النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 285]
السنة الثانية من ولاية هارون على مصر، وهى سنة خمس وثمانين ومائتين-
فيها في يوم الأربعاء لاثنتى عشرة ليلة بقيت من المحرّم قطع صالح بن
مدرك الطائىّ الطريق في جماعة من طيئ على الحجّاج [بالأجفر «5» ] ،
فأخذوا من الأموال والمماليك
(3/115)
والنساء ما قيمته ألف ألف دينار. وفيها
ولّى المعتضد ابن أبى الساج أرمينية وأذربيجان وكان قد غلب عليهما.
وفيها غزا راغب الخادم مولى الموفّق بلاد الروم في البحر فأظفره الله
بمراكب كبيرة وفتح حصونا كثيرة. وفيها حجّ بالناس محمد بن عبد الله بن
ترنجة. وفيها في شهر ربيع الأوّل هبّت ريح صفراء بالبصرة ثم صارت خضراء
ثم سوداء وامتدّت في الأمصار، ثم وقع عقيبها مطر وبرد وزن البردة مائة
وخمسون درهما، وقطعت الريح نحو ستمائة نخلة، ومطرت قرية «1» من القرى
حجارة سودء وبيضاء. وفيها في ذى الحجة منها قدم الأمير على ابن الخليفة
المعتضد بالله بغداد، وكان قد جهّزه أبوه لقتال محمد بن زيد العلوىّ،
فدفع محمد ابن زيد عن الجبال وتحيّز الى طبرستان، ففرح به أبوه المعتضد
وقال: بعثناك ولدا فرجعت أخا، ثم أعطاه ألف ألف دينار. وفي ذى الحجة
أيضا خرج الخليفة المعتضد وابنه علىّ يريد آمد «2» لمّا بلغه موت عيسى
بن الشيخ بعد أن صلّى ابنه علىّ المذكور بالناس يوم الأضحى ببغداد،
وركب كما يركب ولاة العهود. وفيها توفى إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن
بشير بن عبد الله أبو إسحاق المروزىّ الحربىّ، كان إماما عالما فاضلا
زاهدا مصنّفا، كان يقاس بالإمام أحمد بن حنبل في علمه وزهده. وفيها
توفى الأمير أحمد بن عيسى بن الشيخ صاحب آمد وديار بكر، كان ولّاه
إيّاهما المعتزّ، فلما قتل المعتزّ استولى عليهما الى أن مات في هذه
السنة، فاستولى عليهما ابنه محمد فسار المعتضد فأخذهما منه واستعمل
عليهما نوّابه. وفيها
(3/116)
توفّى إمام النحاة المبرّد «1» واسمه محمد
بن يزيد بن عبد الأكبر بن عمير بن حسّان بن سليمان الإمام العلّامة أبو
العبّاس البصرىّ الأزدىّ المعروف بالمبرّد، انتهت إليه رياسة النحو
واللغة بالبصرة، ولد سنة ستّ ومائتين وقيل: سنة عشر ومائتين.
وكان المبرّد وأبو العبّاس أحمد بن يحيى الملقّب بثعلب صاحب كتاب
الفصيح عالمين متعاصرين؛ وفيهما يقول أبو بكر بن أبى الأزهر:
أيا طالب العلم لا تجهلن ... وعذ بالمبرّد أو ثعلب
تجد عند هذين علم الورى ... فلا تك كالجمل الأجرب
علوم الخلائق مقرونة ... بهذين في الشرق والمغرب
وكان المبرّد يحبّ الاجتماع والمناظرة بثعلب وثعلب يكره ذلك ويمتنع
منه. ومن شعر المبرّد:
يا من تلبّس أثوابا يتيه بها ... تيه الملوك على بعض المساكين
ما غيّر الجلّ «2» أخلاق الحمار ولا ... نقش البرادع أخلاق البراذين
«3»
(3/117)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة،
قال: وفيها توفى إبراهيم الحربىّ «1» ، وإسحاق بن إبراهيم الدّبرىّ»
، وعبيد [الله «3» ] بن عبد الواحد بن شريك، وأبو العباس محمد بن يزيد
المبرّد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وستّ عشرة إصبعا، مبلغ
الزيادة ستّ عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 286]
السنة الثالثة من ولاية هارون على مصر، وهى سنة ستّ وثمانين ومائتين-
فيها أرسل هارون بن خمارويه صاحب الترجمة الى الخليفة المعتضد يعلمه
أنه نزل عن أعمال قنّسرين والعواصم، وأنّه يحمل الى المعتضد في كلّ سنة
أربعمائة ألف دينار وخمسين ألف دينار، وسأله تجديد الولاية له على مصر
والشأم؛ فأجابه المعتضد الى ذلك وكتب له تقليدا بهما. وفيها في شهر
ربيع الآخر نازل «4» المعتضد آمد وبها محمد بن أحمد ابن [عيسى «5» بن]
الشيخ فحاصرها أربعين يوما حتى ضعف محمد وطلب «6» الأمان [لنفسه وأهل
البلد فأجابه الى ذلك فخرج إليه محمد ومعه أصحابه وأولياؤه فوصلوا الى
المعتضد «7» ] فخلع عليه المعتضد. وفيها قبض المعتضد على راغب الخادم
أمير طرسوس واستأصل «8» أمواله فمات بعد أيّام. وفيها التقى جيش عمرو
بن الليث الصفّار واسماعيل بن أحمد
(3/118)
ابن أسد [السامانىّ «1» ] بما وراء «2»
النهر فانكسر أصحاب عمرو، ثم التقى هو وعمرو ثانيا على بلخ، وكان أهل
بلخ قد ملّوا عمرا وأصحابه ونجروا من نزولهم في دورهم وأخذهم أموالهم،
فساعد أهل بلخ إسماعيل فانكسر عمرو وانهزم الى بلخ، فوجد أبوابها مغلقة
ثم فتحوا له ولجماعة معه؛ فلما دخل وثب عليه أهل بلخ فأوثقوه وحملوه
الى إسماعيل فأكرمه إسماعيل ثم بعث به الى المعتضد فخلع المعتضد على
إسماعيل خلعة السلطنة، وأدخل عمرو بغداد على جمل ليشهّروه بها ثم حبسه
المعتضد في مطمورة «3» ، فكان يقول: لو أردت أن أعمل على جيحون جسرا من
ذهب لفعلت، وكان مطبخى يحمل على ستمائة جمل، وأركب في مائة ألف، أصارنى
«4» الدهر إلى القيد والذلّ! وقيل: إنه خنق قبل موت المعتضد بيسير.
وفيها ظهر بالبحرين أبو سعيد الجنّابىّ «5» القرمطىّ «6» في أوّل
السنة، وفي وسطها قويت شوكته وانضمّ إليه طائفة من الأعراب، فقتل «7»
أهل تلك
(3/119)
القرى وقصد البصرة، فبنى عليها المعتضد
سورا؛ وكان أبو سعيد هذا كيّالا بالبصرة.
وجنّابة من قرى الأهواز، وقيل: من قرى البحرين «1» .
قلت: وهذا أوّل «2» من ظهر من القرامطة الآتى ذكرهم في هذا الكتاب في
عدّة مواطن. وهذا القرمطىّ هو الذي قتل الحجيج واقتلع الحجر «3» الأسود
حسبما يأتى ذكره.
وفيها حضر مجلس القاضى موسى بن إسحاق قاضى الرّىّ وكيل امرأة ادّعى على
زوجها صداقها بخمسمائة دينار فأنكر الزوج؛ فقال القاضى: البيّنة،
فأحضرها الوكيل فى الوقت، فقالوا: لا بدّ أن ننظر المرأة [وهى «4»
مسفرة لتصحّ عندهم معرفتها] فتتحقّق الشهادة؛ فقال الزوج: ولا بدّ؟
فقالوا: ولا بدّ؛ فقال الزوج: أيها القاضى عندى الخمسمائة دينار ولا
ينظر هؤلاء الى امرأتى [فأخبرت بما كان من زوجها «5» ] ؛ فقالت المرأة:
إنى أشهد القاضى أنّنى قد وهبت له ذلك وأبرأته منه في الدنيا والآخرة!
فقال القاضى: تكتب هذه الواقعة في مكارم الأخلاق. وفيها توفّى إسماعيل
بن إسحاق بن إبراهيم بن مهران أبو بكر السّراج النيسابورىّ مولى ثقيف،
سمع الإمام أحمد وصحبه. وفيها توفى «6» الحسين بن سيّار أبو على
البغدادىّ الخيّاط، كان إماما عارفا بتعبير الرؤيا، وكانت وفاته في
صفر، أسند عن أبى بلال الأشعرىّ
(3/120)
وغيره، وروى عنه جماعة كثيرة. وفيها توفى
محمد بن يونس بن موسى بن سليمان ابن عبيد بن ربيعة بن كديم «1» أبو
العباس الكديمىّ القرشىّ البصرىّ، حجّ أربعين حجّة، وكان حافظا متقنا
ورعا، مات ببغداد في نصف جمادى الآخرة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن سلمة
النّيسابورىّ الحافظ، وأحمد بن علىّ الخزّاز «2» ، وأبو سعيد الخرّاز
«3» شيخ الصوفيّة، وأحمد ابن المعلّىّ [بن يزيد أبو بكر الأسدىّ القاضى
«4» ] الدّمشقىّ، وابراهيم بن سويد الشامىّ، وإبراهيم [بن محمد «5» ]
بن برّة الصّنعانىّ، والحسن بن عبد الأعلى البوسىّ أحد أصحاب عبد
الرزّاق، وعبد الرّحيم بن عبد الله البرقىّ، وعلى بن عبد العزيز
البغوىّ، ومحمد بن وضّاح القرطبىّ «6» ، ومحمد بن يوسف البنّاء الزاهد،
ومحمد بن يونس الكديمىّ، وأبو عبادة البحترىّ الشاعر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وخمس عشرة إصبعا، مبلغ
الزيادة سبع عشرة ذراعا وثمانى أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 287]
السنة الرابعة من ولاية هارون على مصر، وهى سنة سبع وثمانين ومائتين-
فيها في المحرّم واقع صالح بن مدرك كبير عرب طيّئ الحاجّ العراقىّ كما
فعل بهم
(3/121)
فى العام الماضى، وكان في ثلاثة آلاف من
عرب طيّئ وغيرهم ما بين فارس وراجل، وكان أمير الحاج أبا الأغرّ،
فأقاموا يقاتلونهم يوما وليلة حتى هزم صالح بن مدرك وقتل معه أعيان
طئّ، ودخل الرّكب بغداد بالرءوس على الرّماح وبالأسرى. وفيها عظم أمر
القرامطة وأغاروا على البصرة ونواحيها، فسار لحربهم العبّاس بن عمرو
الغنوىّ فالتقوا فأسر الغنوىّ وقتل خلق من جنده، ثم إنّ أبا سعيد
القرمطىّ أطلقه، وقال له: بلّغ المعتضد عنّى رسالة ومضمونها: أنه يكفّ
عنه ويحفظ حرمته، وقال: فأنا قنعت بالبرّيّة فلا يتعرّض لى. وفيها مات
صاحب طبرستان محمد «1» بن زيد العلوىّ. وفيها أوقع بدر غلام الطائى
بالقرامطة على غرّة، فقتل منهم مقتلة عظيمة ثم تركهم خوفا على السواد
«2» . وفيها حجّ بالناس محمد بن عبد الله بن ترنجة. وفيها توفى أحمد بن
عمرو بن [أبى عاصم «3» ] الضحاك القاضى أبو بكر الشّيبانىّ الفقيه
المحدّث وابن محدّث، ولى القضاء بأصبهان وصنّف علوم الحديث وكان عالما
بارعا. وفيها توفى يعقوب بن يوسف بن أيوب الشيخ
(3/122)
أبو بكر المطّوّعىّ «1» الزاهد العابد،
وعنه قال: كان وردى في شبيبتى كلّ يوم وليلة أربعين «2» ألف مرّة (قُلْ
هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) .
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن إسحاق
ابن إبراهيم بن نبيط «3» ، وأبو بكر أحمد بن عمرو بن أبى عاصم أبو علىّ
«4» فى [شهر] ربيع الآخر وله نيّف وثمانون سنة، ومحمد بن عمرو الحوشىّ
«5» ، وموسى بن الحسن الجلاجلىّ «6» ، وأبو سعد «7» يحيى بن منصور
الهروىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وخمس وعشرون إصبعا،
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 288]
السنة الخامسة من ولاية هارون على مصر، وهى سنة ثمان وثمانين ومائتين-
فيها وقع وباء بأذربيجان فمات فيه خلق كثير وفقدت الأكفان فكفّن الناس
فى الأكسية واللّبود ثم فقدت، وفقد من يدفن الموتى فكانوا يطرحون «8»
على الطريق، ثم وقع الطاعون في أصحاب محمد بن أبى الساج فمات لمحمد
مائتا ولد
(3/123)
وغلام، ثم مات محمد بن أبى السّاج المذكور
بمدينة أذربيجان، وكان يلقّب بالأفشين، فاجتمع غلمانه وأمّروا عليهم
ابنه ديوداد فاعتزلهم أخوه يوسف بن أبى الساج وهو مخالف لهم. وفيها حجّ
بالناس هارون «1» بن محمد بن العباس بن إبراهيم ابن عيسى بن أبى جعفر
المنصور. وفيها كانت زلزلة. قال أبو الفرج بن الجوزىّ:
[ورد «2» الخبر بأنه مات تحت الهدم في يوم واحد أكثر من ثلاثين ألف
إنسان ودام عليهم هذا أيّاما فبلغ من هلك خمسين ومائة ألف] وقيل: كان
ذلك فى العام الماضى. وفيها قدم المعتضد العراق ومعه وصيف خادم محمد بن
أبى السّاج، وكان قد عصى عليه بالثغور، فأسره وأدخل على جمل، ثم توفّى
بالسجن بعد أيام فصلبت جئته على الجسر. وفيها ظهر أبو عبد «3» الله
الشّيعىّ بالمغرب ونزل بكتامة «4» ودعاهم إلى المهدىّ عبيد الله- أعنى
بعبيد الله جدّ الخلفاء الفاطميّة- وفيها توفى ثابت بن قرّة العلامة
أبو الحسن المهندس صاحب التصانيف في الفلسفة والهندسة والطبّ وغيره،
كان فاضلا بارعا في علوم كثيرة، ومولده في سنة إحدى وعشرين «5»
ومائتين.
(3/124)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة،
قال: وفيها توفّى إسحاق بن إسماعيل الرّملى «1» بأصبهان، وبشر بن موسى
الأسدىّ، وجعفر بن محمد بن سوّار الحافظ، وأبو القاسم عثمان بن سعيد بن
بشّار «2» الأنماطىّ شيخ ابن سريج «3» ، ومعاذ بن المثنّى العنبرىّ،
وخلق سواهم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع سواء، مبلغ الزيادة ستّ
عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 289]
السنة السادسة من ولاية هارون على مصر، وهى سنة تسع وثمانين ومائتين-
فيها فاض البحر على الساحل فأخرب البلاد والحصون [التى عليه «4» ] .
وفيها في [شهر] ربيع الآخر اعتلّ الخليفة المعتضد بالله علّة صعبة وهى
العلة التى مات بها؛ فقال عبد الله بن المعتزّ في ذلك:
طار قلبى بجناح الوجيب «5» ... جزعا من حادثات الخطوب
وحذارا أن يشاك بسوء ... أسد الملك وسيف الحروب
(3/125)
ثم انتكس ومات في الشهر، وتحلّف بعده ولده
المكتفى بالله أبو محمد علىّ.
وليس في الخلفاء من اسمه على غير علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه وهذا.
وفيها فى شهر رجب زلزلت بغداد زلزلة عظيمة دامت أيّاما. وفيها هبّت ريح
عظيمة بالبصرة قلعت عامّة نخلها ولم يسمع بمثل ذلك. وفيها انتشرت «1»
القرامطة بسواد الكوفة، وكان رئيسهم يقال له ابن أبى الفوارس، فظفر به
عسكر المعتضد- أعنى قبل موت المعتضد- فحمل هو وجماعة معه الى بغداد
فعذّبوا بأنواع العذاب ثم صلوا وأحرقوا؛ وأمّا كبيرهم ابن أبى الفوارس
المذكور فقلعت أضراسه ثم شدّ «2» فى إحدى يديه بكرة وفي الأخرى صخرة،
ورفعت البكرة ثم لم يزل على حاله الى وقت «3» الظّهر؛ ثم قطعت يداه
ورجلاه وضربت عنقه. وفيها حجّ بالناس الفضل بن عبد الملك ابن عبد الله
العباسىّ. وفيها توفّى الخليفة أمير المؤمنين المعتضد بالله أبو العباس
أحمد ابن الأمير ولىّ العهد أبى أحمد طلحة الموفّق ابن الخليفة
المتوكّل على الله جعفر ابن الخليفة المعتصم بالله محمد ابن الخليفة
الرشيد بالله هارون ابن الخليفة المهدىّ محمد ابن الخليفة أبى جعفر
المنصور عبد الله بن محمد بن على بن عبد الله بن العباس الهاشمىّ
العباسىّ البغدادىّ، ومولده في سنة اثنتين وأربعين ومائتين في ذى
القعدة في أيام جدّه المتوكّل؛ واستخلف بعده عمّه المعتمد أحمد في شهر
رجب سنة تسع وسبعين ومائتين. قال ابراهيم [بن «4» محمد] بن عرفة:
وتوفّى المعتضد في يوم الاثنين لثمان بقين من [شهر] ربيع الآخر سنة تسع
وثمانين ومائتين ودفن في حجرة «5» الرخام وصلّى عليه
(3/126)
يوسف بن يعقوب القاضى، وكانت خلافته تسع
سنين وتسعة أشهر ونصفا.
قلت: وبويع بالخلافة بعده ولده علىّ بعهد منه، ولقّب بالمكتفى. وكان
المعتضد شجاعا مهيبا أسمر نحيفا معتدل الخلق ظاهر الجبروت وافر العقل
شديد الوطأة، من أفراد خلفاء «1» بنى العباس وشجعانهم، كان يتقدّم على
الأسد وحده.
وقال المسعودىّ: كان «2» المعتضد قليل الرحمة، قيل: إنه كان إذا غضب
على قائد أمر أن تحفر له حفيرة ويلقى فيها وتطمّ عليه، قال: شكّوا في
موت المعتضد فتقدّم الطبيب فجسّ نبضه «3» ففتح عبنه ورفس الطبيب برجله
فدحاه أذرعا فمات الطبيب، ثم مات المعتضد أيضا من ساعته. هكذا نقل
المسعودىّ. ورثاه الأمير عبد الله بن المعتزّ العبّاسىّ فقال:
يا ساكن «4» القبر في غبراء مظلمة ... بالطاهريّة «5» مقصى الدار
منفردا
أين الجيوش التى قد كنت تسحبها ... أين الكنوز التى لم تحصها «6» عددا
أين السرير الذي قد كنت تملؤه ... مهابة من رأته عينه ارتعدا
(3/127)
أين الأعادى الألى ذلّلت مصعبهم ... أين
الليوث التى صيّرتها بعدا «1»
أين الجياد التى حجّتها بدم ... وكنّ يحملن منك الضّيغم الأسدا
أين الرماح التى غذّيتها مهجا ... مذمت ما وردت قلبا ولا كبدا
أين الجنان التى تجرى جداولها ... وتستجيب اليها الطائر الغردا
أين الوصائف كالغزلان رائحة ... يسحبن من حلل موشيّة جددا
أين الملاهى وأين الراح تحسبها ... ياقوتة كسيت من فضّة زردا
أين الوثوب إلى الأعداء مبتغيا ... صلاح ملك بنى العبّاس إذ فسدا
ما زلت تقسر منهم كلّ قسورة ... وتخيط «2» العالى الجبّار معتمدا
ثم انقضيت فلا عين ولا أثر ... حتى كأنك يوما لم تكن أحدا
وفيها خرج يحيى بن زكرويه بن مهرويه داعية قرمط وجمع جموعا كثيرة من
الأعراب، وكانت بينه وبين طغج بن جفّ تائب هارون بن خمارويه على الشام
وقعات عديدة، تقدّم ذكر ذلك كله في أوّل ترجمة هارون المذكور. وفيها
صلّى المكتفى بالناس يوم عيد النحر وكان بين يديه ألوية الملوك، وترجّل
الملوك والأمراء بين يديه ما خلا وزيره القاسم بن عبيد الله فإنه ركب
وسايره دون الناس؛ ولم ير قبل ذلك خليفة يسايره وزير غيره.
قلت: وهذا أوّل وهن وقع في حقّ الخلفاء. وأنا أقول: إنّ المعتضد هو آخر
خليفة عقد ناموس الخلافة، ثم من بعده أخذ أمر الخلفاء في إدبار إلى
يومنا هذا. وفيها
(3/128)
توفّى بدر «1» المعتضدىّ، كان يخدم المعتضد
والموفّق وأباه المتوكّل، وأصله من غلمان المتوكّل فرفعته السعادة. قال
يحيى بن علىّ النّديم: كنت واقفا على رأس المعتضد وهو مقطّب فدخل بدر
فأسفر وجهه لمّا رآه وضحك، ثم قال لى: يا يحيى، من القائل:
فى وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب وجيه حيثما شفعا
فقلت: الحكم «2» بن قنبر المازنىّ؛ فقال: أنشدنى تمامه، فأنشدته:
ويلى على من أطار النوم فامتنعا» ... وزاد قلبى على أوجاعه وجعا
كأنما الشمس من أعطافه لمعت ... حسنا أو البدر من أزراره طلعا «4»
مستقبل بالذى يهوى وإن كثرت ... منه الذنوب ومعذور بما صنعا
فى وجهه شافع يمحو إساءته ... من القلوب وجيه حيثما شفعا
وكان بدر هذا شجاعا ممدّحا جوادا.
(3/129)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبع
أذرع سواء، مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 290]
السنة السابعة من ولاية هارون على مصر، وهى سنة تسعين ومائتين- فيها فى
المحترم قصد يحيى بن زكرويه القرمطىّ الرّقّة في جمع كثير؛ فخرج إليه
أصحاب السلطان فقتل منهم جماعة وانهزم الباقون؛ فبعث طغج بن جفّ أمير
دمشق من قبل هارون بن خمارويه صاحب الترجمة جيشا مع خادمه بشير إلى
القرمطىّ، فواقعهم الفرمطىّ وقتل بشيرا وهزم الجيش. وفيها أيضا خلع
الخليفة المكتفى على أبى الأغرّ وبعثه في عشرة آلاف لقتال القرمطىّ.
وفيها حصر القرمطىّ دمشق وفيها أميرها طغج بن جفّ فعجز طغج عن مقاومته
بعد أن واقعه غير مرّة؛ وقتل يحيى بن زكرويه كبير القرامطة؛ فأقاموا
عليهم أخاه الحسين بن زكرويه؛ وبلغ المكتفى [ذلك] فاستحثّ العساكر
المندوبة لقتال القرامطة بالخروج لقتالهم، فتوجه إليهم أبو الأغرّ
وواقع القرامطة فانهزم أبو الأغرّ، وقتل غالب أصحابه؛ وتبعه القرمطىّ
إلى حلب، فقاتله أهل حلب. وفيها توفّى عبد الله ابن الإمام أحمد بن
محمد بن حنبل أبو عبد الرّحمن الشّيبانىّ، مولده سنة ثلاث عشرة
ومائتين، ولم يكن فى الدنيا أحد أروى عن أبيه منه، وسمع منه المسند وهو
ثلاثون ألف حديث، والتفسير مائة وعشرين ألفا، والناسخ والمنسوخ
[والمقدّم «1» والمؤخر في كتاب الله] ، وجوابات القرآن، والمناسك
الكبير والصغير، وكان عالما بفنون [كثيرة] ؛ وكان أبوه يقول: لقد وعى
عبد الله علما كثيرا. وفيها توفّى عبد الله بن أحمد بن أفلح بن عبد
الله بن محمد بن عبد الرّحمن بن أبى بكر الصدّيق أبو الصدّيق محمد
القاضى البكرىّ، كان
(3/130)
إماما عالما بارعا. وفيها توفّى محمد بن
عبد الله الشيخ أبو بكر الدّقاق، كان من كبار مشايخ القوم وكان صاحب
أقوال «1» وكرامات.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفى أحمد بن على
الأبّار، والحسن بن سهل المجوّز «2» ، والحسين بن إسحاق التّسترىّ،
وعبد الله بن أحمد بن محمد ابن حنبل، ومحمد بن زكريا الغلابىّ
الإخبارى، ومحمد بن العباس المؤدّب، ومحمد ابن يحيى بن المنذر القزّاز
«3» أحد شيوخ الطّبرانى.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ستّ أذرع وثلاث وعشرون إصبعا،
مبلغ الزيادة ثلاث عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 291]
السنة الثامنة من ولاية هارون على مصر، وهى سنة إحدى وتسعين ومائتين-
فيها قتل الحسين بن زكرويه القرمطىّ المعروف بصاحب الشامة. وفيها زوّج
المكتفى ولده أبا أحمد «4» بابنة وزيره القاسم بن عبيد الله؛ وخطب أبو
عمر «5» القاضى، وخلع على القاسم أربعمائة خلعة، وكان الصّداق مائة ألف
دينار. وفيها خرجت الترك إلى بلاد المسلمين في جيوش عظيمة، يقال: كان
معهم سبعمائة خركاة «6» تركيّة
(3/131)
ولا تكون الخركاه إلا لأمير، فنادى إسماعيل
بن أحمد في خراسان وسجستان وطبرستان بالنّفير وجهّز جيوشه فوافوا الترك
على غرّة سحرا فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وانهزم من بقى، وغنم المسلمون
وسلموا وعادوا منصورين. وفيها بعث صاحب الروم جيشا مبلغه مائة ألف
فوصلوا الى الحدث «1» فنهبوا وسبوا وأحرقوا. وفيها غزا غلام زرافة «2»
من طرسوس الى الروم فوصل الى أنطاكية «3» وهى تعادل قسطنطينية، فنازلها
الى أن افتتحها عنوة وقتل نحوا من خمسة آلاف وأسر أضعافهم واستنقذ من
الأسر أربعة آلاف مسلم، وغنم من الأموال ما لا يحصى بحيث إنه أصاب سهم
الفارس ألف دينار. وفيها خلع المكتفى على محمد بن سليمان الكاتب وعلى
محمد بن إسحاق ابن كنداج وعلى أبى الأغرّ «4» وعلى جماعة من القوّاد،
وأمرهم بالسمع والطاعة لمحمد ابن سليمان المذكور، وندب الجميع بالمسير
الى دمشق لقبض ما كان بيد هارون بن خمارويه صاحب الترجمة من الأعمال،
لأنه كانت الوحشة قد وقعت بينهما.
وفيها حجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمىّ العباسىّ. وفيها توفّى
إبراهيم بن أحمد ابن اسماعيل «5» ، الشيخ أبو إسحاق الخوّاص البغدادىّ،
كان أوحد أهل «6» زمانه في التوكّل، صحب أبا عبد الله المغربىّ، وكان
من أقران الجنيد، وله في الرياضات والسياحات
(3/132)
مقامات. وفيها توفّى أحمد بن يحيى بن زيد
بن سيّار «1» أبو العبّاس الشّيبانى مولاهم ثعلب «2» النحوىّ إمام أهل
الكوفة، مولده في سنة مائتين. وفيها توفّى الوزير القاسم بن عبيد الله
وزير المعتضد والمكتفى، كان «3» شابّا غرّا قليل الخبرة بالأمور
مستهتكا للمحارم؛ وإنما استوزره المكتفى لأنه أخذ له البيعة وحفظ عليه
الأموال.
وفيها توفّى هارون بن موسى بن شريك أبو عبد الله الثّعلبىّ الأخفش
الشامى النحوىّ اللغوىّ، ولد سنة مائتين، سمع هشام بن عمّار وطبقته،
وكان إماما فى فنون كثيرة بارعا مفنّنا؛ ولما مات جلس مكانه محمد بن
نصير بن أبى حمزة.
وهذا هو الأخفش الشامىّ. وأما الأخفش البصرىّ فآسمه سعيد بن مسعدة.
قلت: وثمّ أخفش «4» ثالث وفاته سنة خمس عشرة وثلثمائة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو العبّاس
ثعلب، واسمه أحمد بن يحيى، فى جمادى الأولى وله إحدى وتسعون سنة.
وهارون بن موسى ابن شريك الأخفش المقرئ. وعبد الرّحمن بن محمد بن مسلم
«5» الرّازى. ومحمد بن أحمد ابن النّضر ابن بنت معاوية. ومحمد بن
إبراهيم البوشنجىّ الفقيه. ومحمد بن على الصائغ «6» المكىّ.
(3/133)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع
أذرع وإحدى وعشرون إصبعا. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإصبع واحدة
ونصف إصبع.
ذكر ولاية شيبان بن أحمد بن طولون على مصر
هو شيبان بن أحمد بن طولون الأمير أبو المقانب «1» التركىّ المصرى، ولى
إمرة مصر بعد قتل ابن أخيه هارون بن خمارويه لإحدى عشرة بقيت من صفر
سنة اثنتين وتسعين ومائتين. قال صاحب البغية: ولما تم أمره أقرّ شيبان
المذكور موسى على شرطة مضرة وخرج من الفسطاط ليلة الخميس لليلة خلت من
[شهر] ربيع الأوّل سنة اثنتين وتسعين ومائتين، فكانت ولايته اثنى عشر
يوما. انتهى. قلت: ونذكر أمر شيبان هذا بأوسع مما ذكره صاحب البغية
فنقول: ولما قتل هارون بن خمارويه ورجع الناس إلى مصر وهم بغير أمير،
نهض شيبان هذا ودعا لنفسه وضمن للناس حسن القيام بأمر الدولة والإحسان
إليهم، فبايعه الناس وهو لا يدرى بأن الدولة الطّولونية قد انتهى
أمرها. وما أحسن قول من قال في هذا المعنى:
أصبحت تطلب أمرا عزّ مطلبه ... هيهات! صدع زجاج ليس ينجبر
وقام شيبان بالأمر ودخل المدينة وطاف بها حتى وصل إلى الموضع المعروف
بمسجد الرّمح، فصدم الرمح الذي فيه لواؤه سقف الدّرب فانكسر، فتطيّر
الناس من ذلك وقالوا: أمر لا يتمّ. وقيل: إن شيبان المذكور كان أسز في
نفسه قتل ابن أخيه هارون المقدّم ذكره، فتهيّأ لذلك وواطأ عليه بعض
خاصّة هارون، فكان شيبان ينتظر الفرصة؛ وبينما شيبان على ذلك إذ صار
إليه بعض الخدم الذين واطأهم على أمر هارون، وبايعوه على قتله وأعلموه
أن هارون قد غطّ في نومه من شدّة السّكر،
(3/134)
وأنه لم ير في مثل حالته تلك قطّ من شدّة
السكر الذي به، وقالوا له: إن أردت شيئا فقد أمكنك ما تريد؛ فقام شيبان
ودخل من وقته على ابن أخيه هارون بن خمارويه، فوافاه في مرقده غاطّا
مثقلا من سكره، فذبحه «1» بسكّين كان معه في مرقده بالعبّاسة، وكان ذلك
في ليلة الأحد لإحدى عشرة ليلة بقيت من صفر سنة اثنتين وتسعين ومائتين؛
وعرف الناس بقتله في غد ليلته، واستولى شيبان على الملك كما ذكرناه؛
وبويع في يوم الاثنين لعشر ليال بقين من صفر من السنة المذكورة؛ وعلم
أبو جعفر بن أبى ونجيح الرومىّ القائد ما كان من أمر هارون وقتله،
فرحلا من موضعهما من العبّاسة مع نفر من خاصّة أصحابهما وتركا بقيّة
عسكرهما، ولحقا بعسكر طغج بن جفّ الذي كان نائب دمشق؛ وقد وصل محمد بن
سليمان الكاتب وقائق ويمن وغيرهم من موالى خمارويه وأخبروهم بذلك، ثم
جاءهم الخبر بأن الحسين بن حمدان قد دخل الفرما «2» يريد جرجير «3»
وكانوا بها فرحلوا بعساكرهم حتى نزلوا العبّاسة، وذلك بعد رحيل شيبان
بن أحمد بن طولون المذكور عنها إلى مدينة مصر.
وأما شيبان فإنه لما دخل مصر مع جميع إخوته وبنى عمّه والعسكر الذي كان
بقى من عسكر ابن أخيه هارون تهيّأ لقتال القوم، وكان شيبان أهوج جسورا
جسيما جلدا شديد البدن في عنفوان شبابه، فصار يسرع في أموره وذلك بعد
أن تمّ أمره،
(3/135)
وخطب له يوم الجمعة على سائر منابر مصر، ثم
أخذ في العطاء «1» للجند، فلم يجد من المال سعة فقلق، فسعى إليه ساع
بأن أمّ هارون المقتول أودعت ودائع لها في بعض الدّور التى للتّجار
بمدينة الفسطاط- أعنى مصر- فوجّه شيبان بأبى جيشون أحد إخوته إلى هذه
الدّور حتى استخرج منها خبايا كانت لأمّ هارون، وحمل ذلك إلى أخيه
شيبان فى أعدال محزومة لا يدرى ما فيها؛ وانتهى الخبر إلى الحسين بن
حمدان بأن هارون صاحب مصر قد قتل، وكان على مقدّمة عسكر محمد بن سليمان
الكاتب وهو بجرجير، فرحل عنها يريد العبّاسة، فلقيه في طريقه محمد بن
أبىّ مع جميع الرؤساء الذين كانوا معه، فصار الحسين في عسكر كبير؛ وبلغ
ذلك أيضا محمد بن سليمان الكاتب فحثّ فى مسيره حتى لحق بمقدّمة الحسين
بن حمدان المذكور، وقد انضاف إليه غالب عسكر مصر الذي وصل مع أبى جعفر
بن أبّى وغيره؛ وعند ما اجتمع الجميع وصل إليهم أيضا دميانة البحرىّ في
ثمانية عشر مركبا حربيّا مشحونة «2» بالرجال والسّلاح وذلك فى يوم
الثلاثاء ثامن عشرين صفر، فضرب جسر مصر الشرقىّ بالنار وأحرقه عن آخره
وأحرق بعض الجسر الغربىّ، ثم وافى محمد بن سليمان الكاتب بعسكره حتى
نزل بباب مصر، فضرب خيامه بها في يوم الأربعاء. تاسع عشرين صفر، كل ذلك
في سنة
(3/136)
اثنتين وتسعين ومائتين. ولما بلغ ذلك شيبان
خرج بعساكره من مدينة مصر، وقد اجتمع معه من الفرسان والرّجّالة عدّة
كثيرة، ووقف بهم لممانعة محمد بن سليمان من دخول المدينة، وعبّأ أيضا
محمد بن سليمان عسكره للمصافّ لمحاربة شيبان، والتقى الجمعان وكانت
بينهم مناوشة ساعة؛ ثم كتب محمد بن سليمان إلى شيبان والحرب قائمة
يؤمّنه على نفسه وجميع أهله وماله وولده وإخوته وبنى عمّه جميعا؛ ونظر
شيبان عند وصول الكتاب «1» إليه قلّة من معه من الرجال وكثرة جيوش محمد
بن سليمان مع ما ظنّ من وفاء محمد بن سليمان له، فاستأمن إلى محمد بن
سليمان وجمع إخوته وبنى عمّه في الليل وتوجّهوا الى محمد بن سليمان
وصاروا في قبضته ومصافّ شيبان على حاله، لكن الفرسان علموا بما فعل
شيبان فكفّوا عن القتال، وبقيت الرجّالة على مصافّها ولم تعلم بما
أحدثه شيبان، وأصبحت الرجّالة غداة يوم الخميس وليس معهم حام ولا رئيس،
فالتقوا مع عسكر محمد بن سليمان فانكسروا، وانكبت خيل محمد بن سليمان
على الرجّالة فأزالتهم عن مواقفهم، ثم انحرفت الفرسان الى قطائع
السودان الطولونيّة وصاروا يأخذون من قدروا عليه منهم فيصيرون بهم الى
محمد بن سليمان، وهو راكب على فرسه في مصافّه، فيأمر بذبحهم فيذبحون
بين يديه كما تذبح الشاة. ثم دخل محمد بن سليمان بعساكره الى مدينة مصر
من غير أن يمنعه عنها مانع، وكان ذلك في يوم الخميس سلخ صفر المذكور،
فطاف محمد بن سليمان وهو راكب بمدينة مصر ومعه محمد بن أبّى وجماعة من
جند المصريّين من الفرسان والرجّالة إلّا من هرب منهم، وصار كلّ من أخذ
من المصريين ممّن هرب أو قاتل ضربت عنقه؛ وأحرقت القطائع التى كانت حول
الميدان من مساكن السودان بعد أن قتل فيها
(3/137)
منهم خلق كثير، حتى صارت خرابا يبابا «1» ،
وزالت دولة بنى طولون كأنّها لم تكن.
وكانت مدّة تغلّب شيبان هذا على مصر تسعة أيّام، منها أربعة أيّام كان
فيها أمره ونهيه؛ ثم دخلت الأعراب الخراسانيّة من عساكر محمد بن سليمان
الكاتب الى مدينة مصر فكسروا جيوشها وأخرجوا من كان بها، ثم هجموا
[على] دور الناس فنهبوها وأخذوا أموالهم واستباحوا حريمهم وفتكوا في
الرعيّة وافتضّوا الأبكار وأسروا المماليك والأحرار من النساء والرجال،
وفعلوا في مصر ما لا يحلّه الله من ارتكاب المآثم، ثم تعدّوا الى أرباب
الدولة «2» وأخرجوهم من دورهم وسكنوها كرها، وهرب غالب أهل مصر منها،
وفعلوا في المصرييّن مالا يفعلونه في الكفرة؛ وأقاموا على ذلك أيّاما
كثيرة مصرّين على هذه الأفعال القبيحة. ثم ضربت خيام محمد بن سليمان
على حافة النيل بالموضع المعروف بالمقس «3» ، ونزلت عساكره معه ومن
انضم اليه من عساكر المصريّين بالعبّاسة. ثم أمر محمد بن سليمان أن
تحمل الأسارى من المصريّين من الذين كان دميانة أسرهم في قدومه من
دمياط على الجمال، فحملوا عليها وعليهم القلانس الطوال وشهرّهم وطيف
بهم في عسكره من أوّله الى آخره.
ثم قلّد محمد بن سليمان أصحابه الأعمال بمصر، فكان الذي قلّده شرطة
العسكر رجلا يقال له غليوس، وقلّد شرطة المدينة رجلا يقال له وصيف
البكتمرىّ «4» ، وقلّد أبا عبد الله محمد بن عبدة قضاء مصر، كلّ ذلك في
يوم الخميس لسبع خلون من شهر ربيع
(3/138)
الأول؛ ثم قبض أيضا على جماعة من أهل مصر
من الكتّاب وغيرهم، فصادرهم وغرّمهم الأموال الجليلة بعد العذاب
والتهديد والوعيد؛ ثم أمسك محمد بن أبّى خليفة هارون بن خمارويه على
مصر- أعنى الذي كان توجّه إليه من العبّاسة- وصادره وأخذ منه خمسمائة
ألف دينار من غير تجشيم. ومحمد بن أبّى هذا هو الذي قدّمنا ذكره في
ترجمة جيش بن خمارويه وما وقع له مع برمش. وكان محمد بن سليمان هذا لا
يسمّى باسمه «1» ولا بكنيته وما كان يدعى إلا بالأستاذ؛ وكان حكمه فى
أهل مصر بضرب أعناقهم وبقطع أيديهم وأرجلهم جورا وتمزيق ظهورهم بالسياط
وصلبهم على جذوع النخل ونحو ذلك من أصناف النّكال؛ ولا زال على ذلك حتى
رحل عن مدينة مصر في يوم الخميس مستهلّ شهر رجب من سنة اثنتين وتسعين
ومائتين، واستصحب معه الأمير شيبان «2» بن أحمد بن طولون صاحب الترجمة
وبنى عمّه وأولادهم وأعوانهم، حتى إنّه لم يدع من آل طولون أحدا،
والجميع في الحديد الى العراق وهم عشرون إنسانا؛ ثم أخرج قوّادهم الى
بغداد على أقبح وجه، فلم يبق بمصر منهم أحد يذكر؛ وخلت منهم الديار
وعفت منهم الآثار، وحل بهم الذلّ بعد العزّ والتطريد والتشريد بعد
اللّذ «3» ، ثم سيق جماعة من أصحاب شيبان الىّ محمد بن سليمان ممّن كان
أمّنهم فذبحوا بين يديه. وزالت الدولة الطولونية وكانت من غرر الدول،
وأيامهم من محاسن الأيام، وخرّب الميدان والقصور التى كانت به، التى
مدحتها الشعراء. قال القاضى أبو عمرو عثمان النابلسىّ في كتاب
(3/139)
" حسن السيرة في اتخاذ الحصن بالجزيرة":
رأيت كتابا قدر اثنتى عشرة كرّاسة مضمونه فهرست شعراء الميدان الذي كان
لأحمد بن طولون؛ قال: فاذا كان اسم الشعراء في اثنتى عشرة كرّاسة فكم
«1» يكون شعرهم!. انتهى.
وقال ابن دحية في كتابه: وخرّبت القطائع التى لأحمد بن طولون في الشدّة
العظمى زمن الخليفة المستنصر العبيدىّ أيّام القحط والغلاء المفرط الذي
كان بالديار المصريّة؛ قال: وهلك من كان فيها من السكان، وكانت نيّفا
على مائة ألف دار. قلت: هذا الذي ذكره ابن دحية هو الذي بقى بعد إتلاف
محمد بن سليمان المذكور.
ومما قيل في ميدان أحمد بن طولون وفي قصوره من الشعر من المراثى على
سبيل الاقتصار؛ فمما قاله إسماعيل بن أبى هاشم:
قف وقفة بفناء باب السّاج «2» ... والقصر ذى الشّرفات «3» والأبراج
وربوع قوم أزعجوا عن دارهم ... بعد الإقامة. أيّما إزعاج
كانوا مصابيحا لدى ظلم الدجى ... يسرى بها السارون في الإدلاج
ومنها:
كانوا ليسوثا لا يرام حماهم ... فى كلّ ملحمة وكلّ هياج
فانظر الى آثارهم تلقى لهم ... علما بكلّ ثنيّة «4» وفجاج «5»
(3/140)
وقال سعيد القاصّ «1» :
جرى دمعه ما بين سحر «2» الى نحر ... ولم يجر حتّى أسلمته يد الصبر
ومنها:
وهل يستطيع الصبر من كان ذا أسى ... يبيت على جمر ويضحى على جمر
تتابع أحداث تحيّفن «3» صبره ... وغدر من الأيّام والدهر ذو غدر
أصاب على رغم الأنوف وجدعها ... ذوى الدّين والدّنيا بقاصمة الظهر
طوى زينة الدنيا ومصباح أهلها ... بفقد بنى طولون والأنجم الزّهر
ومنها:
وكان أبو العبّاس أحمد ماجدا ... جميل المحيّا لا يبيت على وتر
كأنّ ليالى الدّهر كانت لحسنها ... وإشراقها في عصره ليلة القدر
يدلّ على فضل ابن طولون همّة ... محلّقة بين السّماكين والغفر «4»
فإن كنت تبغى شاهدا ذا عدالة ... يخبّر عنه بالجلىّ من الأمر
فبالجبل الغربىّ خطّة يشكر «5» ... له مسجد يغنى عن المنطق الهذر
وهى طويلة جدّا كلّها على هذا المنوال. ولما أمر الحسين بن أحمد
الماذرائىّ متولّى خراج مصر من قبل المكتفى بهدم الميدان ابتدأ «6»
بهدمه في أوّل شهر رمضان
(3/141)
من سنة ثلاث وتسعين ومائتين وبيعت أنقاضه،
حتّى دثروزال مكانه كأنّه لم يكن.
فقال فيه محمد بن طشويه «1» :
من لم ير الهدم للميدان لم يره ... تبارك الله ما أعلاه «2» واقدره
لو أنّ عين الذي أنشاه تبصره ... والحادثات تعاديه لأكبره
ومنها:
وأين من كان يحميه ويحرسه ... من كلّ ليث يهاب الليث منظره
صاح الزمان بمن فيه ففرّقهم ... وحطّ ريب البلى فيه فدعثره «3»
ومنها:
أين ابن طولون بانيه وساكنه ... أماته الملك الأعلى فأقبره
ما أوضح الأمر لو صحّت لنا فكر ... طوبى لمن خصّه رشد فذكره
وقال أحمد «4» بن إسحاق:
وكانّ الميدان ثكلى أصيبت ... بحبيب صباح ليلة عرس
يتغشّى الرياح منه محلّا «5» ... كان للصون في ستور الدّمقس
ومنها:
ووجوه من الوجوه حسان ... وخدود مثل اللآلئ «6» ملس
(3/142)
كلّ كحلاء كالغزال ونجلا ... ء «1» رداح من
بين «2» حور ولعس «3»
آل طولون كنتم زينة الأر ... ض فأضحى الجديد «4» اهدام «5» لبس
وقال ابن أبى هاشم:
يا منزلا لبنى طولون قد دثرا ... سقاك صوب الغوادى القطر والمطرا
يا منزلا صرت أجفوه وأهجره ... وكان يعدل عندى السمع والبصرا
بالله عندك علم من أحبّتنا ... أم هل سمعت لهم من بعدنا خبرا
(3/143)
ذكر أوّل من ولى مصر بعد بنى طولون وخراب
القطائع إلى الدولة الفاطمية العبيديّة وبناء القاهرة على الترتيب
المقدّم ذكره
فأوّل من حكمها محمد بن سليمان الكاتب المقدّم ذكره، أرسله الخليفة
المكتفى بالله علىّ العباسىّ حسبما ذكرناه في غير موضع، وملك محمد بن
سليمان الديار المصريّة، بعد قتل «1» شيبان بن أحمد بن طولون، فى يوم
الخميس مستهلّ شهر ربيع الأوّل سنة اثنتين وتسعين ومائتين، ودعا على
منابر مصر للخليفة المكتفى بالله وحده؛ وولّى محمد ابن سليمان أبا علىّ
الحسين بن أحمد الماذرائىّ على الخراج عوضا عن أحمد بن علىّ
الماذرائىّ. فلم تطل مدّة محمد بن سليمان بمصر حتى قدم عليه كتاب
الخليفة المكتفى بالله بولاية عيسى بن محمد النّوشرىّ؛ ودخل خليفة عيسى
المذكور إلى مصر لأربع عشرة ليلة خلت من جمادى الأولى، فتسلّم من محمد
بن سليمان المذكور الشّرطتين وسائر الأعمال؛ فكان مقام محمد بن سليمان
المذكور الكاتب بمصر أربعة أشهر.
وفي ولايته أقوال كثيرة: فمن الناس من لا يعدّه «2» من الأمراء بمصر بل
ذكر دخوله لفتح مصر وأنّه كان مقدّم العساكر لا غير؛ وقائلو هذه
المقالة هم الأكثر، ووافقتهم أنا أيضا على ذلك، لأن المكتفى لما خلع
عليه أمره بالتوجّه لقتال مصر وأمر أصحابه بالسمع والطاعة ولم يولّه
عملها؛ وعند ما بلغ الخليفة المكتفى فتح مصر ولّى عليها في الحال عيسى
النّوشرىّ؛ ولهذا لم نفتتح ترجمته بافتتاح تراجم ملوك مصر على عادة
ترتيب هذا الكتاب؛ ومن الناس من عدّه من جملة أمراء مصر بواسطة تحكّمه
وتصرّفه في الديار المصرية.
(3/144)
ذكر ولاية عيسى النّوشرىّ على مصر
هو عيسى بن محمد الأمير أبو موسى النوشرىّ، ولّاه الخليفة المكتفى من
بغداد على مصر، فأرسل عيسى خليفته على مصر فاستولى عليها إلى حين قدمها
لسبع خلون من جمادى الآخرة من سنة اثنتين وتسعين ومائتين. وكان محمد بن
سليمان لما وصل الى مصر بالعساكر كان الأمير عيسى النوشرىّ المذكور من
جملة القوّاد الذين قدموا معه، فلما افتتح محمد بن سليمان مصر أرسل
عيسى هذا الى الخليفة رسولا يخبره بفتح مصر، لأنه كان من كبار القوّاد
الشاخصين معه الى مصر، وتوجّه عيسى الى نحو العراق؛ فلما وصل الى دمشق
وافاه كتاب الخليفة المكتفى بها بولايته على إمرة مصر، فعاد من وقته
إلى أن دخل مصر في التاريخ المقدّم ذكره؛ فخلع عليه محمد ابن سليمان
الكاتب وطاف به مدينة مصر وعليه الخلعة، واستمرّ على عمل معونة مصر
وجندها؛ ثم ورد عليه أيضا كتاب الخليفة إلى جماعة من القوّاد ممن كان
في عسكر محمد بن سليمان: منهم علىّ بن حسّان «1» بتقليده أعمال
الإسكندريّة، والى مهاجر بن طليق بتقليده ثغر تنّيس «2» ودمياط، وإلى
رجل يعرف بالكندىّ بتقليده الأحواف، وإلى رجل يقال له موسى بن أحمد
بتقليده برقة وما والاها، وإلى رجل يعرف بمحمد بن ربيعة بتقليده الصعيد
وأسوان، وإلى رجل يعرف بأبى زنبور الحسين ابن أحمد الماذرائىّ بتقليده
أعمال الخراج بمصر، وجلس في ديوان الخراج لخمس بقين من جمادى الآخرة؛
ثم إلى دميانة البحرىّ»
بالانصراف عن مصر، فانصرف دميانة عنها لثمان بقين من جمادى الآخرة.
ونزل عيسى النوشرىّ
(3/145)
المذكور في الدار التى كانت سكنى بدر
الحمّامىّ بمصر، وكانت بالموقف بسوق الطير، وهى الدار التى كان نزل بها
محمد بن سليمان الكاتب لما افتتح مصر.
وكان خروج محمد بن سليمان من مصر في مستهلّ شهر رجب من السنة، وأخرج
معه كلّ من بقى من الطّولونيّة بمصر، كما ذكرناه في ترجمة شيبان بن
أحمد ابن طولون، واستصحب «1» معه أيضا جماعة بعد رحيله عنها، فخرج
الجميع إلى الشام، وهم: أبو جعفر محمد بن أبىّ وابنه الحسن وطغج بن حفّ
الذي كان نائب دمشق وولده وأخوه وبدر وفائق الرومىّ الخازن «2» وصافى
الرومىّ وغيرهم من موالى أحمد وخمارويه، وخرج الجميع موكّلا بهم، وأخرج
معهم أيضا جماعة كثيرة ممن هم أقلّ رتبة ممّن ذكر، غير أنّهم أيضا من
أعيان الدولة وأكابر القوّاد، وهم: محمد ابن علىّ بن أحمد الماذرائىّ
وزير هارون بن خمارويه وأبو زرعة «3» القاضى وأبو عبد الله محمد «4» بن
زرعة القاضى وخلق كثير من آل طولون وغيرهم من الجند، وضمّهم إلى عسكره
وقت خروجه من مصر؛ فتخلّف عنه جماعة بدمشق وغيرها وسار معه بعضهم إلى
حلب في الحديد، وهم: موسى بن طرنيق «5» وأحمد بن أعجر- وكانا على شرطتى
مصر كما «6» تقدّم ذكره- وابن با يخشى «7» الفرغانىّ- وكان عاملا على
سيادة أسفل الأرض- ووصيف القاطرميز «8» وخصيف «9» البربرىّ مولى أحمد
بن طولون:
(3/146)
فلما استقرّ قرار محمد بن سليمان بحلب
وافاه رسول الخليفة بأن يسلّم ما كان معه من الأموال والخيل والطّرز
«1» والذهب وغير ذلك مما كان حمله من مصر إلى من أمر بتسليمه إليه،
فقدّر المقدّرون فيه ما حمله من الأموال مع الذي أخذه من الناس ألفى
ألف دينار؛ وتفرّق من كان معه من الجند من المصريّين، فمنهم من سار إلى
العراق، ومنهم من رجع يريد مصر إلى من خلّفه من أهله بها؛ فممّن رجع
إلى مصر شفيع اللؤلؤيّ الخادم ورجل شابّ يقال له محمد بن على الخلنجىّ
«2» من الجند من المصريّين، ومحمد هذا ممن كان في قيادة صافىّ
الرّومىّ- أعنى أنه كان مضافه- فرجع محمد هذا يريد أهله وولده، فخطر له
خاطر ففكّر فيما حلّ بآل طولون وإزالة ملكهم وإخراجهم عن أوطانهم،
فأظهر النّصرة لهم والقيام بدولتهم وأعلن ذلك وأبداه، وذكر الذي عزم
عليه لجماعة من المصريّين فبايعوه على ذلك وعضدوه على عصيانه؛ وانضمّ
عليه شرذمة من المصريّين، فسار على حميّة حتّى وافى الرّملة فى شعبان
من سنة اثنتين وتسعين ومائتين، فنزل محمد المذكور بمن معه بناحية باب
الزيتون؛ وكان بالرملة وصيف بن صوارتكين «3» الأصغر فاستعدّ لقتاله،
فقدّم وصيف جماعة مع محمد بن يزداد، ثم خرج وصيف ببقيّة جماعته فرأى
محمد بن علىّ الخلنجىّ المذكور في نفر يسير من الفرسان، فزحف محمد بن
علىّ الخلنجىّ بمن معه على وصيف بن صوارتكين فهزمه وقتل رجاله وهرب من
بقى بين يديه.
وملك محمد الرملة ودعا على منابرها في يوم الجمعة للخليفة وبعده
لإبراهيم بن خمارويه
(3/147)
ثم بعدهما لنفسه؛ وتسامع الناس به فوافوه
من كلّ فجّ لما في نفوسهم من تشتّتهم عن بلادهم وأولادهم وأوطانهم،
وصار الجميع من حزب محمد المذكور من غير بذل دينار ولا درهم. وبلغ عيسى
النّوشرىّ صاحب الترجمة وهو بمصر ما كان من أمر محمد بن علىّ الخلنجىّ،
فجّهز عسكرا إلى العريش في أسرع وقت من البحر، وساروا حتى وافوا غزّة،
فتقدّم إليهم محمد بن علىّ الخلنجىّ بمن معه، فلما سمعوا به رجعوا إلى
العريش، فسار محمد الخلنجىّ بمن معه خلفهم الى العريش، فانهزموا أمامه
إلى الفرما ثم ساروا من الفرما إلى العبّاسة «1» ، ونزل محمد الخلنجىّ
الفرما مكانهم؛ فلما سمع عيسى النوشرىّ ذلك خرج من مصر بعسكر ضخم حتى
نزل العبّاسة، ومعه أبو منصور الحسين بن أحمد الماذرائىّ عامل خراج مصر
وشفيع اللؤلؤيّ صاحب البريد، ورحل محمد الخلنجىّ حتى نزل جرجير؛ فلما
سمع عيسى النوشرىّ قدومه الى جرجير كرّ راجعا إلى مصر ونزل على باب
مدينة مصر، فأتاه الخبر بقدوم محمد ابن على الخلنجىّ المذكور، فدخل إلى
المدينة ثم خرج منها ومعه أبو زنبور وعدا جسر مصر في يوم الثلاثاء رابع
عشر ذى القعدة سنة اثنتين وتسعين ومائتين؛ ثم أحرق عيسى النوشرىّ جسرى
«2» المدينة الشرقىّ والغربىّ جميعا حتّى لم يبق من مراكبهما مركبا
واحدا- يعنى أنّ الجسر كان معقودا على المراكب- وهذه كانت عادة مصر تلك
الأيّام. ونزل عيسى النوشرىّ وأقام ببرّ الجيزة، وبقيت مدينة مصر بلا
وال عليها ولا حاكم فيها، وصارت مصر مأكلة للغوغاء يهجمون [على] البيوت
ويأخذون الأموال من غير أن يردّهم أحد عن ذلك، فإنّ عيسى النوشرىّ ترك
مصر وأقام ببرّ الجيزة خوفا من محمد المذكور؛ فقوى لذلك شوكة محمد
الخلنجىّ واستفحل أمره، وسار من جرجير حتى دخل مدينة مصر في يوم سادس
عشرين ذى القعدة من السنة من
(3/148)
غير ممانع. وكان محمد المذكور شابّا شجاعا
مقداما مكبّا على شرب الخمر واللهو عاصيا ظالما، ومولده بمدينة مصر
ونشأ بها؛ فلما دخلها طاف بها ودخل الجامع وصلّى فيه يوم الجمعة، ودعا
له الإمام على المنبر بعد الخليفة وإبراهيم بن خمارويه، ففرح به أهل
مصر إلى الغاية وقاموا معه، فمهّد أمورها وقمع المفسدين وتخلّق «1» أهل
مصر بالزعفران، وخلّقوا وجه دابّته ووجوه دوابّ أصحابه فرحا به. ولم
يشتغل محمد الخلنجىّ المذكور بشاغل عن بعثه في أثر عيسى النوشرىّ وجهّز
عسكرا عليه رجل من أصحابه يقال له خفيف النوبىّ- وخفيف من الخفة- وأمره
باقتفاء أثر عيسى النوشرىّ حيث سلك؛ فخرج خفيف المذكور وتتابع مجىء
العساكر إليه في البرّ والبحر. وبلغ عيسى النوشرىّ مسير خفيف إليه فرحل
من مكانه حتى وافى الإسكندريّة وخفيف من ورائه يتبعه.
وأما محمد الخلنجىّ فإنّه قلّد وزارته ... بن موسى «2» النصرانىّ،
وقلّد أخاه إبراهيم ابن موسى على خراج مصر، وقلّد شرطة المدينة
لإبراهيم بن فيروز، وقلّد شرطة العسكر لعبد الجبّار بن أحمد بن أعجر؛
وأقبل الناس إليه من جميع البلدان حتّى بلغت عساكره زيادة على خمسين
ألفا، وفرض لهم الأرزاق السنيّة، فاحتاج الى الأموال لإعطاء الرجال،
وكان في البلد نحو تسعمائة ألف دينار، وكانت معبّأة فى الصناديق للحمل
للخليفة، وهى عند أبى زنبور وعيسى النّوشرىّ صاحب الترجمة؛ فلما خرجا
من البلد وزّعاها فلم يوجد لها أثر عند أحد بمصر، وعمد الحسين ابن أحمد
الى جميع علوم دواوين الخراج فأخرجها عن الدواوين قبل خروجه من مصر
لئلّا يوقف على معرفة أصول الأموال في الضياع فيطالب بها أهل الضّياع
بما
(3/149)
عليهم من الخراج؛ وحمل معه أيضا جماعة من
المتقبّلين- أعنى المدركين والكتّاب- لئلا يطالبوا بما عليهم من
الأموال، منهم: وهب بن عيّاش المعروف بابن هانئ، وابن بشر المعروف بابن
الماشطة وإسحاق بن نصير النصرانىّ وأبو الحسن المعروف بالكاتب، وترك
مصر بلا كتّاب. فلم يلتفت محمد الخلنجىّ الى ذلك وطلب المتقبّلين وأغلظ
عليهم؛ ثم وجد من الكتّاب من أوقفه على أمور الخراج وأمر الدواوين؛ ثم
قلّد لأحمد بن القوصىّ ديوان الإعطاء. وتحوّل من خيمته من ساحل النيل
وسكن داخل المدينة في دار بدر الحمامىّ التى كان سكنها عيسى النوشرىّ
بعد خروج محمد بن سليمان الكاتب من مصر، وهى بالحمراء «1» على شاطئ
النيل. وأجرى محمد الخلنجىّ أعماله على الظلم والجور وصادر أعيان البلد
فلقى الناس منه شدائد، إلا أنّه كان اذا أخذ من أحد شيئا أعطاه خطّه
ويعده أن يردّ له ما أخذ منه أيّام الخراج.
وأما عيسى النوشرىّ صاحب الترجمة وأبو زنبور الحسين بن أحمد فإنّهما
وصلا بعسكرهما قريب الإسكندرية وخفيف النوبىّ في أثرهما لا قريبا
منهما؛ وكان أبو زنبور قد أرسل المتقبّلين والكتّاب الى الإسكندرية
ليتحصنوا بها. وتابع محمد الخلنجىّ العساكر الى نحو خفيف النوبىّ نجدة
له في البرّ والبحر؛ فكان ممن ندبه محمد الخلنجىّ محمد بن لمجور في ستّ
مراكب بالسلاح والرجال، فسار حتى وافى الإسكندريّة في يوم الخميس نصف
ذى الحجة، وكان بينه وبين أهل الاسكندرية مناوشة حتى دخلها وخلّص بعض
أولئك المتقبّلين والكتّاب وحملهم الى مصر؛ وأخذ أيضا لعيسى النوشرىّ
ولأبى زنبور ما وجده لهما بالاسكندريّة وفرّقه على عساكره؛ وأقام
بعسكره مواقفا «2» عيسى النوشرىّ خارجا عن الإسكندريّة أياما، ثم انصرف
(3/150)
الى مصر، وانصرف عيسى النوشرىّ الى ناحية
تروجة «1» ، فوافاه هناك خفيف النوبى وواقعه، فكانت بينهما وقعة هائلة
انهزم فيها خفيف النوبىّ وقتل جماعة من أصحابه، ولم يزل خفيف في هزيمته
الى أن وصل الى مصر بمن بقى معه من أصحابه؛ فلم يكترث محمد الخلنجىّ
بذلك وأخذ في إصلاح أموره؛ وبينما هو في ذلك ورد عليه الخبر بمجيء
العساكر إليه من العراق صحبة فاتك «2» وبدر الحمّامىّ وغيرهما؛ فجهّز
محمد الخلنجىّ عسكرا لقتال النوشرىّ وقد توجّه النوشرىّ نحو الصعيد، ثم
خرج هو فى عساكره الى أن وصل الى العريش، ثم وقع له مع عساكر العراق
وجيوش النوشرىّ وقائع يطول شرحها، حتى أجدبت مصر وحصل بها الغلاء
العظيم، وعدمت الأقوات من كثرة الفتن، وطال الأمر حتى ألجأ ذلك [إلى]
عود محمد بن علىّ الخلنجىّ الى مصر عجزا عن مقاومة عساكر العراق وعساكر
أبى الأغرّ بمنية الأصبغ بعد أن واقعهم غير مرّة وطال الأمر عليه؛
فلمّا رأى أمره في إدبار وعلم أنّ أمره يطول ثم يؤول الى انهزامه دبّر
في أمره ما دام فيه قوّة فأطلع «3» عليه محمد بن لمجور المقدّم ذكره
وهو أحد أصحابه وعرّفه سرّا بأشياء يعملها وأمره أن يركب بعض المراكب
الحربيّة، وحمل معه ولده وما أمكنه من أمواله وواطأه على الركوب معه
وأمره بانتظاره ليتوجّه صحبته في البحر الى أىّ وجه شاء هاربا؛ فشحن
محمد بن لمجور مركبه بالسلاح والمال وصار ينتظر محمدا الخلنجىّ صاحب
الواقعة، ومحمد الخلنجىّ يدافع عسكر عيسى النوشرىّ تارة وعسكر الخليفة
مرّة الى أن عجز وخرج من مصر الى نحو محمد بن لمجور حتّى وصل إليه؛
فلما رآه محمد بن لمجور قد قرب منه رفع
(3/151)
مراسيه وأوهمه أنه يريده، فلما دنا منه
ناداه محمد بن علىّ الخلنجىّ ليصير إليه ويحمله معه في المركب، فلما
رآه محمد بن لمجور وسمع نداءه سبّه وقال له: مت بغيظك قد أمكن الله
منك! وتأخّر وضرب بمقاذيفه وانحدر في النيل، وذلك لما كان في نفس محمد
بن لمجور من محمد بن علىّ الخلنجىّ ممّا أسمعه قديما من المكروه
والكلام الغليظ؛ فلمّا رأى محمد الخلنجىّ خذلان محمد بن لمجور له ولم
يتمّ له الهرب كرّ راجعا حتى دخل مدينة مصر وقد انفلّ «1» عنه عساكره
فصار الى منزل رجل كان يعنى «2» بإخفائه ويأمنه على نفسه ليختفى عنده؛
فخافه «3» المذكور وتركه هاربا وتوجّه إلى السلطان فتنصّح «4» إليه
وأعلمه أنّه عنده؛ فركب السلطان وأكابر الدولة والعساكر حتّى قبضوا
عليه، وكان ذلك في صبيحة يوم الاثنين ثامن شهر رجب من سنة ثلاث وتسعين
ومائتين؛ فكانت مدّة عصيانه منذ دخل إلى مصر الى أن قبض عليه سبعة أشهر
واثنين وعشرين يوما. ودخل فاتك وبدر الحمامىّ بعساكرهما وعساكر العراق
حتى نزلا بشاطئ النيل، ثم وافاهم الأمير عيسى النّوشرىّ من الفيّوم
حسبما يأتى ذكره في ترجمته في ولايته الثانية على مصر- أعنى عوده إلى
ملكه بعد الظفر بمحمد بن علىّ الخلنجىّ- ونزل عيسى بدار فائق، فإن بدرا
كان قد قدم إلى مصر ونزل في داره التى كان النوشرىّ نزل فيها أوّلا،
ودعا للخليفة على منابر مصر ثم من بعده لعيسى النوشرىّ. هذا وأمور مصر
مضطربة الى غاية ما يكون. وقلّد عيسى شرطة العسكر لمحمد بن طاهر
المغربىّ، وشرطة المدينة ليوسف بن إسرائيل، وتقلّد أبو زنبور الخراج
على عادته. وأخذ النوشرىّ في إصلاح أمور مصر والضّياع وتتبّع أصحاب
محمد الخلنجىّ من الكتّاب والجند وغيرهم، وقبض على جماعة كثيرة منهم،
مثل:
(3/152)
السّرىّ بن الحسين الكاتب وأبى العباس أحمد
بن يوسف كاتب ابن الجصّاص- وكان على نفقات محمد الخلنجىّ- وجماعة أخر
يطول الشرح في ذكرهم. وأما محمد بن لمجور وكيغلغ وبدر الكريمىّ وجماعة
أخر من أصحاب محمد الخلنجىّ فإنهم تشتّتوا في البلاد. ثم دخل محمد بن
لمجور مصر متنكّرا، فقبض عليه وطيف به ومعه غلام آخر لمحمد الخلنجىّ،
ثم عوقب محمد بن لمجور حتى استخلص منه الأموال؛ ثم جهّز الأمير عيسى
النوشرىّ محمدا الخلنجىّ في البحر إلى أنطاكية، فخرجوا منها ودخلوا
العراق الى عند الخليفة، ثم بعد ذلك ورد كتاب الخليفة على عيسى
النوشرىّ فى شهر رمضان باستقراره في أعمال مصر جميعا قبليّها وبحريّها
حتى الإسكندريّة والى النّوبة والحجاز.
ذكر ولاية محمد بن علىّ الخلنجىّ على مصر
هو محمد بن علىّ الخلنجىّ الأمير أبو عبد الله المصرىّ الطّولونىّ، ملك
الديار المصريّة بالسيف واستولى عليها عنوة من الأمير عيسى بن محمد
النّوشرىّ. وقد مرّ من ذكره فى ترجمة عيسى النوشرىّ ما فيه كفاية عن
ذكره هنا ثانيا، غير أنّنا نذكره على حدته لكونه ملك مصر؛ وذكره بعض
أهل التاريخ في أمراء مصر، فلهذا جعلنا له ترجمة مستقلّة خوفا من
الاعتراض والاستدراك علينا بعدم ذكره.
ولما ملك محمد بن علىّ الخلنجىّ الديار المصريّة، مهّد البلاد ووطّن
الناس ووضع العطاء وفرض الفروض؛ فجهّز الخليفة المكتفى بالله جيشا
لقتاله وعليهم أبو الأغرّ، وفي الجيش الأمير أحمد بن كيغلغ وغيره؛ فخرج
اليهم محمد بن على الخلنجىّ هذا وقاتلهم في ثالث المحرّم من سنة ثلاث
وتسعين ومائتين فهزمهم أقبح هزيمة وأسر من جماعة أبى الأغرّ خلقا
كثيرا؛ وعاد أبو الأغرّ لثمان بقين من المحرّم حتى وصل
(3/153)
الى العراق؛ فعظم ذلك على الخليفة المكتفى
وجهّز إليه العساكر ثانيا صحبة فاتك المعتضدىّ في البرّ وجهّز دميانة
في البحر؛ فقدم فاتك بجيوشه حتى نزل بالنّويرة «1» .
وقد عظم أمر الخلنجىّ هذا، وأخرج عيسى النّوشرىّ عن مصر وأعمالها بأمور
وقعت له معه ذكرناها في ترجمة عيسى النوشرىّ، ليس لذكرها هنا ثانيا
محلّ. ولما بلغ الخلنجىّ مجىء عسكر العراق ثانى مرّة صحبة فاتك، جمع
عسكره وخرج إلى باب المدينة وعسكر به، وقام بالليل بأربعة آلاف من
أصحابه ليبيّت «2» فاتكا وأصحابه، فضلّوا عن الطريق وأصبحوا قبل أن
يصلوا الى النويرة؛ فعلم بهم فاتك فهضّ «3» أصحابه والتقى مع الخلنجىّ
قبل أن يصلوا الى النويرة، فتقاتلا قتالا شديدا انهزم فيه الخلنجىّ بعد
أن ثبت ساعة بعد فرار أصحابه عنه، ودخل إلى مصر واستتر بها لثلاث خلون
من شهر رجب، ثم قبض عليه وحبس، حسبما ذكرناه في ترجمة النوشرىّ؛ ثم دخل
دميانة بالمراكب إلى مصر وأقبل عيسى النوشرىّ من الصعيد ومعه الحسين
الماذرائىّ ومن كان معهما من أصحابهما لخمس خلون من رجب المذكور؛ وعاد
النوشرىّ إلى ما كان عليه من ولاية مصر، والحسين الماذرائىّ على
الخراج؛ وزالت دولة محمد بن علىّ الخلنجىّ عن مصر بعد أن حكمها سبعة
أشهر واثنين وعشرين يوما، كلّ ذلك ذكرناه في ترجمة النوشرىّ ولم نذكره
هنا إلا لزيادة الفائدة؛ وأيضا لما قدّمناه في أوّل ترجمته. ثم إنّ
عيسى النوشرىّ قيّد محمد بن علىّ الخلنجىّ هذا وجماعة من أصحابه،
وحملهم في البحر إلى أنطاكية ثم منها في البرّ إلى العراق إلى حضرة
الخليفة، فأوقف بين يديه فوبّخه ثم نكّل به، وطيف به وبأصحابه على
الجمال، ثم قتل شرّ قتلة، وزالت دولته وروحه بعد أن أفسد أحوال الديار
المصريّة
(3/154)
وتركها خرابا يبابا من كثرة الفتن
والمصادرات. قلت: وأمر محمد هذا من العجائب، فإنّه أراد أخذ ثأر بنى
طولون والانتصار لهم غيرة على ما وقع من محمد بن سليمان الكاتب من
إفساده الدّيار المصريّة، فوقع منه أيضا أضعاف ما فعله محمد بن سليمان
الكاتب، وكان حاله كقول القائل:
رام نفعا وضرّ من غير قصد ... ومن البرّ ما يكون عقوقا
ذكر عود عيسى النوشرىّ إلى مصر
دخلها بعد اختفاء محمد بن علىّ الخلنجىّ بيومين، وذلك في خامس شهر رجب
سنة ثلاث وتسعين ومائتين، ثم دخل فاتك بعساكره إلى مصر في يوم عاشر
رجب، وتسلّم الخلنجىّ وأرسله في البحر لست خلون من شعبان ووقع ما
حيكناه في ترجمته من قتله وتشهيره «1» . وأما عيسى النوشرىّ فإنه ابتدأ
في أوّل شهر رمضان بهدم ميدان أحمد بن طولون، وبيعت أنقاضه بأبخس ثمن،
وكان هذا الميدان وقصوره من محاسن الدنيا. وقد تقدّم ذكر ذلك في عدّة
أماكن في ترجمة ابن طولون وابنه خمارويه وغير ذلك. ودام فاتك بالديار
المصريّة إلى النصف من جمادى الأولى سنة أربع وتسعين ومائتين [و] خرج
منها إلى العراق. ثم أمر الأمير عيسى النوشرىّ بنفى المؤنّثين من مصر،
ومنع النّوح والنداء على الجنائز، وأمر بإغلاق المسجد الجامع فيما بين
الصلاتين، ثم أمر بفتحه بعد أيّام؛ ثم ورد عليه الخبر بموت الخليفة
المكتفى بالله علىّ في ذى القعدة سنة خمس وتسعين ومائتين؛ فلما يمع
الجند بموت الخليفة شغبوا على عيسى النوشرىّ وطلبوا منه مال البيعة
بالخلافة للمقتدر جعفر، وظفر النوشرىّ بجماعة منهم؛ ولما استقرّ
المقتدر في الخلافة أقرّ عيسى هذا على عمله بمصر.
(3/155)
ثم قدم على عيسى زيادة الله بن إبراهيم بن
الأغلب أمير إفريقيّة مهزوما من أبى عبد الله الشيعىّ في شهر رمضان سنة
ست وتسعين ومائتين، ونزل بالجيزة وأراد الدخول إلى مصر فمنعه من الدخول
إليها؛ فوقع بين أصحابه وبين جند مصر مناوشة وبعض قتال إلى أن وقع
الصلح بينهم على أن يعبرها وحده من غير جند، فدخلها وأقام بها. ولم تطل
أيام الأمير عيسى بعد ذلك، ومرض ولزم الفراش إلى أن مات، فى يوم سادس
عشرين من شعبان سنة سبع وتسعين ومائتين وهو على إمرة مصر. وكانت ولايته
على مصر خمس سنين وشهرين ونصف شهر؛ منها ولاية الخلنجىّ على مصر سبعة
أشهر واثنان وعشرون يوما. وقام من بعده على مصر ابنه أبو الفتح محمد بن
عيسى، إلى أن ولّى تكين الحربىّ، وحمل عيسى النوشرىّ إلى القدس ودفن
به. وكان عيسى هذا أميرا جليلا شجاعا مقداما عارفا بالأمور، طالت أيامه
في السعادة، وولى الأعمال مثل إمرة دمشق من قبل المنتصر والمستعين،
وولى شرطة بغداد أيام المكتفى، ثم ولى أصبهان والجبال، إلى أن ولّاه
المكتفى إمرة مصر.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 292]
السنة التى حكم فيها أربعة أمراء على مصر، وهى سنة اثنتين وتسعين
ومائتين، والأمراء الأربعة: شيبان بن أحمد بن طولون، ومحمد بن سليمان
الكاتب، وعيسى النّوشرىّ، ومحمد بن علىّ الخلنجىّ- فيها (أعنى سنة
اثنتين وتسعين ومائتين) قدم بدر الحمّامىّ الذي قتل القرمطىّ، فنلقّاه
أرباب الدولة، وخلع عليه الخليفة وخلع على ابنه أيضا، وطوّق بدر
المذكور وسوّر وقيّدت بين يديه خيل الخليفة جنائب وحمل إليه مائة ألف
درهم. وفيها وافت هديّة إسماعيل بن أحمد أمير خراسان الى بغداد كان
فيها ثلثمائة جمل عليها صناديق فيها المسك والعنبر والثياب من كلّ لون
(3/156)
ومائة غلام وأشياء كثيرة غير ذلك. وفيها
حجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمى وفيها في ليلة الأحد لإحدى عشرة
ليلة خلت من رجب ولتسع عشرة خلت من أيّار،- وهو بشنس بالقبطىّ- طلع
كوكب الذنب في الجوزاء. وفيها في جمادى الأولى زادت دجلة زيادة لم ير
مثلها حتّى خربت «1» بغداد، وبلغت الزيادة إحدى وعشرين ذراعا. وفيها
توفّى إبراهيم بن عبد الله بن مسلم الحافظ أبو مسلم الكجّىّ»
البصرىّ، ولد سنة مائتين، وقدم بغداد وكان يملى برحبة غسان، وكان يملى
على سبعة، كلّ واحد منهم يبلّغ الذي يليه، وكتب الناس عنه قياما
بأيديهم المحابر، ومسح المكان الذي كانوا قياما فيه، فحزروا «3» نيّفا
وأربعين ألف محبرة؛ وكانت وفاته ببغداد لتسع خلون من المحرّم. وفيها
توفى إدريس بن عبد الكريم أبو الحسن الحدّاد المقرئ، ولد سنة تسع
وتسعين ومائة، ومات ببغداد يوم الأضحى وهو ابن تسعين «4» سنة؛ سئل عنه
الدارقطنىّ فقال: هو ثقة وفوق الثقة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن
الحسين المصرىّ الأيلىّ «5» ، وأبو بكر أحمد بن علىّ بن سعيد قاضى حمص،
وأحمد بن
(3/157)
عمرو أبو بكر البزّار «1» ، وأبو مسلم
الكجّىّ «2» ، وإدريس بن عبد الكريم المقرئ؛ وأسلم ابن سهل الواسطىّ،
وأبو حازم القاضى عبد الحميد بن عبد العزيز، وعلىّ بن محمد ابن عيسى
الجكّانىّ «3» ، وعلى بن جبلة الأصبهانىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وستّ عشرة إصبعا، مبلغ
الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإصبع واحدة ونصف.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 293]
السنة الثانية من ولاية عيسى النّوشرىّ على مصر، وهى سنة ثلاث وتسعين
ومائتين- فيها توجّه القرمطىّ الى دمشق وحارب أهلها، فغلب عليها ودخلها
وقتل عامّة أهلها من الرجال والنساء، ونهبها وانصرف الى ناحية البادية.
وفيها حجّ بالناس الفضل بن عبد الملك الهاشمىّ. وفيها عمل على دجلة من
جانبيها مقياس مثل مقياس مصر، طوله خمس وعشرون ذراعا، ولكلّ ذراع
علامات يعرفون بها الزيادة، ثم خرب بعد ذلك. وفيها توفّى عبد الله بن
محمد أبو العباس الأنبارىّ الناشى «4» الشاعر المشهور، كان فاضلا
بارعا، وله تصانيف ردّ فيها على الشعراء وأهل المنطق، وعمل قصيدة واحدة
في قافية واحدة وروىّ واحد أربعة آلاف بيت، ومات بمصر.
ومن شعره:
(3/158)
عدلت «1» على ما لو علمت بقدره ... بسطت
فكان العدل واللوم من عذرى
جهلت ولم تعلم بأنّك جاهل ... فمن لى بأن تدرى بأنّك لا تدرى
ومن شعره قوله:
وكان لنا أصدقاء حماة «2» ... وأعداء سوء فما خلّدوا
تساقوا جميعا بكأس الردى ... فمات الصديق ومات العدو
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى إبراهيم بن
على الذّهلى، وداود بن الحسين البيهقىّ، وعبدان «3» المروزىّ، وعيسى بن
محمد [بن عيسى «4» ] ابن طهمان المروزىّ، والفضل بن العبّاس بن صفوان
الأصبهانىّ، ومحمد بن أسد المدنىّ «5» ، ومحمد بن عبدوس بن كامل
السرّاج، وهميم بن همّام الطبرىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وسبع أصابع ونصف، مبلغ
الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 294]
السنة الثالثة من ولاية عيسى النّوشرىّ على مصر، وهى سنة أربع وتسعين
ومائتين- فيها خرج زكرويه القرمطىّ من بلاد القطيف «6» يريد الحاجّ،
فوافاهم وقاتلهم حتّى ظفر بهم، وواقع الحاجّ وأخذ جميع ما كان معهم،
وكان قيمة ذلك
(3/159)
ألفى ألف دينار بعد أن قتل من الحاجّ عشرين
ألفا. وجاء الخبر إلى بغداد بذلك، فعظم ذلك على المكتفى وعلى المسلمين،
ووقع النّوح والبكاء وانتدب جيش لقتاله فساروا، وسار زكرويه الى زبالة
«1» فنزلها، وكانت قد تأخرت القافلة الثالثة وهى معظم الحاجّ، فسار
زكرويه المذكور ينتظرها، وكان في القافلة أعين «2» أصحاب السلطان ومعهم
الخزائن والأموال وشمسة «3» الخليفة، فوصلوا إلى فيد «4» وبلغهم الخبر
فأقاموا ينتظرون عسكر السلطان فلم يرد عليهم الجند، فساروا فوافوا
الملعون بالهبير «5» فقاتلهم يوما إلى الليل ثم عاودهم الحرب في اليوم
الثانى، فعطشوا واستسلموا، فوضع فيهم السيف فلم يفلت منهم إلا اليسير،
وأخذ الحريم والأموال؛ فندب المكتفى لقتاله القائد وصيفا ومعه الجيوش،
وكتب إلى شيبان أن يوافوا فجاءوا فى ألفين ومائتى فارس، فلقيه وصيف يوم
السبت رابع شهر ربيع الأوّل، فاقتتلوا حتى حجز بينهم الليل، وأصبحوا
على القتال فنصر الله وصيفا وقتل عامّة أصحاب زكرويه المذكور، الرجال
والنساء، وخلّصوا من كان معه من النساء والأموال، وخلص بعض الجند إلى
زكرويه فضربه وهو مولّ على قفاه، ثم أسره وأسروا خليفته وخواصّه وابنه
وأقاربه وكاتبه وامرأته؛ فعاش زكرويه خمسة أيام ومات من الضربة، فشقّوا
بطنه وحمل إلى بغداد، وقتل الأسارى وأحرقوا. وقيل: إن
(3/160)
الذي جرح زكرويه هو وصيف بنفسه. قلت: لا
شلّت يداه. وتفرّق أصحاب زكرويه في البرّيّة وماتوا عطشا. وفيها توفّى
محمد بن نصر أبو عبد الله المروزىّ الفقيه أحد الأئمة الأعلام وصاحب
التصانيف الكثيرة والكتب المشهورة؛ مولده ببغداد في سنة اثنتين ومائتين
ونشأ بنيسابور واستوطن سمرقند، وكان أعلم الناس باختلاف الصحابة ومن
بعدهم في الأحكام. وفيها توفّى صالح «1» بن محمد ابن عمرو بن حبيب بن
حسان بن المنذر بن أبى الأبرش عمّار، مولى أسد بن خزيمة، الحافظ أبو
علىّ الأسدىّ البغدادىّ المعروف بجزرة نزيل بخارى، ولد سنة خمس ومائتين
ببغداد. قال أبو سعيد «2» الإدريسىّ الحافظ: صالح بن محمد جزرة ما أعلم
فى عصره بالعراق وخراسان في الحفظ مثله. ولقّب جزرة «3» لأنه جاء في
حديث عبد الله بن بشر أنه كانت عنده خرزة يرقى بها المرضى، وكانت لأبى
أمامة الباهلىّ، فصحّفها جزرة (بجيم وزاى معجمتين) .
الذين ذكر الذهبى وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحسن بن
المثنّى العنبرىّ، وأبو على صالح بن محمد جزرة، وعبيد «4» العجلىّ،
ومحمد بن إسحاق بن
(3/161)
[مخلد المعروف «1» بابن] راهويه الفقيه، ومحمد بن أيوب بن الضّريس
الرازىّ، ومحمد بن معاذ الحلبىّ «2» دران، ومحمد بن نصر المروزىّ
الفقيه، وموسى بن هارون الحافظ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وإصبع واحدة، مبلغ
الزيادة خمس عشرة ذراعا وإحدى عشرة إصبعا. |