحُورَ الْعِينَ، الَّذِي لَوِ اطَّلَعَتْ وَاحِدَةٌ مِنْهُنَّ لأَشْرَقَتْ لَهَا الأَرْضُ كَمَا تُشْرِقُ الشَّمْسُ، وَمَا أَنَا بِمُسْتَخْلِفٍ عَنِ الْعِتْقِ الأَوَّلِ بَعْدَ أَنْ سَمِعْتُ/ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ يَقُولُ: «يَجِيءُ فُقَرَاءُ الْمُهَاجِرِينَ يُزَفُّونَ كَمَا يُزَفُّ الْحَمَامُ، قَالَ: فَيُقَالُ لَهُمْ: قِفُوا لِلْحِسَابِ. فَيَقُولُونَ: وَاللَّهِ مَا تَرَكْنَا شَيْئًا يُحَاسِبُ بِهِ. فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: صَدَقَ عِبَادِي. فَيَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ [قَبْلَ النَّاسِ] [2] بِسَبْعِينَ عَامًا» . [أَخْبَرَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ بْنُ الْمُبَارَكِ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَحْمَدَ، أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الأَصْبَهَانِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ، حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْكَرِيمِ الْعَبْدِيُّ، حَدَّثَنَا الْهَيْثَمُ بْنُ عَدِيٍّ، حَدَّثَنَا ثَوْرُ بْنُ يَزِيدَ، حَدَّثَنَا خَالِدُ بْنُ مَعْدَانَ] [3] قَالَ: اسْتَعْمَلَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ بِحِمْصَ سَعِيدَ بْنَ عَامِرِ بْنِ حِذْيَمٍ، فَلَمَّا قَدِمَ عُمَرُ حِمْصَ قَالَ: يَا أَهْلَ حِمْصَ، كَيْفَ وَجَدْتُمْ عَامِلَكُمْ؟ فَشَكَوْهُ إِلَيْهِ، وَكَانَ يُقَالُ لِحِمْصَ الْكُوَيْفَةُ الصَّغْرَى لِشِكَايَتِهِمُ الْعُمَّالَ قَالُوا: فَشَكَوْا أَرْبَعًا: لا يَخْرُجُ إِلَيْنَا حَتَّى يَتَعَالَى النَّهَارُ. قَالَ: أَعْظِمْ بِهَا. قال: وماذا؟ قالوا: لا يجيب أحدا بِاللَّيْلِ [4] . قَالَ:
وَعَظِيمَةٌ. قَالَ: وَمَاذَا؟ قَالُوا: وَلَهُ يَوْمٌ فِي الشَّهْرِ لا يَخْرُجُ فِيهِ إِلَيْنَا، قَالَ: وَعَظِيمَةٌ. قَالَ:
وَمَاذَا؟ قَالُوا: يَغْبِطُ الْغِبْطَةَ بَيْنَ الأَيَّامِ- أَيْ تَأْخُذُهُ مَوْتَةٌ- قَالَ: فَجَمَعَ عُمَرُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُ، وَقَالَ:
اللَّهمّ لا يُقْبَلُ رَأْيٌ فِيهِ الْيَوْمَ، مَا تَشْكُونَ مِنْهُ. قَالَ: ولا يخرج إلينا حتى يتعالى النهار.
__________
[1] «لولا» . ساقطة من ت.
[2] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[3] في الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن خالد بن معدان» .
[4] في ت: «بليل» .

(4/302)


قَالَ: وَاللَّهِ إِنْ كُنْتُ لأَكْرَهُ ذِكْرَهُ لَيْسَ لِي وَلأَهْلِي خَادِمٌ فَأَعْجِنُ عَجِينِي، ثُمَّ أَجْلِسُ حَتَّى يَخْتَمِرَ، ثُمَّ أَخْبِزُ خُبْزِي، ثُمَّ أَتَوَضَّأُ، ثُمَّ أَخْرُجُ إِلَيْهِمْ. فَقَالَ: مَا تَشْكُونَ مِنْهُ؟ فَقَالُوا: لا يُجِيبُ أَحَدًا بِاللَّيْلِ. قَالَ: مَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: إِنْ كُنْتُ لأَكْرَهُ ذِكْرَهُ إِنِّي جَعَلْتُ النَّهَارَ لَهُمْ وَاللَّيْلَ للَّه عَزَّ وَجَلَّ. قال: وما تَشْكُونَ مِنْهُ؟ قَالُوا: إِنَّ لَهُ يَوْمًا فِي الشَّهْرِ لا يَخْرُجُ إِلَيْنَا فِيهِ.
قَالَ: مَا يقولون؟ قال: ليس لي خَادِمٌ يَغْسِلُ ثِيَابِي وَلا لِي ثِيَابٌ أُبَدِّلُهَا، فَأَجْلِسُ حَتَّى تَجِفَّ، ثُمَّ أُدَلِّكُهَا، ثُمَّ أَخْرُجُ إِلَيْهِمْ مِنْ آخِرِ النَّهَارِ. قَالَ: مَا تَشْكُونَ مِنْهُ؟ قَالُوا: يَغْبِطُ الْغِبْطَةَ بَيْنَ الأَيَّامِ. قَالَ: مَا يَقُولُونَ؟ قَالَ: شَهِدْتُ مَصْرَعَ حَبِيبٍ الأَنْصَارِيِّ بِمَكَّةَ، وَقَدْ بَضَّعَتْ قُرَيْشٌ لَحْمَهُ/، ثُمَّ حَمَلُوهُ عَلَى جَدْعِهِ، فَقَالُوا: أَتُحِبُّ أَنَّ مُحَمَّدًا مَكَانَكَ؟ قَالَ:
وَاللَّهِ مَا أُحِبُّ أَنِّي فِي أَهْلِي وولدي، وأن محمدا أُشِيكَ بِشَوْكَةٍ. ثُمَّ نَادَى: يَا مُحَمَّدُ، مَا ذَكَرْتُ ذَلِكَ الْيَوْمَ، وَتَرْكِي نُصْرَتَهُ فِي تِلْكَ الْحَالِ وَأَنَا مُشْرِكٌ لا أُؤْمِنُ باللَّه الْعَظِيمِ إِلا ظَنَنْتُ أَنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ لِي ذَلِكَ الذَّنْبَ أَبَدًا، فَتُصِيبُنِي تِلْكَ الْغِبْطَةَ. فَقَالَ عُمَرُ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي لَمْ يَقْبَلْ فِرَاسَتِي. فَبَعَثَ إِلَيْهِ بِأَلْفِ دِينَارٍ، وَقَالَ: اسْتَعِنْ بِهَا عَلَى أَمْرِكَ. فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: الْحَمْدُ للَّه الَّذِي أَغْنَانَا عَنْ خِدْمَتِكَ. فَقَالَ لَهَا: فَهَلْ لَكِ فِي خَيْرٍ مِنْ ذَلِكَ نَدْفَعُهَا إِلَى مَنْ يَأْتِينَا بِهَا أَحْوَجَ مَا يَكُونُ إِلَيْهَا. قَالَتْ: نعم. فدعى رَجُلا مِنْ أَهْلِهِ يَثِقُ بِهِ، فَصَرَّرَهَا صُرَرًا، ثُمّ قَالَ: انْطَلِقْ بِهَذِهِ إِلَى أَرْمَلَةِ آلِ فُلانٍ، وَإِلَى يَتِيمِ آلِ فُلانٍ، وَإِلَى مِسْكِينِ آلِ فُلانٍ، وَإِلَى مُبْتَلَى آلِ فُلانٍ، فَبَقِيَتْ مِنْهَا ذَهَبِيَّةٌ، فَقَالَ: أَنْفِقِي هَذِهِ. ثُمَّ عَادَ إِلَى عَمَلِهِ. فَقَالَتْ: أَلا تَشْتَرِي لَنَا خَادِمًا، مَا فَعَلَ ذَلِكَ الْمَالُ؟! قَالَ: سَيَأْتِيكِ أَحْوَجَ مَا تَكُونِينَ.
توفي سَعِيد فِي هذه السنة
. 223- عياض بْن غنم بْن زهير الفهري [1] .
شهد الْحُدَيْبِيَةَ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ، وحضر فتح المدائن مَعَ سَعْد بْن أَبِي وقاص، وفتح فتوحا كثيرة ببلاد الشام، ونواحي الجزيرة، ولما احتضر أَبُو عبيدة [2] بالشام ولى عياض بْن غنم عمله، فأقره عُمَر بْن الْخَطَّاب رضي اللَّه عَنْهُ وبعثه سَعْد إلى
__________
[1] تاريخ بغداد 1/ 183، 184. والبداية والنهاية 7/ 113، 114.
[2] في ت: «عبدة» .

(4/303)


الجزيرة، فنزل بجنده عَلَى الرها، فصالحه أهلها عَلَى الجزية، وصالحت حران حيث صالحت الرها، فكان فتح الجزيرة، والرها، وحران، والرقة عَلَى يده فِي سَنَة ثمان عشرة/ وكتب لهم كتابا، وكان جوادا، فقيل لعمر: إنه يبذر المال. فَقَالَ: إِن سماحه فِي ذَات يده، فَإِذَا بلغ مال اللَّه لَمْ يعط منه شَيْئًا، فلا أعزل من ولاه أَبُو عبيدة.
[أَخْبَرَنَا أَبُو مَنْصُورٍ القزاز قال: أخبرنا أبو بَكْرٍ أَحْمَدُ بْنُ عَلِيِّ بْنِ ثَابِتٍ قَالَ: حَدَّثَنِي الأَزْهَرِيُّ، حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ إِبْرَاهِيمَ حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ سُلَيْمَانَ الطُّوسِيُّ، حَدَّثَنَا الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ قَالَ: كَانَ عِيَاضُ بْنُ غَنَمٍ شَرِيفًا، وَلَهُ فُتُوحٌ بِنَوَاحِي الْجَزِيرَةِ. فِي زَمَانِ عُمَرَ، وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ أَجَازَ الدَّرْبَ إِلَى أَرْضِ الرُّومِ] [1] .
[أَنْبَأَنَا أَبُو بَكْرِ بْنُ أَبِي طَاهِرٍ قَالَ: أَخْبَرَنَا الْجَوْهَرِيُّ قال: أخبرنا ابن حيوية قَالَ:
أَخْبَرَنَا ابْنُ مَعْرُوفٍ، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ الْفَهْمِ قال: حدثنا محمد بن سعد قال: أخبرنا مُحَمَّدُ بْنُ عُمَرَ قَالَ: حَدَّثَنِي أَبُو بَكْرِ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ] [2] ، عَنْ مُوسَى بْنِ عُقْبَةَ قَالَ: لَمَّا وَلِيَ عِيَاضُ بْنُ غَنَمٍ قَدِمَ عَلَيْهِ نَفَرٌ مِنْ أَهْلِ بَيْتِهِ يَطْلُبُونَ صِلَتَهُ، فَلَقِيَهُمْ بِالْبِشْرِ وَأَنْزَلَهُمْ وَأَكْرَمَهُمْ، فَأَقَامُوا أَيَّامًا، ثُمَّ كَلَّمُوهُ فِي الصِّلَةِ، وَأَخْبَرُوهُ بِمَا لَقَوْهُ مِنَ الْمَشَقَّةِ فِي السَّفَرِ رَجَاءَ صِلَتِهِ، فَأَعْطَى كُلَّ رَجُلٍ مِنْهُمْ عَشْرَةَ دَنَانِيرَ، وَكَانُوا خَمْسَةً، فَرَدُّوهَا وَتَسَخَّطُوا وَنَالُوا منه فقال: أي بني عَمٍّ، وَاللَّهِ مَا أُنْكِرُ قَرَابَتَكُمْ وَلا حَقَّكُمْ وَلا بُعْدَ شُقَّتِكُمْ، وَلَكِنْ وَاللَّهِ مَا خَلُصْتُ إِلَى مَا وَصَلْتُكُمْ بِهِ إِلا بِبَيْعِ خَادِمِي وَبَيْعِ مَا لا غِنَى لِي عَنْهُ فَاعْذُرُوا. قَالُوا: وَاللَّهِ مَا عَذَرَكَ اللَّهُ فَإِنَّكَ وَالِي نصف الشام، وَتُعْطِي الرَّجُلَ مِنَّا مَا جُهْدُهُ يُبَلِّغُهُ إِلَى أَهْلِهِ. قَالَ:
فَتَأْمُرُونَنِي أَنْ أَسْرِقَ مَالَ اللَّهِ، فو الله لَئَنْ أُشَقَّ بِالْمِنْشَارِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أَخُونَ فِلْسًا أَوْ أَتَعَدَّى. قَالُوا: عَذَرْنَاكَ فِي ذَاتِ يَدِكَ، فَوَلِّنَا أَعْمَالا مِنْ أَعْمَالِكَ نُؤَدِّي مَا يُؤَدِّي النَّاسُ إِلَيْكَ، وَنُصِيبُ مِنَ الْمَنْفَعَةِ مَا يُصِيبُونَ، فَأَنْتَ تَعْرِفُ حَالَنَا، وَأَنَّا لَيْسَ نَعْدُو مَا جَعَلْتَ لَنَا. قَالَ: وَاللَّهِ لأَنِّي أَعْرِفُكُمْ بِالْفَضْلِ وَالْخَيْرِ، وَلَكِنْ يَبْلُغُ عُمَرَ أَنِّي وَلَيَّتُ نَفَرًا مِنْ قَوْمِي فَيَلُومُنِي. قَالُوا: فَقَدْ وَلاكَ أَبُو عُبَيْدَةَ وَأَنْتَ مِنْهُ فِي الْقَرَابَةِ بحيث أنت فأنفذ ذلك عمر، فلو
__________
[1] هذا الخبر ساقط من الأصل.
[2] في الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن موسى بن عقبة» .

(4/304)


وَلَّيْتَنَا أَنْفَذَهُ. قَالَ: إِنِّي لَسْتُ عِنْدَ عُمَرَ كَأَبِي عُبَيْدَةَ. فَمَضَوْا لائِمِينَ لَهُ.
وَمَاتَ وَلا مَالَ لَهُ، وَلا عَلَيْهِ دَيْنٌ لأَحَدٍ، سَنَةَ [عِشْرِينَ] [1] وَهُوَ ابْنُ سِتِّينَ سَنَةً
. 224- مَالِك/ بْن التيهان، أَبُو الهيثم [2] .
كَانَ يكره الأصنام فِي الجاهلية، وَيَقُول بالتوحيد هُوَ وأسعد بْن زرارة، وَكَانَ أول من أسلم من الأنصار الَّذِينَ لقوا رسول الله صَلى اللهُ عَلَيه وآله وَسَلَّمَ بمكة، ثُمَّ شهد العقبة مَعَ السبعين، وَهُوَ أحد النقباء الاثني عشر، شهد بدرا والمشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، وبعثه رسول الله صلى الله عليه وآله وَسَلَّمَ إِلَى خيبر خارصا.
وتوفي بالمدينة فِي هذه السنة
. 225- هرقل ملك الروم.
وَقَدْ سبقت أخباره ومكاتبة الرسول صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ إياه، وغير ذَلِكَ.
مَات فِي هذه السنة، وولي مكانه ابنه قسطنطين
. 226- أم ورقة بنت الْحَارِث [3] .
أسلمت وبايعت رَسُول اللَّه صَلَّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ وكانت قَدْ جمعت الْقُرْآن، وأمرها النَّبِي صلّى الله عليه وآله وسلم أَن تؤم أَهْل دارها، فكانت تؤمهم.
[أَخْبَرَنَا محمد بن عبد الباقي بْنِ سُلَيْمَان قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ أَحْمَدَ الْحَدَّادُ قَالَ: أَخْبَرَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ الْحَافِظُ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ أَحْمَدَ بْنِ الْحَسَنِ قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ الْحَرْبِيُّ قَالَ: حَدَّثَنَا أَبُو نُعَيْمٍ قَالَ] [4] : حَدَّثَنَا الْوَلِيدُ بْنُ جَمِيعٍ قَالَ:
حَدَّثَتْنِي جَدَّتِي عَنْ أُمِّهَا أُمِّ وَرَقَةَ بِنْتِ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَارِثِ الأَنْصَارِيَّةِ- وَكَانَ رَسُولُ الله صلّى الله عليه وآله وَسَلَّمَ يَزُورُهَا وَيُسَمِّيهَا الشَّهِيدَةَ، وَكَانَتْ قَدْ جَمَعَتِ الْقُرْآنَ، وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وسلم حين
__________
[1] ما بين المعقوفتين ساقط من الأصل.
[2] البداية والنهاية 7/ 114. والطبقات الكبرى 3/ 2/ 21.
[3] الطبقات الكبرى 8/ 335.
[4] في الأصل: «روى المؤلف بإسناده عن الوليد بن جميع» .

(4/305)


غَزَا بَدْرًا قَالَتْ لَهُ: ائْذَنْ لِي فَأَخْرُجُ مَعَكَ وَأُدَاوِي جَرْحَاكُمْ وَأُمَرِّضُ مَرْضَاكُمْ لَعَلَّ اللَّهَ يُهْدِي لِي الشَّهَادَةَ. قَالَ: «إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ مَهَّدَ لَكِ الشَّهَادَةَ» حَتَّى عَدَّى عَلَيْهَا جارية [1] وغلام لها كانت قد دبّرتهما فقتلاهما فِي إِمَارَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، فَقَالَ عُمَرُ: صَدَقَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وآله وَسَلَّمَ كَانَ يَقُولُ: «انْطَلِقُوا بِنَا/ نَزُورُ الشَّهِيدَةَ» [2] .
__________
[1] في الأصل: «غدا عليه حارثة» .
[2] الطبقات الكبرى 8/ 335.

(4/306)