النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
ذكر ولاية قيس بن
سعد بن عبادة على مصر
هو قيس بن سعد بن عبادة بن دليم الأنصاري الخزرجي المدني؛ قال الذهبي:
كان من النبي صلى الله عليه وسلم بمنزلة، وله عدة أحاديث، روى عنه عبد
الرحمن بن أبي ليلى وعروة بن الزبير والشعبىّ وميمون بن أبى شبيب وغريب
ابن حميد الهمدانىّ وجماعة، وكان ضخما جسما طويلاً جداً سيداً مطاعاً
كثير المال جواداً كريماً يعد من دهاة العرب. قال عمرو بن دينار: كان
ضخماً جسيماً صغير الرأس ليست له لحية، وإذا ركب الحمار خطت رجلاه
الأرض؛ روى عنه أنه قال:
لولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «المكر والخديعة في
النار» لكنت من أمكر هذه الأمة. وقال الزهري: أخبرنا ثعلبة بن أبى مالك
أنّ قيس ابن سعد كان صاحب لواء رسول الله صلى الله عليه وسلم. وقال
جويرية بن أسماء:
كان قيس يستدين ويطعمهم، فقال أبو بكر وعمر: إن تركنا هذا الفتى أهلك
مال
(1/95)
أبيه، فمشيا في الناس فصلى النبي صلى الله
عليه وسلم يوماً فقام سعد بن عبادة خلفه، فقال: من يعذرني من ابن أبي
قحافة وابن الخطاب يبخلان علي ابني اهـ.
وقال موسى بن عقبة: وقفت على قيس عجوز فقالت: أشكو إليك قلة الجرذان،
فقال: ما أحسن هذه الكناية! املئوا بيتها خبزاً ولحماً وسمناً وتمراً.
وقال أبو تميلة «1» يحيى بن واضح: أخبرنا أبو عثمان من ولد الحارث بن
الصمة قال: بعث قيصر إلى معاوية: ابعث إلي سراويل أطول رجل من العرب،
فقال لقيس بن سعد: ما أظن إلا قد احتجنا إلى سراويلك، فقام وتنحى وجاء
بها فألقاها، فقال:
ألا ذهبت إلى منزلك ثم بعثت بها! فقال:
أردت بها أن يعلم الناس أنها ... سراويل قيس والوفود شهود
وألا يقولوا غاب قيس وهذه ... سراويل عادي نمته ثمود
وإني من الحي اليماني لسيد ... وما الناس إلا سيد ومسود
فكدهم بمثلي إن مثلي عليهم ... شديد وخلقي في الرجال مديد
فأمر معاوية أطول رجل في الجيش فوضعها على أنفه، قال: فوقفت بالأرض
اهـ.
ولما ولاه أمير المؤمنين علي بن أبي طالب على مصر لما ولي الخلافة بعد
قتل عثمان وبعثه إلى مصر فوصل إليها في مستهل شهر ربيع الأول سنة سبع
وثلاثين فدخلها قيس ومهد أمورها واستمال الخارجية بخربتا من شيعة عثمان
ورد عليهم أرزاقهم، وقدموا عليه بمصر فأكرمهم وأنعم عليهم، وكان عنده
رأي ومعرفة ودهاء، فعظم على معاوية بن أبي سفيان وعمرو بن العاص ولايته
لمصر فإنه كان من حزب علي بن أبي طالب رضي الله عنه، واجتهدا كثيراً
ليخرجاه منها فلم يقدرا على ذلك
(1/96)
حتى عمل معاوية على قيس من قبل علي بن أبي
طالب وأشاع أن قيساً من شيعته ومن حزبه، وأنه يبعث إليه بالكتب
والنصيحة سراً، ولا زال يظهر ذلك حتى بلغ علياً، وساعده في ذلك محمد بن
أبي بكر الصديق لحبه مصر أو لإمرتها وعبد الله بن جعفر، فما زالا بعلي
حتى كتب لقيس بن سعد يأمره بالقدوم عليه، وعزله عن مصر، فكانت ولايته
على مصر من يوم دخلها إلى أن صرف عنها أربعة أشهر وخمسة أيام وكان عزله
في خامس رجب من سنة سبع وثلاثين، وولي عليها الأشتر النخعي.
وروينا عن أبى المظفر شمس الدين يوسف بن قزأ وغلى كما أخبرنا أبو الحسن
علي بن صدقة الشافعي أخبرنا القاضي الإمام تاج الدين أحمد الفرغاني
الحنفي أخبرنا حيدرة بن المحيا العباسي حدثنا صالح بن الصباغ أخبرنا
أبو المؤيد محمود قال حدثنا الحافظ شمس الدين يوسف بن قزأوغلى إجازة
بكتابه «مرآة الزمان» قال: خرج قيس ابن سعد بن عبادة من عند علي حتى
دخل مصر في سبعة نفر وصعد المنبر وقعد عليه وقرأ كتاب علي على الناس،
وفيه: «من عبد الله علي بن أبي طالب أمير المؤمنين إلى من بلغه كتابي
هذا من المسلمين والمؤمنين سلام عليكم، أما بعد، فإني أحمد إليكم الله
الذي لا إله إلا هو، وأصلي على رسوله صلى الله عليه وسلم، وذكر
الأنبياء وأن الله توفى رسوله وأستخلف بعده خليفتين صالحين عملا
بالكتاب والسنة وأحسنا السيرة ثم توفاهما الله تعالى على ما كانا عليه،
ثم ولي بعدهما والٍ أحدث أحداثاً فوجدت عليه الأمة مقالاً [فقالوا ثم
«1» ] نقموا عليه وغيروه، ثم جاءونى وبايعوني، ولله علي العمل بكتابه
وسنة رسوله والنصح للرعية ما بقيت والله المستعان، وبعثت إليكم بقيس بن
سعد بن عبادة أميراً، فوازروه وعاشروه وأعينوه على الحق، وقد أمرته
بالإحسان
(1/97)
إلى محسنكم والشدة على مريبكم والرفق
بعوامكم وخواصكم، وهو ممن أرضى هديه وأرجو صلاحه ونصيحته، وأسأل الله
لنا ولكم عملاً صالحاً وثواباً جزيلاً ورحمةً واسعة والسلام عليكم.
وكتبه عبد الله «1» بن أبي طالب في رابع صفر سنة ست وثلاثين» ثم قال
قيس: أيها الناس قد جاء الحق وزهق الباطل، وبايعنا خير من نعلم بعد
نبينا صلى الله عليه وسلم فقوموا فبايعوا على كتاب الله وسنة رسوله صلى
الله عليه وسلم فإن نحن لم نعمل بذلك فلا بيعة لنا عليكم، فقام الناس
وبايعوا واستقامت مصر، وبعث عليها عماله إلا قرية من قرى مصر يقال لها:
«خربتا» فيها أناس قد أعظموا قتل عثمان، وبها رجل من كنانة من بني مدلج
يقال له: يزيد بن الحارث بن مدلج، فأرسلوه إلى قيس بن سعد: إنا لا
نقاتلك فابعث عمالك فالأرض أرضك، ولكن أقرنا على حالنا حتى ننظر ما
يصير إليه أمر الناس. ووثب مسلمة بن مخلد الأنصاري فنعى عثمان ودعا إلى
الطلب بدمه، فأرسل إليه قيس بن سعد: ويحك! علىّ تثب! فو الله ما أحب أن
لي ملك مصر إلى الشأم وأني قتلتك فبعث إليه مسلمة يقول:
إني كاف عنك ما دمت والي مصر، وكان قيس بن سعد له رأي وحزم، فبعث إلى
الذين بخربتا: إني لا أكرهكم على البيعة وأكف عنكم، فهادنهم وهادن
مسلمة ابن مخلد وأقام قيس يجبي الخراج ولا ينازعه أحد من الناس، وخرج
أمير المؤمنين إلى وقعة الجمل ورجع إلى الكوفة وقيس مكانه، فكان قيس
أثقل خلق الله على معاوية بن أبى سفيان لفربه من الشأم مخافة أن يقفل
عليه علي بن أبي طالب من العراق ويقبل إليه قيس بأهل مصر فيقع معاوية
بينهما فأخذ يخدعه.
فكتب معاوية إلى قيس:
(1/98)
«من معاوية بن أبي سفيان إلى قيس بن سعد بن
عبادة: سلام عليك، أما بعد، فإنكم إن كنتم نقمتم على عثمان في أمور
رأيتموها أو ضربة سوط ضربها أو شتمة شتمها أو في سيرٍ سيره أو في
استعماله الفيء فقد علمتم أن دمه لم يكن حلالاً لكم، فقد ركبتم عظيما
من الأمر وجئتم شيئا إدّا، فتب إلى الله يا قيس بن سعد، فإنك ممن أعان
على قتل عثمان، إن كانت التوبة من قتل المؤمن تغني شيئاً؛ وأما صاحبك
فقد تيقنا أنه الذي أغرى به وحملهم على قتله حتى قتلوه، وأنه لم يسلم
من دمه عظم قومك، فإن استطعت أن تكون ممن يطلب بدم عثمان فافعل، فأن
بايعتنا على هذا الأمر فلك سلطان العراقين، ولمن شئت من أهلك سلطان
الحجاز ما دام لي سلطان، وسلني غير هذا مما تحب، فإنك لا تسألني شيئاً
إلا أوتيته، واكتب إلي برأيك فيما كتبت به إليك والسلام» .
فلما جاءه كتاب معاوية أحب قيس أن يدافعه ولا يبدي له أمره ولا يتعجل
حربه؛ فكتب إليه:
«أما بعد، فقد بلغني كتابك وفهمت ما ذكرت فيه، فأما ما ذكرت من أمر
عثمان فذلك أمر لم أقار «1» به ولم أتنطف «2» به؛ وأما قولك: إن صاحبي
أغرى الناس بعثمان فهذا أمر لم أطلع عليه، وذكرت أن معظم عشيرتي لم
يسلموا من دم عثمان، فأول الناس فيه قياماً عشيرتي ولهم أسوة غيرهم؛
وأما ما ذكرت من مبايعتي إياك وما عرضت علي فلي فيه نظر وفكرة وليس هذا
مما يسارع إليه، وأنا كاف عنك ولن يبدو لك من قبلي شيء مما تكره
والسلام» .
(1/99)
فلما قرأ كتابه معاوية لم يره إلا مباعداً
مفارقاً فلم يأمن مكره ومكيدته، فكتب إليه ثانياً:
«أما بعد، فقد قرأت كتابك فلم أرك تدنو فأعدك سلماً، ولم أرك مباعداً
فأعدك حرباً، وليس مثلي من يخدع وبيده أعنة الخيل ومعه أعداد الرجال
والسلام» .
فلما قرأ قيس كتابه ورأى أنه لا يقبل منه المدافعة والمماطلة أظهر له
ما في نفسه، وكتب إليه:
«أما بعد، فالعجب من اغترارك بي يا معاوية وطمعك في تسومني الخروج عن
طاعة أولى الناس بالإمرة، وأقربهم بالخلافة، وأقولهم بالحق، وأهداهم
سبيلاً، وأقربهم إلى رسوله وسيلة، وأوفرهم فضيلة، وتأمرني بالدخول في
طاعتك طاعة أبعد الناس من هذا الأمر، وأقولهم بالزور وأضلهم سبيلاً،
وأبعدهم من الله ورسوله [وسيلة «1»
] ولد ضالين مضلين طاغوت «2» من طواغيت إبليس، وأما قولك: معك أعنة
الخيل وأعداد الرجال لتشتغلن بنفسك حتى العدم.
وقال هشام: ولما رأى معاوية أن قيس بن سعد لا يلين له كاده من قبل علي؛
وكذا روى عبد الله بن أحمد بن حنبل باسناده اهـ.
وقال هشام بن محمد: عن أبي مخنف وجه آخر في حديث قيس بن سعد ومعاوية،
قال: لما أيس معاوية من قيس بن سعد شقّ عليه لما يعرف من حزمه وبأسه،
فأظهر للناس أن قيساً قد بايعه، واختلق معاوية كتاباً فقرأه على أهل
الشأم وفيه:
(1/100)
أما بعد، لما نظرت أنه لا يسعني مظاهرة قوم
قتلوا إمامهم محرماً مسلماً برأ تقيا مستغفرا وإنى معكم على قتله بما
أحببتم من الأموال والرجال متى شئتم عجلت إليكم.
قال: فشاع في أهل الشأم أن قيساً قد بايع معاوية وبلغ علياً ذلك فأكبره
وأعظمه، فقال له عبد الله بن جعفر: دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، اعزل
قيساً عن مصر، فقال علي: والله ما أصدق هذا على قيس، ثم عزله وولى
الأشتر، وقيل محمد بن أبي بكر الصديق في قول ابن سيرين، فلما عزله عرف
قيس أن علياً قد خدع وتوجه إليه وصار معه؛ قال عروة: وكان قيس بن سعد
مع علي في مقدّمته ومعه خمسة آلاف قد حلقوا رءوسهم بعد موت علي، فلما
دخل الجيش في بيعة معاوية أبى قيس أن يدخل، وقال لأصحابه: ما شئتم، إن
شئتم جالدت بكم أبداً حتى يموت الأعجل، وإن شئتم أخذت لكم أماناً،
قالوا: خذ لنا ففعل؛ فلما ارتحل نحو المدينة جعل ينحر كل يوم جزوراً.
قال الواقدي وغيره: إنه توفي في آخر خلافة معاوية رضي الله عنهم
أجمعين.
السنة التي حكم في بعضها قيس بن سعد بن عبادة على مصر وهي سنة ست
وثلاثين- فيها كانت وقعة الجمل بين علي رضي الله عنه وبين عائشة أم
المؤمنين رضي الله عنها ومعها طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام
وغيرهما، وكانت فيها مقتلةً عظيمة قتل فيها عدة من الصحابة وغيرهم؛ قال
البلاذري: التقوا بمكان يقال له «الخريبة» في جمادى الأولى سنة ست
وثلاثين اهـ.
قلت: وممن قتل في هذه الوقعة طلحة بن عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن
كعب ابن سعد بن تيم بن مرة التيمي، أحد السابقين الأولين، وأحد العشرة
المشهود لهم بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى بعد موت عمر بن الخطاب قتله
مروان بن الحكم
(1/101)
في منصرفه من وقعة الجمل بساعة، وكان مروان
مع عائشة أيضاً غير أنه لما رأى انصرافه رمى عليه بسهم قتله، وقال
لأبان بن عثمان بن عفان: قد كفيتك بعض قتلى أبيك- يعني أنه كان موارياً
على عثمان في أول الأمر- وفيها قتل الزبير بن العوّام ابن خالد بن أسد
بن عبد العزى بن قصي بن كلاب أبو عبد الله القرشىّ الأسدىّ المكي حواري
رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمته صفية، وأحد العشرة المشهود لهم
بالجنة، وأحد الستة أهل الشورى، شهد بدراً وأحداً والمشاهد كلها، أسلم
وهو ابن ست عشرة سنة وهو من السابقين، قتله عمير «1» بن جرموز بعد
انصرافه من وقعة الجمل بساعة؛ وفيها توفي حذيفة بن اليمان واسم اليمان
حسيل (ويقال حسيل بالتصغير) بن جابر بن أسيد، وقيل ابن عمرو، أبو عبد
الله العبسي حليف الأنصار، صاحب سر رسول الله صلى الله عليه وسلم؛
وفيها توفي سلمان الفارسي رضي الله عنه في قول وقد تقدم ذكره.
أمر النيل في هذه السنة، الماء القديم سبعة أذرع وثمانية عشر إصبعاً،
مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعا وإصبعان.
ذكر ولاية الأشتر النخعي على مصر
وفي ولاية الأشتر هذا على مصر قبل محمد بن أبي بكر الصديق اختلاف كثير،
حكى جماعة كثيرة من المؤرخين وذكروا ما يدل على أنّ ولاية محمد بن أبي
بكر كانت هي السابقة بعد عزل قيس بن سعد بن عبادة، وجماعة قدموا ولاية
الأشتر هذا، ولكل منهما استدلال قوي، والذين قدموا الأشتر هم الأكثر،
وقد رأيت في عدة كتب ولاية الأشتر هي المقدمة فقدّمته لذلك.
(1/102)
والأشتر اسمه مالك بن الحارث، قال أبو
المظفر في مرآة الزمان: قال علماء السيرة كابن إسحاق وهشام والواقدي
قالوا: لما اختل أمر مصر على محمد بن أبي بكر الصديق وبلغ أمير
المؤمنين علي بن أبي طالب قال: ما لمصر إلا أحد الرجلين، صاحبنا الذي
عزلناه عنها- يعني قيس بن سعد بن عبادة- أو مالك ابن الحارث- يعني
الأشتر هذا.
قلت: وهذا مما يدل على أن ولاية محمد بن أبي بكر الصديق كانت هي
السابقة، اللهم إلا إن كان لما اختل أمر مصر على محمد عزله علي رضي
الله عنه بالأشتر، ثم استمر محمد ثانياً بعد موت الأشتر على عمله حتى
وقع من أمره ما سنذكره، وهذا هو أقرب للجمع بين الأقوال لأن الأشتر
توفي قبل دخوله إلى مصر والله أعلم؛ وكان علىّ رضى الله عنه حين انصرف
من صفين رد الأشتر إلى عمله على الجزيرة وكان عاملا عليها، فكتب إليه
وهو يومئذ بنصيبين: سلام عليك يا مالك، فإنك ممن استظهرتك على إقامة
الدين؛ وكنت قد وليت محمد بن أبي بكر مصر فخرجت عليه خوارج، وهو غلام
حدث السن غر ليس بذي تجربة للحرب ولا مجرب للأشياء، فاقدم علي لننظر في
ذلك كما ينبغي واستخلف على عملك أهل الثقة والنصفة من أصحابك والسلام.
فأقبل مالك- أعني الأشتر- على علي رضي الله عنه فأخبره بحديث محمد وما
جرى عليه، وقال: ليس لها غيرك، فاخرج رحمك الله فإني إن لم أوصك اكتفيت
برأيك فاستعن بالله على ما أهمك، واخلط الشدة باللين وارفق ما كان
الرفق أبلغ. فخرج الأشتر من عند علي وأتى رحله وتهيأ للخروج إلى مصر،
وكتب عيون معاوية إليه بولاية الأشتر على مصر فشق عليه وعظم ذلك لديه،
وكان قد طمع في مصر وعلم أن الأشتر متى قدمها كان أشد عليه، فكتب
معاوية إلى الخانسيار «1»
(1/103)
(رجل من أهل الخراج، وقيل كان دهقان
القلزم) يقول: إن الأشتر واصل إلى مصر قد وليها، فإن أنت كفيتني إياه
لم آخذ منك خراجاً ما بقيت، فأقبل لهلاكه بكل ما تقدر عليه؛ فخرج
الخانسيار حتى قدم القلزم فأقام به، وخرج الأشتر من العراق يريد مصر
حتى قدم إلى القلزم فاستقبله الخانسيار فقال له: انزل فإني رجل من أهل
الخراج وقد أحضرت ما عندي، فنزل الأشتر فأتاه بطعام وعلف وسقاه شربة من
عسل جعل فيها سماً، فلما شربه مات، وبعث الخانسيار [من «1» ] أخبر
بموته معاوية، فلما بلغ معاوية وعمرو بن العاص موت الأشتر قال عمرو بن
العاص:
إن لله جنوداً من عسل.
وقال ابن الكلبي عن أبيه: لما سار الأشتر إلى مصر أخذ في طريق الحجاز
فقدم المدينة، فجاءه مولى لعثمان بن عفان يقال له نافع، وأظهر له الود
وقال له:
أنا مولى عمر بن الخطاب، فأدناه الأشتر وقرّ به ووثق به وولاه أمره،
فلم يزل معه إلى عين شمس (أعني المدينة الخراب خارج مصر بالقرب من
المطرية) وفيها ذلك العمود المذكور في أول أحوال مصر من هذا الكتاب،
فلما وصل إلى عين شمس تلقاه أهل مصر بالهدايا؟؟؟ وسقاه نافع المذكور
العسل فمات منه.
وقال ابن سعد: إنه سم بالعرش؛ وقال الصوري: صوابه بالقلزم؛ وقال أبو
اليقظان: كان الأشتر قد ثقل على أمير المؤمنين علي أمره، وكان متجريا
عليه مع شدة محبته له.
وحكي عن عبد الله بن جعفر قال: كان علي قد غضب على الأشتر وقلاه
واستثقله، فكلمني أن أكلمه فيه، فقلت: يا أمير المؤمنين، وله مصر فإن
ظفروا به استرحت منه فولاه، وكانت عائشة رضي الله عنها قد دعت عليه
فقالت: اللهم
(1/104)
ارمه بسهم من سهامك؛ واختلفوا في وفاة
الأشتر، فقال ابن يونس: مات مسموماً سنة سبع وثلاثين، وقال هشام: سنة
ثمان وثلاثين في رجب؛ وكان الأشتر شجاعاً مقداماً، وقصته مع عبد الله
بن الزبير مشهورة، وقول ابن الزبير بسببه:
اقتلاني ومالكاً ... واقتلا مالكاً معي
حتى صار هذا البيت مثلاً.
وشرح ذلك: أن مالك بن الحارث (أعني الأشتر النخعي) كان من الشجعان
الأبطال المشهورين، وكان من أصحاب علي وكان معه في يوم وقعة الجمل،
فتماسك في الوقعة هو وعبد الله بن الزبير بن العوام، وكان عبد الله
أيضاً من الشجعان المشهورين، وكان عبد الله بن الزبير من حزب أبيه،
وخالته عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهم، وكانوا يحاربون علياً رضي
الله عنه فلما تماسكا صار كل واحد منهما إذا قوي على الآخر جعله تحته
وركب صدره، وفعلا ذلك مراراً وابن الزبير يقول:
اقتلاني ومالكاً ... واقتلا مالكاً معي
يريد قتل الأشتر بهذا القول والمساعدة عليه حتى افترقا من غير أن يقتل
أحدهما الآخر؛ وقال عبد الله بن الزبير المذكور: لقيت الأشتر النّخعىّ
يوم الجمل فما ضربته ضربة إلا ضربني ستاً أو سبعاً، ثم أخذ رجلي
وألقاني في الخندق وقال: والله لولا قرابتك من رسول الله صلى الله عليه
وسلم ما اجتمع منك عضو إلى عضو أبداً.
وقال ابن قيس: دخلت مع عبد الله بن الزبير الحمام واذا فى رأسه ضربة لو
صبّ فيها قارورة لاستقر، فقال: أتدري من ضربني هذه الضربة؟ قلت:
لا، قال: ابن عمك الأشتر النخعىّ.
(1/105)
وقال أبو بكر بن أبي شيبة: أعطت عائشة رضي الله عنها لمن بشرها بسلامة
ابن أختها عبد الله بن الزبير لما لاقى الأشتر عشرة آلاف درهم. وقيل:
أن الأشتر دخل بعد ذلك على عائشة رضي الله عنها، فقالت له: يا أشتر،
أنت الذي أردت قتل ابن أختي يوم الوقعة، فأنشد:
أعائش لولا أنني كنت طاوياً ... ثلاثاً لألفيت ابن أختك هالكا
غداة ينادي والرماح تنوشه ... بأخر صوتٍ اقتلاني ومالكا
فنجاه مني أكله وسنانه ... وخلوة جوف لم يكن متمالكا |