النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 365]
السنة الثالثة من ولاية المعزّ معدّ على مصر، وهى السنة التى مات فيها،
حسب ما تقدّم ذكره في ترجمته، وهى سنة خمس وستين وثلثمائة.
فيها كتب ركن الدولة أبو على الحسن بن بويه إلى ولده عضد الدولة أبى
شجاع:
أنّه قد كبرت سنّه ويؤثر مشاهدته، فآجتمعا؛ فقسم ركن الدولة الملك بين
أولاده،
(4/109)
فجعل لعضد الدولة فارس وكرمان [وأرّجان «1»
] ، ولمؤيّد الدولة الرّىّ وأصبهان، ولفخر الدولة همذان والدّينور،
وجعل ولده الأصغر أبا العباس في كنف عضد الدولة.
وفيها عاد جواب ركن الدولة إلى عزّ الدولة بما يطيّب خاطره: وكان لمّا
بلغ عزّ الدولة ما فعل ركن الدولة من قسمة البلاد بين أولاده كتب إليه
يخبره ما عمله عضد الدولة ويسأله زجره عنه، وأن يؤمّنه ممّا يخاف؛
فخاطب ركن الدولة ولده عضد الدولة في الكفّ عنه؛ فشكا إليه عضد الدولة
ما عامله عزّ الدولة به وانضمام وزيره ابن بقيّة «2» عليه؛ فلم يزل به
ركن الدولة حتّى أجابه بالكفّ عنه.
وفيها خلع على أبى عبد الله «3» أحمد بن محمد بن عبد الله العلوىّ
لإمارة الحاجّ من دار عزّ الدولة، وركب معه أبو طاهر الوزير ابن بقية
إلى داره وحجّ بالناس.
وفيها حجّ بالناس من مصر من جهة العزيز بن المعزّ، عند ما تخلّف بعد
موت أبيه المعزّ، [رجل علوىّ «4» ] ؛ وأقيمت له الدعوة بمكّة والمدينة
بعد أن منع أهل مكّة والمدينة من الميرة، ولاقوا من عدم ذلك شدائد حتى
اذعنوا له.
(4/110)
وفيها توفّى الأمير أبو صالح منصور بن نوح
السامانىّ صاحب خراسان، وقام ولده أبو القاسم نوح مقامه وسنّه ثلاث
عشرة سنة.
وفيها توفّى ثابت بن سنان بن ثابت بن قرّة أبو الحسن صاحب التاريخ؛ كان
طبيبا فاضلا، عاشر الخلفاء والملوك، وكان ثقة فريدا في وقته.
وفيها توفّى الحسين بن محمد بن أحمد بن ماسرجس الحافظ أبو علىّ
الماسرجسىّ.
أسلم ماسرجس على يد عبد الله بن المبارك وكان نصرانيّا. أخذ «1» بدمشق
عن أصحاب هشام بن عمّار، [و] ما صنّف في الإسلام أكبر من مسنده، وصنّف"
المسند الكبير" مهذّبا معلّلا في ألف وثلثمائة جزء، وجمع حديث الزّهرىّ
جمعا لم يسبقه إليه أحد [وكان يحفظه «2» مثل الماء] .
وفيها توفّى عبد الله بن عدىّ بن عبد الله بن محمد بن المبارك الحافظ
أبو أحمد الجرجانىّ. ويعرف بابن القطّان. رحل إلى الشام ومصر رحلتين؛
أولاهما سنة سبع وتسعين «3» . قال الذهبىّ: كان لا يعرف العربية مع
عجمة فيه، وأمّا في العلل والرّجال فحافظ لا يجارى.
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن إسماعيل أبو بكر الشّاشىّ الفقيه الشافعىّ
المعروف بالقفّال الكبير، كان إمام عصره بما وراء النهر، ولم يكن
للشافعيّة بما وراء النهر مثله.
(4/111)
وفيها توفّى عبد السلام بن محمد بن أبى
موسى أبو القاسم الصوفىّ البغدادىّ، سافر ولقى الشيوخ من أهل الحديث
والتصوّف، وجمع بين علم الشريعة والحقيقة.
وفيها توفّى عبد العزيز بن عبد الملك بن نصر أبو الأصبغ «1» الأموىّ
الأندلسىّ.
ولد بقرطبة ثمّ رحل إلى بخارى واستوطن بها. قال الحاكم أبو عبد الله:
سمعته ببخارى يروى أنّ مالك بن أنس كان يحدّث، فجاءت عقرب فلدغته ستّ
عشرة مرّة فتغيّر لونه ولم يتحرّك؛ فقيل له في ذلك فقال: كرهت أن أقطع
حديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وإحدى وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا. والله سبحانه وتعالى
أعلم بالصواب.
ذكر ولاية العزيز نزار على مصر
هو نزار أبو منصور العزيز بالله بن المعزّ لدين الله أبى تميم معدّ بن
المنصور بالله أبى طاهر إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن المهدىّ
أبى محمد عبيد الله العبيدىّ الفاطمىّ المغربىّ ثمّ المصرىّ، ثانى
خلفاء مصر من بنى عبيد، والخامس من المهدىّ إليه ممّن ولى من آبائه
الخلافة بالمغرب. مولده بالمهديّة من القيروان ببلاد المغرب فى يوم
عاشوراء سنة أربع وأربعين، وقيل: سنة اثنتين وأربعين وثلثمائة. وخرج مع
أبيه المعزّ من المغرب إلى القاهرة ودام بها إلى أن مات أبوه المعزّ
معدّ بعد أن عهد إليه بالخلافة. فولى بعده في شهر ربيع الآخر سنة خمس
وستّين وثلثمائة وله اثنتان وعشرون سنة، وملك مصر وخطب له بها وبالشام
وبالمغرب والحجاز،
(4/112)
وحسنت أيّامه. وكان القائم بتدبير مملكته
مولى أبيه جوهرا القائد. وكان العزيز كريما شجاعا سيوسا، وفيه رفق
بالرعيّة.
قال المسبّحىّ: «وفي أيّامه بنى قصر البحر «1» بالقاهرة الذي لم يكن
مثله لا في الشرق ولا في الغرب، وقصر الذهب «2» ، وجامع القرافة «3» .
قلت: وفد محى آثار هؤلاء المبانى حتّى كأنها لم تكن. قال المسبّحىّ:
وكان أسمر، أصهب الشعر، أعين أشهل [العين «4» ] ، بعيد ما بين
المنكبين، حسن الخلق، قريبا من الناس، لا يؤثر سفك الدماء؛ وكان مغرى
بالصيد، وكان يتصيّد السباع، وكان أديبا فاضلا» . انتهى.
وذكره أبو منصور الثعالبىّ في يتيمة الدهر، وذكر له هذه الأبيات وقد
مات له ابن في العيد فقال: [المنسرح]
نحن بنو المصطفى ذوو محن ... يجرعها في الحياة كاظمنا
عجيبة في الأنام محنتنا ... أوّلنا مبتلى وخاتمنا
يفرح هذا الورى بعيدهم ... طرّا وأعيادنا مآتمنا
(4/113)
وأما بناؤه القصر بالبحر فكان في «1» .
وقال أبو منصور «2» أيضا: «سمعت الشيخ أبا الطيّب يحكى أن الأموىّ صاحب
الأندلس كتب إليه نزار هذا (يعنى العزيز صاحب مصر) كتابا يسبّه فيه
ويهجوه؛ فكتب إليه الأموىّ: «أمّا بعد، قد عرفتنا فهجوتنا، ولو عرفناك
لأجبناك» .
قال فاشتدّ ذلك على نزار المذكور وأفحمه عن الجواب. يعنى أنه غير شريف
وأنّه لا يعرف له قبيلة حتّى كان يهجوه» . انتهى كلام أبى منصور.
ولمّا تمّ أمر العزيز بمصر واستفحل أمره وأخذ في تمهيد أمور بلاده، خرج
عليه قسأم الحارثىّ وغلب على دمشق. وكان قسّام المذكور من الشّجعان،
وكان أصله من قرية «تلفيتا» من قرى «3» جبل سنّير. كان ينقل التّراب
على الحمير؛ وتنقّلت به الأحوال حتّى صار له ثروة وأتباع وغلب بهم على
دمشق حتّى لم يبق لنوّابها معه أمر ولا نهى؛ ودام على ذلك سنين. فلمّا
ملك العزيز وعظم أمره أراد زواله، فندب إليه جيشا مع تكين «4» ، فسار
تكين إليه وحاربه أيّاما، وصار العزيز يمدّه بالعساكر إلى أن ضعف أمر
قسّام واختفى أيّاما، ثم استأمن؛ فقيّدوه وحملوه إلى العزيز إلى مصر.
(4/114)
وقال القفطىّ غير ذلك، قال: «فغلب على دمشق
رجل من العيّارين يعزف بقسّام وتحصّن بها (يعنى دمشق) وخالف على صاحب
مصر، فسار لحربه الأمير الفضل من مصر، فحاصر دمشق وضاق بأهلها الحال؛
فخرج قسّام متنكّرا فأخذته الحرس؛ فقال: أنا رسول، فأحضروه إلى الفضل؛
فقال له: أنا رسول قسّام إليك لتحلف له وتعوّضه عن دمشق بلدا يعيش به،
وقد بعثنى إليك سرّا؛ فحلف الفضل له. فلمّا توثّق منه قام وقبّل يديه
وقال: أنا قسّام؛ فأعجب الفضل ما فعله وزاد في إكرامه وردّه إلى البلد
وسلّمه إليه؛ وقام الفضل بكلّ ما ضمنه وعوّضه موضعا عاش به. فلمّا بلغ
ذلك العزيز أحسن صلته» . انتهى.
وقال الذهبىّ رواية أخرى في أمر قسّام، قال: «وهو الذي يتحدّث الناس
أنّه ملك دمشق، وأنّه قسم البلاد، وقدم لقتاله سلمان بن جعفر بن فلاح
إلى دمشق بجيش، فنزل بظاهرها ولم يمكنه دخولها؛ فبعث إليه قسّام بخطّه:
أنا مقيم على الطاعة. وبلغ العزيز ذلك فبعث البريد إلى سلمان ليردّه؛
فترحّل سلمان من دمشق؛ وولّى العزيز عليها أبا «1» محمود المغربىّ؛ ولم
يكن له أيضا مع قسّام أمر ولا حلّ ولا عقد» . انتهى كلام الذهبىّ.
قلت: ولعلّ الذي ذكره الذهبىّ كان قبل توجّه عسكرتكين والفضل؛ فإنّ
الفضل لمّا سار بالجيوش أخذ دمشق من قسام وعوّضه بلدا، وهو المتواتر.
والله أعلم.
وقال الحافظ أبو الفرج بن الجوزىّ: «كان العزيز قد ولّى عيسى بن نسطورس
«2» النّصرانىّ ومنشا «3» اليهودىّ؛ فكتبت إليه امرأة: بالذى أعزّ
اليهود بمنشا، والنصارى
(4/115)
بابن نسطورس، وأذلّ المسلمين بك، إلّا نظرت
في أمرى. فقبض العزيز على اليهودىّ والنصرانىّ، وأخذ من ابن نسطورس
ثلثمائة ألف دينار» . انتهى.
وقال ابن خلكان: وأكثر أهل العلم لا يصحّحون نسب المهدىّ عبيد الله
والد خلفاء مصر، حتّى إنّ العزيز في أوّل ولايته صعد المنبر يوم
الجمعة، فوجد هناك ورقة فيها:
[السريع]
إنّا سمعنا نسبا منكرا ... يتلى على المنبر في الجامع
إن كنت فيما تدّعى صادقا ... فاذكر أبا بعد الأب الرابع
وإن ترد تحقيق ما قلته ... فانسب لنا نفسك كالطائع
أو فدع «1» الأنساب مستورة ... وادخل بنا في النسب الواسع
فإنّ أنساب بنى هاشم ... يقصر عنها طمع الطامع
فقرأها العزيز ولم يتكلّم. ثمّ صعد العزيز المنبر يوما آخر فرأى ورقة
فيها مكتوب:
[البسيط]
بالظّلم والجور قد رضينا ... وليس بالكفر والحماقه
إن كنت أعطيت علم غيب ... فقل لنا كاتب البطاقه
قال: وذلك لأنّهم ادّعوا علم المغيّبات والنجوم. وأخبارهم في ذلك
مشهورة.
انتهى كلام ابن خلكان باختصار.
وقال غيره: كان العزيز ناهضا، وفي أيّامه فتحت حمص وحماة وحلب، وخطب له
صاحب الموصل أبو الذّوّاد «2» محمد بن المسيّب بالموصل، وخطب له
باليمن. ثمّ
(4/116)
انتقض ما بينه وبين صاحب حلب أبى الفضائل
بن سعد الدولة ومدبّر ملكه لؤلؤ بعد وفاة سعد الدولة بن سيف الدولة بن
حمدان صاحب حلب لمّا قتل بكجور وهرب كاتبه (أعنى كاتب بكجور، وهو علىّ
بن الحسين المغربىّ) من حلب إلى مشهد الكوفة على البريّة؛ ثم اجتهد حتى
وصل إلى مصر، واجتمع بالعزيز هذا وعظّم أمر حلب عنده وكثّرها، وهوّن
عليه حصونها وأمر متولّيها أبى الفضائل.
قلت: ولؤلؤ وأبو الفضائل يأتى بيان ذكرهما فيما يقع بينهما وبين
العزيز، وتأتى أيضا وفاتهما في الحوادث، فيظهر بذلك أمرهما على من لا
يعرفهما.
فلمّا هوّن علىّ بن الحسين أمر حلب على العزيز، تشوّقت نفسه إلى أخذ
حلب من أبى الفضائل. وكان للعزيز غلامان، أحدهما يسمى منجوتكين والآخر
بازتكين «1» من الأتراك، وكانا أمر دين مشتدّين؛ فأشار على العزيز
المغربىّ المذكور بإنفاذ أحدهما لقتال الحلبيّين لتنقاد إليه الأتراك
مماليك سعد الدولة؛ فإنّه كان قبل ذلك قد استأمن إلى العزيز جماعة من
أصحاب سعد الدولة بن سيف الدولة بن حمدان بعد موت سعد الدولة، فأمّنهم
العزيز وأحسن إليهم وقرّبهم؛ منهم وفيّ «2» الصّقلبىّ فى ثلثمائة غلام
(يعنى مملوكا) وبشارة الإخشيذىّ في أربعمائة غلام، ورباح «3» السيفىّ؛
فولّى العزيز وفيّا الصقلبىّ عكّا، وولّى بشارة طبريّة، وولّى رباحا
غزة. ثمّ إنّ العزيز ولّى مملوكه منجوتكين حرب حلب، وقدّمه على العساكر
وولّاه الشأم، واستكتب له أحمد بن محمد النّشورىّ «4» ، ثمّ ضمّ إليه
أيضا أبا الحسن علىّ بن الحسين المغربىّ المقدّم ذكره ليقوم المغربىّ
بأمر منجوتكين وتدبيره مع الحلبيّين؛ فإنّه كان أصل
(4/117)
هذه الحركة. وخرج العزيز حتّى شيّعهم بنفسه
وودّعهم. فسار منجوتكين حتّى وصل دمشق، فتلقّاه أهلها والقوّاد وعساكر
الشام والقبائل، فأقام منجوتكين بعساكره عليها مدّة، ثم رحل طالبا لحلب
في ثلاثين ألفا. وكان بحلب أبو الفضائل بن سعد الدّولة ابن سيف الدولة
بن حمدان ومعه لؤلؤ، فأغلقا أبوابها واستظهرا في القتال غاية الاستظهار
على المصريّين. وكان لؤلؤ لمّا قدم عسكر مصر إلى الشام كاتب بسيل «1»
ملك الرّوم فى النجدة على المصريّين ومتّ «2» له بما كان بينه وبين سعد
الدولة من المعاهدة والمعاقدة، وأنّ هذا ولده قد حصر مع عساكر
المصريّين؛ وحثّه على إنجاده؛ ثمّ بعث إليه بهدايا وتحف كثيرة، وسأله
في المعونة والنّصرة على المصريّين، وبعث الكتاب والهدايا مع ملكون
السريانىّ؛ فتوجّه ملكون السريانىّ إليه فوجد ملك الرّوم بقاتل ملك
البلغر؛ فأعطاه الهديّة والكتاب، فقبل الهديّة وكتب إلى البرجىّ نائبه
بأنطاكية أن يسير بالعساكر إلى حلب ويدفع المغاربة (أعنى عساكر العزيز)
عن حلب. فسار البرجىّ فى خمسين ألفا؛ ونزل البرجىّ بعساكره الجسر
الجديد «3» بين أنطاكية وحلب. فلمّا بلغ ذلك منجوتكين استشار علىّ بن
الحسين المغربىّ والقوّاد في ذلك، فأشاروا عليه بالانصراف من حلب وقصد
الروم والابتداء بهم قبل وصول الروم الى حلب، لئلا يحصلوا بين عدوّين.
فساروا حتّى نزلوا تحت حصن «4» إعزاز وقاربوا الروم، وصار بينهم النهر
(4/118)
المعروف بالمقلوب «1» . فلمّا وقع بصرهم
على الروم رموهم بالنّشاب وبينهم النهر المذكور، ولم يكن لأحد الفريقين
سبيل للعبور لكثرة الماء. وكان منجوتكين قد حفظ المواضع التى يقلّ
الماء فيها، وأقام جماعة من أصحابه يمنعون عسكره من العبور لوقت يختاره
المنجّم. فخرج من عسكره من الدّيلم رجل شيخ كبير في السن وبيده ترس
وثلاث روسات «2» ؛ فوقف على جانب النهر وبإزائه قوم من الروم، فرموه
بالنّشاب وهو يسبح حتّى قطع النهر، وصار على الأرض من ذلك البرّ والماء
في النهر إلى صدره.
فلمّا رآه «3» عساكر منجوتكين رموا بأنفسهم في الماء فرسانا ورجّالة،
ومنجوتكين يمنعهم فلا يمتنعون حتّى صاروا مع الروم في أرض واحدة
وقاتلوا الروم؛ فأنزل الله نصره على المسلمين، فولّى الروم وأعطوهم
ظهورهم، وركبهم المسلمون فاثخنوهم قتلا وأسرا، وأفلت كبير الروم
البرجىّ في عدد يسير إلى أنطاكية، وغنم المسلمون من عساكرهم وأموالهم
شيئا لا يعدّ ولا يحصى. وكان مع الروم ألفان من عسكر حلب المسلمين فقتل
منجوتكين منهم ثلثمائة. وتبع منجوتكين الروم إلى أنطاكية فأحرق ضياعها
ونهب رساتيقها، ثمّ كرّ راجعا إلى حلب، وكان وقت الغلّات؛ فعلم لؤلؤ
أنّه لا له نجدة «4» وأنّه يضعف عن مقاومة المصريّين؛ فكاتب المغربىّ
والنّشورىّ كاتب منجوتكين وأرغبهما في المال وبذل لهما ما أرضاهما،
وسألهما أن يشيرا على منجوتكين بالانصراف عن حلب إلى دمشق وأن يعود في
العام المقبل؛ فخاطباه فى ذلك، وصادف قولهما له شوق منجوتكين إلى دمشق؛
وكان منجوتكين أيضا
(4/119)
قد ملّ الحرب فانخدع؛ وكتب هو والجماعة إلى
العزيز يقولون: قد نفدت الميرة ولا طاقة للعساكر على المقام،
ويستأذنونه في الرجوع إلى دمشق. وقبل أن يجيء جواب العزيز رحلوا عن حلب
إلى دمشق. وبلغ العزيز ذلك فشقّ عليه رحيلهم، ووجد أعداء المغربىّ
طريقا إلى الطعن فيه عند العزيز، فصرف العزيز المغربىّ وقلّد الأمر
للأمير صالح بن علىّ الرّوذبارىّ وأقعده مكانه. ثمّ حمل العزيز من
غلّات مصر في البحر إلى طرابلس شيئا كثيرا. ثمّ رجع منجوتكين إلى حلب
فى السنة الآتية وبنى الدور والحمّامات والخانات والأسواق بظاهر حلب،
وقاتل أهل حلب. واشتدّ الحصار على لؤلؤ وأبى الفضائل بحلب، وعدمت
الأقوات عندهم بداخل حلب، فكاتبوا ملك الروم ثانيا وقالوا له: متى أخذت
حلب أخذت أنطاكية؛ ومتى أخذت أنطاكية أخذت قسطنطينيّة. فلمّا سمع ملك
الروم ذلك سار بنفسه في مائة ألف وتبعه من كلّ بلد من معاملته عسكره؛
فلمّا قرب من البلاد أرسل لؤلؤ إلى منجوتكين يقول: إنّ الإسلام جامع
بينى وبينك، وأنا ناصح لكم، وقد وافاكم ملك الروم بجنوده فخذوا
لأنفسكم؛ ثم جاءت جواسيس منجوتكين فأخبروه بمثل ذلك، فأحرق منجوتكين
الخزائن والأسواق وولّى منهزما؛ وبعث أثقاله إلى دمشق، وأقام هو بمرج
قنّسرين ثم سار إلى دمشق. ووصل بسيل ملك الروم بجنوده إلى حلب، ونزل
موضع عسكر المصريّين، فهاله ما كان فعله منجوتكين، وعلم كثرة عساكر
المصريّين وعظموا في عينه؛ وخرج إليه أبو الفضائل صاحب حلب ولؤلؤ
وخدماه «1» . ثم سار ملك الرّوم في اليوم الثالث ونزل على [حصن «2» ]
شيزر وفيه منصور بن كراديس أحد قوّاد العزيز، فقاتله يوما واحدا، ثم
طلب منه
(4/120)
الأمان فأمّنه؛ فخرج بنفسه إليه، فأهّل «1»
به بسيل ملك الروم وأعطاه مالا وثيابا، وسلّم الحصن إليه؛ فرتّب ملك
الروم [عليه] أحد ثقاته. ثمّ نازل حمص فافتتحها عنوة وسبى منها ومن
أعمالها أكثر من عشرة آلاف نسمة. ثمّ نزل على طرابلس أربعين يوما،
فقاتلها «2» فلم يقدر على فتحها، فرحل عائدا إلى الروم. ووصل خبره إلى
العزيز فعظم عليه ذلك إلى الغاية، ونادى في الناس بالنفير، وفتح
الخزائن وأنفق على جنده، ثمّ سار بجيوشه ومعه توابيت آبائه فنزل إلى
الشام، ووصل إلى بانياس «3» ، فأخذه مرض القولنج وتزايد به حتّى مات
منه وهو في الحمام في سنة ستّ وثمانين وثلثمائة.
وقيل في وفاته غير ذلك أقوال كثيرة، منها أنّه مات بمدينة بلبيس من
ضواحى القاهرة، وقيل: إنّه مات في شهر رمضان قبل خروجه من القاهرة في
الخمّام، وعمره اثنتان وأربعون سنة وثمانية أشهر. وكانت مدّة ولايته
على مصر إحدى وعشرين سنة وخمسة أشهر وأيّاما. وتولّى مصر بعده ابنه أبو
علىّ منصور الملقّب بالحاكم الآتى ذكره إن شاء الله. وكان العزيز ملكا
شجاعا مقداما حسن الأخلاق كثير الصّفح حليما لا يؤثر سفك الدماء، وكانت
لديه فضيلة؛ وله شعر جيّد، وكان فيه عدل وإحسان للرعيّة. قلت: وهو أحسن
الخلفاء الفاطميّين حالا بالنسبة لأبيه المعز ولابنه الحاكم؛ على ما
يأتى ذكره إن شاء الله.
قال ابن خلكان: «وزادت مملكته على مملكة أبيه، وفتحت له حمص وحماة
وشيزر وحلب؛ وخطب له المقلّد «4» العقيلىّ صاحب الموصل بالموصل
[وأعمالها «5» ]
(4/121)
فى المحرم سنة اثنتين وثمانين وثلثمائة،
وضرب اسمه على السكة والبنود، وخطب له باليمن. ولم يزل في سلطانه وعظم
شأنه إلى أن خرج إلى بلبيس متوجّها إلى الشام، فابتدأت به العلّة في
العشر الأخير من رجب سنة ستّ وثمانين وثلثمائة. ولم يزل مرضه يزيد
وينقص، حتّى ركب يوم الأحد لخمس بقين من شهر رمضان من السنة المذكورة
إلى الحمّام بمدينة بلبيس، وخرج إلى منزل الأستاذ أبى الفتوح برجوان،
وكان برجوان صاحب خزانته بالقصر، فأقام عنده وأصبح يوم الاثنين، وقد
اشتدّ به الوجع يومه ذلك وصبيحة نهار الثّلاثاء، وكان مرضه من حصاة
وقولنج، فاستدعى القاضى محمد بن النّعمان وأبا محمد الحسن بن عمّار
الكتامىّ الملقّب أمين الدولة- وهو أوّل من تلقّب من المغاربة، وكان
شيخ كتامة وسيّدها- ثمّ خاطبهما فى أمر ولده الملقّب بالحاكم، ثمّ
استدعى ولده المذكور وخاطبه أيضا بذلك.
ولم يزل العزيز في الحمّام والأمر يشتدّ به إلى بين الصلاتين من ذلك
النهار، وهو الثلاثاء الثامن والعشرون من شهر رمضان سنة ستّ وثمانين
وثلثمائة، فتوفّى في مسلخ الحمّام. هكذا قال المسبّحىّ» .
قلت: والعزيز هذا هو الذي رتّب الفطرة «1» فى عيد شوّال، وكانت تعمل
على غير هذه الهيئة. وكانت الفطرة تعمل وتفرّق بالإيوان، ثم نقلت في
عدّة أماكن؛ وكان مصروفها في كلّ سنة عشرة آلاف دينار. وتفصيل الأنواع:
دقيق ألف حملة، سكّر سبعمائة قنطار، قلب فستق ستة قناطير، لوز ثمانية
قناطير، بندق أربعة قناطير، تمر أربعمائة إردب، زبيب ثلثمائة إردب، خلّ
ثلاثة قناطير،
(4/122)
عسل نحل خمسة قناطير «1» ، شيرج مائتا
قنطار، حطب ألف ومائتا حملة، سمسم إردبان، آنيسون إردبان، زيت طيّب
للوقود ثلاثون قنطارا، ماء ورد خمسون رطلا، مسك خمس نوافج «2» ، كافور
عشرة مثاقيل، زعفران مائة وخمسون درهما.
ثمن مواعين وأجرة صنّاع وغيرها خمسمائة دينار. انتهى باختصار. ولنعد
«3» إلى ذكر وفاة العزيز صاحب الترجمة.
وقال صاحب تاريخ القيروان: «إنّ الطّبيب وصف له دواء يشربه في حوض
الحمّام، وغلط فيه فشربه فمات من ساعته؛ ولم ينكتم تاريخ موته ساعة
واحدة.
وترتّب موضعه ولده الحاكم أبو علىّ منصور. وبلغ الخبر أهل القاهرة،
فخرج الناس غداة الأربعاء لتلقى الحاكم؛ فدخل البلد وبين يديه البنود
والرايات وعلى رأسه المظلّة «4» يحملها ريدان الصّقلبىّ، فدخل القصر
عند اصفرار الشمس، ووالده العزيز بين يديه في عماريّة وقد خرجت رجلاه
منها، وأدخلت العماريّة القصر؛ وتولى غسله القاضى محمد بن النّعمان،
ودفن عند أبيه المعزّ في حجرة من القصر. وكان دفنه عند العشاء [الأخيرة
«5» ] . وأصبح الناس يوم الخميس سلخ الشهر والأحوال مستقيمة، وقد نودى
في البلدان: لا مؤونة ولا كلفة، وقد أمّنكم الله على أموالكم وأرواحكم؛
فمن نازعكم أو عارضكم فقد حلّ ماله ودمه. وكانت ولادة العزيز يوم
الخميس رابع عشر المحرّم سنة أربع وأربعين وثلثمائة» . انتهى كلام ابن
خلكان باختصار رحمه الله.
(4/123)
وقال المختار المسبّحى صاحب التاريخ
المشهور: «قال لى الحاكم، وقد جرى ذكر والده العزيز،: يا مختار،
استدعانى والدى قبل موته وهو عارى الجسم، وعليه الخرق والضّماد (يعنى
كونه كان في الحمام) قال: فاستدعانى وقبّلنى وضمّنى إليه، وقال: واغمّى
عليك يا حبيب قلبى! ودمعت عيناه، ثمّ قال: امض يا سيّدى فآلعب فأنا في
عافية. قال الحاكم: فمضيت والتهيت بما يلتهى به الصّبيان من اللعب إلى
أن نقل الله تعالى العزيز إليه» . انتهى كلام المسبّحى.
وقد ذكرنا في وفاة العزيز عدّة وجوه من كلام المؤرّخين رحمهم الله
تعالى.
وكان العزيز حازما فصيحا. وكتابه إلى عضد الدولة بحضرة الخليفة الطائع
العباسىّ يدلّ على فضل وقوّة. وكان كتابه يتضمّن بعد البسملة:
«من عبد الله ووليّه نزار أبى منصور الإمام العزيز بالله أمير
المؤمنين، إلى عضد الدولة الإمام نصير ملة الإسلام أبى شجاع بن أبى
علىّ. سلام عليك؛ فإنّ أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلّا
هو، ويسأله الصّلاة على جدّه محمد رسول ربّ العالمين، وحجّة الله على
الخلق أجمعين، صلاة باقية نامية متّصلة دائمة بعترته الهادية، وذرّيته
الطيّبة الطاهرة. وبعد، فإنّ رسولك وصل إلى حضرة أمير المؤمنين، مع
الرسول المنفذ اليك، فأدّى ما تحمله «1» من إخلاصك في ولاء أمير
المؤمنين ومودّتك «2» ، ومعرفتك بحقّ إمامته، ومحبتك لآبائه الطائعين
الهادين المهديّين. فسرّ أمير المؤمنين بما سمعه عنك، ووافق ما كان
يتوسّمه فيك وأنّك لا تعدل عن الحقّ- ثم ذكر كلاما طويلا في المعنى إلى
أن قال-: وقد علمت ما جرى على ثغور المسلمين من المشركين، وخراب الشام
وضعف أهله، وغلاء الأسعار. ولولا ذلك لتوجّه
(4/124)
أمير المؤمنين بنفسه إلى الثغور، وسوف يقدم
إلى الحيرة، وكتابه يقدم عليك عن قريب، فتأهّب إلى الجهاد في سبيل
الله» . وفي آخر الكتاب: «وكتبه يعقوب ابن يوسف بن كلّس عند مولانا
أمير المؤمنين» . فكتب إليه عضد الدولة كتابا يعترف فيه بفضل أهل
البيت، ويقرّ للعزيز أنّه من أهل تلك النّبعة الطاهرة، [وأنّه في طاعته
«1» ] ويخاطبه بالحضرة الشريفة، وما هذا معناه. انتهى.
قلت: وأنا أتعجّب من كون عضد الدولة كان إليه أمر الخليفة العباسى
ونهيه، ويقع في مثل هذا لخلفاء مصر، وقد علم كلّ أحد ما كان بين بنى
العباس وخلفاء مصر من الشّنان. وما أظنّ عضد الدولة كتب له ذلك إلّا
عجزا عن مقاومته، فإنّه قرأ كتابه في حضرة الخليفة الطائع، وأجاب بذلك
أيضا بعلمه، فهذا من العجب.
قال الوزير يعقوب بن كلّس: «سمعت العزيز بالله يقول لعمّه حيدرة: يا
عمّ، أحبّ أن أرى النّعم عند الناس ظاهرة، وأرى عليهم الذهب والفضّة
والجوهر، ولهم الخيل واللّباس والضّياع والعقار، وأن يكون ذلك كلّه من
عندى» . قال المسبّحى: وهذا لم يسمع بمثله قطّ من ملك. انتهت ترجمة
العزيز. ولمّا مات رثاه الشعراء بعدّة قصائد.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 366]
السنة الأولى من ولاية العزيز نزار العبيدىّ على مصر وهى سنة ست وستين
وثلثمائة.
فيها في جمادى الأولى زفّت بنت عزّ الدولة إلى الخليفة الطائع لله
العباسىّ.
وفيها جاء أبو بكر محمد بن علىّ بن شاهويه صاحب القرامطة، ومعه ألف رجل
من القرامطة إلى الكوفة، وأقام الدعوة بها لعضد الدولة، وأسقط خطبة عزّ
الدولة بختيار. وكان قدومه معونة لعضد الدولة.
(4/125)
وفيها عمل في الدّيار المصرية المأتم في
يوم عاشوراء على حسين بن علىّ رضى الله عنهما، وهو أوّل ما صنع ذلك
بديار مصر. فدامت هذه السّنة القبيحة سنين إلى أن انقرضت دولتهم، على
ما سيأتى ذكره.
وفيها كانت وقعة بين عزّ الدولة بن معزّ الدولة أحمد وبين ابن عمّه عضد
الدولة بن ركن الدولة الحسن بن بويه، وقعة هائلة أسر فيها غلام تركىّ
لعزّ الدولة؛ فاشتدّ حزنه عليه، وامتنع عزّ الدولة من الأكل والشرب
وأخذ فى البكاء واحتجب عن الناس وحرّم على نفسه الجلوس في الدّست؛ وبذل
لعضد الدولة في الغلام المذكور جاريتين عوّادتين كان قد بذل له في
الواحدة مائة ألف درهم؛ فرّده عضد الدولة عليه.
وفيها حجّ بالناس أبو عبد الله أحمد بن [أبى «1» ] الحسين العلوىّ.
وحجّت في السنة جميلة بنت ناصر الدولة بن حمدان، ومعها أخواها «2»
إبراهيم [وهبة الله] حجّة ضرب بها المثل، وفرّقت أموالا عظيمة؛ منها
أنّها لمّا رأت الكعبة نثرت عليها عشرة آلاف دينار، وسقت جميع أهل
الموسم السّويق بالسكر والثّلج. كذا قال أبو منصور الثعالبىّ. وقتل
أخوها هبة «3» الله في الطريق. وأعتقت ثلثمائة عبد ومائتى جارية،
وفرّقت المال في المجاورين حتى أغنتهم، وخلعت على كبار الناس خمسين ألف
ثوب. وكان معها أربعمائة عماريّة. ثم ضرب الدهر ضربانه واستولى عضد
الدولة
(4/126)
ابن بويه على أموالها وحصونها؛ فإنّه كان
خطبها فامتنعت، ولم يدع لها شيئا إلى أن احتاجت وافتقرت. فانظر إلى هذا
الدهر كيف يرفع ويضع!.
وفيها توفّى المستنصر بالله صاحب الأندلس أبو العاصى الحكم بن الناصر
لدين الله عبد الرّحمن الأموىّ. بقى في الملك ستة عشر عاما، وعاش ثلاثا
وستين سنة.
وكان حسن السيرة، جمع من الكتب ما لا يحدّ ولا يوصف.
وفيها توفّى السلطان ركن الدولة أبو علىّ الحسن بن بويه بن فنّاخسرو بن
تمام ابن كوهى بن شيرزيل الأصغر بن شيركوه بن شيرزيل [الأكبر «1» ]
الدّيلمىّ، صاحب أصبهان والرّىّ وهمذان وعراق العجم كلّه. وهؤلاء
الملوك الثلاثة: عضد الدولة وفخر الدولة ومؤيّد الدولة أولاده «2» .
وكان ملكا جليلا سعيدا في أولاده، قسم عليهم الممالك، فقاموا بها أحسن
قيام. وملك ركن الدولة أربعا وأربعين سنة وأشهرا.
وكان أبو الفضل بن العميد وزيره، والصاحب إسماعيل بن عبّاد كان وزير
ولديه مؤيد الدولة ثم فخر الدولة. ومات ركن الدولة المذكور في المحرّم.
وبويه بضم الباء الموحّدة وفتح الواو وسكون الياء المثناة من تحتها
وبعدها هاء ساكنة، وفنّاخسرو بفتح الفاء وتشديد النون وبعد الألف خاء
معجمة مضمومة ثم سين مهملة ساكنة ثم راء مضمومة وبعدها واو. وقد ضبطته
لكى يعرف بعد ذلك اسم من يأتى من أولاده في هذا الكتاب.
وفيها توفّى إسماعيل الشيخ أبو عمر السلمىّ «3» ، كان من كبار المشايخ
وله قدم صدق وحكايات مشهورة، رحمه الله.
(4/127)
وفيها توفّى الحسن بن أحمد بن أبى سعيد
الحسن بن بهرام أبو علىّ، وقيل: أبو محمد، القرمطىّ الجنّابى الخارجىّ.
ولد بالأحساء في شهر رمضان سنة ثمان وسبعين ومائتين، وغلب على الشام
لمّا قتل جعفر بن فلاح، وتوجّه إلى مصر لقتال المعزّ العبيدىّ، كما
ذكرناه في ترجمة المعزّ، ثم مات بالرّملة في عوده إلى دمشق في شهر رجب.
وجدّه أبو سعيد هو أوّل القرامطة، وقد مرّ من أخبارهم القبيحة نبذة
كبيرة في عدّة سنين. وكان الحسن هذا صاحب الترجمة فصيحا شاعرا، وكان
يلقّب بالأعظم، وكان يلبس الثياب القصيرة، وهو أحد من قتل العباد،
وأخرب البلاد.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحسن بن
أحمد «1» ابن أبى سعيد الجنّابى القرمطىّ، كان ملك الشام وحاصر مصر
شهرا. وركن الدولة الحسن بن بويه صاحب عراق العجم، وكانت دولته خمسا
وأربعين سنة، ووزر له أبو الفضل بن العميد. وتوفّى أبو الحسن محمد بن
عبد الله بن زكرياء بن حيّويه «2» النّيسابورىّ بمصر. وأبو الحسن محمد
بن الحسن النيسابورىّ السرّاج المقرئ الزاهد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع سواء. مبلغ الزيادة
ستّ عشرة، ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 367]
السنة الثانية من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة سبع وستين
وثلثمائة.
فيها دخل عضد الدولة بن ركن الدولة بن بويه بغداد، وخرج منها ابن عمه
عزّ الدولة بختيار بن معزّ الدولة بن بويه، ثم تقاتلا فانتصر عزّ
الدولة ثم قتل، حسب ما سنذكره في هذه السنة.
(4/128)
وفيها زادت دجلة في نيسان حتى بلغت إحدى
وعشرين ذراعا، فهدمت الدور والشوارع، وهرب الناس في السفن، وهيّأ عضد
الدولة الزبازب تحت داره (والزبازب هى المراكب الخفيفة) .
وفيها حجّ بالناس أبو عبد الله العلوىّ.
وفيها جاء الخبر بهلاك أبى يعقوب يوسف بن الحسن الجنّابىّ القرمطىّ
صاحب هجر، وأغلقت الأسواق له بالكوفة ثلاثة أيّام، وكان قد توزّر لعضد
الدولة.
وفيها توفّى أبو القاسم إبراهيم بن محمد بن أحمد النّصرپادىّ
النّيسابورىّ (ونصرپاد: محلّة من نيسابور. وكلّ پاد يأتى في اسم بلد من
هؤلاء البلدان هو بالتفخيم حتى يصحّ معناه) . كان أبو القاسم حافظ
خراسان وشيخها، وإليه يرجع فى علوم القوم والسّير والتواريخ، وكان صحب
الشّبلىّ وغيره من المشايخ. مات بمكّة حاجّا، ودفن عند قبر الفضيل بن
عياض.
وفيها توفّى السلطان أبو منصور بختيار عزّ الدولة بن معزّ الدولة أحمد
بن بويه الدّيلمىّ. ولى ملك العراق بعد أبيه، وتزوّج الخليفة الطائع
لله عبد الكريم بابنته شاه «1» زمان على صداق مائة ألف دينار. وكان عزّ
الدولة شجاعا قويّا يمسك الثّور العظيم بقرنيه فلا يتحرّك «2» . وكان
بينه وبين ابن عمّه عضد الدولة منافسات وحروب على الملك، وتقاتلا غير
مرّة آخرها في شوّال، قتل فيها عزّ الدولة المذكور فى المعركة، وحمل
رأسه إلى عضد الدولة، فوضع المنديل على وجهه وبكى. وتملّك عضد الدولة
العراق بعده، واستقلّ بالممالك. وعاش عزّ الدولة ستّا وثلاثين سنة.
(4/129)
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن عبد الله بن
نصر أبو طاهر الذهلىّ البغدادىّ القاضى نزيل مصر وقاضيها. ولد ببغداد
في ذى الحجة سنة تسع وسبعين ومائتين.
وفيها توفّى الوزير أبو طاهر محمد بن محمد بن بقيّة وزير عزّ الدولة،
وكان عضد الدولة قد بعث إليه يميله عن عزّ الدولة؛ فقال: الخيانة
والغدر ليستا من أخلاق الرجال. فلمّا قتل عزّ الدولة قبض عليه عضد
الدولة وشهّره في بغداد من الجانبين وعلى رأسه برنس، ثم أمر به أن يطرح
تحت أرجل الفيلة فقتلته الفيلة، ثم صلب فى طرف الجسر من الجانب
الشرقىّ، ولم يشفع فيه الخليفة الطائع لأمر كان في نفسه منه أيّام
مخدومه عزّ الدولة، وأقيم عليه الحرس. فاجتاز به أبو الحسن محمد ابن
عمر الأنبارىّ الصوفىّ الواعظ، وكان صديقا لابن بقيّة المذكور، فرثاه
بمرثيته المشهورة وهى: [وافر]
علوّ في الحياة وفي الممات ... لحقّ أنت إحدى المعجزات
كأنّ الناس حولك حين قاموا ... وفود نداك أيّام الصّلات
كأنّك قائم فيهم خطيبا ... وكلّهم قيام للصّلاة
مددت يديك نحوهم احتفاء ... كمدّهما إليهم بالهبات
وتشعل عندك النّيران ليلا ... كذلك كنت أيّام الحياة
ركبت مطيّة من قبل زيد «1» ... علاها في السنين الماضيات
ولم أر قبل جذعك قطّ جذعا ... تمكّن من عتاق المكرمات
وتلك فضيلة فيها تأسّ ... تباعد عنك تعبير العداة
أسأت إلى النوائب فاستثارت ... فأنت قتيل ثأر النّائبات
(4/130)
وكنت تجير من جور «1» الليالى ... فعاد
مطالبا لك بالتّراب
وصيّر دهرك الإحسان فيه ... إلينا من عظيم السّيّئات
وكنت لمعشر سعدا فلمّا ... مضيت تفرّقوا بالمنحسات
غليل باطن لك في فؤادى ... يخفّف بالدّموع الجاريات
ولو أنّى قدرت على قيام ... لفرضك والحقوق الواجبات
ملأت الأرض من نظم القوافى ... ونحت بها خلاف النائحات
ولكنّى أصبّر عنك نفسى ... مخافة أن أعدّ من الجناة
وما لك تربة فأقول تسقى ... لأنّك نصب هطل الهاطلات
ولمّا ضاق بطن الأرض عن أن ... يضمّ علاك من بعد الممات
أصاروا الجوّ قبرك واستنابوا ... عن الأكفان ثوب السافيات «2»
عليك تحيّة الرّحمن تترى ... برحمات غواد رائحات
قلت: ولم أذكر هذه المرثية بتمامها هنا إلّا لغرابتها وحسن نظمها.
واستمر ابن بقيّة مصلوبا إلى أن توفّى عضد الدولة.
وفيها توفّى الأمير الغضنفر بن ناصر الدولة بن حمدان صاحب الموصل وابن
صاحبها.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو القاسم
إبراهيم ابن محمد النّصرپادىّ الواعظ العارف. وعزّ الدولة بختيار بن
معز الدولة بن بويه ملك العراق، قتل في مصافّ بينه وبين ابن عمه عضد
الدولة. والغضنفر بن ناصر الدولة بن حمدان صاحب الموصل وابن صاحبها.
وأبو طاهر محمد بن أحمد بن
(4/131)
عبد الله الذّهلىّ بمصر في ذى القعدة، وله
ثمان وثمانون سنة. وأبو بكر محمد بن عمر القرطبىّ ابن القوطيّة
اللغوىّ. والوزير أبو طاهر محمد بن محمد بن بقيّة نصير «1» الدولة،
وزير عزّ الدولة، صلبه عضد الدولة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وثلاث وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 368]
السنة الثالثة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة ثمان وستين
وثلثمائة.
فيها أمر الخليفة الطائع أن تضرب على باب عضد الدولة الدبادب (أعنى
الطبلخانات) فى وقت الصبح والمغرب والعشاء، وأن يخطب له على منابر
الحضرة.
قلت: وهذا أوّل ملك دقّت الطبلخانة على بابه، وصار ذلك عادة من يومئذ.
وقال الحافظ أبو الفرج بن الجوزىّ: «وهذان أمران لم يكونا من قبله ولا
أطلقا لولاة العهود، [ولا «2» خطب بحضرة السلطان إلّا له، ولا ضربت
الدبادب إلّا على بابه] . وقد كان معزّ الدولة أحبّ أن تضرب له الدبادب
بمدينة السلام، فسأل الخليفة المطيع لله فى ذلك فلم يأذن له» . قال
الحافظ أبو عبد الله الذهبى: وما ذاك إلّا لضعف أمر الخلافة. انتهى.
وفيها توفّى أحمد بن جعفر بن حمدان بن مالك الحافظ أبو بكر القطيعىّ
البغدادىّ، كان يسكن قطيعة الرقيق. ومولده في أوائل سنة أربع وسبعين
ومائتين. وكان مسند العراق في زمانه وسمع الكثير، وروى عنه الدارقطنىّ
وابن شاهين والحاكم وخلق سواهم.
(4/132)
وفيها توفّى عبد الله بن إبراهيم بن يوسف
الحافظ أبو القاسم الجرجانى «1» الآبندونىّ، وآبندون: قرية من قرى
جرجان. كان رفيق ابن عدىّ في الرحلة، سكن بغداد وحدّث بها عن جماعة،
وروى عنه رفيقه الإمام أبو بكر الإسماعيلى «2» وغيره.
وفيها توفّى محمد بن عيسى بن عمرويه الشيخ أبو أحمد الجلودىّ الزاهد
راوى صحيح مسلم، سمع الكثير، وروى عنه غير واحد. قال الحاكم: كان من
أعيان الفقراء الزهّاد، وأصحاب المعاملات في التصوّف؛ ضاعت سماعاته من
ابن سفيان، فنسخ البعض من نسخة لم يكن له فيها سماع.
وفيها توفّى هفتكين الأمير أبو منصور التركى الشرابى «3» . هرب من
بغداد خوفا من عضد الدولة، ووقع له أمور مع العزيز هذا صاحب الترجمة
بمصر، ثمّ أطلقه العزيز. وصار له موكب؛ فخافه الوزير يعقوب بن يوسف بن
كلّس، فدسّ عليه من سقاه السمّ. وكان إليه المنتهى في الشجاعة.
وفيها توفّى تميم بن المعزّ معدّ العبيدىّ الفاطمىّ أخو العزيز هذا
صاحب مصر.
وكان تميم أميز أولاد المعزّ، وكان فاضلا جوادا سمحا يقول الشعر. وشقّ
موته على أخيه العزيز.
وفيها توفّى الحسن بن عبد الله بن المرزبان أبو سعيد السّيرافىّ
النحوىّ القاضى.
كان أبوه مجوسيّا واسمه بهزاد فأسلم فسمىّ عبد الله. سكن الحسن بغداد،
وولى القضاء بها، وكان مفتنّا في علوم القراءات والنحو واللغة والفقه
والفرائض والكلام
(4/133)
والشعر والعروض والقوافى والحساب وسائر
العلوم، وشرح كتاب سيبويه، مع الزهد والورع.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد [بن «1» ] ورقاء أبو أحمد الشيبانىّ، كان
من أهل البيوتات، وأسرته من أهل الثغور، مات في ذى الحجة.
وفيها توفّى محمد بن محمد بن يعقوب النيسابورىّ من ولد الحجاج بن
الجرّاح؛ سمع الكثير، وكان عابدا صالحا حافظا ثقة صدوقا.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو بكر أحمد
بن جعفر القطيعىّ في ذى الحجة عن خمس وتسعين سنة. وأبو سعيد الحسن بن
عبد الله السّيرافىّ النحوىّ في رجب وله أربع وثمانون سنة. وأبو القاسم
عبد الله بن إبراهيم الجرجانىّ الآبندونىّ الحافظ الزاهد ببغداد، وله
خمس وتسعون سنة. وعيسى ابن حامد الرّخّجىّ «2» القاضى. وأبو أحمد محمد
بن عيسى بن عمرويه الجلودىّ في ذى الحجة وله ثمانون سنة. وأبو الحسين
محمد بن محمد بن يعقوب الحجّاجىّ الحافظ المفيد الصالح فى ذى الحجة
بنيسابور عن ثلاث وثمانين سنة. وهفتكين التركى الذي هرب خوفا من عضد
الدولة، وتملّك دمشق وحارب المصريّين مرات.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبع واحدة.
(4/134)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 369]
السنة الرابعة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة تسع وستين
وثلثمائة.
فيها تزوّج الخليفة الطائع ببنت عضد الدولة؛ وقد مرّ «1» ذلك، ولكن
الأصح فى هذه السنة. وعقد العقد بحضرة الخليفة الطائع على صداق مبلغه
مائتا «2» ألف دينار.
وكان الوكيل عن عضد الدولة في العقد أبا على الحسن بن أحمد الفارسىّ
النحوىّ.
والخطيب أبو على المحسّن بن على القاضى التّنوخىّ وكيلا عن الخليفة.
وفيها حجّ بالناس أبو الفتح أحمد بن عمر بن يحيى العلوىّ.
وفيها توفّى فارس بن زكريّا، والد ابن فارس أبى الحسين اللغوىّ صاحب
كتاب المجمل في اللغة. كان عالما بفنون العلوم، وروى عنه الأئمة، ومات
ببغداد.
وفيها توفّى أحمد بن عطاء بن أحمد بن محمد بن عطاء أبو عبد الله
الرّوذبارىّ ابن أخت أبى علىّ الرّوذبارىّ. كان شيخ الشام في وقته،
وكان ممّن جمع بين علم الشريعة والحقيقة، ومات بقرية بين عكّا وصور
يقال لها منواث.
وفيها توفّى الحسين «3» بن على أبو عبد الله البصرىّ؛ ويعرف بالجعل،
سكن بغداد.
وكان من شيوخ المعتزلة، وصنّف على مذاهب المعتزلة، ومات يوم الجمعة
ثانى ذى الحجة.
(4/135)
وفيها توفّى عبد الله بن محمد الراسبىّ،
كان بغدادىّ الأصل وكان من كبار المشايخ وأرباب المعاملات. ومن كلامه
قال: خلق الله الأنبياء للمجالسة، والعارفين للمواصلة، والمؤمنين
للمجاهدة. ومن كلامه: أعظم حجاب بينك وبين الحق اشتغالك بتدبير نفسك،
واعتمادك على عاجز مثلك في أسبابك. وتوفّى ببغداد.
وفيها توفّى أبو تغلب الغضنفر بن ناصر الدولة الحسن بن حمدان التغلبيّ،
وقد تقدّم ذكر وفاته، والأصحّ أنّه في هذه السنة. كان ملك الموصل وديار
ربيعة وقلاع ابن حمدان، ووقع له حروب مع بنى بويه وأقاربه بنى حمدان،
إلى أن طرقه عضد الدولة وأخذ منه بلاده فانهزم إلى أخلاط «1» ؛ ثمّ
توجّه نحو الديار المصريّة وحارب أعوان العزيز صاحب مصر فقتل في
المعركة، وبعث برأسه إلى العزيز صاحب الترجمة.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيّان «2» الحافظ أبو محمد
الأصبهانىّ أبو الحافظ صاحب التصانيف؛ ولد سنة أربع وسبعين ومائتين،
وسمع في صغره من جدّه لأمّه محمود بن الفرج الزاهد وغيره، وهو صاحب
تاريخ بلده، والتاريخ على السنين، و" كتاب السنّة" و" كتاب العظمة"
وغيرها.
وفيها توفّى أبو سهل محمد بن سليمان بن محمد بن سليمان بن هارون
العجلىّ الصّعلوكىّ النّيسابورىّ الفقيه الشافعىّ. كان أديبا لغويّا
مفسرا نحويّا شاعرا صوفيّا. ولد سنة ستّ وتسعين ومائتين، ومات في ذى
القعدة. ومن شعره: [الطويل]
(4/136)
أنام على سهو وتبكى الحمائم ... وليس لها
جرم ومنّى الجرائم
كذبت وبيت الله لو كنت عاشقا ... لما سبقتنى بالبكاء الحمائم
وفيها توفّى محمد بن صالح بن علىّ بن يحيى بن عبد الله أبو الحسن
القاضى القرشىّ الهاشمى، ويعرف بابن أمّ شيبان؛ سمع الكثير، وتفقّه على
مذهب مالك رضى الله عنه، وكان عاقلا متميّزا كثير التصانيف. ولم يل
القضاء بمدينة السلام من بنى هاشم غيره.
وفيها توفّى محمد بن على بن الحسن أبو بكر التّنيّسىّ «1» ، سمع منه
الدارقطنى؛ وراه وحده فقال له: يا أبا بكر، ما في بلدك مسلم؟ قال: بلى،
ولكنّهم اشتغلوا بالدنيا عن الآخرة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى ابو عبد الله
بن عطاء الروذپارىّ. وعبد الله بن إبراهيم، أيّوب بن ماسى «2» فى رجب
وله خمس وتسعون سنة. وأبو محمد عبد الله بن محمد بن جعفر بن حيّان أبو
الشيخ في المحرّم وله خمس وتسعون سنة. وأبو سهل محمد بن سليمان
الصعلوكىّ ذو الفنون في آخر السنة وله ثمانون «3» سنة. وقاضى العراق
ابن أمّ شيبان أبو الحسن محمد بن صالح الهاشمىّ فجأة في جمادى الأولى
عن ستّ وسبعين سنة. وأبو بكر محمد بن على بن الحسن المصرىّ بن النقاش
في شعبان، وكان حافظا. وأبو عمرو «4» محمد بن صالح ببخارى.
وأبو علىّ مخلّد بن جعفر الباقرحىّ «5» .
(4/137)
- أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم
أربع أذرع وخمس أصابع.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا سواء.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 370]
السنة الخامسة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة سبعين وثلثمائة.
فيها خرج عضد الدولة للقاء الصاحب إسماعيل بن عبّاد؛ فقدم عليه ابن
عبّاد، فقدم عليه ابن عباّد من الرىّ من عند أخيه مؤيّد الدولة، فبالغ
عضد الدولة في إكرامه إلى الغاية لكونه وزير أخيه مؤيّد الدولة وصاحب
أمره ونهيه. وتردّد إليه عضد الدولة في إقامته ببغداد غير مرّة إلى أن
سافر إلى مخدومه مؤيّد الدولة في شهر ربيع الآخر.
وفيها توجّه عضد الدولة إلى همذان. فلمّا عاد إلى بغداد خرج الخليفة
لتلقّيه؛ ولم يكن ذلك بعادة أنّ الخليفة يلاقى أحدا من الأمراء. قلت:
وهذا كان أوّلا، وأمّا في الآخر فإنّ الطائع كان قد بقى تحت أوامر عضد
الدولة كالأسير.
وفيها حجّ بالناس أبو الفتح أحمد بن عمر العلوىّ وخطب بمكة والمدينة
للعزيز هذا صاحب مصر.
وفيها غرقت بغداد من الجانبين وأشرف أهلها على الهلاك، ووقعت القنطرتان
وغرم على بنائهما أموال كثيرة.
وفيها توفّى أحمد بن علىّ الإمام العلّامة أبو بكر الرازىّ الحنفىّ
العالم المشهور.
مولده في سنة خمس وثلثمائة، كان إمام الحنفية في زمانه، وكان مشهور!
بالدّين والورع والزّهد. قال أبو المظفر في تاريخه: وحاله كان يزيد على
حال الرهبان «1» من كثرة التقشّف، وهو صاحب التصانيف وتلميذ أبى الحسن
الكرخىّ.
(4/138)
وفيها توفّى محمد بن جعفر بن الحسين بن
محمد بن زكرياء الحافظ أبو بكر الورّاق المعروف بغندر، كان حافظا
متقنا، ورحل [إلى] البلاد وسمع الكثير، وكتب مالم يكتبه أحد، وكان
حافظا ثقة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو بكر أحمد
بن علىّ الرازىّ عالم الحنفيّة في ذى الحجة وله خمس وستون سنة. وبشر بن
أحمد أبو سهل الإسفراينى في شوّال عن نيّف وتسعين سنة. وأبو محمد الحسن
بن أحمد السّبيعىّ «1» الحلبىّ الحافظ. وأبو محمد الحسن بن رشيق بمصر
في جمادى الآخرة. وأبو عبد الله الحسين بن أحمد بن خالويه النحوىّ.
وأبو بكر عبد الله بن محمد بن محمد بن فورك فى ذى القعدة. وأبو منصور
محمد بن أحمد الأزهرىّ صاحب [تهذيب «2» ] اللغة فى ربيع الآخر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراع واحدة. مبلغ الزيادة خمس
عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 371]
السنة السادسة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة إحدى وسبعين
وثلثمائة.
فيها اتّفق فخر الدولة وقابوس بن وشمكير على عداوة أخيه عضد الدولة فى
الباطن. قلت: وهذه أوّل فتنة بدت بين الإخوة أولاد ركن الدولة الثلاثة:
عضد الدولة، وفخر الدولة، ومؤيّد الدولة. وفطن عضد الدولة لذلك ولم
يظهره،
(4/139)
وجهّز العساكر لأخيه مؤيّد الدولة لقتال
قابوس المذكور؛ فتوجّه إليه مؤيّد الدولة وحصره وأخذ بلاده، ولم ينفعه
فخر الدولة. وكان لقابوس من البلاد طبرستان وغيرها.
وفيها حجّ بالناس أبو عبد الله العلوىّ من العراق.
وفيها توفّى أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل الحافظ أبو بكر الجرجانىّ، كان
إماما، طاف البلاد، ولقى الشيوخ، و؟؟؟ سمع الكثير، وصنّف الكتب الحسان،
منها:
" الصحيح" صنّفه على صحيح البخارىّ، و" الفرائد" و" العوالى" وغير ذلك،
ومات في شهر رجب.
وفيها توفّى الحسن بن أحمد بن صالح الحافظ أبو محمد السّبيعىّ الكوفىّ،
كان حافظا مكثرا إلّا أنّه كان عسر الرواية، وكان الدارقطنىّ يجلس بين
يديه جلوس الصبىّ بين يدى المعلّم هيبة له، ومات في ذى الحجة ببغداد.
وفيها توفّى عبد العزيز بن الحارث بن أسد أبو الحسن التميمى الحنبلىّ،
كان فقيها فاضلا، وله تصانيف في أصول الكلام وفي مذهبه والفرائض وغير
ذلك.
وفيها توفّى علىّ بن إبراهيم أبو الحسن [الحصرىّ «1» ] البصرىّ الصوفىّ
الواعظ، سكن بغداد وصحب الشّبلىّ وغيره، وكان صاحب خلوات ومجاهدات، وله
كلام حسن في التوفيق.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن طالب الأخبارىّ، رحل وسمع الكثير، وكان
فاضلا محدّثا أخباريّا.
(4/140)
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة،
قال: وفيها توفّى أبو بكر أحمد بن إبراهيم الإسماعيلىّ الجرجانىّ في
رجب وله أربع وتسعون سنة. وأبو العباس الحسن ابن سعيد العبّادانىّ «1»
المطّوّعىّ المقرئ وله مائة وسنتان. وأبو محمد عبد الله بن إسحاق
القيروانىّ شيخ المالكية. وأبو زيد محمد بن أحمد المروزىّ الفقيه في
رجب.
وأبو عبد الله محمد بن خفيف الشّيرازى شيخ الصوفيّة بفارس.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 372]
السنة السابعة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة اثنتين وسبعين
وثلثمائة.
فيها وثب أبو الفرج بن عمران بن شاهين على أخيه أبى محمد الحسن «2» بن
عمران صاحب البطيحة «3» ، فقتله واستولى على بلده.
وفيها حجّ بالناس أبو الفتح أحمد بن عمر العلوىّ، وقيل: إنّه لم يحجّ
أحد من العراق من هذه السنة إلى سنة ثمانين، بسبب الفتن والخلف بين
خلفاء بنى العباس وبين خلفاء مصر بنى عبيد.
وفيها أنشأ عضد الدولة بيمارستانه ببغداد في الجانب الغربىّ، ورتّب فيه
الأطباء والوكلاء والخزّان وكلّ ما يحتاج إليه.
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ: «وفي هذا الزمان كانت البدع والأهواء
فاشية ببغداد ومصر من الرّفض والاعتزال والضلال فإنّا لله وإنا إليه
راجعون!» .
(4/141)
قلت: ومعنى قول الذهبىّ:" ومصر" فإنّه
معلوم من كون خلفاء بنى عبيد كانوا يظهرون الرفض وسبّ الصحابة، وكذلك
جميع أعوانهم وعمّالهم. وأمّا قوله:
" ببغداد" فإنّه كان بسبب عضد الدولة الآتى ذكره، فإنّه كان أيضا
يتشيّع ويكرم جانب الرافضة.
وفيها توفّى السلطان عضد الدولة أبو شجاع فنّاخسرو- وقيل بويه على اسم
جدّه، وفنّاخسرو أشهر- ابن السلطان ركن الدولة الحسن بن بوية بن
فنّاخسرو الدّيلمىّ.
ولى مملكة فارس بعد عمّه عماد الدولة، ثمّ قوى على ابن عمّه عزّ الدولة
بختيار بن معزّ الدولة بن بويه، وأخذ منه «1» العراق وبغداد. وقد تقدّم
من ذلك نبذة يسيرة فى حوادث بعض السنين. وبلغ سلطانه من سعة المملكة
والاستيلاء على الممالك ما لم يبلغه أحد من بنى بويه، ودانت له البلاد
والعباد. وهو أوّل من خوطب بالملك شاهنشاه في الإسلام، وأوّل من خطب له
على منابر بغداد بعد الخلفاء، وأوّل من ضربت الدبادب على باب داره.
وكان فاضلا نحويّا، وله مشاركة في فنون كثيرة، وله صنّف أبو علىّ
الفارسىّ" الإيضاح". قال أبو على الفارسىّ، منذ تلقّب شاهنشاه تضعضع
أمره، وما كفاه ذلك حتّى مدح نفسه؛ فقال: [الرمل]
عضد الدولة وابن ركنها ... ملك الأملاك غلّاب القدر
ولمّا أحسّ بالموت تمثّل بشعر القاسم بن عبد الله الوزير، وهو قوله:
[الطويل]
قتلت صناديد الرجال فلم أدع ... عدوّا ولم أمهل على ظنّة خلقا
وأخليت دور الملك من كلّ نازل ... وبدّدتهم غربا وشرّدتهم شرقا
ثمّ جعل يبكى ويقول:" ما أغنى عنّى ماليه! هلك عنى سلطانيه! " وصار
يردّدها إلى أن مات في شوّال ببغداد وله سبع وأربعون سنة. وتولّى الملك
من بعده ابنه
(4/142)
صمصام الدولة، ولم يجلس للعزاء إلّا في
أوّل السنة. أظنّ أنّهم كانوا أخفوا موت عضد الدولة لأمر، أو أنّه
اشتغل بملك جديد حتّى فرغ منه.
وفيها توفّى محمد بن جعفر بن أحمد أبو بكر الحريرىّ المعدّل «1»
البغدادىّ، وكان يعرف بزوج الحرّة، وكان جليل القدر، من الثّقات. مات
ببغداد، ودفن عند قبر معروف الكرخىّ. رحمة الله عليهما.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 373]
السنة الثامنة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة ثلاث وسبعين
وثلثمائة.
فيها في ثانى عشر المحرّم أظهرت «2» وفاة عضد الدولة وحمل تابوته إلى
المشهد، وجلس ابنه صمصام الدولة للعزاء، وجاءه الخليفة الطائع معزّيا،
ولطم عليه الناس فى [دوره «3» وفي] الأسواق أيّاما عديدة. ثمّ ركب
صمصام الدولة إلى دار الخلافة، وخلع عليه الخليفة الطائع عبد الكريم
سبع خلع، وعقد له لواءين، ولقّب شمس الملّة «4» .
وفيها بعد مدّة يسيرة ورد الخبر على صمصام الدولة المذكور بموت عمّه
مؤيّد الدولة أبى منصور بن ركن الدولة بجرجان، فجلس صمصام الدولة أيضا
للتعزية؛ وجاءه الخليفة الطائع مرّة ثانية معزّيا في عمّه مؤيّد الدولة
المذكور. ولمّا مات مؤيّد الدولة كتب وزيره الصاحب إسماعيل بن عبّاد
إلى أخيه فخر الدولة علىّ بن ركن الدولة
(4/143)
بالإسراع إليه وضبط ممالك أخيه مؤيّد
الدولة؛ فقدم فحر الدولة إليه وملك بلاد أخيه، واستوزر الصاحب بن عباد
المذكور. وعظم ابن عبّاد في أيام فخر الدولة إلى الغاية.
وفيها كان الغلاء المفرط بالعراق، وبلغ الكرّ القمح أربعة آلاف
وثمانمائة درهم، ومات خلق كثير على الطريق جوعا، وعظم الخطب.
وفيها ولّى العزيز نزار صاحب الترجمة خطلخ «1» القائد إمرة دمشق.
وفيها توفّى السلطان مؤيّد الدولة أبو منصور بويه ابن السلطان ركن
الدولة حسن بن بويه المقدّم ذكره. مات بجرجان وله ثلاث وأربعون سنة
وشهر.
وكانت مدّة إمرته سبع سنين وشهرا. وكان قد تزوّج ببنت عمّه معزّ
الدولة، فأنفق فى عرسها سبعمائة ألف دينار. وكان موته في ثالث عشر
شعبان؛ فيكون بعد موت أخيه عضد الدولة بنحو عشرة أشهر. وصفا الوقت
لأخيهما فخر الدولة.
وفيها توفّى سعيد بن سلّام أبو عثمان المغربىّ. مولده بقرية يقال لها
كركنت «2» ، كان أوحد عصره في الزهد والورع والعزلة.
وفيها توفّى عبد الله بن محمد بن عثمان «3» بن المختار أبو محمد
المزنىّ الواسطىّ الحافظ، كان ثقة، مات بواسط. ومن كلامه قال: «الذين
وقع عليهم اسم الخلافة ثلاثة:
آدم، وداود عليهما السلام، وأبو بكر الصديق رضى الله عنه. قال الله
تعالى في حقّ آدم: (إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)
، وقال في حقّ داود: (يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ
(4/144)
خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ)
. وقبض رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن ثلاثين ألف مسلم كلّهم يقول
لأبى بكر: يا خليفة رسول الله» .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع سواء. مبلغ الزيادة
ستّ عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 374]
السنة التاسعة من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة أربع وسبعين
وثلثمائة.
فيها دخلت القرامطة البصرة لمّا علموا بموت عضد الدولة، ولم يكن لهم
قوّة على حصارها، فجمع لهم مال فأخذوه وانصرفوا.
وفيها وقع الصلح بين صمصام الدولة وبين عمّه فخر الدولة بمكاتبة أبى
عبد الله ابن سعدان إلى الصاحب بن عبّاد. فكان ابن سعدان يخاطب الصاحب
بن عبّاد بالصاحب الجليل، والصاحب بن عباد يخاطب ابن سعدان بالأستاذ
مولاى ورئيسى.
وفيها ملكت الأكراد ديار بكر بن ربيعة. وسببه. أنّه كان بجبال حيزان
«1» رجل كردىّ يقطع الطريق، يقال له أبو عبد الله «2» الحسين بن دوستك،
ولقبه پاد، واجتمع عليه خلق كثير، وجرت له مع بنى حمدان حروب إلى أن
قتل. فلمّا قتل پاد، المذكور كان له صهر يقال له مروان بن كسرى وكان له
أولاد ثلاثة، وكانوا
(4/145)
من قرية يقال لها كرماس «1» بين إسعرذ «2»
والمعدن، وكانوا رؤساءها. فلمّا خرج پاد خرج معه أولاد مروان المذكور
وهم: الحسن «3» وسعيد وأحمد وأخ آخر. فلمّا قتل پاد انضمّ عسكره على
ابن أخته الحسين، واستفحل أمره وتقاتل مع من بقى من بنى حمدان فهزمهم.
ثمّ مات عضد الدولة بن بويه، فصفا له الوقت وملك ديار بكر وميّافارقين،
وأحسن السيرة في الناس فأحبّته الرعيّة؛ ثم افتتح بعد ذلك عدّة حصون،
يأتى ذكرها إن شاء الله تعالى في محلّها.
وفيها توفّى عبد الرّحيم بن محمد بن إسماعيل بن نباتة الخطيب الفارقىّ
«4» صاحب الخطب، والذي من ذرّيته الشيخ جمال الدين محمد بن نباتة
الشاعر المتأخر، الآتى ذكره إن شاء الله تعالى. وكان مولده بميّافارقين
في سنة خمس وثلاثين وثلثمائة.
وكان بارعا في الأدب، وكان يحفظ" نهج البلاغة" وعامّة خطبه بألفاظها
ومعانيها، ومات بميافارقين عن تسع وثلاثين سنة. ولولده أبى طاهر محمد
خطب أيضا.
وفيها توفّى محمد بن محمد بن مكّىّ أبو أحمد «5» القاضى الجرجانى، رحل
في طلب الحديث ولقى الشيوخ، وكان حافظا فاضلا أديبا. ومن شعره رحمة
الله:
[الوافر]
مضى زمن وكان الناس فيه «6» ... كراما لا يخالطهم خسيس
(4/146)
فقد دفع «1» إلى الكرام إلى زمان ... أخسّ رجالهم فيه رئيس
[تعطّلت «2» المكارم يا خليلى ... وصار الناس ليس لهم نفوس]
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع سواء. مبلغ الزيادة
ستّ عشرة ذراعا وأربع أصابع. |