النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 225]
السنة الثانية من ولاية مالك بن كيدر على مصر وهى سنة خمس وعشرين ومائتين- فيها قبض المعتصم على الأفشين، لعداوته لعبد الله بن طاهر ولأحمد بن أبى داود، فعملا عليه ونقلا عنه أنه يكاتب مازيّار؛ فطلب المعتصم كاتبه «2» وتهدّده بالقتل؛ فاعترف وقال: كتبت اليه بأمره، يقول: لم يبق غيرى وغيرك وغير بابك الخرمىّ، وقد مضى بابك، وجيوش الخليفة عند ابن طاهر، ولم يبق عند الخليفة سواى؛ فإن هزمت ابن طاهر كفيتك أنا المعتصم ويخلص لنا الدين الأبيض (يعنى المجوسيّة) ، وكان الأفشين يتّهم بها؛ فوهب المعتصم للكاتب مالا وأحسن اليه، وقال: إن أخبرت أحدا قتلتك. فروى عن أحمد بن أبى دواد قال:
دخلت على المعتصم وهو يبكى وينتحب ويقلق؛ فقلت: لا أبكى الله عينك! ما بك؟
قال: يا أبا عبد الله رجل أنفقت عليه ألف ألف دينار ووهبت له مثلها يريد قتلى! قد تصدّقت لله بعشرة آلاف ألف درهم، فخذها وفرّقها- وكان الكرخ قد احترق- فقلت:
تفرّق نصف المال فى بناء الكرخ، والباقى فى أهل الحرمين؛ قال: أفعل. وكان الأفشين قد سير أموالا عظيمة الى مدينة أشروسنة، وهمّ بالهرب اليها وأحسّ بالأمر، فهيّأ

(2/242)


دعوة ليسمّ المعتصم وقوّاده، فإن لم يجبه دعا لها أتراك المعتصم: مثل الأمير إيتاخ وأشناس وغيرهما فيسمّهم، ثم يذهب الى إرمينية ويدور الى أشروسنة. فطال بالأفشين الأمر ولم يتهيأ له ذلك، حتى أخبر بعض خواصّه المعتصم بعزمه، فقبض عليه حينئذ المعتصم وحبسه، وكتب الى عدوّه عبد الله بن طاهر بأن يقبض على ولده الحسن بن الأفشين، فوقع له ذلك. وفيها استوزر المعتصم محمد بن عبد الملك بن الزيات. وفيها أيضا أسر مازيّار المذكور وقدم به بين يدى المعتصم. وفيها زلزلت الأهواز وسقط أكثر البلد والجامع وهرب الناس الى ظاهر البلد، ودامت الزلزلة أياما وتصدّعت الجبال منها. وفيها ولى إمرة دمشق دينار بن عبد الله، وعزل بعد أيام بمحمد بن الجهم. وفيها توفى سعدويه، واسمه سعيد بن سليمان، وكنيته أبو عثمان الواسطىّ، الواعظ البزّاز؛ كان يسكن ببغداد، وامتحن بالقرآن فأجاب؛ فقيل له بعد ذلك: ما فعلت؟
قال: كفرنا ورجعنا. وفيها توفى صالح بن إسحاق أبو عمرو النحوى الجرمىّ، لأنه نزل فى قبيلة من جرم؛ وكان اماما فاضلا عارفا بالعربية وأيام الناس وأشعار العرب، وله اختيارات وأقوال. وفيها توفى على بن رزين الإمام أبو الحسن الخراسانىّ التّرمذىّ ويقال الهروىّ، أستاذ أبى عبد الله المغربى، كان صاحب أحوال وكرامات.
وفيها توفى الأمير أبو دلف العجلىّ، واسمه القاسم بن عيسى بن إدريس بن معقل ابن سنان، من ولد عجل أمير الكرج «1» ، كان شجاعا جوادا ممدّحا شاعرا؛ وهو الذي قال فيه علىّ بن جبلة:
إنّما الدنيا أبو دلف ... بين باديه ومحتضره «2»

(2/243)


فإذا ولّى أبو دلف ... ولّت الدنيا على أثره
قيل: إنّ المأمون كان مقطّبا، فدخل عليه أبو دلف؛ فقال له المأمون: يا أبا دلف، أنت الذي قال فيك الشاعر، وذكر البيت المقدّم ذكره؛ فقال أبو دلف: يا أمير المؤمنين، شهادة زور وقول غرور «1» ؛ وأصدق منه قول من قال:
دعينى أجوب الأرض ألتمس الغنى ... فلا الكرج الدنيا ولا الناس قاسم «2»
وقال ثعلب: حدّثنا ابن الأعرابىّ عن الأصمعىّ قال: كنت واقفا بين يدى المأمون إذ دخل عليه أبو دلف؛ فنظر اليه المأمون شزرا، وقال له: أنت الذي يقول فيك علىّ بن جبلة «3» :
له راحة لو أنّ معشار عشرها ... على البرّ كان البرّ أندى من البحر
له همم لا منتهى لكبارها ... وهمّته الصّغرى أجلّ من الدهر
فقال: يا أمير المؤمنين، مكذوب علىّ، لا والذي فى السماء بيته ما أعرف من هذا حرفا؛ فقال المأمون: قد قال فيك أيضا:
ما قال لا قطّ من جود أبو دلف ... إلّا التشهد لكن قوله نعم
فقال: ولا أعرف هذا أيضا يا أمير المؤمنين.
قلت: وأخبار أبى دلف كثيرة وشعره سارت به الركبان.
وفيها توفى منصور بن عمّار بن كثير الشيخ أبو السّرىّ الواعظ الخراسانىّ، وقيل:
البصرىّ، رحل الى العراق، وأوتى الحكم والفصاحة، حتى قيل: إنه لم يقض أحد فى زمانه مثله.

(2/244)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراعان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.
ذكر ولاية علىّ بن يحيى الأولى على مصر
هو على بن يحيى الأمير أبو الحسن الأرمنىّ، ولى إمرة مصر من قبل الأمير أبى جعفر أشناس التركىّ على الصلاة، بعد عزل الأمير مالك بن كيدر عنها، سنة ست وعشرين ومائتين؛ ووصل الى الديار المصرية فى يوم الخميس لسبع خلون من شهر ربيع الآخر من السنة المذكورة، وسكن بالمعسكر على عادة الأمراء؛ وجعل على شرطته معاوية [بن معاوية] «1» بن نعيم، وتمّ أمره، وأخذ فى إصلاح أحوال الديار المصرية وإقماع المفسدين، الى أن ورد عليه الخبر فى شهر ربيع الأوّل من سنة سبع وعشرين ومائتين بموت الخليفة محمد المعتصم وبيعة ابنه هارون الواثق بالخلافة من بعده، وأن الخليفة هارون الواثق أقرّه على عمل مصر على عادته. فأقام على ذلك مدّة، وورد عليه الخبر بعزله عن إمرة مصر، من غير سخط، بعيسى بن منصور، وذلك فى يوم الخميس لسبع خلون من ذى الحجة من سنة ثمان وعشرين ومائتين. فكانت ولاية علىّ بن يحيى هذا على مصر سنتين وثمانية أشهر، وقيل: وثلاثة أشهر، والأوّل الأصحّ. وتوجّه الى العراق وقدم على الخليفة هارون الواثق فأكرمه الواثق؛ وولى الأعمال الجليلة فى أيام الواثق وأيام أخيه المتوكّل جعفر. ثم أعيد الى إمرة مصر ثانيا حسبما يأتى ذكره، وأقام بها مدّة، ثم عزل وعاد الى العراق وعظم عند الخلفاء، وغزا الصائفة غير مرّة، الى أن خرج فى أوّل سنة تسع وأربعين ومائتين هـ الى غزو الروم وتوغّل فى بلاد الروم ثم عاد قافلا من إرمينية الى ميّافارقين، فبلغه مقتل الأمير عمر بن عبد الله الأقطع؛ وكان الأقطع قد خرج مع

(2/245)


جعفر بن دينار الى الصائفة فافتتح حصنا يقال له مطامير؛ فاستأذن الأقطع جعفر بن دينار فى الدخول الى الروم فأذن له، فدخل الأقطع الروم ومعه عسكر كثيف. وكان الروم فى خمسين ألفا، فأحاطوا به وبمن معه، فقتلوه وقتل معه ألف رجل من أعيان المسلمين؛ وكان ذلك فى يوم الجمعة منتصف شهر رجب من السنة. فلما بلغ الأمير علىّ بن يحيى المذكور خبر قتل الأقطع عاد من وقته يطلب الروم، فقاتل حتى قتل حسبما ذكرناه فى ولايته الثانية على مصر. وفى أيّام علىّ بن يحيى هذا على مصر وقّع بينه وبين هارون بن عبد الله الزهرىّ الأصم قاضى قضاة ديار مصر، فعزله وولّى عوضه محمد بن أبى الليث الحارث بن شدّاد الإيادىّ الجهمىّ الخوارزمىّ؛ فبقى محمد المذكور فى القضاء نحوا من عشر سنين، ولم يكن محمود السيرة فى أحكامه، وامتحن الفقهاء بمصر بخلق القرآن، وحكم على عبد الله بن عبد الحكم بودائع كانت للجروىّ «1» عندهم بألف ألف دينار وأربعمائة ألف دينار، فأقاموا شهودا بأن الجروىّ كان قد أبرأهم وأخذ الذي له، فلم يلتفت لذلك وعسفهم وظلمهم وفعل أمثال ذلك كثيرا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 226]
السنة الأولى من ولاية على بن يحيى الأولى على مصر وهى سنة ستّ وعشرين ومائتين- فيها فى جمادى الأولى أمطر أهل تيماء «2» بردا كالبيض قتل منهم ثلثمائة وسبعين نفسا؛ قاله ابن حبيب الهاشمىّ، ثم قال: ونظروا الى أثر قدم طوله ذراع، ومن الخطوة الى الخطوة نحو خمسة «3» أذرع، وسمعوا صوتا يقول:

(2/246)


ارحم عبادك اعف عن عبادك. وفيها منع المعتصم الأفشين من الطعام والشراب حتى مات، ثم أخرج وصلب فى شعبان. والأفشين اسمه حيدر «1» بن كاوس، وهو من أولاد الأكاسرة، والأفشين لقب لمن ملك مدينة أشروسنة، وقد تقدّم ذكر وروده الى الديار المصرية وقتاله مع القيسيّة واليمانيّة، ثم قتاله بالشرق مع مازيّار وغيره؛ وذكرنا أيضا سبب القبض عليه فى حوادث سنة خمس وعشرين ومائتين، ولا حاجة الى التكرار، لأن ما ذكرناه هناك هو المعتمد والمقصود من التعريف بأحواله. وفيها توفيت عنان جارية الناطفىّ، كانت من مولّدات المدينة «2» ، وكانت جميلة شاعرة فصيحة سريعة الجواب؛ بلغ الرشيد خبرها فاستعرضها؛ فقال مولاها: ما أبيعها إلا بمائة ألف درهم، فردّها الرشيد فتصدّق مولاها الناطفىّ بثلاثين ألف درهم. وبعد موت الناطفىّ بيعت «3» بمائة «4» ألف درهم وخمسين ألف درهم، وماتت بخراسان. وأخبارها وما جرياتها مع أبى نواس وغيره من الشعراء مشهورة.
وفيها توفى مازيّار، واسمه محمد بن قارن، الأمير صاحب طبرستان، كان مباينا لعبد الله ابن طاهر وكان الأفشين كذلك، فكان الأفشين يدسّ اليه ويحمله على خلاف الخليفة المعتصم، ولا زال به حتى خالف وحارب عساكر الخليفة وعبد الله بن طاهر غير مرّة؛ ووقع له أمور وأبلى المسلمين ببلايا وأباد الناس، الى أن ظفر به وأحضر بين يدى الخليفة المعتصم، فأمر به المعتصم فضرب أربعمائة وخمسين سوطا، فمات

(2/247)


من ساعته تحت العقوبة عطشا «1» ، وكان معدودا من الشّجعان (ومازيّار بفتح الميم وبعد الألف زاى مفتوحة وياء مثناة من تحت مشدّدة وبعد الألف راء مهملة) .
وفيها توفى محمد بن الهذيل بن عبد الله بن مكحول، أبو الهذيل العلّاف البصرىّ مولى لعبد القيس؛ كان شيخ المعتزلة، وصنّف الكتب فى مذهبهم، ولد سنة خمس وثلاثين ومائة هـ. وقدم بغداد وناظر العلماء وأبادهم، وكان خبيث اللسان. وفيها توفى يحيى بن يحيى بن بكير «2» بن عبد الرحمن الحافظ أبو زكريا التّميمىّ المنقرى الحنظلىّ النّيسابورىّ الزاهد العابد الورع، كان إمام أهل نيسابور وحافظها فى زمانه؛ وأخرج عنه البخارىّ فى مواضع، واتفقوا على ثقته وصدقه.
الذين ذكر الذهبى وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى إسحاق بن محمد الفروىّ، واسماعيل بن أبى أويس، وجندل بن والق، وسعيد بن كثير بن عفير، وعيّاش «3» بن الوليد الرقّام، وغسّان بن الرّبيع الموصلىّ، ومحمد بن مقاتل المروزىّ، ويحيى بن يحيى التّميمىّ النيسابورىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة أربعة عشر ذراعا وستة أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 227]
السنة الثانية من ولاية على بن يحيى على مصر وهى سنة سبع وعشرين ومائتين هـ- فيها خرج بفلسطين المبرقع أبو حرب اليمانىّ الذي زعم أنّه السفيانىّ، فدعا بالأمر بالمعروف والنهى عن المنكر أوّلا، الى أن قويت شوكته فادّعى النبوّة. وكان

(2/248)


سبب خروجه أن جنديّا أراد النزول فى داره، فمانعته زوجته، فضربها الجندىّ بسوط فأثّر فى ذراعها؛ فلما جاء المبرقع شكت اليه؛ فذهب الى الجندىّ فقتله وهرب، ولبس برقعا لئلا يعرف، ونزل جبال الغور مبرقعا، وحثّ الناس على الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر؛ فاستجاب له قوم من فلّاحى القرى وقوى أمره؛ فسار لحربه رجاء الحضارىّ «1» أحد قوّاد المعتصم فى ألف فارس، وأتاه فوجده فى مائة ألف، فعسكر بإزائه ولم يجسر على لقائه.
فلما كان أوان الزراعة تفرّق أكثر أصحابه فى فلاحتهم وبقى فى نحو الألفين؛ فواقعه عند ذلك رجاء الحضارىّ المذكور وأسره وحبسه حتى مات خنقا فى آخر هذه السنة. وكان المبرقع بطلا شجاعا. وفيها بعث المعتصم على دمشق الأمير أبا المغيث «2» الرافقىّ «3» ، فخرجت عليه طائفة من قيس، لكونه أخذ منهم خمسة عشر نفسا فصلبهم؛ فجّهز اليهم أبو المغيث جيشا، فهزموه وزحفوا على دمشق، فتحصّن بها أبو المغيث ووقع حصار شديد؛ ومات المعتصم والأمر على ذلك، فاستمرّ فى الحصار الى أن كتب الواثق الى رجاء الحضارىّ أن يتوجه الى دمشق مددا لأبى المغيث، فقدم دمشق وحارب القيسيّة حتى هزمهم وقتل منهم ألفا وخمسمائة، وقتل من الأجناد ثلثمائة. وفيها فى تاسع عشر شهر ربيع الأوّل بويع هارون الواثق بالخلافة بعد موت أبيه محمد المعتصم. وفيها توفى بشر بن الحارث بن عبد الرحمن بن عطاء بن هلال بن ماهان ابن عبد الله الزاهد الورع أبو نصر المعروف ببشر الحافى، كان أصله من أبناء الرؤساء بخراسان، فتزهّد وصحب الجنيد؛ ومولده بمرو سنة خمسين ومائة، وسكن بغداد، وتزهّد

(2/249)


حتى فاق أهل عصره؛ وسمع الحديث من مالك بن أنس والفضيل بن عياض وحمّاد ابن زيد وشريك وعبد الله بن المبارك وغيرهم؛ وروى عنه جماعة منهم أحمد الدّورقىّ ومحمد بن يوسف الجوهرىّ وسرىّ السّقطىّ وخلق غيرهم. قال أبو بكر المروزىّ:
سمعت بشرا يقول: الجوع يصفّى الفؤاد ويميت الهوى ويورث العلم الدقيق.
وقال أبو بكر بن عفّان: سمعت بشر [بن الحارث «1» ] يقول: إنى لأشتهى شواء منذ أربعين سنة ما صفالى درهمه. وعن المأمون قال: ما بقى أحد نستحى منه غير بشر بن الحارث. وقال أحمد بن حنبل: لو كان بشر بن الحارث تزوّج لتمّ أمره. وقال إبراهيم الحربىّ: ما أخرجت بغداد أتمّ عقلا من بشر ولا أحفظ للسانه، كأن فى كلّ شعرة منه عقلا. وعن بشر قال: المتقلّب فى جوعه كالمتشحّط فى دمه فى سبيل الله. وعنه قال:
شاطر «2» سخىّ أحبّ الى الله من صوفىّ بخيل. وعنه قال: لا أفلح من ألف أفخاذ النساء. وعنه قال: إذا أعجبك الكلام فاصمت، وإذا أعجبك الصمت فتكلّم. وكانت وفاة بشر فى يوم الأربعاء حادى عشر شهر ربيع الأوّل. وفيها توفّيت فاطمة جارية المعتصم وتدعى بعريب «3» ، كانت فائقة الجمال بارعة فى الغناء والخطّ، اشتراها المعتصم من تركة أخيه المأمون بمائة ألف درهم. وفيها توفى أمير المؤمنين المعتصم [بالله محمد «4» ] ، وكنيته أبو إسحاق ابن الخليفة الرشيد هارون ابن الخليفة المهدىّ محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن علىّ بن عبد الله بن العباس، الهاشمىّ العباسىّ الخليفة الثالث من أولاد هارون الرشيد؛ بويع بالخلافة بعد موت أخيه عبد الله المأمون فى شهر رجب سنة ثمان عشرة ومائتين، ومولده سنة ثمانين ومائة، وأمه أمّ ولد اسمها ماردة، وكان أمّيّا عاريا من كل علم. وعن محمد الهاشمىّ قال: كان مع المعتصم غلام فى الكتّاب

(2/250)


يتعلم معه، فمات الغلام؛ فقال له الرشيد أبوه: يا محمد، مات غلامك! قال: نعم يا سيدى واستراح من الكتّاب؛ فقال: وإن الكتّاب ليبلغ منك هذا! دعوه لا تعلّموه؛ قال: فكان يكتب ويقرأ قراءة ضعيفة. وكان المعتصم مع ذلك فصيحا مهيبا عالى الهمّة شجاعا مقداما، حتى قيل: إنه كان أهيب خلفاء بنى العباس، إلا أنه سار على سيرة أخيه المأمون فى امتحان العلماء بخلق القرآن؛ وكان يدعى الثّمانىّ، لأنه ولد سنة ثمانين ومائة فى شهر رمضان، ورمضان بعد ثمانية أشهر من السنة، وملك لثمان عشرة ليلة من شهر رجب، وهو الثامن من خلفاء بنى العباس، وفتح ثمانية فتوح، وكان عمره ثمانا وأربعين سنة، وخلافته ثمان سنين وثمانية أشهر وثمانية أيام، وخلّف من الولد ثمانية بنين وثمانى بنات، وخلّف من العين ثمانية آلاف ألف دينار ومثلها دراهم، وقيل: ثمانمائة ألف درهم، ومن الخيول ثمانين ألف فرس، ومن الجمال ثمانين ألف جمل وبغل ودابة، وثمانين ألف خيمة، وثمانية آلاف عبد (أعنى مماليك) ، وقيل: ثمانية عشر ألفا، وثمانية آلاف جارية، وعمّر من القصور ثمانية.
وقال نفطويه «1» : وحدّثت أنه كان من أشدّ الناس بطشا (يعنى المعتصم) وأنه جعل يد رجل بين إصبعيه فكسرها اهـ. وكانت وفاته فى يوم الخميس تاسع عشر ربيع الأوّل، وتخلّف من بعده ابنه هارون الواثق.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع واثنان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وتسعة أصابع.

(2/251)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 228]
السنة الثالثة من ولاية على بن يحيى على مصر وهى سنة ثمان وعشرين ومائتين- فيها استخلف الخليفة هارون الواثق على السلطنة أشناس الذي كان أمر مصر اليه يولّى فيها من اختار، وألبسه وشاحين بجوهر. وفيها وقعت قطعة من جبل العقبة، قتل تحتها جماعة من الحاجّ. وفيها توفى عبيد «1» الله بن محمد بن حفص بن عمر بن موسى بن عبد الله بن معمر «2» الحافظ أبو عبد الرحمن التّيمىّ ويعرف بابن عائشة، وهو من ولد عائشة بنت طلحة، قدم بغداد وحدّث بها، وكان فاضلا أديبا حسن الخلق ورعا عارفا بأيام الناس؛ وكان مع هذه الفضيلة شديد القوّة يمسك يمينه ويساره شاتين الى أن تنسلخا؛ وابن عائشة هو الذي ضربه المأمون فخرج منه ريح، فقال فيه أبو نواس تلك الأبيات المشهورة «3» . وفيها توفى عبد الملك ابن عبد العزيز الحافظ أبو نصر التّمار، كان إماما عالما صدوقا زاهدا، إلا أنه كان ممن أجاب فى المحنة، فنهى الامام أحمد لهذا المعنى [عن] الأخذ عنه. وفيها توفى

(2/252)


محمد بن عبيد «1» الله بن عمرو بن معاوية بن عمرو بن عتبة بن أبى سفيان بن حرب، العتبىّ البصرىّ صاحب النوادر والآداب والأشعار والأخبار والطرائف والملح والتصانيف؛ وذكره ابن قتيبة فى كتاب المعارف، وابن المنجّم فى كتاب البارع «2» . ومن شعره:
رأين» الغوانى الشيب لاح بعارضى ... فأعرضن عنّى بالخدود النواضر
وكنّ اذا أبصرننى أو سمعننى ... خرجن «4» فرقّعن الكوى بالمحاجر
فإن عطفت عنّى أعنّة أعين ... نظرن «5» بأحداق المها والجآذر
فإنّى من قوم كريم «6» ثناؤهم ... لأقدامهم صيغت رءوس المنابر
خلائف فى الإسلام فى الشرك قادة ... بهم واليهم فخر كلّ مفاخر
وأورد له المبرّد فى كتابه الكامل بيتين يرثى بهما بعض أولاده، وهما:
أضحت بخدّى للدّموع رسوم ... أسفا عليك وفى الفؤاد كلوم
والصبر يحمد فى المواطن كلّها ... الّا عليك فإنه مذموم

(2/253)


وفيها توفى محمد بن مصعب أبو جعفر البغدادىّ، كان أحد العبّاد الزّهاد والقرّاء، أثنى عليه الإمام أحمد بن حنبل ووصفه بالسنة. وفيها توفى يحيى بن عبد الحميد بن عبد الرحمن الحافظ الإمام أبو زكريا الكوفىّ، كان أحد الحفّاظ الرحّالين، وكان يحفظ عشرة آلاف حديث يسردها سردا؛ وكانت وفاته بمدينة سامرّا فى شهر رمضان.
وفيها توفى نعيم بن حمّاد بن معاوية بن الحارث بن همّام الخزاعىّ المروزىّ صاحب عبد الله بن المبارك، كان أعلم الناس بالفرائض، وهو من الرحّالة فى طلب الحديث.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن شبّوية «1» المروزى، وأحمد بن محمد بن أيوب صاحب المغازى، وأحمد بن عمران الأخنس، وإسحاق بن بشر الكاهلىّ الكوفىّ، وبشّار بن موسى الخفّاف، وحاجب بن الوليد الأعور، وحمّاد بن مالك الحرستانىّ «2» ، وداود بن عمرو الضّبّىّ، وعبد الله بن سوّار بن عبد الله العنبري القاضى، وعبد الله بن عبد الوهاب الحجبىّ، وعبد الرحمن بن المبارك، وأبو نصر عبد الملك بن عبد العزيز التمار، وعلى بن عثّام «3» الكوفىّ، وأبو الجهم صاحب الخبر «4» ، ومحمد بن جعفر الوركانىّ، ومحمد بن حسّان السّمتىّ «5» ، وأبو يعلى محمد بن الصّلت التّوّزىّ، والعتبىّ الإخبارىّ، ومحمد بن عبد الله، ومحمد بن عمران ابن أبى ليلى، والمثنّى بن معاذ العنبرىّ، ومسدّد، ونعيم بن الهيصم، ويحيى الحمّانىّ.

(2/254)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ذراعان وعشرة أصابع، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وستة أصابع.
ذكر ولاية عيسى بن منصور الثانية على مصر
هو عيسى بن منصور بن موسى بن عيسى الرافقى «1» ، وليها ثانيا بعد عزل على بن يحيى الأرمنىّ، من قبل الأمير أشناس التركىّ المعتصمىّ على الصلاة؛ ودخل الى مصر فى يوم الجمعة لسبع خلون من محرم سنة تسع وعشرين ومائتين؛ وسكن المعسكر على عادة أمراء مصر فى الدولة العباسية؛ وجعل على الشرطة ابنه، ومهّد أمور مصر، ودام بها الى أن توفى الأمير أشناس التركىّ المعتصمىّ عامل مصر من قبل الخليفة- وهو الذي كان اليه أمور مصر يولّى عليها من شاء من الأمراء- فى سنة ثلاثين ومائتين. وولّى الخليفة مكانه على مصر الأمير إيتاخ. وكانت ولاية أشناس على مصر اثنتى عشرة سنة أو نحوها. ولما ولى إيتاخ التركىّ مصر أقرّ عيسى بن منصور هذا على عمله، فاستمرّ عيسى بمصر على إمرتها نيابة عن إيتاخ الى أن مات الخليفة هارون الواثق فى سنة اثنتين وثلاثين ومائتين، وبويع بالخلافة من بعده أخوه المتوكّل على الله جعفر، فأرسل الى عيسى هذا [بأن] يأخذ البيعة له على المصريين. ثم صرفه بعد ذلك فى النصف من شهر ربيع الأوّل من سنة ثلاث وثلاثين ومائتين بالأمير هرثمة؛ وقدم مصر علىّ بن مهرويه خليفة هرثمة على الصلاة. فلم تطل أيام عيسى بن منصور هذا بعد عزله عن إمرة مصر، ومرض ولزم الفراش حتى مات فى قبّة «2» الهواء بمصر فى حادى عشر شهر ربيع الآخر من سنة ثلاث وثلاثين المذكورة. رحمه الله. وكان

(2/255)


أميرا جليلا عارفا عاقلا مدبّرا سيوسا، ولى الأعمال الجليلة، وطالت أيامه فى السعادة.
وهو ممن ولى إمرة مصر أوّلا عن الخليفة، والثانية عن الأمير أشناس التركىّ، فكانت ولايته على مصر أربع سنين وثلاثة أشهر وثمانية عشر يوما.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 229]
السنة الأولى من ولاية عيسى بن منصور الثانية على مصر وهى سنة تسع وعشرين ومائتين- فيها صادر الخليفة الواثق بالله هارون [كتّاب] الدواوين وسجنهم، وضرب أحمد بن إسرائيل ألف سوط وأخذ منه ثمانين ألف دينار، وأخذ من سليمان ابن وهب كاتب الأمير إيتاخ الذي أمر مصر راجع اليه أربعمائة ألف دينار، وأخذ من أحمد بن الخصيب وكاتبه ألف ألف دينار؛ فيقال: إنّ هارون الواثق أخذ من الكتّاب فى هذه النوبة ألفى ألف دينار؛ وكان متولى هذه المصادرات الأمير إسحاق بن يحيى صاحب حرس الواثق. وفيها ولّى الخليفة هارون الواثق الأمير إيتاخ اليمن مضافا الى مصر فبعث اليها إيتاخ نوّابه. وفيها ولّى الواثق محمد بن صالح إمرة المدينة، وولّى محمد بن يزيد الحلبىّ الحنفىّ قضاء الشرقية. وفيها توفى خلف بن هشام بن ثعلبة أبو محمد البزّاز البغدادىّ المقرئ، كان إماما عالما، له قراءة اختارها وقرأ بها، وكان قد قرأ على مسلم صاحب حمزة وسمع مالكا وأبا عوانة وأبا شهاب عبد ربّه الخياط وجماعة؛ وروى عنه أحمد بن حنبل وأبو زرعة وموسى بن هارون وإدريس بن عبد الكريم الحدّاد وجماعة أخر. قال حمدان بن هانئ المقرئ: سمعت خلفا البزاز يقول: أشكل علىّ باب من النحو فأنفقت ثمانين ألف درهم حتى حذقته.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن شبيب الحبطىّ «1» واسماعيل بن عبد الله بن زرارة الرّقّى، وثابت بن موسى العابد، وخالد بن

(2/256)


هيّاج الهروىّ، وخلف بن هشام البزّار، وأبو مكيس «1» الذي زعم أنه سمع من أنس، وأبو نعيم ضرار بن صرد، وعبد العزيز بن عثمان المروزىّ، وعمّار بن نصر، وعمر ابن خالد الحرّانى نزيل مصر، ومحمد بن معاوية النيسابورىّ، ونعيم بن حمّاد الخزاعىّ، ويحيى بن عبدويه صاحب شعبة، ويزيد بن صالح النيسابورىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وتسعة أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 230]
السنة الثانية من ولاية عيسى بن منصور على مصر وهى سنة ثلاثين ومائتين- فيها عاثت الأعراب حول المدينة فسار لحربهم الأمير بغا الكبير فدوّخهم وأسر وقتل فيهم- وكان قد حاربهم حمّاد بن جرير الطبرى القائد فقتل هو وعامّة أصحابه- واستباحوا عسكرهم، وحبس بغا منهم فى القيود بالمدينة نحو ألف نفس، فنقبوا الحبس، فأخبرت بهم امرأة، فأحاط بهم أهل المدينة وحضروهم يومين، ثم برزوا للقتال بكرة الثالث، وكان مقدّمهم عزيزة «2» السّلمىّ فكان يحمل فيهم وهو يرتجز ويقول:
لا بدّ من زحم «3» وإن ضاق الباب ... إنى أنا عزيزة بن قطّاب
للموت خير للفتى من العاب «4»

(2/257)


وكان قد فكّ قيده وصار يقاتل به [يومه «1» ] الى أن قتل وصلب، وقتلت عامّة بنى سليم وقتل جماعة كثيرة من الأعراب. وفيها توفى محمد بن سعد الإمام أبو عبد الله مولى بنى هاشم، وهو كاتب الواقدىّ صاحب الطبقات والسّير وأيام الناس؛ كان إماما فاضلا عالما حسن التصانيف، صنّف كتابا كبيرا فى طبقات الصحابة والتابعين والعلماء الى وقته.
قلت: ونقلنا عنه كثيرا فى الكتاب رحمه الله تعالى. روى عنه خلائق لا تحصى؛ ووثّقه غالب الحفّاظ إلا يحيى بن معين. وفيها توفى محمد بن يزداد «2» بن سويد المروزىّ أحد كتّاب المأمون ووزرائه؛ كان إماما كاتبا فاضلا، مات بسرّمن رأى فى شهر ربيع الأوّل بعد ما لزم داره سنين.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن جميل المروزىّ، وأحمد بن جناب المصّيصىّ، وإبراهيم ابن إسحاق الضّبّىّ، وإسحاق بن إسماعيل الطّالقانى «3» ، وإسماعيل بن عيسى العطّار، وسعيد بن عمرو الأشعثىّ، وسعيد ابن محمد الجرمىّ، وعبد الله بن طاهر الأمير، وعبد العزيز بن يحيى المدنىّ نزيل نيسابور، وعلىّ بن الجعد، وعلى بن محمد الطّنافسىّ، وعون بن سلّام الكوفىّ، ومحمد ابن إسماعيل بن أبى سمينة «4» ، ومحمد بن سعد كاتب الواقدىّ، ومحبوب بن موسى الأنطاكىّ، ومهدىّ بن جعفر الرملىّ «5» .

(2/258)


أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع واثنان وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وتسعة أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 231]
السنة الثالثة من ولاية عيسى بن منصور على مصر وهى سنة إحدى وثلاثين ومائتين- فيها ورد كتاب الخليفة هارون الواثق الى الأعمال بامتحان العلماء بخلق القرآن، وكان قد منع أبوه المعتصم ذلك؛ فامتحن الناس ثانيا بخلق القرآن. ودام هذا البلاء بالناس الى أن مات الواثق وبويع المتوكّل جعفر بالخلافة، فى سنة اثنتين وثلاثين ومائتين؛ فرفع المتوكّل المحنة ونشر السنّة. وفيها كان الفداء فافتكّ هارون الواثق من طاغية الروم أربعة آلاف وستّمائة أسير؛ ولم يقع قبل ذلك فداء بين المسلمين والروم من منذ سبع وثلاثين سنة. فقال ابن أبى دوّاد: من قال من الأسارى: القرآن مخلوق فأطلقوه وأعطوه دينارا، ومن امتنع فدعوه فى الأسر.
قلت: ما أظنّ الجميع إلا أجابوا. وفيها عزم الخليفة هارون الواثق على الحجّ، فأخبر أنّ الطريق قليلة المياه، فثنى عزمه. وفيها ولّى الواثق جعفر بن دينار اليمن، فخرج اليها فى شعبان فى أربعة آلاف، وقيل: فى ستة آلاف فارس. وفيها ولّى الواثق إسحاق بن إبراهيم بن أبى حفصة على اليمامة والبحرين وطريق مكّة مما يلى البصرة.
وفيها رأى الواثق فى المنام أنه فتح سدّ يأجوج ومأجوج فانتبه فزعا، وبعث الى السدّ سلّاما التّرجمان. وفيها توفى أحمد بن حاتم الإمام أبو نصر النحوىّ، كان إماما فاضلا أديبا، صنّف كتبا كثيرة: منها كتاب الشجر والنبات والزرع. وفيها توفى على بن محمد ابن عبد الله بن أبى سيف المدائنىّ الشيخ الإمام أبو الحسن، كان إماما عالما حافظا ثقة، وهو صاحب التاريخ؛ وتاريخه أحسن التواريخ؛ وعنه أخذ الناس تواريخهم.

(2/259)


وفيها توفى محمد بن سلّام بن عبد الله بن سلّام، الإمام أبو عبد الله البصرىّ، مولى قدامة بن مظعون، وهو مصنّف كتاب طبقات الشعراء، وكان من أهل العلم والفضل والأدب.
وفيها توفى محمد بن يحيى بن حمزة قاضى دمشق وابن قاضيها، ولى قضاءها مدّة خلافة المأمون وبعض خلافة المعتصم ثم عزل، وكان إماما عالما متبحّرا فى العلوم.
وفيها توفى مخارق المغنّى المطرب أبو المهنّأ «1» ، كان إمام عصره فى فنّ الغناء، كان الرشيد يجعل بينه وبين مغنّية ستارة الى أن غنّاه مخارق هذا فرفع الستارة وقال له:
يا غلام الى هاهنا، فأقعده معه على السرير وأعطاه ثلاثين ألف درهم؛ وكان فى مجلس الرشيد يوم ذاك ابن جامع المغنّى وغيره.
قلت: ولا تنس إبراهيم الموصلىّ وابنه إسحاق بن إبراهيم فإنّهما كانا فى رتبة لم ينلها غيرهما فى العود والغناء إلّا أنّ مخارقا هذا كان فى طريق آخر فى التأدّى؛ والجميع كان غناؤهم غير الموسيقى الآن. وقد بيّنا ذلك فى غير هذا المحل فى مصنّف لطيف. ثم اتصل مخارق بالمأمون وقدم معه دمشق، وكان مخارق يضرب بجودة غنائه المثل، وكانت وفاته بمدينة سرّ من رأى.
وفيها توفى يوسف بن يحيى الفقيه العالم أبو يعقوب البويطىّ، وبويط: قرية «2» .
قال الشافعىّ رضى الله عنه: ما رأيت أحدا أبرع بحجّة من كتاب الله مثل البويطىّ، والبويطىّ لسانى. ولما مات الشافعىّ تنازع محمد بن عبد الحكم والبويطىّ فى الجلوس

(2/260)


موضع الشافعىّ حتى شهد الحميدىّ «1» على الشافعىّ أنه قال: البويطىّ أحق بمجلسى من غيره، فأجلسوه مكانه. وأخبره الشافعىّ أنّه يمتحن ويموت فى الحديد، فكان كما قال.
وفيها توفى أبو تمّام الطائىّ حبيب بن أوس بن الحارث بن قيس الخوارزمىّ الجاسمىّ «2» الشاعر المشهور حامل لواء الشعراء فى عصره؛ كان أبوه نصرانيّا فأسلم هو، ومدح الخلفاء والأعيان، وسار شعره شرقا وغربا. وهو الذي جمع الحماسة، وكان أسمر طويلا فصيحا حلو الكلام فيه تمتمة يسيرة، ولد سنة تسعين ومائة أو قبلها. ومن شعره ينعت سيفا:
السيف أصدق إنباء من الكتب ... فى حدّه الحدّ بين الجدّ واللعب
بيض الصفائح لا سود الصحائف «3» فى ... متونهنّ جلاء الشكّ والرّيب
ولما مات رثاه الحسن بن وهب بقوله:
فجع القريض بخاتم الشعراء ... وغدير روضتها حبيب الطائى
ماتا معا فتجاورا فى حفرة ... وكذاك كانا قبل فى الأحياء
ورثاه الوزير محمد بن عبد الملك الزيات وزير المعتصم يوم ذاك بقوله:
نبأ أتى من أعظم الأنباء ... لمّا ألّم مقلقل الأحشاء
قالوا حبيب قد ثوى فأجبتهم ... ناشدتكم لا تجعلوه الطائى
وكانت وفاته بالموصل فى جمادى الأولى.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وسنة أصابع، مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وثلاثة أصابع ونصف.

(2/261)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 232]
السنة الرابعة من ولاية عيسى بن منصور على مصر وهى سنة اثنتين وثلاثين ومائتين- فيها كانت وقعة كبيرة بين بغا الكبير وبين بنى نمير، وكانوا قد أفسدوا الحجاز واليمامة «1» بالغارات، وحشدوا فى ثلاثة آلاف راكب، فالتقوا بأصحاب بغا فهزموهم.
وجعل بغا يناشدهم الرجوع الى الطاعة وبات بإزائهم تلك الليلة، ثم أصبحوا فالتقوا فانهزم أصحاب بغا ثانيا، فأيقن بغا بالهلاك. وكان قد بعث مائتى فارس الى جبل لبنى نمير؛ فبينما هو فى الإشراف على التلف إذا بهم قد رجعوا يضربون الكوسات «2» ، فقوى بأس بغابهم وحملوا على بنى نمير فهزموهم وركبوا أقفيتهم قتلا «3» ، وأسروا منهم ثمانمائة رجل؛ فعاد بغا وقدم سامرّا وبين يديه الأسرى. وفيها مات خلق كثير بأرض الحجاز من العطش. وفيها كانت الزلازل كثيرة بأرض الشأم، وسقط بعض الدور بدمشق، ومات جماعة تحت الردم. وفيها ولّى الواثق الأمير محمد بن ابراهيم بن مصعب بلاد فارس. وفيها توفى أمير المؤمنين أبو جعفر هارون الواثق بالله ابن الخليفة المعتصم محمد ابن الخليفة هارون الرشيد ابن الخليفة محمد المهدىّ ابن الخليفة أبى جعفر المنصور عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس الهاشمىّ البغدادىّ العباسىّ؛ بويع بالخلافة بعد موت أبيه محمد المعتصم فى شهر ربيع الأوّل سنة سبع وعشرين ومائتين، وأمّه أمّ ولد رومية تسمّى قراطيس؛ ومات فى يوم الأربعاء لستّ بقين من ذى الحجة من السنة المذكورة؛ فكانت خلافته خمس سنين ونصفا. وتولّى الخلافة من بعده

(2/262)


أخوه المتوكّل على الله جعفر، وكان ملكا مهيبا كريما جليلا أديبا مليح الشعر، إلّا أنّه كان مولعا بالغناء والقينات. قيل: إن جارية غنّته بشعر العرجى وهو:
أظلوم إنّ مصابكم رجلا ... أهدى السلام تحيّة ظلم
فمن الحاضرين من صوّب نصب رجلا، ومنهم من قال: صوابه رجل؛ فقالت الجارية: هكذا لقّننى المازنىّ. فطلب المازنىّ، فلمّا مثل بين يدى الواثق قال:
ممّن الرجل؟ قال: من بنى مازن؛ قال الواثق: أىّ الموازن؟ أمازن تميم، أم مازن قيس، أم مازن ربيعة؟ قال: مازن ربيعة؛ فكلّمه الواثق حينئذ بلغة قومه، فقال: با اسمك؟ - لأنهم يقلبون الميم باء والباء ميما- فكره المازنىّ أن يواجهه بمكر؛ فقال: بكر يا أمير المؤمنين، ففطن لها وأعجبته. وقال له: ما تقول فى هذا البيت؟
قال: الوجه النصب، لأنّ مصابكم مصدر بمعنى إصابتكم؛ فأخذ اليزيدىّ يعارضه؛ قال المازنىّ: هو بمنزلة إنّ ضربك زيدا ظلم، فالرجل مفعول مصابكم، والدليل عليه أنّ الكلام معلّق الى أن تقول: ظلم فيتمّ؛ فأعجب الواثق وأعطاه ألف دينار.
وقال ابن أبى الدنيا: كان الواثق أبيض تعلوه صفرة، حسن اللحية، فى عينيه نكتة [بيضاء «1» ] . وقيل: إنّ الواثق لما احتضر جعل يردّد هذين البيتين وهما:
الموت فيه جميع الخلق مشترك ... لا سوقة منهم يبقى ولا مل؟؟؟
ما ضرّ أهل قليل فى تفاقرهم ... وليس يغنى عن الأملاك ما ملكوا
ثم أمر بالبسط فطويت، وألصق خدّه بالأرض وجعل يقول: يا من لا يزول ملكه، ارحم من زال ملكه! يكرّرها الى أن مات رحمه الله تعالى. وفيها توفى على بن

(2/263)


المغيرة أبو الحسن الأثرم البغدادىّ، الإمام البارع صاحب اللغة والنحو، قدم الشأم ثم رجع الى بغداد وسمع بها من الأصمعىّ وغيره، ومات بها. وفيها توفى محمد بن زياد أبو عبد الله بن الأعرابىّ، كان أحد العلماء باللغة والمشار اليه فيها، وكان يزعم أنّ الأصمعىّ وأبا عبيدة لا يعرفان من اللغة قليلا ولا كثيرا؛ وسأله إمام المحنة أحمد ابن أبى دواد: أتعرف معنى استولى؟ قال: لا ولا تعرفه العرب، لأنها لا تقول:
استولى فلان على شىء حتى يكون له فيه مضادّ ومنازع، فأيّهما غلب استولى عليه؛ والله تعالى لا ضدّ له؛ وأنشد [قول] النابغة:
إلّا لمثلك أو من أنت سابقه ... سبق الجواد إذا استولى على الأمد «1»
وكان مع هذا خصيصا عند المأمون. وسأله مرّة عن أحسن ما قيل فى الشراب؛ فقال: قول القائل:
تريك القذى من دونها وهى دونه ... إذا ذاقها من ذاقها يتمطّق «2»
فقال المأمون: أشعر منه من قال:
وتمشّت فى مفاصلهم ... كتمشّى البرء فى السّقم
يريد الحسن بن هانئ.
قلت: هذا كان فى تلك الأعصار الخالية، وأما لو سمع المأمون بما وقع للمتأخرين فى هذا المعنى وغيره لأضرب عن القولين ومال الى ما سمع. كم ترك الأوّل للآخر!.

(2/264)


وفيها توفى محمد بن عائذ «1» أبو عبد الله الكاتب الدّمشقىّ صاحب المغازى والفتوح والسّير وغيرها، ولد سنة خمسين ومائة هـ، وولى خراج غوطة دمشق للمأمون، وكان عالما ثقة صاحب اطّلاع، مات فى هذه السنة، وقيل: سنة أربع وثلاثين ومائتين هـ.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى إبراهيم بن الحجّاج السّامىّ «2» لا الشامىّ، والحكم بن موسى القنطرىّ الزاهد، وجويرية بن أشرس، وعبد الله بن عون الخرّاز «3» ، وعلىّ بن المغيرة الأثرم اللغوىّ، وعمرو «4» بن محمد الناقد، وعيسى بن سالم الشاشىّ، وهارون الواثق بالله، ويوسف بن عدىّ الكوفىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وستة عشر إصبعا.
ذكر ولاية هرثمة بن نصر على مصر
هو هرثمة بن نصر الجبلىّ: من أهل الجبل، ولى إمرة مصر بعد عزل عيسى ابن منصور عنها فى شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وثلاثين ومائتين هـ، ولّاه الأمير إيتاخ التركىّ على إمرة مصر نيابة عنه على الصلاة. ولما ولى هرثمة هذا أرسل الى مصر علىّ بن مهرويه خليفة له على مصر وعلى صلاتها، فناب علىّ بن مهرويه عنه، حتى قدم هرثمة المذكور الى مصر فى يوم الأربعاء لستّ خلون من شهر رجب من سنة ثلاث وثلاثين ومائتين هـ. وسكن بالمعسكر على العادة؛ وجعل على شرطته

(2/265)


أبا قتيبة. وفى أيّام هرثمة هذا ورد كتاب الخليفة المتوكّل الى مصر بترك الجدال فى القرآن واتباع السنّة وعدم القول بخلق القرآن. ولله الحمد.
وسببه أنّ الواثق كان قد تاب ورجع عن القول بخلق القرآن، فأدركته المنيّة قبل إشاعة «1» ذلك وتولّى المتوكّل الخلافة. قال أبو بكر الخطيب: كان أحمد بن أبى دواد قد استولى على الواثق وحمله على التشدّد فى المحنة، ودعا الناس الى القول بخلق القرآن. وقال عبيد الله بن يحيى: حدّثنا إبراهيم بن أسباط بن السّكن قال: حمل رجل فيمن حمل مكبل بالحديد من بلاده فأدخل؛ فقال ابن أبى دواد: تقول أو أقول؟ قال: هذا أوّل جوركم، أخرجتم الناس من بلادهم، ودعوتموهم الى شىء ما قاله أحد؛ لا! بل أقول؛ قال: قل- والواثق جالس- فقال: أخبرنى عن هذا الرأى الذي دعوتم الناس اليه، أعلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يدع الناس اليه، أم شئ لم يعلمه؟ قال: علمه؛ قال: فكان يسعه ألّا يدعو الناس اليه وأنتم لا يسعكم! فبهتوا. قال: فاستضحك الواثق وقام قابضا على كمّه ودخل بيتا ومدّ رجليه وهو يقول: شىء وسع النّبيّ صلى الله عليه وسلم أن يسكت عنه ولا يسعنا! فأمر أن يعطى الرجل ثلثمائة دينار وأن يردّ الى بلده.
وعن طاهر بن خلف قال: سمعت المهتدى بالله بن الواثق يقول: كان أبى إذا أراد أن يقتل رجلا أحضرنا، فأتى بشيخ مخضوب مقيّد- كلّ هؤلاء يعنون بالشيخ (أحمد بن حنبل) رضى الله عنه- فقال أبى: ائذنوا لابن أبى دواد وأصحابه؛ وأدخل الشيخ فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين؛ فقال: لا سلّم الله عليك؛ فقال الشيخ: بئس ما أدّبك مؤدّبك، قال الله: وَإِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها.

(2/266)


قال الذهبىّ: هذه رواية «1» منكرة، ورواتها مجاهيل، لكن نسوقها بطريق جيّد، قال: فقال ابن أبى دواد: يا أمير المؤمنين، الرجل متكلّم؛ فقال له: كلّمه؛ فقال:
يا شيخ، ما تقول فى القرآن؟ قال: لم تنصفنى ولى السؤال؛ قال: سل يا شيخ؛ قال: ما تقول فى القرآن؟ قال: مخلوق؛ قال: هذا شىء علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر والخلفاء أم شىء لم يعلموه؟ فقال: شىء لم يعلموه؛ فقال:
سبحان الله، شىء لم يعلموه! أعلمته أنت؟ قال: فخجل وقال: أقلنى؛ قال: والمسألة بحالها؟ قال: نعم؛ قال: ما تقول فى القرآن؟ قال: مخلوق؛ قال: شىء علمه رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال ابن أبى دواد: علمه؛ قال الشيخ: علمه ولم يدع الناس اليه؟ قال: نعم؛ قال: فوسعه ذلك؟ قال: نعم؛ قال: أفلا وسعك ما وسعه ووسع الخلفاء بعده! قال: فقام أبى ودخل الخلوة واستلقى وهو يقول: شىء لم يعلمه النّبيّ صلى الله عليه وسلم ولا أبو بكر ولا عمر ولا عثمان ولا علىّ علمته أنت! سبحان الله! علموه ولم يدعوا اليه الناس، أفلا وسعك ما وسعهم! ثم أمر برفع قيود الشيخ وأمر له بأربعمائة دينار وسقط من عينه ابن أبى دواد ولم يمتحن بعدها أحدا.
وقد روى نحوا من هذه الواقعة أحمد بن السّندىّ الحدّاد عن أحمد بن منيع عن صالح بن على الهاشمىّ المنصورىّ عن الخليفة المهتدى بالله رحمه الله، قال صالح:
حضرت وقد جلس للمتظلمين- يعنى المهتدى بالله رحمه الله- فنظرت الى القصص تقرأ عليه من أوّلها الى آخرها فيأمر بالتوقيع عليها ويختمها فيسرّنى ذلك، وجعلت أنظر اليه، ففطن بى ونظر الىّ فغضضت عنه، حتى كان ذلك منه ومنّى مرارا؛ فقال لى: يا صالح، فى نفسك شىء تحبّ أن تقوله؟ قلت: نعم؛ فلما انقضى المجلس أدخلت مجلسه؛ فقال: تقول ماذا فى نفسك أو أقوله لك؟ قلت: يا أمير المؤمنين

(2/267)


ما ترى؛ قال: أقول: إنه قد استحسنت ما رأيت منّا؛ فقلت: أىّ خليفة خليفتنا إن لم يكن يقول: القرآن مخلوق! فورد على قلبى أمر عظيم؛ ثم قلت: يا نفس هل تموتين قبل أجلك! فأطرق المهتدى ثم قال: اسمع منّى، فو الله لتسمعنّ الحقّ؛ فسرى فى ذهنى شىء، فقلت: ومن أولى بقول الحق منك، وأنت خليفة ربّ العالمين وابن عمّ سيد المرسلين! قال: ما زلت أقول: القرآن مخلوق صدرا من أيام الواثق حتى أقدم شيخا من أذنة «1» فأدخل مقيّدا، وهو جميل حسن الشيبة، فرأيت الواثق قد استحيا منه ورقّ له؛ فما زال يدنيه حتى قرب منه وجلس، فقال له: ناظر ابن أبى دواد؛ فقال: يا أمير المؤمنين، إنّه يضعف عن المناظرة؛ فغضب وقال:
أبو عبد الله يضعف عن مناظرتك أنت!. قال: هوّن عليك وأذن لى فى مناظرته؛ فقال: ما دعوناك إلّا لذلك؛ فقال: احفظ علىّ وعليه. فقال: يا أحمد، أخبرنى عن مقالتك هذه، هى مقالة واجبة داخلة فى عقد الدّين فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه ما قلت؟ قال: نعم. قال: أخبرنى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله، هل ستر شيئا مما أمر به؟ قال: لا. قال: فدعا الى مقالتك هذه؟
فسكت. فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين واحدة؛ فقال الواثق: واحدة. فقال الشيخ:
أخبرنى عن الله تعالى حين قال: الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
أكان الله هو الصادق فى إكمال دينه، أم أنت الصادق فى نقصانه حتى تقال مقالتك؟ فسكت؛ فقال الشيخ: ثنتان؛ قال الواثق: نعم. فقال: أخبرنى عن مقالتك هذه، أعلمها رسول الله صلى الله عليه وسلم أم جهلها؟ قال: علمها؛ قال: فدعا الناس إليها؟ فسكت.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين ثلاث؛ قال: نعم. قال: فاتّسع لرسول الله صلى الله عليه وسلم إن علمها أن يمسك عنها ولم يطالب أمّته بها؟ قال: نعم؛ قال: واتّسع لأبى بكر

(2/268)


وعمر وعثمان وعلىّ ذلك؟ قال: نعم؛ فأعرض الشيخ عنه وأقبل على الواثق وقال: يا أمير المؤمنين، قد قدّمت القول أنّ أحمد يصبو «1» ويضعف عن المناظرة؛ يا أمير المؤمنين إن لم يتّسع لك من الإمساك عن هذه المقالة كما زعم هذا أنه اتّسع للنبىّ صلى الله عليه وسلم ولأبى بكر وعمر وعثمان وعلىّ فلا وسّع الله عليك؛ قال الواثق: نعم كذا هو، قطّعوا قيد الشيخ، فلما قطّعوه ضرب الشيخ بيده الى القيد فأخذه؛ فقال الواثق:
لم أخذته؟ قال: إنّى نويت أن أتقدّم إلى من أوصى اليه إذا أنا متّ أن يجعله بينى وبين كفنى حتى أخاصم به هذا الظالم عند الله يوم القيامة، فأقول: يا ربّ لم قيّدنى وروّع أهلى، ثم «2» بكى، فبكى الواثق وبكينا. ثم سأله الواثق أن يجعله فى حلّ وأمر له بصلة؛ فقال: لا حاجة لى بها. قال المهتدى: فرجعت عن هذه المقالة، وأظنّ أنّ الواثق رجع عنها من يومئذ اهـ.
قلت: ولما وقع ذلك كتب للأقطار برفع المحنة والسكوت عن هذه المقالة بالجملة، وهدّد كلّ من قال بها بالقتل.
وكان هرثمة هذا يحبّ السّنّة، فأخذ فى إظهار السنّة والعمل بها، وفرح الناس بذلك وتباشروا بولايته؛ فلم تطل مدّته على إمرة مصر بعد ذلك حتى مرض ومات بها فى يوم الأربعاء لسبع بقين من شهر رجب سنة أربع وثلاثين ومائتين؛ واستخلف ابنه حاتم بن هرثمة على صلاة مصر. وكانت ولاية هرثمة المذكور على مصر سنة واحدة وثلاثة أشهر وثمانية أيام. وهذا ثانى هرثمة ولى إمرة مصر فى الدولة العباسيّة، فالأوّل هرثمة بن أعين، ولّاه الرشيد هارون على مصر سنة ثمان

(2/269)


وسبعين ومائة، والثانى هو هرثمة بن نصر هذا. وكان هرثمة أميرا جليلا عاقلا مدبّرا سيوسا. وتولّى مصر من بعده ابنه حاتم بن هرثمة باستخلافه له، فأقرّه الخليفة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 233]
السنة التى حكم فيها هرثمة بن نصر على مصر وهى سنة ثلاث وثلاثين ومائتين- فيها كانت زلزلة عظيمة بدمشق سقط منها شرفات الجامع الأموىّ وانصدع حائط المحراب وسقطت منارته، وهلك خلق تحت الرّدم، وهرب الناس الى المصلّى باكين متضرّعين الى الله، وبقيت ثلاث ساعات ثم سكنت.
وقال القاضى أحمد بن كامل فى تاريخه: رأى بعض أهل دير مرّان «1» دمشق تنخفض وترتفع مرارا، فمات تحت الرّذم معظم أهلها- هكذا قال ولم يقل بعض أهلها- ثم قال: وكانت الحيطان تنفصل حجارتها من بعضها مع كون الحائط عرض سبعة أذرع، ثم امتدّت هذه الزّلزلة الى أنطاكية فهدمتها، ثم الى الجزيرة فأخربتها، ثم الى الموصل. يقال: إنّ الموصل هلك من أهله خمسون ألفا، ومن أهل أنطاكية عشرون ألفا.
وفيها أصاب القاضى أحمد بن أبى دواد فالج عظيم وبطلت حركته حتى صار كالحجر الملقى. وأحمد هذا هو القائل بخلق القرآن، يأتى ذكره عند وفاته فى هذا الكتاب فى محلّه إن شاء الله تعالى.
وفيها فى شهر رمضان ولّى الخليفة المتوكّل على الله ابنه محمدا المنتصر الحرمين والطائف.

(2/270)


وفيها عزل المتوكل الفضل بن مروان عن ديوان الخراج وولّاه الفتح بن خاقان. وفيها غضب المتوكّل على عمر بن الفرج وصادره.
وفيها قدم يحيى بن هرثمة بن أعين- وكان ولى طريق مكّة- بالشّريف علىّ بن محمد بن علىّ الرّضى العلوىّ من المدينة، وكان قد بلغ المتوكّل عنه شىء.
وفيها توفى بهلول بن صالح أبو الحسن التّجيبىّ، كان إماما حافظا، قدم بغداد وحدّث بها، ومن رواياته عن ابن عباس رسالة زياد بن أنعم.
وفيها توفّى محمد بن سماعة بن عبيد «1» الله بن هلال بن وكيع بن بشر أبو عبد الله القاضى الحنفىّ التّيمى، ولد سنة ثلاثين ومائة، وكان إماما عالما صالحا بارعا صاحب اختيارات وأقوال فى المذهب، وله المصنّفات «2» الحسان، وهو من الحفّاظ الثّقات؛ ولى القضاء وحمدت سيرته، ولم يزل به الى أن ضعف نظره واستعفى، وكان يصلّى كل يوم مائتى ركعة. قال: مكثت أربعين سنة لم تفتنى التكبيرة الأولى فى جماعة إلا يوما واحدا ماتت فيه أمّى فقاتتنى صلاة واحدة، وصلّيت خمسا «3» وعشرين صلاة رحمه الله تعالى.
وفيها توفّى محمد بن عبد الملك بن أبان بن أبى حمزة «4» الزيّات الوزير أبو يعقوب وقيل: أبو جعفر أصله من جيل «5» (قرية تحت بغداد) . قلت: ومنها كان أصل الشيخ عبد القادر الكيلانى. وكان أبو محمد هذا تاجرا وانتمى هو للحسن بن سهل

(2/271)


فنوّه بذكره؛ حتى اتصل بعده بالمعتصم، ثم استوزره الواثق. وكان أديبا فاضلا شاعرا عارفا بالنّحو واللغة جوادا ممدّحا، ومن شعره على ما قيل قوله:
فإن سرت بالجثمان عنكم فإنّنى ... أخّلف قلبى عندكم وأسير
فكونوا عليه مشفقين فإنّه ... رهين لديكم فى الهوى وأسير
قلت: وما أحسن قول القاضى ناصح الدّين الأرّجانىّ فى هذا المعنى:
لم يبكنى إلا حديث فراقهم ... لمّا أسرّ به إلىّ مودّعى
هو ذلك الدرّ الذي أودعتم ... فى مسمعى أجريته من مدمعى
قلت: وهذا مثل قول الزمخشرىّ فى قوله لمّا رثى شيخه أبا مضر- والله أعلم من السابق لهذا المعنى لأنهما كانا متعاصرين-:
وقائلة ما هذه الدّرر التى ... تساقط من عينيك سمطين سمطين
فقلت لها الدّرّ الذي كان قد حشا ... أبو مضر أذنى تساقط من عينى
وفيها توفى الإمام الحافظ الحجة يحيى بن معين بن عون بن زياد بن بسطام- وقيل: غياث بدل عون- أبو زكريا المرّىّ (مرّة بن غطفان مولاهم) البغدادىّ الحافظ المشهور، كان إمام عصره فى الجرح والتّعديل وإليه المرجع فى ذلك، وكان يتفقّه بمذهب الإمام أبى حنيفة.
قال الإمام محمد بن إسماعيل البخارىّ: ما استصغرت نفسى إلّا عند يحيى بن معين. ومولده فى سنة ثمان وخمسين ومائة، فهو أسنّ من علىّ بن المدينىّ، وأحمد بن حنبل، وأبى بكر بن أبى شيبة، وإسحاق بن راهويه، وكانوا يتأدّبون معه ويعرفون له فضله، وروى عنه خلائق لا تحصى كثرة.

(2/272)


قال أبو حاتم: يحيى بن معين إمام. وقال النّسائىّ: هو أبو زكريا الثقة المأمون أحد الأئمة فى الحديث. وقال علىّ بن المدينىّ: لا نعلم أحدا من لدن آدم كتب من الحديث ما كتب يحيى بن معين. وعن يحيى بن معين قال: كتبت «1» بيدى ألف ألف حديث.
وقال علىّ بن المدينىّ: انتهى علم الناس الى يحيى بن معين. وقال القواريرىّ: قال لى يحيى القطّان: ما قدم علينا أحد مثل هذين الرجلين: مثل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وقال أحمد بن حنبل: كان يحيى بن معين أعلمنا بالرجال. وعن أبى سعيد الحدّاد قال: الناس عيال فى الحديث على يحيى بن معين. وقال محمد بن هارون الفلّاس: اذا رأيت الرجل ينتقص يحيى بن معين فاعرف أنّه كذّاب.
وكانت وفاة يحيى بن معين لسبع بقين من ذى القعدة بالمدينة، ودفن بالبقيع.
قال الذّهبىّ: وقال حبيش بن المبشّر وهو ثقة: رأيت يحيى بن معين فى النوم فقلت له: ما فعل الله بك؟ قال: أعطانى وحبانى «2» وزوّجنى ثلثمائة حوراء، ومهّد لى بين البابين.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن عبد الله ابن أبى شعيب الحرّانى، وابراهيم بن الحجّاج السّامى، واسحاق بن سعيد بن الأركون الدّمشقى، وحبّان بن موسى المروزىّ، وسليمان بن عبد الرحمن بن بنت شرحبيل، وداهر بن نوح الأهوازىّ، وروح بن صلاح المصرىّ، وسهل بن عثمان العسكرىّ، وعبد الجبّار بن عاصم النّسائى، وعقبة بن مكرم الضّبّى، ومحمد بن سماعة القاضى،

(2/273)


ومحمد بن عائذ الكاتب، والوزير محمد بن عبد الملك بن الزيات، ويحيى بن أيّوب المقابرى، ويحيى بن معين، ويزيد بن موهب الرّملىّ «1» .
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وأربعة عشر إصبعا، مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.
ذكر ولاية حاتم بن هرثمة على مصر
هو حاتم بن هرثمة بن نصر «2» الجيلىّ أمير مصر، وليها باستخلاف أبيه له بعد موته فى الثالث والعشرين من شهر رجب سنة أربع وثلاثين ومائتين على الصلاة؛ وأرسل كاتب الأمير إيتاخ التركىّ المعتصمىّ الذي إليه أمر مصر فى ولايته عليها مكان أبيه. وسكن المعسكر على عادة أمراء مصر. وجعل على شرطته محمد بن سويد.
وأخذ فى إصلاح أحوال الديار المصرية؛ وبينما هو فى ذلك ورد عليه كتاب الأمير إيتاخ بصرفه عن إمرة مصر وتولية علىّ بن يحيى الأرمنىّ ثانيا على مصر، وكان ذلك فى يوم الجمعة لست خلون من شهر رمضان سنة أربع وثلاثين ومائتين المذكورة. فكانت ولاية حاتم هذا على مصر من يوم مات أبوه شهرا واحدا وثلاثة عشر يوما. وكان حاتم هذا جليلا نبيلا، وعنده معرفة وحسن تدبير، إلا أنه لم يحسن أمره مع إيتاخ، لطمع كان فى إيتاخ التركىّ الذي كان اليه أمر مصر بعد أشناس، وكلاهما كان تركيّا. ولم أقف على وفاة حاتم بن هرثمة هذا اهـ.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 234]
السنة التى حكم فى أوّلها الى رجب هرثمة بن نصر، ومن رجب الى شهر رمضان ابنه حاتم بن هرثمة، ومن رمضان الى آخرها علىّ بن يحيى الأرمنىّ، وهى

(2/274)


سنة أربع وثلاثين ومائتين فيها هبّت ريح بالعراق شديدة السّموم لم يعهد مثلها، أحرقت زرع الكوفة والبصرة وبغداد وقتلت المسافرين، ودامت خمسين يوما، ثم اتّصلت بهمذان فأحرقت أيضا الزرع والمواشى، ثم اتّصلت بالموصل وسنجار «1» ، ومنعت الناس من المعاش فى الأسواق ومن المشى فى الطريق، وأهلكت خلقا.
وفيها حجّ بالناس من العراق الأمير محمد بن داود بن عيسى العباسىّ، وكان له عدّة سنين يحجّ بالناس.
وفيها أظهر الخليفة المتوكّل على الله جعفر السّنّة بمجلسه وتحدّث بها ونهى عن القول بخلق القرآن، وكتب بذلك الى الآفاق، حسبما ذكرناه فى ترجمة هرثمة هذا، واستقدم العلماء وأجزل عطاياهم. ولهذا المعنى قال بعضهم: الخلفاء ثلاثة:
أبو بكر الصدّيق رضى الله عنه يوم الرّدّة، وعمر بن عبد العزيز رضى الله عنه فى ردّ مظالم بنى أميّة، والمتوكّل فى إظهار السنّة.
وفيها خرج عن الطاعة محمد [بن البعيث «2» ] أمير إرمينية وأذربيجان وتحصّن بقلعة مرند «3» ؛ فسار لقتاله بغا الشّرابىّ فى أربعة آلاف، فنازله وطال الحصار بينهم، وقتل طائفة كبيرة من عسكر بغا، ودام ذلك بينهم الى أن نزل محمد بالأمان، وقيل:
بل تدلّى ليهرب فأسروه.
وفيها فوّض الخليفة المتوكل لإيتاخ متولّى إمرة مصر الكوفة والحجاز وتهامة ومكّة والمدينة مضافا على مصر، ودعى له على المنابر. وحجّ إيتاخ من سنته وقد تغيّر خاطر المتوكّل عليه. فلما عاد من الحجّ كتب المتوكّل إلى إسحاق بن إبراهيم

(2/275)


ابن مصعب بالقبض عليه فى الباطن إن أمكنه؛ فتحايل عليه إسحاق حتى قبض عليه وقيّده بالحديد وقتله عطشا، وكتب محضرا أنه مات حتف أنفه. وكان أصل إيتاخ هذا مملوكا من الخزر «1» طبّاخا لسلّام الأبرش؛ فاشتراه المعتصم، فرأى له رجلة «2» وبأسا فقرّبه ورفعه؛ ثم ولّاه الواثق بعد ذلك الأعمال الجليلة. وكان من أراد المعتصم والواثق والمتوكّل قتله سلّمه اليه، فقتل إيتاخ هذا مثل عجيف والعبّاس بن المأمون وابن الزيّات الوزير وغيرهم.
وفيها توفّى زهير بن حرب بن شدّاد أبو خيثمة النّسائىّ، كان عالما ورعا فاضلا، رحل [إلى] البلاد وسمع الكثير وحدّث، وروى عنه جماعة، وكان من أئمة الحديث.
وفيها توفّى سليمان بن داود بن بشر بن زياد الحافظ أبو أيّوب البصرىّ المنقرىّ المعروف بالشّاذكونىّ «3» ، رحل [إلى] البلاد وسمع الكثير وحدّث وروى عن خلائق، وروى عنه جمع كبير، وهو أحد الأئمة الحفّاظ الرحّالين.
وفيها توفى سليمان بن عبد الله بن سليمان بن علىّ بن عبد الله بن العباس الأمير أبو أيوب الهاشمىّ العباسىّ، أحد أعيان بنى العباس وأحد من ولى الأعمال الجليلة مثل المدينة والبصرة واليمن وغيرها.
وفيها توفّى علىّ بن عبد الله بن جعفر بن يحيى بن بكر بن سعيد، وقيل: جعفر بن نجيح بن بكر، الإمام الحافظ الناقد الحجّة أبو الحسن السّعدى مولاهم البصرىّ الدّارىّ

(2/276)


المعروف بابن المدينىّ، كان إمام عصره فى الجرح والتعديل والعلل، وكان أبوه محدّثا مشهورا. ومولد علىّ هذا فى سنة إحدى وستين ومائة، وهو أحد الأعلام وصاحب التصانيف؛ وسمع أباه وحمّاد بن زيد وابن عيينة والدّراوردىّ ويحيى القطّان وعبد الرحمن بن مهدىّ وابن عليّة وعبد الرزّاق وخلقا سواهم، وروى عنه البخارىّ وأبو داود والنّسائىّ وابن ماجه والتّرمذى عن رجل عنه وأحمد بن حنبل ومحمد بن يحيى الذّهلىّ وخلق سواهم. وعن ابن عيينة قال: يلوموننى على حبّ علىّ بن المدينى، والله إنى لأتعلّم منه أكثر مما يتعلّم منّى. وعن ابن عيينة قال: لولا علىّ بن المدينىّ ما جلست.
وقال النّسائىّ: كأن الله خلق علىّ بن المدينى لهذا الشأن. وقال السّرّاج:
سمعت محمد بن يونس [يقول] سمعت ابن المدينىّ يقول: تركت من حديثى مائة ألف حديث، منها ثلاثون ألفا لعبّاد بن صهيب. وقال السّرّاج: قلت للبخارىّ:
ما تشتهى؟ قال: أن أقدم العراق وعلىّ بن المدينىّ حىّ فأجالسه. قال البخارىّ:
مات علىّ بن عبد الله (يعنى ابن المدينى) ليومين بقيا من ذى القعدة بالمدينة سنة أربع وثلاثين ومائتين. وقال الحارث وغير واحد: مات بسامرّاء فى ذى القعدة. وقال الإمام أبو زكريا النووىّ: لابن المدينىّ فى الحديث نحو مائتى مصنّف. وفيها توفّى يحيى بن أيوب البغدادىّ العابد الصالح، ويعرف بالمقابرئ لانه كان يتعبّد بالمقابر، وكان له أحوال وكرامات.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن حرب النّيسابورىّ الزاهد، وروح بن عبد المؤمن القارئ، وأبو خيثمة زهير بن حرب، وسليمان بن داود الشّاذكونىّ، وأبو الرّبيع سليمان بن داود الزّهرانىّ، وعبد الله بن

(2/277)


عمر بن الرمّاح قاضى نيسابور، وأبو جعفر عبد الله بن محمد [النّفيلىّ «1» ] ، وعلىّ بن بحر القطّان، وعلىّ بن المدينىّ، ومحمد بن عبد الله بن نمير، ومحمد بن أبى بكر المقدّمىّ، والمعافى بن سليمان الرّسعنىّ «2» ، ويحيى بن يحيى اللّيثىّ الفقيه.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا واثنان وعشرون إصبعا.
ذكر ولاية علىّ بن يحيى الثانية على مصر
قد تقدّم الكلام على ولاية علىّ بن يحيى هذا أوّلا على مصر، ثم وليها ثانيا فى هذه المرّة بعد عزل حاتم بن هرثمة بن نصر عنها، من قبل الأمير إيتاخ المعتصمىّ على الصلاة فى يوم سادس شهر رمضان سنة أربع وثلاثين ومائتين هـ. فسكن علىّ ابن يحيى بالمعسكر على عادة الأمراء، وجعل على شرطته معاوية بن نعيم. واستمرّ علىّ هذا على إمرة مصر الى أن قبض الخليفة المتوكل على الله جعفر على إيتاخ المذكور فى المحرم سنة خمس وثلاثين ومائتين هـ، وقدم الخبر على الأمير علىّ هذا بالقبض على إيتاخ والحوطة على ماله بمصر، فاستصفيت أمواله وترك الدعاء له على منابرها بعد الخليفة؛ وأنّ المتوكّل ولّى ابنه وولىّ عهده محمّدا المنتصر مصر وأعمالها كما كان لإيتاخ المذكور؛ فدعى عند ذلك للمنتصر على منابر مصر. فكان حكم إيتاخ على الديار المصرية أربع سنين. ولما ولى المنتصر إمرة مصر أقرّ علىّ بن يحيى هذا على عمل

(2/278)


مصر على عادته؛ فاستمرّ عليها الى أن صرفه المنتصر عنها بإسحاق بن يحيى بن معاذ فى ذى الحجّة سنة خمس وثلاثين ومائتين. فكانت ولايته على مصر فى هذه المرّة الثانية سنة واحدة وثلاثة أشهر تنقص أيّاما. وخرج من مصر وتوجّه الى العراق وقدم على الخليفة المتوكّل على الله جعفر وصار عنده من كبار قوّاده؛ وجهّزه فى سنة تسع وثلاثين ومائتين الى غزو الروم، فتوجّه بجيوشه الى بلاد الروم فأوغل فيها، فيقال: إنّه شارف القسطنطينيّة، فأغار على الروم وقتل وسبى، حتى قيل: إنه أحرق ألف قرية وقتل عشرة آلاف علج، وسبى عشرة آلاف رأس، وعاد الى بغداد سالما غانما؛ فزادت رتبته عند المتوكّل أضعاف ما كانت. ثم غزا غزوة أخرى فى سنة تسع وأربعين ومائتين، وتوغّل فى بلاد الروم، ثم عاد قافلا من إرمينية الى ميّافارقين، فبلغه مقتل الأمير عمر بن عبد الله الأقطع بمرج الأسقف؛ وكان الروم فى خمسين ألفا فأحاطوا به- أعنى عمر بن عبد الله الأقطع- ومن معه فقتلوه وقتل عليه «1» ألف رجل من أعيان المسلمين؛ وكان ذلك فى يوم الجمعة منتصف شهر رجب سنة تسع وأربعين ومائتين المذكورة. فلمّا بلغ الأمير علىّ بن يحيى هذا عاد يطلب الروم بدم عمر بن عبد الله المذكور، حتى لقبهم وقاتلهم قتالا شديدا، حتى قتل وقتل معه أيضا من أصحابه أربعمائة رجل من أبطال المسلمين. رحمهم الله تعالى.
وكان علىّ بن يحيى هذا أميرا شجاعا مقداما جوادا ممدّحا عارفا بالحروب والوقائع مدبّرا سيوسا محمود السيرة فى ولايته، وأصله من الأزمن؛ وقد حكينا طرفا من هذه الغزوة فى ولايته الأولى؛ والصواب أنّ ذلك كان فى هذه المرّة، وأنّ تلك الغزوة كانت غير هذه الغزوة التى قتل فيها. رحمه الله تعالى وتقبّل منه.

(2/279)