النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 195]
السنة الثانية من ولاية حاتم بن هرثمة على مصر وهي سنة خمس وتسعين ومائة، وهي التي عزل فيها حاتم بن هرثمة المذكور- فيها لما تحقق المأمون خلعه من ولاية العهد تسمى بإمام المؤمنين. وفيها قال بعض الشعراء فيما جرى من ولاية العهد لموسى بن الأمين وهو طفل، وكان ذلك برأى الفضل وبكر بن المعتمر:
أضاع الخلافة غش الوزير ... وفسق الأمير وجهل المشير
ففضل وزير وبكر مشير ... يريدان ما فيه حتف الأمير
في أبيات كثيرة. وفيها فى شهر ربيع الآخر عقد الأمين لعلي بن عيسى بن ماهان على بلاد الجبال: همذان ونهاوند وقم وأصبهان، وأمر له بمائتي ألف دينار وأعطى لجنده مالاً عظيماً. وخرج علي بن عيسى المذكور في نصف جمادى الآخرة من بغداد، وأخذ معه قيد فضة ليقيد به المأمون. ووقع لعلي هذا مع جيش المأمون أمور يطول شرحها. وفيها ظهر السفياني «1» بدمشق وبويع بالخلافة، واسمه علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان، في ذي الحجة؛ وكنيته «2» أبو الحسن، وطرد عامل الأمين عن دمشق، وهو سليمان بن أبي جعفر بعد أن حصره السفياني بدمشق مدة ثم أفلت منه. وخالد بن يزيد جدّ السفياني هذا هو الذي وضع حديث السفياني في الأصل، فإنه ليس بحديث، غير أن خالداً لما سمع حديث المهدي من أولاد علي في آخر الزمان أحب أن يكون من بني سفيان من يظهر

(2/147)


في آخر الزمان، فوضع حديث السفياني؛ فمشى ذلك على بعض العوام انتهى. وفيها توفي إسحاق بن يوسف بن «1» محمد، أبو محمد الأزرق الواسطي، كان من الفقهاء الثقات الصالحين المحدثين، أقام عشرين سنة لم يرفع رأسه إلى السماء حياء من الله، ومات بواسط. وفيها توفي بكار بن عبد الله بن مصعب بن ثابت بن عبد الله بن الزبير، كان من أشراف قريش، وكان معظما عند الرشيد، ولاه إمرة المدينة فأقام عليها اثنتي عشرة سنة، وكان جواداً ممدحاً نبيلاً.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي بشر بن السري الواعظ بمكة، وعبد الرحمن بن محمد المحاربي الكوفي، وعبيد الله بن المهدي أمير مصر وقد تقدم ذكره. وفيها في قول عثام بن علي الكوفي، وقيل سنة أربع، ومحمد بن الفضيل الضبي الكوفي، والوليد بن مسلم في أولها، ويحيى بن سليم الطائفي بمكة، وأبو معاوية الضّرير محمد بن خارم «2» .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثمانية عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعاً وإحدى وعشرون إصبعاً ونصف إصبع.
ذكر ولاية جابر بن الأشعث على مصر
هو جابر بن الأشعث بن يحيى بن النقي «3» الطائي أمير مصر، وليها بعد عزل حاتم بن هرثمة عنها في جمادى الآخرة سنة خمس وتسعين ومائة. ولاه الأمين على إمرة مصر وجمع له الصلاة والخراج. وقدم مصر يوم الاثنين لخمس بقين من

(2/148)


جمادى الآخرة من السنة المذكورة، وسكن المعسكر على عادة الأمراء؛ واستخلف على صلاة مصر يحيى بن يزيد المرادي وكان ليناً. ولما دخل مصر وأقام بها وقعت الفتنة في العراق بين الأخوين الأمين والمأمون أولاد الرشيد، وكانت الوقعة بين جيش الأمين وعسكر المأمون، وكان على جيش الأمين علي بن عيسى بن ماهان في عسكر كثيف، وكان على عسكر المأمون طاهر بن الحسين، وهو في أقل من أربعة آلاف؛ فلما وصل ابن ماهان بعساكره إلى الري أشرف عليه طاهر بن الحسين المذكور وهم يلبسون السلاح وقد امتلأت بهم الصحراء وعليهم السلاح المذهّب؛ فقال طاهر ابن الحسين: هذا ما لا قبل لنا به ولكن نجعلها خارجية ونقصد «1» القلب؛ فهيأ سبعمائة من الخوارزمية. قال أحمد بن هشام الأمير: فقلنا لطاهر: نذكر علي بن عيسى البيعة التي أخذها هو علينا، وبيعة الرشيد للمأمون؟ قال: نعم، فعلقناهما على رمحين وقمت بين الصّفّين وقلت: الأمان، ثم قلت: يا علي بن عيسى ألا تتقي الله، أليست هذه نسخة البيعة التي أخذتها أنت خاصة؟ اتق الله فقد بلغت باب قبرك! قال: من أنت؟ قلت: أحمد بن هشام، فصاح: علىّ يأهل خراسان من جاء به فله ألف درهم، ثم وقع القتال وانهزم علي بن عيسى بن ماهان وأصحابه فتبعهم طاهر بمن معه فرسخين بعد أن تواقعوا اثنتي عشرة مرة؛ وعسكر المأمون ينتصر فيها حتى لحقهم طاهر بن التاجي ومعه رأس علي بن عيسى بن ماهان، وأخذوا جميع ما كان في عسكره؛ فأرسل طاهر بن الحسين الرأس إلى المأمون. فلما وصل إليه البريد بالرأس سلم عليه بالخلافة وطيف بالرأس في خراسان، ومن يومئذ استفحل أمر المأمون وقوي جأشه. وجاء الخبر بقتل علي بن عيسى بن ماهان إلى الأمين وهو يتصيد السمك، فقال للذي أخبره: ويحك! دعني فإن كوثراً قد صاد سمكتين

(2/149)


وأنا ما صدت شيئاً بعد، فلامه الناس حتى قام من مجلسه؛ ثم جهز لحرب طاهر ابن الحسين عبد الرحمن بن جبلة الأنباري أمير الدينور بالعدة والقوة، فسار حتى نزل همذان. هذا وقد اضطرب ملك الأمين وأرجف ببغداد إرجافاً شديداً وندم محمد الأمين على خلع أخيه المأمون؛ وطمع «1» الأمراء فيه وشغبوا جندهم بطلب أرزاقهم وازدحموا بالجسر يطلبون الأرزاق والجوائز، فقاتلهم حواشي الأمين ثم عجز عنهم فزاد في عطاياهم.
ولما خرج عسكر الأمين ثانياً مع عبد الرحمن ووصل إلى همذان التقى مع طاهر وقاتله قتالاً شديداً ثم تقهقر ودخل مدينة همذان وتفرق عنه أكثر أصحابه فحصره طاهر بهمذان حتى طلب منه عبد الرحمن الأمان، ثم غدر عبد الرحمن وقاتل طاهراً ثانياً حتى قتل، وملك طاهر بن الحسين البلاد ودعا للمأمون وخلع الأمين. كل ذلك والأمين ببغداد لم يخرج منها حتى وافاه طاهر المذكور وقتله على ما سيأتي في ترجمة الأمين إن شاء الله تعالى. ولما ملك طاهر البلاد واستفحل أمره وبلغ المصريين ذلك وثب السري بن الحكم ومعه جماعة كبيرة من المصريّين عصبة للمأمون ودعا السري الناس لخلع الأمين فأجابوه وبايعوا المأمون؛ فقام جابر في أمر الأمين فقاتله السري بن الحكم المذكور حتى هزمه وأخرجه من مصر على أقبح وجه. فخرج جابر المذكور من مصر لثمان بقين من جمادى الآخرة سنة ست وتسعين ومائة، فكانت ولايته على مصر سنة واحدة تقريباً.
وولي مصر بعده أبو نصر عباد بن محمد بن حيّان «2» من قبل المأمون.

(2/150)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 196]
السنة التي حكم فيها جابر على مصر وهي سنة ست وتسعين ومائة- فيها وقع بين عسكر الأمين والمأمون وقائع يطول شرحها. وفيها رفع المأمون منزلة الفضل ابن سهل وعقد له على الشرق طولاً وعرضاً وجعل عمالته «1» ثلاثة آلاف ألف درهم وكتب على سيفه «ذا الرياستين» من جانب رياسة الحرب ومن جانب رياسة القلم والتدبير؛ فقام الفضل بأمر المأمون كما يجب. وولى المأمون أيضا أخاه الحسن ابن سهل دواوين الخراج. كل ذلك والأمين ببغداد في قيد الحياة وفي تعبئة العساكر لقتال المأمون غير أنه ضعف أمره إلى الغاية. وفيها ولى الأمين محمد عبد الملك بن صالح الجزيرة والشام. وفيها خلع الأمين وبويع المأمون ببغداد ثم أعيد الأمين.
وسبب ذلك أنه لما مات عبد الملك بن صالح العباسىّ بالرقّة قام الحسين بن علىّ ابن عيسى بن ماهان فجمع الناس واستقل بالأمر بعد عبد الملك بن صالح، ونفق «2» في العساكر لأجل الأمين، ثم سار بهم إلى بغداد فاستقبله الأشراف والقواد وضربت له القباب ودخل بغداد في شهر رجب؛ فلما كان الليل بعث الأمين [فى] طلبه؛ فأعلظ الحسين لرسول الأمين وقال: لا أنا مغن ولا مسامر ولا مضحك حتى يطلبني في هذه الساعة! وأصبح فخلع الأمين ودعا للمأمون، فوقع بسبب ذلك أمور وحروب بينه وبين حواشي الأمين إلى أن ظفر به الأمين ثم أطلقه ورضي عنه، وأعيد الأمين للخلافة. ووقع للأمين مثل هذه الحكاية في هذه السنة غير مرة. وفيها وقع بين طاهر

(2/151)


ابن الحسين وبين جيش الأمين وقعة عظيمة قتل فيها محمد بن يزيد بن حاتم المهلبي.
وطاهر من جهة المأمون وابن يزيد من جهة الأمين. وفيها توفي عبد الله بن مرزوق، أبو محمد الزاهد البغدادي، كان وزير الرشيد فخرج من ذلك وتخلى عن ماله وتزهّد رحمه الله تعالى. وفيها توفي أبو معاوية محمد بن خازم الضرير «1» الكوفي، ولد سنة ثلاث عشرة ومائة وذهب بصره وله أربع سنين. وهذا غير أبي معاوية الأسود، فإن الأسود اسمه اليمان. نزل أبو معاوية هذا طرسوس وصحب الثوري وغيره.
وفيها توفي أبو الشيص محمد بن رزين، كان شاعراً فصيحاً. قال أبو بكر الأنباري:
اجتمع أبو الشيص ودعبل وأبو نواس ومسلم بن الوليد وتناشدوا الأشعار في عصر «2» واحد.
وحكي أن القاضي الوجيه أبا الحسن علي بن يحيى الذروي «3» دخل الحمام وكان ابن رزين هذا في الحمام، فأنشد ابن رزين بحضرة القاضى المذكور لنفسه:
لله يوم بحمام نعمت به ... والماء من حوضه ما بيننا جاري
كأنه فوق شقات الرخام ضحى ... ماء يسيل على أثواب قصار «4»
فلما سمعه القاضي المذكور ضحك، ثم أنشد لنفسه فى واقعة الحال:
وشاعر أوقد الطبع الذكاء له ... فكاد يحرقه من فرط إذكاء
أقام يعمل أياما رويته ... وشبه الماء بعد الجهد بالماء

(2/152)


ثم أنشد القاضي أيضاً ينعت الحمام بقوله:
إن عيش الحمام أطيب عيش ... غير أن المقام فيه قليل
جنة تكره الإقامة فيها ... وحجيم يطيب فيه الدخول
فكأن الغريق فيها كليم ... وكأن الحريق فيه خليل
وفيها توفي وكيع بن الجراح بن مليح بن عدي، أبو سفيان الرؤاسي الكوفي الأعور، كان إماماً محدثاً ثقة حافظا كثيرا الحديث؛ ومولده سنة تسع وعشرين ومائة وقيل سنة ثمان وعشرين ومائة. (ورؤاس بطن من قيس عيلان) وأصله من خراسان، وسمع من الأعمش وهشام بن عروة وغيرهما.
قال يحيى بن معين: ما رأيت أفضل من وكيع! كان حافظاً يحفظ حديثه ويقوم الليل ويسرد الصوم ويفتي بقول أبي حنيفة؛ ويحيى [بن سعيد «1» ] القطان كان يفتي بقول أبي حنيفة أيضاً.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع سواء، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وستة أصابع.
ذكر ولاية عباد بن محمد على مصر
هو عباد بن محمد بن حيان البلخي، مولى كندة الأمير أبو نصر. ولاه المأمون على إمرة مصر بعد عزل جابر بن الأشعث عنها في شهر رجب سنة ست وتسعين ومائة.
بكتاب هرثمة بن أعين، وكان عباد هذا وكيلاً على ضياع هرثمة بمصر. فسكن عبّاد

(2/153)


المعسكر على عادة أمراء مصر وجعل على شرطته هبيرة بن هاشم بن حديج، ولما بلغ الأمين ولاية عباد هذا على مصر كتب الى ربيعة بن قيس رئيس قيس الحوف بولاية مصر، وكتب أيضاً إلى جماعة من المصريين بإعانته؛ فلما بلغهم ذلك قاموا ببيعة الأمين وخلعوا المأمون وساروا لمحاربة عباد أمير مصر وأصحابه، فخندق عباد على الفسطاط «1» ؛ وكانت بينهم حروب ووقائع آخرها الوقعة التي مسك فيها عباد وحمل إلى الأمين فقتله الأمين في صفر سنة ثمان وتسعين ومائة. فكانت ولايته على مصر سنة واحدة وسبعة أشهر. وتولى مصر من بعده المطلب بن عبد الله. وكان عباد هذا من أعيان القواد، قدمه هرثمة بن أعين حتى ولاه المأمون مصر، وكان فيه رفق بالرعية وعنده سياسة ومعرفة بالحروب. دخل مصر وغالب من بها ميله إلى الأمين فلا زال بهم حتى وافقه كثير منهم، وكاد أمره يتم لولا انتقاض أهل الحوف عليه وكثر جمعهم ووثبوا عليه، فجمع عباد عساكره وقاتلهم [من] عدة وجوه وهو في قلة إلى أن ظفروا به فلم يبق عليه الأمين وقال: هذا ناب من أنياب عساكر المأمون. ومع هذا كله ملكها المأمون وولى المأمون بها المطلب، ولم يقدر الأمين على أن يولي بها أحداً، وقتل بعد مدة يسيرة وتولّى المأمون الخلافة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 197]
السنة التي حكم فيها عباد على مصر وهي سنة سبع وتسعين ومائة- فيها لحق القاسم الملقب بالمؤتمن بن الرشيد بأخيه المأمون، ومحبه عمه المنصور بن المهدي.
وفيها كانت وقائع بين عساكر الأمين والمأمون أسر في بعضها هرثمة بن أعين فحمل بعض أصحاب هرثمة على من أسره وضربه فقطع يده وخلص هرثمة هذا والحصار

(2/154)


عال «1» في بغداد في كل يوم نحو خمسة عشر شهراً، وكان المحاصر لها طاهر بن الحسين مقدم عساكر المأمون، والمأمون بالري، ومع طاهر بن الحسين الأمير هرثمة بن أعين وزهير بن المسيب. هذا والأمين ينفق الأموال على الجند وهو في غاية من الضيق والشدة، وقتل جماعة كبيرة من أهل بغداد، وخرج النساء من الخدور حاسرات، واشتدت شوكة المأمونية، وتفرق عن الأمين عساكره وأخذ أمره في إدبار إلى ما سيأتي ذكره. وفيها توفي بقية بن الوليد بن صاعد «2» بن كعب، أبو يحمد «3» الكلاعي «4» ، كان من أهل الشام، وكان ثقة في روايته عن الثقات ضعيفاً في غيرهم، مولده سنة عشر ومائة.
وفيها توفي شعيب بن حرب أبو صالح المدائني الزاهد، كان أصله من أبناء خراسان ثم من أهل بغداد فتحول إلى المدائن ثم إلى مكة ودام بها إلى أن مات. وكان له فضل ودين متين وزهد وورع. وفيها توفي عبد الله بن وهب بن مسلم، أبو محمد مولى قريش من أهل مصر؛ كان كثير العلم ثقة ولد سنة خمس وعشرين ومائة. وفيها توفي ورش المقرئ واسمه عثمان بن سعيد بن عبد الله بن عمرو بن سليمان. وقيل عثمان بن سعيد بن عدي بن غزوان بن داود بن سابق القبطي المصري، إمام القراء أبو سعيد ويقال: أبو عمرو ويقال: أبو القاسم. أصله من القيروان، وشيخه نافع وهو الذي لقبه ورشاً لشدة بياضه. والورش: شيء يصنع من اللبن، وقيل: بل لقبه ورشان، وهو طائر معروف، فكان يعجبه هذا اللقب ويقول: أستاذي نافع سماني به. وانتهت إليه رياسة القراء بالديار المصرية، وكان بصيراً بالعربية، وكان أبيض

(2/155)


أشقر أزرق سميناً مربوعاً ويلبس ثياباً قصاراً ومولده سنة عشر ومائة. وفيها توفي «1» أبو نواس الحسن بن هانئ، وقيل: الحسن بن وهب «2» ، الحكمي «3» الشاعر المشهور حامل لواء الشعراء في زمانه، كان إماماً عالماً فاضلاً غلب عليه الشعر؛ قال شيخه أبو عبيدة: أبو نواس للمحدثين مثل امرئ القيس للمتقدمين. ولقب بأبي نواس لذؤابتين كانتا تنوسان «4» على قفاه، وإنما كان لقبه أولاً أبا علي. وفي سنة وفاته اختلاف كبير، فأقرب من قال في هذه السنة، وأبعد من قال سنة خمس ومائتين؛ وأما شعره فكثير مشهور ونوادره فكثيرة أيضاً، وديوان شعره كبير بأيدي الناس في عدة مجلدات.
ومن أجود ما قال من الشعر قوله:
ومستطيل على الصهباء باكرها ... في فتية باصطباح الراح حذاق
فكل شيء رآه ظنه قدحا ... وكل شخص رآه ظنه الساقي
وله:
أذكى سراجاً وساقي الشر، يمزجها ... فلاح في البيت كالمصباح مصباح
كدنا على علمنا والشك نسأله ... أراحنا نارنا أم نارنا راح
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبعة أذرع سواء، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وثمانية عشر إصبعا.

(2/156)


ذكر ولاية المطلب بن عبد الله الأولى على مصر
هو المطلب بن عبد الله بن مالك بن الهيثم الخزاعي أمير مصر. ولاه المأمون على مصر بعد عزل عباد بن محمد عنها والقبض عليه في صفر سنة ثمان وتسعين ومائة، وجمع له صلاة مصر وخراجها معاً. وقدم إلى مصر من مكة في النصف من شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين ومائة، وسكن المعسكر، وأقرّ على شرطته هبيرة ابن هاشم مدة قليلة، ثم عزله بمحمد بن عسامة، ثم عزل محمداً بعبد العزيز بن الوزير الجروي، ثم عزل عبد العزيز بإبراهيم بن عبد السلام الخراعىّ، ثم عزله بهبيرة ابن هاشم المذكور أولاً. كل ذلك لما كان في أيامه من كثرة الاضطراب بمصر، والفتن والحروب قائمة في كل قليل بديار مصر؛ فإن أهل مصر كانوا يوم ذاك فرقتين: فرقة من حزب الأمين محمد الخليفة، وفرقة من حزب أخيه المأمون.
فقاسى المطلب هذا بمصر شدائد مع أنه لم تطل مدته وعزل بالعباس بن موسى في شوال سنة ثمان وتسعين ومائة. فكانت ولايته على إمرة مصر نحواً من سبعة أشهر ونصف شهر، وقبض عليه وحبس مدة طويلة بإذن المأمون. وتأتي بقية ترجمته في ولايته الثانية على مصر بعد خروجه من السجن عند عزل الأمير العباس بن موسى عن مصر إن شاء الله تعالى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 198]
السنة التي حكم فيها المطلب بن عبد الله على مصر وهي سنة ثمان وتسعين ومائة- فيها كان حصار الأمين ببغداد إلى أن ظفر به وقتل في المحرم صبراً وله عشرون سنة، وعلقت رأسه وطيف بها. وفيها ولى الخلافة المأمون ابن هارون الرشيد عوضاً عن أخيه محمد الأمين، وكانت كنيته أبا العباس؛ فلما

(2/157)


ولي الخلافة كني بأبي جعفر على كنية جد أبيه. وفيها في رمضان ثار أهل قرطبة بالأمير الحكم بن هشام الأموي وحاربوه لجوره وفسقه وأحاطوا بالقصر، وأشتد القتال وعظم الخطب واستظهروا عليه؛ فأمر الحكم أمراءه فحملوا عليهم وقاتلوهم حتى هزموهم، وقتل منهم مقتلة عظيمة وصلب من وجوه القوم ثلثمائة على النهر منكسين؛ وبقي القتل والنهب والتحريق في قرطبة ثلاثة أيام، ثم أمنهم فهج «1» أهل قرطبة إلى البلاد. وفيها توفي سفيان بن عيينة بن أبي عمران، وأسم أبي عمران ميمون مولى محمد «2» بن مزاحم الهلالي أخى الضحاك المفسّر، كنيته- أعني سفيان- أبو محمد الكوفي ثم المكي، الإمام شيخ الإسلام، مولده سنة سبع ومائة في نصف شعبان، كان إماماً ثقة حجة عالماً صالحاً.
قال الحسين بن عمران بن عيينة: حججت مع عمي سفيان آخر حجة حجها سنة سبع وتسعين ومائة. فلما كنا بجمع- يعني المزدلفة- استلقى على فراشه ثم قال: قد وافيت هذا الموضع سبعين عاماً أقول في كل سنة: اللهم لا تجعله آخر العهد من هذا المكان، وإني قد استحييت من الله من كثرة ما أسأله ذلك، فرجع فتوفي في العام في شهر رجب. وكان سفيان يقول: لا يمنع أحدكم من الدعاء ما يعلم من نفسه، فإن الله قد استجاب دعاء شر الخلق وهو إبليس قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ
. وكان أيضاً يقول: يستحب للرجل أن يقول في دعائه: اللهم استرني بسترك الجميل، ومعنى الستر الجميل أن يستر على عباده في الدنيا والأخرة.

(2/158)


وقال غيره: إن الرجل ليحدث الذنب فلا يزال نادماً حتى يموت فيدخل الجنة فيقول إبليس: يا ليتني لم أوقعه فيه. وفيها توفي عبد الرحمن بن مهدي بن حسان، أبو سعيد العنبري البصري اللؤلؤي الإمام الحافظ، كان ثقة كثير الحديث من كبار العلماء الحفاظ؛ ولد سنة خمس وثلاثين ومائة وسمع الكثير. قال اسماعيل القاضى:
سمعت ابن المدينىّ يقول: أعلم الناس بالحديث عبد الرحمن بن مهدي.
قال أحمد بن سنان: كان عبد الرحمن بن مهدي لا يتحدث في مجلسه ولا يبرى قلم ولا يقوم أحد قائماً، كأنّ على رءوسهم الطير وكأنهم في صلاة، فإذا رأى أحداً منهم يتبسم أو تحدث لبس نعله وخرج. وفيها توفي علي بن عبد الله بن خالد بن يزيد ابن معاوية بن أبي سفيان، الأموي الهاشمي أبو الحسن المدعو بالسفياني المتغلب على دمشق، وكان يلقب بأبي العميطر لأنه قال لأصحابه يوماًَ: إيش لقب الجرذون؟ فقالوا: لا ندري، فقال: أبو العميطر، فلقب به. ولما خرج بدمشق ودعا لنفسه وتسمى بالسفياني كان ابن تسعين سنة، وبايعه أهل دمشق بالخلافة سنة خمس وتسعين ومائة، واشتغل عنه الخليفة الأمين بحرب أخيه المأمون؛ فانتهز السفياني هذه الفرصة وملك دمشق، حتى قاتله أعوان الخليفة وهزموه، فاختفى بالمزة وأقام بها أياماً ومات. وقد تقدم في سنة خروجه أن حديث السفياني موضوع وضعه خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان جدّ علىّ هذا. اهـ. وفيها كانت قتلة الخليفة أمير المؤمنين الأمين محمد، وكنيته أبو عبد الله. وقيل أبو موسى، ابن الخليفة هارون الرشيد ابن الخليفة محمد المهدي ابن الخليفة أبي جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي البغدادي.
وأمه زبيدة بنت جعفر بن أبي جعفر المنصور. قيل: إنه لم يل الخلافة بعد علىّ ابن أبى طالب والحسن ولده رضي الله عنهما ابن هاشمية غير الأمين هذا. وقد

(2/159)


تقدم ذكر ما وقع له مع أعوان أخيه المأمون من الحروب إلى أن حاصره طاهر بن الحسين ببغداد نحو خمسة عشر شهراً حتى ظفر به وقتله صبراً في المحرم من هذه السنة، وطيف برأسه. وقتل الأمين وله عشرون «1» سنة. وكان أخوه المأمون أسن منه بشهر واحد. وكان الأمين من أحسن الشباب صورة: كان أبيض طويلاً جميلاً ذا قوة مفرطة وبطش وشجاعة معروفة وفصاحة وأدب وفضيلة وبلاغة، لكنه كان سيىء التدبير ضعيف الرأى أرعن مبدّرا للاموال لا يصلح للخلافة؛ وكان مدمناً للخمر، منادماً للفساق والمغاني والمساخر، واشترى عريب «2» المغنية بمائة ألف دينار، واحتجب عن إخوانه وأهل بيته؛ وقسّم الأموال والجواهر في النساء والخصيان.
ومحبته لخادمه كوثر مشهورة، منها: أنه لما كان في الحصار خرج كوثر المذكور ليرى الحرب فأصابته رجمة في وجهه فجلس يبكي، وجعل الأمين هذا يمسح الدم «3» عن وجهه، ثم أنشد:
ضربوا قرة عيني ... ومن أجلي ضربوه
أخذ الله لقلبي ... من أناس أحرقوه

(2/160)


ولم يقدر على الزيادة، فأحضر عبد الله بن أيوب التيمي الشاعر، فقال له: قل عليهما، فقال:
ما لمن أهوى شبيه ... فبه الدنيا تتيه
وصله حلو ولكن ... هجره مر كريه
من رأى الناس له الفض ... ل عليهم حسدوه
مثل ما قد حسد القا ... ئم بالملك أخوه
فقال الأمين: أحسنت! بحياتي يا عباس انظر، إن كان جاء على ظهر فأوقره «1» له، وإن كان جاء في زورق فأوقره؛ قال: فأوقروا له ثلاثة أبغل دراهم.
قلت: وحكايات الأمين كثيرة، وجنونه وكرمه أشهر من أن يذكر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثمانية أذرع سواء، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع.
ذكر ولاية العباس بن موسى على مصر
هو العباس بن موسى بن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي، ولي مصر بعد عزل المطلب عنها في شوال سنة ثمان وتسعين ومائة، ولاه المأمون على الصلاة والخراج، ولما ولي مصر قدم ابنه عبد الله أمامه إلى مصر خليفة له عليها؛ فقدم عبد الله إلى مصر ومعه الحسن بن عبيد بن لوط الأنصاري، ومحمد بن إدريس- أعني الإمام الشافعي- رحمه الله لليلتين بقيتا من شوال من السنة المذكورة. ولما دخل عبد الله المذكور والحسن ابن عبيد سجنا المطلب المعزول عن إمرة مصر قبل تاريخه. وسكن عبد الله المعسكر

(2/161)


على العادة، وتشدد على أهل مصر فبغضوه وثاروا عليه، ووافقهم جند مصر؛ فقاتلهم عبد الله المذكور غير مرة، ومنعهم الحسن بن عبيد أعطياتهم وتهددهم لموافقتهم على حرب عبد الله. ثم تحامل الحسن المذكور على الرعية وعسفها وتهدد الجميع؛ فاجتمع الجميع وثاروا ووقفوا جملة واحدة؛ فخرج إليهم عبد الله وقاتلهم، فهزموه وأخرجوه من مصر؛ ثم عمدوا إلى المطلب بن عبد الله وأخرجوه من حبسه وأقاموه على إمرة مصر لأربع عشرة ليلة خلت من المحرم سنة تسع وتسعين ومائة. ولما بلغ العباس صاحب الترجمة ما وقع لابنه عبد الله بمصر قصد الديار المصرية حتى نزل بلبيس ودعا قيساً لنصرته ومضى إلى الحوف، ثم عاد مريضاً إلى بلبيس فمات به لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة من سنة تسع وتسعين ومائة. يقال: أن المطلب دس عليه سماً في طعامه فمات منه. وأما ابنه عبد الله فقال صاحب البغية:
قتله الجند في يوم النحر سنة ثمان وتسعين ومائة. فكانت مدة إقامته خليفة عن أبيه شهرين ونصف شهر.
قلت: وأما ولاية العباس على مصر أيام ناب عنه ابنه وزمان قتاله مع أهل مصر فكانت كلها حروباً وفتناً. ولعل العباس لم يدخل مصر ولا حكمها اهـ.
ذكر ولاية المطلب الثانية على مصر
قد تقدم ذكره في ولايته الأولى على مصر، وأما ولايته هذه فكانت بعد خروجه من السجن، لأنه لما قامت جند مصر والرعية على عبد الله بن العباس والحسن بن عبيد وأخرجوهما من مصر، وقيل بل قتلوا عبد الله بن العباس المذكور، ولوا عليهم المطلب هذا بعد أن أخرجوه من السجن، فاستولى على مصر ورفق بالرعية وأجزل لهم أعطياتهم وأحسن إليهم، فانضم عليه خلائق من الجند ومن أهل

(2/162)


مصر وغيرهم؛ فاستفحل أمره بهم وقويت شوكته، وأخرج من كان بمصر من أصحاب العباس وابنه عبد الله، وتم أمره إلى أن قدم العباس بنفسه إلى مدينة بلبيس فلم يقدر على دخول مصر، ووقع له مع العباس أمور وحروب، إلى أن دس عليه المطلب هذا سماً فمات العباس منه، كما ذكرناه في ترجمته. ولما بلغ المأمون ذلك لم يجد بداً من أن يقره على إمرة مصر لشغله بقتال أخيه الأمين. فاستمر المطلب هذا على إمرة مصر إلى أن تم أمر المأمون في الخلافة وثبتت قدمه فعزله «1» عنها بالسري ابن الحكم في مستهل شهر رمضان سنة مائتين. وكان المطلب قد ولى على شرطته أحمد بن حوي «2» ، ثم عزله بهبيرة بن هاشم. فلما قدم السري بن الحكم إلى نحو مصر لم يطق المطلب هذا مدافعته عنها لكثرة جيوش السري وجموعه، فشاور أصحابه فأشاروا عليه بالثبات والقتال، فجمع هو أيضاً جمعاً هائلاً وقام بنصرته غالب جند مصر؛ والتقى مع السري وقاتله غير مرة، وقتل بين الطائفتين خلائق، حتى كانت الهزيمة على المطلب وأصحابه، وخرج هارباً من مصر إلي نحو مكة. ودافع الجند وأهل مصر عن نفوسهم حتى أمنهم السري، ودخل إلى مصر واستولى عليها. فكان حكم المطلب في هذه المرة الثانية على مصر سنة واحدة وسبعة أشهر. وقال صاحب البغية: وثمانية أشهر.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 199]
السنة التي حكم في أولها العباس ثم المطلب بن عبد الله على مصر وهي سنة تسعة وتسعين ومائة- فيها قدم الحسن بن سهل من عند الخليفة المأمون إلى بغداد وفرق عماله في البلاد، ثم جهز أزهر بن زهير لقتال الهرش الخارجي في المحرم؛ فقتل

(2/163)


الهرش المذكور. وفيها في جمادى الآخرة خرج بالكوفة محمد بن إبراهيم بن طباطبا- واسم طباطبا إسماعيل بن إبراهيم بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب- يدعو إلى الرضى «1» من آل محمد صلى الله عليه وسلم، وكان القائم بأمره أبو السرايا السري بن منصور الشيباني، فهاجت الفتن وأسرع الناس إلى ابن طباطبا واستوسقت «2» له الكوفة؛ فجهز الحسن بن سهل لحربه زهير بن المسيب في عشرة آلاف، فالتقوا فانهزم زهير بن المسيب واستباحوا عسكره. فلما كان من الغد أصبح محمد بن إبراهيم المذكور ميتاً فجاءة، فأقام أبو السرايا في الحال شاباً أمرد اسمه محمد بن محمد بن زيد من العلويين، ثم جهز له الحسن جيشاً آخر وآخر. ووقع لأبي السرايا هذا مع عساكر الحسن بن سهل أمور ووقائع يأتي ذكر بعضها في محلها إن شاء الله تعالى. وفيها توفي سليمان بن أبي جعفر المنصور بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس، الأمير أبو أيوب الهاشمي العباسي أمير دمشق وغيرها، كان حازماً عاقلاً جواداً ممدحاً. وفيها توفي علي بن بكار أبو الحسن البصري، كان إماماً عالماً زاهداً، انتقل من البصرة فنزل المصيصة فأقام مرابطاً، وكان صاحب كرامات واجتهاد. وفيها توفي عمارة ابن حمزة بن مالك بن يزيد بن عبد الله مولى العباس بن عبد الملك، كان أحد الكتاب البلغاء الأجواد، وكان ولاه أبو جعفر المنصور خراج البصرة، وكان فاضلاً بليغاً فصيحاً، آلا أنه كان فيه تيه شديد يضرب به المثل، حتى إنه كان يقال: أتيه من عمارة؛ وله في التيه والكرم حكايات كثيرة.

(2/164)


الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي إسحاق بن سليمان الرازي [أبو يحيى «1» ] ، وحفص بن عبد الرحمن قاضي نيسابور، والحكم بن عبد الله أبو مطيع البلخي، وسيار بن حاتم، وشعيب بن الليث بن سعد فى صفر، وعبد الله ابن نمير الخارفي الكوفي، وعمر بن حفص العبدي البصري، وعمرو بن محمد العنقزي الكوفي، ومحمد بن شعيب بن شابور ببيروت، والهيثم بن مروان العنسي الدمشقي، ويونس بن بكير الكوفي راوي المغازي.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وإحدى عشرة إصبعاً.
ذكر ولاية السري بن الحكم الأولى على مصر
هو السري بن الحكم بن يوسف بن المقوم مولى من بني ضبة، وأصله من بلخ من قوم يقال لهم «الزط «2» » ، أمير مصر، وليها بإجماع الجند وأهل مصر على الصلاة والخراج معاً في مستهل شهر رمضان سنة مائتين بعد عزل المطلب عنها. وسكن المعسكر على عادة أمراء مصر، وجعل على شرطته محمد بن عسامة، وأخذ في إصلاح أمور مصر وقراها. وبينما هو في ذلك وثب عليه الجند في مستهل شهر ربيع الأول سنة إحدى ومائتين لأمر اقتضى ذلك، وحصل بينه وبينهم أمور ووقائع يطول شرحها، حتى ورد عليه الخبر من الخليفة المأمون عبد الله بعزله عن إمرة مصر بسليمان بن غالب في شهر ربيع الأول المذكور. وقيل: إنه هو الذي خرج من مصر

(2/165)


واستعفى لأمور صدرت في حقه من الجند والرعية. وقيل: إن الجند قبضوا عليه بأمر الخليفة وحبسوه. وكانت ولايته على مصر نحواً من ستة أشهر تخمينا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 200]
السنة التي حكم في أولها المطلب وفي آخرها السري بن الحكم على مصر وهي سنة مائتين من الهجرة- فيها في المحرم هرب أبو السرايا والطالبيون من الكوفة إلى القادسية، فدخل الكوفة هرثمة بن أعين ومنصور بن المهدي بعساكرهما وأمنوا أهلها؛ فتوجه أبو السرايا وحشد وجمع ورجع إلى نحو الكوفة وواقع القوم فانهزم وأمسك وأتي به إلى الحسن بن سهل، فقتله في عاشر شهر ربيع الأول بأمر الخليفة المأمون. وفيها هاج الجند ببغداد لكون الحسن بن سهل لم ينصفهم في العطاء، وبقيت الفتنة بينه وبينهم أياماً كثيرة ثم صلح الأمر بينهم. وفيها أحصي ولد العباس فبلغوا ثلاثة وثلاثين ألفاً ما بين ذكر وأنثى. وفيها قتلت الروم ملكهم ليون وكان له عليهم سبع سنين «1» ، وملكوا ميخائيل بن جورجيس. وفيها قتل الخليفة المأمون يحيى بن عامر بن إسماعيل، لكونه أغلظ في الكلام وقال: يا أمير الكافرين.
وفيها توفي معاذ بن هشام الدستوائي «2» البصري الحافظ، روى عن أبيه وابن عون وأشعث بن عبد الملك وغيرهم، وروى عنه أحمد بن حنبل وإسحاق وبندار «3» وابن المديني وغيرهم. وقال العباس بن عبد العظيم الحافظ: كان عنده عن أبيه عشرة آلاف حديث. وفيها توفي زاهد الوقت معروف بن الفيرزان، وقيل: ابن

(2/166)


فيروز أبو محفوظ، وقيل: أبو الحسن، من أهل كرخ بغداد، كان إمام وقته وزاهد زمانه. ذكر معروف الكرخي عند أحمد بن حنبل فقالوا: قصير العلم، فقال للقائل: أمسك، وهل يراد من العلم إلا ما وصل اليه معروف! اهـ
وكان أبواه من أعمال واسط من الصابئة. وعن أبي علي الدقاق قال: كان أبواه نصرانيين فأسلماه إلى مؤدب نصراني، فكان يقول له: قل ثالث ثلاثة، فيقول معروف: بل هو الواحد، فيضربه، فهرب ثم أسلم أبواه.
ومن كلام معروف- رحمة الله عليه- قال: من كابر الله صرعه، ومن نازعه قمعه، ومن ماكره خدعه، ومن توكل عليه منعه «1» ، ومن تواضع له رفعه، وعنه قال: كلام العبد فيما لا يعنيه «2» خذلان من الله. وقال رجل: حضرت معروفا فاغتاب رجل [رجلاً «3» ] عنده؛ فقال معروف: اذكر القطن إذا وضع على عينيك.
وعنه قال: ما أكثر الصالحين وما أقل الصادقين.
قلت: ومناقب معروف كثيرة، وزهده وصلاحه مشهور، نفعنا الله ببركته.
وفيها في أول المحرم قدم مكة حسين بن حسن الأفطس، ودخل الكعبة وجردها وأخذ جميع ما كان عليها وكساها ثوبين رقيقين من قز، كان أبو السرايا بعث بهما إليها، مكتوب عليهما: [أمر به الأصفر بن الأصفر «4» ] أبو السرايا داعية آل محمد لكسوة بيت الله الحرام، وأن تطرح عنها كسوة الظلمة من ولد العباس؛ ثم أخذ الحسين أموالاً كثيرة من أهل مكة وصادرهم وأبادهم. وفيها توفي أبان بن عبد الحميد

(2/167)


ابن لاحق اللاحقي، كان شاعراً فاضلاً بليغاً، قدم بغداد واتصل بالبرامكة، وله فيهم مدائح كثيرة، وصنف لهم كتاب «كليلة «1» ودمنة» وهو فرد في معناه.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثمانية أصبع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعاً وسبعة عشر إصبعا.
ذكر ولاية سليمان بن غالب على مصر
هو سليمان بن غالب بن جميل بن يحيى بن قرّة البجلي الأمير أبو داود، ولي إمرة مصر على الصلاة والخراج معاً؛ بعد عزل السري بن الحكم وحبسه، بإجماع الجند وأهل مصر عليه في يوم الثلاثاء لأربع خلون من شهر ربيع الأول من سنة إحدى ومائتين. وسكن المعسكر، وجعل على شرطته أبا ذكر «2» بن جنادة بن عيسى المعافري، فشدد على المصريين، فعزله عن الشرطة بالعباس بن لهيعة الحضرمىّ. ثم وفع بين سليمان هذا وبين الجند أيضا وجشة فوثبوا عليه وقاتلوه، ووقع له معهم وقائع وحروب كثيرة آلت إلى عزله عن إمرة مصر، فصرفه المأمون عنها، وأعاد على إمرة مصر السري بن الحكم ثانية. فكانت ولاية سليمان هذا على إمرة مصر خمسة أشهر، فإنه صرف في مستهل شعبان سنة إحدى ومائتين، وتوجه إلى المأمون وصار من جملة القواد؛ وندبه المأمون لقتال بابك الخرمي، وهذا أول ظهور بابك الخرمي في الجاويدانية. وبابك هو من أصحاب الجاويدان بن سهل صاحب البذّ «3» ،

(2/168)


وادعى بابك أن روح جاويدان دخلت فيه، وأخذ بابك في العبث والفساد- وتفسير جاويدان: الدائم الباقي. ومعنى خرم: فرج، وهي مقالات المجوس، والرجل منهم ينكح أمه وأخته، ولهذا يسمونه دين الفرج؛ ويعتقدون مذهب التناسخ وأن الأرواح تنتقل من جوف إلى غيره- وعاد سليمان صاحب الترجمة إلى الخليفة من غير أن يلقى حرباً؛ فإن بابك المذكور لما سمع بمجيء العساكر هرب؛ واستمر سليمان عند المأمون الى أن كان ما سنذكره.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 201]
السنة التي حكم في أولها السري بن الحكم إلى مستهل ربيع الأول، ثم سليمان ابن غالب إلى شعبان، ثم السري بن الحكم ثانية على مصر وهي سنة إحدى ومائتين- فيها جعل المأمون ولي عهده في الخلافة من بعده علياً الرضى بن موسى الكاظم العلوي، وخلع أخاه القاسم من ولاية العهد، وترك لبس السواد ولبس الخضرة، وترك غالب شعار بني العباس أجداده ومال إلى العلوية؛ فشق ذلك على بني العباس وعلى القواد وجميع أهل الشرق لا سيما أهل بغداد، وخرج عليه جماعة كثيرة بسبب ذلك، وثارت الفتن لهذه الكائنة؛ وكلم المأمون أكابر بني العباس في ذلك فلم يلتفت إلى كلامهم. وفيها ولى المأمون زيادة الله بن إبراهيم بن الأغلب التميمي إمرة المغرب. وفيها كتب المأمون إلى إسماعيل بن جعفر بن سليمان العباسي أمير البصرة يأمره بلبس الخضرة، فامتنع ولم يبايع بالعهد لعلي الرضى؛ فبعث اليه المأمون عسكرا لحربه فسلم نفسه بلا قتال، فحمل هو وولداه «1» إلى خراسان، وفيها المأمون، فمات هناك. وفيها خرج منصور بن المهدي العباسي أيضاً بكلواذا «2» ونصب

(2/169)


نفسه ثانياً للمأمون ببغداد فسموه المرتضى وسلموا عليه بالخلافة؛ فامتنع من ذلك وقال: إنما أنا نائب للمأمون. فلما ضعف عن قبول ذلك عدلوا الى أخيه إبراهيم ابن المهدي فبايعوه بالخلافة. كل ذلك بسبب ميل المأمون إلى العلوية. وجرت فتنة كبيرة واختبط العراق سنين وخطب به باسم إبراهيم بن المهدي على المنابر.
وفيها توفي عبد الله بن الفرج الشيخ أبو محمد القنطري العابد الزاهد، كان من كبار المجتهدين، كان بشر الحافي يحبه ويثني عليه ويزوره. وفيها توفي حمّاد بن أسامة ابن زيد الحافظ أبو أسامة الكوفي مولى بني هاشم، روى عن الأعمش وإسماعيل ابن أبي خالد وأسامة بن زيد الليثي وغيرهم؛ وروى عنه عبد الرحمن بن مهدي مع تقدمه وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين وعلي بن المديني وأبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق الكوسج وغيرهم. وقال محمد بن عبد الله بن عمّار: كان أبو أسامة في زمن الثوري يعد من النساك. وفيها في ذي القعدة توفي علي بن عاصم بن صهيب الحافظ أبو الحسن مولى بنت محمد بن أبي بكر الصديق، كان من أهل واسط؛ ولد سنة ثمان ومائة، أو خمس ومائة؛ وكان محدثاً فاضلاً، روى عنه الإمام أحمد بن حنبل وطبقته، إلا أنهم قالوا: كان يخطئ فضعفوه.
الذين ذكر الذهبي وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفي أبو أسامة الكوفي، وحرمي «1» بن عمارة، وحماد بن مسعدة، وعلي بن عاصم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وثمانية عشر إصبعا.

(2/170)


ذكر ولاية السري الثانية على مصر
تولى السري ثانياً على مصر من قبل الخليفة المأمون على الصلاة والخراج معاً.
وقدم الخبر من المأمون بولايته في يوم الأربعاء لاثنتي عشرة خلت من شعبان سنة إحدى ومائتين، ففي الحال أخرج من السجن ولبس خلعة المأمون بإمرة مصر وتوجّه الى المعسكر وسكن به. وجعل على شرطته محمد بن عسّامة «1» ثم عزله بالحارث بن زرعة؛ فشكا منه الجند فعزله بابنه ميمون، ثم عزل ميموناً أيضاً بأبي ذكر بن المخارق «2» ، ثم عزله بأخيه صالح بن الحكم، ثم عزل صالحاً بأخيه إسماعيل، ثم عزل إسماعيل بأخيه داود؛ كل ذلك لتغلب أهل مصر عليه وهو يصغي إلى قولهم إلى أن أستفحل أمره. ولما ثبتت قدمه في إمرة مصر أخذ يتتبع من كان حاربه وعاداه في أول ولايته، فمسك منهم جماعة وأخرج جماعة، ومهد أمور مصر وأصلح أحوال أهل البلاد وأباد أهل الحوف. وأستمر على إمرة مصر إلى أن توفي بها في سلخ جمادى الأولى من سنة خمس ومائتين.
وقال صاحب البغية: مات بالفسطاط يوم السبت لانسلاخ ربيع الأول من سنة خمس ومائتين.
قلت: وعلى هذا القول كانت ولايته على مصر في هذه المرة الثانية ثلاث سنين وتسعة أشهر وثمانية عشر يوماً. وتولى إمرة مصر من بعده ابنه محمد بن السّمرىّ.
وكان السرىّ أميرا جليلا معظّما فى الدّول، ولى الأعمال وتنقل في البلاد، وكان ممن

(2/171)


أنضم على المأمون من القواد، ووقع له أمور بمصر ذكرنا بعضها إلى أن أعيد إليها ثانياً، واستمر بها إلى أن توفي، حسبما تقدّم ذكره.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 202]
السنة الأولى من ولاية السري بن الحكم الثانية على مصر وهي سنة اثنتين ومائتين، على أنه حكم فيها من الخالية من شعبان إلى آخرها حسبما تقدم ذكره- فيها، أعني سنة اثنتين ومائتين، بايع العباسيون إبراهيم بن المهدي ولقبوه بالمبارك المنير.
وأول من بايع إبراهيم بن المهدي المذكور عبد الله بن العباس بن محمد بن علي العباسي ثم أخوه منصور بن المهدي ثم بنو عمه ثم القواد؛ وخلعوا المأمون من الخلافة لكونه أخرج العباسيين من ولاية العهد وجعلها في العلويين، ولبس الخضرة وترك لبس السواد الذي هو شعار بني العباس. ووقع بولاية إبراهيم هذا أمور وفتن وحروب آلت إلى خلع إبراهيم هذا وهربه واختفائه، كما سيأتي ذكره إن شاء الله تعالى.
وفيها خرج المأمون من مرو يريد العراق، وكانت الحرب قائمة بين الحسن بن سهل وبين إبراهيم بن المهدي المذكور. وفيها توفي الحسن بن الوليد أبو علي النيسابوري، وقيل أبو عبد الله القرشي، كان من خراسان وقدم إلى بغداد وحدث بها؛ وكان يطعم أهل الحديث الفالوذج، وقرأ على الكسائي، وكان له ثروة ومال ينفقه على العلماء ويغزو الترك ويحج في كل عام. وفيها توفي الفضل بن سهل بن عبد الله، وزير المأمون وعظيم دولته، ذو الرياستين أبو عبد الله؛ كان أبوه سهل من أولاد ملوك المجوس، أسلم في أيام هارون الرشيد واتصل بيحيى البرمكي، واتصل ابناه الفضل هذا وأخوه الحسن بالفضل وبجعفر ابني يحيى البرمكي؛ فضم جعفر البرمكي الفضل هذا إلى المأمون وهو ولي عهد الخلافة، فغلب على المأمون بخلاله الجميلة من الوفاء والبلاغة والكتابة حتى صار أمر المأمون كله بيده، لا سيما [أنه] لما ولي الخلافة ولّاه

(2/172)


الأعمال الجليلة. وكان الفضل هذا هو القائم بالتدبير في خلع الأمين وقتاله حتى تم له ذلك. وتولى الوزارة من بعده أخوه الحسن بن سهل. وكان موته بسرخس، قتله أربعة من حواشي المأمون في ليلة الجمعة ثالث شعبان في الحمام بسرخس، فتتبع المأمون قتلته حتى ظفر بهم وقتلهم. وقتل الفضل وهو ابن ستين سنة، وقيل إحدى وأربعين سنة. وفيها توفي يحيى بن المبارك بن المغيرة أبو عبد الله اليزيدي النحوي العدوي البصري، وسمي اليزيدي لأنه كان منقطعاً ليزيد بن منصور الحميري خال الخليفة محمد المهدي، كان إماماً في النحو واللغة والأدب ونقل النوادر وكلام العرب، وله تصانيف مفيدة، منها: كتاب الحيل، وكتاب مناقب بنى العباسى، وكتاب أخبار اليزيديين، وله أيضاً مختصر في النحو. ومات في جمادى الآخرة.
رحمه الله.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعاً، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وتسعة عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 203]
السنة الثانية من ولاية السري الثانية على مصر وهي سنة ثلاث ومائتين- فيها توجه المأمون إلى طوس فأقام بها عند قبر أبيه أياماً، وفي إقامة المأمون بطوس مات علي بن موسى الرضى العلوي ولي عهد المأمون، فدفن عند قبر الرشيد؛ واغتم المأمون لموته، ثم كتب لأهل بغداد يعلمهم بموت علي المذكور. وعلي هذا هو الذي كان المأمون عهد له وقامت تلك الحروب بسببه. ثم كتب المأمون لأهل بغداد ولبني العباس أنه يجعل العهد في بني العباس؛ فأجابوه بأغلظ جواب، وقالوا:
لا نؤثر على إبراهيم بن المهدي أحداً. ثم وقع بينه وبين إبراهيم أمور آخرها أن إبراهيم

(2/173)


انكسر وهرب واختفى سنين إلى أن ظفر به المأمون وعفا عنه. وفيها غلبت السوداء على الوزير الحسن بن سهل وتغير عقله فقيد بالحديد وحبس في بيت بواسط؛ وأخبر المأمون بذلك فكتب بأن يكون على عسكر الحسن بن سهل دينار بن عبد الله، وأن المأمون واصل عقيب كتابه. وفيها كانت زلزلة عظيمة سقطت فيها منارة الجامع والمسجد ببلخ ونحو ربع المدينة. وفيها اختفى إبراهيم بن المهدي الذي كان بويع بالخلافة في سابع عشر ذي الحجة وبقي مختفياً عدة سنين. وكانت أيامه سنتين إلا بضعة عشر يوماً، وخلافته لم يثبتها المؤرخون ولا عده أحد من الخلفاء، غير أنه كان بنو العباس بايعوه لما جعل المأمون العلوي ولي عهده، فلم يتم أمره وهرب واختفى. وفيها وصل المأمون إلى همذان في آخر السنة. وفيها توفى حسين بن علىّ ابن الوليد الجعفىّ مولاهم الكوفىّ المقرئ الزاهد أبو عبد الله، وقيل أبو محمد، روى عن حمزة الزيات وقرأ عليه، وكان إماماً ثقة حافظاً محدثاً. وفيها توفي علي الرّضى ابن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي زين العابدين بن الحسين بن علي بن أبى طالب، الإمام أبو الحسن الهاشمىّ العلوىّ الحسينىّ، كان إماما عالما؛ روى عن أبيه وعن عبيد الله بن أرطاة، وروى عنه ابنه أبو جعفر محمد وأبو عثمان المازني والمأمون وطائفة. وأمه أم ولد؛ وله عدة إخوة كلهم من أمهات أولاد، وهم: ابراهيم والعباس والقاسم وإسماعيل وجعفر وهارون وحسن وأحمد ومحمد وعبيد الله وحمزة وزيد وعبد الله وإسحاق والحسين والفضل وسليمان وعدة بنات. وكان علي هذا سيد بني هاشم في زمانه وأجلّهم، وكان المأمون يعظمه ويبجله ويخضع له ويتغالى فيه حتى إنه جعله ولي عهده من بعده وكتب بذلك إلى الأفاق، فاضطربت مملكته بسببه، فلم يرجع عن ذلك حتى مات علىّ

(2/174)


هذا؛ وبعد موته جعل المأمون العهد في بني العباس. وفي علي هذا يقول أبو نواس الحسن بن هانئ:
قيل لي أنت أحسن الناس طراً ... في فنون من المقال النبيه
لك من جيد الفريض مديح ... يثمر الدر في يدي مجتنيه
قلت لا أستطيع مدح إمام ... كان جبريل خادماً لأبيه
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثمانية عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وعشرة أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 204]
السنة الثالثة من ولاية السري الثانية على مصر وهي سنة أربع ومائتين- فيها وصل المأمون إلى النهروان فتلقاه بنو هاشم والقواد، ودخل بغداد في نصف صفر؛ وبعد ثمانية أيام كلمه بنو العباس في ترك الخضرة ولبس السواد، ولا زالوا به حتى أذعن وترك الخضرة ولبس السواد. وفيها ولى المأمون أخاه أبا عيسى على الكوفة، وولى أخاه صالحاً على البصرة، وولى يحيى بن معاذ على الجزيرة؛ فتوجه يحيى بن معاذ إلى الجزيرة وواقع بابك الخرّمىّ الخارجي حتى أخرجه منها. وفيها توفي أشهب بن عبد العزيز بن داود بن إبراهيم الإمام العالم الفقيه أبو عمرو القيسي العامري المصري فقيه مصر، وقيل اسمه مسكين ولقبه أشهب، سمع مالكاً والليث ويحيى بن أيوب وسليمان بن بلال وغيرهم، وهو أحد أصحاب الإمام مالك رضي الله عنه الكبار. قال الشافعي: ما أخرجت مصر أفقه من أشهب لولا طيش فيه. وقال سحنون رحمه الله: أشهب ما كان يزيد في سماعه حرفاً واحداً.
وفضله محمد بن عبد الله بن عبد الحكم على ابن القاسم في الرأي حتى إنه قال:

(2/175)


أشهب أفقه من ابن القاسم مائة مرة. وعن ابن عبد الحكم قال: سمعت أشهب في سجوده يدعو على الشافعي بالموت، فذكرت ذلك للشافعىّ فأنشد:
تمنّى رجال أن أموت وإن أمت ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأ لأخرى مثلها فكأن قد
وكان مولد أشهب سنة أربعين ومائة، ومات في الثاني والعشرين من شعبان بعد موت الإمام الشافعي بثمانية عشر يوماً. وفيها توفي الإمام الشافعي محمد بن إدريس ابن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي، الإمام العالم صاحب المذهب أبو عبد الله الشافعي المكي؛ ولد سنة خمسين ومائة بغزة، وروى عن مسلم بن خالد الزنجي فقيه مكة وداود ابن عبد الرحمن العطار وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون ومالك بن أنس صاحب المذهب وعرض عليه الموطأ، وخلق سواهم. وروى عنه أبو بكر الحميدي وأبو عبيد القاسم بن سلام وأحمد بن حنبل وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبي وغيرهم.
وتفقه بمالك ومحمد بن الحسن صاحب أبي حنيفة وغيرهما، وبرع في الفقه والحديث والأدب والرمي. وقال محمد بن إسماعيل السلمي حدثني حسين الكرابيسي قال:
بت مع الشافعي غير ليلة وكان يصلّى نحو ثلث الليل فما رأيته يزيد على خمسين آية، فإذا أكثر فمائة، وكان لا يمر بآية رحمة إلا سأل الله، ولا يمر بآية عذاب إلا تعوذ منها. وقال إبراهيم بن محمد بن الحسن الأصبهاني حدثنا الربيع قال: كان الشافعي يختم القرآن ستين مرة في رمضان. وقال الميموني: سمعت أحمد بن حنبل يقول: ستة أدعو لهم سحراً أحدهم الشافعي. وقال يونس بن عبد الأعلى: لو جمعت

(2/176)


أمة لوسعهم عقل الشافعي. وقال أبو ثور: ما رأيت مثل الشافعي ولا رأى هو مثل نفسه.
قلت: ومناقب الشافعي رضي الله عنه كثيرة وفضله أشهر من أن يذكر. وكانت وفاته في يوم الخميس سلخ شهر رجب من هذه السنة، ودفن بالقرافة الصغرى، وله أربع وخمسون سنة. وكان موضع دفنه ساحة حتى عمر تلك الأماكن السلطان صلاح الدين يوسف، ثم أنشأ الملك الكامل محمد القبة على ضريحه وهى القبة الكائنة اليوم علي قبره رضى الله عنه. ومن شعره:
يا راكباً قف بالمحصب من منى ... واهتف بقاعد خيفنا والناهض
سحراً إذا فاض الحجيج إلى منى ... فيضاً «1» كملتطم الفرات الفائض
إن كان رفضاً حب آل محمد ... فليشهد الثقلان أني رافضي
قال المبرد: دخل رجل على الشافعي فقال: إن أصحاب أبي حنيفة لفصحاء؛ فأنشأ الشافعى يقول:
فلولا الشعر بالعلماء يزري ... لكنت اليوم أشعر من لبيد
وأشجع في الوغى من كل ليث ... وآل مهلب «2» وأبي يزيد
ولولا خشية الرحمن ربي ... حسبت «3» الناس كلهم عبيدي
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وأربعة عشر إصبعاً، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وخمسة أصابع.

(2/177)


ذكر ولاية محمد «1» بن السري على مصر
هو محمد بن السري بن الحكم بن يوسف الأمير أبو نصر الضبي البلخي، ولي إمرة مصر بعد وفاة أبيه السري بن الحكم في يوم الأحد مستهل جمادى الآخرة سنة خمس ومائتين؛ ولاه المأمون على الصلاة والخراج معا كما كان والده. وسكن المعسكر، وجعل على شرطته محمد بن قابس «2» ثم عزله وولّى أخاه عبيد الله. ولما ولي مصر كان الجروي قد غلب على أسفل أرض مصر وجمع جموعاً وخرج عن الطاعة فتهيأ محمد هذا لقتاله وجهز اليه العساكر المصرية، ثم خرج هو بنفسه لقتاله، ووقع له معه حروب ووقائع؛ وبينما هو في ذلك مرض ولزم الفراش حتى مات ليلة الاثنين لثمان خلون من شعبان سنة ست ومائتين. فكانت ولايته على مصر استقلالاً سنة واحدة وشهرين وثمانية أيام. وتولى مصر من بعده أخوه عبيد الله بن السري، وكان شاباً عاقلاً مدبراً حازماً سيوساً، مهد الديار المصرية في ولايته وأباد أهل الفساد وحارب الجروىّ غير مرة وأحبته الرعية، غير أنه لم تطل أيامه وعاجلته المنيّة.