النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة

*** [ما وقع من الحوادث سنة 275]
السنة الخامسة من ولاية خمارويه على مصر، وهى سنة خمس وسبعين ومائتين- فيها بعث الموفّق جيشا إلى نواحى سرّ من رأى مع الطائىّ، فأخذ صدّيقا الفرغانىّ اللصّ فقطعوا يديه ورجليه وأيدى أصحابه وأرجلهم، وحملوا إلى بغداد على تلك الصورة. وفيها أيضا غزا يا زمان الخادم البحر فأخذ عدّة مراكب للروم. وفيها في شوّال حبس الموفّق ابنه أبا العباس- وأبو العباس هذا هو الذي يلى الخلافة بعد ذلك ويتلقّب بالمعتضد ويتزوّج بقطر النّدى بنث خمارويه صاحب الترجمة- وقد تقدّم ذكر جهازها في أوّل هذه الترجمة- ولما أمسك الموفّق ابنه أبا العباس المذكور تشغّب أصحابه وحملوا السلاح، فركب الموفّق وصاح بأصحاب أبى العباس: ما شأنكم! أترون أنكم «1» أشفق على ولدى منّى! فوضعوا السلاح وتفرّقوا. وفيها حج بالناس هارون بن محمد الهاشمىّ أيضا. وفيها توفى أحمد بن محمد بن الحجاج الفقيه أبو بكر المرّوذىّ «2» صاحب الإمام أحمد بن حنبل، كان أبوه خوارزميّا وأمه مرّوذية، وكان مقدّما في أصحاب الإمام أحمد لورعه وفضله. وفيها توفّى أحمد بن محمد بن غالب بن خالد أبو عبد الله البصرىّ الباهلىّ ويعرف بغلام خليل، سكن بغداد وحدّث بها، وكان من الأبدال، يسرد «3» الصوم دائما. وفيها توفّى سعد الأيسر، كان أمير دمشق وكان عادلا وكان من خواصّ أحمد بن طولون، وهو الذي هزم أبا العباس أحمد بن الموفّق لما حارب خمارويه حسبما ذكرناه، وكان سعد يقول عن خمارويه: هذا الصبىّ مشغول باللهو وأنا أكابد الشدائد؛ فبلغ خمارويه

(3/72)


فخرج إلى الرّملة واستدعاه، فلما قدم عليه قتله بيده؛ وبلغ أهل دمشق ذلك فغضبوا ولعنوا خمارويه. وفيها توفى سليمان بن الأشعث بن إسحاق بن بشير بن شدّاد بن عمرو ابن عمران أبو داود السّجستانى الأزدىّ الإمام الحافظ الناقد صاحب السّنن.
مولده سنة اثنتين ومائتين، كان إمام أهل الحديث في عصره بلا مدافعة، رحل إلى «1» العراق وخراسان والحجاز والشام ومصر وبغداد غير مرّة، وروى بها كتاب السنن وعرضه على الإمام أحمد بن حنبل فاستحسنه، وكان عارفا بعلل الحديث ورعا، وكان له كمّ واسع وكمّ ضيّق؛ فقيل له في ذلك فقال: الواسع للكتب، والآخر لا أحتاج إليه. وقد سمعت سننه رواية اللؤلؤي عنه على المشايخ الثلاثة: زين الدين «2» عبد الرّحمن الدّمشقى، وعلاء الدين «3» علىّ بن بردس البعلبكّى، وشهاب الدين «4» أحمد [المشهور با] بن ناظر الصاحبيّة، بسماع الأوّلين لجميعه على أبى حفص «5» بن أميلة، وبإجازة الثالث من أبى العباس «6» بن الجوخى، قالا: أخبرنا أبو الحسن علىّ بن البخارىّ أخبرنا أبو «7» الحفص بن طبرزذ مما اتفق له. أخبرنا أبو البدر إبراهيم الكرخىّ وأبو الفتح الدّومى قالا أخبرنا الحافظ أبو بكر أحمد بن على أخبرنا الشريف أبو عمر الهاشمىّ اخبرنا أبو علىّ اللؤلؤي «8» أخبرنا أبو داود. وفيها توفى على بن يحيى بن أبى منصور أبو الحسن المنجّم، كان أصله من أبناء فارس، وكان أديبا شاعرا، ونادم الخلفاء

(3/73)


من المتوكّل إلى المعتمد، وكانوا يعظّمونه، وكان عالما بأيام الناس راوية للأشعار.
وفيها توفّى محمد بن إسحاق بن إبراهيم العنبسىّ «1» الصّيمرىّ الشاعر، كان أديبا قدم بغداد ونادم المتوكّل؛ ومن شعره رضى الله عنه:
كم مريض قد عاش من بعد يأس ... بعد موت الطبيب والعوّاد
قد يصاد القطا فينجو سليما ... ويحلّ القضاء بالصّيّاد
وفيها توفّى المنذر بن محمد بن عبد الرّحمن بن الحكم بن هشام أبو الحكم أمير الأندلس، أقام على الأندلس سنتين، وأمّه أمّ ولد، وهو السادس لصلب عبد الرّحمن الداخل الأموىّ المقدّم ذكره.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وستّ عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وثمانى أصابع ونصف.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 276]
السنة السادسة من ولاية خمارويه على مصر، وهى سنة ستّ وسبعين ومائتين- فيها رضى الخليفة المعتمد على عمرو بن الليث الصّفّار، وكتب اسمه على الأعلام والعدد. وفيها في [شهر «2» ] ربيع الأوّل خرج الموفّق أخو الخليفة المعتمد من بغداد يريد أحمد بن عبد العزيز بن أبى دلف بأصبهان، فتنحّى له أحمد عن داره:
عن آلتها وفرشها، فنزل بها الموفّق؛ وقدم محمد بن أبى الساج على الموفّق هاربا من خمارويه صاحب الترجمة بعد وقعات جرت بينهما، فأكرمه الموفّق وخلع عليه.

(3/74)


وفيها ولّى عمرو بن الليث الصّفار شرطة بغداد. وفيها انفرج «1» تلّ بنهر الصّلح «2» عند فم الصّلح بالعراق، ويعرف بتلّ بنى شقيق «3» ، عن سبعة قبور فيها سبعة أبدان صحيحة والأكفان جدد تفوح منها رائحة المسك، وأحدهم شابّ «4» له جمّة «5» طويلة طريّة، ولم يتغيّر منه شىء، وفي خاصرته ضربة؛ وكانت القبور حجارة مثل المسنّ، وعندهم كتاب ما يدرى ما فيه. وفيها توفّى بقىّ بن مخلد بن يزيد الحافظ أبو عبد الرّحمن الأندلسىّ صاحب الرحلة والتصانيف، كان مجاب الدعوة، رحل الى مكة والمدينة ومصر والشام وبغداد والشرق والعراقين، وكان له مائتان وأربعة وثمانون شيخا، ومولده في شهر رمضان سنة إحدى ومائتين، ومات ليلة الثلاثاء ثامن عشرين جمادى الآخرة. وفيها توفّى عبد «6» الله الفرحان أبو طاهر الأصبهانى العابد المشهور، كان مجاب الدعوة وله آثار في الدعاء مشهورة، كتب الكثير من الحديث بالعراق والشام ومصر، وسمع هشام بن عمّار وغيره، وروى عنه محمد بن عبد الله الصّفّار وغيره. وفيها توفّى عبد الله بن مسلم بن قتيبة أبو محمد المروزىّ الكاتب مصنّف كتاب غريب الحديث وغريب القرآن ومشكل القرآن، مات فجأة، صاح صيحة عظيمة ثم مات في شهر رجب؛ وقال الدارقطنىّ: كان يميل الى التشبيه «7» ، وكلامه

(3/75)


يدلّ عليه، وقال البيهقىّ: كان يرى رأى الكرّامية، وذكر عنه أشياء غير ذلك، وكان خبيث اللسان يقع في حقّ كبار العلماء. وفيها توفّى عبد الملك بن محمد بن عبد الله الحافظ أبو قلابة الرّقاشىّ، مولده بالبصرة سنة تسعين ومائة، وسمع يزيد بن هارون وغيره، وروى عنه المحاملى وآخرون «1» .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وتسع أصابع، مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 277]
السنة السابعة من ولاية خمارويه على مصر، وهى سنة سبع وسبعين ومائتين- فيها اتفق يا زمان الخادم مع خمارويه صاحب الترجمة ودعا له على المنابر بطرسوس، وسببه أن خمارويه استماله وتلطّف به وبعث له بثلاثين ألف دينار وخمسمائة ثوب وخمسمائة دابّة وسلاح كثير. وفيها حجّ بالناس هارون بن محمد العباسىّ الهاشمىّ على العادة. وفيها توفى أحمد بن عيسى أبو سعيد الخرّاز الصّوفىّ البغدادىّ أحد المشايخ المذكورين «2» بالزهد، كان من أئمة القوم وجلّة «3» مشايخهم؛ قال الجنيد: لو طالبنا الله بحقيقة ما عليه أبو سعيد الخرّاز لهلكنا، قيل «4» له: وعلى أىّ شىء حاله؟ قال: أقام كذا وكذا سنة يخرز ما فاته [الحقّ «5» ] بين الخرزتين، يعنى ذكر الله تعالى. وفيها توفى إبراهيم ابن إسحاق بن أبى العنبس «6» أبو إسحاق الزّهرىّ الكوفىّ، ولى قضاء بغداد ثم صرفه

(3/76)


الموفّق، أراد منه أن يدفع إليه أموال الأوقاف فامتنع، وكان عالما محدّثا حمل الناس عنه الحديث الكثير. وفيها توفى محمد بن إدريس بن المنذر بن داود بن مهران الحافظ أبو حاتم الرّازى الحنظلىّ مولى بنى تميم بن حنظلة الغطفانىّ، وقيل: سمّى الحنظلىّ لأنه كان يسكن بالرّىّ بدرب حنظلة، كان أحد الأئمة الرحّالين عارفا بعلل الحديث والجرح [و] التعديل، رحل إلى خراسان والعراقين والحجاز واليمن والشأم ومصر، ومات بالرّىّ في شعبان. وفيها توفى يعقوب بن سفيان الحافظ أبو يوسف الفارسىّ الفسوىّ صاحب التاريخ والمصنّفات الحسان، كان إمام أهل الحديث، سافر [الى] البلاد ولقى الشيوخ، قال: كتبت عن ألف شيخ وأكثر، وكلّهم ثقات، وقال أبو زرعة الدمشقىّ: قدم علينا يعقوب دمشق وتعجّب أهل العراق أن يروا مثله.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وإصبعان، مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 278]
السنة الثامنة من ولاية خمارويه على مصر، وهى سنة ثمان وسبعين ومائتين- فيها في الثامن والعشرين من المحرّم ظهر في السماء كوكب ذو جمّة «1» . وفيها قال أبو المظفر بن قزأوغلى وغيره من المؤرّخين: غار نيل مصر حتى لم يبق منه شىء.
قال الذّهبىّ: ولم يتعرّض المسبّحىّ «2» في تاريخه إلى شىء من ذلك. وغلت الأسعار

(3/77)


فى هذه السنة بمصر وقراها. وفيها ظهرت القرامطة «1» بسواد الكوفة، وقد اختلفوا فيهم وفي مبتدأ أمرهم على أقوال نذكر منها نبذة لما سيأتى من ذكر القرامطة واستيلائهم على البلاد وقتلهم للعباد، فأحد الأقوال: أن رجلا قدم من ناحية خوزستان إلى سواد الكوفة وأظهر الزهد والتقشّف، وكان يسفّ «2» الخوص ويأكل من كسبه، ولا زال يظهر التديّن والزهد إلى أن مال إليه الناس فدرّجهم من شىء إلى شىء حتى صاروا معه حيث شاء، وقيل غير ذلك أقوال كثيرة؛ وهم من الذين أكثروا في الأرض الفساد وأخربوا البلاد. وفيها غزا يا زمان الخادم الصائفة فبلغ حصنا يقال له سلند «3» فنصب عليه المجانيق، وأشرف على فتحه فجاءه حجر من الحصن فقتله، فارتحلوا به وفيه رمق فمات في الطريق في رجب، فحمل على الأكتاف الى طرسوس فدفن بها، وكان شجاعا جوادا رضى الله عنه. وفيها توفى «4» ديك الجنّ الشاعر المشهور واسمه عبد السلام ابن رغبان بن عبد السلام، وسمّى ديك الجن لأن عينيه كانتا خضراوين، وكان قبيح المنظر [وكان شاعرا «5» ] فصيحا، عاصر أبا تمّام الطائىّ، وكان أبو تمام يعترف له بالفضل، وهو من شعراء الدولة العباسيّة، وكان يتشيّع، وكان له غلام كالبدر وجارية أحسن منه، وكان يهواهما جميعا، فدخل يوما منزله فوجدهما متعانقين والجارية تقبّل الغلام، فشدّ عليهما فقتلهما ثم رثاهما بعد ذلك وحزن عليهما حزنا شديدا، وتنغّص عيشه

(3/78)


بعدهما الى أن مات. وشعر ديك الجنّ مشهور. وفيها توفى أبو أحمد طلحة، وقيل:
محمد ابن الخليفة المتوكل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم محمد ابن الخليفة الرشيد هارون، كان لقبه الموفّق ثم لقّب بعد قتل الزّنجىّ الناصر لدين الله، كان يخطب له على المنابر بعد أخيه الخليفة المعتمد، وكان يقول الخطيب: اللهم أصلح «1» الأمير الناصر لدينك أبا أحمد الموفّق بالله ولىّ عهد المسلمين أخا أمير المؤمنين، وكانت أمّ الموفق أمّ ولد يقال لها إسحاق؛ وكان الموفّق من أجلّ الملوك رأيا وأسمحهم نفسا وأحسنهم تدبيرا، كان أخوه المعتمد قد جعله ولىّ عهده بعد ولده جعفر المفوّض فغلب الموفّق على الأمر حتى صار أخوه الخليفة المعتمد معه كالمحجور عليه؛ ومات الموفّق في حياة أخيه المعتمد فبايع المعتمد ابن الموفّق أبا العباس ولقّبه بالمعتضد، وجعله ولىّ عهده بعد ابنه المفوّض كما كان أبوه الموفّق، وظنّ المعتمد أنه استراح من الموفّق فعظم أمر المعتضد أضعاف ما كان عليه الموفّق، حتى إنه خلع المفوّض من ولاية العهد وصار ولىّ عهد عمّه المعتمد؛ وتولّى الخلافة بعده، وكان الموفّق قد حبس ابنه أبا العباس المعتضد هذا لشدّة بأسه فلما احتضر الموفّق، أو في حال مرضه، أخرج الجند المعتضد المذكور من حبسه بغير رضا أبيه، ثم مات بعد أيام فى يوم الأربعاء ثانى عشر من صفر، وكان من أجلّ ملوك بنى العبّاس.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع عشرة إصبعا، مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.

(3/79)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 279]
السنة التاسعة من ولاية خمارويه على مصر، وهى سنة تسع وسبعين ومائتين- فيها عظم أمر المعتضد بتقديمه في ولاية العهد على جعفر المفوّض، فإن الخليفة المعتمد خلع ولده وقدّم ابن أخيه المعتضد هذا على ولده المفوّض المذكور؛ وأظنّ ذلك كان لقوّة شوكة المعتضد، ثم فوّض المعتمد لابن أخيه المعتضد ما كان لأبيه الموفّق من الأمر والنهى وكتب بذلك الى الآفاق؛ ثم أمر المعتضد ألّا يقعد على الطريق ببغداد ولا في المسجد الجامع قاصّ «1» ولا صاحب نجوم، وحلّف باعة الكتب ألّا يبيعوا كتب الفلاسفة والجدل ونحو ذلك، ولما قدّم الخليفة [المعتمد «2» ] المعتضد هذا على ولده قدّم له المعتضد ثيابا بمائتى ألف درهم وحمل الى ابن عمّه المفوّض ثيابا بمائة ألف درهم، وطابت نفوسهما فلم يكن بعد ذلك إلا أيام ومات الخليفة المعتمد؛ وتولّى المعتضد الخلافة بعد عمّه المعتمد في صبيحة يوم الاثنين لإحدى عشرة ليلة بقيت من شهر رجب. وفيها أرسل خمارويه الى المعتضد مع ابن الجصّاص هدايا «3» وتحفا وأموالا كثيرة وسأله أن يزوّج ابنه المكتفى ببنته قطر النّدى؛ فقال المعتضد: بل أنا أتزوّجها فتزوّجها. وقد سقنا حكاية زواجها في ترجمة أبيها خمارويه.
وفيها فتح أحمد بن عيسى بن الشّيخ قلعة ماردين «4» وكانت مع محمد بن إسحاق بن كنداج. وفيها صلّى المعتضد بالناس صلاة الأضحى فكبّر في الأولى ستّ تكبيرات

(3/80)


وفي الثانية واحدة، ولم تسمع منه خطبة. وفيها توفّى محمد بن عيسى بن سورة الإمام الحافظ أبو عيسى التّرمذىّ مصنّف الجامع والعلل والشمائل وغيرها، وكانت وفاته فى شهر رجب، وقد روينا كتابه الجامع سماعا على الشيخين علاء الدين «1» علىّ بن بردس البعلبكّى وشهاب الدين أحمد [المشهور با] بن ناظر الصاحبيّة، بسماع الأوّل عن أبى حفص ابن أميلة «2» وإجازة الثانى من أحمد «3» بن محمد بن أحمد بن الجوخى؛ قالا أخبرنا أبو الحسن «4» علىّ بن البخارى [وا] «5» بن أميلة- الأوّل سماعا والثانى إجازة- أخبرنا أبو حفص ابن طبرزذ أخبرنا أبو الفتح عبد الملك بن أبى [القاسم «6» عبد الله بن أبى] سهل [القاسم «7» بن أبى منصور] الكروخىّ «8» أخبرنا أبو عامر محمود بن القاسم «9» الأزدى وأبو بكر أحمد بن عبد الصمد الغورجىّ «10» وأبو نصر عبد العزيز بن محمد التّرياقىّ سماعا عليهم سوى الترياقىّ، فمن أوّله الى مناقب ابن عباس قال الكروخىّ، وأخبرنا من مناقب ابن عباس الى آخر الكتاب عبد الله بن على بن يس الدهّان، قالوا أخبرنا

(3/81)


أبو محمد عبد الجبار بن محمد الجرّاحى أخبرنا أبو العبّاس محمد بن أحمد بن محبوب المحبوبى أخبرنا الإمام الحافظ أبو عيسى التّرمذىّ؛ وروينا أيضا كتابه الشمائل سماعا على الشيخين المذكورين بسماع الأوّل من المسند صلاح الدين محمد [بن أحمد «1» ] بن أبى عمر المقدسىّ وإجازة الثانى من ابن الجوخى، قالا أخبرنا ابن البخارىّ الأوّل سماعا والثانى إجازة أخبرنا أبو اليمن زيد بن الحسن الكندىّ أخبرنا أبو شجاع «2» البسطامىّ، أخبرنا أبو القاسم «3» البلخىّ أخبرنا أبو القاسم «4» الخزاعىّ أخبرنا أبو سعيد الهيثم بن كليب الشاشىّ أخبرنا أبو عيسى التّرمذىّ. وفيها حجّ بالناس هارون بن محمد الهاشمىّ وهى آخر حجّة حجّها بالناس، وكان قد حجّ بالناس ستّ عشرة حجّة أوّلها سنة أربع وستين ومائتين الى هذه السنة. وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين المعتمد على الله أبو العبّاس أحمد ابن الخليفة المتوكل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة الرشيد هارون ابن الخليفة المهدىّ محمد ابن الخليفة أبى جعفر المنصور بن محمد بن على بن عبد الله بن العبّاس الهاشمىّ العباسىّ في ليلة الاثنين تاسع عشر شهر رجب فجأة ببغداد، فحمل ودفن بسرّمن رأى؛ ومولده سنة تسع وعشرين ومائتين بسرّمن رأى، وأمّه أمّ ولد رومية اسمها فتيان، وفي موته أقوال كثيرة، منهم من قال: إنه اغتيل بالسمّ، ومنهم من قال: إنه خنق، وقيل غير ذلك؛ وكانت خلافته ثلاثا وعشرين سنة وثلاثة أيّام، وكان فيها كالمحجور عليه مع أخيه

(3/82)


الموفّق، فإنه كان منهمكا في اللذّات، فولّى أخاه الموفّق أمر الناس فقوى عليه وانقهر المعتمد معه الى أن مات قهرا منه ومن ولده المعتضد؛ وتولّى الخلافة من بعده المعتضد ابن أخيه الموفّق المذكور. وفيها توفّى أحمد بن أبى خيثمة زهير بن حرب ابن شدّاد النّسائىّ الأصل، كان عالما حافظا ذا فنون بصيرا بأيام الناس راوية للآداب؛ أخذ علم الحديث عن الإمام أحمد بن حنبل وعن يحيى بن معين، وعلم النسب عن مصعب الزّبيرىّ، وأيام الناس عن أبى الحسن المدائنىّ؛ وصنّف التاريخ فأكثر فوائده ومات في جمادى الأولى. وفيها توفّى أحمد بن عبد الرّحمن بن مرزوق أبو عبد الله البزورىّ البغدادىّ ويعرف بابن أبى عوف، كان إماما عالما محدّثا ثقة نبيلا. وفيها توفّى أحمد بن يحيى بن جابر أبو بكر وقيل أبو جعفر وقيل أبو الحسن البلاذرىّ، الكاتب البغدادىّ صاحب التاريخ، وكان أديبا مدح المأمون وجالس المتوكّل وسمع هشام بن عمّار وغيره وروى عنه جمّ غفير. وفيها توفى نصر بن أحمد ابن أسد بن سامان، كان سامان مع أبى مسلم الخراسانىّ صاحب الدعوة وكان ينسب الى الأكاسرة، فمات سامان وبقى ابنه أسد «1» . وتوفّى أسد في خلافة الرشيد وخلّف ابنه نوحا وأحمد ويحيى وإلياس، فولى أحمد بن أسد فرغانة، ونوح سمرقند،

(3/83)


ويحيى الشاش «1» وأشروسنة «2» ، وولى إلياس هراة؛ وكان أحمد والد نصر هذا أحسنهم سيرة، ومات في أيام عبد الله بن طاهر بن الحسين، وخلّف سبعة بنين، منهم نصر ابن أحمد هذا، فولّى نصر ولايات أبيه مثل سمرقند والشاش وفرغانة، وولّى أخوه إسماعيل بحارى وأعمالها؛ وهؤلاء يسمّون السامانيّة وهم عدّة ملوك، ولهذا أوضحنا أصلهم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وإصبع ونصف، مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 280]
السنة العاشرة من ولاية خمارويه على مصر، وهى سنة ثمانين ومائتين- فيها فتح محمد بن أبى السّاج مراغة «3» بعد حصار طويل وأخذ منها مالا كثيرا. وفيها غزا إسماعيل بن أحمد بلاد الترك من وراء النهر وأسر ملكها وزوجته وأسر عشرة آلاف وقتل مثلهم. وفيها شكا الناس إلى الخليفة المعتضد ما يقاسون

(3/84)


من عقبة حلوان «1» من المشقّة، فبعث عشرين ألف دينار فأصلحها. وفيها بنى المعتضد القصر الحسنىّ «2» الذي صار دار الخلافة ببغداد الى آخر وقت؛ وتحوّل إليه المعتضد وسكنه. وفيها حج بالناس محمد «3» بن عبد الله بن محمد العباسىّ. وفيها توفى جعفر المفوّض ابن الخليفة المعتمد على الله أحمد في شهر ربيع الآخر، وكان محبوسا في دار المعتضد لا يراه أحد، وقيل: إنّ المعتضد نادمه في خلوته وصار يكرمه. وفيها توفى عثمان بن سعيد بن خالد الحافظ أبو سعيد الدّارمىّ نزيل هراة، رحل الى الأمصار ولقى الشيوخ وجالس الإمام أحمد بن حنبل وابن معين والحفّاظ، حتى قالوا: ما رأينا مثله ولا رأى هو مثل نفسه، وكان لا يحدّث من يقول بخلق القرآن.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وثمانى أصابع، مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.

(3/85)


*** [ما وقع من الحوادث سنة 281]
السنة الحادية عشرة من ولاية خمارويه على مصر، وهى سنة إحدى وثمانين ومائتين- فيها أرسل خمارويه طغج بن جفّ الى غزو الروم فتوجّه من طرسوس حتى بلغ طرابزون «1» وفتح ملورية «2» في جمادى الآخرة. وفيها غارت المياه بالرّىّ وطبرستان فصار الماء يباع ثلاثة أرطال بدرهم، وغلت الأسعار وقحط الناس وأكل بعضهم بعضا، حتى أكل رجل ابنته. وفيها توفى ابن أبى الدّنيا واسمه عبد الله بن محمد أبو بكر القرشىّ البغدادىّ مولى بنى أميّة، ولد سنة ثمان ومائتين، وكان مؤدّبا «3» لجماعة من أولاد الخلفاء منهم المعتضد وابنه المكتفى، وكان عالما زاهدا ورعا عابدا وله التصانيف الحسان، والناس بعده عيال عليه في الفنون التى جمعها، وروى عنه خلق كثير، واتفقوا على ثقته وصدقه وأمانته. وفيها توفى أبو بكر عبد الله بن محمد بن النعمان الأصبهانىّ الإمام المتقن.
وفيها توفى الإمام الفقيه محمد بن إبراهيم بن الموّاز المالكىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء، مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 282]
السنة الثانية عشرة من ولاية خمارويه على مصر- فيها مات- وهى سنة اثنتين وثمانين ومائتين- فيها في المحرّم أمر المعتضد بتغيير نوروز العجم الذي هو افتتاح الخراج

(3/86)


وأخّره إلى حادى عشر حزيران وسمّاه النّوروز المعتضدىّ، وقصد بذلك الرّفق بالرعيّة، ومنع الناس ما كانوا يعملونه في كل سنة من إيقاد النّيران وصبّ الماء على الناس، فكان ذلك من أحسن أفعال المعتضد. وفيها لليلتين خلتا من المحرّم قدم ابن الجصّاص بقطر النّدى بنت خمارويه صاحب الترجمة إلى بغداد فأنزلت في دار صاعد، وكان المعتضد غائبا بالموصل، فلمّا سمع بقدومها عاد الى بغداد ودخل بها فى خامس شهر ربيع الأوّل بعد أن عمل لها مهمّا يتجاوز الوصف. وفيها قتل خمارويه صاحب الترجمة وقد نقدّم ذكر مقتله في ترجمته. وفيها توفى عبد الرّحمن ابن عمرو بن عبد الله بن صفوان بن عمرو الحافظ أبو زرعة النّصرىّ «1» الدّمشقىّ، كان من أئمة الحفّاظ، رحل إلى البلاد وكتب الكثير حتى صار شيخ الشام وإمام وقته، وكتب عنه خلائق؛ وكانت وفاته بدمشق في جمادى الآخرة. وفيها توفى محمد «2» ابن الخليفة جعفر المتوكّل عمّ المعتضد، وكان فاضلا شاعرا وهو القائل لمّا أراد أخوه المعتمد الخروج إلى الشام والدنيا مضطربة:
أقول له عند توديعه ... وكلّ بعبرته مبلس
لئن بعدت عنك أجسامنا ... لقد سافرت معك الأنفس
وفيها توفى محمد بن عبد الرّحمن بن محمد بن عمارة بن القعقاع أبو قبيصة الضّبّىّ كان صالحا عابدا مجتهدا سمع من سليمان وغيره، روى عنه جماعة كثيرة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء مثل الماضية، مبلغ الزيادة أربع عشرة ذراعا واثنتان وعشرون إصبعا.

(3/87)


ذكر ولاية أبى العساكر جيش على مصر
هو أبو العساكر جيش بن أبى الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون. ولى مصر والشام بعد قتل أبيه خمارويه بدمشق في يوم سابع عشر ذى القعدة سنة اثنتين وثمانين ومائتين، فأقام بدمشق أيّاما ثم عاد الى ديار مصر، ودام بها الى أن وقع منه أمور أنكرت عليه فاستوحش الناس منه؛ وكان لمّا مات أبوه تقاعد عن مبايعته جماعة من كبار القوّاد لقلّة المال وعجزه عن أن ينعم «1» عليهم لأن أبا الجيش خمارويه كان أنفق في جهاز ابنته قطر الندى لما زوّجها للخليفة المعتضد جميع ما كان فى خزائنه، ومات بعد ذلك بمدّة يسيرة. قال بعضهم: فمات حقّا حين حاجته إلى الموت، لأنه لو عاش أكثر من هذا حتى يلتمس ما كانت جرت عادته به لاستصعب ذلك عليه، ولو نزلت به ملمّة لافتضح. انتهى.
ولّما تقاعد كبار القوّاد عن بيعة جيش تلطّف بعض «2» القوّاد في أمره حتى تمّت البيعة، وبايعوه وهو صبىّ لم يؤدّبه الزمان، ولا محنه التجارب والعرفان؛ وقد قيل: «بعيد نجيب ابن نجيب من نجيب» .
فلما تمّ أمر جيش المذكور أقبل على الشّرب واللهو مع عامّة أوباش، منهم:
غلام رومىّ لا وزن له ولا قيمة يعرف ببندقوش، ورجلان من عامّة العيّارين «3» الذين يحملون الحجارة الثّقال والعمد الحديد ويعانون الصّراع، أحدهما يعرف بخضر، والثانى يعرف بابن البوّاش، وغير هؤلاء من غلمان لم يكن لهم حال، جعلهم بطانته؛ فأوّل شىء حسّنوه له أن وثّبوه على عمّه أبى العشائر «4» ، فقالوا له: هذا يرى نفسه أنه هو

(3/88)


الذي ردّ الدولة يوم الطواحين «1» لمّا انهزم أبوك، وكان يقرّع أباك بهزيمته يومئذ ويذيع ذلك عند خاصّته. ويقولون «2» أيضا: إنه هو الذي همّ «3» بالوثوب حتى صنع أهل برقة فيه ما صنعوا، ويتلفّت الى أهل برقة ويرى أنهم أعداؤه، ويتربّص بهم أن تدول له دولة فيأخذ بثأره «4» منهم، فهو يتلمّظ «5» إلى الدولة والى ما في نفسه مما ذكرناه والمنايا تتلمّظ إليه كما قال الشاعر:
تلمّظ السيف من شوق إلى أنس ... والموت يلحظ والأقدار تنتظر
فعند ذلك قبض عليه جيش هذا ودسّ إليه من قتله، ثم قال عنه: إنه مات حتف أنفه؛ وتحقّق الناس قتله فنفرت القلوب عنه أيضا، لكونه قتله بغيا عليه وتعدّيا. ثم اشتغل بعد ذلك جيش بهذه الطائفة المذكورة عن حقوق قوّاد أبيه وعن أحوال الرعيّة، وكانت القوّاد أمراء شدادا يرون أنفسهم بعينها «6» فى التقديم والرياسة والشجاعة، وإنما كان قيّدهم «7» أبوه خمارويه بجميل أفعاله وكريم مقدّماته اليهم ولسعة الإفضال عليهم، وهم مثل خاقان المفلحى «8» ، ومحمد بن إسحاق بن كنداج «9» ،

(3/89)


ووصيف بن سوار تكين «1» ، وبندقة بن لمجور «2» ، وأخيه محمد بن لمجور، وابن قراطغان «3» ، ومن أشبههم. ثم انتقل من هذا إلى أن صار إذا أخذ منه النبيذ يقول لطائفته التى ذكرناها واحدا بعد واحد: غدا أقلّدك موضع فلان وأهب لك داره وأسوّغك نعمته، فأنت أحقّ من هؤلاء الكلاب؛ كلّ ذلك ومجالسه تنقل إليهم. فعند ذلك بسط القوّاد ألسنتهم فيه، وشكا القوّاد بعضهم إلى بعض ما يلقونه منه، فقالوا:
نفتك به ولا نصبر له على مثل هذا، وبلغه الخبر فلم يكتمه ولم يتلاف القضيّة ولا شاور من يدلّه على مداواة «4» أمره، بل أعلن بما بلغه عنهم وتوعّدهم، وقال:
لأطلقنّ الرجّالة عليهم ولأفعلنّ بهم؛ فاتصلت بهم مقالته فاعتزل من عسكره كبار القوّاد من الذين سمّيناهم، مثل ابن كنداج وطبقته، وخرجوا في خاصّة غلمانهم وهى زهاء ثلثمائة غلام، وساروا على طريق أيلة «5» وركبوا جبل «6» الشّراة حتى وصلوا إلى الكوفة، بعد أن نالهم في طريقهم كدّ شديد ومشقّة، وكادوا أن يهلكوا عطشا، واتصلت أخبارهم بالخليفة المعتضد ببغداد فوجّه إليهم بالزاد والميرة والدوابّ، وبعث إليهم من يتلقّاهم وقبلهم أحسن قبول وأجزل جوائزهم وضاعف أرزاقهم، وخلع عليهم وصنع في أمرهم كلّ جميل. والمعتضد هذا هو صهر جيش صاحب

(3/90)


الترجمة وزوج أخته قطر النّدى المقدّم ذكرها في ترجمة أبيها خمارويه. واستمرّ جيش هذا مع أوباشه بمصر، وبينما هو في ذلك ورد عليه الخبر بخروج طغج بن جفّ أمير دمشق عن طاعته، وخروج ابن طغان «1» أمير الثغور أيضا، وأنهما خلعاه جميعا وأسقطا اسمه من الدعوة والخطبة على منابر أعمالهم، فلم يكر به ذلك ولا استشنعه ولا رئى له على وجهه أثر. فلمّا رأى ذلك من بقى من غلمان أبيه بمصر مشى بعضهم إلى بعض وتشاوروا في أمره، فاجتمعوا على خلعه، وركب بعضهم وهجم عليه غلام لأبيه خزرىّ يقال له برمش «2» ، فقبض عليه وهمّ بقتله ثم كفّ عنه؛ فلمّا كان من الغد اجتمع القوّاد في مجلس من مجالس دار أبيه، وتذاكروا أفعاله وأحضروا معهم عدول البلد، وأعادوا لهم أخباره، وقالوا لهم: ما مثل هذا يقلّد شيئا من أمور المسلمين؛ وأحضروه لأن جماعة من غلمان أبيه- يعنى مماليكه- قالوا: لا نقلّد غيره حتى يحضر ونسمع قوله، فإن وعد برجوع وتاب من فعله أمهلناه وجرّبناه، وإن أقرّ بعجزه عن حمل ما حمل وجعلنا في حلّ من بيعته بايعنا غيره على يقين وعلى غير إثم؛ فأحضروه فاعترف أنه يعجز عن القيام بتدبير الدولة وأنه قد جعل من له فى عنقه بيعة في حلّ، وعمل بذلك محضر شهد فيه عدول البلد ووجوهه ومن حضر من القوّاد والغلمان- أعنى المماليك- وصرفوه؛ وكان قبل القبض عليه ركبوا إلى أبى جعفر ابن أبىّ «3» وقالوا له: أنت خليفة أبيه وكان ينبغى لك أن تؤدّبه وتسددّه؛ فقال لهم: قد تكلمت جهدى، ولكن لم يسمع منّى، وبعد فتقدّمونى إليه فتسمعون ما أخاطبه به،

(3/91)


فتقدّموه وركب من داره فلما جاوز داره قليلا لقيه برمش فضرب بيده على شكيمة فرسه، وقال له: أنت خليفة أبيه وخليفته، ونصف ذنبه لك، وجرّه جرّا؛ وبينما هو في ذلك إذ أقبل علىّ بن أحمد فقبض على الآخر وقال له: أنت وزيره وكاتبه وعليك ذنبه، لأنه كان يجب عليك تقويمه وتعريفه ما يجب عليه، فصعد بالاثنين جميعا الى المنظر وقعد معهما كالملازم «1» ، وبينهما هو على ذلك إذ خطر على قلبه شىء، فقام الى دابته وتركهما ومضى نحو باب المدينة، فوثب من فوره ابن أبىّ «2» الى دابّته وركبها وقال لعلىّ ابن أحمد: اركب والحقنى، وحرّك دابّته فإنه كان أحسّ الموت، ثم جاءه الخلاص من الله؛ وركب بعده علىّ بن أحمد، فلم يتحاوز المنظر حتى لحقه طائفه من الرّجّالة فقتلوه؛ ومرّ ابن أبىّ إلى نحو المعافر «3» فتكمّن هناك واختفى؛ وعاد برمش فلم يجد ابن أبىّ، فمضى من فوره وهجم على جيش وقبض عليه، حسبما ذكرناه من خلعه وحبسه. وورّى جثّة علىّ بن أحمد؛ وسلم ابن أبىّ. فقال بعضهم في علىّ بن أحمد:
أحسن الى الناس طرّا ... فأنت فيهم معان
واعلم بأنك يوما ... كما تدين تدان
وقيل في أمر جيش المذكور وجه آخر، وهو أنه لمّا وقع من أمر القوّاد ما وقع خرج أبو العساكر جيش الى متنزّه له بمنية الأصبغ «4» غير مكترث بما وقع له، وبينما هو في ذلك ورد عليه الخبر بوثوب الجند عليه، وقالوا له: لا نرضى بك أبدا

(3/92)


فتنحّ عنّا حتى نولّى عمّك نصر بن أحمد بن طولون؛ فخرج اليهم كاتبه علىّ بن أحمد الماذرائىّ، الذي تقدّم ذكر قتله، وسألهم «1» أن ينصرفوا عنه يومهم فانصرفوا؛ فقام جيش المذكور من وقته ودخل على عمّه نصر وكان في حبسه فضرب عنقه وعنق عمّه الآخر، ورمى برأسيهما «2» الى الجند، وقال: خذوا أميركم؛ فلما رأوا ذلك هجموا عليه وقتلوه وقتلوا أمّه معه ونهبوا داره وأحرقوها وأقعدوا أخاه هارون بن خمارويه فى الإمرة مكانه. ثم طلب علىّ بن أحمد الماذرائىّ كاتبه المقدّم ذكره وقتلوه، وقتلوا أيضا بندقوش وابن البواش، ونهبت دار جيش؛ قوقع في أيدى الجند من نهبها ما يملأ قلوبهم وعيونهم، حتى إنّ بعضهم من كثرة ما حصل له ترك الجنديّة وسكن الريف، وصار من مزارعيه وتجّاره. وقال العلامة شمس الدين يوسف ابن قزأوغلى في مرآة الزمان وجها آخر في قتل جيش هذا، فقال: ولى إمرة دمشق بعد موت أبيه بمدّة يسيرة، ثم خرج الى مصر في هذه السنة- يعنى سنة ثلاث «3» وثمانين ومائتين- واستعمل على دمشق طغج بن جفّ؛ فلما دخل الى مصر لم يرض به أهلها، وقالوا: نريد أبا العشائر هارون؛ فوثب عليه هارون فقتله في جمادى الآخرة، وكانت ولايته خمسة «4» أشهر، واستولى على مصر.
قال ربيعة بن أحمد بن طولون: لما قتل أخى خمارويه ودخل ابنه جيش مصر قبض علىّ وعلى عمّيه نصر وشيبان ابنى أحمد بن طولون، وحبسهما في حجرة معى في الميدان، وكان كلّ يوم تأتينا المائدة عليها الطعام فكنّا نجتمع عليها؛ فجاءنا

(3/93)


يوما خادم، فأخذ أخانا نصرا فأدخله بيتا، فأقام خمسة أيام لا يطعم ولا يشرب والباب عليه مغلق؛ فدخل علينا ثلاثة من أصحاب جيش وقالوا: أمات أخوكما؟ فقلنا: لا ندرى، فدخلوا عليه البيت فرماه كلّ واحد منهم بسهم في مقتل فقتلوه، وكانت ليلة الجمعة [فأخرجوه «1» ] ثم أغلقوا علينا الباب، وبقينا يوم الجمعة ويوم السبت لم يقدّم «2» إلينا طعام، فظننا أنهم يسلكون بنا مسلك أخينا؛ فلما كان يوم الأحد سمعنا صراخا فى الدار، وفتح باب الحجرة علينا وأدخل علينا جيش بن خمارويه، فقلنا: ما حالك؟
فقال: غلبنى أخى هارون على البلد وتولّى الإمارة؛ فقلنا: الحمد لله [الذي «3» ] قبض يدك وأضرع خدّك! فقال: ما كان عزمى إلا أن ألحقكما [بأخيكما «4» ] . ثم جاء الرسول وقال: الأمير هارون قد بعث اليكما بهذه المائدة، وكان في عزم جيش أن يلحقكما بأخيكما نصر، فقوما إليه فاقتلاه وخذا بثأركما منه وانصرفا على أمان؛ قال: فلم نقتله وانصرفنا الى منازلنا، وبعث هارون خدما «5» فقتلوه وكفينا أمر عدوّنا. انتهى كلام أبى المظفّر.
قلت: وكان خلع جيش لعشر خلون من جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين، وكانت ولايته ستة «6» أشهر واثنى عشر يوما، وقتل في السجن بعد خلعه بأيام يسيرة.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 283]
السنة التى حكم في أوّلها جيش بن خمارويه على مصر، على أنه حكم من الماضية شهرا وأياما، وهذه السنة سنة ثلاث وثمانين ومائتين- فيها قدم رسول عمرو بن

(3/94)


الليث الصفّار على الخليفة المعتضد العباسىّ من خراسان بالهدايا والتّحف؛ وفيها مائتا جمل «1» ومائتا حمارة؛ ومن الطرائف شىء كثير، منها: صنم على خلقة امرأة كان قوم من الهند في مدينة يقال لها" أيل شاه" كانوا يعبدونها. وفيها خرج جماعة من قوّاد مصر الى المعتضد، منهم محمد بن إسحاق وخاقان البلخىّ «2» وبدر بن جفّ؛ وسبب قدومهم الى المعتضد أنهم كانوا أرادوا أن يقتلوا جيش بن خمارويه المذكور فسعى بهم إليه وكان راكبا [وكانوا «3» ] فى موكبه، وعلموا أنه قد علم بهم، فخرجوا من وقتهم وسلكوا البرّيّة وتركوا أموالهم وأهاليهم، فتاهوا أيّاما ومات منهم جماعة من العطش، ثم خرجوا على طريق الكوفة؛ فبلغ [أمرهم] الخليفة المعتضد فأرسل اليهم الأطعمة والدوابّ، ثم وصلوا بغداد فأكرمهم المعتضد وقرّبهم. وفيها توفّى إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم أبو إسحاق الثّقفىّ السّرّاج النيسابورىّ، كان الإمام أحمد بن حنبل يزوره في منزله «4» لزهده وورعه. وفيها توفّى سهل بن عبد الله بن يونس أبو محمد التّسترىّ أحد المشايخ، ومن أكابر القوم والمتكلّم في علوم الإخلاص والرياضات «5» وكان كبير الشأن. وفيها توفّى صالح بن محمد بن عبد الله الشيخ أبو الفضل الشّيرازىّ «6» البغدادىّ، كان رجلا صالحا، ختم القرآن أربعة آلاف مرة. وفيها توفّى عبد الرّحمن ابن يوسف بن سعيد «7» بن خراش أبو محمد الحافظ البغدادى، أقام بنيسابور مدّة مستفيدا من محمد بن يحيى الذّهلىّ وغيره وسمع منه جماعة، وكان أوحد زمانه وفريد عصره.

(3/95)


وفيها توفّى علىّ بن العبّاس بن جريح أبو الحسن الشاعر المشهور المعروف بابن الرومى مولى عبيد الله «1» بن عيسى بن جعفر؛ كان فصيحا بليغا، وهو أحد الشعراء المكثرين في الغزل والمدح والهجاء. قال صاحب المرآة: إنه مات في هذه السنة.
وقال ابن خلّكان: توفّى ليلة الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى سنة ثلاث «2» وثمانين، وقيل: أربع وثمانين، وقيل: سنة ستّ وسبعين. وهذه الأقوال أثبت من قول صاحب المرآة. انتهى. ومن شعره ولم يسبق إلى هذا المعنى:
آراؤكم ووجوهكم وسيوفكم ... فى الحادثات إذا دجون نجوم
منها معالم للهدى ومصابح ... تجلو الدّجى والأخريات رجوم
وله من قصيدة:
وإذا امرؤ مدح امرأ لنواله ... وأطال فيه فقد أراد هجاءه
ويحكى أنّ لائما لامه وقال له: لم لا تشبّه تشبيه ابن المعتز وأنت أشعر منه؟
قال له: أنشدنى شيئا من شعره أعجز عن مثله؛ فأنشده صفة الهلال:
فانظر إليه كزورق من فضّة ... قد أثقلته حمولة من عنبر
فقال ابن الرومى: زدنى، فأنشده:
كأنّ آذريونها «3» ... والشمس فيه كاليه
مداهن من ذهب ... فيها بقايا غاليه

(3/96)


فقال ابن الرّومى: وا غوثاه! لا يكلّف الله نفسا إلّا وسعها، ذلك إنما يصف ماعون بيته لأنه ابن الخلفاء، وأنا مشغول بالتصرّف في الشعر وطلب الرزق به، أمدح هذا مرّة، وأهجو هذا كرّة، وأعاتب هذا تارة، وأستعطف هذا طورا. انتهى.
وفيها توفّى علىّ بن محمد بن عبد الملك بن أبى الشوارب الأموىّ البصرىّ قاضى القضاة أبو الحسن، كان ولى القضاء بسرّمن رأى، وكان عالما عفيفا ثقة. وفيها توفّى الوليد بن عبيد بن يحيى [بن عبيد «1» ] بن شملال، أبو عبادة الطائىّ البحترىّ الشاعر المشهور، أحد فحول الشعراء وصاحب الديوان المعروف به، كان حامل لواء الشعر فى عصره، مدح الخلفاء والوزراء والملوك، وأصله من أهل منبج «2» وقدم دمشق صحبة المتوكّل، ووصل الى مصر الى خمارويه. حكى أن المتوكّل قال له يوما: يا بحترىّ، قل في راح بيت شعر ولا تصرح باسمه؛ فقال:
جاز «3» بالودّ فتى أم ... سى رهينا بك مدنف
اسم من أهواه في ... شعرى مقلوب مصحّف
ومن شعره في المتوكّل أيضا من قصيدة:
فلو «4» انّ مشتاقا تكلّف غير ما ... فى وسعه لسعى اليك المنبر

(3/97)


فلمّا تخلف المستعين قال: لا أقبل إلا ممّن قال مثل هذا؛ قال أبو جعفر أحمد بن يحيى البلاذرىّ «1» فأنشدته:
ولو أنّ برد المصطفى إذ لبسته ... يظنّ لظنّ البرد أنك صاحبه
وقال وقد أعطيته «2» ولبسته ... نعم هذه أعطافه ومناكبه
وله:
شكرتك إنّ الشكر «3» للعبد نعمة ... ومن شكر المعروف فالله زائده
لكل زمان واحد يقتدى به ... وهذا زمان أنت لا شك واحده
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى سهل بن عبد الله التّسترىّ الزاهد، والعباس بن الفضل الأسفاطىّ، وعلى بن محمد بن عبد الملك ابن أبى الشوارب القاضى، ومحمد بن سليمان الباغندى.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وإصبعان، مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
ذكر ولاية هارون بن خمارويه على مصر
هو الأمير أبو موسى هارون بن خمارويه بن أحمد بن طولون التركىّ الأصل المصرىّ المولد. ولى مصر بعد قتل أخيه جيش بن خمارويه في اليوم العاشر من

(3/98)


جمادى الآخرة سنة ثلاث وثمانين ومائتين، وتمّ أمره وكانت بيعته من غير عطاء للجند، وهو من الغرائب، وبايعوه طوعا أرسالا «1» ولم يمتنع عليه أحد، وجعلوا أبا جعفر ابن أبّى خليفته والمؤيّد لأمره ولتدبيره؛ وسكنت ثائرة الحرب وقرّ قرار الناس وقتل غالب أصحاب جيش ولم يسلم منهم إلا عبد الله بن الفتح، واستتر أبو عبد الله «2» القاضى خوفا من مثل مصرع على بن أحمد لأنه يعلم ما كان له في نفوس الناس، وما ظهر إلا في اليوم الذي دخل فيه محمد بن سليمان البلد، وقلّد القضاء بعده أبو زرعة محمد بن عثمان من أهل دمشق، وأخرج جيش بعد أيام ميّتا، ثم بعد أيام أمر أبو جعفر بن أبّى ربيعة بن أحمد بن طولون أن يخرج الى الإسكندرية فيسكنها هو وولده وحريمه ويبعد عن الحضرة، فتوجّه الى الإسكندرية وأقام بها على أجمل وجه الى أن حرّكه أجله، وكاتبه قوم ووثّبوه وقالوا له: أنت رجل كامل مكمّل التدبير، وقد تقلّدت البلدان وأحسنت سياستها، ولو كشفت وجهك لتبعك أكثر الجيش؛ فأطاعهم وأقبل ركضا فسبق من كان معه، فلم يشعر الناس به إلا وهو بالجبل المقطم «3» وحده ومعه غلام له نوبىّ وبيده مطرد «4» ينشد الناس لنفسنه «5» ويدعوهم إلى ما كاتبوه؛ واتّصل خبره بابن أبّى فبعث النقباء الى الناس وأمرهم بالركوب، فركب الناس وأقبلوا يهرعون من كلّ جانب. ونزل ربيعة مدلّا بنفسه وكان من

(3/99)


الفرسان طمعا فيمن بقى له ممّن كاتبه، فلم يأته أحد وسار وحده وفرّ عنه من كان معه أيضا، وبقى كاللّيث يحمل على قطعة قطعة فينقضها وتنهزم منه، حتى برز له غلام أسود خصىّ يعرف بصندل المزاحمى- مولى مزاحم بن خاقان الذي كان أميرا على مصر، وقد تقدّم ذكره- فحمل عليه ربيعة فرمى صندل بنفسه الى الأرض وقال له:
بتربة «1» الماضى، فكفّ عنه وقال له: امض الى لعنة الله، ثم برز إليه غلام آخر يعرف بأحمد غلام الكفتىّ- والكفتىّ أيضا كان من جملة قوّادهم- فحمل عليه ربيعة فقتله، وأقبل ربيعة يحمل على الناس ميمنة وميسرة ويحملون عليه بأجمعهم فيكدّونه ويردّونه الى الصحراء ثم يرجع عليهم فيردّهم الى موضعهم؛ فلم يزل هذا دأبّة الى الزوال فتقطّر «2» عن فرسه فأكبّوا عليه ورموا بأنفسهم عليه حتى أخذوه مقانصة فاعتقل «3» يومه ذلك؛ فلما كان من الغد أمر أن يضرب مائة سوط ووكّل به الكفتىّ القائد ليأخذه بثأر غلامه، فكان الكفتىّ يحضّ الجلّادين ويصيح عليهم ويأمرهم بأن يوجعوا ضربه حتى استرخى، وقيل: إنه مات، فقال الكفتىّ: هيهات! لجم البقر لا ينضج سريعا! فضرب أسواطا بعد موته ثم أمر به فدفن في حجرة بقرب من بئر الجلودىّ ومنع أن يدفن مع أهله. فلما كان من غد يوم دفنه بلغ سودان أبيه أن الكفتىّ قال: لحم البقر لا ينضج سريعا، وأنه ضربه بعد أن مات أسواطا، فغاظهم ذلك وحرّكهم عليه وزحفوا الى داره، وبلغه الخبر فتنحّى عنها، فجاءوا داره فلم يجدوه فنهبوا داره ولم يكن له علم بذلك، فأخذوا منها شيئا كثيرا حتى تركت حرمته عريانة فى البيت لا يواريها شىء، ورجع الكفتىّ الى داره فرأى نعمته قد سلبت وحرمته قد هتكت، فدخل قلبه من ذلك حسرة فمات كمدا «4» بعد أيام.

(3/100)


وثبت ملك هارون هذا وهو صبىّ يدبّر ولا يحسن [أن] يدبّر، والأمر كلّه مردود الى أبى جعفر بن أبىّ يدبّر كما يرى. فلما رأى غلمان أبيه الكبار الأمر كلّه لأبى جعفر، وهم بدر وفائق وصافى. قبض كلّ منهم على قطعة من الجيش وحازها لنفسه وجعلها مضافة له يطالب عنهم ما يستحقّونه من رزق وجراية وغيرها، وسأل أن يكون ما لهم محمولا الى داره يتولّى هو عطاءهم، فصار عطاء «1» كل طائفة من الجند الى دار الذي صارت في جملته وصاروا له كالغلمان. ثم خرج بدر القائد والحسن بن أحمد الماذرائىّ الى الشأم فأصلحوا أمرها، واستخلفوا على دمشق من قبل هارون المذكور الأمير طغج؛ ابن جفّ، وقرّروا جميع أعمال الشامات «2» ثم عادوا الى مصر. ثم حجّ بدر المذكور فى السنة وأظهر زيّا حسنا وأنفق نفقة كثيرة وأصلح من عقبة «3» أيلة جرفا كبيرا.
ولمّا كان في السنة المقبلة حجّ فائق فزاد في زيّه ونفقاته على كلّ ما فعله بدر؛ وكان دأبهم المنافسة في حسن الزّىّ وبسط اليد بالإنفاق في وجوه البرّ. وبنى بدر الميضأة المعروفة به على باب الجامع العتيق، ووقف عليها القيسارية الملاصقة لها، وجعل مع الميضأة ماء عذبا في كيزان توضع في حلقة من حلق المسجد؛ وكان صاحب صدقات بدر رجل يعرف بالليث بن داود، فكان الشخص يرى المساكين زمرا زمرا يتلو بعضهم بعضا ينادون في الطريق: دار الليث، دار الليث! فيعطيهم الليث الدراهم واللحم المطبوخ ويكسوهم في الشتاء الجباب الصوف ويفرّق فيهم الأكسية؛ وتمّ ذلك أيام حياة بدر كلّها؛ وكان لصافى وفائق أيضا أعمال مثل

(3/101)


ذلك وأكثر. قال محمد بن عاصم العمرىّ- وكان من علماء الناس- قال:
صرت الى مصر فلم يحتف «1» بى أحد غير أبى موسى هارون بن محمد العباسىّ، فصار يحضر لى مائدة ويباسطنى في محادثته، وحملنى ذلك على أن استحييته، فقال لى:
أنا أعرف بصدقك فيما ذكرت وليس يرضينى لك ما ترى، لأن [هذه] أشياء تقصر عن مرادى، ولكنى سأقع «2» لك على موضع يرضيك ويرضينى فيك؛ ودام على ذلك مدّة لا يقطع عنّى عادته؛ الى أن توفّى لها رون صاحب مصر ولد صغير، فبادر هارون بإخراجه والصلاة عليه وصرنا به الى الصحراء، فما وضع عن أعناق حامليه حتى أقبل موكب عظيم فيه بدر وفائق وصافى موالى أبى الجيش خمارويه، ومحمد بن أبّى وجماعة، فقالوا: نصلّى عليه؛ فقال هارون: قد صلّيت عليه؛ فقالوا: لا بدّ أن نصلّى عليه؛ فقال هارون بن محمد العباسىّ: ادعوا الىّ محمد بن عاصم العمرىّ، وكنت فى أخريات الناس، فلم يزالوا قياما ينتظروننى حتى أتيت؛ فقال لى: صلّ بهم، فصلّيت بهم؛ وانصرفنا «3» ؛ فلمّا كان بعد يومين قال لى: قد عرّفت بك هؤلاء القوم فامض اليهم فإنّك تنال أجرا كبيرا؛ قال: فصرت الى أبوابهم وسلّمت عليهم، فلم يمض أقلّ من شهر حتى نالنى منهم مال كثير وحسنت حالى الى الغاية، ثم ذكر عن هؤلاء القوم من هذه الأشياء نبذا «4» كثيرة.
وأمّا أمر هارون صاحب الترجمة فانه لمّا تمّ أمره صار «5» أبو جعفر بن أبىّ هو مدبّر مملكته، وكان أبو جعفر عنده دهاء ومكر فبقى في قلبه [أثر «6» ] مما فعله برمش

(3/102)


من يوم خلع جيش وقتل علىّ بن أحمد، وكان من القوّاد رجل يعرف بسمجور قد قلّد حجابة «1» هارون، فبسط لسانه في ابن أبّى المذكور وحرّك عليه القوّاد؛ وبلغ ذلك ابن أبّى فقال لهارون: احذر سمجور هذا، وهارون صبىّ فلم يتحمّل ذلك؛ ودخل القوّاد في شهر رمضان يفطرون عنده وكان سمجور فيهم؛ فلما نجز أمرهم وخرجوا استقعد سمجور وقال له: يا سمجور، أنت مدسوس إلىّ وأنا مدسوس اليك وتريد كيت وكيت، وغمز غلمانه عليه فقبضوا عليه واعتقله في خزانة من خزائنه فكان ذلك آخر العهد به. وأما برمش فانّ أبا جعفر بن أبىّ خلا به وقال له: ويحك! ألا ترى ما نحن فيه مع هؤلاء القوم! انقلبت الدولة روميّة ما لنا معهم أمر ولا نهى.
وكان برمش خزريّا أحمق، فبسط لسانه في بدر وغيره من الأروام، فنقل اليهم.
وكان بدر أخلاقه كريمة، وكان من أحسن خلقه أنّ الرجل إذا قبّل فخذه يقبّل هو رأس الرجل؛ فدسّ له برمش غلاما فوقف له على الباب، فلمّا خرج بدر أقبل عليه الغلام وقبّل فخذه فانكبّ بدر على رأسه، فضربه الغلام في رأسه فشجّه، وقبض على الغلام الأسود، فقال: دسّنى برمش؛ فغضب له الناس وركبوا قاصدين دار برمش، فعرف برمش الأمر فركب لحماقته وأمر غلمانه وحواشيه فركبوا وخرجوا الى الموضع المعروف ببئر برمش، وكان هو الذي احتفرها وبناها وصفّ هناك مماليكه؛ فركب في الحال ابن أبّى لما في نفسه من برمش قديما وقد تمّ له ما دبّره عليه، وقال لهارون: هذا غلامك برمش قد خرج عليك فأرسل بالقبض عليه، ثم قال:
الصواب أن تخرج بنفسك إليه في مماليكك وتبادر الأمر قبل أن يتّسع ويعسر أمره؛ فركب هارون في دسته فلم يبق أحد إلا ركب بركوبه؛ فلما رأى برمش ذلك تأهب لقتالهم وأخذ قوسه وبادر أن يرمى به؛ فقالوا له: مولاك، ويلك!

(3/103)


مولاك الأمير! فقال: أرونى إن كان هو مولاى لم أقاتله، وإن كان هؤلاء «1» الأروام أقاتلهم كلّهم ونموت جميعا: فلما رأى الأمير هارون رمى بنفسه عن دابّته إلى الأرض، فغمز ابن أبىّ الرّجّالة عليه فتعاوروه «2» بأسيافهم حتى قتل، ونهبت داره؛ ورجع هارون إلى دار الإمارة. ثم بعد مدّة قدّم هارون القائد لحجا وكان من أصاغر القوّاد لأبى الجيش خمارويه، وبلّغه مراتب غلمان أبيه الكبار. فغاظ ذلك بدرا وصافيا وفائقا لأنهم كانوا يرون تفوسهم أحقّ بذلك منه، ثم بعد ذلك نفى هارون صافيا الى الرملة فتأكّدت الوحشة بينهم وبين هارون؛ وبينما هم في ذلك أتاهم الخبر أنّ رجلا «3» يزعم أنه علوىّ قد ظهر بالشأم في طائفة من الناس، فعاث أوّلا بنواحى الرّقّة ثم قدم الشأم، فاتصل خبره بطغج بن جفّ وهو يومئذ أمير دمشق، فتهاون به وركب إليه، وهو يظن أنه من بعض الأعراب، بغير أهبة ولا عدّة، ومعه البزاة والصّقورة كأنه خارج الى الصيد؛ فلما صافّه «4» لقيه رجلا متلهفا «5» على الشرّ لما تقدّم له من الظفر بجماعة من أعيان الملوك، فقاتله طغج فانهزم منه أقبح هزيمة ونهبت عساكره، وعاد طغج إلى دمشق مكسورا؛ فدخل قلوب الشاميّين منه فزع شديد؛ فكتب طغج إلى هارون هذا يستمدّه على قتاله؛ فأخرج إليه هارون بدرا الحمّامىّ وجماعة من القوّاد في جيش كثيف فساروا الى الشأم والتقوا مع الخارجىّ المذكور،

(3/104)


وقد لقّب بالقرمطىّ، وكان من أصحاب بدر رجل يقال له زهير، فحلف زهير المذكور بالطلاق إنه متى وقع بصره على القرمطىّ ليرمينّ بنفسه عليه وليقصدنّه حيث كان؛ فلما تصافّ العسكران سأل زهير المذكور عن القرمطىّ، فقيل له: هو الراكب على الجمل، وله كمّان طويلان يشير بهما، فحيث أومأ بكمّة «1» حملت عساكره؛ فقال زهير:
أرى على الجمل اثنين، أهو المقدّم أم الرّديف؟ قالوا: بل هو الرديف؛ فجعل زهير يشقّ الصفوف حتى وصل إليه فطعنه طعنة وقطّره «2» عن جمله صريعا؛ فلما رآه أصحابه مصروعا حملوا على المصريّين والشاميّين حملة واحدة شديدة هزموهم فيها وقتلوا منهم خلقا كثيرا، ثم أقاموا عليهم أخا القرمطىّ ورأّسوه عليهم. وأقبل زهير المذكور الى بدر الحمّامىّ فقال له: قد قتلت الرجل؛ فقال له بدر: فأين رأسه؟ فرجع ليأخذ رأسه فقتل زهير قبل ذلك؛ ثم كانت لهم بعد ذلك وقائع كثيرة والقرمطىّ فيها هو الظافر، فقتل من قوّاد المصريين وفرسانهم خلق كثير، وطالت مقاومته معهم حتى سمع بذلك المكتفى الخليفة العباسىّ وكان متيقّظا في هذا الحال يرى الإنفاق فيه سهلا ويقول: المبادرة في هذا أولى، فبادر بإرسال جيش كثيف نحوه، وجعل على الجيش محمد بن سليمان الذي كان كاتبا للؤلؤ غلام أحمد بن طولون الآتى ذكره في عدّة أماكن؛ وسار الجيش نحو البلاد الشاميّة؛ فلما أحسّ القرمطىّ بحركة محمد بن سليمان المذكور من العراق عدل عن دمشق الى نواحى حمص؛ فقتل منهم مقتلة عظيمة وسبى النساء وعاث في تلك النواحى وعظم شأنه وكثر أعوانه ودعا لنفسه وخطب على المنابر باسمه وتسمّى بالمهدىّ؛ وكان له شامة «3» زعم

(3/105)


أصحابه أنها آيته، وزعم أنّه عبد الله بن أحمد بن محمد بن إسماعيل بن جعفر الصادق ابن محمد الباقر بن علىّ زين العابدين بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب. ومن شعره فى هذا المعنى قوله:
سبقت «1» يداى يديه ... قصرته هاشمىّ المجيد
وأنا ابن أحمد لم أقل ... كذبا ولم به أستزيد
ثم بثّ القرمطىّ عمّاله في البلاد والنواحى وكاتبهم وكاتبوه. فمن رسائله الى بعض عماله:
من «2» عبد الله المهدىّ المنصور بالله، الناصر لدين الله، القائم بدين الله، الحاكم بحكم الله، الداعى لكتاب الله، الذابّ عن حرم الله، المختار من ولد رسول الله (صلى الله

(3/106)


عليه وسلم) أمير المؤمنين، وإمام المسلمين، ومذلّ المنافقين، وخليفة الله على العالمين، وحاصد الظالمين، وقاصم المعتدين، ومهلك المفسدين، وسراج المستبصرين، وضياء المبصرين. ومشتّت المخالفين، والقيّم بسنة المرسلين، وولد خير الوصيّين، صلى الله عليه وعلى آله الطاهرين [الى «1» ] جعفر بن حميد «2» الكردىّ: سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو وأسأله أن يصلّى على محمد جدّى. أما بعد، ما هو كيت وكيت. فهذه صورة مكاتبته الى الأقطار. انتهى.
وأما محمد بن سليمان الكاتب فإنّ القاسم بن عبيد الله وزير المكتفى كتب إليه بطلب القرمطىّ المذكور والجدّ في أمره، فسار محمد بن سليمان بعساكره نحوه فالتقوا بموضع دون حماة، وكان القرمطىّ قد قدّم أصحابه أمامه وتخلّف هو في نفر ومعه المال الذي جمعه، فوقع بين محمد بن سليمان وبين أصحاب القرمطىّ وقعة انهزم فيها أصحاب القرمطىّ أقبح هزيمة، وكان ذلك في المحرّم سنة إحدى وتسعين ومائتين. فلما علم القرمطىّ [ب] هزيمة أصحابه أعطى أخاه أمواله وأمره بالنفوذ الى بعض النواحى التى يأمن على نفسه فيها إلى أن يتهيّأ له ما يحب «3» ، ثم مضى هو وابن عمه المدّثّر «4» وغلام له يسمّى المطوّق وغلام «5» آخر يسمّى دليلا، وطلب القرمطىّ بهم طريق الكوفة وسار حتى انتهى الى قرية تعرف بالداليّة «6» ، وعجزوا عن زادهم

(3/107)


فدخل أحدهم الى القرية ليشترى لهم زادا «1» [فأنكروا زيّه وسئل عن أمره فمجمج «2» ، فأعلم المتولّى مسلحة هذه الناحية بخبره وهو رجل يعرف بأبى خبزة خليفة أحمد بن محمد بن كشمرد] فأقبل عليه أبو خبزة المذكور مع أحداث ضيعته فقاتله وكسره وقبض عليه وعلى من معه: فانظر الى هذا الأمر الذي عجز عنه الملوك حتى كانت منيّته على يد هذا الضعيف. ولله درّ القائل:
وقد يسلم الإنسان ممّا يخافه ... ويؤتى الفتى من أمنه وهو غافل
فقبض عليه المذكور. وكان أمير «3» هذه النواحى القاسم بن سيما، فكتب بالخبر الى الخليفة المكتفى وهو بالرّقّة، وقد كان رحل في أثر محمد بن سليمان، واتّفق مع هذا موافاة كتاب محمد بن سليمان الى القاسم بن عبيد الله بالفتح والنّصرة على القرمطىّ، ثم أحضر القرمطىّ الى بين يدى الخليفة المكتفى، فأخذه الخليفة وعاد هو ووزيره القاسم بن عبيد الله من الرّقة الى بغداد، وهو على جمل يشهر به في كلّ بلد يمرّون به، ومعه أيضا أصحاب «4» القرمطىّ، ودخل بهم بغداد وقد زيّنت بغداد بأفخر الزينة، وكان لدخولهم يوم عظيم الى الغاية. فلما كان يوم الاثنين الثالث والعشرون من شهر ربيع الأوّل جلس الخليفة مجلسا عاما، وأحضر القرمطىّ وأصحابه فقطعت أيديهم وأرجلهم ثم رمى بهم من أعلى الدكّة الى أسفل، ولم يبق منهم إلّا ذو الشامة أعنى القرمطىّ، ثم قدّم القرمطىّ فضرب بالسّوط حتى استرخى، ثم قطعت يداه ورجلاه

(3/108)


ونخس في جنبه «1» بخشب، فلمّا خافوا عليه الموت ضربوا عنقه؛ ثم حضر محمد بن سليمان وخلع عليه الخليفة المكتفى ثم خلع على القوّاد الذين كانوا معه، وهم محمد بن إسحاق بن كنداج وحسين بن حمدان وأحمد بن إبراهيم بن كيغلغ وأبو الأغرّ ووصيف، وأمرهم الجميع بالسمع والطاعة لمحمد بن سليمان. ثم أمر الخليفة محمد بن سليمان بالتوجّه الى مصر لقتال هارون بن خمارويه صاحب الترجمة، فسار محمد بن سليمان بمن معه في شهر رجب، وكتب الى دميانة غلام يا زمان وهو يومئذ أمير البحر أن يقفل بمراكبه الى مصر؛ وسار الجيش قاصدا دمشق، فلما قربوا منها تلقّاهم بدر وفائق في جميع جيشهما لما في نفوسهما من هارون حسبما قدّمناه من تقديم من تقدّم ذكره عليهما؛ وصاروا مع محمد بن سليمان جيشا واحدا؛ وساروا نحو مصر؛ فاتّصلت أخبارهم بهارون بن خمارويه هذا، فتهيأ لقتالهم وجمع العساكر وأمر بمضربه فضرب بباب المدينة بعد أن نعق «2» فى جنده وأمرهم بالتأهّب للرحيل، فاستعدّوا ثم رحلوا الى العبّاسة «3» يريدون الشأم؛ وتربّص هارون بالعبّاسة أيّاما، وكتب لبدر وفائق يستعطفهما ويذكر لهما الحرمة وما يجب عليهما من حفظ ذمام الماضين من أبيه وجدّه، وصارت كتبه صادرة اليهم والى القوّاد بذلك؛ فبينما هو [ذات] ليلة بالعباسة وقد شرب وثمل ونام آمنا في مضربه إذ وثب عليه بعض غلمانه فذبحه،

(3/109)


وقيل: إن ذلك كان بمساعدة بعض عمومته في ذلك، وأصبح الناس وأميرهم مذبوح وقد تفرّقت الظنون في قاتله؛ فنهض عمّه شيبان بن أحمد بن طولون ودعا لنفسه، وضمن للناس حسن القيام بأمر الدولة والإحسان لمن ساعده، فبايعه الناس على ذلك. انتهى. وقد ذكر بعضهم قصّة هارون هذا بطريق آخر قال: واستمرّ هارون هذا في إمرة مصر من غير منازع؛ لكن أحوال مصر كانت في أيّامه مضطربة إلى أن ورد عليه الخبر بموت الخليفة المعتضد بالله في شهر ربيع الآخر سنة تسع وثمانين ومائتين، وبويع لابنه محمد المكتفى بالخلافة. ثم خرج القرمطىّ بالشأم في سنة تسعين، فجهّز هارون لحربه القوّاد في جيش كبير فهزمهم القرمطىّ؛ ثم وقع بين هارون وبين الخليفة المكتفى وحشة وتزايدت الى أن أرسل المكتفى لحربه محمد بن سليمان الكاتب؛ فسار محمد بن سليمان من بغداد إلى أن نزل حمص وبعث بالمراكب من الثغور الى سواحل مصر وسار هو حتى نزل بفلسطين؛ فتجهّز هارون أيضا لقتال محمد ابن سليمان المذكور وسيّر المراكب في البحر لحربه وفيها المقاتلة، حتى التقوا بمراكب محمد بن سليمان وقاتلوهم فانهزموا؛ وكان القتال في تنّيس وملك أصحاب محمد بن سليمان تنّيس ودمياط؛ وكان هارون قد خرج من مصر يوم التّروية «1» لقتال محمد بن سليمان، فلما بلغه الخبر توجّه الى العبّاسة ومعه أهله وأعمامه في ضيق وجهد، فتفرّق عنه كثير من أصحابه وبقى في نفر يسير، وهو مع ذلك متشاغل باللهو والسكر؛ فاجتمع عمّاه شيبان وعدىّ ابنا أحمد بن طولون على قتله، فدخلا عليه وهو ثمل فقتلاه ليلة الأحد لإحدى عشرة بقيت من صفر سنة اثنتين وتسعين ومائتين، وسنّه يومئذ اثنتان وعشرون سنة؛

(3/110)


وكانت ولايته على مصر ثمانى سنين وثمانية أشهر وأيّاما؛ وتولّى عمّه شيبان مصر بعده.
وقال سبط ابن الجوزىّ في تاريخه: وفيها- يعنى سنة اثنتين وتسعين ومائتين- فى صفر سار محمد بن سليمان إلى مصر لحرب هارون بن خمارويه، وخرج إليه هارون فى القوّاد فجرت بينهم وقعات؛ ثم وقع بين أصحاب هارون في بعض الأيام عصبيّة، فاقتتلوا، فخرج هارون ليسكتهم فرماه بعض المغاربة بسهم فقتله وتفرّقوا؛ فدخل محمد بن سليمان مصر وملكها واحتوى على دور آل طولون وأسبابهم وأخذهم جميعا، وكانوا بضعة عشر رجلا، فقيّدهم وحبسهم واستصفى أموالهم وكتب بالفتح إلى المكتفى. وقيل: إن محمد بن سليمان لمّا قرب من مصر أرسل الى هارون يقول:
إن الخليفة قد ولّانى مصر ورسم أن تسير بأهلك وحشمك إلى بابه إن كنت مطيعا، وبعث بكتاب الخليفة إلى هارون؛ فعرضه هارون على القوّاد فأبوا عليه فخرج هارون؛ فلمّا وقع المصافّ صاح هارون: يا منصور؛ فقال القوّاد: هذا يريد هلا كنا، فدسّوا عليه خادما فقتله على فراشه وولّوا مكانه شيبان بن أحمد بن طولون؛ ثم خرج شيبان الى محمد مستأمنا. وكتب الخليفة إلى محمد بن سليمان في إشخاص آل طولون وأسبابهم والقوّاد وألّا يترك أحدا منهم بمصر والشأم؛ فبعث بهم إلى بغداد فحبسوا في دار صاعد. انتهى ما أوردناه من ترجمة هارون من عدّة أقوال بخلف وقع بينهم فى أشياء كثيرة.
وأما محمد بن سليمان المذكور فأصله كاتب الخادم لؤلؤ الطولونىّ. قال القضاعىّ:
يقال: إن أحمد بن طولون جلس يوما في بعض متنزّهاته ومعه كتاب ينظر فيه، وإذا بشابّ قد أقبل، فالتفت أحمد الى لؤلؤ الطولونىّ وقال. اذهب وأتنى برأس هذا الشابّ؛ فنزل إليه لؤلؤ وسأله من أىّ بلد هو وما صنعته؟ فقال: من العراق من أبناء الكتّاب؛ فقال له: وما أتيت تطلب؟ قال: رزقا؛ فعاد لؤلؤ إلى أحمد بن طولون؛

(3/111)


فقال له: ضربت عنقه؟ فسكت، فأعاد عليه القول فسكت؛ فاستشاط أحمد ابن طولون غيظا ثم أمره بقتله؛ فقال لؤلؤ: يا مولاى بأىّ ذنب «1» تقتله؟ فقال:
إنى أرى في هذا الكتاب «2» من منذ سنين أن زوال ملك ولدى يكون على يد رجل هذه صفته فقال: يا مولاى، أو هذا صحيح؟ قال: هذا الذي رأيته وتفرّسته؛ فقال: يا مولاى، لا يخلو هذا الأمر من أن يكون حقّا أو كذبا، فإن كان كذبا فما لنا والدخول في دم مسلم! وإن كان حقّا فلعلّنا نفعل معه خيرا علّه يكافئ به يوما، وإن كان الله قدّر ذلك فإنا لا نقدر على قتله أبدا؛ فسكت أحمد بن طولون، فأضافه لؤلؤ إليه؛ وكان هذا الشابّ يسمى محمد بن سليمان الكاتب الحنيفىّ، منسوب إلى حنيفة السّمرقندىّ، فلم تزل الأيام تنتقل بمحمد المذكور والدّهر يتصرّف فيه إلى أن بقى ببغداد قائدا من جملة القوّاد، وجرى من أمره ما تقدّم ذكره من قتال القرامطة وهارون صاحب مصر، إلى أن ملك الديار المصريّة وأمسك الطولونيّة وخرّب منازلهم، وهدم القصر المسمّى بالميدان الذي كان سكن أحمد بن طولون، وتتبّع أساسه حتى أخرب الديار ومحا الآثار، ونقل ما كان بمصر من ذخائر بنى طولون إلى العراق. وقال صاحب كتاب الذخائر: إن محمد بن سليمان المذكور رجع إلى العراق فى سنة اثنتين وتسعين ومائتين ومعه من ذخائر بنى طولون أموال عظيمة، يقال: إنّه كان معه أكثر من ألف ألف دينار عينا، وإنّه حمل إلى الخليفة الإمام المكتفى من الذخائر والحلىّ والفرش أربعة وعشرين ألف حمل جمل، وحمل آل طولون معه إلى بغداد؛ وأخذ محمد بن سليمان لنفسه وأصحابه غير ذلك ما لا يحصى كثرة. ولما وصل محمد بن سليمان إلى حلب متوجّها إلى العراق، كتب الخليفة المكتفى إلى وصيف مولى المعتضد أن يتوكّل بإشخاص محمد بن سليمان المذكور؛ فأشخصه

(3/112)


وصيف المذكور إلى الحضرة؛ فأخذه المكتفى وقيّده وصادره وطالبه بالأموال التى أخذها من مصر. ولم يزل محمد بن سليمان معتقلا إلى أن تولّى ابن الفرات للخليفة المقتدر جعفر، فأخرجه إلى قزوين «1» واليا على الضّباع والأعشار بها. يأتى ذكر محمد ابن سليمان هذا ثانيا بعد ذلك في حوادث هارون على الترتيب المقدّم ذكره بعد فى ولاية شيبان إن شاء الله تعالى.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 284]
السنة الأولى من ولاية هارون بن خمارويه على مصر، وهى سنة أربع وثمانين ومائتين- فيها كانت وقعة بين الأمير عيسى النّوشرىّ الآتى ذكره في أمراء مصر وبين بكر بن عبد العزيز بن أبى دلف، وكان قد أظهر العصيان فهزمه النّوشرىّ بقرب أصبهان واستباح عسكره. وفيها ظهرت بمصر حمرة عظيمة في الجوّ حتى إنه كان الرجل إذا نظر في وجه الرجل يراه أحمر وكذا الحيطان، فتضرّع الناس بالدعاء إلى الله، وكانت من العصر إلى الليل. وفيها بعث عمرو بن الليث بألف ألف درهم لتنفق على إصلاح درب مكّة من العراق، قاله ابن جرير الطبرىّ.
وفيها عزم المعتضد على لعن معاوية على المنابر، فخوّفه عبيد «2» الله الوزير باضطراب العامة، فلم يلتفت وتقدّم إلى العامة بلزوم أشغالهم وترك الاجتماع بالناس، ومنع القصّاص «3» من القعود في الأماكن، ثم منع من اجتماع الحلق في الجوامع، وكتب المعتضد

(3/113)


كتابا «1» فى ذلك واجتمع الناس يوم الجمعة بناء «2» على أنّ الخطيب يقرؤه فما قرئ. وفيها ظهر في دار الخليفة المعتضد شخص في يده سيف مسلول، فقصده بعض الخدّام فضربه بالسيف فجرحه واختفى في البستان، فطلب فلم يوجد له أثر؛ فعظم ذلك على المعتضد واحترز على نفسه وساءت الظنون فيه فقيل هو من الجنّ، وقيل غير ذلك؛ وأقام الشخص يظهر مرارا ثم يختفى، ولم يظهر خبره حتى مات المعتضد والمكتفى، فاذا هو خادم كان يميل إلى بعض الجوارى التى في الدور، وكانت عادة المعتضد أنه من بلغ الحلم من الخدّام منعه من الدخول الى الحرم، وكان خارج دور الحرم بستان كبير، فاتخذ هذا الخادم لحية بيضاء وبقى تارة يظهر في صورة راهب وتارة يظهر بزىّ جندىّ بيده سيف، واتخذ عدّة لحّى مختلفة الهيئات والألوان؛ فاذا ظهر خرجت الجارية مع الجوارى لتراه فيخلو بها بين الشجر، فاذا طلب دخل بين الشجر ونزع اللحية والبرنس ونحو ذلك، وخبأها وترك السيف في يده مسلولا كأنه من جملة الطالبين لذلك الشخص؛ وبقى كذلك إلى أن ولى المقتدر الخلافة وأخرج الخادم إلى طرسوس «3» ، فتحدّثت الجارية بحديثه بعد ذلك. وفيها في يوم الخميس رابع المحرّم قدم [رسول «4» ] عمرو بن الليث الصفّار على المعتضد برأس رافع بن هرثمة؛ فخلع على الرسول ونصب الرأس في جانبى «5» بغداد. وفيها وعد المنجّمون الناس بغرق الأقاليم السبعة، ويكون ذلك من كثرة الأمطار وزيادة المياه في العيون والآبار، فانقطع الغيث وغارت العيون وقلّت المياه، حتى احتاج الناس إلى أن استسقوا ببغداد حتى

(3/114)


أمطروا وكذّب الله المنجّمين. وفيها حجّ بالناس محمد بن عبد الله بن ترنجة.
وفيها توفّى أحمد بن المبارك أبو عمرو المستملى النّيسابورىّ الزاهد العابد، كان يسمّى راهب عصره، يصوم النهار ويقوم الليل، وكانت وفاته بنيسابور في جمادى الآخرة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفى إسحاق بن الحسن «1» الحربىّ «2» ، وأبو عمرو أحمد بن المبارك المستملى، وأبو خالد عبد العزيز بن معاوية القرشىّ [العتابىّ «3» ] ومحمود بن الفرج الأصبهانىّ الزاهد، وهشام بن على السّيرافىّ، ويزيد بن الهيثم أبو خالد البادىّ «4» .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وثلاث عشرة إصبعا، مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.