النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 205]
السنة الأولى من ولاية محمد بن السري على مصر وهي سنة خمس ومائتين- فيها حج بالناس عبيد الله بن الحسن العلوي وهو والى الحرمين مكّة والمدينة. وفيها ولى المأمون طاهر بن الحسين على جميع بلاد خراسان والمشرق وأعطاه عشرة آلاف ألف درهم، وكان ولده عبد الله بن طاهر قد قدم على المأمون من الرقة فولاه

(2/178)


على الجزيرة. ثم ولى المأمون عيسى بن محمد بن خالد على أذربيجان وإرمينية وأمره بقتل بابك الحرّمىّ. وفيها استعمل المأمون عيسى بن يزيد الجلودي على محاربة الزط، وكانوا قد طغوا وتجبروا. وفيها توفي يعقوب بن إسحاق بن زيد «1» بن عبد الله ابن أبي إسحاق الإمام أبو محمد الحضرمي مولاهم البصرىّ قارئ أهل البصرة بعد أبي عمرو بن العلاء وأحد الأئمة القراء العشرة، أخذ القرآن عن أبى المنذر سلّام الطويل وأبى الأشهب العطاردىّ ومهدي بن ميمون وغيرهم، وسمع حروفاً من حمزة، وتصدى للإقراء فقرأ عليه خلق، وكان أصغر من أخيه أحمد بن إسحاق، ومات في ذي الحجة. وفيه يقول محمد بن أحمد العجلىّ يمدحه:
أبوه من القراء كان وجده ... ويعقوب في القراء كالكوكب الدري
تفرده محض الصواب ووجهه ... فمن مثله في وقته وإلى الدهر
وفيها توفي أبو سليمان الداراني، اسمه عبد الرحمن بن أحمد بن عطية، وقيل:
عبد الرحمن بن عسكر العبسي الداراني، كان من واسط وتحول إلى الشام ونزل داريا (قرية غربي دمشق) ، وكان إماماً حافظاً كبير الشأن في علوم الحقائق والورع أثنى عليه الأئمة، وكان له الرياضات والسياحات، وله كرامات وأحوال. رحمه الله تعالى آمين.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي روح بن عبادة في جمادى الأولى، وأبو عامر العقدىّ [عبد الملك بن عمرو «2» ] ، ومحمد بن عبيد، ويعقوب الحضرمىّ، ومحمد بن عبيد الطنافسي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع واثنان وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وأربعة عشر إصبعا.

(2/179)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 206]
السنة الثانية من ولاية محمد بن السري على مصر وهي سنة ست ومائتين- فيها كان الماء الذي غرق منه أرض السواد وذهبت الغلات وغرقت قطيعة «1» أم جعفر، وقطيعة العباس. وفيها نكب الأمير عيسى بن محمد بن أبى خالد بابك الخرّمىّ وبيته «2» . وفيها استعمل المأمون على بغداد إسحاق بن إبراهيم. وفيها توفي بهيم العجلي الشيخ أبو بكر الزاهد العابد، كان رجلاً حزيناً يزفر الزفرة فيسمع زفيره على بعد، وكان من البكّائين الخابعين «3» . وفيها توفي الحكم بن هشام بن عبد الرحمن الداخل الأموي المغربي الأندلسي، ولي إمرة الأندلس يوم مات أبوه في صفر، سنة ثمانين ومائة وعمره اثنتان وعشرون سنة وشهر وأيام، ولقب بالمرتضى، وكنيته أبو العاص؛ وكان شجاعاً فاتكاً، ربط على باب قصره ألف فرس لخاصة نفسه.
قلت: وقد تقدم الكلام على أصل هؤلاء أنهم من ذرية عبد الملك بن مروان وأن عبد الرحمن الداخل خرج في غفلة «4» بني العباس من الشأم إلى الغرب وملك الأندلس. وفيها توفي يزيد بن هارون الإمام الحافظ أبو خالد السلمي مولاهم الواسطي، ولد سنة ثمان عشرة ومائة. قال السراج: سمعت علي بن شعيب يقول:
سمعت يزيد بن هارون يقول: أحفظ أربعة وعشرين ألف حديث بالإسناد ولا فخر، وكان مع هذا ديناً زاهداً صلى بوضوء العشاء صلاة الفجر نيفاً وأربعين سنة رحمه الله. [ومات في شهر ربيع الأول من السنة وله ثمان وثمانون سنة «5» ] .

(2/180)


الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي أبو حذيفة البخاري صاحب «المبتدأ» ، وحجاج الأعور، وشبابة بن سوار، ومحاضر بن «1» المورع، وقطرب النحوي صاحب سيبويه، وموسى بن اسماعيل، ووهب بن جرير، ويزيد ابن هارون، وعبد الله بن نافع الصائغ الفقيه صاحب مالك.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وأربعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وثمانية عشر إصبعا.
ذكر ولاية عبيد الله بن السري على مصر
هو عبيد الله بن السري بن الحكم بن يوسف، ولي إمرة مصر بعد موت أخيه محمد بن السري بمبايعة الجند له في يوم الثلاثاء لتسع خلون من شعبان سنة ست ومائتين على الصلاة والخراج معاً. وسكن المعسكر، وجعل على شرطته محمد بن عقبه «2» المعافري، ولما ولي عبيد الله مصر وقع بينه وبين الجروي الخارجي المقدم ذكره حروب كثيرة، ثم حدّثته نفسه بالخروج عن طاعة المأمون وجمع وحشد؛ فبلغ المأمون ذلك وطلب عبد الله بن طاهر وقال له: إني استخرت الله تعالى منذ شهر، وقد رأيت أن الرجل يصف ابنه ليطريه وليرفعه، وقد رأيتك فوق ما وصفك أبوك، وقد مات السري وولى ابنه عبيد الله وليس بشيء، وقد رأيت تولينك مصر ومحاربة الخوارج بها؛ فقال عبد الله بن طاهر: السمع والطاعة، وأرجو أن يجعل الله الخير لأمير المؤمنين. فعقد له المأمون لواء مكتوباً عليه ألقاب عبد الله بن طاهر، وزاد فيه يا منصور؛ وركب الفضل بن الربيع الحاجب بين يديه إلى داره

(2/181)


تكرمة له؛ ثم خرج عبد الله من العراق بجيوشه حتى قرب من مصر، فتهيأ عبيد الله ابن السري المذكور لحربه وعبأ جيوشه وحفر خندقاً عليه، ثم تقدم بعساكره إلى خارج مصر والتقى مع عبد الله بن طاهر وتقاتلا قتالاً شديداً وثبت كل من الفريقين ساعة كبيرة حتى كانت الهزيمة على عبيد الله بن السري أمير مصر، وانهزم إلى جهة مصر، وتبعه عبد الله بن طاهر بعساكره، فسقط غالب جند عبيد الله المذكور في الخندق الذي كان عبيد الله احتفره، ودخل هو بأناس قليلة إلى داخل مصر وتحصن به؛ فحاصره عبد الله بن طاهر وضيق عليه حتى أباده وأشرف على الهلاك، فطلب عبيد الله بن السري الأمان من عبد الله بن طاهر بشروطه، وبعث إليه بتقدمة من جملتها ألف وصيف ووصيفة مع كل وصيف ووصيفة ألف دينار في كيس حرير وبعث بهم ليلاً؛ فرد عبد الله بن طاهر ذلك عليه، وكتب إليه: لو قبلت هديتك نهاراً قبلتها ليلاً (بل أنتم بهديتكم تفرحون) الآية. فلما بلغه ذلك طلب الأمان من غير شرط؛ فأمنه عبد الله بن طاهر بعد أمور صدرت؛ فخرج إليه عبيد الله بن السري بالأمان وبذل إليه أموالاً كثيرة وأذعن له وسلم إليه الأمر، وذلك في آخر صفر سنة إحدى عشرة ومائتين. قال صاحب البغية: وعزله المأمون في ربيع الأول وذكر السنة انتهى.
قلت: فكانت ولاية عبيد الله هذا على إمرة مصر أربع سنين وسبعة أشهر إلا ثمانية أيام. وتوجه عبيد الله إلى المأمون في السنة المذكورة فأكرمه وعفا عنه.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 207]
السنة الأولى من ولاية عبيد الله بن السري وهي سنة سبع ومائتين- فيها حج بالناس أبو عيسى أخو الخليفة المأمون. وفيها ولى المأمون موسى بن حفص طبرستان. وفيها ظهر الصناديقي باليمن واستولى عليها وقتل النساء والولدان وادّعى

(2/182)


النبوة وتبعه خلق وآمنوا بنبوته وارتدوا عن الإسلام، فأهلكه الله بالطاعون بعد أمور رقعت منه. وفيها خرج عبد الرحمن بن أحمد بن عبد الله بن محمد بن عمر بن علىّ ابن أبي طالب ببلاد عك من اليمن يدعو إلى الرضى من آل محمد صلى الله عليه وسلم، وكان خروجه من سوء سيرة عامل اليمن، فبايعه خلق؛ فوجه إليه المأمون لحربه دينار ابن عبد الله وكتب معه بأمانه؛ فحج دينار ثم سار إلى اليمن حتى قرب من عبد الرحمن المذكور، وبعث إليه بأمانه فقبله وعاد مع دينار إلى المأمون. وفيها خلع طاهر ابن الحسين المأمون من الخلافة باكر النهار من يوم الجمعة وقطع الدعاء له، فدعا الخطيب: «اللهم أصلح أمة محمد بما أصلحت به أولياءك، واكفها مؤونة من بغى عليها» ولم يزد على ذلك، ثم طرح طاهر لبس السواد فعرض له عارض فمات من ليلته فأتى الخبر بخلعه على المأمون أول النهار من النصحاء له، ووافى الخبر بموته ليلاً وكفى الله المأمون مؤونته. وقام بعده على خراسان ابنه طلحة فأقره المأمون مكان والده طاهر المذكور؛ وكان ذلك قبل تولية ابنه عبد الله بن طاهر مصر بمدة طويلة.
وطاهر هذا هو الذي كان قام ببيعة المأمون وحاصر الأمين ببغداد تلك المدة الطويلة حتى ظفر به وقتله. وكان طاهر المذكور أعور، وكان يلقب بذي اليمينين؛ فقال فيه بعض الشعراء:
يا ذا اليمينين وعين واحدة ... نقصان عين ويمين زائدة
وكان في نفس المأمون منه شيء لكونه قتل أخاه الأمين محمداً بغير «1» مشورته لما ظفر به بعد حصار بغداد، ولم يرسله إلى أخيه المأمون ليرى فيه رأيه مراعاة لخاطر أمه زبيدة، فلما قتله طاهر المذكور لم يسع المأمون إلا السكوت لكون طاهر هو القائم بدولة المأمون وبنصرته على أخيه الأمين حتى تم له ذلك. وفيها

(2/183)


توفي الواقدي، واسمه محمد بن عمر بن واقد، الإمام أبو عبد الله الأسلمي، مولده سنة تسع وعشرين ومائة وكان إماماً عالماً بالمغازي والسير والفتوح وأيام الناس، وكان ولي القضاء للمأمون أربع سنين. وفيها توفي الأمير طاهر بن الحسين بن مصعب أبو طلحة الخزاعي الملقب ذا اليمينين، أحد قواد المأمون الكبار والقائم بأمره وخلع أخيه الأمين من الخلافة؛ ولاه المأمون خراسان وما يليها حتى خلع المأمون فمات من ليلته في جمادى الأولى فجاءة، أصابته حمى وحرارة فوجد على فراشه ميتاً.
حكي أن عميه علي بن مصعب وحميد بن مصعب عاداه بغلس، فقال الخادم: هو نائم فانتظرا ساعة، فلما انبسط الفجر قالا للخادم: أيقظه؛ قال: لا أجسر؛ فدخلا عليه فوجداه ميتاً. وفيها توفي عمر بن حبيب العدوي القاضي الحنفي البصري هو من بنى عدىّ بن عبد مناة «1» ، قدم بغداد وولي قضاء الشرقية بها وقضاء البصرة، وكان إماماً عالماً بارعاً في فنون كثيرة مشكور السيرة محبباً إلى الناس. رحمه الله. وفيها توفي أبو عبيدة «2» معمر بن المثنى التيمي البصري النحوي العلامة مولى تيم قريش، كان من أعلم الناس بأنساب العرب وله مصنفات مشهورة في علوم كثيرة. وفيها توفي الهيثم بن عدي بن عبد الرحمن بن يزيد الكوفي صاحب التواريخ والأشعار، ولد بالكوفة ونشأ بها ثم انتقل إلى بغداد، وكان مليح الشكل نظيف الثوب طيب الرائحة حلو المحاضرة عالماً بارعاً.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي جعفر بن عون، وطاهر ابن الحسين الأمير بخراسان، وأبو قتادة الحراني، وعبد الصمد بن عبد الوارث،

(2/184)


وعمر بن حبيب العدوي، وأبو نوح قراد، وكثير بن هشام، والواقدي، ومحمد بن كناسة، وهاشم بن القاسم، والهيثم بن عدي، والفراء النحوي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وسبعة عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 208]
السنة الثانية من ولاية عبيد الله على مصر وهي سنة ثمان ومائتين- فيها حج بالناس الأمير صالح أخو المأمون. وفيها استعفى محمد بن سماعة عن القضاء فأعفى، وولّى المأمون عوضه إسماعيل بن حماد بن أبي حنيفة. وفيها خرج الحسن بن الحسين أخو طاهر بن الحسين المقدم ذكره من خراسان إلى كرمان ممتنعاً بها، فسار إليه أحمد بن أبي خالد حتى أخذه وقدم به على المأمون فعفا عنه. وفيها ولى المأمون محمد بن عبد الرحمن المخزومي قضاء عسكر المهدية ثم عزله بعد مدة، وولى عوضه بشر بن الوليد الكندي. وفيها توفي صالح بن عبد الكريم البغدادي أحد الزهاد العباد الورعين. وفيها توفي الفضل بن الربيع بن يونس الحاجب الأمير أبو الفضل، مولده سنة أربعين ومائة وحجب للرشيد واستوزره. ولما مات الرشيد استولى على الخزائن وقدم بها إلى الأمين محمد ببغداد ومعه البردة والقضيب والخاتم فأكرمه الأمين وفوض إليه أموره، فصار إليه الأمر والنهي. ولما خلع الأمين أخاه المأمون من ولاية عهد الخلافة استخفى ثم ظهر في أيام المأمون، فأعاده المأمون إلى رتبته إلى أن مات. وفيها توفيت السيدة نفيسة ابنة الأمين الحسن بن زيد بن السيد الحسن بن علي بن أبي طالب، الهاشمية الحسنية الحسيبة النسيبة صاحبة المشهد بين مصر والقاهرة، وقد ولي أبوها إمرة المدينة لأبي جعفر المنصور مدة، ثم قبض عليه

(2/185)


وحبسه، إلى أن أطلقه المهدي لما تخلف ورد عليه جميع ما كان أخذه أبوه المنصور منه، وقد ذكرنا ذلك في محله. وتحولت السيدة نفيسة مع زوجها إسحاق بن جعفر الصادق من المدينة إلى مصر، فأقامت بها إلى أن ماتت في شهر رمضان من هذه السنة من غير خلف في وفاتها. وهي صاحبة الكرامات والبرهان، وقد شاع ذكرها شرقاً وغرباً. وفيها توفي العتابي واسمه كلثوم بن عمرو بن أيوب الشاعر المشهور أحد البلغاء، كان أصله من قنسرين، وقدم بغداد، ومدح الرشيد ثم أولاده الخلفاء من بعده؛ وكان منقطعاً إلى البرامكة، وكان يتزهد ويلبس الصوف. ومن شعره فيما قيل موالياً:
يا ساقيا خصّنى بما تهواه ... لا تمزج اقداحي رعاك الله
دعها صرفاً فإنني أمزجها ... إذ أشربها بذكر من أهواه
قلت: وهذا يشبه قول القائل، ولم أدر لمن هو:
نديمى «1» لا تسقنى ... سوى الصرف فهو ألهني
ودع كأسها أطلساً «2» ... ولا تسقنى مع دني
وفيها توفي مسلم بن الوليد الأنصاري مولى أسعد بن زرارة الخزرجي الشاعر المشهور، كان فصيحاً بليغاً. ومن شعره فيما قيل وقد رأيته لغيره وهو في مليح أعمى مضمّنا:
بروحي مكفوف اللواحظ لم يدع ... سبيلاً إلى صب يفوز بخيره
سوالفه تفني الورى خل لحظه ... ومن لم يمت بالسيف مات بغيره

(2/186)


قلت: وهذا معنى ظريف فحضرني فيه مقطوع غير أنه من غير المادّة:
كانتا مقلتاه قبل عماها ... لقتال الورى تسل نصالا
فأمنا قتالها حين كفت ... وكفى الله المؤمنين القتالا
وفيها توفي الأمير موسى ابن الخليفة الأمين محمد بن الرشيد هارون العباسي الهاشمي الذي كان ولاه أبوه الأمين العهد من بعده وسماه بالناطق بالحق وخلع المأمون وقامت تلك الحروب التي كان فيها هلاك الأمين. وكان موسى هذا عند جدته لأبيه زبيدة بنت جعفر، وأمه أم ولد ومات وسنه دون عشرين سنة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وأربعة عشر إصبعاً.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وثمانية عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 209]
السنة الثالثة من ولاية عبيد الله بن السري على مصر وهي سنه تسع ومائتين- فيها قرب المأمون أهل الكلام وأمرهم بالمناظرة بحضرته وصار ينظر فيما يدل عليه العقل، وجالسه بشر بن غياث المريسي، وثمامة بن الأشرس وهؤلاء الجنوس. وفيها ولى المأمون علي بن صدقة إمرة أرمينية وأذربيجان وأمره بمحاربة بابك وأعانه بأحمد ابن الجنيد الإسكافي فقاتل بابك فأسره بابك، فولى المأمون عوضه إبراهيم بن الليث.
وفيها حج بالناس أمير مكة صالح بن العباس بن محمد بن علي العباسي. وفيها توفي بشر بن منصور الشيخ أبو محمد، كان أحد العبّاد الزهّاد المجتهدين، كان يتجنّب الناس ويتورّى «1» بالخلوة. وفيها توفي الحسن بن موسى أبو علي الأشيب الحنفي الخراساني، كان ولي القضاء بالموصل ثم حمص في أيام الرشيد، ثم ولي قضاء طبرستان للمأمون

(2/187)


وكان عالما عارفا. وفيها توفي سعيد بن سلم «1» بن قتيبة أبو محمد الباهلي البصري، كان ولي بعض أعمال خراسان ثم قدم بغداد وحدث بها، وكان عالماً بالحديث والعربية وغيرهما رحمه الله. وفيها توفي الحسن بن زياد اللؤلؤي الإمام، أحد العلماء الأعلام فقيه عصره أبو علي أحد أصحاب الإمام أبي حنيفة رضي الله عنه؛ وكان أصله من الكوفة ونزل بغداد. قال محمد بن شجاع الثلجي «2» : سمعت الحسن بن أبي «3» مالك يقول:
كان الحسن بن زياد إذا جاء إلى أبي يوسف أهمت أبا يوسف نفسه من كثرة سؤالاته. وقال أبن كاس النخعي «4» حدثنا أحمد بن عبد الحميد بن الحارث قال:
ما رأيت أحسن خلقاً من الحسن بن زياد ولا أقرب ولا أسهل جانباً مع توفر فهمه وعلمه وزهده وورعه، وكان يكسو مماليكه كما يكسو نفسه. وقال جعفر بن محمد بن عبيد الله الهمداني «5» : سمعت يحيى بن آدم يقول: ما رأيت أفقه من الحسن بن زياد انتهى.
وكان ديناً قوالاً بالحق، وقصته مع الرشيد في أمر يحيى العلوي ومحمد بن الحسن مشهورة. وكانت وفاته في هذه السنة، في قول، وقيل: في سنة أربع وهو الأصح رحمه الله. وفيها توفي سعيد بن وهب أبو عثمان «6» البصري مولى بني سامة بن لؤىّ كان شاعرا مجيدا أكثر شعره في الغزل والمجون وكان مقدماً عند البرامكة، ومن شعره فى سوداء:

(2/188)


سوداء بيضاء الفعال كأنها ... نور العيون تخص بالأضواء
قالوا جننت بحبها فأجبتهم ... أصل الجنون يكون بالسوداء
قلت: وأحسن ما قيل في هذا المعنى قول القائل:
يا من فؤادي فيها ... متيم لا يزال
إن كان لليل بدر ... فأنت للصبح خال
وفيها توفي عبد الله بن أيوب أبو محمد التيمي من تيم اللات بن ثعلبة أحد شعراء الدولة العباسية، مدح الأمين والمأمون وغيرهما وأجازه الأمين مرة بمائتي ألف درهم دفعة واحدة في قوله الأبيات المقدم ذكرها في ترجمة الأمين لما ضرب كوثر خادم الأمين، وأول الأبيات التي عملها عبد الله هذا:
ما لمن أهوى شبيه ... فبه الدنيا تتيه
وصله حلو ولكن ... هجره مر كريه
وفيها هلك طاغية الروم ميخائيل بن جرجس وملك بعده ابنه توفيل.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وثمانية عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 210]
السنة الرابعة من ولاية عبيد الله بن السرىّ على مصر وهي سنة عشر ومائتين- فيها ظفر المأمون بعمه إبراهيم بن المهدي المعروف بابن شكلة (أمه) الذي كان بويع بالخلافة وتلقب بالمبارك، ظفر به وهو بزي النساء فعاتبه عتاباً هيناً ثم عفا عنه.

(2/189)


وفي اختفاء إبراهيم هذا حكايات كثيرة. وفيها امتنع أهل قم «1» فوجه إليهم المأمون علي بن هشام فحاربهم حتى هزمهم ودخل البلد وهدم سورها وأستخرج منها سبعة آلاف ألف درهم. وفيها في شهر رمضان توجه المأمون إلى فم «2» الصلح وبنى ببوران بنت الحسن بن سهل، وكائنة المأمون مع بوران المذكورة وتزويجه بها مشهور.
وفيها توفي حميد الطوسي كان من كبار قواد المأمون وكان جباراً وفيه قوّة وبطش وإقدام، كان يندبه المأمون للمهمات. وفيها توفي شهريار بن شروين «3» صاحب الديلم وملك بعده ابنه سابور فنازعه على الملك مازيار بن قارن «4» وقهره وأسره وقتله واستولى المذكور على الجبال والديلم. وفيها توفي الأصمعي واسمه عبد الملك بن قريب بن عبد الملك بن علي بن أصمع أبو سعيد الباهلي البصري، وقيل: إن اسم قريب عاصم. والأصمعي هذا هو صاحب العربية والغرائب والتصانيف المفيدة والملح واللغة وأيام الناس وأخبارهم، وكان مقرباً عند الرشيد وأختص بالبرامكة ونالته السعادة، وله مع الرشيد وغيره من الخلفاء ماجريات لطيفة. وذكر الذهبي وفاته في سنة ست عشرة ومائتين بخلاف ما أثبتناه هنا؛ وفي وفاته اختلاف كبير وأقوال كثيرة أقلها من هذه السنة وأبعدها إلى سنة ست عشرة ومائتين. وفيها توفي عفان بن مسلم أبو عثمان الصفار البصري مولى عزرة «5» بن ثابت الأنصاري، ولد سنة

(2/190)


أربع وثلاثين ومائة وكان قد جمع بين العلم والزهد والسنة. وفيها توفيت علية بنت المهدي عمة المأمون ومولدها سنة ستين ومائة، وكانت من أجمل النساء وأظرفهن وأكملهن أدباً وعقلاً وصيانة، وكان في جبهتها سعة تشين وجهها فاتخذت العصابة المكلّلة بالجوهر لتستر جبينها بها، وهي أول من اتخذتها وسميت شد جبين لذلك.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي أبو عمرو إسحاق الشيباني صاحب العربية، والحسن بن محمد بن أعين الحراني، وعبد الصمد ابن حسان المروزي، ومحمد بن صالح بن بيهس «1» أمير عرب الشام، وأبو عبيدة اللغوي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وخمسة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا.
ذكر ولاية عبد الله بن طاهر على مصر
هو عبد الله بن طاهر بن الحسين بن مصعب، الأمير أبو العباس الخزاعي المصيصي أمير خراسان وأجل أعمال المشرق ثم أمير مصر، ولي مصر من قبل المأمون بعد عزل عبيد الله بن السري على الصلاة والخراج معاً، ودخل مصر في يوم الثلاثاء لليلتين خلتا من شهر ربيع الأول سنة إحدى عشرة ومائتين بعد أن قاتل عبيد الله بن السري أياماً وأخذه بالأمان حسبما تقدم ذكره في ترجمة عبيد الله بن السري. ومولد عبد الله بن طاهر هذا سنة اثنتين وثمانين ومائة، وتأدب في صغره وقرأ العلم والفقه وسمع من وكيع وعبد الله المأمون؛ وروى عنه اسحاق ابن راهويه وهو أكبر منه، ونصر بن زياد وخلق سواهم. وكان بارع الأدب

(2/191)


حسن الشعر، وتقلد الأعمال الجليلة وأول ولايته مصر، ولما ولي مصر ودخلها أمر عبيد الله بن السري بالخروج إلى المأمون ببغداد، وأقام عبد الله بن طاهر هذا بعسكره إلى أن خرج عبيد الله بن السري من مصر في نصف جمادى الأولى من السنة المذكورة، ثم سكن عبد الله بن طاهر المعسكر وجعل على شرطته معاذ بن عزيز ثم عزله بعبدويه بن جبلة، ثم تهيأ للخروج إلى الإسكندرية فخرج إليها من مصر في مستهل صفر سنة اثنتي عشرة ومائتين واستخلف على صلاة مصر عيسى بن يزيد الجلودي.
وكان قد نزل بالاسكندرية طائفة من المغازبة من الأندلس في المراكب وعليهم رجل كنيته أبو حفص «1» ، فتوجه إليهم عبد الله بن طاهر وقاتلهم حتى أجلاهم عن الإسكندرية. وقيل: بل نزحوا عنها قبل وصول عبد الله بن طاهر خوفاً منه وتوجهوا إلى جزيرة «2» أقريطش فسكنوها وبها بقايا من أولادهم إلى الآن، وبعد خروجهم من الإسكندرية عاد عبد الله بن طاهر إلى ديار مصر فى جمادى الآخرة وسكن بالمعسكر إلى أن ورد عليه كتاب المأمون يأمره بالزيادة في الجامع العتيق، فزيد فيه مثله وبعث يعلم المأمون بذلك وكتب له أبياتاً من نظمه وهى:
أخي أنت ومولاي ... ومن أشكر نعماه «3»
فما أحببت من شيء ... فإني الدهر أهواه

(2/192)


وما تكره من شيء ... فإني لست أهواه
لك الله على ذاك ... لك الله لك الله
وكان عبد الله بن طاهر جواداً ممدحاً.
حكى أبو السمراء قال: خرجنا مع عبد الله بن طاهر من العراق متوجهين [إلى مصر «1» ] حتى إذا كنا بين الرملة ودمشق واذا بأغرابىّ قد اعترضنا على بعير له أورق «2» وكان شيخاً، فسلم علينا فرددنا عليه السلام، وكنت أنا وإسحاق بن إبراهيم الرافقي «3» وإسحاق بن أبي ربعي ونحن نساير عبد الله بن طاهر، وكانت كسوتنا أحسن من كسوته، ودوابنا أفره من دابته؛ فجعل الأعرابي ينظر في وجوهنا فقلنا: يا شيخ، قد ألححت في النظر إلينا، عرفت شيئاً أم أنكرته؟ فقال: لا والله، ما عرفتكم قبل يومي هذا ولا أنكرتكم لسوء أراه بكم، ولكني رجل حسن الفراسة في الناس، جيد المعرفة بهم؛ فأشرت إلى إسحاق بن أبي ربعي وقلت: ما تقول في هذا؟ فقال:
أرى كاتباً جاه الكتابة بين ... عليه وتأديب العراق منير
له حركات قد تشاهد أنه ... عليم بتقسيط الخراج بصير
ثم نظر إلى إسحاق بن ابراهيم الرافقىّ وقال:
ومظهر نسك ما عليه ضميره ... يحب الهدايا بالرجال مكور «4»
أخال به جبناً وبخلاً «5» وشيمة ... تخبر عنه أنه لوزير

(2/193)


ثم نظر الىّ وقال:
وهذا نديم للأمير ومؤنس ... يكون له بالقرب منه سرور
وأحسبه «1» للشعر والعلم راوياً ... فبعض نديم مرة وسمير
ثم نظر إلى الأمير وقال:
وهذا الأمير المرتجى سيب كفه ... فما إن له فيمن رأيت نظير
عليه رداء من جمال وهيبة «2» ... ووجه بإدراك «3» النجاح بشير
لقد عصم الإسلام منه بذي «4» يد ... به عاش معروف ومات نكير
ألا إنما عبد الإله بن طاهر ... لنا والد بر بنا وأمير
قال: فوقع ذلك من عبد الله بن طاهر أحسن موقع، وأعجبه مقالة الشيخ وأمر له بخمسمائة دينار وجعله في صحابته.
ذكر واقعة أخرى لعبد الله بن طاهر هذا. قال الحسن بن يحيى الفهري:
بينما نحن مع عبد الله بن طاهر بين سلمية وحمص ونحن نريد دمشق إذ عارضنا البطين الشاعر، فلما رأى عبد الله بن طاهر قال:
مرحباً مرحباً وأهلاً وسهلاً ... بابن ذي الجود طاهر بن الحسين
مرحباً مرحباً وأهلاً وسهلاً ... بابن ذي العزتين في الدعوتين
مرحباً مرحباً بمن كفه البح ... ر إذا فاض مزبد الرّجوتين
ما يبالى المأمون أيّده الل ... هـ إذا كنتما له باقيين

(2/194)


أنت غرب وذاك شرق مقيماً ... أي فتق أتى من الجانبين
وحقيق إذ كنتما في قديم ... لزريق ومصعب وحسين
أن تنالا ما نلتماه من المج ... د وأن تعلوا على الثقلين
فأمر له عن كل بيت بألف دينار وسار معه إلى مصر والإسكندرية، وبينما هو راكب على فرسه بالإسكندرية نزلت يد فرسه في مخرج فوقع به فيه فمات.
وقيل: إن عبد الله هذا لما استولى على مصر وهب له المأمون خراجها، فلم يدخلها حتى صعد المنبر، فما نزل حتى فرق جميع ذلك، وكان ثلاثة آلاف ألف دينار.
وقال سهل بن ميسرة: لما رجع عبد الله بن طاهر من الشام إلى بغداد صعد فوق سطح، فنظر إلى دخان يرتفع من جواره فقال: ما هذا الدخان؟ فقيل له:
لعل قوماً يخبزون؛ فقال: أو يحتاج جيراننا إلى ذلك! ثم دعا حاجبه وقال: امض ومعك كاتب وأحص جيراننا من لا يقطعهم عنا شارع، فمضى وأحصاهم فبلغ عددهم ألف نفس، فأمر لكل بيت بالخبز واللحم وما يحتاجون إليه، وبكسوة الشتاء والصيف والدراهم؛ فما زالوا كذلك حتى خرج من بغداد، فانقطع ذلك لكنه صار يبعث إليهم من خراسان بالكسوة مدة حياته.
وقيل: إن المأمون سأل عبد الله بن طاهر هذا: أيما أحسن، منزلي أم منزلك؟
قال: يا أمير المؤمنين، منزلي، قال: ولم؟ قال: لأني فيه مالك وأنا في منزلك مملوك. وكان عبد الله بن طاهر لا يدخل في منزله خصياً، ويقول: هم بين النساء رجال، وبين الرجال نساء.
- وقال أحمد بن يزيد السلمي: كنت مع طاهر بن الحسين بالرقة فرفعت إليه قصص فوقع عليها بصلات فبلغت ألفي ألف درهم وسبعمائة ألف درهم؛ ثم كنت

(2/195)


مع ولده عبد الله بن طاهر بالرقة فرفعت إليه القصص فوقع عليها فزاد على أبيه بألفي ألف درهم.
وقال محمد بن يزيد الأموي الحصني «1» - وكان محمد هذا من ولد مسلمة بن عبد الملك بن مروان، وكان قد اعتزل الناس في حصن له- قال: لما بلغني خروج عبد الله بن طاهر من بغداد يريد قتال مصر أيقنت بالهلاك لما كان بلغه من ردي عليه- يعنى قصيدته التى يقول فى أوّلها:
مدمن الإغضاء موصول ... ومديم العتب مملول
من أبيات كثيرة- قال: ولما كان بلغني هذه القصيدة أتقنت المنافية، وقلت: يفتخر علينا رجل من العجم قتل ملكاً من ملوك العرب بسيف أخيه! - يعني بذلك أباه طاهراً لما قتل الأمين بسيف المأمون- فرددت عليه قصيدته بقصيدتى التى أوّلها:
لا يرعك القال والقيل ... كل ما بلغت تهويل
ولم أعلم أن الأقدار تظفره بي «2» ؛ فلما قرب مجيء عبد الله بن طاهر استوحشت المقام خوفاً على نفسي ورأيت تسليم نفسي عاراً علي، فأقمت مستسلماً للأقدار، وأقمت جارية سوداء في أعلى الحصن، فلم يرعني «3» إلا وهي تشير بيدها وإذا بباب الحصن يدق؛ فخرجت وإذا بعبد الله بن طاهر واقف وحده قد انفرد عن أصحابه؛ فسلمت عليه سلام خائف، فرد علي رداً جميلاً؛ فأومأت أن أقبل ركابه فمنعني بألطف منع، ثم ثنى رجله وجلس على دكة باب الحصن، ثم قال: سكن روعك فقد أسأت

(2/196)


بنا الظن، وما علمنا أن زيارتنا لك تروعك ثم كلمني وباسطني؛ فلما زال روعي قال: أنشدني قصيدتك التي منها:
يا بن بنت النار موقدها
فقلت: لا تنغص إحسانك؛ فقال: ما قصدي إلا زيادة الأنس بك؛ فامتنعت.
فقال: والله لا بد؛ فأنشدته القصيدة إلى قولي:
ما لحاذيه «1» سراويل
فقال: والله لقد أحصينا ما في خزائن ذي اليمينين [يعني «2» خزائن أبيه طاهر بن الحسين فإنه كان يلقب بذي اليمينين «3» ] بعد موته، فكان فيها ثلاثة آلاف سراويل من أصناف الثياب ما في واحد منها تكة، فما حملك على هذا؟ قلت: أنت حملتنى بقولك:
وأبي «4» من لا كفاء له ... من يساوي مجده قولوا
فلما فخرت على العرب فخرنا على العجم؛ فقبل العذر وأظهر العفو؛ ثم قال:
هل لك في الصحبة إلى قتال مصر؟ فاعتذرت بالعجز عن الحركة، فأمر بإحضار

(2/197)


خمسة مراكب من مراكبه بسروجها ولجمها محلاة بالذهب، وثلاثة دواب من دواب الشاكرية، وخمسة أبغال من بغال النقل، وثلاثة تخوت فيها الثياب الفاخرة، وخمس بدر من الدراهم، ووضع الجميع على باب الحصن واعتذر بالسفر؛ فمددت يدي لأقبل يده فامتنع وسار لوقته.
وقال أبو الفضل الربعي: لما توجه عبد الله بن طاهر إلى خراسان قصده دعبل الشاعر، وكان ينادمه في الشهر خمسة عشر يوماً؛ فكان يصله في الشهر بمائة ألف درهم وخمسين ألف درهم؛ فلما كثرت صلاته توارى عنه دعبل حياء منه، فطلبه عبد الله بن طاهر فلم يقدر عليه، فكتب إليه دعبل يقول:
هجرتك لم أهجرك كفراً لنعمة ... وهل يرتجى نيل الزيادة بالكفر
ولكنني لما أتيتك زائراً ... فأفرطت في بري عجزت عن الشكر
فملآن لا أتيك إلا معذراً ... أزورك في شهرين يوماً وفي شهر
فإن زدت في بري تزايدت جفوة ... ولم تلقني حتى القيامة في الحشر
وبعد هذه الأبيات كتب: حدثني المأمون عن الرشيد عن المهدي عن المنصور عن أبيه محمد عن أبيه علي عن أبيه عبد الله بن العباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من لا يشكر الله لا يشكر الناس ومن لا يشكر القليل لا يشكر الكثير» فوصله عبد الله بثلاثمائة ألف درهم. وقال معافى «1» بن زكريا: أول ما قصد دعبل عبد الله بن طاهر أقام مدّة لم يجتمع به وضاق ما بيده فكتب اليه:
جئتك مستشفعاً بلا سبب ... إليك إلا بحرمة الأدب
فاقض ذمامي فإنني رجل ... غير ملح عليك في الطلب

(2/198)


فبعث إليه بعشرة آلاف درهم وكتب إليه:
أعجلتنا فأتاك عاجل برنا ... ولو انتظرت كثيره لم يقلل
فخذ القليل وكن كأنك لم تسل ... ونكون نحن كأننا لم نفعل
وحكي أنه خرج من بغداد إلى خراسان فسار وهو بين سمّاره، فلما وصل إلى الري سحراً سمع صوت الأطيار فقال: لله در أبي كبير الهذلي حيث يقول:
ألا يا حمام الأيك إلفك حاضر ... وغصنك مياد ففيم تنوح
ثم التفت إلى عوف بن محلم الشاعر فقال: أجز، فقال عوف أبياتاً على وزن هذا البيت وقافيته؛ فلما سمعها عبد الله قال: أنخ، فو الله لا جاوزت هذا المكان حتى ترجع إليك أفراخك- يعني الجائزة- وأمر له بكل بيت ألف درهم.
وقال أبو بكر الخطيب: دخل عوف بن محلم على عبد الله بن طاهر فسلم، فرد عبد الله عليه، وفي أذن عوف ثقل، فأنشد عوف المذكور:
يا بن الذي دان «1» له المشرقان ... طرا وقد دان «2» له المغربان
إن الثمانين وبلغتها ... قد أحوجت سمعي إلى ترجمان
وقيل: إن عبد الله بن طاهر لما وصل إلى مدينة مرو وجلس في قصر الإمارة دخل عليه أبو يزيد الشاعر وأنشده:
اشرب هنيئاً عليك التاج مرتفعاً ... في قصر مرو ودع عدان «3» لليمن
فأنت أولى بتاج الملك تلبسه ... من هوذة «4» بن علي وابن ذي «5» يزن

(2/199)


فأعطاه عشرين ألفاً. وقيل: إنه أنشده غيرهما وهو قوله أيضا:
يقول رجال إن مرو بعيدة ... وما بعدت مرو وفيها ابن طاهر
وقيل: إن عبد الله بن طاهر قدم مرة نيسابور فأمطروا، فقال بعض الشعراء:
قد قحط الناس في زمانهم ... حتى إذا جئت جئت بالمطر
غيثان في ساعة لنا أتيا ... فمرحباً بالأمير والدرر
ومن شعر عبد الله بن طاهر المذكور قوله:
نبهته وظلام الليل منسدل ... بين الرياض دفيناً في الرياحين
فقلت خذ قال كفي لا تطاوعني ... فقلت قم قال رجلي لا تواتيني «1»
إني غفلت عن الساقي فصيرني ... كما تراني سليب العقل والدين
وله نظم كثير غير ذلك. ولما دخل إلى مصر وفرق خراجها قبل أن يدخلها حسبما تقدم ذكره أنشده عطاء الطائي- وكان عبد الله بن طاهر واجدا عليه قبل ذلك- قوله:
يا أعظم الناس عفواً عند مقدرة ... وأظلم الناس عند الجود للمال
لو يصبح النيل يجري ماؤه ذهباً ... لما أشرت إلى خزن بمثقال
فأعجبه وعفا عنه؛ وأقترض عشرة آلاف دينار ودفعها إليه، فإنه كان فرق جميع ما معه قبل دخول مصر.
ولما دخل عبد الله بن طاهر إلى مصر قمع المفسدين بها ومهد البلاد ورتب أحوالها وأقام على إمرة مصر سنة واحدة وخمسة أشهر وعشرة أيام، وخرج منها لخمس بقين من شهر رجب سنة اثنتي عشرة ومائتين؛ واستخلف على مصر عيسى بن

(2/200)


يزيد الجلودي على صلاتها وركب البحر وتوجه إلى العراق؛ فلما قارب بغداد تلقاه العباس ولد الخليفة المأمون، والمعتصم محمد أخو المأمون وأعيان الدولة وقدم عبد الله بغداد وبين يديه المتغلبون على الشأم ومصر مثل ابن أبي الجمل وابن أبي أسقر «1» وغيرهما، فأكرمه المأمون؛ ثم ولاه بعد ذلك الأعمال الجليلة مثل خراسان وغيرها. ويقال: إن عبد الله بن طاهر المذكور هو الذي زرع بمصر البطيخ العبدلي «2» وإليه ينسب بالعبدلي «3» ، وأظنه ولده عن نوعين، فإنه لم يكن ببلد خلاف مصر اهـ. وعاش بعد عزله عن مصر سنين إلى أن مات بمرو في شهر ربيع الأول سنة ثلاثين ومائتين هـ بعد أن مرض ثلاثة أيام بحلقه (يعني بعلة الخوانيق) . ومات وله ثمان وأربعون سنة وقبل أن يموت تاب وكسر الملاهي وعمر الرباطات بخراسان ووقف لها الوقوف وافتدى الأسرى من الترك بنحو ألفي ألف درهم. وكان عادلاً في الرعية محبباً لهم وكان عظيم الهيبة حسن المذهب شجاعاً مقداماً. ولما مات خلف في بيت ماله أربعين ألف ألف درهم سوى ما في بيت مال العامة. وتولّى مصر من بعده عيسى ابن يزيد الجلودي الذي استخلفه عبد الله المذكور، أقره المأمون على إمرة مصر بسفارة عبد الله هذا اهـ.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 211]
السنة الأولى من ولاية عبد الله بن طاهر على مصر وهي سنة إحدى عشرة ومائتين- فيها أمر المأمون بأن ينادى: برئت الذمة ممن ذكر معاوية بن أبي سفيان بخير أو فضله على أحد من الصحابة؛ وأن أفضل الخلق بعد رسول الله صلى

(2/201)


الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه. وكان المأمون يبالغ في التشيع لكنه لم يتكلم في الشيخين بسوء، بل كان يترضى عنهما ويعتقد إمامتهما. وفيها توفي عبد الرزاق بن همام بن نافع الحافظ، أبو بكر الصنعاني الحميري، مولده سنة ستّ وعشرين ومائة هـ؛ وسمع الكثير وروى عنه خلق من كبار المحدثين: مثل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين وغيرهما. ومات باليمن في النصف من شوال من السنة.
وفيها توفي معلى «1» بن منصور، الحافظ أبو يعلى الرازي الحنفي، كان ثقة صدوقا نبيلا حليلا صاحب فقه وسنة كثير الحديث صحيح السماع؛ سئل عن القرآن فقال: من قال: إنه مخلوق فهو كافر. وطلب للقضاء فامتنع رحمه الله تعالى. وفيها توفي موسى بن سليمان أبو سليمان الجرجاني الحنفي، كان إماماً فقيهاً بصيراً بالفقه والسنة وكان صدوقاً، عرض عليه المأمون القضاء فامتنع وأعتذر بعذر مقبول رحمه الله تعالى.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي علي بن الحسين بن واقد بمرو، وعبد الله بن صالح العجلى المقرئ، والأحوص بن جواب أبو الجواب الضبي، وطلق بن غنام ثلاثتهم بالكوفة، وأبو العتاهية الشاعر ببغداد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثمانية أصابع.

(2/202)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 212]
السنة الثانية من ولاية عبد الله بن طاهر على مصر وهي سنة اثنتي عشرة ومائتين- فيها وجه المأمون محمد بن «1» طاهر على مصر. وفيها وجه المأمون محمد بن حميد الطوسي لمحاربة بابك الخرمي. وفيها أظهر المأمون القول بخلق القرآن مضافاً إلى تفضيل علي بن أبي طالب على أبي بكر وعمر، رضي الله عنهم أجمعين؛ وأشمأزت النفوس منه وأشخص العلماء وآذاهم وضربهم وحبسهم ونفاهم وقويت شوكة الخوارج.
وخلع المأمون من الخلافة الأمير أحمد بن محمد العمري المعروف بالأحمر [العين «2» ] ببلاد اليمن؛ ثم سار المأمون إلى دمشق وصام بها رمضان وتوجه فحج «3» بالناس. وفيها في شهر ربيع الأول كتب المأمون إلى الآفاق بتفضيل علي بن أبي طالب رضي الله عنه على جميع الصحابة. وفيها توفي أحمد بن أبي خالد الوزير أبو العباس وزير المأمون، كان أبوه كاتباً لأبي عبد الله وزير المهدي جد المأمون، وكان أحمد هذا فاضلاً مدبراً جواداً ذا رأي وفطنة إلا أنه كانت أخلاقه سيئة؛ قال له رجل يوماً:
والله لقد أعطيت ما لم يعطه رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: والله لئن لم تخرج مما قلت لأعاقبنك؛ قال: قال الله تعالى: وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ
وأنت فظ غليظ القلب وما ننفض من حولك!.

(2/203)


الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة؛ قال: وفيها توفي أبو عاصم النبيل، وعبد الرحمن بن حماد الشعيثي «1» ، وعون بن عمارة العبدي بالبصرة، ومحمد بن يوسف الفريابي بقيسارية «2» ، ومنبه بن عثمان بدمشق، وأبو المغيرة عبد القدّوس الخولانىّ بحمص، وزكريا بن عدي ببغداد، وعبد الملك بن عبد العزيز الماجشون الفقيه بالمدينة، وعلي بن قادم بالكوفة، وخلاد «3» بن يحيى بمكة، والحسين بن حفص الهمداني «4» بأصبهان، وعيسى بن دينار الغافقي «5» الفقيه بالأندلس.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وستة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وسبعة أصابع.
ذكر ولاية عيسى بن يزيد الأولى على مصر
هو عيسى بن يزيد الجلودي، ولي إمرة مصر باستخلاف عبد الله بن طاهر عليها، فأقره المأمون على إمرة مصر وجمع له الصلاة والخراج، فتحوّل الى المعسكر وسكن به على عادة الأمراء؛ وجعل على شرطته ابنه محمداً وعلى المظالم إسحاق بن متوكل. وكانت ولايته على مصر نيابة عن عبد الله بن طاهر، فدام عيسى هذا على إمرة مصر إلى سابع عشر ذي القعدة سنة ثلاث عشرة ومائتين هـ. [و] صرف المأمون عبد الله بن طاهر عن إمرة مصر وولّاها لأخيه المعتصم محمد بن هرون الرشيد. فلما

(2/204)


ولي المعتصم مصر أقر عيسى هذا على الصلاة فقط، وجعل على خراج مصر صالح بن شيرزاد. فلما ولي صالح المذكور الخراج ظلم الناس وزاد الخراج وعسف فانتقض عليه أهل الحوف واجتمعوا وعسكروا وعزموا على قتاله، وكان عليهم عبد السلام وابن الجليس في القيسية واليمانية؛ فقام عيسى بن يزيد بنصرة صالح وبعث ابنه محمداً في جيش فحاربوه فانهزم وقتل أصحابه. وذلك في صفر سنة أربع عشرة ومائتين هـ.
وبلغ الخبر أبا إسحاق المعتصم فعظم عليه وعزل عيسى هذا عن إمرة مصر وولى عوضه عمير بن الوليد التميمي. فكانت ولاية عيسى على مصر في هذه المرة الأولى سنة وسبعة أشهر وأياما.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 213]
السنة التي حكم في بعضها عيسى بن يزيد على مصر وهي سنة ثلاث عشرة ومائتين هـ- فيها خرج عبد السلام وابن الجليس في القيسية واليمانية بمصر، فولى المأمون أخاه أبا إسحاق المعتصم على مصر وعزل عبد الله بن طاهر. وقد ذكرنا ذلك كله في ترجمة عيسى بن يزيد. وفيها ولى المأمون ولده العباس على الجزيرة وأمر لكل من المعتصم والعباس بخمسمائة ألف دينار، وأمر بمثل ذلك لعبد الله بن طاهر المعزول عن إمرة مصر حتى قيل: إنه لم يفرق ملك ولا سلطان في يوم واحد مثل ما فرقه المأمون في هذا اليوم.
قلت: لعل الدينار يوم ذاك لم يكن مثل دينارنا اليوم بل يكون مثل دنانير المشارقة التي تسمى بتنكثا «1» والله أعلم. وفيها استعمل المأمون على السند الأمير غسّان ابن عباد، وكان غسان هذا من رجال الدهر حزماً وعزماً، وكان ولي خراسان قبل

(2/205)


ذلك وعزل بعبد الله بن طاهر المقدم ذكره. وفيها توفي أحمد بن يوسف بن القاسم ابن صبح، أبو جعفر الكاتب الكوفي مولى بني العجل كاتب المأمون على ديوان الرسائل؛ كان من أفضل الكتاب في عصره وأذكاهم وأجمعهم للمحاسن، وكان فصيح اللسان مليح الخط يقول الشعر الجيد، قال له رجل يوماً: ما أدري مم أعجب، مما وليه الله من حسن خلقك، أو مما وليته من تحسين خلقك! وفيها توفي أسود بن سالم أبو محمد البغدادي الزاهد الورع الصالح المشهور، كان بينه وبين معروف الكرخي مودة ومحبة، وكان من كبار القوم وممن له كرامات وأحوال. وفيها توفي بشر بن أبي الأزهر يزيد الإمام أبو سهل القاضي الحنفي، كان من أعيان فقهاء أهل الكوفة وزهادها، سأله رجل عن مسألة فأخطأ فيها فعزم أن يقصد عبد الله بن طاهر الأمير لينادى عليه في البلدان: بشر أخطأ في مسألة في النكاح حتى رده رجل وقال: أنا أعرف الرجل الذي سألك، فأتي به إليه فقال له: أنا أخطأت وقد رجعت عن قولي، والجواب فيه كذا وكذا.
قلت: لله در هذا العالم الذي يعمل بعلمه رحمه الله تعالى.
وفيها توفي ثمامة بن أشرس أبو معن النميري البصري الماجن، كان له نوادر واتصل بهارون الرشيد وولده المأمون. قيل: إنه خرج بعد المغرب من منزله سكران فصادفه «1» المأمون فى نفر، فلما رأه ثمامة عدل عن طريقه وقد أبصره المأمون، فساق إليه المأمون وحاذاه، فقال له: ثمامة؟ قال: إي والله، قال: سكران أنت؟ قال:
لا والله، قال: أفتعرفني؟ قال: إي والله، قال: فمن أنا؟ قال: لا أدري والله؛ فضحك المأمون حتى كاد يسقط عن دابته. ولثمامة هذا حكايات كثيرة من هذا

(2/206)


الجنس. وفيها توفي أبو عاصم النبيل في قول صاحب المرآة قال: واسمه الضحاك الشيباني البصري الحافظ المحدث، كان فقيهاً عالماً حافظاً سميع الكثير وحدث وسمع منه خلق ومات في ذي الحجة.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي عبد الله بن موسى العبسي، وخالد بن مخلد القطواني بالكوفة، وعمرو بن عاصم الكلابي بالبصرة، وأبو عبد الرحمن عبد الله بن يزيد المقرئ بمكة، وعمرو بن أبي سلمة والهيثم بن جميل الحافظ بأنطاكية.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وخمسة عشر إصبعاً ونصف.
ذكر ولاية عمير بن الوليد على مصر
هو عمير بن الوليد الباذغيسي التميمي أمير مصر، ولي مصر باستخلاف أبي إسحاق محمد المعتصم له لأن الخليفة المأمون كان ولى مصر لأخيه المعتصم بعد عزل عبد الله ابن طاهر وولى المعتصم عميراً هذا على الصلاة لسبع عشرة خلت من صفر سنة أربع عشرة ومائتين، وسكن المعسكر وجعل على شرطته ابنه محمدا؛ وعند ما تم أمره خرج عليه القيسية واليمانية الذين كانوا خرجوا قبل تاريخه وعليهم عبد السلام وأبن الجليس، فتهيأ عمير هذا وجمع العساكر والجند وخرج لقتالهم وخرج معه أيضاً فيمن خرج الأمير عيسى بن يزيد الجلودي المعزول به عن إمرة مصر، وذلك في شهر ربيع الأول من سنة أربع عشرة ومائتين، واستخلف عمير ابنه محمداً على صلاة مصر، وسافر بجيوشه حتى ألتقى مع أهل الحوف القيسية واليمانية؛ فكانت بينهم وقعة هائلة وقتال ومعارك وثبت كل من الفريقين حتى قتل عمير هذا في المعركة لست عشرة

(2/207)


خلت من شهر ربيع الأول المذكور. وقال صاحب البغية: قتل عمير في يوم الثلاثاء لثلاث عشرة خلت من شهر ربيع الأول، فوافق في الشهر والسنة، وخالف في اليوم.
قلت: وكانت ولاية عمير بن الوليد المذكور على مصر استقلالاً من قبل أبي إسحاق المعتصم شهرين سواء وتولى من بعده مصر عيسى بن يزيد الجلودىّ ثانيا.
ذكر ولاية عيسى بن يزيد الجلودي ثانياً على مصر
ولي عيسى بن يزيد هذا مصر ثانياً من قبل أبي إسحاق محمد المعتصم بعد قتل عمير ابن الوليد على الصلاة، ولما ولي مصر، قصده قيس ويمن على العادة وقد كثر جمعهم من أهل الحوف وقطاع الطريق، فوقع لعيسى هذا أيضاً معهم حروب وفتن، وجمع عساكره وخرج إليهم حتى التقاهم بمنية مطر (أعنى المطرية بقرب مدينة عين شمس التي فيها العمود الذي تسميه العامة بمسلة فرعون) وقاتلهم؛ فكانت بينهم حروب هائلة انكسر فيها الأمير عيسى بمن معه وقتل من عسكره خلائق وانحاز إلى مصر، وذلك في شهر رجب من سنة أربع عشرة ومائتين المذكورة؛ وبلغ المأمون ذلك فعظم عليه وطلب أخاه أبا إسحاق محمداً المعتصم وندبه للخروج إلى مصر وقال له:
امض إلى عملك وأصلح شأنه، وكان المعتصم شجاعاً مقداماً؛ فخرج المعتصم من بغداد في أربعة آلاف من أتراكه وسافر حتى قدم مصر في أيام يسيرة وعيسى كالمحصور مع أهل الحوف، وقبل دخوله إلى مصر بدأ بقتال أهل الحوف من القيسية واليمانية وقاتلهم وهزمهم وقتل أكابرهم ووضع السيف في القيسية واليمانية حتى أفناهم، وذلك في شعبان من السنة ومهد البلاد وأباد أهل الفساد؛ ثم دخل الفسطاط (أعني مصر) وفي خدمته عيسى الجلودي وجميع أعيان المصريين

(2/208)


لثمان بقين من شعبان، وسكن بالمعسكر حتى أصلح أحوال مصر؛ ثم خرج منها إلى الشأم في غرة المحرم سنة خمس عشرة ومائتين في أتراكه ومعه جمع كثير من الأسرى في ضر وجهد شديد مشاة حفاة أمام الخيالة.
قلت: وشجاعة المعتصم معروفة مشهورة تذكر في خلافته ووفاته، وهو الآن ولي عهد أخيه عبد الله المأمون؛ وقبل أن يخرج من مصر مهد أمورها وولى عليها عبدويه بن جبلة وعزل عيسى بن يزيد الجلودي صاحب الترجمة. فكانت ولاية عيسى هذه الثانية على مصر نحواً من ثمانية أشهر تنقص أيّاما.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 214]
السنة التى حكم فيها على مصر عمير بن الوليد ثم عيسى بن يزيد الجلودي ثانياً وهي سنة أربع عشرة ومائتين- فيها قتل الأمير محمد بن الحميد الطوسي في حرب كان «1» بينه وبين أصحاب بابك الخرمي. وفيها أيضاً قتل أبو الداري أمير اليمن. وفيها كانت قتلة عمير بن الوليد صاحب مصر المقدم ذكره. وفيها خرج بلال الشاري «2» وقويت شوكته، فندب الخليفة المأمون لحربه هارون بن أبي خلف فتوجه إليه وقاتله وظفر به وقتله. وفيها ولى المأمون أذربيجان وأصبهان والجبال وحرب بابك الخرّمىّ الأمير علي بن هشام، فتوجه علي المذكور بجيوشه وقاتل بابك وواقعه في هذه السنة غير مرّة.

(2/209)


قلت: وقد طال أمر بابك هذا على الناس وامتدت أيامه وحاربه جماعة كثيرة من أمراء المأمون وتعب الناس من أجله تعبا زائداً وهو لا يكل من الخروج والقتال إلى ما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها توفي أحمد بن جعفر الحافظ أبو عبد الرحمن الوكيعي الضرير البغدادي، وسمي الوكيعي لملازمته وكيع بن الجراح المقدم ذكره.
قال إبراهيم الحربي: كان الوكيعي يحفظ مائة ألف حديث.
وفيها توفي الإمام أبو زيد النحوي البصري واسمه سعيد بن أوس بن ثابت الأنصاري، كان إماماً في علم النحو واللغة والأشعار ومذاهب العرب وآبائهم وأيامهم، وكان ثقة حافظاً صدوقاً.
وفيها توفي قبيصة بن عقبة الحافظ أبو عامر السوائي هو من بنى عامر ابن صعصعة، كان إماماً حافظاً زاهداً قنوعاً أسند عن سفيان الثوري والحمادين وغيرهم، وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه وغيره.
وفيها توفي الوليد بن أبان الكرابيسي المعتزلي، كان من كبار المعتزلة بالبصرة وله في الاعتزال مقالات معروفة يقوي بها مذاهب المعتزلة.
قلت: كان من كبار العلماء ذكره المسعودي وأثنى على علمه وفضله.
وفيها توفي أبو العتاهية الشاعر المشهور أبو إسحاق إسماعيل بن القاسم بن سويد ابن كيسان العنزي مولاهم الكوفي نزيل بغداد وأصله من سبي عين «1» التمر ولقبوه بأبي العتاهية لاضطراب «2» كان فيه.

(2/210)


وقيل: بل كان يحب الخلاعة فكنى بذلك. وهو أحد فحول الشعراء ونسك فى آخر عمره ومال «1» للزهد والوعظ. مات فى هذه السنة. وقيل: سنة ثلاث عشرة ومائتين وهو الأقوى، وقيل: فى جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة ومائتين وهو الذي ذكره الذهبىّ. ومدح المهدىّ ومن بعده من الخلفاء، ومن مديحه:
إنّ المطايا تشتكيك لأنها ... تطوى اليك سباسبا «2» ورمالا
فإذا رحلن بنا رحلن مخفّة ... واذا رجعن بنا رجعن ثقالا
وله:
يا رب إن الناس لا ينصفوننى ... فكيف إذا «3» أنصفتهم ظلمونى
وإن كان لى شىء تصدّوا لأخذه ... وإن جئت أبغى سيبهم منعونى
وإن نالهم بذلى فلا شك عندهم ... وإن أنا لم أبذل لهم شتمونى
وما أحسن قوله:
هب الدّنيا تساق إليك عفوا ... أليس مصير ذاك الى زوال
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن خالد الذّهبىّ «4» بحمص، وعبد الله بن عبد الحكم الفقيه بمصر، وسعيد بن سلّام العطّار بالبصرة، ومحمد بن الحميد الطّوسىّ الأمير قتل فى حرب الخرّميّة، وأبو الدّارىّ أمير اليمن قتل أيضا، وعمير الباذغيسىّ نائب مصر خلافة عن المعتصم، قتل فى الحوف فى حرب ابن الجليس وعبد السلام؛ فسار أبو إسحاق بنفسه اليهما فظفر بهما وقتلهما. انتهى كلام الذهبىّ.

(2/211)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وستة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا ونصف.
ذكر ولاية عبدويه بن جبلة على مصر
هو عبدويه بن جبلة أصله من الأبناء من قوّاد بنى العباس، ولّاه المعتصم نيابة عنه على صلاة مصر بعد عزل عيسى بن يزيد الجلودىّ عن إمرة مصر فى مستهلّ المحرّم سنة خمس عشرة ومائتين؛ ثم خرج المعتصم بعد ولايته إلى الشأم حسبما تقدّم ذكره؛ وبعد سفر المعتصم تحوّل عبدويه هذا الى المعسكر وسكن به على عادة الأمراء، وجعل على الشّرطة ابنه، وعلى المظالم اسحاق بن اسماعيل بن حمّاد بن زيد؛ ولمّا ولى مصر أخذ فى إصلاح أحوالها وإثبات ما قرّره المعتصم بها من الأمور. وبينما هو فى ذلك خرج عليه أناس من الحوفيّة أيضا من القيسيّة واليمانيّة فى شعبان من السنة، فتهيّأ عبدويه لمحاربتهم وجهّز اليهم جيشا فسار اليهم الجيش وحاربوهم وظفروا بهم بعد أمور ثم حضر اليه بعد ذلك الأفشين حيدر بن كاوس الصّغدىّ الى مصر فى ثالث ذى الحجة من السنة ومعه علىّ بن عبد العزيز الجروىّ لأخذ المال فلم يدفع اليه عبدويه وقاتله «1» ، فخرج الأفشين الى برقة، وصرف عبدويه بن جبلة عن إمرة مصر بعيسى بن منصور بن موسى؛ وبعد عزل عبدويه المذكور عاد الأفشين الى مصر وأقام بها على ما سيأتى ذكره، فكانت ولاية عبدويه بن جبلة على مصر نيابة عن أبى اسحاق محمد المعتصم سنة واحدة.

(2/212)