النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

 [الجزء الثانى]
[تتمة ما وقع من الحوادث سنة 144]
بسم الله الرّحمن الرّحيم
ذكر ولاية يزيد بن حاتم على مصر
هو يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة الأزدي الطائي المهلبي أمير مصر، ولاه الخليفة أبو جعفر المنصور على الصلاة والخراج معا بعد عزل حميد ابن قحطبة عن إمرة مصر سنة أربع وأربعين ومائة، فقدم إلى مصر في يوم الاثنين النصف من ذي القعدة من السنة المذكورة، فأقر على شرطته عبد الله بن عبد الرحمن، وعلى الخراج معاوية بن مروان بن موسى بن نصير «1» . وكان يزيد جواداً ممدحاً شجاعاً. قال يزيد: كنت يوماً واقفاً بباب المنصور أنا ويزيد بن أسيد السلمي إذ فتح باب القصر وخرج خادم لأبي جعفر المنصور، فنظر إلينا ثم انصرف فدخل وأخرج رأسه من طاق وقال:
لشتان ما بين اليزيدين في الندى ... يزيد سليم والأغر ابن حاتم
فلا يحسب التمتام أنّى هجوته ... ولكنّنى فضّلت أهل المكارم
فقال له يزيد بن حاتم: نعم نعم على رغم أنفك وأنف من بعثك؛ فخرج الخادم وأبلغها الخليفة أبا جعفر، فضحك حتى استلقى. وهذا الشعر لربيعة بن ثابت الرقي يمدح يزيد هذا.
وفي أيام يزيد بن حاتم المذكور ظهرت بمصر دعوة بني الحسن بن علي ابن أبي طالب وتكلم بها الناس وبايع كثير منهم لبني الحسن في الباطن

(2/1)


وماجت الناس بمصر وكاد أمر بني الحسن أن؟؟؟، والبيعة كانت باسم على بن محمد ابن عبد الله، وبينما الناس في ذلك قدم البريد برأس إبراهيم بن عبد الله بن حسن ابن الحسن بن علي بن أبي طالب في ذي الحجة سنة خمس وأربعين ومائة فنصب في المسجد أياماً. وكان يزيد هذا قد منع أهل مصر من الحج بسبب خروج هؤلاء العلويين، فلما قتل إبراهيم أذن لهم: الحج؛ وكان يزيد مقصداً للناس محباً للشعر وأهله، مدحه عدة من الشعراء. قيل: إن ربيعة المقدم ذكره، صاحب البيتين المقدم ذكرهما، قصده فاشتغل عنه يزيد، فخرج وهو يقول:
أراني ولا كفران لله راجعاً ... بخفي حنين من نوال ابن حاتم
فبلغ يزيد فرده وملأ خفيه ذهباً، فقال فيه قصيدته المشهورة لما عزل عن إمرة مصر، التي أولها:
بكى أهل مصر بالدموع السواجم ... غداة غدا عنها الأغر (3) ابن حاتم
ثم ورد عليه كتاب الخليفة المنصور يأمره بالتحوّل من المعسكر الى الفسط كما كانت عادة أمراء مصر قبل بناء المعسكر، وأن يجعل الدواوين في كنائس القصر- يعني قصر الشمع «1» - وذلك في سنة ست وأربعين ومائة. وقصد يزيد ابن حاتم من الشعراء محمد بن عبد «2» الله بن مسلم ومدحه بقصيدة طنّانة أوّلها:
وإذا تباع كريمة أو تشترى ... فسواك بائعها وأنت المشترى

(2/2)


وكان يزيد منع الناس من الحج في سنة خمس وأربعين ومائة، كما تقدم ذكره، فلم يحجّ فى تلك السنة أحد من مصر ولا من الشام لما كان بالحجاز من الاضطراب من أمر بني الحسن، ثم حج يزيد هذا في سنة سبع وأربعين ومائة فاستخلف على مصر عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج صاحب شرطته، ولما عاد من الحج بعث جيشاً لغزو الحبشة من أجل خارجي ظهر هناك، فتوجه إليه الجيش وقاتلوه وظفروا به وقدم رأس الخارجي المذكور إلى مصر في عدّة رءوس، فنصبت الرءوس أياماً بمصر ثم حملوها إلى بغداد، فضم الخليفة أبو جعفر المنصور عند ذلك ليزيد هذا برقة زيادة على عمل مصر؛ وهو أول من ضم له برقة على مصر، وكان ذلك في سنة تسع وأربعين ومائة. ثم خرج في أيام يزيد القبط بسخا بالوجه البحري، فجهز إليهم يزيد جيشاً كثيفاً فقاتله القبط وكسروه فرد الجيش منهزماً، فصرفه أبو جعفر المنصور عن إمرة مصر في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وخمسين ومائة، فكانت ولايته على مصر سبع سنين وأربعة أشهر. وتولى من بعده مصر عبد الله ابن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج، ثم ولي يزيد بن حاتم هذا بعد ذلك إفريقية من بلاد المغرب، فتوجه إليها وغزا بها عدة غزوات، ولا زال بها حتى توفي سنة سبعين ومائة، واستخلف على إفريقية ابنه داود بن يزيد، فأقره الخليفة هارون الرشيد على ذلك، ودام إلى أن عزله في سنة اثنتين وسبعين ومائة بعمه روح بن حاتم. اهـ
*** [ما وقع من الحوادث سنة 145]
السنة الأولى من ولاية يزيد بن حاتم المهلبي على مصر وهي سنة خمس وأربعين ومائة- فيها قتل الخليفة أبو جعفر المنصور محمداً وإبراهيم ابني عبد الله بن حسن بن الحسن ابن علي بن أبي طالب واحداً بعد واحد، فقتل محمد بالمدينة وبعده بمدة قتل إبراهيم؛ وكان إبراهيم خرج أيضاً بعد خروج أخيه محمد على المنصور بالبصرة، وانضم عليه

(2/3)


خلائق من العلماء والفقهاء وأعيان بني الحسن، فلما ورد عليه الخبر بقتل أخيه محمد عظم شأنه وكاد أمره أن يتم، ووقع بينه وبين جيش المنصور أمور ووقائع إلى أن قبض عليه وقتل. وفيها أيضاً مات والدهما عبد الله بن الحسن في حبس المنصور.
قال الهيثم: حبسهم أبو جعفر المنصور في سرداب (يعني عبد الله المذكور وأقاربه من بني الحسن) - وقد قدمنا ذكر من حبس مع عبد الله من أقاربه بأسمائهم في سنة أربع وأربعين ومائة- قال: حبسهم في سرداب تحت الأرض لا يعرفون ليلاً ولا نهاراً- والسرداب عند قنطرة الكوفة وهو موضع يزار- ولم يكن عندهم بئر للماء ولا سقاية، فكانوا يبولون ويتغوطون في مواضعهم، وإذا مات منهم ميت لم يدفن بل يبلى وهم ينظرون إليه، فاشتد عليهم رائحة البول والغائط، فكان الورم يبدو في أقدامهم ثم يترقى إلى قلوبهم فيموتون. ويقال: إن أبا جعفر المنصور ردم عليهم السرداب فماتوا، وكان يسمع أنينهم أياماً.
وذكر الذهبي وفاة جماعة في هذه السنة، قال: وفيها توفي محمد بن عبد الله ابن حسن وأخوه إبراهيم قتلاً، والأجلح الكندي، وإسماعيل بن أبي خالد، وإسماعيل بن عبد الله بن جعفر، وأنيس بن أبي يحيى الأسلمي، وحبيب بن الشهيد، وحجاج بن أرطاة، والحسن بن ثوبان، والحسن بن الحسن بن الحسن في سجن المنصور، ورؤبة بن العجاج التميمي، وعبد الرحمن بن حرملة الأسلمي، وعبد الملك «1» بن أبي سليمان الكوفي، وعمر بن عبد الله مولى غفرة (بالمعجمة والفاء) وعمرو بن ميمون

(2/4)


ابن مهران «1» الجزري، ومحمد بن عبد الله الديباج «2» ، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وهشام ابن عروة فى قول، ونصر بن حاجب الخراساني، ويحيى بن سعيد أبو حيان التيمي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وأربعة عشر إصبعاً.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 146]
السنة الثانية من ولاية يزيد بن حاتم على مصر وهي سنة ست وأربعين ومائة- فيها كان فراغ بناء بغداد وتحول إليها الخليفة أبو جعفر المنصور في صفر، وكان خالد بن برمك أشار على المنصور ببنائها، وقيل: إن حجاج بن أرطاة هو الذي اختط جامعها، وقبلتها منحرفة، ولما دخلها الخليفة أبو جعفر المنصور أمر أن يكتب إلى الآفاق أن يرد عليه الخطباء والعلماء والشعراء؛ وكان لا يدخل أحد المدينة راكباً، فشكا إلى المنصور عمه عيسى بن علي أن المشي يشق عليه، فلم يأذن له في الركوب؛ ثم بعد مدّة أمر المنصور بإحراج الأسواق من المدينة، خوفاً من مبيت صاحب خبر «3» بها، فبنيت الكرخ «4» وباب «5» المحول وغير ذلك.
وظهر شح المنصور في بناء بغداد، وبالغ في المحاسبة، حتى قال خالد بن الصلت، وكان على بناء ربع بغداد: رفعت إليه الحساب فبقيت علي خمسة عشر درهماً فحبسنى

(2/5)


حتى أدّيتها [وعند ما «1» دخل المنصور بغداد وقع بها الطاعون. وقد تقدم أن الطاعون غير الوباء، فالوباء هو الذي تتنوع فيه الأمراض، والطاعون هو الطعن الذي ذكر في الحديث «2» ] . وفيها توفي ضيغم بن مالك العابد كان من الخائفين البكائين، وهو من الطبقة الخامسة من أهل البصرة؛ وكان ورده في كل يوم أربعمائة ركعة. وفيها توفي عمرو بن قيس الملائي من الطبقة الرابعة من أهل الكوفة، كان من الأبدال، وكان يقول: حديث أرقق [به] قلبي وأبلغ به إلى ربي أحب إلي من خمسين قضية من قضايا شريح.
وذكر الذهبي وفاة جماعة أخر، قال: وتوفي أشعث بن عبد الملك الحمراني، والحارث [بن عبد «3» الرحمن] بن عبد الله بن أبي ذباب المدني، وحبيب «4» بن الشّهيد، وسنان [بن يزيد التميمي «5» أبو حكيم] الرهاوي، وعبد الله بن سعيد بن أبي هند المدنى، وعوف الأعرابي، ومحمد بن السائب الكلبي، ومحمد بن أبى يحيى الأسلمىّ، وهشام ابن عروة على الصحيح، ويزيد بن أبي عبيد، ويحيى بن أبي أنيسة الجزري.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراع وستة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 147]
السنة الثالثة من ولاية يزيد بن حاتم على مصر وهي سنة سبع وأربعين ومائة- فيها حج الخليفة أبو جعفر المنصور وعزم على قبض جعفر بن محمد بن علي بن الحسين

(2/6)


ابن على بن أبى طالب- أعنى جعفر الصادق- فلم يتم له ذلك. وفيها آنتثرت الكواكب من أول الليل إلى الصباح فخاف الناس عاقبة ذلك. وفيها خلع الخليفة أبو جعفر المنصور ابن أخيه عيسى بن موسى من ولاية العهد وولاها لابنه محمد المهدي، وجعل عيسى المذكور بعد المهدي؛ وكان السفاح قد عهد إلى أبي جعفر المنصور بالخلافة ثم من بعده إلى عيسى بن موسى هذا. وفيها أغارت الترك مع استرخان الخوارزمي على مدينة تفليس، وكان بها حرب بن عبد الله الريوندي «1» الذي تنسب إليه الحربية «2» ببغداد، فخرج إليهم حرب المذكور وقاتلهم فقتلوه وقتلوا خلقاً كثيراً من المسلمين وسبوا. وفيها توفي عبد الله بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي عم الخليفة أبي جعفر المنصور، وأمه بربرية «3» يقال لها هنادة، ولد سنة ثلاث ومائة وقيل: آثنتين ومائة في آخر ذي الحجة. وهو الذي هزم مروان الحمار بالزاب وتبعه إلى دمشق وفتحها وهدم سورها وجعل جامعها سبعين يوماً لدوابه وجماله، وقتل من أعيان بني أمية ثمانين رجلاً بنهر أبي فطرس من أرض الرملة، ثم ولي دمشق للسفاح، فلما ولي المنصور خرج عليه عبد الله ودعا لنفسه فهزمه أبو مسلم الخراساني فشفع له إخوته وأخذوا له أمانا من الخليفة أبي جعفر المنصور،

(2/7)


فلما قدم عليه حبسه مدة حتى مات في حبسه؛ قيل: إن أبا جعفر المنصور بنى له داراً حبسه فيها وجعل في أساسها ملحاً، فلما سكنها عبد الله وحبس فيها أطلق عليها ماء فذاب الملح فوقعت الدار عليه فمات.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان واثنان وعشرون إصبعا، مبلغ الزياده أربعة عشر ذراعاً وتسعة عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 148]
السنة الرابعة من ولاية يزيد بن حاتم على مصر وهي سنة ثمان وأربعين ومائة- فيها حج بالناس الخليفة أبو جعفر المنصور. وفيها توجه حميد بن قحطبة إلى ثغر أرمينية فلم يلق بأساً، وتوطأت الممالك لأبي جعفر المنصور وثبتت قدمه في الخلافة وعظمت هيبته في النفوس ودانت له الأمصار؛ ولم يبق خارجاً عنه سوى جزيرة الأندلس من بلاد المغرب فقط، فإنها تغلب عليها عبد الرحمن بن معاوية المرواني الأموي المعروف بالداخل لكونه دخل المغرب لما هرب من بني العباس، وقد تقدم ذكره في هذا الكتاب، لكنه لم يتلقب بأمير المؤمنين بل بالأمير فقط، وكذلك بنوه من بعده، ويأتى ذكرهم في محلهم من هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. وفيها توفي جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبى طالب رضي الله عنهم، الإمام السيد أبو عبد الله الهاشمي العلوي الحسيني المدني، يقال: مولده سنة ثمانين من الهجرة؛ وهو من الطبقة الخامسة من تابعي أهل المدينة، وكان يلقب بالصابر، والفاضل، والطاهر، وأشهر ألقابه الصادق؛ وهو سبط القاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، فإن أمه هي أم فروة بنت القاسم بن محمد المذكور، وأمها أم أسماء بنت عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق، ولهذا كان جعفر يقول: أنا ابن الصديق مرتين، وهو يروي عن جده لأمه القاسم بن محمد ولم يرو

(2/8)


عن جده لأبيه علي زين العابدين، وقد أدركه وهو مراهق، وروى عن أبيه وعروة ابن الزبير وعطاء ونافع والزهري، وحدث عنه أبو حنيفة وابن جريج وشعبة والسفيانان ومالك وغيرهم. وعن أبي حنيفة قال: ما رأيت أفقه من جعفر بن محمد.
وروي عن علي بن الجعد عن زهير بن محمد قال: قال أبي لجعفر بن محمد- يعني الصادق-: إن لي جارا يزعم أنك تبرأ من أبي بكر بن أبي قحافة وعمر، فقال:
جعفر: برئ الله من جارك، والله إني لأرجو أن ينفعني الله بقرابتي من أبي بكر.
وذكر الذهبي بإسناد عن محمد بن فضيل عن سالم بن أبي حفصة قال:
سألت أبا جعفر محمد بن علي وابنه جعفراً عن أبي بكر وعمر، فقالا: يا سالم تولهما وابرأ من عدوهما، فإنهما كانا إمامي هدى رضي الله عنهما. وقال لي جعفر:
يا سالم، أيسب الرجل جده! أبو بكر جدي، فلا نالتنى شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة إن لم أكن أتولاهما وأبرأ من عدوهما. قال الذهبي: هذا إسناد صحيح؛ وسالم وابن فضيل شيعيّان. هـ.
قلت: * والفضل ما شهدت به الأعداء* وأي عذر أبقى جعفر الصادق بعد ذلك للرافضة! أخزاهم الله تعالى. وفيها توفي سليمان بن مهران الإمام أبو محمد الأسدي الكاهلي المحدث المعروف بالأعمش، من الطبقة الرابعة من تابعي أهل الكوفة، ولد بقرية أمه «1» من عمل طبرستان في سنة إحدى وستين.

(2/9)


قال الحافظ أبو عبد الله الذهبي: وقد رأى أنس بن مالك وهو يصلي، ولم يثبت أنه يمع منه، مع أن أنساً لما توفي كان للأعمش نيف وثلاثون سنة، وكان يمكنه السماع من جماعة من الصحابة. ثم ذكر الذهبي روايته عن جماعة كثيرة جدا، وذكر أيضاً من روى عنه أكثر وأمعن «1» ؛ ثم ذكر من خفة روحه ودعابته أشياء، منها:
قال وقال عيسى بن يونس: خرج الأعمش فإذا بجندي فسخره ليعبر به نهراً، فلما ركبه- قال: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا
الآية، فلما توسط به الأعمش في الماء قال: وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبارَكاً وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ
ثم رمى به.
وقال محمد بن عبيد الطنافسي: جاء رجل نبيل كبير اللحية إلى الأعمش فسأله عن مسألة خفيفة من الصلاة، فالتفت إلينا الأعمش فقال: انظروا إليه، لحيته تحتمل حفظ أربعة آلاف حديث ومسألته مسألة صبيان الكتاب اهـ
وذكر الذهبي في هذه السنة وفاة جماعة كثيرة، قال: وتوفي جعفر بن محمد الصادق، وسليمان الأعمش، وشبل بن عبّاد مقرئ مكة، وزكريا بن أبي زائدة في قول، وعمرو بن الحارث الفقيه بمصر، وعبد الله بن يزيد بن هرمز؛ وعبد الجليل بن حميد اليحصبي، وعمار بن سعد المصري، والعوام بن حوشب، ومحمد بن عبد الرحمن ابن أبى ليلى القاضى- يأتى ذكره- قال: وحمد بن عجلان الفقيه المدني «2» ، ومحمد بن الوليد الزبيدي الفقيه، ونعيم بن حكيم المدائني «3» ، وأبو زرعة يحيى الشيباني.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم، ذراع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.

(2/10)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 149]
السنة الخامسة من ولاية يزيد بن حاتم على مصر وهي سنة تسع وأربعين ومائة- فيها حجّ بالناس محمد بن الإمام إبراهيم، وفيها ولي إمرة مكة عبد الصمد بن علي العباسي عم الخليفة المنصور ثم صرف عنها. وفيها غزا العباس بن محمد أرض الروم ومعه الحسن بن قحطبة ومحمد بن الأشعث، الذي كان ولي مصر قبل تاريخه، فمات ابن الأشعث في الطريق، وقد تقدم ذكر ذلك في ترجمته. وفيها كمل بناء بغداد.
وفيها توفي سلم بن قتيبة بن مسلم بن عمرو بن الحصين أبو عبد الله الباهلي الخراساني والد سعيد بن سلم، ولي سلم هذا إمرة البصرة ليزيد بن عمر بن هبيرة في أيام مروان الحمار، ثم وليها في أيام أبي جعفر المنصور، وكان أميرا عاقلا عادلا في الرعية.
وفيها توفي عيسى بن عمر النحوي الثقفي العالم صاحب الإكمال والجامع، وفيهما يقول الخليل بن أحمد صاحب العربيّة والعروض:
بطل النحو جميعاً كله ... غير ما أحدث عيسى بن عمر
ذاك إكمال وهذا جامع ... فهما للناس شمس وقمر
وفيها توفي كرز بن وبرة الكوفي، كان يسكن جرجان، من الطبقة الرابعة من تابعي أهل الكوفة، كان زاهداً عابداً، سأل ربه أن يعطيه الاسم الأعظم على أن يسأل ربه به حاجة من الدنيا فأعطاه، فسأله الله أن يقويه على ختم القرآن، فكان يختم كل يوم وليلة ثلاث ختمات.
وذكر الذهبي وفاة جماعة في هذه السنة، قال: وفيها توفى ثابت بن عمارة وزكرياء بن أبي زائدة في قول، وسلم بن قتيبة بن مسلم الباهلي الأمير،

(2/11)


وعبد الحميد بن يزيد الجذامي، وكهمس بن الحسن التميمي، والمثنى بن الصباح، ومحمد بن الأشعث الخزاعي القائد، وأبو جناب «1» الكلبي، ومعروف بن سويد الجذامي «2» المصري، ويعقوب بن مجاهد في قول.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وإصبعان، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وثمانية أصابع ونصف.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 150]
السنة السادسة من ولاية يزيد بن حاتم على مصر وهي سنة خمسين ومائة- فيها خرج اسباديس «3» في جموع كثيرة، يقال: كان في نحو ثلثمائة ألف مقاتل، وغلب على غالب خراسان؛ فخرج لقتالهم الأختم «4» المروروذي بأهل مرو الروذ، فاقتتلوا فقتل الأختم في جيشه؛ ثم خرج لقتاله خازم بن خزيمة، وتقاتلا أشد قتال وثبت كل من الفريقين حتى نصر الله الإسلام وهزم اسباديس وكثر القتل في جيشه فقتل منهم سبعون ألفا وأسر بضعة عشر ألفا وهرب اسباديس في طائفة من عسكره إلى الجبل. وفيها عزل الخليفة أبو جعفر المنصور جعفر بن سليمان عن إمرة المدينة وولى الحسن بن زيد بن الحسن بن الحسن بن علي العلوى. وفيها حجّ بالناس عبد الصمد ابن علي العباسي. وفيها توفي الإمام الأعظم أبو حنيفة، واسمه النعمان بن ثابت بن زوطى، الفقيه الكوفي صاحب المذهب؛ ولد سنة ثمانين من الهجرة ورأى أنس

(2/12)


ابن مالك الصحابي غير مرة بالكوفة لما قدمها أنس، قاله ابن سعد. وروى عن عطاء بن أبي رباح ونافع وسلمة وخلق كثير، وتفقه بحماد وغيره حتى برع في الفقه والرأي وساد أهل زمانه بلا مدافعة في علوم شتى. وقال عبد الله بن المبارك:
أبو حنيفة أفقه الناس. وقال الشافعي: الناس في الفقه عيال على أبي حنيفة. وقال يزيد بن هارون: ما رأيت أحداً أورع ولا أعقل من أبي حنيفة. وعن أسد بن عمرو أن أبا حنيفة صلى العشاء والصبح بوضوء واحد أربعين سنة. قال الذهبي:
وقد روي من وجهين أنه ختم القرآن في ركعة. وعن النضر بن محمد قال: كان أبو حنيفة جميل الوجه نقي الثوب عطر الرائحة. وعن ابن المبارك واسمه عبد الله قال:
ما رأيت رجلاً أوقر في مجلسه ولا أحسن سمتاً وحلماً من أبي حنيفة. وروى إبراهيم ابن سعيد «1» الجوهري عن المثنى أن رجلاً قال: جعل أبو حنيفة على نفسه إن حلف بالله صادقاً أن يتصدق بدينار. ويروى أن أبا حنيفة ختم القرآن في الموضع الذي مات فيه سبعة آلاف مرة. وروى محمد بن سماعة عن محمد بن الحسن عن القاسم بن معن: أن أبا حنيفة قام ليلة يردد قوله تعالى: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهى وَأَمَرُّ
ويبكي ويتضرع إلى الفجر. وقال يزيد بن هارون: ما رأيت أحداً أحلم من أبي حنيفة. وعن الحسن بن زياد: قال أبو حنيفة: إذا ارتشى القاضي فهو معزول وإن لم يعزل. وقال إسحاق بن إبراهيم الزهري عن بشر بن الوليد الكندىّ: طلب المنصور أبا حنيفة فأراده على القضاء وحلف ليلين، فأبى وحلف ألا يفعل ذلك؛ فقال الربيع حاجب المنصور: ترى أمير المؤمنين يحلف وأنت تحلف! قال: أمير المؤمنين على كفارة يمينه أقدر مني؛ فأمر به إلى السجن

(2/13)


فمات فيه ببغداد. وعن مغيث بن بديل قال: دعا المنصور أبا حنيفة إلى القضاء فامتنع؛ فقال: أترغب عما نحن فيه؟ فقال: لا أصلح؛ قال: كذبت؛ قال أبو حنيفة:
فقد حكم أمير المؤمنين على أني لا أصلح، فإن كنت كاذباً فلا أصلح، وإن كنت صادقاً فقد أخبرتكم أني لا أصلح، فحبسه؛ ووقع لأبي حنيفة بسبب القضاء أمور مع المنصور وهو على امتناعه إلى أن مات. وقال أحمد بن الصباح: سمعت الشافعي يقول: قيل لمالك: هل رأيت أبا حنيفة؟ قال: نعم، رأيت رجلاً لو كلمك في هذه السارية أن يجعلها ذهباً لقام بحجته. وقال حبان «1» بن موسى: سئل ابن المبارك: أمالك أفقه أم أبو حنيفة؟ قال: أبو حنيفة. وقال الخريبي «2» : ما يقع في أبي حنيفة إلا حاسد أو جاهل. وقال يحيى القطان: لا نكذب الله، ما سمعنا بأحسن من أبي حنيفة، وقد أخذنا بأكثر أقواله. وقال علي بن عاصم: لو وزن علم أبي حنيفة بعلم أهل زمانه لرجح عليهم. وقال حفص بن غياث: كلام أبي حنيفة في الفقه أرق من الشعر لا يعيبه إلا جاهل. وقال الحميدي: سمعت ابن عيينة يقول:
شيئان ما ظننتهما يجاوزان قنطرة الكوفة: قراءة حمزة وفقه أبي حنيفة، وقد بلغا الآفاق. وعن الأعمش أنه سئل عن مسألة فقال: إنما يحسن هذا النعمان بن ثابت، وأظنه بورك له في علمه. وقال جرير: قال لي مغيرة: جالس أبا حنيفة تتفقه، فإن إبراهيم النخعي لو كان حياً لجالسه. وقال محمد بن شجاع سمعت علي بن عاصم يقول: لو وزن عقل أبي حنيفة بعقل نصف الناس لرجح بهم.

(2/14)


قلت: ومناقب أبي حنيفة كثيرة، وعلمه غزير وفي شهرته ما يغني عن الإطناب في ذكره، ولو أطلقت عنان القلم في كثرة علومه ومناقبه لجمع من ذلك عدة مجلدات؛ وكانت وفاته رضي الله عنه في شهر رجب من هذه السنة، ودفن بمقابر بغداد، وأقام على ذلك سنين إلى أن بنى عليه شرف الملك أبو سعد محمد بن منصور الخوارزمي مستوفي مملكة السلطان ملك شاه السلجوقي مشهداً في سنة تسع وخمسين وأربعمائة وبنى على القبر قبة ومدرسة كبيرة للحنفية، فلما فرغ من عمارة ذلك جمع الفقهاء والعلماء والأعيان ليشاهدوا ما بناه، فبينما هم في ذلك إذ دخل عليهم الشريف أبو جعفر مسعود «1» البياضىّ الشاعر وأنشد:
ألم تر أن العلم كان مبدداً ... فجمعه هذا الموسد في اللحد
كذلك كانت هذه الأرض ميتة ... فأنشرما فعل العميد أبي سعد
قلت: وأحسن من هذا ما قاله عبد الله بن المبارك في مدح أبي حنيفة، القصيدة المشهورة التي أوّلها:
لقد زان البلاد ومن عليها ... إمام المسلمين أبو حنيفة
وفيها توفي عبد العزيز بن سليمان أبو محمد الراسبي من الطبقة السادسة من تابعي أهل البصرة، كان عابداً زاهداً، كانت رابعة «2» تسميه سيد العابدين؛ كان إذا ذكر القيامة والموت صرخ كما تصرخ الثكلى ويصرخ الحاضرون من جوانب المسجد وربما وقع الميت والميتان من جوانب المسجد؛ قاله أبو المظفر في مرآة الزمان.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع سواء، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وعشرون إصبعاً ونصف.

(2/15)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 151]
السنة السابعة من ولاية يزيد بن حاتم على مصر وهي سنة إحدى وخمسين ومائة- وهي التي عزل فيها. وفيها عزل المنصور عمر بن حفص المهلبي عن السند بهشام بن عمرو التغلبي «1» ، وتولى المهلبي هذا إفريقية. وفيها ابتدأ الخليفة أبو جعفر المنصور بعمارة الرصافة بالجانب الشرقي وعمل لها سوراً وخندقاً وأجرى إليها الماء كما فعل ببغداد. وفيها جدد الخليفة أبو جعفر المنصور البيعة لولده محمد المهدي ثم لابن أخيه من بعده عيسى بن موسى، فكان من يبايعه يقبل يده ويد المهدي ثم يمسح على يد عيسى بن موسى ولا يقبلها. قلت: البلاء والرياء قديمان. وفيها توفي عبد الله بن عون بن أرطبان أبو عون مولى عبد الله بن درّة من الطبقة الرابعة من أهل البصرة؛ كان عثمانياً ثقة ورعاً كثير الحديث. ولد قبل الطاعون الجارف بثلاث سنين، وكان إذا مر بالقدرية «2» لا يسلم عليهم.
وذكر الذهبي وفاة جماعة آخرين في هذه السنة، قال: وفيها توفي حنظلة ابن أبي سفيان المكي، وداود بن يزيد الأودي، وسيف بن سليمان في قول، وعبد الله بن عون في رجب، وعبد الله بن عامر الأسلمي يقال فيها، وعلي بن صالح المكي، وعيسى بن أبي عيسى الخياط الخباط الحناط فإنه باشر الصنائع الثلاث:
الخياطة وبيع الخبط «3» وبيع الحنطة، ومحمد بن إسحاق بن يسار فيها على قول، وهو الأصح، ومعن بن زائدة الأمير، والوليد بن كثير المدني بالكوفة وصالح بن علىّ الأمير.

(2/16)


أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وستة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.
ذكر ولاية عبد الله بن عبد الرحمن على مصر
هو عبد الله بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج، وحديج (بضم الحاء المهملة وفي الآخر جيم) التجيبي [بضم التاء «1» المثناة من فوق] الأمير أبو عبد الرحمن أمير مصر وليها من قبل الخليفة أبي جعفر المنصور بعد عزل يزيد بن حاتم المهلبي عنها، على الصلاة في يوم السبت ثامن عشر شهر ربيع الآخر سنة اثنتين وخمسين ومائة، ولم يول على الشرطة أحداً وباشر هو ذلك بنفسه؛ وكان عبد الله هذا قد ولي الشرطة لغير واحد من أمراء مصر. ولما استقر في إمرة مصر سكن المعسكر على عادة الأمراء، وهو أول من خطب بالسواد بمصر، فأقام بمصر مدة ثم خرج منها ووفد على الخليفة أبي جعفر المنصور ببغداد في سنة أربع وخمسين ومائة واستخلف أخاه محمد بن عبد الرحمن على الصلاة ثم رجع إلى مصر في آخر السنة المذكورة؛ ودام بها إلى أن توفي وهو على إمرة مصر في مستهل صفر سنة خمس وخمسين ومائة، واستخلف أخاه محمداً على صلاة «2» مصر فأقره الخليفة أبو جعفر المنصور على إمرة مصر بعده. فكانت ولاية عبد الله هذا على مصر ثلاث سنين تنقص أياماً.
وعبد الله هذا وأبوه من أكابر المصريين من أعوان بني أمية غير أنه استأمن سليمان بن علي العباسي لما استأمنه عمرو بن معاوية بن عمرو بن سفيان بن عتبة ابن أبي سفيان. وسببه أنه لما قتل غالب بني أمية خاف عمرو المذكور فقال: اختفيت فكنت لا آتي مكاناً إلا عرفت به، فضاقت علي الدنيا فقصدت سليمان بن علي وهو

(2/17)


لا يعرفني فقلت له: لفظتني البلاد إليك، ودلني فضلك عليك؛ فإما قتلتني فاسترحت، وإما رددتني سالماً فسلمت «1» ؛ فقال: [ومن أنت؟ فعرفته نفسي، فقال «2» ] :
مرحباً بك، [ما «3» ] حاجتك؟ فقلت له: إن الحرم اللواتي أنت أولى [الناس «4» ] بهن وأقربهم إليهن قد خفن تخوفنا ومن خاف خيف عليه. قال: فبكى سليمان كثيراً ثم قال: بل يحقن الله دمك ويوفر مالك ويحفظ حرمك؛ ثم كتب إلى السفاح:
يا أمير المؤمنين، إنه قد «5» دفت دافة من بني أمية علينا وإنا إنما قتلناهم على عقوقهم، لا على أرحامهم، فإننا يجمعنا وإياهم عبد مناف؛ فالرحم تبل «6» ولا تقتل وترفع ولا توضع؛ فإن رأى أمير المؤمنين أن يهبهم لي فليفعل، وإن فعل فليجعل كتاباً عاماً إلى البلدان شكر الله تعالى على نعمه. فأجابه إلى ما سأل. وكان هذا أول أمان لبني أمية ودخل فيه صاحب الترجمة وغيره.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 152]
السنة الأولى من ولاية عبد الله بن عبد الرحمن على مصر وهي سنة اثنتين وخمسين ومائة- فيها حج بالناس الخليفة أبو جعفر المنصور. وفيها وثب الخوارج ببست «7» على عاملها معن بن زائدة الشيباني فقتلوه لجوره وعسفه. وفيها غزا حميد بن قحطبة كابل «8» وولاه المنصور إقليم خراسان. وفيها ولي البصرة يزيد بن

(2/18)


المنصور «1» . وفيها توفي «2» معن بن زائدة بن عبد الله بن زائدة بن مطر بن شريك الشيباني الأمير أبو الوليد وقيل أبو يزيد. كان أحد الأجواد وكان شجاعاً مقداماً ممدحاً.
وحكاياته في الجود والكرم مشهورة. وكان أولاً مع ابن هبيرة ثم اختفى حتى كانت وقعة الراوندية مع المنصور المقدم ذكرها؛ فلما كانت الوقعة خرج معن وقاتل بين يدي المنصور قتالاً عظيماً، فولاه المنصور اليمن ثم سجستان؛ وقيل: إن معناً دخل مرة على الخليفة أبي جعفر المنصور: فقال له المنصور: هيه يا معن! تعطي مروان ابن أبي حفصة مائة ألف درهم على قوله:
معن بن زائدة الذي زيدت به ... شرفاً على شرف بنو شيبان
فقال: كلا يا أمير المؤمنين، إنما أعطيته على قوله في هذه القصيدة:
ما زلت يوم الهاشمية «3» معلنا ... بالسيف دون خليفة الرحمن
فمنعت حوزته وكنت وقاءه ... من وقع كل مهند وسنان
فقال: أحسنت يا معن، ما أكثر وقوع الناس في قومك! فقال: يا أمير المؤمنين:
إن العرانين تلقاها محسدة ... ولا ترى للئام الناس حسادا
ودخل عليه يوماً وقد أسن فقال: كبرت يا معن، فقال: في طاعتك يا أمير المؤمنين؛ قال: وإنك لجلد [قال «4» ] : على أعدائك يا أمير المؤمنين؛ قال:
وفيك بقية، قال: هي لك يا أمير المؤمنين. وعرض هذا الكلام على عبد الرحمن ابن يزيد»
زاهد أهل البصرة فقال: ويح هذا! ما ترك لربه شيئاً.

(2/19)


وذكر الذهبي وفاة جماعة أخر في هذه السنة، قال: وتوفى أبو عامر صالح ابن رستم الخزاز، وعبد الله «1» بن أبي يحيى الأسلمي، وعمر بن سعيد بن أبي الحسين المكي، وطلحة بن عمرو المكي، وعباد بن منصور الناجىّ، ويونس بن يزيد الأيلي في قول.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراع وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وإصبع واحد ونصف إصبع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 153]
السنة الثانية من ولاية عبد الله بن عبد الرحمن على مصر وهي سنة ثلاث وخمسين ومائة- فيها قتل متولي إفريقية عمر بن حفص بن عثمان بن أبي صفرة الأزدي، خرجت عليه أمم من البربر وعليهم أبو حاتم الأباضي وأبو عاد فيقال: إنهم كانوا في خمسة وثمانين «2» ألف فارس ومائتي ألف راجل، وكانوا بايعوا أبا قرة الصفري بالخلافة. وفيها ألزم الخليفة أبو جعفر المنصور رعيته بلبس القلانس الطوال المعروفة بالمدينة، وكانوا يعملونها بالقصب والورق ويلبسونها السواد، وفيها يقول أبو دلامة:
وكنا نرجي من إمام زيادة ... فزاد الإمام المصطفى في القلانس
تراها على هام الرجال كأنّها ... دنان يهود جلّلت بالبرانس
وفيها غزا مسعود «3» بن عبد الله الجحدري الصائفة وفتح حصناً بالروم عنوة.
وفيها ولي بكار «4» بن مسلم أرمينية. وفيها أغارت الحبشة على جدة فجهز إليهم الخليفة

(2/20)


أبو جعفر المنصور المراكب. وفيها سخط المنصور على وزيره أبي أيوب المورياني «1» واستأصله وحبس معه أولاد أخيه سعيداً ومسعوداً ومحمداً ومخلداً؛ وقتل في السنة الآتية. وكان الذي سعى بأبي أيوب هذا هو كاتبه أبان بن صدقة. وفيها توفي شقيق بن ابراهيم الزاهد أبو علي البلخي الأزدي، كان من كبار مشايخ خراسان وله لسان في التوكل «2» ، وهو أوّل من تكلّم فئ التصوف وعلوم الأحوال بكورة خراسان؛ وهو أستاذ حاتم الأصم وكان لشقيق دنيا واسعة خرج عنها وتزهد وصحب إبراهيم بن أدهم. وفيها توفي وهيب بن الورد مولى بني مخزوم من الطبقة الثالثة من أهل مكة، وكان اسمه عبد الوهاب فصغر وهيباً؛ وكانت له أحاديث ومواعظ. روى عنه عبد الله بن المبارك وغيره، وكنيته أبو عثمان وقيل أبو أمية، وكان زاهداً ينظر في دقائق الورع. قال بشر الحافي «3» : أربعة رفعهم الله بطيب المطعم: وهيب بن الورد وإبراهيم ابن أدهم ويوسف بن أسباط وسلم «4» الخواص.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وثلاثة أصابع مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وعشرة أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 154]
السنة الثالثة من ولاية عبد الله بن عبد الرحمن النّجيبى على مصر وهي سنة أربع وخمسين ومائة- فيها قدم الخليفة أبو جعفر المنصور الشام وزار بيت المقدس، ثم جهز يزيد بن حاتم في خمسين ألفاً لحرب الخوارج بإفريقية، وأنفق

(2/21)


المنصور على الجيش المذكور، مع شحه بالمال، ستين ألف ألف درهم وزيادة؛ ثم ولى قضاء دمشق ليحيى بن حمزة، فاعتل يحيى بأنه شاب؛ فقال: إني أرى أهل بلدك قد أجمعوا عليك فإياك والهدية، فبقي يحيى على قضاء دمشق ثلاثين سنة.
قال الواقدي: وفيها نزلت صاعقة بالمسجد الحرام فأهلكت خمسة نفر. وفيها مات الوزير أبو أيوب المورياني، وكان المنصور صادره وسجنه وأخاه خالداً وبني أخيه في السنة الماضية، فلما مات ضرب المنصور أعناق بني أخيه. وفيها حج بالناس محمد بن الإمام إبراهيم العباسي أمير مكة. وفيها توفى الحكم بن أبان العدنىّ، هو من الطبقة الثالثة من أهل اليمن؛ كان سيد أهل اليمن في الزهد والعبادة والصلاح، كان يصلي الليل كله فإذا غلبه النوم ألقى نفسه في الماء وقال لنفسه: سبحي الله عز وجل مع الحيتان.
وذكر الذهبي وفاة جماعة أخر، قال: وتوفي أشعب الطماع، وجعفر بن برقان، والحكم بن أبان العدني، وربيعة بن عثمان التيمي، وعبد الله بن نافع مولى ابن عمر، وعبد الرحمن بن يزيد بن جابر الدمشقي، وعبيد الله بن عبد الله بن موهب «1» ، وعلي بن صالح بن حي الكوفي، وعمر بن إسحاق بن يسار المدنىّ، وقرّة ابن خالد السدوسي، ومحمد بن عبد الله بن مهاجر الشعيثي، وأبو عمرو بن العلاء المازني، ومعمر في قول.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراع وستة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعا.

(2/22)


ذكر ولاية محمد بن عبد الرحمن على مصر
هو محمد بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج التجيبي أمير مصر، وليها باستخلاف أخيه عبد الله بن عبد الرحمن له بعد موته، فأقره الخليفة أبو جعفر المنصور على ذلك وولاه مصر على الصلاة والخراج وذلك في سنة خمس وخمسين ومائة، فجعل على شرطته العباس «1» بن عبد الرحمن بن ميسرة؛ وسكن المعسكر وسار في الناس سيرة مشكورة غير أنه لم تطل أيامه، ومرض ولزم الفراش حتى مات في النصف من شوال من سنة خمس وخمسين ومائة. فكانت ولايته على إمرة مصر استقلالاً بعد موت أخيه عبد الله ثمانية أشهر ونصفاً. وتولى إمرة مصر من بعده موسى بن علي بن رباح باستخلاف محمد هذا له. وفي أيام ولايته على مصر خرجت عساكر مصر إلى إفريقية صحبتها يزيد بن حاتم، فقام محمد هذا بأمرهم أتم قيام وجهزهم وحمل إلى يزيد الأموال والخيل والسلاح والرواتب حتى سار إلى جهة المغرب وقاتل من بها وقتل أبا عاد وأبا حاتم وملك القيروان وسائر الغرب، وبعث إلى محمد هذا ليعرف الخليفة بذلك فوجده الرسول قد مات قبل وصوله بأيام. وقد تقدم ذكر نسب محمد هذا في ترجمة أخيه عبد الله بن عبد الرحمن فلا حاجة للإعادة. اهـ