النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

ذكر ولاية محمد بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه على مصر
هو محمد بن أبي بكر الصديق، واسم أبي بكر عبد الله بن أبي قحافة، واسم أبي قحافة عثمان؛ أسلم أبو قحافة يوم الفتح فأتى به ابنه أبو بكر الصديق إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقوده لكبر سنه، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «لم لا تركت الشيخ حتى نأتيه» إجلالاً لأبي بكر رضى الله عنه. اهـ.
وأبو قحافة المذكور ابن عامر بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم بن مرة بن كعب بن لؤي القرشي التيمي، وكنية محمد هذا (أعني صاحب الترجمة) أبو القاسم، وأمه أسماء بنت عميس الخثعمية، ومولده سنة حجة الوداع بذي الحليفة في عقب ذى القعدة، فأراد أبو بكر أن يردّ أسماء إلى المدينة، فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «مرها أن تغتسل وتهل» وكان محمد هذا في حجر علي بن أبي طالب رضي الله عنه لما تزوج أمه أسماء بعد وفاة أبي بكر الصديق فتولى تربيته، ولما سار علي إلى وقعة الجمل كان محمد هذا معه على الرجالة، ثم شهد معه وقعة صفين،

(1/106)


ثم ولاه مصر فتوجه إليها ودخلها في النصف من شهر رمضان سنة سبع وثلاثين، فتلقاه قيس بن سعد المعزول عن ولاية مصر، وقال له: يا أبا القاسم، إنك قد جئت من عند أمير لا رأي له، وليس عزله إياي بمانعي أن أنصح لك وله، وأنا من أمركم هذا على بصيرة، وإني أدلك على الذي كنت أكيد به معاوية وعمراً وأهل خربتا فكايدهم به، فإنّك إن كايدتهم بغيره تهلك، ووصف له المكايدة التى يكايدهم بها فاستغشه محمد بن أبي بكر وخالفه في كل شيء أمره به، ثم كتب إليه علي يشجعه ويقوي عزمه، ففتك محمد في المصريين وهدم دور شيعة عثمان بن عفان ونهب دورهم وأموالهم وهتك ذراريهم، فنصبوا له الحرب وحاربوه، ثم صالحهم على أن يسيرهم إلى معاوية، فلحقوا بمعاوية في الشام، وكان أهل الشام لما انصرفوا من وقعة صفين ينتظرون ما يأتي به الحكمان؛ فلما اختلف الناس بالعراق على علي رضي الله عنه طمع معاوية في مصر، وكان أهل خربتا عثمانية ومن كان من الشيعة كان أكثر منهم، فكان معاوية يهاب مصر لأجل الشيعة وقصد معاوية أن يستعين بأخذ مصر على حرب علي رضي الله عنه قال: فاستشار معاوية أصحابه عمرو بن العاص وحبيب بن مسلمة وبسر بن أبي أرطاة والضحاك بن قيس وعبد الرحمن ابن خالد وأبا الأعور عمرو بن سفيان السلمي وغيرهم (وهؤلاء المذكورين كانوا خواصّه) فجمع المذكورين وقال: هل تدرون ما أدعوكم إليه؟ قالوا: لا يعلم الغيب إلا الله، فقال له عمرو بن العاص: نعم، أهمك أمر مصر وخراجها الكثير وعدد أهلها فتدعونا لنشير عليك فيها فاعزم وانهض، في افتتاحها عزك وعز أصحابك وكبت عدوك، فقال له: يا بن العاص، إنما أهمك الذي كان بيننا (يعني أنه كان أعطاه مصر لما صالحه على قتال علي) وقال معاوية للقوم: ما ترون؟ قالوا:
ما نرى إلا رأي عمرو، قال: فكيف أصنع؟ فقال عمرو: ابعث جيشاً كثيفاً

(1/107)


عليهم رجل حازم صارم تثق إليه فيأتي إلى مصر، فإنه سيأتيه من كان من أهلها على رأينا فنظاهره على من كان بها من أعدائنا، قال معاوية: أو غير ذلك؟ قال:
وما هو؟ قال: نكاتب من بها من شيعتنا نأمرهم على أمرهم ونمنيهم قدومنا عليهم فتقوى قلوبهم ونعلم صديقنا من عدوّنا، وإنّك يا بن العاص بورك لك فى العجلة، قال عمرو: فاعمل برأيك فو الله ما أرى أمرك إلا صائراً للحرب، قال: فكتب إليهم معاوية كتاباً يثني عليهم ويقول: هنيئاً لكم بطلب دم الخليفة المظلوم وجهادكم أهل البغي، وقال في آخره: فاثبتوا فإن الجيش واصل إليكم والسلام. وبعث بالكتاب مع مولى يقال له سبيع فقدم مصر، وأميرها محمد بن أبي بكر الصديق، فدفع الكتاب إلى مسلمة بن مخلد الأنصاري وإلى معاوية بن حديج، فكتبا جوابه:
أما بعد، فعجل علينا بخيلك ورجلك، فإن عدونا قد أصبحوا لنا هائبين، فإن أتانا المدد من قبلك يفتح الله علينا، وذكرا كلاماً طويلاً؛ وكان مسلمة ومعاوية ابن حديج يقيمان بخربتا في عشرة آلاف، وقد باينوا محمد بن أبي بكر ولم يحسن محمد تدبيرهم كما كان يفعله معهم قيس بن سعد بن عبادة أيام ولايته على مصر، فلذلك انتقضت على محمد الأمور وزالت دولته؛ ولما وقف معاوية على جوابهما وكان يومئذ بفلسطين جهز عمرو بن العاص في ستة آلاف وخرج معه معاوية يودعه وأوصاه بما يفعل، وقال له: عليك بتقوى الله والرفق فإنه يمن والعجلة من الشيطان، وأن تقبل ممن أقبل وتعفو عمن أدبر، فإن قبل فهذه نعمة، وإن أبى فإن السطوة بعد المعذرة أقطع من الحجة، وادع الناس إلى الصلح والجماعة؛ فسار عمرو حتى وصل الى مصر واجتمعت العثمانية عليه، فكتب عمرو إلى محمد بن أبي بكر صاحب مصر.

(1/108)


أما بعد، فنحّ عنّى بدمك فإني لا أحب أن يصيبك مني قلامة ظفر، والناس بهذه البلاد قد اجتمعوا على خلافك [وهم مسلموك «1» ] فاخرج منها إني لك من الناصحين؛ ومعه كتاب معاوية يقول: يا محمد، إن [غب «2» ] البغي والظلم عظيم الوبال، وسفك الدماء الحرام من النقمة في الدنيا والآخرة، وإنا لا نعلم أحداً كان على عثمان أشد منك، فسعيت عليه مع الساعين وسفكت دمه مع السافكين، ثم أنت تظن أني نائم عنك وناس سيئاتك، وكلام طويل من هذا النمط حتى قال: ولن يسلمك الله من القصاص أينما كنت والسلام. فطوى محمد الكتابين وبعث بهما إلى علي بن أبي طالب وفي ضمنهما يستنجده ويطلب منه المدد والرجال، فرد عليه الجواب من عند علي بن أبي طالب بالوصية والشدة، ولم يمده بأحد.
ثم كتب محمد إلى معاوية وعمرو كتاباً خشن لهما فيه في القول، ثم قام محمد في الناس خطيباً فقال:
أما بعد، فإن القوم الذين ينتهكون الحرمة ويشبّون نار الفتنة قد نصبوا لكم العداوة وساروا إليكم بجيوشهم، فمن أراد الجنة فليخرج اليهم فليجاهدهم في الله، انتدبوا مع كنانة بن بشر؛ فانتدب مع كنانة نحواً من ألفي رجل، ثم خرج محمد بن أبي بكر في ألفي رجل، واستقبل عمرو بن العاص كنانة وهو على مقدمة محمد، وكنانة «3» يسرح لعمرو الكتائب، فلما رأى عمرو ذلك بعث إلى معاوية بن حديج السكوني.
وفي رواية لما رأى عمرو كنانة سرح إليه الكتائب من أهل الشام كتيبة بعد كتيبة وكنانة يهزمها فاستنجد عمرو بمعاوية بن حديج السكوني فسار في أصحابه وأهل الشام فأحاطوا بكنانة.

(1/109)


فلما رأى كنانة ذلك ترجل عن فرسه وترجل أصحابه، وقرأ وَما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلًا
إلى قوله وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ
فقاتل حتى قتل بعد أن قتل من أهل الشام مقتلة عظيمة، فلما رأى أصحاب محمد ذلك تفرقوا عنه فنزل محمد عن فرسه ومشى حتى انتهى إلى خربة فأوى إليها، وجاء عمرو بن العاص ودخل الفسطاط؛ وخرج معاوية بن حديج فى طلب محمد بن أبي بكر، فسأل قوماً من العلوج وكانوا على الطريق فقال: هل رأيتم رجلاً من صفته كذا وكذا؟ فقال واحد منهم: قد دخل تلك الخربة، فدخلوها فإذا برجل جالس، فقال معاوية بن حديج: هو ورب الكعبة، فدخلوها واستخرجوه وقد كاد يموت عطشاً، فأقبلوا به على الفسطاط ووثب أخوه عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق إلى عمرو بن العاص وكان في جنده، فقال: أيقتل أخي صبراً؟ فأرسل عمرو إلى معاوية بن حديج يأمره أن يأتيه بمحمد بن أبي بكر كرامة لأخيه عبد الرحمن ابن أبي بكر، فقال معاوية: أيقتل كنانة بن بشر وأخلي أنا محمداً هيهات هيهات! فقال محمد: اسقوني ماء، فقال معاوية بن حديج: لا سقاني الله إن سقيتك قطرة، إنكم منعتم عثمان الماء، ثم قتلتموه صائماً فتلقاه الله بالرحيق المختوم، والله لأقتلنّك يا بن أبي بكر فليسقك الله من الجحيم؛ فقال محمد لمعاوية: يا بن اليهودية النساجة ليس ذلك إليك، أما والله لو كان سيفي بيدي ما بلغتم بي هذا؛ فقال له معاوية:
أتدري ما أصنع بك؟ أدخلك في جوف حمار، ثم أحرقه عليك بالنار؛ قال محمد:
إن فعلتم ذلك لطالما فعلتموه بأولياء الله تعالى؛ ثم طال الكلام بينهما حتى أخذ معاوية محمداً ثم ألقاه في جيفة حمار ميت ثم حرقه بالنار؛ وقيل: إنه قطع رأسه وأرسله إلى معاوية بن أبي سفيان بدمشق وطيف به «1» ، وهو أول رأس طيف به «2»

(1/110)


في الإسلام. ولما بلغ عائشة رضي الله عنها قتل أخيها محمد بن أبي بكر هذا وجدت عليه وجداً عظيماً وأخذت أولاده وعياله وتولت تربيتهم.
وقال أبو مخنف بإسناده: ولما بلغ علي بن أبي طالب مقتل محمد بن أبي بكر وما كان من الأمر بمصر وتملك عمرو لها واجتماع الناس عليه وعلى معاوية قام في الناس خطيباً فحثهم على الجهاد والصبر والسير إلى أعدائهم من الشاميين والمصريين، وواعدهم الجرعة بين الكوفة والحيرة.
فلما كان من الغد خرج يمشي إليها حتى نزلها فلم يخرج إليه أحد من الجيش، فلما كان العشي بعث إلى أشراف الناس فدخلوا عليه وهو حزين كئيب فقام فيهم خطيباً فقال:
الحمد لله على ما قضى من أمر وقدر من فعل، وابتلاني بكم وبمن لا يطيع إذا أمرت ولا يجيب إذا دعوت، أو ليس عجيباً أنّ معاوية يدعو الجفاة الطّغام فيتّبعونه بغير عطاء ويجيبونه في السنة المرتين والثلاث إلى أي وجه شاء! وأنا أدعوكم وأنتم أولو النهى وبقية الناس على معاوية «1» وطائفة من العطاء فتتفرقون عني وتعصونني وتختلفون علي! فقام مالك بن كعب الأرحبي فندب الناس إلى امتثال أمر علي والسمع والطاعة له، فانتدب ألفان فأمر عليهم مالك بن كعب هذا فسار بهم خمساً؛ ثم قدم على علي جماعة ممن كان مع محمد بن أبي بكر الصديق بمصر، فأخبروه كيف وقع الأمر وكيف قتل محمد بن أبي بكر وكيف استقر أمر عمرو فيها، فبعث إلى مالك بن كعب فرده من الطريق، وذلك لأنه خشي عليهم من أهل الشام قبل وصولهم إلى مصر، واستقر أمر العراقين على خلاف علي فيما يأمرهم به وينهاهم

(1/111)


عنه والخروج عليه والتنقد على أحكامه وأقواله وأفعاله لجهلهم وقلة عقلهم وجفائهم وغلظتهم وفجور كثير منهم، فكتب علي عند ذلك إلى ابن عباس رضي الله عنه وهو نائبه على البصرة يشكو اليه ما يلقاه من الناس من المخالفة والمعاندة، فرد عليه ابن عباس يسليه في ذلك ويعزيه في محمد بن أبى بكر ويحثّه على تلاقى الناس والصبر على مسيئهم، فإن ثواب الجنة خير من الدنيا، ثم ركب ابن عباس إلى الكوفة إلى علي واستخلف على البصرة زياداً؛ وقد خرجنا عن المقصود.
*** السنة التي حكم فيها محمد بن أبي بكر الصديق وغيره على مصر وهي سنة سبع وثلاثين من الهجرة- فيها كانت وقعة صفين بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين معاوية بن أبي سفيان؛ وفيها قتل عمار بن ياسر بن عامر بن مالك بن كنانة المدلجي العبسي أبو اليقظان، كان من نجباء الصحابة وشهد بدراً والمشاهد كلها وقتل في صفين، وكان من أصحاب علي رضي الله عنه؛ وفيها توفي خباب بن الأرت بن جندلة بن سعد بن خزيمة التيمي «1» مولى أم سباع بنت أنمار، كنيته أبو عبد الله، كان من المهاجرين الأولين، شهد بدراً والمشاهد بعدها وروي عنه أحاديث؛ وفيها أيضاً قتل بصفين من أصحاب علي رضي الله عنه أويس بن عامر المرادي القرني الزاهد سيد التابعين، كنيته أبو عمرو، أسلم في خلافة عمر بن الخطاب رضي الله عنه؛ وفيها قتل في وقعة صفين من أصحاب علي رضي الله عنه هاشم بن عتبة بن أبي وقاص الزهري؛ وفيها توفي عبيد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما؛ وفيها قتل كريب بن صباح الحميري، أحد الأبطال من أصحاب معاوية.

(1/112)


أمر اليل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وثلاثة أصابع.
ذكر ولاية عمرو بن العاص ثانياً على مصر
قد تقدم الكلام في أول ولايته على نسبه وصحبته للنبىّ صلى الله عليه وسلم ثم أخذه مصر ثانياً في ترجمة محمد بن أبي بكر الصديق وكيفية قتاله وكيف ملك مصر منه. وولاية عمرو بن العاص هذا في هذه المرة من قبل معاوية بن أبى سفيان، وكان دخوله إلى مصر في شهر ربيع الأول من سنة ثمان وثلاثين، وجمع إليه معاوية الصلاة والخراج في ولايته هذه. وسبب انتماء عمرو إلى معاوية أن عمراً كان لما عزله عثمان بن عفان عن مصر بعبد الله بن سعد بن أبي سرح المقدم ذكره توجه عمرو وأقام بمكة منكفاً عن الناس حتى كانت وقعة الجمل.
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي قال جويرية بن أسماء حدثني عبد الوهاب ابن يحيى بن عبد الله بن الزبير حدثنا أشياخنا أن الفتنة وقعت وما رجل من قريش له نباهة أعمى فيها من عمرو بن العاص، وما زال مقيماً بمكة ليس في شيء مما فيه الناس حتى كانت وقعة الجمل، فلما فرغت بعث إلى ولديه عبد الله ومحمد فقال: إني قد رأيت رأياً ولستما باللذين ترداني عن رأيي ولكن أشيرا علي، إني رأيت العرب صاروا عنزين يضطربان، وأنا طارح نفسي بين جزاري مكة ولست أرضى بهذه المنزلة، فإلى أي الفريقين أعمد؟ قال له ابنه عبد الله: إن كنت لا بد فاعلاً فإلى علي؛ قال: إني إن أتيت علياً قال: إنما أنت رجل من المسلمين، وإن أتيت معاوية يخلطني بنفسه ويشركني في أمره، فأتى معاوية
وعن عروة وغيره قال: دعا عمرو ابنيه، فأشار عليه عبد الله أن يلزم بيته لأنه أسلم له؛ فقال محمد: أنت شريف من أشراف العرب وناب من أنيابها، لا أرى

(1/113)


أن تتخلف؛ فقال عمرو لابنه عبد الله: أما أنت فأشرت علي بما هو خير لي في آخرتي؛ وأما أنت يا محمد فأشرت علىّ بما هو أنبه لذكرى، ارتحلا؛ فارتحلوا إلى الشام غدوة وعشية حتى أتوا الشام. فقال: يأهل الشام، إنكم على خير وإلى خير، تطلبون بدم عثمان، خليفة قتل مظلوماً؛ فمن عاش منكم فإلى خير، ومن مات فإلى خير. فما زال مع معاوية حتى وقع من أمره ما حكيناه في أول ترجمته وغيرها.
ودخل مصر ووليها بعد محمد بن أبي بكر الصديق ومهد أمورها، ثم خرج منها وافداً على معاوية بالشام واستخلف على مصر ولده عبد الله بن عمرو، وقيل خارجة بن حذافة، وحضر أمر الحكمين، ثم رجع إلى مصر على ولايته، ودام بها إلى أن كانت قصة الخوارج الذين خرجوا لقتل علي ومعاوية وعمرو هذا، فخرج عبد الرحمن بن ملجم لقتل علي رضي الله عنه، وقيس إلى معاوية، ويزيد إلى عمرو بن العاص، وسار الثلاثة كل واحد إلى جهة من هو متوجه لقتله، وتواعد الجميع أن يثب كل واحد على صاحبه في سابع عشر شهر رمضان؛ فأما عبد الرحمن فإنه وثب على علىّ ابن أبي طالب رضي الله عنه وقتله حسبما نذكره فى ترجمته؛ و [أما] «1» قيس فوثب على معاوية وضربه فلم تؤثر فيه الضربة غير أنه جرح؛ وأما يزيد فإنه توجه إلى عمرو هذا فعرضت لعمرو علة تلك الليلة منعته من الصلاة فصلى خارجة بالناس، فوثب عليه يزيد يظنه عمراً وقتله، وأخذ يزيد وأدخل على عمرو فقال يزيد: أما والله ما أردت غيرك؛ فقال عمرو: ولكن الله أراد خارجة؛ فصار مثلاً: «أردت عمراً وأراد الله خارجة» . وأقام عمرو بعد ذلك مدة سنين حتى مات بها فيما نذكره إن شاء الله تعالى في آخر هذه الترجمة.

(1/114)


قيل: إنه لما حضر عمرو بن العاص الوفاة بكى؛ فقال له ابنه: أتبكي جزعاً من الموت؟ فقال: لا والله؛ وجعل ابنه يذكّره بصحبته رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتوحه الشام؛ قال عمرو: تركت أفضل من ذلك: شهادة أن لا إله إلا الله، إني كنت على ثلاثة أطباق ليس منها طبقة إلا عرفت نفسي فيها: كنت أول شيء كافراً وكنت أشدّ الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلومتّ حينئذ لوجبت لي النار؛ فلما بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أشد الناس منه حياءً ما ملأت عيني منه، فلو مت حينئذ لقال الناس: هنيئاً لعمرو أسلم على خير ومات على خير أحواله، ثم تلبست بعد ذلك بأشياء فلا أدري أعلي أم لي، فإذا أنا مت فلا يبكى علي ولا تتبعوني ناراً، وشدوا علي إزاري فإني مخاصم، فإذا أوليتموني فاقعدوا عندي قدر نحر جزور وتقطيعها أستأنس بكم حتى أعلم ما أراجع به رسل ربي. قال الذهبي: أخرجه أبو عوانة في مسنده. وفي رواية: أنه بعدها حول وجهه إلى الجدار وهو يقول: اللهم أمرتنا فعصينا، ونهيتنا فما انتهينا، ولا يسعنا إلا عفوك. وفي رواية: أنه وضع يده على موضع الغل من عنقه ورفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم لا قوي فأنتصر، ولا بريء فأعتذر، ولا مستكبر بل مستغفر، لا إله إلا أنت؛ فلم يزل يرددها حتى مات رضي الله عنه.
وقال الزهري عن حميد بن عبد الرحمن عن عبد الله بن عمرو أن أباه قال:
اللهم أمرت بأمور ونهيت عن أمور، فتركنا كثيراً مما أمرت ووقعنا في كثير مما نهيت، اللهم لا إله إلا أنت؛ ثم أخذ بإبهامه فلم يزل يهلل حتى توفي.
قال الذهبي، وأيده الطحاوي، حدثنا المزني سمعت الشافعي رضي الله عنه يقول:
دخل ابن عباس على عمرو بن العاص وهو مريض فقال: كيف أصبحت؟ قال:

(1/115)


أصبحت وقد أصلحت من دنياي قليلاً، وأفسدت من ديني كثيراً، فلو كان ما أصلحت هو ما أفسدت لفزت، ولو كان ينفعني أن أطلب طلبت، ولو كان ينجيني أن أهرب لهربت، فعظني بموعظة أنتفع بها يا بن أخي؛ فقال: هيهات يا أبا عبد الله! فقال: اللهم إن ابن عباس يقنطني من رحمتك فخذ مني حتى ترضى.
وكانت وفاة عمرو المذكور في ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وأربعين فصلى عليه ابنه ودفنه ثم صلى بالناس صلاة العيد. قاله أبو فراس مولى عبد الله بن عمرو. وقال الليث بن سعد والهيثم بن عدي والواقدي وابن بكير: وسنه نحو مائة سنة. وقال أحمد العجلي وغيره: تسع وتسعون سنة. وقال ابن نمير: توفي سنة اثنتين وأربعين.
قلت: والأول هو المتواتر. وكان عمرو رضي الله عنه من أدهى العرب وأحسنهم رأياً وتدبيراً. قيل: إنه اجتمع مع معاوية بن أبي سفيان مرة فقال له معاوية:
من الناس؟ فقال: أنا وأنت والمغيرة بن شعبة وزياد؛ قال معاوية: كيف ذلك؟ قال عمرو: أما أنت فللتأني؛ وأما أنا فللبديهة؛ وأما المغيرة فللمعضلات؛ وأما زياد فللصغير والكبير؛ قال معاوية: أما ذانك فقد غابا فهات بديهتك يا عمرو؛ قال: وتريد ذلك؟ قال نعم؛ قال: فأخرج من عندك، فأخرجهم معاوية؛ فقال عمرو: يا أمير المؤمنين أسارك، فأدنى معاوية رأسه منه؛ فقال عمرو: هذا من ذاك، من معنا في البيت حتى أسارك! ولما مات عمرو ولي مصر عتبة بن أبي سفيان من قبل أخيه معاوية
*** السنة الأولى من ولاية عمرو بن العاص الثانية على مصر وهي سنة ثمان وثلاثين من الهجرة- فيها توجه عبد الله بن الحضرمي من قبل معاوية إلى البصرة ليأخذها، وكان بها زياد بن أبيه ووقع بينهما أمور. وفيها سارت الخوارج لقتال علىّ

(1/116)


رضي الله عنه، وكان كبيرهم عبد الله بن وهب، فهزمهم علي وقتل أكثرهم وقتل ابن وهب المذكور، وقتل من أصحاب علي رضي الله عنه اثنا عشر رجلاً، وكانت الوقعة في شعبان من هذه السنة. وفيها توفي صهيب بن سنان بن مالك الرومي، سبته الروم فجلب إلى مكة فاشتراه عبد الله بن جدعان التيمي، وقيل: بل هرب من الروم فقدم مكة وحالف ابن جدعان، وكان صهيب من السابقين الأولين شهد بدراً والمشاهد كلها، روى عنه أولاده حبيب «1» وزياد وحمزة؛ وسعيد بن المسيب وعبد الرحمن بن أبي ليلى وكعب الأحبار، وكنيته أبو يحيى، توفي بالمدينة في شوال. ونشأ صهيب بالروم فبقيت «2» فيه عجمة. وفيها توفي سهل بن حنيف «3» بن واهب الأنصاري كان من أهل مسجد قباء، وكنيته أبو سهل وقيل أبو عبد الله، وهو من الطبقة الأولى من الأنصار آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينه وبين علي بن أبي طالب، وهو ممن شهد بدراً وأحداً والخندق. وفيها توفيت أسماء بنت عميس بن معد بن تميم «4» بن الحارث بن كعب بن مالك، أسلمت قبل دخول رسول الله صلى الله عليه وسلم دار الأرقم بمكة وبايعت وهاجرت إلى الحبشة مع زوجها جعفر بن أبى طالب، وولد هناك عبد الله بن جعفر، ثم تزوجها بعد جعفر أبو بكر الصديق، فاستولدها محمداً أمير مصر المقدم ذكره، ثم تزوجها بعد أبي بكر علي بن أبي طالب، فولدت منه يحيى وعوفا.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وخمسة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وتسعة أصابع. وفي كتاب درر التيجان: تسعة عشر إصبعاً.

(1/117)


*** السنة الثانية من ولاية عمرو الثانية على مصر وهي سنة تسع وثلاثين- فيها أيضاً كانت وقعة الخوارج مع علي بن أبي طالب بحروراء وبالنّخيلة، قاتلهم علىّ فكسرهم وقتل رءوسهم، وسجد لله شكراً لما أتي بمخدج «1» اليد مقتولا، وكان رءوس الخوارج زيد بن حفص «2» الطائي وشريح بن «3» أوفى العبسي وكانا على المجنبتين، وكان رأسهم عبد الله بن وهب الراسبي، وقد تقدم ذكرها في السنة الماضية، والأصح أنها في هذه السنه؛ وكان على رجالتهم حرقوص بن زهير. وفيها بعث معاوية يزيد ابن شجرة الرّهاىّ ليقيم الحج، فنازعه قثم بن عباس ومانعه، وكان من جهة علي، فتوسط بينهما أبو سعيد الخدري وغيره، فاصطلحا على أن يقيم الموسم شيبة «4» بن عثمان العبدري حاجب الكعبة. وفيها أيضاً بعث معاوية ابن عوف في ستة آلاف فارس وأمره أن يأتي هيت والأنبار والمدائن، وكان بهيت أشرس بن حسان البلوي «5» من جهة علي وقد تفرق عنه أصحابه ولم يبق معه سوى ثلاثين رجلاً، فخرج إليهم وقاتلهم وقتل ابن أشرس وأصحابه. وفيها أرسل معاوية الضحاك بن قيس في ثلاثة آلاف وأمره بالغارة على من هو في طاعة علي من الأعراب. وفيها توفي سعد بن عابد ويعرف بسعد القرظ مولى عمار بن ياسر (والقرظ: ورق السّلم كان يجلبه وييعه للدباغ فسمي به) وكان سعد يؤذن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم بقباء ثم أذن على عهد أبي بكر وعمر، وهو من الصحابة وله رواية.

(1/118)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء الفديم خمسة أذرع وإصبعان، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعاً وخمسة أصابع.
*** السنة الثالثة من ولاية عمرو بن العاص الثانية على مصر وهي سنة أربعين- فيها بعث معاوية بسر بن أبي أرطاة في ثلاثة آلاف من المقاتلة إلى الحجاز، فقدم المدينة وعامل علي متوليها وهو أبو أيوب الأنصاري فنفر منها أبو أيوب. وفيها قتل أمير المؤمنين أبو الحسن علي بن أبي طالب، واسم أبي طالب عبد مناف بن عبد المطلب، واسم عبد المطلب شيبة الجمد بن هاشم بن عبد مناف القرشي الهاشمي، وأمه فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف الهاشمية، وهي بنت عم أبي طالب كانت من المهاجرات، توفيت في حياة النّبيّ صلى الله عليه وسلم بالمدينة، وهو أحد السابقين الأولين وأحد العشرة المشهود لهم بالجنة؛ وأما ما ورد في حقه من الأحاديث وما وقع له في الغزوات فيضيق هذا المحل عن ذكر شيء منها، وفي شهرته رضي الله عنه ما يغني عن الإطناب في ذكره؛ قتله عبد الرحمن بن ملجم، جلس له مقابل السدة «1» التي يخرج منها علي إلى الصلاة، فلما أن خرج علي إلى صلاة الصبح شد عليه عبد الرحمن المذكور فضربه بسكين كانت معه أو بسيف في جبهته وفي رأسه فحمل من وقته وقبض على عبد الرحمن المذكور، فقال علي: أطعموه واسقوه فإن عشت فأنا ولي دمي، إن شئت قتلت وإن شئت عفوت؛ وإن مت فاقتلوه قتلتي ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين. وكان عبد الرحمن قد سم سيفه، فتم علي رضي الله عنه جريحاً يوم الجمعة والسبت وتوفي ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقين من شهر رمضان من السنة، وتولى الخلافة من بعده ابنه الحسن بن علي رضي الله عنهما، وكانت خلافة علي رضي الله عنه أربع سنين وتسعة أشهر. ولما دفن علي أحضر عبد الرحمن بن ملجم

(1/119)


فاجتمع الناس وجاءوا بالنفط والبواري، فقال محمد بن الحنفية والحسن والحسين ولدا علي وعبد الله بن جعفر ابن أخيه: دعونا نشتف منه، فقطع عبد الله يديه ورجليه فلم يجزع ولم يتكلم وكحل عينيه، وجعل يقول: إنك لتكحل عيني عمك هذا «1» ، وعيناه تسيلان على خديه، ثم أمر به فعولج على قطع لسانه، فجزع، فقيل له في ذلك؛ فقال:
ما لذاك أجزع ولكن أكره أن أبقى في الدنيا لا أذكر الله! فقطعوا لسانه، ثم أخرجوه في قوصرة «2» ؛ وكان- قبحه الله ولعنه- أسمر حسن الوجه أفلج في جبهته أثر السجود. وقال جعفر بن محمد عن أبيه قال: صلى الحسن على علي رضي الله عنه ودفن بالكوفة عند قصر الإمارة وعمي قبره لئلا تنبشه الخوارج. وقال شريك وغيره: نقله الحسن إلى المدينة. وذكر المبرد عن محمد بن حبيب، قال: أول من حول من قبر إلى قبر علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وفيها توفي لبيد بن ربيعة بن كلاب بن مالك بن جعفر بن كلاب الصحابي العامري الشاعر المشهور، كنيته أبو عقيل، ذكره ابن سعد في الطبقة الرابعة من القبائل الذين أسلموا بعد الفتح، ووفد على النّبيّ صلى الله عليه وسلم سنة تسع من الهجرة وأسلم. وفيها توفي تميم بن أوس ابن خارجة أبو رقية اللخمي الداري الصحابي المشهور، واختلف فى نسبه الى الدار ابن هانئ أحد بني لخم. أسلم تميم سنة تسع، رضي الله عنه.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثمانية أذرع وستة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعاً؛ وفي كتاب درر التيجان: وستة أصابع.

(1/120)


*** السنة الرابعة من ولاية عمرو بن العاص الثانية على مصر وهي سنة إحدى وأربعين، وتسمى هذه السنة عام الجماعة لاجتماع الأمة فيه على خليفة واحد وهو معاوية بن أبي سفيان- فيها (أعني في سنة إحدى وأربعين) بايع الحسن بن علي رضي الله عنه بالخلافة معاوية وخلع نفسه. وسببه: أنه لما ولي الخلافة بعد وفاة والده علي رضي الله عنه أحبه الناس حباً شديداً زائداً واجتمعوا على طاعته، واستمر في الخلافة أشهراً، فلما رأى الأمر مآله للقتال مع معاوية وألح عليه أهل العراق حتى خرج في جموعه إلى نحو الشام وخرج معاوية أيضاً بجيوشه في طلب الحسن رضى الله عنه، ثم أرسل معاوية إلى الحسن يطلب الصلح. قال خليفة: فاجتمعا بمسكن؛ وهي بأرض السواد من ناحية الأنبار، فاصطلحا في ربيع الآخر وسلم الحسن الأمر إلى معاوية، لا من جزع بل شفقة على المسلمين، فإن الذي كان اجتمع للحسن من العساكر أكثر مما كان اجتمع لأبيه ولكن ترك ذلك خوفاً من سفك الدماء.
ولما وقع ذلك دخل على الحسن سفيان أحد أصحابه وقال: السلام عليك يا مذل المؤمنين؛ فقال الحسن: لا تقل ذلك، إني كرهت أن أقتلكم في طلب الملك. قال الحافظ الذهبي قال أبو بكرة: رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر والحسن ابن علي إلى جنبه وهو يقول: «إن ابني هذا سيد ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين» . أخرجه البخاري. وفيها توفي صفوان بن أمية بن خلف الجمحي، شهد حنيناً مع النبي صلى الله عليه وسلم ثم أسلم بعدها، وأعار النّبيّ صلى الله عليه وسلم سلاحاً كثيراً. وفيها توفيت حفصة أم المؤمنين رضي الله عنها بنت عمر بن الخطاب رضي الله عنه.

(1/121)


أمر النيل في هذه- السنة الماء القديم ثمانية أذرع وستة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ثمانية عشر ذراعاً وسبعة أصابع.
*** السنة الخامسة من ولاية عمرو بن العاص الثانية على مصر وهي سنة اثنتين وأربعين- فيها بعث معاوية المغيرة بن شعبة الى زياد بن أبيه فخدعه وأنزله من قلعته. وفيها ولى معاوية مروان بن الحكم المدينة فاستقضى مروان عبد الله بن الحارث بن نوفل. وفيها تحرّكت الخوارج الذين بقوا من يوم النهروان. وفيها توفي حبيب بن مسلمة بن مالك الأكبر بن وهب بن ثعلبة بن واثلة بن عمرو بن سفيان «1» ابن حارث أبو عبد الرحمن وقيل أبو مسلمة، ذكره ابن سعد في الطبقة الخامسة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم. وفيها توفي عثمان بن طلحة بن أبي طلحة بن عبد الدار بن قصي الجمحي، ذكره ابن سعد في الطبقة الثالثة من المهاجرين ممن أسلم في هدنة الحديبية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وخمسة أصابع. وفي درر التيجان: أربعة أذرع وثلاثة أصابع.