النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 235]
السنة التى حكم فيها علىّ بن يحيى الأرمنىّ فى ولايته الثانية على مصر
وهى سنة خمس وثلاثين ومائتين- فيها ألزم الخليفة المتوكّل على الله
النصارى بلبس العسلىّ.
وفيها ظهر رجل بسامرّاء يقال له محمود بن الفرج النّيسابورىّ، وزعم أنه
ذو القرنين، وكان معه رجل شيخ يشهد أنّه نبىّ يوحى إليه، وكان معه كتاب
كالمصحف، فقبض عليهما وعوقب محمود المذكور حتى مات تحت العقوبة، وتفرّق
عنه أصحابه.
وفيها عقد المتوكّل لبنيه الثلاثة وقسم الدنيا بينهم، وكتب بذلك كتابا،
كما فعل جدّه هارون الرشيد مع أولاده؛ فأعطى المتوكّل ابنه الأكبر
محمّدا المنتصر من عريش مصر الى إفريقيّة المغرب كلّه الى حيث بلغ
سلطانه، وأضاف اليه جند قنّسرين والعواصم والثغور الشاميّة والجزيرة
وديار بكر وربيعة والموصل والفرات وهيت وعانة والخابور ودجلة والحرمين
واليمن واليمامة وحضر موت والبحرين والسّند وكرمان وكور الأهواز وما
سبذان ومهرجان وشهرزور وقمّ وقاشان وقزوين والجبال؛ وأعطى ابنه المعتزّ
بالله- واسمه الزبير وقيل محمد- خراسان وطبرستان وما وراء النهر والشرق
كلّه؛ وأعطى ابنه المؤيّد بالله إبراهيم إرمينية وأذربيجان وجند دمشق
والأردنّ وفلسطين.
وفيها توفى إسحاق بن إبراهيم بن ميمون، أبو محمد التّميمىّ، ويعرف
والده بالموصلىّ النديم، وقد تقدّم ذكره فى ولاية الرشيد هارون. وولد
إسحاق هذا سنة خمسين ومائة، وكان إماما عالما فاضلا أديبا أخباريا؛
وكان بارعا فى ضرب العود وصنعة الغناء، فغلب عليه ذلك حتى عرف بإسحاق
المغنّى، ونال بذلك عند الخلفاء من الرتبة ما لم ينله غيره، وهو مصنّف
كتاب الأغانى «1» .
(2/280)
قال الذهبىّ: أبو محمد التميمىّ الموصلىّ
النديم صاحب الغناء كان اليه المنتهى فى معرفة الموسيقى. قلت: لم يكن
فى أيّام إسحاق الموسيقىّ ولا بعده بمدّة سنين مثله. اهـ. قال: وكان له
أدب وافر وشعر رائق جزل، وكان عالما بالأخبار وأيّام الناس وغير ذلك من
الفقه والحديث والأدب وفنون العلم. قال: وسمع من مالك وهشيم وسفيان بن
عيينة والأصمعىّ وجماعة. اهـ.
وعن إسحاق قال: بقيت دهرا من عمرى أغلّس «1» كلّ يوم الى هشيم أو غيره
من المحدّثين، ثم أصير الى الكسائىّ أو الفرّاء أو ابن غزالة فأقرأ
عليه جزءا من القرآن، ثم أصير الى منصور المعروف بزلزل المغنّى
فيضاربنى طريقين فى العود أو ثلاثة، ثم آتى عاتكة بنت شهدة فآخذ منها
صوتا أو صوتين، ثم آتى الأصمعىّ وأبا عبيدة فأنشدهما [وأستفيد منهما
«2» ] ، فإذا كان العشاء رحت الى أمير المؤمنين الرشيد. ومن شعره:
هل إلى أن تنام عينى سبيل ... إنّ عهدى بالنّوم عهد طويل
وكان إسحاق يكره أن ينسب الى الغناء. وقال المأمون: لولا شهرته بالغناء
لولّيته القضاء. وفيها توفى سريج- بسين مهملة وجيم- بن يونس بن إبراهيم
المروزىّ الزاهد العابد جدّ ابن سريج الفقيه الشافعىّ، كان سريج أعجميا
فرأى فى منامه الحقّ جلّ جلاله، فقال له: يا سريج، طلب «3» كن، فقال
سريج: يا خداى سر بسر. وهذا
(2/281)
اللفظ بالعجمىّ معناه أنه قال له: يا سريج،
سل حاجتك؛ فقال: يا رب رأس برأس. وروى سريج عن ابن عيينة، وروى عنه
الإمام أحمد بن حنبل، وأخرج له البخارىّ ومسلم والنّسائىّ. وفيها توفى
الطيّب بن إسماعيل بن إبراهيم الشيخ أبو محمد «1» الدؤلىّ، كان عابدا
زاهدا يقصد الأماكن التى ليس فيها أحد؛ وكان يبيع اللآلئ والجواهر، وهو
أحد القرّاء المشهورين وعباد الله الصالحين، وكان ثقة صدوقا، روى عن
سفيان بن عيينة وغيره، وروى عنه البغوىّ وغيره. وفيها توفى عبد الله بن
محمد بن إبراهيم الحافظ أبو بكر العبسىّ، ويعرف بابن أبى شيبة، كان أحد
كبار الحفّاظ. وهو مصنّف المسند والتفسير والأحكام وغيرها، وقدم بغداد
وحدّث بها.
قال أبو عبيد القاسم بن سلّام: انتهى علم الحديث الى أربعة: أحمد بن
حنبل، وأبى بكر بن أبى شيبة، ويحيى بن معين، وعلىّ بن المدينىّ؛ فأحمد
أفقههم فيه، وأبو بكر أسردهم، ويحيى أجمع له، وابن المدينىّ أعلمهم به.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: فيها توفى أحمد بن عمر
الوكيعىّ، وإبراهيم بن العلاء [زبريق الحمصىّ «2» ] ، وإسحاق الموصلىّ
النديم، وسريج بن يونس العابد، وإسحاق بن إبراهيم بن مصعب أمير بغداد،
وشجاع بن مخلّد، وشيبان بن فرّوخ، وأبو بكر «3» بن أبى شيبة، وعبيد
الله بن عمر القواريرىّ، ومحمد بن عبّاد المكىّ، ومحمد بن حاتم
السّمين، ومعلّى بن مهدىّ الموصلىّ، ومنصور بن أبى مزاحم، وأبو الهذيل
العلّاف شيخ المعتزلة.
(2/282)
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم
أربعة أذرع وثمانية أصابع، مبلغ الزيادة خمسة عشر ذراعا وعشرون إصبعا.
ذكر ولاية إسحاق بن يحيى على مصر
هو إسحاق بن يحيى بن معاذ بن مسلم الختلىّ، أمير مصر، أصله من قرية
ختلان (بلدة عند سمرقند) ، ولى مصر بعد عزل علىّ بن يحيى الأرمنىّ، فى
ذى الحجة سنة خمس وثلاثين ومائتين، ولّاه المنتصر بن المتوكّل على مصر
وجمع له صلاتها وخراجها معا، وقدم الى مصر لإحدى عشرة خلت من ذى الحجّة
من سنة خمس وثلاثين ومائتين المذكورة. وقال صاحب «البغية والاغتباط» :
إنّه وصل الى مصر لإحدى عشرة خلت من ذى القعدة وذكر السنة، فخالف فى
الشهر ووافق فى السنة وغيرها. ولما قدم مصر سكن المعسكر، وجعل على
الشّرطة الهيّاجىّ، وعلى المظالم عيسى بن لهيعة الحضرمىّ. وكان إسحاق
هذا قد ولى إمرة دمشق فى أيام المأمون، ثم فى أيام أخيه المعتصم ثانيا
مدّة طويلة، ثم ولى دمشق ثالثا فى أيام الخليفة هارون الواثق ودام بها
الى أن نقله المنتصر لما ولّاه أبوه المتوكّل إمرة مصر، حسبما تقدّم
ذكره. وكان إسحاق بن يحيى هذا من أجلّ الأمراء، كان جوادا ممدّحا شجاعا
عاقلا مدبرّا سيوسا محبّا للشعر وأهله، وقصده كثير من الشعراء ومدحوه
بغرر من المدائح وأجازهم الجوائز السنيّة. وكان فيه رفق بالرّعيّة وعدل
وإنصاف؛ رفق بالناس فى أيام ولايته بدمشق عند ما ورد كتاب المعتصم
بامتحان الرعيّة بالقول بخلق القرآن؛ وأيضا لمّا ولى مصر ورد عليه بعد
مدّة من ولايته كتاب المنتصر وأبيه الخليفة المتوكّل بإخراج الأشراف
العلويّين من مصر الى العراق فأخرجوا؛ وذلك بعد أن أمر المتوكّل بهدم
قبر الحسين بن علىّ رضى الله عنهما وقبور العلويّين. وكان هذا وقع من
المتوكّل فى سنة ستّ وثلاثين ومائتين وقيل قبلها.
(2/283)
وكان سبب بغضه فى علىّ بن أبى طالب وذرّيته
أمر يطول شرحه وقفت عليه فى تاريخ الإسعردىّ «1» ، محصوله: أنّ
المتوكّل كان له مغنّية تسمى أمّ الفضل، وكان يسامرها قبل الخلافة
وبعدها، وطلبها فى بعض الأيّام فلم يجدها، ودام طلبه لها أيّاما وهو لا
يجدها، ثم بعد أيّام حضرت وفى وجهها أثر شمس؛ فقال لها: أين كنت؟
فقالت: فى الحجّ؛ فقال: ويحك! هذا ليس من أيام الحجّ! فقالت: لم أرد
الحجّ لبيت الله الحرام، وإنّما أردت الحجّ لمشهد علىّ؛ فقال المتوكّل:
وبلغ أمر الشيعة الى أن جعلوا مشهد علىّ مقام الحجّ الذي فرضه الله
تعالى! فنهى الناس عن التوجّه الى المشهد المذكور من غير أن يتعرّض الى
ذكر علىّ رضى الله عنه؛ فثارت الرافضة عليه وكتبوا سبّه على الحيطان،
فحنق من ذلك وأمر بألّا يتوجّه أحد لزيارة قبر من قبور العلويّين؛
فثاروا عليه أيضا، فتزايد غضبه منهم فوقع منه ما وقع. وحكاياته فى ذلك
مشهورة لا يعجبنى ذكرها، إجلالا للإمام علىّ رضى الله عنه. ولما عظم
الأمر أمر بهدم قبر الحسين رضى الله عنه وهدم ما حوله من الدور، وأن
يعمل ذلك كلّه مزارع. فتألم المسلمون لذلك، وكتب أهل بغداد شتم
المتوكّل على الحيطان والمساجد، وهجاه الشعراء دعبل وغيره، فصار كلّما
يقع له ذلك يزيد ويفحش. وكان الأليق بالمتوكّل عدم هذه الفعلة، وبالناس
أيضا ترك المخاصمة؛ لما قيل: يد الخلافة لا تطاولها يد.
وفى هذا المعنى، أعنى فى هدم قبور العلويّين، يقول يعقوب بن السّكّيت
وقيل هى لعلىّ بن أحمد- وقد بقى إلى بعد الثلاثمائة وطال عمره:
(2/284)
تالله إن كانت أميّة قد أتت ... قتل ابن
بنت نبيّها مظلوما
وعدّة أبيات أخر «1» . وقيل: إن ابن السكيت المذكور قتل ظلما من
المتوكّل، فإنّه قال له يوما: أيّما أحبّ إليك: ولداى المؤيد والمعتزّ
أم الحسن والحسين أولاد علىّ؟
فقال ابن السكيت: والله إنّ قنبرا خادم علىّ خير منك ومن ولديك «2» ؛
فقال: سلّوا لسانه من قفاه، ففعلوا فمات من ساعته.
قلت: وفى هذه الحكاية نظر من وجوه عديدة. وقد طال الأمر وخرجنا عن
المقصود، ونرجع الى ما نحن بصدده.
ولما ورد كتاب المنتصر الى إسحاق بن يحيى هذا بإخراج العلويّين من مصر،
أخرجهم إسحاق من غير إفحاش فى أمرهم؛ فصرفه المنتصر بعد ذلك بمدّة
يسيرة عن إمرة مصر، فى ذى القعدة من سنة ستّ وثلاثين ومائتين، بعبد
الواحد بن يحيى.
فكانت ولاية إسحاق على مصر سنة واحدة تنقص عشرين يوما، ومات بعد ذلك
بأشهر قليلة فى أوّل شهر ربيع الآخر من سنة سبع وثلاثين ومائتين بمصر،
ودفن بالقرافة. ولما مات إسحاق رثاه بعض شعراء البصرة فقال من أبيات
كثيرة:
سقى الله ما بين المقطّم والصّفا ... صفا النّيل صوب المزن حيث يصوب
وما بى «3» أن يسقى البلاد وإنّما ... مرادى أن يسقى هناك حبيب
(2/285)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 236]
السنة التى حكم فيها إسحاق بن يحيى على مصر وهى سنة ست وثلاثين
ومائتين- فيها حجّ بالناس المنتصر محمد بن الخليفة المتوكّل على الله.
وحجّت أيضا أمّ المتوكّل، وشيّعها المتوكّل الى أن استقلّت بالمسير ثم
رجع. وأنفقت أمّ المتوكّل أموالا جزيلة فى هذه الحجّة، واسمها شجاع.
وفيها كان ما حكيناه من هدم قبر الحسين وقبور العلويّين وجعلت مزارع،
كما تقدّم ذكره. وفيها أشخص المتوكل القضاة من البلدان لبيعة ولاة
العهد أولاده: المنتصر بالله محمد، ومن بعده المعتزّ بالله محمد، وقيل
الزبير، ومن بعده المؤيد بالله إبراهيم؛ وبعث خواصّه الى الأمصار
ليأخذوا البيعة بذلك. وفيها وثب أهل دمشق على نائب دمشق سالم بن حامد،
فقتلوه يوم الجمعة على باب الخضراء. وكان من العرب «1» ، فلمّا ولّى
أذلّ قوما بدمشق من السّكون والسّكاسك لهم وجاهة ومنعة، فثاروا به
وقتلوه. فندب المتوكّل لإمرة دمشق أفريدون التركىّ وسيّره إليها، وكان
شجاعا فاتكا ظالما؛ فقدم فى سبعة آلاف فارس، وأباح له المتوكّل القتل
بدمشق والنهب ثلاث ساعات. فنزل أفريدون بيت لهيا «2» ، وأراد أن يصبّح
البلد؛ فلما أصبح نظر الى البلد، وطلب الركوب فقدّمت له بغلة فضربته
بالزوج فقتلته، فدفن مكانه، وقبره ببيت لهيا، وردّ الجيش الذين كانوا
معه خائفين.
وبلغ المتوكّل، فصلحت نيّته لأهل دمشق. وفيها توفى إسماعيل بن إبراهيم
بن بسّام «3»
(2/286)
الحافظ أبو إبراهيم التّرجمانى «1» كان
إماما عالما محدّثا صاحب سنة وجماعة، كتب عنه الإمام أحمد بن حنبل
أحاديث، وروى عنه محمد بن سعد وغيره، ووثّقه غير واحد. وفيها توفى
الحسن بن سهل الوزير أبو محمد أخو ذى الرياستين الفضل بن سهل. كانا من
بيت رياسة فى المجوس، فأسلما مع أبيهما فى خلافة الرشيد هارون واتصلوا
بالبرامكة، فانضم سهل ليحيى بن خالد البرمكىّ، فضمّ يحيى الأخوين الى
ولديه:
فضمّ الفضل بن سهل الى جعفر، والحسن بن سهل هذا الى الفضل بن يحيى؛
فضمّ جعفر الفضل بن سهل الى المأمون وهو ولىّ عهد، فكان من أمره ما
كان. ولمّا مات الفضل ولى الحسن هذا مكانه وزيرا؛ ثم لم تزل رتبته فى
ارتفاع، الى أن تزوّج المأمون بابنته بوران بنت الحسن بن سهل، وقد
تقدّم ذلك كلّه فى محلّه. ولم يزل الحسن بن سهل وافر الحرمة إلى أن مات
بسرخس «2» فى ذى القعدة من شرب دواء أفرط به فى إسهاله، وخلّف عليه
ديونا لكثرة إنعامه. وفيها توفى عبد السلام بن صالح ابن سليمان بن أيوب
أبو الصّلت الهروىّ الحافظ الرحّال، رحل فى طلب العلم إلى البلاد، وأخذ
الحديث عن جماعة، وروى عنه غير واحد. قيل: إنه كان فيه تشيّع.
وفيها توفى منصور ابن الخليفة المهدىّ محمد ابن الخليفة أبى جعفر
المنصور بن محمد ابن علىّ بن عبد الله بن العباس الهاشمىّ العباسىّ،
الأمير عمّ الرشيد هارون. وكان منصور هذا ولى إمرة دمشق للأمين بن
الرشيد، وتولّى أيضا عدّة أعمال جليلة.
وكانت لديه فضيلة. وكانت وفاته فى المحرّم من السنة. وفيها توفى نصر بن
زياد ابن نهيك الإمام أبو محمد النّيسابورىّ الفقيه الحنفىّ، سمع
الحديث وتفقّه على محمد ابن الحسن، وولى قضاء نيسابور مدّة وحمدت
سيرته. وكان نزيها عفيفا. رحمه الله.
(2/287)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة،
قال: وفيها توفى إسحاق بن إبراهيم الموصلىّ، «1» وإبراهيم بن أبى
معاوية الضرير، وإبراهيم بن المنذر الخزامىّ، وأبو إبراهيم الترجمانىّ
إسماعيل بن إبراهيم، وأبو معمر القطيعىّ إسماعيل بن إبراهيم، والحسن
ابن سهل وزير المأمون، وخالد بن عمرو السّلفىّ، وصالح بن حاتم بن
وردان، وأبو الصّلت الهروىّ عبد السلام بن صالح، ومصعب بن عبد الله
الزّبيرىّ، ومنصور بن المهدىّ الأمير، ونصر بن زياد قاضى نيسابور،
وهدبة بن خالد.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وخمسة أصابع، مبلغ
الزيادة سبعة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا.
ذكر ولاية عبد الواحد بن يحيى على مصر
هو عبد الواحد بن يحيى بن منصور بن طلحة بن زريق «2» مولى خزاعة، وهو
ابن عمّ طاهر بن الحسين، ولى إمرة مصر على الصلاة والخراج معا من قبل
المنتصر، كما كان أشناس وإيتاخ وغيرهما، بعد عزل إسحاق بن يحيى عنها.
فقدمها عبد الواحد هذا فى الحادى والعشرين من ذى القعدة سنة ستّ
وثلاثين ومائتين، وسكن بالمعسكر على عادة أمراء مصر، وجعل على شرطته
محمد بن سليمان البجلىّ. واستمرّ على ذلك إلى أن ورد عليه كتاب المنتصر
بعزله عن خراج، مصر فعزل فى يوم الثّلاثاء لسبع خلون من صفر سنة سبع
وثلاثين ومائتين، ودام على الصلاة فقط. ثم ورد عليه فى السنة المذكورة
كتاب الخليفة المتوكّل بحلق لحية قاضى قضاة مصر أبى بكر محمد بن أبى
اللّيث وأن يضربه ويطوف به على حمار، ففعل به ما أمر به، وكان ذلك فى
شهر رمضان
(2/288)
من السنة وسجن، وكان القاضى المذكور من
رءوس الجهميّة «1» . وولى القضاء بعده بمصر الحارث بن مسكين بعد تمنّع،
وأمر بإخراج أصحاب أبى حنيفة والشافعى رضى الله عنهما من المسجد، ورفعت
حصرهم، ومنع عامّة المؤذنين من الأذان. وكان الحارث قد أقعد، فكان يحمل
فى محفّة الى الجامع، وكان يركب حمارا متربّعا، ثم ضرب الذين يقرءون
بالألحان، ثم حمله أصحابه [على] النظر فى أمر القاضى المعزول- أعنى ابن
أبى اللّيث المقدّم ذكره- وكانوا قد لعنوه بعد عزله وغسلوا موضع جلوسه
فى المسجد، فصار الحارث بن مسكين يوقف القاضى محمد بن أبى الليث
المذكور ويضربه كلّ يوم عشرين سوطا لكى يؤدّى ما وجب عليه من الأموال،
وبقى على هذا أياما. ودام الحارث بن مسكين هذا قاضيا ثمان سنين حتى عزل
بالقاضى بكّار ابن قتيبة الحنفىّ. واستمرّ الأمير عبد الواحد هذا على
إمرة مصر إلى أن صرفه المنتصر عنها فى سلخ صفر سنة ثمان وثلاثين
ومائتين بالأمير عنبسة بن إسحاق؛ وقدم إلى مصر خليفة عنبسة على صلاة
مصر والشركة على الخراج فى مستهلّ شهر ربيع الأوّل، فكانت ولايته على
مصر سنة واحدة وثلاثة أشهر وسبعة «2» أيام.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 237]
السنة الأولى من ولاية عبد الواحد بن يحيى على مصر وهى سنة سبع وثلاثين
ومائتين- على أنه حكم بمصر من السنة الخالية من ذى القعدة إلى آخرها،
وقد ذكرنا تلك السنة فى ترجمة إسحاق بن يحيى وليس ذلك بشرط فى هذا
الكتاب- أعنى تحرير حكم أمير مصر فى السنة المذكورة- بل جلّ القصد ذكر
حوادث السنة وإضافة ذلك لأمير من أمراء مصر.
(2/289)
وفيها- أعنى سنة سبع وثلاثين ومائتين- وثبت
بطارقة إرمينية على عاملهم يوسف بن محمد فقتلوه «1» . وبلغ المتوكّل
ذلك، فجهّز لحربهم بغا الكبير؛ فتوجّه إليهم وقاتلهم حتى قتل منهم
مقتلة عظيمة، قيل: إنّ القتلى بلغت ثلاثة «2» آلاف، ثم سار بغا الى
مدينة تفليس «3» : وفيها أطلق المتوكّل جميع من كان فى السجن ممّن
امتنع من القول بخلق القرآن فى أيام أبيه، وأمر بإنزال جثّة أحمد بن
نصر الخزاعىّ فدفعت الى أقاربه فدفنت. وفيها ظهرت نار بعسقلان «4»
أحرقت البيوت والبيادر «5» وهرب الناس، ولم تزل تحرق إلى ثلث الليل ثم
كفّت بإذن الله تعالى. وفيها كان بناء قصر «6» العروس بسامرّاء وتكمّل
فى هذه السنة، [فبلغت «7» ] النفقة عليه ثلاثين ألف ألف درهم.
وفيها قدم محمد بن عبد الله بن طاهر الأمير على المتوكّل من خراسان،
فولّاه العراق.
وفيها رضى المتوكّل على يحيى بن أكثم، وولّاه القضاء والمظالم. وفيها
توفّى إسحاق ابن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن [مطر أبو «8» ] يعقوب
التّميمىّ «9» الحنظلىّ الحافظ المعروف بابن راهويه، كان من أهل مرو
وسكن نيسابور، وولد سنة إحدى وستين ومائة، وكان إماما حافظا بارعا،
اجتمع فيه الحديث والفقه والحفظ والدّين والورع، وهو أحد الأئمة
الحفّاظ الرّحالة، ومات فى يوم الخميس نصف شعبان. وفيها توفّى حاتم بن
يوسف وقيل ابن عنوان «10» أبو عبد الرحمن البلخىّ، وكان يعرف بالأصمّ
(2/290)
ونسب الى ذلك، لأنّ امرأة سألته مسألة فخرج
منها صوت ريح من تحتها فخجلت؛ فقال لها: ارفعى صوتك، وأراها من نفسه
أنه أصمّ حتى سكن ما بها، فغلب عليه الأصمّ، وكان ممّن جمع له العلم
والزهد والورع. وفيها توفى حيّان بن بشر الحنفىّ، كان إماما عالما
فقيها محدّثا ثقة، ولى قضاء بغداد وأصبهان، وحمدت سيرته.
وفيها توفى الشيخ أبو عبيد البسرىّ، أصله من قرية بسر من أعمال حوران،
كان صالحا مجاب الدّعوة صاحب كرامات وأحوال، واسمه محمد، وكان صاحب
جهاد وغزو.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى إبراهيم بن
محمد بن عمر الشافعىّ، وحاتم الأصمّ الزاهد، وسعيد بن حفص «1»
النّفيلىّ، والعباس بن الوليد النّرسىّ «2» - قلت: النّرسىّ بفتح النون
وسكون الراء المهملة- وعبد الله بن عامر بن زرارة، وعبد الله بن مطيع،
وعبد الأعلى بن حمّاد النّرسىّ، وعبيد الله بن معاذ العنبرىّ، وأبو
كامل الفضيل بن الحسين الجحدرىّ، ومحمد بن قدامة الجوهرىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم سبعة أذرع سواء، مبلغ الزيادة
خمسة عشر ذراعا وخمسة عشر إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 238]
السنة الثانية من ولاية عبد الواحد بن يحيى على مصر وهى سنة ثمان
وثلاثين ومائتين- فيها حاصر بغا تفليس وبها إسحاق بن إسماعيل مولى بنى
أميّة، فخرج إسحاق للمحاربة فأسر ثم ضربت عنقه، وأحرقت تفليس واحترق
فيها خلق، وفتحت عدّة حصون بنواحى تفليس.
(2/291)
وفيها قصدت الرّوم لعنهم الله ثغر دمياط فى
ثلثمائة مركب، فكبسوا البلد وسبوا ستّمائة امرأة ونهبوا وأحرقوا
وبدّعوا، ثم خرجوا مسرعين فى البحر.
وفيها توفّى بشر بن الوليد بن خالد الإمام أبو بكر الكندى الحنفىّ، كان
من العلماء الأعلام وشيخا من مشايخ الإسلام، كان عالما ديّنا صالحا
عفيفا مهيبا»
، وكان يحيى بن أكثم شكاه إلى الخليفة المأمون؛ فاستقدمه المأمون وقال
له: لم لا تنفّذ أحكام يحيى؟ فقال: سألت عنه أهل بلده فلم يحمدوا
سيرته؛ فصاح المأمون: اخرج اخرج؛ فقال يحيى بن أكثم: قد سمعت كلامه يا
أمير المؤمنين فاعزله؛ فقال:
لا والله لم يراعنى فيك مع علمه بمنزلتك عندى، كيف أعزله!.
وفيها توفّى صفوان بن صالح بن صفوان الثّقفىّ الدّمشقىّ مؤذّن جامع
دمشق، كان إماما محدّثا سمع من سفيان بن عيينة وغيره، وروى عنه الإمام
أحمد بن حنبل وغيره.
وفيها توفّى الأمير عبد الرحمن بن الحكم بن هشام أبو المطرّف الأموىّ
الدّمشقىّ الأصل المغربىّ أمير الأندلس، ولد بطليطلة «2» فى سنة سبع
وسبعين ومائة وأقام على إمرة الأندلس ثنتين وأربعين سنة، ومات فى صفر،
وملك الأندلس من بعده ابنه. وقد تقدّم الكلام على سلفه وكيفيّة خروجه
من دمشق الى المغرب فى أوائل الدّولة العبّاسية.
وفيها توفّى محمد بن المتوكل بن عبد الرحمن العسقلانىّ الحافظ مولى بنى
هاشم، كان فاضلا زاهدا محدّثا، أسند عن الفضيل بن عياض وغيره، ومات
بعسقلان، وكان من الأئمة الحفّاظ الرحّالين.
(2/292)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة،
قال: وفيها توفّى أحمد بن محمد المروزىّ مردويه، وإبراهيم بن أيوب
الحورانىّ الزّاهد، وابراهيم بن هشام الغسّانى، وإسحاق بن ابراهيم بن
زبريق- بكسر الزاى وسكون الموحدة-، وإسحاق بن راهويه، وبشر ابن الحكم
العبدى، وبشر بن الوليد الكندىّ، وزهير بن عبّاد الرّؤاسىّ، وحكيم بن
سيف الرّقىّ، وطالوت بن عبّاد، وعبد الرحمن بن الحكم بن هشام صاحب
الأندلس الأموىّ، وعبد الملك بن حبيب فقيه لأندلس، وعمرو بن زرارة،
ومحمد بن بكّار بن الريّان، ومحمد بن الحسين البرجلانىّ «1» ، ومحمد بن
عبيد بن حساب «2» ، ومحمد بن المتوكّل اللؤلؤىّ المقرئ، ومحمد بن أبى
السّرىّ العسقلانىّ، ويحيى بن سليمان نزيل مصر.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم ثلاثة أذرع وسبعة أصابع، مبلغ
الزيادة ستة عشر ذراعا وستة أصابع.
ذكر ولاية عنبسة بن إسحاق على مصر
هو عنبسة بن إسحاق بن شمر بن عيسى بن عنبسة الأمير أبو حاتم، وقيل: أبو
جابر، وهو من أهل هراة «3» ، ولى إمرة مصر بعد عزل عبد الواحد بن يحيى
عنها، ولّاه المنتصر محمد بن الخليفة المتوكل على الله جعفر، فى صفر
سنة ثمان وثلاثين ومائتين على الصلاة؛ فأرسل عنبسة خليفته على صلاة
مصر، فقدم مصر فى مستهلّ شهر ربيع الأوّل من السنة المذكورة، فخلفه
المذكور على صلاة مصر حتى قدمها فى يوم السبت لخمس خلون من شهر ربيع
الآخر من السنة المذكورة متولّيا على الصلاة وشريكا لأحمد بن خالد
الصّريفينىّ «4» صاحب خراج مصر. وسكن عنبسة المعسكر على عادة
(2/293)
الأمراء، وجعل على شرطته أبا أحمد محمد بن
عبد الله القمّىّ «1» . وكان عنبسة خارجيّا يتظاهر بذلك؛ فقال فيه يحيى
بن الفضل من أبيات:
خارجيّا يدين «2» بالسيف فينا ... ويرى قتلنا جميعا صوابا
ولما ولى عنبسة مصر أمر العمّال بردّ المظالم، وخلّص الحقوق، وأنصف
الناس غاية الإنصاف، وأظهر من الرفق والعدل بالرعيّة والإحسان اليهم ما
لم يسمع بمثله فى زمانه؛ وكان يتوجّه ماشيا الى المسجد الجامع من مسكنه
بالمعسكر بدار الإمارة.
وكان ينادى فى شهر رمضان: السّحور، لانه كان يرمى بمذهب الخوارج، كما
تقدّم ذكره.
وفى أوّل ولايته نزل الروم على دمياط فى يوم عرفة وملكوها وأخذوا ما
فيها وقتلوا منها جمعا كبيرا من المسلمين، وسبوا النساء والأطفال؛ فلما
بلغه ذلك ركب من وقته بجيوش مصر ونفر اليهم يوم النحر سنة ثمان وثلاثين
ومائتين- وقد تقدّم ذلك- فلم يدرك الرّوم، فأصلح شأن دمياط ثم عاد الى
مصر. وكان سبب غفلة عنبسة عن دمياط أنه قدم عليه عيد الأضحى وأراد طهور
ولديه يوم العيد حتى يجمع بين العيد والفرح، واحتفل لذلك احتفالا
كبيرا، حتى بلغ به الأمر أن أرسل الى ثغرى دمياط وتنّيس «3» فأحضر سائر
من كان بهما من الجند والخرجيّة والزرّاقين وغيرهما، وكذلك من كان بثغر
الإسكندرية من المذكورين، فرحلوا إليه بأجمعهم؛ واتفق مع هذا أنه لما
كان صبح يوم عرفة هجم على دمياط ثلثمائة سفينة مشحونة بمقاتلة الروم،
فوجدوا البلد خاليا من الرّجال والمقاتلة ولم يمنعهم عنها مانع، فهجموا
[على] البلد وأكثروا من القتل والسّبى والنّهب. وكان عنبسة غضب على
مقدّم من أهل دمياط يقال له أبو جعفر
(2/294)
ابن الأكشف، فقيّده وحبسه فى بعض الأبرجة؛
فمضى إليه بعض أعوانه وكسروا قيده وأخرجوه، واجتمع اليه جماعة من أهل
البلد، فحارب بهم الروم حتى هزمهم وأخرجهم من دمياط، ونزحوا عن دمياط
مهزومين ومضوا الى أشموم «1» تنّيس فلم يقدروا عليها فعادوا إلى
بلادهم. ودام بعد ذلك عنبسة على مصر إلى أن ورد عليه كتاب المنتصر أن
ينفرد بالخراج والصّلاة معا، وصرف شريكه على الخراج أحمد بن خالد؛ فدام
على ذلك مدّة، ثم صرف عن الخراج فى أوّل جمادى الآخرة من سنة إحدى
وأربعين ومائتين بعد أن عاد من سفرة الصعيد الآتى «2» ذكرها فى آخر
ترجمته، وانفرد بالصلاة. ثم ورد عليه كتاب الخليفة المتوكّل بالدعاء
بمصر للفتح بن خاقان، أعنى أنّ الفتح ولى إمرة مصر مكان المنتصر بن
المتوكّل، وصار أمر مصر إليه يولّى بها من شاء، وذلك فى شهر ربيع
الأوّل من سنة اثنتين وأربعين ومائتين، فدعى له بها على العادة بعد
الخليفة.
وفى أيام عنبسة المذكور كان خروج أهل الصعيد الأعلى من معاملة الديار
المصرية على الطاعة، وامتنعوا من إعطاء ما كان مقرّرا عليهم، وهو فى كل
سنة خمسمائة نفر من العبيد والجوارى مع غير ذلك من البخت «3» البجاويّة
وزرافتين وفيلين وأشياء أخر. فلما كانت سنة أربعين ومائتين تجاهروا
بالعصيان وقطعوا ما كانوا يحملونه، وتعرّضوا لمن كان يعمل فى معادن
الزمرّذ من العمّال والفعلة والحفّارين فاجتاحوا الجميع؛ وبلغ بهم
الأمر حتى اتصلت غاراتهم بأعالى الصعيد
(2/295)
فانتهبوا بعض القرى المتطرّفة مثل إسنا
وأتفو «1» وظواهر هما؛ فأجفل أهل الصعيد عن أوطانهم؛ وكتب عامل الخراج
إلى عنبسة يعلمه بما فعلته البجاة، فلم يمكن عنبسة كتم هذا الخبر عن
الخليفة المتوكّل على الله جعفر؛ فكتب إليه بجميع ما فعلته البجاة؛
فلمّا وقف على ذلك أنكر على ولاة الناحية تفريطهم «2» ؛ ثم شاور
المتوكّل فى أمرهم أرباب الخبرة بمسالك تلك البلاد؛ فعرّفوه أنّ
المذكورين أهل بادية وأصحاب إبل وماشية؛ وأنّ الوصول إلى بلادهم صعب
لأنّها بعيدة عن العمران، وبينها وبين البلاد الإسلاميّة برارىّ موحشة
ومفاوز معطشة وجبال مستوعرة، وأنّ التكلف الى قطع تلك المسافة وهى أقلّ
ما تكون مسيرة شهرين من ديار مصر، ويريد المتوجّه أن يستعدّ بجميع ما
يحتاج إليه من المياه والأزواد والعلوفات، ومتى ما أعوزه شىء من ذلك
هلك جميع من معه من الجند وأخذهم البجاة قبضا باليد. ثم إنّ هؤلاء
الطائفة متى طرقهم طارق من جهة البلاد الإسلامية طلبوا النّجدة ممّن
يجاورهم من طريق النّوبة، وكذلك النوبة طلبوا النجدة من ملوك الحبوش،
وهى ممالك متصلة بشاطئ نهر النيل حتى تنتهى بمن قصده السير الى بلاد
الزّنج، ومنها الى جبل القمر «3» الذي ينبع منه النيل، وهى آخر العمران
من كرة الأرض. وقد ذكر القاضى شهاب الدين بن فضل الله العمرىّ فى كتابه
«مسالك الأبصار فى ممالك الأمصار» : أنّ سكان هذه البلاد المذكورة لا
فرق بينهم وبين الحيوانات الوحشيّة لكونهم حفاة عراة ليس على أحدهم من
الكسوة ما يستره، وجميع ما يتقوّتون به من الفواكه التى تنبت عندهم فى
تلك الجبال، ومن الأسماك التى تكون عندهم فى الغدران التى تجرى على
(2/296)
وجه الأرض من زيادة النيل، ولا يعترف أحد
منهم بزوجة ولا بولد ولا بأخ وأخت؛ بل هم على صفة البهائم ينزو بعضهم
على بعض. فلما وقف المتوكّل على ما ذكره أرباب الخبرة بأحوال تلك
البلاد، فترت عزيمته عما كان قد عزم عليه من تجهيز العساكر. وبلغ ذلك
محمد بن عبد الله القمّىّ وكان من القوّاد الذين يتولّون خفارة الحاج
فى أكثر السنين، فحضر محمد المذكور الى الفتح بن خاقان وزير المتوكّل
وذكر له أنه متى رسم المتوكّل الى عمّال مصر بتجهيزه عبر إلى بلاد
البجاة، وتعدّى منها الى أرض النّوبة ودوّخ سائر تلك الممالك. فلما عرض
الفتح حديثه على المتوكّل أمر بتجهيزه وسائر ما يحتاج إليه، وكتب إلى
عنبسة بن إسحاق هذا، وهو يومئذ عامل مصر، أن يمدّه بالخيل والرجال
والجمال وما يحتاج إليه من الأسلحة والأموال، وأن يولّيه الصعيد الأعلى
يتصرّف فيه كيف شاء. وسار محمد حتى وصل إلى مصر، فعند ما وصلها قام له
عنبسة بسائر ما اقترحه عليه، ونزل له عن عدّة ولايات من أعمال الصعيد،
مثل قفط والقصير وإسنا وأرمنت وأسوان؛ وأخذ محمد بن عبد الله القمّىّ
المذكور فى التّجهيز، فلمّا فرغ من استخدام الرجال وبذل الأموال، حمل
«1» ما قدر عليه من الأزواد والأثقال، بعد أن جهّز من ساحل السويس سبع
مراكب موقرة بجميع ما تحتاج عساكره إليه: من دقيق وتمر وزيت وقمح وشعير
وغير ذلك. وعيّنت لهم الأدلّاء مكانا من ساحل البحر نحو عيذاب، يكون
اجتماعهم فيه بعد مدّة معلومة.
ثم رحل محمد من مدينة قوص مقتحما تلك البرارى الموحشة، وقد تكامل معه
من العسكر سبعة آلاف مقاتل غير الأتباع، وسار حتى تعدّى حفائر الزمرّذ،
وأوغل فى بلاد القوم حتى قارب مدينة دنقلة، وشاع خبر قدومه إلى أقصى
بلاد السودان؛ فنهض ملكهم- وكان يقال له على بابا- إلى محاربة العسكر
الواصل مع محمد المذكور، ومعه من
(2/297)
تلك الطوائف المقدّم ذكرها أمم لا تحصى،
غير أنهم عراة بغير ثياب، وأكثر سلاحهم الحراب والمزاريق، ومراكبهم
البخت النّوبية الصّهب، وهى على غاية من الزّعارّة «1» والنّفار؛ فعند
ما قاربوا العساكر الإسلاميّة وشاهدوا ما هم عليه من التجمّل والخيول
والعدد وآلات الحرب فلم يقدروا على محاربتهم، عزموا «2» على مطاولتهم
حتى تفنى أزوادهم وتضعف خيولهم ويتمكنوا منهم كيفما أرادوا؛ فلم يزالوا
يراوغونهم مراوغة الثعالب، وصاروا كلّما دنا منهم محمد ليواقعهم يرحلون
من بين يديه من مكان إلى مكان، حتى طال بهم المطال وفنيت الأزواد، فلم
يشعروا إلّا وتلك المراكب قد وصلت إلى الساحل، فقويت بها قلوب العساكر
الإسلامية؛ فعند ذلك تيقّنت السّودان أن المدد لا ينقطع عنهم من جهة
الساحل، فصمّموا على محاربتهم ودنوا إليهم فى أمم لا تحصى. فلما نظر
محمد إلى السودان التى أقبلت عليه انتزع جميع ما كان فى رقاب جمال
عساكره من الأجراس، فعلّقها فى أعناق خيوله، وأمر أصحابه بتحريك الطبول
وبنفير «3» الأبواق ساعة الحملة؛ وتم «4» واقفا بعساكره وقد رتّبها
ميامن ومياسر بحيث لم يتقدّم منهم عنان عن عنان؛ وزحفت السودان عليه
وهو بموقفه لا يتحرّك حتى قاربوه، وكادت تصل مزاريقهم الى صدر خيوله؛
فعند ذلك أمر أصحابه بالتكبير، ثم حمل بعساكره على السودان حملة رجل
واحد وحرّكت نقّاراته وخفقت طبوله، وعلا حسّ تلك الأجراس، حتى خيّل
للسودان أنّ السماء قد انطبقت على الأرض، فرجعت جمال السودان عند ذلك
«5» جافلة على أعقابها، وقد تساقط عن ظهورها أكثر ركّابها؛ واقتحم
عساكر الإسلام السودان فقتلوا من ظفروا به منهم، حتى كلّت أيديهم
وامتلأت تلك الشّعاب والبرارى بالقتلى، حتى حال «6» بينهم الليل. وفات
المسلمين
(2/298)
على بابا (أعنى ملكهم) ، لأنّه كان مع
جماعة من أهل بيته وخواصّه قد نجوا على ظهور الخيل. فلما انفصلت
الواقعة وتحقّقت السودان أنّهم لا مقام لهم بهذه البلاد حتى يأخذوا
لأنفسهم الأمان؛ فأرسل على بابا ملك السودان الى محمد بن عبد الله
القمّى يسأله الأمان ليرجع الى ما كان عليه من الطاعة ويتدرّك له حمل
ما تأخر عليه من المال المقرّر له لمدة أربع سنين، فبذل له محمد
الأمان؛ وأقبل عليه على بابا حتى وطئ بساطه، فخلع عليه محمد خنعة من
ملابسه وعلى ولده وعلى جماعة من أكابر أصحابه. ثم شرط عليه محمد أن
يتوجّه معه الى بين يدى الخليفة المتوكّل على الله ليطأ بساطه؛ فامتثل
على بابا ذلك، وولّى ولده مكانه الى أن يحضر من عند الخليفة؛ وكان اسم
ولده المذكور ليعس «1» بابا. ثم عاد محمد بن عبد الله القمىّ بعسكره
وصحبته على بابا حتى وصل الى مصر فأكرمه عنبسة المذكور، وكان خرج الى
لقائه بأقصى بلاد الصعيد؛ وقيل: بل كان مسافرا معه وهو بعيد. فأقام
محمد بن عبد الله مدّة يسيرة ثم خرج بعلى بابا الى العراق وأحضره بين
يدى الخليفة المتوكّل على الله؛ فأمره الحاجب بتقبيل الأرض فامتنع؛
فعزم المتوكل أن يأمر بقتله وخاطبه على لسان التّرجمان: إنّه بلغنى أنّ
معك صنما معمولا من حجر أسود تسجد له فى كلّ يوم مرتين، فكيف تتأبّى عن
تقبيل الأرض بين يدىّ وبعض غلمانى قد قدر عليك وعفا عنك! فلما سمع على
بابا كلامه قبّل الأرض ثلاث مرّات؛ فعفا عنه المتوكّل وأفاض عليه الخلع
وأعاده الى بلاده. كل ذلك فى أيام ولاية عنبسة على مصر، وابتنى عنبسة
فى أيام ولايته أيضا المصلّى «2» المجاورة لمصلّى خولان وكانت من أحسن
المبانى؛ ثم صرف عنبسة بيزيد بن عبد الله بن دينار فى أوّل
(2/299)
شهر رجب سنة اثنتين وأربعين ومائتين. فكانت
ولاية عنبسة المذكور على مصر أربع سنين وأربعة أشهر.
قلت: وعنبسة هذا هو آخر من ولى مصر من العرب وآخر أمير صلّى فى المسجد
الجامع، وخرج من مصر فى شهر رمضان وتوجه الى العراق سنة أربع وأربعين
ومائتين.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 239]
السنة الأولى من ولاية عنبسة بن إسحاق على مصر وهى سنة تسع وثلاثين
ومائتين- فيها نفى المتوكّل علىّ بن الجهم الى خراسان. وفيها غزا
الأمير علىّ بن يحيى الأرمنىّ بلاد الروم- أعنى الذي عزل عن نيابة مصر
قبل تاريخه، وقد تقدّم ذلك كلّه فى ترجمته- فأوغل علىّ بن يحيى المذكور
فى بلاد الروم حتى شارف القسطنطينيّة، فأحرق ألف قرية وقتل عشرة آلاف
علج وسبى عشرين ألفا وعاد سالما غانما. وفيها عزل المتوكّل يحيى بن
أكثم عن القضاء وأخذ منه مائة ألف دينار، وأخذ «1» له من البصرة أربعة
آلاف جريب. وفيها فى جمادى الأولى زلزلت الدنيا فى الليل واصطكّت
الجبال ووقع من الجبل المشرف على طبريّة قطعة طولها ثمانون ذراعا
وعرضها خمسون ذراعا فمات تحتها خلق كثير. وفيها حجّ بالناس عبد الله بن
محمد بن داود العباسىّ، وهو يوم ذاك أمير مكّة. وفيها توفى محمد بن
أحمد بن أبى دواد القاضى أبو الوليد الإيادى، ولّاه المتوكّل القضاء
والمظالم بعد ما أصاب أباه أحمد بن أبى دواد الفالج، ثم عزل بعد مدّة
عن المظالم ثم عن القضاء، كلّ ذلك فى حياة أبيه فى حال مرضه بالفالج.
وأبوه هو الذي كان يقول بخلق القرآن وحمل الخلفاء على امتحان العلماء.
وكان محمد هذا بخيلا مسّيكا مع شهرة أبيه بالكرم. وكانت وفاته فى حياة
والده، وعظم مصابه على أبيه مع ما هو فيه من شدّة مرضه بالفالج حتى
إنّه [كان] كالحجر الملقى.
(2/300)
الذين ذكر الذهبى وفاتهم فى هذه السنة،
قال: وفيها توفى إبراهيم بن يوسف البلخىّ الفقيه، وداود بن رشيد،
وصفوان بن صالح الدّمشقىّ المؤذّن، والصّلت بن مسعود الجحدرىّ، وعثمان
بن أبى شيبة، ومحمد بن مهران الجمّال الرازىّ، ومحمد بن نصر «1»
المروزىّ، ومحمد بن يحيى بن أبى سمينة، ومحمود بن غيلان، ووهب بن
بقيّة.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وعشرون إصبعا، مبلغ
الزيادة ستة عشر ذراعا وثلاثة وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 240]
السنة الثانية من ولاية عنبسة بن إسحاق على مصر وهى سنة أربعين
ومائتين- فيها سمع أهل خلاط «2» صيحة عظيمة من جوّ السماء، فمات خلق
كثير. وفيها وقع برد بالعراق كبيض الدّجاج قتل بعض المواشى. ويقال: إنه
خسف فيها ببلاد المغرب ثلاث عشرة قرية ولم ينج من أهلها إلّا نيّف
وأربعون رجلا، فأتوا القيروان فمنعهم أهل القيروان من الدخول اليها،
وقالوا: أنتم مسخوط عليكم؛ فبنوا لهم خارجها وسكنوا وحدهم. وفيها حجّ
بالناس محمد بن عبد الله بن داود العباسىّ. وفيها وثب أهل حمص على
عاملهم أبى المغيث الرافقىّ «3» متولى البلد، فأخرجوه منها وقتلوا
جماعة من أصحابه؛ فسار اليهم الأمير محمد بن عبدويه، ففتك بهم وفعل بهم
الأعاجيب. وفيها توفى إبراهيم بن خالد بن أبى اليمان الحافظ أبو ثور
الكلبىّ، كان أحد من جمع بين الفقه والحديث، وسمع سفيان بن عيينة
وطبقته، وروى عنه مسلم بن الحجّاج صاحب الصحيح
(2/301)
وغيره، واتفقوا على صدقه وثقته. وفيها توفى
أحمد بن أبى دواد بن جرير القاضى، أبو عبد الله الإيادىّ البصرىّ ثم
البغدادىّ، واسم أبيه الفرح «1» ، ولى القضاء للمعتصم والواثق؛ وكان
مصرّحا بمذهب الجهميّة، داعية الى القول بخلق القرآن؛ وكان موصوفا
بالجود والسخاء والعلم وحسن الخلق وغزارة الأدب. قال الصّولىّ كان
يقال: أكرم من كان فى دولة بنى العباس البرامكة ثم ابن أبى دواد؛ لولا
ما وضع به نفسه من المحنة، ولولاها لاجتمعت الألسن عليه؛ ومولده سنة
ستين ومائة بالبصرة. وقال أبو العيناء: كان أحمد بن أبى دواد شاعرا
مجيدا فصيحا بليغا، ما رأيت رئيسا «2» أفصح منه. قال ابن دريد: أخبرنا
الحسن بن الخضر قال: كان ابن أبى دواد مؤالفا «3» لأهل الأدب من أىّ
بلد كانوا، وكان قد ضمّ «4» اليه جماعة يمونهم، فلما مات اجتمع ببابه
جماعة منهم، وقالوا: يدفن من كان ساحة «5» الكرم وتاريخ الأدب ولا
يتكلّم فيه! إن هذا لوهن وتقصير. فلمّا طلع سريره قام ثلاثة [منهم «6»
] فقال أحدهم:
اليوم مات نظام الفهم واللّسن ... ومات من كان يستعدى على الزمن
وأظلمت سبل الآداب إذ حجبت ... شمس المكارم فى غيم من الكفن
(2/302)
وقال الثانى:
ترك المنابر والسرير تواضعا ... وله منابر لو يشا وسرير
ولغيره يجبى «1» الخراج وإنّما ... تجبى إليه محامد وأجور
وقال الثالث:
وليس نسيم «2» المسك ريح حنوطه ... ولكنّه ذاك الثناء المخلّف
وليس صرير النعش ما تسمعونه ... ولكنّه أصلاب قوم تقصّف
وكانت وفاته لسبع بقين من المحرّم. وكانت وفاة ابنه محمد [بن أحمد] بن
أبى دواد فى السنة الخالية. وقد تقدّم ابن أبى دواد هذا فى عدّة أماكن
من هذا الكتاب فيمن تكلم بخلق القرآن.
وفيها توفى قتيبة بن سعيد بن جميل بن طريف، أبو رجاء الثّقفىّ، من أهل
بغلان، وهى قرية من قرى بلخ. ومولده فى سنة خمسين ومائة. وكان إماما
عالما فاضلا محدّثا، رحل الى الأمصار، وأكثر من السماع، وحدّث عن مالك
ابن أنس وغيره، وروى عنه الإمام أحمد بن حنبل وغير واحد.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن
خضرويه البلخىّ الزاهد، وأحمد بن أبى دواد القاضى، وأبو ثور الفقيه
إبراهيم بن خالد، وإسماعيل بن عبيد بن أبى كريمة الحرّانىّ، وجعفر بن
حميد الكوفىّ، والحسن ابن عيسى بن ما سرجس، وخليفة العصفرىّ «3» ،
وسويد بن سعيد «4» الحدثانىّ، وسويد بن نصر المروزىّ، وعبد السلام بن
سعيد سحنون الفقيه،
(2/303)
وعبد الواحد بن غياث، وقتيبة بن سعيد،
ومحمد بن خالد بن عبد الله الطّحّان، ومحمد بن الصّبّاح الجرجرائى،
ومحمد بن أبى غياث الأعين، واللّيث بن المقرئ صاحب الكسائىّ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وثلاثة عشر إصبعا،
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا ونصف ذراع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 241]
السنة الثالثة من ولاية عنبسة بن إسحاق على مصر وهى سنة إحدى وأربعين
ومائتين- فيها فى جمادى الآخرة ماجت النجوم فى السماء وتناثرت الكواكب
كالجراد أكثر الليل، وكان أمرا مزعجا لم يسمع بمثله. وفيها ولّى
الخليفة المتوكّل على الله جعفر أبا حسّان الزّيادىّ قضاء الشرقيّة فى
المحرّم، وشهد عنده الشهود على عيسى بن جعفر بن محمد بن عاصم أنه شتم
أبا بكر وعمر وعائشة وحفصة؛ فكتب المتوكّل إلى محمد بن عبد الله بن
طاهر ببغداد: أن يضرب عيسى بالسّياط حتى يموت ويرمى فى دجلة، ففعل به
ذلك. وفيها فادى المتوكّل الروم، فخلّص من المسلمين سبعمائة وخمسة
وثلاثين رجلا من أيدى الروم ممّن كان أسيرا عندهم.
وفيها توفى الامام أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد بن إدريس بن
عبد الله ابن حيّان بن عبد الله بن أنس بن عوف بن قاسط بن مازن بن
شيبان، هكذا نسبه ولده عبد الله، واعتمده جماعة من المؤرّخين؛ وزاد
غيرهم بعد شيبان فقال: ابن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علىّ بن
بكر بن وائل؛ الإمام أحد الأعلام وشيخ الإسلام أبو عبد الله الشّيبانىّ
البغدادىّ صاحب المذهب، مولده فى شهر ربيع الأوّل سنة أربع وستين
ومائة، روى عن جماعة كثيرة مثل هشيم وسفيان بن عيينة ويحيى القطّان
والوليد
(2/304)
ابن مسلم وغندر وزياد البكّائىّ ويحيى بن
أبى زائدة والقاضى أبى يوسف يعقوب ووكيع وابن نمير وعبد الرحمن بن
مهدىّ وعبد الرزاق والشافعىّ وخلق كثير، وممّن روى عنه محمد بن إسماعيل
البخارى ومسلم بن الحجّاج صاحب الصحيح وأبو داود وخلق كثير. وقال عبد
الرزاق: ما رأيت أفقه من أحمد بن حنبل ولا أورع.
وقال إبراهيم بن شمّاس: سمعت وكيعا يقول: ما قدم الكوفة مثل ذاك الفتى
(يعنى أحمد بن حنبل) . وعن عبد الرحمن بن مهدىّ قال: ما نظرت إلى أحمد
بن حنبل إلا تذكّرت به سفيان الثّورىّ. وقال القواريرىّ: قال لى يحيى
القطّان:
ما قدم علىّ مثل أحمد بن حنبل ويحيى بن معين. وروى ابن عساكر عن
الشافعىّ:
أنه لما قدم مصر سئل: من خلّفت بالعراق؟ فقال: ما خلّفت به أعقل «1»
ولا أورع ولا أفقه ولا أزهد من أحمد بن حنبل.
قلت: وفضل الإمام أحمد أشهر من أن يذكر، ولو لم يكن من فضله ودينه إلا
قيامه فى السّنّة وثباته فى المحنة لكفاه ذلك شرفا، وقد ذكرنا من
أحواله نبذة كبيرة فى هذا الكتاب فى أيام المحنة وغيرها. وكانت وفاته
فى شهر ربيع الأوّل منها (أى من هذه السنة) رحمه الله تعالى. وقد روينا
مسنده عن المشايخ الثلاثة المسندين المعمّرين:
زين الدين عبد الرحمن بن يوسف بن الطّحّان، وعلىّ بن إسماعيل بن بردس
وأحمد بن عبد «2» الرحمن الذهبىّ، قالوا: أخبرنا أبو عبد الله صلاح
الدين محمد بن أبى عمر المقدسىّ أخبرنا أبو النّجيب علىّ بن أبى العباس
المنصورىّ أخبرنا أبو علىّ حنبل ابن علىّ الرّصافىّ أخبرنا أبو القاسم
هبة الله بن الحصين أخبرنا أبو الحسين علىّ بن
(2/305)
المذهب أخبرنا أبو بكر أحمد بن جعفر بن
حمدان القطيعىّ أخبرنا أبو عبد الرحمن عبد الله بن أحمد بن حنبل حدّثنا
أبى.
وفيها توفّى الحسن بن حمّاد أبو علىّ الحضرمىّ، ويعرف بسجّادة لملازمته
السّجّادة فى الصلاة، كان إماما عالما زاهدا عابدا، سمع أبا معاوية
الضّرير وغيره، وروى عنه ابن أبى الدنيا وطبقته، وهو أحد من امتحن
بالقول بخلق القرآن وثبت على السّنّة، وقد تقدّم ذكره فى أيام المحنة
وشىء من أخباره وأجوبته لإسحاق بن إبراهيم نائب الخليفة ببغداد فى سنة
ثمان عشرة ومائتين.
وفيها توفى محمد بن محمد بن إدريس، أبو عثمان العسقلانىّ الأصل المصرىّ
ابن الإمام الشافعىّ رضى الله عنه. وكان للشافعىّ ولد آخر اسمه محمد
توفى بمصر صغيرا وولى محمد هذا قضاء الجزيرة، وحمدت هناك سيرته، وسمع
من أبيه وأحمد بن حنبل وغيرهما.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى الإمام أحمد
بن حنبل، والحسن بن حمّاد سجّادة، [وجبارة «1» بن المغلّس] ، وأبو توبة
الرّبيع بن نافع الحلبىّ وعبد الله بن منير المروزىّ، وأبو قدامة عبيد
الله بن سعيد السرخسىّ، ومحمد ابن عبد العزيز بن أبى رزمة، وأبو مروان
محمد بن عثمان العثمانىّ، ومحمد بن عيسى التّيمىّ الرازىّ المقرئ،
وهديّة «2» بن عبد الوهاب المروزىّ، ويعقوب بن حميد بن كاسب.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم أربعة أذرع وخمسة أصابع.
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع.
(2/306)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 242]
السنة الرابعة من ولاية عنبسة بن إسحاق على مصر وهى سنة اثنتين وأربعين
ومائتين- فيها حشدت الروم وخرجوا من ناحية سميساط «1» الى آمد «2»
والجزيرة، فقتلوا وسبوا نحو عشرة آلاف نفس ثم رجعوا. وفيها حجّ بالناس
أمير مكة الأمير عبد الصمد ابن موسى بن محمد الهاشمىّ. وحجّ من البصرة
إبراهيم بن مظهر الكاتب على عجلة تجرّها الإبل وتعجّب الناس من ذلك.
وفيها كانت زلزلة بعدّة بلاد فى شعبان، هلك منها خلق تحت الرّدم، قيل:
بلغت عدّتهم خمسة وأربعين ألفا، وكان معظم الزلزلة بالدّامغان «3» ،
حتى قيل إنه سقط نصفها، وزلزلت الرّىّ وجرجان ونيسابور وطبرستان
وأصبهان، وتقطّعت الجبال وتشقّقت الأرض بمقدار ما يدخل الرجل فى
الشّقّ، ورجمت قرية السّويداء بناحية مضر «4» بالحجارة. وقع منها حجر
على أعراب، فوزن حجر منها فكان عشرة أرطال (لعلّه بالشامىّ) ، وسار جبل
باليمن عليه مزارع لأهله حتى أتى مزارع آخرين، ووقع بحلب طائر أبيض دون
الرّخمة فى شهر رمضان فصاح: يا معشر الناس، اتقوا الله اتقوا الله
اتقوا الله أربعين صوتا، ثم طار وجاء من الغد ففعل كذلك؛ وكتب البريد
بذلك وشهد خمسمائة إنسان سمعوه. وفيها مات رجل ببعض كور الأهواز فى
شوّال، فسقط طائر أبيض على جنازته، فصاح بالفارسيّة: إن الله قد غفر
لهذا الميّت ولمن شهد جنازته. وفيها توفى عبد الله بن بشر بن أحمد بن
ذكوان إمام جامع دمشق. قال أبو زرعة: لم يكن بالشأم ومصر والعراق
والحجاز
(2/307)
أقرأ من ابن ذكوان، وكان مولده سنة ثلاث
وأربعين ومائة، ومات يوم عاشوراء.
وفيها توفّى محمد بن أسلم بن سالم أبو الحسن الطّوسىّ، كان إماما زاهدا
عابدا، تشبّه بالصحابة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفى أبو مصعب «1»
الزّهرىّ، والحسن بن علىّ الحلوانىّ، وابن ذكوان المقرئ، وزكريا بن
يحيى كاتب العمرىّ، ومحمد بن أسلم الطّوسىّ، ومحمد بن رمح التّجيبىّ،
ومحمد بن عبد الله ابن عمّار «2» ، ويحيى بن أكثم.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وستة عشر إصبعا، مبلغ
الزيادة سبعة عشر ذراعا وخمسة أصابع.
ذكر ولاية يزيد بن عبد الله على مصر
هو يزيد بن عبد الله بن دينار الأمير أبو خالد، كان من الموالى، ولى
مصر بعد عزل عنبسة عنها، فى شهر رجب سنة اثنتين وأربعين ومائتين، ولّاه
المنتصر على الصلاة. فلما ولى مصر أرسل أخاه العبّاس بن عبد الله بن
دينار أمامه إلى مصر خليفة له؛ ثم قدم يزيد هذا بعده إلى مصر لعشر بقين
من شهر رجب سنة اثنتين وأربعين ومائتين المذكورة؛ وسكن المعسكر، وأقام
الحرمة ومهّد أمور الديار المصرية، وأخرج المؤنّثين منها وضربهم وطاف
بهم، ثم منع النداء على الجنائز، وضرب جماعة بسبب ذلك؛ وفعل أشياء من
هذه المقولة؛ ودام على ذلك إلى المحرّم سنة خمس وأربعين ومائتين. خرج
من مصر الى دمياط لما بلغه نزول «3» الروم عليها فأقام بها مدّة لم يلق
حربا
(2/308)
ورجع فى شهر ربيع الأوّل من السنة الى مصر؛
وعند حضوره الى مصر بلغه ثانيا نزول الروم إلى دمياط، فخرج أيضا من مصر
لوقته وتوجّه الى دمياط فلم يلقهم، فأقام بالثغر مدّة ثم عاد الى مصر.
ثم بدا له تعطيل الرّهان الذي كان لسباق الخيل بمصر وباع الخيل التى
كانت تتّخذ للسّباق بمصر. ثم تتبّع الروافض بمصر وأبادهم وعاقبهم
وامتحنهم وقمع أكابرهم، [وحمل منهم «1» جماعة الى العراق على أقبح وجه]
؛ ثم التفت الى العلويّين، فجرت عليهم منه شدائد من الضّيق عليهم
وأخرجهم من مصر. وفى أيّامه فى سنة سبع وأربعين ومائتين بنى مقياس
النيل بالجزيرة المنعوتة بالرّوضة.
ذكر أوّل من قاس النّيل بمصر
أوّل من قاسه يوسف الصدّيق بن يعقوب نبىّ الله عليه السلام. وقيل: إنّ
النيل كان يقاس بأرض علوة الى أن بنى مقياس منف، وإنّ القبط كانت تقيس
عليه الى أن بطل لما بنت دلوكة العجوز صاحبة مصر مقياسا بأنصنا «2» ،
وكان صغير الذّرع؛ ثم بنت مقياسا آخر بإخميم. ودلوكة هذه هى التى بنت
الحائط المحيط بمصر من العريش الى أسوان، وقد تقدّم ذكرها فى أوّل هذا
الكتاب عند ذكر من ملك مصر من الملوك قبل الإسلام. وقيل: إنهم كانوا
يقيسون الماء قبل أن يوضع المقياس بالرّصاصة، وقيل غير ذلك. فلم يزل
المقياس فيما مضى قبل الفتح بقيساريّة الأكسية الى أن ابتنى المسلمون
بين الحصن والبحر أبنيتهم الباقية الآن. وكان للروم أيضا
(2/309)
مقياس بالقصر «1» خلف الباب يمنة من يدخل
منه فى داخل الزّقاق، أثره قائم الى اليوم، وقد بنى عليه وحوله.
ولما فتح عمرو بن العاص مصر بنى بها مقياسا بأسوان، فدام المقياس بها
مدّة الى أن بنى فى أيام معاوية بن أبى سفيان مقياس بأنصنا أيضا؛ فلم
يزل يقاس عليه الى أن بنى عبد العزيز بن مروان مقياسا بحلوان. وكان عبد
العزيز بن مروان أمير مصر إذ ذاك من قبل أخيه عبد الملك بن مروان، وقد
تقدّم ذكر عبد العزيز فى ولايته على مصر. وكان عبد العزيز يسكن بحلوان.
وكان مقياس عبد العزيز الذي ابتناه بحلوان صغير الذرع. ثم بنى أسامة بن
زيد التّنوخىّ فى أيام الوليد بن عبد الملك مقياسا وكسر فيه ألف قنطار
«2» . وأسامة هذا هو الذي بنى بيت المال بمصر، وكان أسامة عامل خراج
مصر. ثم كتب أسامة المذكور الى سليمان بن عبد الملك بن مروان لما ولى
الخلافة ببطلان هذا المقياس المذكور، وأن المصلحة بناء مقياس غير ذلك؛
فكتب إليه سليمان ببناء مقياس فى الجزيرة (يعنى الروضة) فبناه أسامة فى
سنة سبع وتسعين- قال ابن بكير «3» مؤرّخ مصر: أدركت المقياس بمنف ويدخل
القيّاس بزيادته كل يوم إلى الفسطاط (يعنى مصر) - ثم بنى المتوكّل فيها
مقياسا فى سنة سبع وأربعين ومائتين
(2/310)
فى ولاية يزيد بن عبد الله هذا، وهو
المقياس الكبير المعروف بالجديد. وقدم من العراق محمد بن كثير
الفرغانىّ المهندس فتولّى بناءه؛ وأمر المتوكّل بأن يعزل النّصارى عن
قياسه؛ فجعل يزيد بن عبد الله أمير مصر على القياس أبا الرّدّاد الفقيه
المعلّم، واسمه عبد الله بن عبد السلام بن عبد الله بن أبى الرّدّاد
المؤذن وكان القمّىّ «1» يقول:
أصل أبى الرّدّاد هذا من البصرة. وذكر الحافظ ابن يونس قال: قدم مصر
وحدّث بها وجعل على قياس النيل، وأجرى عليه سليمان بن وهب صاحب خراج
مصر سبعة «2» دنانير فى كلّ شهر، فلم يزل القياس من ذلك الوقت فى أيدى
أبى الرّدّاد وأولاده الى يومنا هذا. ومات أبو الردّاد المذكور فى سنة
ست «3» وستين ومائتين.
قلت: وهذا المقياس هو المعهود الآن، وبطل بعمارته كلّ مقياس كان بنى
قبله من الوجه القبلىّ والبحرىّ بأعمال الديار المصرية. واستمرّ على
ذلك الى أن ولى الأمير أبو العباس أحمد بن طولون الدّيار المصريّة،
وركب من القطائع فى بعض الأحيان فى سنة تسع وخمسين ومائتين ومعه أبو
أيّوب صاحب خراجه والقاضى بكّار بن قتيبة الحنفىّ الى المقياس وأمر
بإصلاحه وقدّر له ألف دينار.
قلت: وأما مصروف عمارة هذا المقياس فشىء كثير، وبنى بعد تعب زائد وكلفة
كبيرة يطول الشرح فى ذكرها؛ وفى النظر الى بنائه ما يغنى عن ذكر مصروف
عمارته. وبنى أيضا الحارث مقياسا بالصناعة «4» لا يلتفت اليه ولا يعتمد
عليه ولا يعتدّ به، وأثره باق الى اليوم.
(2/311)
وقال الحسن بن محمد بن عبد المنعم: لما
فتحت العرب مصر عرّف عمرو بن العاص عمر بن الخطاب ما يلقى أهلها من
الغلاء عند وقوف النيل عن حدّ مقياس لهم فضلا عن تقاصره، وأن فرط «1»
الاستشعار يدعوهم الى الاحتكار، ويدعو الاحتكار الى تصاعد الأسعار بغير
قحط. فكتب عمر بن الخطاب الى عمرو بن العاص يسأله عن شرح الحال؛ فأجابه
عمرو: إنى وجدت ما تروى به مصر حتى لا يقحط أهلها أربعة عشر ذراعا،
والحدّ الذي تروى منه الى سائرها حتى يفضل منه عن حاجتهم ويبقى عندهم
قوت سنة أخرى ستة عشر ذراعا، والنّهايتان المخوفتان فى الزيادة
والنّقصان، وهما الظمأ والاستبحار، اثنا عشر ذراعا فى النقصان وثمانية
عشر ذراعا فى الزيادة. وكان «2» البلد فى ذلك الوقت محفور الأنهار
معقود الجسور عند ما تسلّموه من القبط، وخميرة «3» العمارة فيه.
قلت: وقد تقدّم ذكر ما تحتاج مصر اليه من الرجال للحرث والزراعة وحفر
لجسور، وكميّة خراج مصر يوم ذاك وبعده فى أوّل هذا الكتاب عند ذكر
النيل، فلا حاجة لذكره هنا ثانيا اذ هو مستوعب هناك. ولم نذكر هنا هذه
الأشياء إلا استطرادا لعمارة هذا المقياس المعهود الآن فى أيام صاحب
هذه الترجمة؛ فلزم من ذلك التعريف بما كان بمصر من صفة كلّ مقياس
ومحلّه وكيفيّته، ليكون الناظر فى هذا الكتاب على بصيرة بما تقدّم من
أحوال مصر.
ولما وقف عمر بن الخطاب على كتاب عمرو بن العاص استشار عليّا رضى الله
عنهما فى ذلك؛ ثم أمره أن يكتب اليه ببناء مقياس، وأن ينقص ذراعين من
(2/312)
اثنى عشر ذراعا، وأن يقرّ ما بعدهما على
الأصل، وأن ينقص من كل ذراع بعد الستة عشر ذراعا إصبعين؛ ففعل ذلك
وبناه عمرو (أعنى المقياس) بحلوان؛ فاجتمع له كلّ ما أراد.
وقال ابن عفير وغيره من القبط المتقدّمين: اذا كان الماء فى اثنى عشر
يوما من مسرى اثنى عشر ذراعا فهى سنة ماء، وإلا فالماء ناقص؛ وإذا تمّ
ستة عشر ذراعا قبل النّوروز فالماء يتمّ. فاعلم ذلك.
قلت: وهذا بخلاف ما عليه الناس الآن؛ لأن الناس لا يقنعهم فى هذا العصر
إلا المناداة من أحد وعشرين ذراعا، لعدم معرفتهم بقوانين مصر، ولأشياء
أخر تتعلّق بما لا ينبغى ذكره.
وقد خرجنا عن المقصود فى ترجمة يزيد بن عبد الله هذا، غير أننا أتينا
بفضائل وغرائب. ودام يزيد بن عبد الله على إمرة مصر إلى أن مات الخليفة
المتوكّل على الله جعفر، ويخلّف بعده ابنه المنتصر محمد. وقتل أيضا
الفتح بن خاقان مع المتوكّل، وكان الفتح قد ولّاه المتوكّل أمر مصر
وعزل عنه ابنه محمدا المنتصر هذا. وكان قتل المتوكّل فى شوّال من سنة
سبع وأربعين ومائتين التى بنى فيها هذا المقياس. ولمّا بويع المنتصر
بالخلافة أرسل الى يزيد بن عبد الله المذكور باستمراره على عمله بمصر.
فدام يزيد بن عبد الله هذا على ذلك إلى أن مات الخليفة المنتصر فى شهر
ربيع الأوّل سنة ثمان وأربعين ومائتين، وبويع المستعين بالله بالخلافة.
[و] أرسل المستعين إليه بالاستسقاء لقحط كان بالعراق؛ فاستسقوا بمصر
لسبع عشرة خلت من ذى القعدة، واستسقى جميع أهل الآفاق فى يوم واحد؛ فإن
المستعين كان قد أمر سائر عمّاله
(2/313)
بالاستسقاء فى هذا اليوم المذكور. ودام
يزيد بن عبد الله على إمرة مصر حتى خلع المستعين من الخلافة، بعد أمور
وقعت له، فى المحرّم سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وبويع المعتزّ بن
المتوكل بالخلافة؛ فعند ذلك أخيفت السّبل وتخلخل أمر الديار المصرية
لاضطراب أمر الخلافة. وخرج جابر بن الوليد بالاسكندرية، فتجهّز يزيد بن
عبد الله هذا لحربه، وجمع الجيوش وخرج من الديار المصرية والتقاه؛ فوقع
له معه حروب ووقائع كان ابتداؤها من شهر ربيع الآخر من سنة اثنتين
وخمسين ومائتين؛ وطال القتال بينهما وانكسر كلّ منهما غير مرّة وتراجع.
فلما عجز يزيد بن عبد الله عن أخذ جابر بن الوليد المذكور، أرسل الى
الخليفة فطلب منه نجدة لقتال جابر وغيره؛ فندب الخليفة الأمير مزاحم بن
خاقان فى عسكر هائل الى التوجّه الى الديار المصرية، فخرج بمن معه من
العراق حتى قدم مصر معينا ليزيد بن عبد الله المذكور لثلاث عشرة بقيت
من شهر رجب من السنة المذكورة؛ وخرج يزيد بن عبد الله الى ملاقاته
وأجلّه وأكرمه، وخرج الجميع وواقعوا جابر بن الوليد المذكور وقاتلوه
حتى هزموه ثم ظفروا به واستباحوا عسكره، وكتبوا الى الخليفة بذلك؛ فورد
عليهم الجواب بصرف يزيد ابن عبد الله هذا عن إمرة مصر وباستقرار مزاحم
بن خاقان عليها عوضه، وذلك فى شهر ربيع الأوّل سنة ثلاث وخمسين
ومائتين. فكانت مدّة ولاية يزيد بن عبد الله هذا على مصر عشر سنين
وسبعة أشهر وعشرة أيام.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 243]
السنة الأولى من ولاية يزيد بن عبد الله التركىّ على مصر وهى سنة ثلاث
وأربعين ومائتين- فيها حجّ بالناس عبد الصمد بن موسى، وسار بالحجّ من
العراق جعفر ابن دينار. وفيها فى آخر السنة قدم المتوكّل إلى الشأم
فأعجبته دمشق وأراد أن
(2/314)
يسكنها وبنى له القصر بداريّا «1» حتى
كلّموه فى الرجوع إلى العراق وحسنوا له ذلك؛ فرجع بعد أن سمع بيتى «2»
يزيد بن محمد المهلبىّ وهما:
أظنّ الشام تشمت «3» بالعراق ... إذا عزم الإمام على انطلاق «4»
فإن يدع «5» العراق وساكنيه ... فقد تبلى المليحة بالطّلاق
وفيها توفّى أبو إسحاق إبراهيم بن العباس بن محمد بن صول تكين، الكاتب
المعروف بالصّولىّ، الكاتب الشاعر المشهور؛ كان أحد الشعراء المجيدين،
وله ديوان شعر صغير الحجم ونثر بديع. وهو ابن أخت العباس بن الأحنف
الشاعر، ونسبته الى جدّه صول تكين المذكور، وكان أحد ملوك خراسان،
وأسلم على يد يزيد بن المهلّب ابن أبى صفرة. وقال الحافظ أبو القاسم
حمزة بن يوسف السّهمىّ فى تاريخ جرجان:
الصّولىّ جرجانىّ الأصل، وصول: من بعض ضياع جرجان، وهو عمّ والد أبى
بكر محمد ابن يحيى بن عبد الله بن العباس الصّولىّ صاحب كتاب الوزراء
وغيره من المصنّفات، فإنهما مجتمعان فى العباس المذكور. ومن شعر
الصّولىّ هذا قوله:
؟؟؟ دنت بأناس عن تناء زيارة ... وشطّ بليلى عن دنوّ مزارها
وإنّ مقيمات بمنعرج اللّوى ... لأقرب من ليلى وهاتيك دارها
(2/315)
وفيها توفّى الحارث بن أسد الحافظ أبو عبد
الله المحاسبىّ، أصله من البصرة وسكن بغداد، وكان كبير الشأن فى الزهد
والعلم، وله التصانيف المفيدة. وفيها توفّى الوليد بن شجاع بن الوليد
بن قيس الشيخ الإمام أبو همّام السّكونىّ البغدادىّ، كان صالحا عفيفا
ديّنا عابدا وتوفّى ببغداد. وفيها توفى هارون بن عبد الله بن مروان
الحافظ أبو موسى البزّاز مات ببغداد فى شوّال، وأخرج عنه مسلم وغيره،
وكان ثقة صدوقا. وفيها توفّى هنّاد بن السّرىّ الدّارمىّ الكوفىّ
الزاهد الحافظ، كان يقال له راهب الكوفة، سمع وكيعا وطبقته، وروى عنه
أبو حاتم الرّازىّ وغيره. وفيها توفّى القاضى يحيى بن أكثم ابن محمد بن
قطن بن سمعان التّميمىّ الأسيّدىّ «1» ، أبو عبد الله، وقيل أبو زكريا،
وقيل أبو محمد. ولى القضاء بالبصرة وبغداد والكوفة وسامرّا، وكان إماما
عالما بارعا.
قال أبو بكر الخطيب فى تاريخه: كان أحد أعلام الدنيا ممّن اشتهر أمره
وعرف خبره، ولم يستتر عن الكبير والصغير من الناس فضله وعلمه ورياسته
وسياسته؛ وكان أمر الخلفاء والملوك لأمره، وكان واسع العلم والفقه
والأدب اهـ.
قال الكوكبىّ: أخبرنا أبو علىّ محرز «2» بن أحمد الكاتب حدّثنى محمد بن
مسلم البغدادىّ السّعدىّ قال: دخلت على يحيى بن أكثم فقال: افتح هذه
القمطرة، ففتحتها، فاذا شىء قد خرج منها، ورأسه رأس إنسان ومن سرتّه
الى أسفله خلقة زاغ «3» ، وفى ظهره سلعة «4» وفى صدره سلعة، فكبّرت
وهلّلت ويحيى يضحك، ثم قال بلسان فصيح:
(2/316)
أنا الزّاغ أبو عجوه ... أنا ابن اللّيث
واللّبوه
أحبّ الرّاح والريحا ... ن والنّشوة والقهوه
فلا عربدتى تخشى ... ولا تحذر لى سطوه
ثم قال لى: يا كهل، أنشدنى شعرا غزلا؛ فقال لى يحيى بن أكثم: قد أنشدك
فأنشده؛ فأنشدته:
أغرّك أن أذنبت ثم تتابعت ... ذنوب فلم أهجرك ثم أتوب «1»
وأكثرت حتى قلت ليس بصارمى ... وقد يصرم الإنسان «2» وهو حبيب
فصاح: زاغ «3» زاغ زاغ، وطار ثم سقط فى القمطرة؛ فقلت: أعزّ الله
القاضى! وعاشق أيضا! فضحك؛ فقلت: ما هذا؟ فقال: هو ما ترى! وجّه به
صاحب اليمن الى أمير المؤمنين وما رآه بعد اهـ. وقال أبو خازم القاضى:
سمعت أبى يقول:
ولى يحيى بن أكثم قضاء البصرة وله عشرون سنة فاستصغروه، فقال أحدهم: كم
سنّ القاضى؟ [فعلم «4» انه قد استصغر] ، فقال: أنا أكبر من عتّاب الذي
استعمله رسول الله صلى الله عليه وسلّم على أهل مكة، وأكبر من معاذ
الذي وجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم قاضيا على اليمن، وأكبر من كعب
بن سور الذي وجّهه عمر قاضيا على البصرة [فجعل جوابه «5» احتجاجا] .
وفيها توفى يعقوب بن إسحاق السّكّيت الإمام
(2/317)
أبو يوسف اللغوىّ صاحب إصلاح المنطق، كان
علّامة الوجود، قتله المتوكّل بسبب محبّته لعلىّ بن أبى طالب رضى الله
عنه. قال له يوما: أيّما أحبّ إليك أنا وولداى: المؤيّد والمعتزّ، أم
علىّ والحسن والحسين؟ فقال: والله إنّ شعرة من قنبر خادم علىّ خير منك
ومن ولديك؛ فأمر المتوكّل الأتراك فداسوا بطنه؛ فحمل الى بيته ومات
اهـ.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وثمانية عشر إصبعا،
مبلغ الزيادة سبعة عشر ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 244]
السنة الثانية من ولاية يزيد بن عبد الله على مصر وهى سنة أربع وأربعين
ومائتين- فيها سخط المتوكّل على حكيمه بختيشوع ونفاه إلى البحرين.
وفيها افتتح بغا التركىّ حصنا كبيرا من الروم يقال له صملة. وفيها
اتّفق عيد الأضحى وفطير اليهود وعيد الشّعانين للنّصارى فى يوم واحد.
وفيها توفى الحسن بن رجاء أبو علىّ البلخىّ، كان إماما حافظا، سافر فى
طلب الحديث، وسمع الكثير، ولقى الشيوخ، وروى عنه غير واحد. وفيها توفّى
علىّ بن حجر بن إياس بن مقاتل الإمام أبو الحسن السّعدىّ [المروزىّ «1»
] ، ولد سنة أربع وخمسين ومائة، وكان من علماء خراسان، كان حافظا متقنا
شاعرا، طاف البلاد وحدّث، وانتشر حديثه بمرو. وفيها توفى محمد «2» بن
العلاء بن كريب أبو كريب الهمذانىّ الكوفىّ الحافظ، كان من الأئمة
الحفّاظ، لم يكن بعد الإمام أحمد أحفظ منه.
(2/318)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم فى هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن
منيع، وإبراهيم بن عبد الله الهروىّ، وإسحاق بن موسى الخطمىّ «1» ،
والحسن بن شجاع البلخىّ الحافظ، وأبو عمّار الحسين بن حريث، وحميد بن
مسعدة، وعبد الحميد ابن بيان الواسطىّ، وعلىّ بن حجر، وعتبة بن عبد
الله المروزىّ، ومحمد بن أبان مستلى وكيع، ومحمد بن عبد الملك بن أبى
الشّوارب، ويعقوب بن السّكّيت.
أمر النيل فى هذه السنة- الماء القديم خمسة أذرع وإصبع واحد.
مبلغ الزيادة ستة عشر ذراعا واثنا عشر إصبعا. |