النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

ذكر ولاية محمد بن الأشعث على مصر
هو محمد بن الأشعث بن عقبة بن أهبان الخزاعي أمير مصر، وليها من قبل المنصور بعد عزل موسى بن كعب التميمي، ولاه أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور على الصلاة والخراج معاً وقدم مصر في يوم الاثنين خامس ذى الحجة من سنة إحدى وأربعين ومائة، وولى على شرطته المهاجر بن عثمان الخزاعي ثم عزله وجعل عوضه محمد بن معاوية الكلاعي مكانه. ولما استقر محمد بن الأشعث هذا في إمرة مصر، أرسل الخليفة أبو جعفر المنصور إلى نوفل بن الفرات أن يعرض على محمد بن الأشعث ضمان خراج مصر، فإن ضمنه فأشهد عليه وأشخص إلي الشهادة، وإن أبى فكن أنت على الخراج عادتك، فعرض نوفل على ابن الأشعث هذا الكلام فأبى من الضمان، فانتقل نوفل إلى الدواوين ففقد محمد بن الأشعث من عنده فسأل عنهم، فقيل له: هم عند صاحب الدواوين، فندم ابن الأشعث على ما وقع منه من ترك الخراج، ثم جهز ابن الأشعث جيشاً بعث به إلى المغرب فانهزم الجيش، وخرج ابن الأشعث يوم الأضحى سنة اثنتين وأربعين ومائة وتوجه إلى الإسكندرية واستخلف محمد بن معاوية صاحب شرطته على الصلاة ولم يكن إلا القليل وورد عليه البريد بعزله عن إمرة مصر، وولي مصر عوضه حميد بن قحطبة وذلك في أوائل سنة ثلاث وأربعين ومائة، وخرج محمد بن الأشعث بعد عزله عن مصر وتوجه إلى الخليفة المنصور فأكرمه أبو جعفر المنصور وجعله من أكابر أمرائه، ودام عنده حتى وجهه المنصور مع ابنه محمد المهدي إلى غزو الروم فتوجه محمد بن

(1/346)


الأشعث مع المهدي هو والحسن بن قحطبة، فمرض ابن الأشعث في أثناء الطريق ومات، فكانت ولايته على مصر سنة واحدة وشهراً واحداً، وكان عنده نباهةُ وشجاعة ومعرفة، وهو أحد أكابر أمراء بني العباس، وقد تقدم ذكره في عدة وقائع، منها واقعة جهور «1» بن مرار «2» العجلي، وأمره أنه خلع الخليفة المنصور بالري. وكان سبب ذلك أن جهوراً لما هزم سنباذ حوى ما كان في عسكره، وكان فيه خزائن أبي مسلم الخراساني فلم يوجهها إلى المنصور، ثم خاف من المنصور فخلعه من الخلافة، فوجه إليه أبو جعفر المنصور محمد بن الأشعث هذا في جيش عظيم، فسار محمد هذا إلى نحو الري، ففارقها جهور وسار نحو أصبهان، ودخل محمد الري وملك جهور أصبهان، فأرسل إليه محمد عسكراً وبقي هو بالري، فأشار على جهور بعض أصحابه أن يسير في نخبة من عسكره إلى جهة محمد بن الأشعث فإنه في قلة، فإن ظفر به فلم يكن [لمن «3» ] بعده بقية، فسار جهور إليه مجداً، وبلغ محمداً خبره فحذر واحتاط «4» وأتاه عسكر من خراسان فقوي بهم فالتقوا بقصر الفيروزان «5» بين الري وأصبهان فاقتتلوا قتالاً عظيماً، ومع جهور نخبة فرسان العجم، فهزم جهور وقتل من أصحابه خلق كثير، فهرب جهور ولحق بأذربيجان ثم قتل بعد ذلك بأسبار «6» قتله أصحابه وحملوا رأسه إلى أبي جعفر المنصور؛ ولمحمد هذا عدة مواقف وأمور يطول شرحها.

(1/347)


*** السنة التي حكم فيها محمد بن الأشعث على مصر وهي سنة اثنتين وأربعين ومائة- فيها خرج عيينة بن موسى متولي السند عن الطاعة، فخرج الخليفة أبو جعفر المنصور إلى البصرة وجهز عمرو بن حفص العتكي على السند لمحاربة ابن موسى المذكور، فسار وغلب على الهند والسند. وفيها نقض إصبهبذ طبرستان وقتل من بها من المسلمين، فانتدب لحربه خازم بن خزيمة وروح بن حاتم وأبو الخصيب مرزوق مولى المنصور، فحاصروه حتى ظفروا بالمدينة وقتلوا وسبوا «1» ، فلما رأى إصبهبذ ذلك مص سماً كان في خاتمه فهلك، وكان من جملة السبي شكلة أم إبراهيم ابن المهدى الآتى ذكرها وذكره فى الحوادث. وفيها ولى الخليفة أبو جعفر المنصور أخاه العباس بن محمد على الجزيرة. وفيها توفي حميد بن أبي حميد الطويل كان ثقة كثير الحديث، أسند عن أنس وغيره، وروى عنه الإمام مالك وغيره.
وذكر الذهبي وفاة جماعة في هذه السنة، قال: وفيها توفي أسلم المنقرىّ، وحبيب بن أبى عمرة القصاب، والحسن بن عبيد الله، والحسن بن عمرو الفقيمى، وأبو هانئ حميد بن هانئ الخولاني المصري، وحميد الطويل في قول، وخالد الحذاء، وسعد بن إسحاق بن كعب في قول، والأمير سليمان بن علي بن عبد الله بن العباس، وعاصم بن سليمان الأحول، وعمرو بن عبيد المعتزلي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وإصبع واحد، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وثلاثة عشر إصبعا.

(1/348)


ذكر ولاية حميد بن قحطبة على مصر
هو حميد بن قحطبة بن شبيب بن خالد بن معدان الطائي أمير مصر، وليها من قبل الخليفة أبي جعفر المنصور بعد عزل محمد بن الأشعث في أوائل سنة ثلاث وأربعين ومائة، جمع له أبو جعفر المنصور صلاة مصر وخراجها معاً، فدخل إلى مصر في عشرين ألفاً من الجند يوم الجمعة لخمسٍ خلون من شهر رمضان سنة ثلاث وأربعين ومائة، فجعل على الشرطة محمد بن معاوية بن بحير، وقبل أن تطول مدته بمصر ورد عليه عسكر آخر من قبل الخليفة لغزو إفريقية، وكان قدوم العسكر المذكور إلى مصر في شوال من السنة، فجهز حميد العساكر وجعل عليهم أبا الأحوص العبدي، وكان العسكر ستة آلاف فارس، فتوجه أبو الأحوص بمن معه من العساكر حتى التقى مع أبي الخطاب الأنماطي ببرقة فتقاتلا، فانهزم أبو الأحوص بمن معه إلى جهة الديار المصرية، فخرج حميد بن قحطبة بنفسه حتى وصل إلى برقة والتقى مع أبي الخطاب المذكور، فقاتله حتى هزمه وقتل أبا الخطاب المذكور وجماعة من أصحابه، ثم عاد إلى مصر منصوراً، فأقام بها إلى أن قدم إلى مصر علي بن محمد بن عبد الله ابن حسن بن الحسن داعيةً لأبيه فدس «1» إليه حميد هذا فتغيب، فكتب ذلك لأبي جعفر المنصور فغضب وصرفه عن إمرة مصر في ذي القعدة بيزيد بن حاتم،

(1/349)


فخرج حميد بن قحطبة من مصر لثمان بقين من ذى القعدة سنة أربع وأربعين ومائة، وكانت ولايته على مصر سنة واحدة وشهرين إلا أياماً. ولما خرج حميد بن قحطبة المذكور من مصر توجه إلى الخليفة أبي جعفر المنصور فأكرمه الخليفة وجعله من جملة أمرائه، ووجهه بعد ذلك لغزو إرمينية في سنة ثمان وأربعين ومائة فسار ثم عاد ولم يلق حرباً، ثم أرسله الخليفة أبو جعفر المنصور أيضاً في سنة اثنتين وخمسين ومائة لغزو كابل، ثم ولاه بعد ذلك إقليم خراسان مدة، ثم نقله إلى عمل خراسان فأقام بها مدة طويلة إلى أن مات في خلافة المهدي سنة تسع وخمسين ومائة، وكان أميراً شجاعاً مقداماً عارفاً بأمور الحروب والوقائع، وتنقل في الأعمال الجليلة، معظماً عند بني العباس، وقد تقدم ذكر ما حضره حميد هذا مع أبيه قحطبة من الوقائع في ابتداء دعوة بني العباس، ثم قام هو وأخوه الحسن بن قحطبة في دعوتهم، وقاتلوا جيوش مروان بن محمد؟؟؟ لى أن هزموه وتم أمر بني العباس؛ فعرفوا لحميد ذلك، وولوه الأعمال الجليلة إلى أن مات في التاريخ المقدم ذكره.
*** السنة الأولى من ولاية حميد بن قحطبة على مصر وهي سنة ثلاث وأربعين ومائة- فيها بلغ المنصور أن الديلم قد أوقعوا بالمسلمين وقتلوا منهم خلائق، فندب أبو جعفر المنصور الناس للجهاد. وفيها عزل المنصور الهيثم عن إمرة مكة بالسري ابن عبد الله بن الحارث بن العباس العباسي. وفيها حج بالناس عيسى بن موسى ابن محمد بن علي الهاشمي العباسي أمير الكوفة.

(1/350)


قال الذهبي: وفي هذا العصر «1» شرع علماء الإسلام فى تدوين الحديث والفقه والتفسير، وصنف ابن جريج التصانيف بمكة، وصنف سعيد بن أبي عروبة وحماد بن سلمة وغيرهما بالبصرة، وصنف أبو حنيفة الفقه والرأي بالكوفة، وصنف الأوزاعي بالشأم، وصنف مالك الموطأ بالمدينة، وصنف ابن إسحاق المغازي، وصنف معمر باليمن، وصنف سفيان الثوري كتاب الجامع، ثم بعد يسير صنف هشام كتبه، وصنف الليث بن سعد وعبد الله بن لهيعة، ثم ابن المبارك والقاضي أبو يوسف يعقوب وابن وهب، وكثر تبويب العلم وتدوينه، ورتبت ودونت كتب العربية واللغة والتاريخ وأيام الناس، وقبل هذا العصر كان سائر العلماء يتكلمون عن حفظهم ويروون العلم عن صحف صحيحة غير مرتبة؛ فسهل ولله الحمد تناول العلم فأخذ الحفظ يتناقص، فلله الأمر كله انتهى كلام الذهبىّ. وفيها توفّى سليمان ابن طرخان أبو القاسم التيمي، من الطبقة الرابعة من تابعي [أهل «2» ] البصرة، كان من العباد المجتهدين، وكان يصلي الغداة بوضوء العشاء سنين عديدة. وفيها توفي يحيى ابن سعيد أبو سعيد الأنصاري القاضي الفقيه، من الطبقة الخامسة من أهل المدينة، قدم على الخليفة أبي جعفر المنصور بالكوفة فاستقضاه على الهاشميّة.

(1/351)


أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثلاثة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وعشرة أصابع سواء.
*** السنة الثانية من ولاية حميد بن قحطبة على مصر وهي سنة أربع وأربعين ومائة- فيها غزا محمد بن أبى العباس السفاح الديلم بجيش الكوفة والبصرة وواسط والجزيرة. وفيها قدم محمد المهدي ابن الخليفة على أبيه أبي جعفر المنصور من خراسان وقد بنى بابنة عمه ريطة بنت السفاح. وفيها حج بالناس الخليفة أبو جعفر المنصور، وخلف على العسكر خازم بن خزيمة، فاستعمل على المدينة رياح بن عثمان المزنىّ وعزل محمد القسري. وكان المنصور قد أهمه شأن محمد وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب، لتخلفهما عن الحضور إلى عنده مع الأشراف، وما كفاه ذلك حتى قيل له: إن محمد بن عبد الله المذكور ذكر أن المنصور لما حج قبل أن يلي الخلافة في حياة أخيه السفاح وكان ممن بايع له ليلة اشتور «1» بنو هاشم بمكة فيمن يعقدون له الخلافة حين «2» اضطرب ملك بني أمية. قلت: لعل ذلك كان قبل أن يلي السفّاح الخلافة وقبل قتل مروان الحمار. اهـ. وكان أبو جعفر المنصور سأل زياداً متولي المدينة عنهما قبل ذلك؛ فقال: ما يهمك [من أمرهما «3» ] يا أمير المؤمنين، أنا آتيك بهما، فضمنه إياهما في سنة ست وثلاثين ومائة ولم يف زياد بالضمانة، وصار المنصور في أمر عظيم من جهة عبد الله وابنيه، وطال عليه الأمر، وعبد الله وولداه

(1/352)


في اختفائهم، حتى قبض المنصور على عبد الله المذكور وحبسه وحبس معه جماعةً كثيرة من بني حسن، وهم حسن وإبراهيم ابنا حسن بن الحسن، وحسن بن جعفر ابن حسن بن الحسن، وسليمان وعبد الله ابنا داود بن حسن بن الحسن، وسهيل وإسحاق ابنا إبراهيم المذكور، وعيسى بن حسن بن الحسن، وأخوه علي القائم «1» ؛ فقيد المنصور الجميع وحبسهم، [وجهر «2» على المنبر بسب محمد بن عبد الله وأخيه فسبح الناس وعظموا ما قال، فقال رياح: ألصق الله بوجوهكم الهوان، لأكتبن إلى خليفتكم غشكم وقلة نصحكم، فقالوا: لا نسمع منك يا بن المحدودة «3» ، وبادروه يرمونه بالحصى، فنزل واقتحم دار مروان وأغلق الباب، فخف بها الناس، فرموه وشتموه ثم إنهم كفوا، ثم إن آل حسن حملوا في أقيادهم إلى العراق] . وفيها توفي صالح بن كيسان أبو محمد، من الطبقة الرابعة من أهل المدينة «4» ، كان يؤدّب [ولد «5» ] عمر بن عبد العزيز بن مروان وأولاد الوليد بن عبد الملك، ثم ضمه عمر بن عبد العزيز إلى نفسه، وكان قد جمع بين الفقه والحديث والدين والمروءة. وفيها توفي عبد الله بن

(1/353)


شبرمة الضبي أبو شبرمة، من الطبقة الرابعة من أهل الكوفة، كان فقيهاً ديناً حسن الخلق قليل الحديث.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وأحد عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً واثنا عشر إصبعا.
انتهى الجزء الأوّل من النجوم الزاهرة ويليه الجزء الثانى وأوّله ذكر ولاية يزيد بن حاتم على مصر

(1/354)