النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 355]
السنة الأولى من ولاية كافور الإخشيذىّ على مصر- وهى سنة خمس وخمسين
وثلثمائة.
فيها أقيم المأتم على الحسين رضى الله عنه في يوم عاشوراء ببغداد على
العادة.
وفيها ورد الخبر بأنّ ركب الشام ومصر والمغرب من الحجّاج أخذوا وهلك
أكثرهم ووصل الأقلّ إلى مصر، وتمزّق الناس كلّ ممزّق، وأخذتهم بنو
سليم؛ وكان ركبا عظيما نحو عشرين ألف جمل، معهم الأمتعة والذهب؛ فما
أخذ لقاضى طرسوس المعروف بالخواتيمى [مائة «1» ألف و] عشرون ألف دينار.
وفيها قدم أبو الفوارس محمد بن ناصر الدولة من الأسر إلى ميّافارقين؛
كانت أخت ملك الروم أخذته لتفادى به أخاها، فنفّذ سيف الدولة أخاها في
ثلثمائة إلى حصن الهياج «2» ، فلما شاهد بعضهم بعضا سرّح المسلمون
أسيرهم في خمسة فوارس وسرّح الروم أسيرهم أبا الفوارس في خمسة؛ فآلتقيا
في وسط الطريق وتعانقا، ثم صار كلّ واحد إلى أصحابه فترجّلوا له
وقبّلوا الأرض؛ واحتفل سيف الدولة بن حمدان لقدوم ابن أخيه وعمل
الأسمطة الهائلة، وقدّم له الخيل والمماليك والعدد التامّة؛ فمن ذلك
مائة مملوك بمناطقهم وسيوفهم وخيولهم.
وفيها جاء الخبر بأنّ نائب أنطاكية محمد بن موسى الصّلحىّ أخذ الأموال
التى فى خزائن أنطاكية وخرج بها كأنّه متوجّه إلى سيف الدولة بن حمدان
فدخل بلاد الروم مرتدّا. وقيل: إنه كان عزم على تسليم أنطاكية إلى
الروم، فلم يمكنه ذلك
(4/11)
لاجتماع أهل البلد على ضبطه، فخشى أن ينمّ
خبره إلى سيف الدولة فيتلفه فهرب بالأموال.
وفيها قدم الغزاة الخراسانية من الغزو إلى ميّافارقين، فتلقّاهم أبو
المعالى بن سيف الدولة وبالغ في إكرامهم بالأطعمة والعلوفات. وكان رئيس
الغزاة المذكورين محمد بن عيسى.
وفيها سار طاغية الروم بجموعه إلى الشام، فعاث وأفسد وأقام به نحو
خمسين يوما؛ فبعث سيف الدولة يستنجد أخاه ناصر الدولة لبعده؛ ووقع لسيف
الدولة مع الروم حروب ووقائع كثيرة.
وفيها توفّى محمد بن عمر بن محمد بن سالم أبو بكر [بن «1» ] الجعابىّ
التميمىّ البغدادىّ الحافظ قاضى الموصل، سمع الكثير ورحل وكان حافظ
زمانه، يحب أبا العباس ابن عقدة، وصنّف الأبواب والشيوخ والتاريخ، وكان
يتشيّع؛ وروى عنه الدارقطنىّ وأبو حفص بن شاهين والحاكم أبو عبد الله
وآخرون آخرهم وفاة «2» أبو نعيم الحافظ.
ومولده في صفر سنة أربع وثمانين ومائتين. قال أبو علىّ «3» الحافظ
النيسابورىّ:
ما رأيت في المشايخ أحفظ من عبدان «4» ، ولا رأيت في أصحابنا أحفظ من
أبى بكر [بن] الجعابىّ!.
(4/12)
وفيها توفّى محمد بن الحسين بن علىّ بن
الحسن الأنبارىّ الشاعر المشهور، كان انتقل إلى نيسابور فسكنها إلى أن
مات بها في شهر رمضان. وكان من فحول الشعراء. ومن شعره وقد رأيته
لغيره:
أبكى وتبكى الحمام لكن ... شتّان ما بينها وبينى
تبكى بعين بغير دمع ... وابكى بدمع «1» بغير عين
ويعجبنى في هذا قول أمير المؤمنين عبد الله بن المعتز:
بكت عينى غداة البين حزنا ... وأخرى بالبكا بخلت علينا
فعاقبت التى بخلت بدمع ... بأن غمّضتها يوم التقينا
ومما يجيش ببالى أيضا في هذا المعنى قول القائل، ولم أدر لمن هو غير
أننى أحفظه قديما:
قالت سعاد أتبكى ... بالدمع بعد الدماء
فقلت قد شاب دمعى ... من طول عمر بكائى
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو الحسن
«2» علىّ بن الحسن بن علّان الحرّانى الحافظ يوم النحر، وأبو بكر محمد
بن عمر بن محمد بن سالم التميمىّ [ابن] الجعابىّ، وأبو الحكم منذر بن
سعيد البلّوطىّ قاضى الأندلس وعالمها ومفتيها.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وثمانى أصابع.
مبلغ الزيادة أربع عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
(4/13)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 356]
السنة الثانية من ولاية كافور الإخشيذىّ على مصر- وهى سنة ست وخمسين
وثلثمائة.
فيها عملت الرافضة المأتم في يوم عاشوراء ببغداد على العادة.
وفيها مات السلطان معزّ الدولة بن بويه الآتى ذكره، وتولّى مملكة
العراق من بعده ابنه عزّ الدولة بختيار «1» بن أحمد بن بويه. وفيها قبض
على الملك ناصر الدولة الحسن بن عبد الله بن حمدان ولده أبو تغلب، لأنّ
أخلاقه ساءت وظلم وقتل جماعة وشتم أولاده وتزايد أمره؛ فقبص عليه ولده
المذكور بمشورة [رجال] الدولة فى جمادى الأولى، وبعثه إلى القلعة ورتّب
له كل ما يحتاج إليه ووسّع عليه.
وفيها توفى السلطان معزّ الدولة أبو الحسن أحمد بن بويه بن فنّا خسرو
بن تمام بن كوهى؛ كان أبوه بويه يصطاد السمك وكان ولده هذا ربما احتطب.
وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه في محلّه في هذا الكتاب؛ مآل أمره إلى الملك.
وكان قدومه إلى بغداد سنة أربع وثلاثين وثلثمائة، وكان موته بالبطن،
فعهد إلى ولده عزّ الدولة أبى منصور بختيار، وكان الرّفص في أيّامه
ظاهرا ببغداد؛ ويقال:
إنه تاب قبل موته وتصدّق وأعتق. قلت: وجميع بنى بويه على هذا المذهب
القبيح غير أنهم لا يفشون ذلك خوفا على الملك. ومات معزّ الدولة في
سابع عشر شهر ربيع الآخر عن ثلاث وخمسين سنة؛ وكانت دولته اثنتين
وعشرين سنة. وكان قد ردّ المواريث إلى ذوى الأرحام. ويقال: إنه من
ذرّيّة سابور «2» ذى الأكتاف.
(4/14)
وهو أخو ركن الدولة الحسن، وعماد الدّولة
علىّ. وكان معزّ الدولة يعرف بالأقطع؛ كان أصابته جراح طارت بيده
اليسرى وبعض أصابع اليمنى. وهو عمّ عضد الدولة الآتى ذكره أيضا.
وفيها توفى علىّ بن الحسين بن محمد بن أحمد بن الهيثم الإمام العلّامة
أبو الفرج الأصبهانىّ الكاتب، مصنّف كتاب الأغانى وغيره؛ سمع الحديث
وتفقّه وبرع واستوطن بغداد من صباه، وكان من أعيان أدبائها؛ كان
أخباريّا نسّابة شاعرا ظاهرا بالتشيّع. قال أبو علىّ التّنوخىّ: كان
أبو الفرج يحفظ من الشعر والأغانى والأخبار والمسندات والأنساب مالم أر
قطّ مثله، ويحفظ سوى ذلك من علوم أخر، منها: اللغة والنحو والمغازى
والسّير. قلت: وكتاب الأغانى في غاية الحسن.
وكان منقطعا إلى الوزير المهلّبىّ وله فيه غرر مديح، وله فيه من جملة
قصيدة يهنّئه بمولود من سرّيّة:
اسعد بمولود أتاك مباركا ... كالبدر أشرق جنح ليل مقمر
سعد لوقت سعادة جاءت به ... أمّ حصان «1» من بنات الأصفر
متبحبح «2» فى ذروتى شرف العلا ... بين «3» المهلّب منتماه وقيصر
شمس الضحى قرنت إلى بدر الدّجى ... حتى إذا اجتمعا «4» أتت بالمشترى
(4/15)
وشعره كثير ومحاسنه مشهورة «1» . ولادته في
سنة أربع وثمانين ومائتين، وهى السنة التى مات فيها البحترىّ الشاعر.
ومات في يوم الأربعاء رابع عشر ذى الحجة.
وفيها توفّى سيف الدولة أبو الحسن علىّ بن عبد الله بن حمدان بن حمدون
بن الحارث بن لقمان بن راشد بن المثنّى بن رافع بن الحارث بن غطيف بن
محربة «2» بن حارثة بن مالك بن عبيد بن عدىّ بن أسامة بن مالك بن بكر
بن حبيب بن عمرو «3» ابن غنم بن تغلب التغلبىّ، ومولده في يوم الأحد
سابع عشر ذى الحجة سنة ثلاث وثلثمائة، وقيل: سنة إحدى وثلثمائة. قال
أبو منصور الثعالبى: «كان بنو حمدان ملوكا، و [أمراء «4» ] ؛ أوجههم
للصباحة، وألسنتهم للفصاحة، وأيديهم للسماحة، وعقولهم للرّجاحة؛ وسيف
الدولة مشهور بسيادتهم، وواسطة قلادتهم «5» . وحضرته مقصد الوفود،
ومطلع الجود؛ وقبلة الآمال، ومحطّ الرحال؛ وموسم الأدباء، وحلبة
الشعراء» . وكان سيف الدولة ملكا شجاعا مقداما كريما شاعرا فصيحا
ممدّحا.
وقصده الشعراء من الآفاق، ومدحه المتنبىّ بغرر المدائح. ومن شعر سيف
الدولة فى قوس قزح:
وساق صبيح للصّبوح دعوته ... فقام وفي أجفانه سنة الغمض
يطوف بكاسات العقار كأنجم ... فمن بين منقضّ علينا ومنفضّ
وقد نشرت أيدى الجنوب مطارفا ... على الجود كنا والحواشى على الأرض
(4/16)
يطرّزها قوس السحاب بأصفر ... على أحمر في
أخضر إثر «1» مبيضّ
كأذيال خود أقبلت في غلائل ... مصبّغة والبعض أقصر من بعض
قال ابن خلّكان: وهذا من التشبيهات الملوكيّة التى لا يكاد يحضر مثلها
السوقة. ويحكى أنّ ابن عمّه أبا فراس الأمير الشاعر كان يوما بين يدى
سيف الدولة في نفر من ندمائه؛ فقال لهم سيف الدولة: أيّكم يجيز قولى؟
وليس له إلّا سيّدى (يعنى ابن عمّه أبا فراس المذكور) وقال:
لك جسمى تعلّه ... فدمى لم تحلّه
فارتجل أبو فراس وقال:
أنا إن كنت مالكا ... فلى الأمر كلّه
فاستحسنه وأعطاه ضيعة بأعمال منبج تغلّ ألفى دينار في كلّ سنة.
ومن شعر سيف الدولة أيضا:
تجنّى علىّ الذنب والذنب ذنبه ... وعاتبنى ظلما وفي شقّه العتب
وأعرض لمّا صار قلبى بكفّه ... فهلّا جفانى حين كان لى القلب
إذا برم المولى بخدمة عبده ... تجنّى له ذنبا وإن لم يكن ذنب
وله:
أقبّله على جزع ... كشرب الطائر الفزع
رأى ماء فأطمعه ... وخاف عواقب الطمع
فصادف خلسة فدنا ... ولم يلتذّ بالجرع
وأما ما قيل في سيف الدولة من المديح فكثير يضيق هذا المحلّ عن ذكر شىء
منه. وكانت وفاته يوم الجمعة في ثالث ساعة، وقيل: رابع ساعة، لخمس بقين
من
(4/17)
صفر بحلب. ونقل إلى ميّافارقين ودفن في
تربة أمّه وهى داخل البلد. وكان مرضه بعسر البول. وكان قد جمع من نفض
الغبار الذي يجتمع عليه في غزواته شيئا، وجعله لبنة بقدر الكفّ، وأوصى
أن يوضع خدّه عليها في لحده، فنفّذت وصيّته فى ذلك. وكان ملك حلب في
سنة ثلاث وثلاثين وثلثمائة؛ انتزعها من يد أحمد بن سعيد الكلابىّ صاحب
الإخشيذ، وكان قبل ذلك ملك واسط وتلك النواحى.
وفيها توفّى جعفر بن محمد بن الحارث الشيخ أبو محمد المراغى المحدّث
المشهور؛ كان فاضلا رواية للشعر. قال: أنشدنى منصور بن إسماعيل الفقيه:
لى حيلة فيمن ينمّ ... وليس في الكذّاب حيله
من كان يخلق ما يقو ... ل فحيلتى فيه قليله
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وأربع عشرة إصبعا. مبلغ
الزيادة اثنتا عشرة ذراعا وسبع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 357]
السنة الثالثة من ولاية كافور الإخشيذىّ على مصر- وهى سنة سبع وخمسين
وثلثمائة، وهى التى مات فيها كافور المذكور حسب ما تقدّم ذكره.
فيها عملت الرافضة مأتم الحسين بن علىّ في بغداد على العادة في كلّ سنة
في يوم عاشوراء.
وفيها لم يحجّ أحد من الشام ولا من مصر. وفيها في ذى القعدة أقبل تقفور
عظيم الروم بجيوشه إلى الشام فخرج من دربند «1» ونازل أنطاكية فلم
يلتفتوا إليه؛ فقال أرحل وأخرّب الشام ثم أعود إليكم من الساحل؛ ورحل
ونازل معرّة
(4/18)
مصرين «1» فأخذها وغدر بهم وأسر منهم أربعة
آلاف وستمائة نسمة. ثم نزل على معرّة النّعمان «2» فأحرق جامعها؛ وكان
الناس قد هربوا في كلّ وجه إلى الحصون والبرارىّ والجبال. ثم سار إلى
كفرطاب «3» وشيزر «4» ، ثم إلى حماة وحمص وخرج من بقى بها فأمّنهم
ودخلها وصلّى في البيعة وأخذ منها رأس يحيى بن زكريا، وأحرق الجامع.
ثمّ سار إلى عرقة «5» فافتتحها، ثم سار إلى طرابلس فأخذ ربضها. وأقام
فى الشام أكثر من شهرين ورجع؛ فأرضاه أهل أنطاكية بمال عظيم.
وفيها تزوّج عزّ الدولة بختيار بن معزّ الدولة أحمد بن بويه بابنة عسكر
الرومىّ الكردىّ على صداق مائة ألف دينار.
وفيها قتل أبو فراس [الحارث «6» ] بن أبى العلاء سعيد بن حمدان
التغلبىّ العدوىّ الأمير الشاعر الفصيح، تقدّم بقية نسبه في ترجمة ابن
عمّه سيف الدولة بن حمدان، ومولده بمنبج في سنة عشرين وثلثمائة، وكان
يتنقّل في بلاد الشام في دولة ابن عمّه سيف الدولة بن حمدان؛ وكان من
الشّجعان والشعراء المفلقين؛ وديوان «7» شعره موجود. ومن شعره قصيدة:
رأيت الشيب لاح فقلت أهلا ... وودّعت الغواية والشبابا
وما إن شبت من كبر ولكن ... لقيت من الأحبّة ما أشابا
(4/19)
وله أيضا:
من يتمنّ العمر فليدّرع ... صبرا على فقد أحبّائه
ومن يؤجّل ير في نفسه ... ما يتمنّاه لأعدائه
وفيها توفّى حمزة بن محمد بن علىّ بن العبّاس الحافظ أبو القاسم
الكنانىّ المصرىّ، سمع الكثير ورحل وطوّف وجمع وصنّف، وروى عنه ابن
مندة والدارقطنىّ والحافظ عبد الغنى [بن سعيد «1» الأزدىّ] وغيرهم.
وقال ابن مندة: سمعت حمزة ابن محمد الحافظ يقول: كنت أكتب الحديث فلا
أكتب «وسلّم» ؛ فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في المنام، فقال [لى
«2» ] : أما تختم الصلاة علىّ في كتابك!
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن
الحسن «3» ابن إسحاق بن عتبة الرّازى بمصر، وأبو سعيد أحمد بن محمد «4»
بن رميح النّسوىّ، وحمزة بن محمد أبو القاسم الكنانىّ بمصر، وأبو
العباس عبد الله بن الحسين النّضرىّ «5» المروزىّ في شعبان عن سبع
وتسعين سنة، وعمر بن جعفر البصرىّ الحافظ، وأبو عبد الله محمد بن أحمد
بن علىّ بن محرم المحتسب، وأبو سليمان محمد بن الحسين الحرّانىّ، وأبو
علىّ محمد [بن محمد بن عبد الحميد «6» بن خالد بن إسحاق] ابن آدم
الفزارىّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراع واحدة وإحدى وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
(4/20)
ذكر ولاية أحمد بن علىّ بن الإخشيذ على مصر
هو أحمد بن علىّ بن الإخشيذ محمد بن طغج بن جفّ الأمير أبو الحسن
التّركىّ الفرغانىّ المصرىّ. ولى سلطنة مصر بعد موت مولى جدّه كافور
الإخشيذىّ فى العشرين من جمادى الأولى سنة سبع وخمسين وثلثمائة وهو يوم
مات «1» كافور، وسنّه يوم ولى إحدى عشرة سنة؛ وصار الحسن «2» بن عبيد
الله بن طغج- أعنى ابن عمّ أبيه-[خليفته «3» ] ، وأبو الفضل جعفر بن
الفرات [وزيره «4» ] ، ومعهما أيضا سمول الإخشيذىّ مدبّر العساكر.
فأساء أبو الفضل جعفر بن الفرات السيرة وقبض على جماعة وصادرهم، منهم
يعقوب بن كلّس الآتى ذكره؛ فهرب يعقوب بن كلّس المذكور إلى المغرب، وهو
من «5» أكبر أسباب حركة المعزّ، وإرسال جوهر القائد إلى الديار
المصريّة. ولما زاد أمر ابن الفرات اختلف عليه الجند واضطربت أمور
الديار المصريّة على ما سنذكره بعد أن نذكر مقالة ابن خلكان إن شاء
الله تعالى.
قال ابن خلّكان:" وكان عمر أبى الفوارس أحمد بن علىّ بن الإخشيذ يوم
ولى إحدى عشرة سنة، وجعل الجند «6» خليفته في تدبير أموره أبا محمد
الحسن بن
(4/21)
عبيد الله بن طغج بن جفّ، وهو ابن عمّ
أبيه، وكان صاحب الرملة من بلاد الشام، وهو الذي مدحه المتنبىّ بقصيدته
التى أوّلها:
أنا «1» لائمى إن كنت وقت اللوائم ... علمت بمابى بين تلك المعالم
وقال في مخلصها:
إذا صلت لم أترك مصالا «2» لفاتك ... وإن قلت لم أترك مقالا لعالم
وإلّا فخانتنى القوافى وعافنى ... عن ابن عبيد الله ضعف العزائم
ومنها:
أرى دون ما بين الفرات وبرقة ... ضرابا يمشّى الخيل فوق الجماجم
وطعن غطاريف كأنّ أكفّهم ... عرفن الرّدينيات قبل المعاصم
حمته على الأعداء من كل جانب ... سيوف بنى طغج بن جفّ القماقم
هم المحسنون الكرّ في حومة الوغى ... وأحسن منه كرّهم في المكارم
وهم يحسنون العفو عن كلّ مذنب ... ويحتملون الغرم عن كلّ غارم
قال: ولمّا تقرّر الأمر على هذه القاعدة تزوّج الحسن بن عبيد الله
فاطمة ابنة عمّه الإخشيذ، ودعوا له على المنابر بعد أبى الفوارس أحمد
بن علىّ صاحب الترجمة.
قال: والحسن بالشام. واستمرّ الحال على ذلك إلى ليلة الجمعة لثلاث عشرة
خلت من شعبان من سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، ودحل إلى مصر رايات
المغاربة الواصلين صحبة القائد جوهر المعزّى، وانقرضت الدولة
الإخشيذيّة من مصر. وكانت مدّتها أربعا وثلاثين سنة وعشرة أشهر وأربعة
وعشرين يوما. وكان قد قدم الحسن بن
(4/22)
عبيد الله من الشام منهزما من القرامطة
لمّا استولوا على الشام. ودخل الحسن على ابنة عمّه التى تزوّجها وحكم
بمصر وتصرّف وقبض على الوزير جعفر بن الفرات وصادره وعذّبه؛ ثم سار إلى
الشام في مستهلّ شهر ربيع الآخر من سنة ثمان وخمسين وثلثمائة. ولمّا
سيّر القائد جوهر جعفر بن فلاح إلى الشام وملك البلاد أسر ابن فلاح
المذكور أبا محمد الحسن بن عبيد الله بن طغج وسيّره إلى مصر مع جماعة
من الأمراء إلى جوهر القائد، ودخلوا إلى مصر في جمادى الأولى سنة تسع
وخمسين وثلثمائة. وكان الحسن بن عبيد الله قد أساء إلى أهل مصر في مدّة
ولايته عليهم، فلمّا وصلوا إلى مصر تركوهم وقوفا مشهورين «1» مقدار خمس
«2» ساعات والناس ينظرون إليهم وشمت بهم من في نفسه منهم شىء؛ ثم
أنزلوا الى مضرب القائد جوهر وجعلوا مع المعتقلين من آل الإخشيذ. ثمّ
في السابع عشر من جمادى الأولى أرسل القائد جوهر ولده جعفرا إلى مولاه
المعزّ ومعه هدايا عظيمة تجلّ عن الوصف، وأرسل معه المأسورين الواصلين
من الشام، وفيهم الحسن بن عبيد الله، وحملوا في مركب بالنيل وجوهر
ينظرهم، وانقلب المركب، فصاح الحسن بن عبيد الله على القائد جوهر: يا
أبا الحسن، أتريد أن تغرقنا! فاعتذر إليه وأظهر له التوجع، ثم نقلوا
إلى مركب آخر» . انتهى كلام ابن خلّكان باختصار. ولم يذكر ابن خلّكان
أمر أحمد بن علىّ بن الإخشيذ- أعنى صاحب الترجمة- وأظنّ ذلك لصغر سنّه.
وقال غير ابن خلكان في أمر انقراض دولة بنى الإخشيد وجها آخر، وهو أن
الجند لمّا اختلفوا على الوزير أبى الفضل بن الفرات وطلب منه الأتراك
الإخشيذيّة
(4/23)
والكافوريّة مالا قدرة له به من المال، ولم
تحمل إليه»
أموال الضمانات، قاتلوه «2» ونهبت داره ودور جماعة من حواشيه. ثم كتب
جماعة منهم إلى المعزّ العبيدىّ بالمغرب يستدعونه ويطلبون منه إنفاذ
العساكر إلى مصر؛ وفي أثناء ذلك قدم الحسن بن عبيد الله بن طغج من
الشام منهزما من القرامطة، ودخل على ابنة عمّه، وقبض على الوزير أبى
الفضل جعفر بن الفرات لسوء سيرته ولشكوى الجند منه «3» ؛ فعذّبه
وصادره؛ وتولّى الحسن بن عبيد الله تدبير مصر بنفسه ثلاثة أشهر،
واستوزر كاتبه الحسن بن جابر الرّياحىّ «4» ؛ ثم أطلق الوزير جعفر بن
الفرات من محبسه بوساطة الشريف أبى [جعفر «5» ] مسلم الحسينى، وفوّض
إليه أمر مصر ثانيا؛ كلّ ذلك وأحمد بن علىّ صاحب الترجمة ليس له من
الأمر إلّا مجرّد الاسم فقط. ثم سافر الحسن بن عبيد الله بن طغج من مصر
إلى الشام في مستهلّ شهر ربيع الآخر سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، وبعد
مسيره بمدّة يسيرة في جمادى الآخرة من السنة وصل الخبر بمسير عسكر
المعزّ صحبة جوهر القائد الرومىّ إلى مصر؛ فجمع الوزير جعفر بن الفرات
[أنصاره «6» ] واستشارهم فيما يعتمد «7» ؛ فاتّفق الرأى على أمر فلم
يتمّ. وقدم جوهر القائد إلى الديار المصريّة بعد أمور نذكرها في ترجمته
إن شاء الله تعالى؛ وزالت دولة بنى الإخشيذ من مصر وانقطع الدعاء منها
لبنى العباس. وكانت مدّة دولة
(4/24)
الإخشيذ وبنيه بمصر أربعا وثلاثين سنة
وأربعة وعشرين يوما «1» ؛ منها دولة أحمد بن علىّ هذا- أعنى أيام
سلطنته بمصر- سنة واحدة وثلاثة أشهر إلّا ثلاثة أيام. وكانت مدّة
الدعاء لبنى العباس بمصر منذ ابتدأت دولة بنى العبّاس إلى أن قدم
القائد جوهر المعزّىّ وخطب باسم مولاه المعزّ معدّ العبيدىّ الفاطمىّ
مائتى سنة وخمسا وعشرين سنة. ومنذ «2» افتتحت مصر إلى أن انتقل كرسى
الإمارة منها إلى القائد جوهر ثلثمائة سنة وتسعا وثلاثين سنة. انتهت
ترجمة أحمد بن علىّ ابن الإخشيذ.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 358]
السنة التى حكم في بعضها أحمد بن علىّ بن الإخشيذ على مصر، وكانت
ولايته فى جمادى الأولى من السنة الماضية، غير أننا ذكرنا تلك السنة في
ترجمة كافور، ونذكر هذه السنة في ولاية أحمد هذا، على أنّ القائد جوهرا
حكم في آخرها؛ وليس ما نحن فيه من ذكر السنين على التحرير، وإنّما
المقصود ذكر الحوادث على أىّ وجه كان. وهذه السنة هى سنة ثمان وخمسين
وثلثمائة.
فيها عملت الرافضة المأتم في يوم عاشورا ببغداد وزادوا في النّوح
وتعليق المسوح، ثم عيّدوا يوم الغدير «3» .
(4/25)
وفيها كان القحط ببغداد وأبيع الكرّ بتسعين
دينارا.
وفيها ملك جوهر القائد العبيدىّ مصر وخطب لبنى عبيد المغاربة، وانقطع
الدعاء لبنى العبّاس من مصر، حسب ما ذكرناه في ترجمة أحمد بن علىّ ابن
الإخشيذ هذا.
وفيها حجّ بالناس من العراق الشريف أبو أحمد «1» الموسوىّ والد الرضىّ
والمرتضى.
وفيها ولى إمرة دمشق الحسن بن عبيد الله بن طغج [ابن «2» ] أخى الإخشيذ
فأقام بها شهورا ثم رحل في شعبان، واستناب بها سمول الكافورىّ؛ ثم سار
الحسن إلى الرملة فالتقى مع ابن فلاح مقدّمة جوهر القائد في ذى الحجة
بالرملة؛ فانهزم جيشه.
وأخذ أسيرا وحمل إلى المغرب، حسب ما ذكرناه في ترجمة أحمد بن علىّ
الإخشيذ صاحب الترجمة.
وفيها عصى جند حلب على ابن سيف الدولة، فجاء من ميافارقين ونازل حلب،
وبقى القتال عليها مدّة.
وفيها استولى الرّعيلىّ على أنطاكية، وهو رجل غير أمير وإنّما هو من
الشّطّار «3» ، وانضم عليه جماعة فقوى أمره بهم؛ فجاءت الروم ونزلوا
على أنطاكية وأخذوها في ليلة
(4/26)
واحدة؛ وهرب الرعيلىّ من باب «1» البحر هو
وخمسة آلاف إنسان ونجوا إلى الشام؛ وكان أخذها في ذى الحجة من هذه
السنة، وأسر الروم أهلها وقتلوا جماعة كثيرة.
وفيها جاء القائد جعفر بن فلاح مقدّمة القائد جوهر العبيدى المعزّى إلى
الشام؛ فحاربه أميرها الشريف ابن أبى يعلى، فانهزم الشريف وأسره جعفر
بن فلاح وتملّك دمشق.
وفيها توفّى ناصر الدولة الحسن بن أبى الهيجاء عبد الله بن حمدان-
تقدّم بقيّة نسبه في ترجمة أخيه سيف الدولة- كان ناصر الدولة صاحب
الموصل ونواحيها، وكان أخوه سيف الدولة يتأدّب معه، وكان هو أيضا شديد
المحبة لسيف الدولة. فلما مات سيف الدولة تغيّرت أحواله لحزنه عليه،
وساءت أخلاقه وضعف عقله؛ فقبض عليه ابنه أبو تغلب الغضنفر بمشورة
الأمراء وحبسه مكرّما- حسب ما ذكرناه- فلم يزل محبوسا إلى أن مات في
شهر ربيع الأوّل.
وقيل: إنّ ناصر الدولة هذا كان وقع بينه وبين أخيه سيف الدولة وحشة؛
فكتب إليه سيف الدولة، وكان هو الأصغر وناصر الدولة الأكبر، يقول:
رضيت لك العليا وقد كنت أهلها ... وقلت لهم بينى وبين أخى فرق
ولم يك بى عنها نكول وإنّما ... تجافيت عن حقّى فتمّ لك الحقّ
ولا بدّ لى من أن أكون مصلّيا ... إذا كنت أرضى أن يكون لك السبق
وفيها توفّى سابور بن أبى طاهر القرمطىّ في ذى الحجة، كان طالب قبل
موته عمومته بتسليم الأمر إليه فحبسوه، فأقام في الحبس أيّاما ثم خرج
من الحبس؛ وعمل فى ذى الحجة ببغداد «غدير خمّ» على ما جرت به العادة،
ثم مات بعد مدّة يسيرة.
(4/27)
وفيها توفّى أحمد بن الراضى بالله بعد أن
طالت علّته بمرض البواسير.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن جعفر الشيخ أبو بكر البيهقىّ، كان من كبار
مشايخ نيسابور في زمانه. سئل عن الفتوّة، فقال: هى حسن الخلق وبذل
المعروف.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى ناصر الدولة
الحسن بن عبد الله بن حمدان التّغلبىّ صاحب الموصل وكان أسنّ من سيف
الدولة.
والحسن بن محمد بن أحمد بن كيسان الحربىّ. وأبو القاسم زيد بن علىّ بن
أبى بلال الكوفىّ. ومحمد بن معاوية الأموىّ القرطبىّ في شهر رجب.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وثلاث عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع أصابع.
ذكر ولاية جوهر القائد الرومىّ المعزّىّ على مصر
هو أبو الحسن جوهر بن عبد الله القائد المعزّى المعروف بالكاتب، مولى
المعزّ لدين الله أبى تميم معدّ العبيدىّ الفاطمىّ. كان خصيصا عند
أستاذه المعزّ، وكان من كبار قوّاده؛ ثم جهّزه أستاذه المعزّ إلى أخذ
مصر بعد موت الأستاذ كافور الإخشيذى؛ وأرسل معه العساكر وهو المقدّم
على الجميع؛ وكان رحيله من إفريقيّة في يوم السبت رابع عشر شهر ربيع
الأوّل سنة ثمان وخمسين وثلثمائة؛ وتسلّم مصر في يوم الثلاثاء ثامن عشر
شعبان من السنة. على ما سنحكيه.
ولمّا دخل مصر صعد المنبر يوم الجمعة خطيبا وخطب ودعا لمولاه المعزّ
بإفريقيّة؛ وذلك في نصف شهر رمضان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة المذكورة.
وكان المعزّ لما ندب جوهرا هذا إلى التوجّه إلى الديار المصريّة أصحبه
من الأموال والخزائن
(4/28)
ما لا يحصى، وأطلق يده في جميع ذلك، وأفرغ
الذهب في صور «1» الأرحاء، وحملها على الجمال لعظم ذلك في قلوب الناس.
وقال في رحيله من القيروان شاعر الأندلس محمد بن هانئ قصيدته المشهورة
في جوهر، وهى:
رأيت بعينى فوق ما كنت أسمع ... وقد راعنى يوم من الحشر أروع
غداة كأنّ الأفق سدّ بمثله «2» ... فعاد غروب الشمس من حيث تطلع
فلم أدر إذ «3» ودّعت كيف أودّع ... ولم أدر إذ شيّعت كيف أشيّع
ألا إنّ هذا حشد من لم يذق له ... غرار الكرى جفن ولا بات يهجع
إذا حلّ في أرض بناها مدائنا ... وإن سار عن أرض غدت «4» وهى بلقع
تحلّ بيوت المال حيث محلّه ... وجمّ العطايا والرّواق المرفّع
وكبّرت الفرسان لله إذ بدا ... وظلّ السلاح المنتضى يتقعقع
وعبّ عباب الموكب الفخم حوله ... وزفّ «5» كما زفّ الصباح الملمّع
رحلت «6» إلى الفسطاط أوّل رحلة ... بأيمن فال في الذي أنت تجمع
فإن يك في مصر ظماء لمورد ... فقد جاءهم نيل سوى النّيل يهرع «7»
ويمّمهم من لا يغار بنعمة ... فيسلبهم لكن يزيد فيوسع
(4/29)
ولما استولى على مصر أرسل جوهر هذا يهنّئ
مولاه المعزّ بذلك؛ فقال ابن هانئ المذكور أيضا في ذلك:
يقول بنو العبّاس هل «1» فتحت مصر ... فقل لبنى العبّاس قد قضى الأمر
ومد جاوز الإسكندريّة جوهر ... تصاحبه «2» البشرى ويقدمه النصر
ذكر دخول جوهر إلى الديار المصريّة وكيف ملكها
قال غير واحد: كان قد انخرم نظام مصر بعد موت كافور الإخشيذىّ لمّا قام
على مصر أحمد بن علىّ بن الإخشيذ وهو صغير؛ فصار ينوب عنه ابن عمّ أبيه
الحسن ابن عبيد الله بن طغج، والوزير يومئذ جعفر بن الفرات؛ فقلّت
الأموال على الجند، فكتب جماعة منهم إلى المعزّ لدين الله معدّ وهو
بالمغرب يطلبون منه عسكرا ليسلّموا إليه مصر؛ فجهّز المعزّ جوهرا هذا
بالجيوش والسلاح في نحو ألف فارس أو أكثر فسار جوهر حتّى نزل بجيوشه
إلى تروجة «3» بقرب الإسكندريّة، وأرسل إلى أهل مصر فأجابوه بطلب
الأمان وتقرير أملاكهم لهم؛ فأجابهم جوهر إلى ذلك وكتب لهم العهد. فعلم
الإخشيذيّة بذلك، فتأهّبوا لقتال جوهر المذكور؛ فجاءتهم من عند جوهر
الكتب والعهود بالأمان؛ فاختلفت كلمتهم؛ ثم اجتمعوا على قتاله وأمّروا
عليهم ابن الشويزانى «4» ، وتوجّهوا لقتاله نحو الجيزة وحفظوا الجسور؛
فوصل جوهر إلى الجيزة، ووقع بينهم القتال في حادى عشر شعبان ودام
القتال بينهم مدّة، ثم صار
(4/30)
جوهر إلى منية الصيّادين «1» وأخذ مخاضة
منية شلقان «2» ؛ ووصل إلى جوهر طائفة من العسكر في مراكب، فقال جوهر
للأمير جعفر «3» بن فلاح: لهذا اليوم أرادك «4» المعزّ الدين الله!
فعبر عريانا في سراويل وهو في موكب ومعه الرجال خوضا، والتقى مع
المصريين ووقع القتال بينهم وثبت كلّ من الفريقين، فقتل كثير من
الإخشيذيّة وانهزم الباقون بعد قتال شديد. ثم أرسلوا يطلبون الأمان من
جوهر فأمّنهم، وحضر رسوله ومعه بند وطاف بالأمان ومنع من النهب؛ فسكن
الناس وفتحت الأسواق ودخل جوهر من الغد إلى مصر في طبوله وبنوده وعليه
ثوب ديباج مذهّب، ونزل بالمناخ، وهو موضع القاهرة اليوم؛ واختطّها وحفر
أساس «5» القصر فى الليلة؛ وبات المصريّون في أمن؛ فلمّا أصبحوا حضروا
للتهنئة»
فوجدوه قد حفر أساس القصر في الليل وكان فيه زورات غير معتدلة؛ فلمّا
شاهد ذلك جوهر لم يعجبه؛ ثم قال: قد حفر في ليلة مباركة وساعة سعيدة،
ثم تركه.
(4/31)
ثم كتب جوهر إلى مولاه المعزّ يبشره
بالفتح، وبعث إليه برءوس القتلى؛ وقطّع خطبة بنى العباس ولبس السواد،
ولبس الخطباء البياض؛ وأمر أن يقال في الخطبة:
«اللهمّ صلّ على محمد المصطفى، وعلى علىّ المرتضى؛ و [على «1» ] فاطمة
البتول، وعلى الحسن والحسين سبطى الرسول؛ [الذين أذهب الله عنهم الرّجس
وطهّرهم تطهيرا «2» ] .
وصلّ على الأئمة الطاهرين آباء أمير المؤمنين، المعزّ لدين الله» .
ففعل ذلك؛ وانقطعت دعوة بنى العباس في هذه السنة من مصر والحجاز واليمن
والشام. ولم تزل الدعوة لبنى عبيد في هذه الأقطار من هذه السنة إلى سنة
خمس وستين وخمسمائة، مائتى سنة وثمانى سنين. على ما يأتى ذكره في خلافة
المستضىء العباسىّ. وكان الخليفة فى هذه الأيّام عند انقطاع خطبة بنى
العباس من مصر المطيع لله الفضل. ومات المطيع ومن بعده سبعة خلفاء من
بنى العباس ببغداد حتى انقرضت دولة بنى عبيد من مصر على يد السلطان
صلاح الدين يوسف بن أيّوب، والخليفة يوم ذاك المستضىء العباسىّ، على ما
يأتى ذلك في محلّه إن شاء الله تعالى. ثمّ في شهر ربيع الآخر سنة تسع
وخمسين وثلثمائة أذّنوا بمصر ب «حىّ على خير العمل» . واستمرّ ذلك.
ثمّ شرع جوهر في بناء جامعه بالقاهرة المعروف بجامع الأزهر، وهو أوّل
جامع بلته الرافضة بمصر؛ وفرغ من بنائه في شهر رمضان سنة إحدى وستين
وثلثمائة بعد أن كان ابتنى القاهرة؛ كما سيأتى ذكر بنائها في هذه
الترجمة أيضا. ولمّا ملك جوهر مصر كان الحسن بن عبيد الله بن الإخشيذ
المقدّم ذكره بالشام وهو بيده إلى الرملة؛ فبعث إليه جوهر بالقائد جعفر
بن فلاح المقدّم ذكره أيضا، فقاتل ابن فلاح حسنا المذكور بالرملة حتى
ظفر به، وبعث به إلى مصر، حسب ما تقدّم ذكره، وبعثه القائد جوهر إلى
المغرب؛ فكان ذلك آخر العهد به. ثم سار جعفر
(4/32)
ابن فلاح إلى دمشق وملكها بعد أمور، وخطب
بها للمعزّ في المحرّم سنة تسع وخمسين وثلثمائة. ثم عاد ابن فلاح إلى
الرملة؛ فقام الشريف أبو القاسم إسماعيل بن أبى يعلى بدمشق وقام معه
العوامّ ولبس السّواد ودعا للمطيع، وأخرج إقبالا أمير دمشق الذي كان من
قبل جوهر القائد، فعاد جعفر بن فلاح إلى دمشق في ذى الحجة ونازلها،
فقاتله أهلها، فطاولهم حتّى ظفر بهم؛ وهرب الشريف أبو القاسم إلى بغداد
على البرّيّة. فقال ابن فلاح: من أتى به فله مائة ألف درهم، فلقيه ابن
غلبان العدوىّ فى البريّة فقبض عليه وجاء به إلى ابن فلاح؛ فشهّره على
جمل وعلى رأسه قلنسوة من لبود، وفي لحيته ريش مغروز ومن ورائه رجل من
المغاربة يوقع به، ثمّ حبسه؛ ثمّ طلبه ابن فلاح ليلا وقال له: ما حملك
على ما صنعت؟ وسأله من ندبه إلى ذلك؛ فقال: ما حدّثنى به أحد إنّما هو
أمر قدّر؛ فرقّ له جعفر بن فلاح ووعده أنه يكاتب فيه القائد جوهرا،
واسترجع المائة ألف درهم من الذين أتوا به، وقال لهم: لا جزاكم الله
خيرا! غدرتم بالرجل. وكان ابن فلاح يحبّ العلويّين، فأحسن إليه وأكرمه.
واستمرّ جوهر حاكم الديار المصريّة إلى أن قدم إليها مولاه المعزّ لدين
الله معدّ فى يوم الجمعة ثامن شهر رمضان سنة اثنتين وستين وثلثمائة؛
فصرف جوهر عن الديار المصريّة بأستاذه المعزّ، وصار من عظماء القوّاد
في دولة المعزّ وغيره. ولا زال جوهر على ذلك إلى أن مات في سنة إحدى
وثمانين وثلثمائة، ورثاه الشعراء. وكان جوهر حسن السيرة في الرّعية
عادلا عاقلا شجاعا مدبّرا.
قال ابن خلّكان (رضى الله عنه) : توفّى يوم الخميس لعشر بقين من ذى
القعدة سنة إحدى وثمانين وثلثمائة. وكان ولده الحسين بن جوهر قائد
القوّاد للحاكم صاحب مصر، ثم نقم عليه فقتله في سنة إحدى وأربعمائة؛
وكان الحسين
(4/33)
قد خاف على نفسه من الحاكم، فهرب هو وولده
وصهره القاضى عبد العزيز ابن [محمد بن «1» ] النعمان، وكان زوج أخته؛
فأرسل الحاكم من ردّهم وطيّب قلوبهم وآنسهم مدّة، ثم حضروا إلى القصر
بالقاهرة للخدمة، فتقدّم الحاكم إلى راشد وكان سيف النّقمة، فاستصحب
عشرة من الغلمان الأتراك، فقتلوا الحسين ابن جوهر وصهّره القاضى
وأحضروا رأسيهما إلى بين يدى الحاكم. وقد ذكرنا الحسين هنا حتى يعرف
بذكره أن جوهرا المذكور فحل غير خصىّ، بخلاف الخادم بهاء الدين قراقوش
والأستاذ كافور الإخشيذى والخادم ريدان «2» وغيرهم.
ذكر بناء جوهر القائد القاهرة وحاراتها
قال القاضى محيى الدين بن عبد الظاهر في كتابه الروضة" [البهية «3» ]
الزاهرة، فى الخطط المعزّية القاهرة"؛ قال: «اختطّ جوهر القصر وحفر
أساسه في أوّل ليلة نزوله القاهرة، وأدخل فيه دير العظام، وهو المكان
المعروف الآن بالركن «4» المخلّق قبالة حوض جامع الأقمر، قريب من بئر
العظام، والمصريون يسمّونها بئر العظمة، ويزعمون أنّ طاسة وقعت من شخص
في بئر زمزم وعليها اسمه، فطلعت من هذه البئر. ونقل جوهر القائد العظام
«5» التى كانت في الدير المذكور والرمم إلى دير
(4/34)
فى الخندق «1» فدفنها؛ لأنه يقال: إنّها
عظام جماعة من الحواريّين، وبنى مكانها مسجدا «2» من داخل السور، وأدخل
أيضا قصر الشوك في القصر المذكور، وكان منزلا تنزله «3» بنو عذرة، وجعل
للقصر أبوابا: أحدها باب العيد «4» وإليه تنسب رحبة باب العيد، وإلى
جانبه باب يعرف بباب الزّمرّذ «5» . وباب آخر «6» قبالة دار الحديث
يعنى المدرسة الكامليّة. وباب آخر قبالة القطبيّة وهى البيمارستان
الآن، يعرف الباب المذكور
(4/35)
بباب الذهب «1» . وباب الزّهومة «2» . وباب
آخر «3» من ناحية قصر الشوك. وباب آخر من عند مشهد الحسين، ويعرف بباب
التّربة «4» . وباب آخر يعرف بباب الدّيلم «5» ، وهو باب مشهد الحسين
الآن قبالة دار الفطرة «6» . قال: وأمّا أبواب القاهرة التى استقرّ
عليها الحال الآن فيأتى ذكرها «7» .
(4/36)
قال: وإنّ حدّ القاهرة «1» من مصر من السبع
سقايات «2» إلى تلك الناحية عرضا. قال: ولمّا نزل جوهر القائد اختطت
كلّ قبيلة خطّة عرفت بها، فزويلة «3» بنت البابين المعروفين ببابى
زويلة، وهما البابان اللذان عند مسجد ابن البنّاء «4» وعند الحجّارين
«5» ، وهما بابا «6» القاهرة. ومسجد ابن البنّاء المذكور بناه الحاكم.
وذكر ابن القفطىّ: أنّ المعزّ لمّا وصل مصر دخل إلى القاهرة من الباب
الأيمن، فالناس إلى اليوم يزدحمون فيه، وقليل من يدخل من الباب الأيسر،
لأنّه أشيع في الناس أنّ من دخله لم تقض له حاجة، وهو الذي عند دكاكين
الحجّارين [و] الذي يتوصّل
(4/37)
منه إلى المحمودية «1» . قلت: وقد دثر رسوم
هذا الباب الثانى المذكور، وهو مكان يمرّ منه الآن من باب سر الجامع
المؤيّدىّ إلى الأنماطيين «2» .
قال: والباب الاخر من أبواب القاهرة القوس «3» الذي هو قريب من باب
النصر، الذي يخرج منه إلى الرحبة «4» ، وهو عند باب سعيد السعداء، [و
«5» ] دكاكين العطّارين الآن. وباب آخر يعرف بالقوس «6» أيضا وهو الذي
يخرج منه إلى السوق الذي [هو «7» ] قريب [من] حارة «8» بهاء الدين
قراقوش، على يسرة باب الجامع الحاكمىّ من ناحية الحوض، وتعرف قديما
بالرّيحانيّة. وكلّ هذه الأبواب والسور كانت باللّبن.
(4/38)
وأمّا باب زويلة الآن وباب النصر وباب
الفتوح فبناها الوزير الأفضل بن أمير الجيوش، وكتب على باب زويلة
تاريخه واسمه، وذلك في سنة ثمانين وأربعمائة «1» .
وقالت المهندسون: إنّ في باب زويلة عيبا لكونه ليست له باشورة «2»
قدّامه ولا خلفه على عادة الأبواب. وأمّا باب القنطرة «3» فبناه القائد
جوهر المذكور.
وأمّا السّور الحجر الذي على القاهرة ومصر والأبواب التى به فبناها
الطواشى بهاء الدين قراقوش الرومىّ في أيّام أستاذه السلطان صلاح الدين
يوسف بن أيوب فى سنة سبعين وخمسمائة؛ فبنى فيه [قلعة «4» ] المقس، وهو
البرج الكبير الذي كان على
(4/39)
النيل. قلت: وقد نسف «1» هذا البرج من تلك
الأماكن في سنة سبعين وستمائة.
يأتى ذكر ذلك في ترجمة الملك المنصور قلاوون إن شاء الله تعالى من هذا
الكتاب.
قال: وبنى باب الجامع والقلعة التى بالجبل والبرج الذي بمصر قريبا من
باب القنطرة المسمى بقلعة يازكوچ «2» ، وجعل السور طائفا بمصر
والقاهرة، ولم يتمّ بناؤه إلى الآن؛ وأعانه على عمله وحفر البئر التى
بقلعة الجبل أسارى الفرنج، وكانوا ألوفا.
وهذه البئر من عجائب الأبنية، تدور البقر من أعلاها وتنقل الماء من
نقّالة في «3» في وسطها، وتدور أبقار في وسطها تنقل الماء من أسفلها؛
ولها طريق إلى الماء تنزل البقر إلى معينها في مجاز؛ وجميع ذلك حجر
منحوت ليس فيه بناء؛ وقيل: إن أرض هذه البئر مسامتة لأرض بركة الفيل؛
وماؤها عذب. سمعت من يحكى عن «4» المشايخ أنّها لمّا حفرت جاء ماؤها
حلوا، فأراد قراقوش الزيادة في مائها فوسعها، فخرجت منها عين مالحة
غيّرت حلاوتها.
وطول هذا السور الذي بناه قراقوش على القاهرة ومصر والقلعة بما فيه من
ساحل البحر تسعة وعشرون ألف ذراع وثلثمائة ذراع وذراعان [بذراع العمل،
وهو «5» الذراع الهاشمىّ] ، من ذلك ما بين قلعة المقسم «6» على شاطئ
النيل والبرج بالكوم «7» الأحمر
(4/40)
بساحل مصر عشرة آلاف وخمسمائة ذراع. ومن
قلعة المقسم إلى حائط القلعة بالجبل بمسجد سعد «1» الدولة ثمانية آلاف
وثلثمائة [واثنتان «2» ] وتسعون ذراعا. ومن جانب حائط القلعة من جانب
مسجد سعد الدولة إلى البرج بالكوم الأحمر سبعة آلاف ومائتا ذراع. ودائر
القلعة بالجبل بمسجد سعد الدولة ثلاثة آلاف ومائتان وعشر أذرع؛ وذلك
طول قوسه في ابتدائه، وأبراجه من النيل إلى النيل على التحقيق
والتعديل» . انتهى كلام ابن عبد الظاهر. على أنه لم يسلم من الاعتراض
عليه فى كثير مما نقله، وأيضا مما سكت عنه.
وقال غيره: دخل جوهر القائد مصر بعسكر عظيم ومعه ألف حمل مال، ومن
السلاح والعدد «3» والخيل ما لا يوصف. فلمّا انتظم حاله وملك مصر ضاقت
بالجند والرعية، واختط سور القاهرة وبنى بها القصور، وسمّاها
المنصوريّة؛ وذلك فى سنة ثمان وخمسين وثلثمائة. فلمّا قدم المعزّ
العبيدى من القيروان غيّر اسمها وسمّاها القاهرة. والسبب في ذلك أنّ
جوهرا لمّا قصد إقامة السور وبناء القاهرة جمع المنجّمين وأمرهم أن
يختاروا طالعا لحفر الأساس وطالعا لرمى حجارته؛ فجعلوا [بدائر السور
«4» ] قوائم من خشب، وبين القائمة والقائمة حبل فيه أجراس، وأفهموا
البنّائين ساعة تحريك الأجراس [أن] يرموا ما في أيديهم من اللّبن
والحجارة، ووقف المنجمون لتحرير هذه الساعة وأخذ الطالع؛ فاتّفق وقوف
غراب على خشبة من
(4/41)
تلك الخشب، فتحرّكت الأجراس، وظنّ
الموكّلون بالبناء أنّ المنجّمين حرّكوها فألقوا ما بأيديهم من الطين
والحجارة في الأساس؛ فصاح المنجّمون: لا لا، القاهر فى الطالع! ومضى
ذلك وفاتهم ما قصدوه. وكان غرض جوهر أن يختاروا للبناء طالعا لا يخرج
البلد عن نسلهم أبدا، فوقع أنّ المريخ كان في الطالع، وهو يسمى عند
المنجّمين القاهر، فحكموا لذلك «1» أنّ القاهرة لا تزال تحت حكم
الأتراك، وأنّهم لا بدّ أن يملكوا هذه البلد. فلمّا قدم المعزّ إليها
وأخبر بهذه القصة وكان له خبرة بالنّجامة، وافقهم على ذلك، وأنّ الترك
تكون لهم الغلبة على هذا البلد؛ فغيّر اسمها وسمّاها القاهرة. وقيل
فيها وجه آخر، وهو أنّ بقصور القاهرة قبّة تسمّى القاهرة، فسميت على
اسمها. والقول الأوّل هو المتواتر بين الناس والأقوى.
وقيل غير ذلك.
ثم بنيت حارات «2» القاهرة من يومئذ، فعمّر فيها:
حارة الروم- وهما حارتان، حارة الروم الآن المشهورة «3» ، وحارة الروم
الجوّانيّة «4» ، وهى التى بقرب باب النصر على يسار الداخل إلى
القاهرة، ثم استثقل الناس قول حارة الروم الجوّانية فحذفوا صدر الكلمة
وقالوا «الجوّانية» ؛ والورّاقون يكتبون حارة الروم السفلى، وحارة
الروم العليا المعروفة بالجوّانية.
(4/42)
وقال القاضى زين الدين: إنّ الجوّانية
منسوبة للأشراف الجوّانيين، منهم الشريف «1» النّسابة الجوّانى. وهاتان
الحارتان اختطهما الروم، ونزلوا بهما فعرفتابهم.
وحارة الدّيلم «2» - هى منسوبة إلى الديلم الواصلين صحبة أفتكين
المعزّى غلّام معز الدولة بن بويه حين قدم إلى القاهرة أولاد مولاه
معزّ الدولة.
وفندق «3» مسرور- منسوب لمسرور خادم من خدّام القصر في الدولة
العبيدية.
وخليج القاهرة «4» - حفره أمير المؤمنين عمر بن الخطّاب رضى الله عنه،
ويعرف بخليج أمير المؤمنين، وكان حفره عام الرّمادة، وهى سنة ست عشرة
«5» من
(4/43)
الهجرة فسافر إلى القلزم «1» ، فلم يأت
عليه الحول حتى جرت فيه السفن وحمل فيها الزاد والأقوات إلى مكّة
والمدينة، وانتفع بذلك أهل الحجاز. وقال الكندىّ: كان حفره فى سنة ثلاث
وعشرين وفرغ منه في ستة أشهر، وجرت فيه السفن ووصلت إلى الحجاز في
الشهر السابع؛ ثم بنى عليه عبد العزيز بن مروان قنطرة «2» وكتب عليها
اسمه، وقام ببنائها سعيد أبو عثمان «3» ؛ ذكره القضاعىّ صاحب الخطط.
قال: ثمّ دثرت ثمّ أعيدت ثمّ عمّرت في أيّام العزيز بالله، وليس لها
«4» أثر في هذا الزمان. وإنّما بنى السلطان الملك الصالح نجم الدين
أيّوب قنطرة السّدّ «5» الآن التى عليها بستان «6» الخشّاب. وكان
(4/44)
يخرج الماء من البحر بالمقس من البرانج،
فوسّعه الملك الكامل محمد ابن الملك العادل أبى بكر بن أيّوب وجعله
خليجا، وهو خليج الذكر «1» . وأوّل من رتّب حفر الخليج على الناس
الوزير المأمون بن البطائحى صاحب الجامع الأقمر بالقاهرة؛ وكذلك جعل
على أصحاب البساتين، وجعل عليه واليا بمفرده؛ وهو أوّل من رتّب
السقّائين عند معونة المأمون هذا؛ وكذلك القرّابة والفعلة.
الحسينيّة «2» - هى منسوبة لجماعة الأشراف الحسينيّين «3» ، كانوا في
أيّام الملك الكامل محمد بن العادل، قدموا من الحجاز فنزلوا بها
واستوطنوها، وبنوا بها المدابغ وصنعوا فيها الأديم المشبّه بالطائفىّ
«4» ؛ ثمّ سكنها الأجناد بعد ذلك؛ وكانت برسم الرّيحانيّة الغزّاويّة
والمولّدة والعجمان وعبيد الشراء؛ وكانت ثمانى «5» حارات: حارة
(4/45)
حامد، والمنشيّة الكبرى، والمنشيّة الصغرى،
والحارة الكبيرة، والحارة الوسطى، كانت هى لعبيد الشراء، والوزيريّة؛
كانت كلّها سكن الأرمن، فارسهم وراجلهم.
وخان السبيل «1» - بناه الخادم الأستاذ الخصىّ بهاء الدين قراقوش الذي
بنى السور وأرصده لأبناء السبيل.
اللؤلؤة «2» - عند باب القنطرة بناها الظاهر لإعزاز دين الله الخليفة
العبيدى، وكانت نزهة الخلفاء الفاطميّين، وبها كانت قصورهم. ويأتى ذكر
شىء من ذلك في تراجمهم إن شاء الله تعالى.
حارة الباطليّة «3» - كان المعزّ لدين الله العبيدىّ لما قسم العطاء في
الناس جاءت إليه طائفة فسألت العطاء، فقيل: فرغ المال؛ فقالوا: رحنا
نحن في الباطل؛ فسمّوا الباطليّة، فعرفت الحارة بهم.
حارة كتامة «4» - هى قبيلة معروفة، عرفت بهم.
(4/46)
البرقيّة «1» - هذه الحارة نزل فيها جماعة
من أهل برقة واستوطنوها، فعرفت بهم. وكانوا جماعة كبيرة، حضروا صحبة
المعزّ لدين الله لمّا قدم من بلاد المغرب.
خزانة البنود «2» - كانت هذه الخزانة خزانة السلاح في الدولة
الفاطميّة.
دار القطبيّة- هى دار ستّ الملك بنت العزيز لدين الله نزار، وأخت
الحاكم بأمر الله منصور. يأتى ذكرها في ترجمة أخيها الحاكم. وسكن هذه
الدار فى دولة الأيّوبيّة مؤنسة «3» ، ثم الأمير فخر الدين جهاركس صاحب
القيسارية بالقاهرة، ثمّ سكنها الملك الأفضل قطب الدين؛ واستمرّت
ذرّيته بها حتّى أخرجهم الملك المنصور قلاوون منها، وبناها بيمارستانه
«4» المعروف في القاهرة بين القصرين. ولسكن قطب الدين الأفضل هذا سمّيت
القطبيّة، والأفضل المذكور من بنى أيّوب.
حارة الخرنشف «5» - كانت قديما ميدانا للخلفاء، فلمّا تسلطن المعزّ
أيبك التركمانىّ بنوا به إصطبلات، وكذلك القصر الغربىّ «6» ؛ وكانت
النساء اللاتى أخرجن
(4/47)
منه سكنّ بالقصر النافعىّ «1» ؛ فامتدّت
الأيدى إلى طوبه وأخشابه وحجارته، فتلاشى حاله وتهدّم وتشعّث، فسمّى
بالخرنشف لهذا المقتضى، وإلّا فكان هذا الميدان من محاسن الدنيا.
حارة الكافورىّ «2» - هذه الحارة كانت بستانا للأستاذ الملك كافور
الإخشيذىّ صاحب مصر؛ ثمّ من بعده صار للخلفاء المصريّين، ثم هدم
البستان فى الدولة المعزيّة أيبك لما خرب الميدان والقصور، وبنى أيضا
إصطبلات ودورا ومساكن.
حارة برجوان «3» - منسوبة إلى الخادم برجوان. كان برجوان من جملة خدّام
القصر في أيام العزيز بالله نزار العبيدىّ الفاطمىّ، ثم كان برجوان هذا
مدبّر مملكة الحاكم بأمر الله.
(4/48)
حارة بهاء الدين «1» - منسوبة إلى الأستاذ
بهاء الدين قرافوش الصلاحىّ الخادم الخصىّ الذي بنى السور وقلعة الجبل.
وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه.
قيسارية أمير الجيوش- المعروفة الآن بسوق مرجوش «2» . وأوّلها من باب
حارة بهاء الدين قراقوش إلى قريب من الجامع الحاكمىّ، بناها أمير
الجيوش الأفضل شاهنشاه بن بدر الجمالىّ «3» الذي كان إليه تدبير الملك
والوزارة في دولة الخليفة المستنصر معدّ العبيدىّ. وذكر ابن أبى منصور
في كتابه المسمّى أساس السياسة أنه كان في موضعها دار تعرف بدار
القبّانىّ، ودور قوم يعرفون ببنى هريسة.
درب ابن أسد- وهو خادم عرف به. وهو خلف إصطبل الطارمة «4» .
الرميلة «5» - تحت قلعة الجبل، كانت ميدان أحمد بن طولون، وبها كانت
قصوره وبساتينه.
درب ملوخية «6» - هو منسوب لأمير اسمه ملوخية، كان صاحب ركاب الخليفة
الحاكم بأمر الله العبيدىّ، وكان يعرف أيضا بملوخية الفرّاش.
(4/49)
العطوف «1» - منسوبة إلى الخادم عطوف أحد
خدّام القصر في دولة الفاطمية، وكان أصله من خدّام أم ستّ الملك بنت
العزيز بالله أخت الحاكم المقدّم ذكرها.
رحبة باب العيد «2» -[كان «3» ] الخليفة لا يركب يوم العيد إلّا من باب
القصر الذي من هذه الناحية خاصة. ويأتى ذكر ذلك كلّه في ترجمة المعزّ
لدين الله العبيدىّ.
خانقاه «4» السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيوب- وهى دار
سعيد السعداء خادم الخليفة المستنصر معدّ العبيدىّ أحد خلفاء مصر، ثمّ
صارت في آخر الوقت سكن الوزير طلائع بن رزّيك «5» وولده رزّيك بن
طلائع. وكان طلائع يلقب في أيام وزارته بالملك الصالح، وهو صاحب جامع
الصالح خارج بابى زويلة. ولمّا سكنها طلائع المذكور فتح لها من دار
الوزارة- أعنى التى هى الآن خانقاه بيبرس الجاشنكير «6» - سردابا تحت
الأرض، وجمع بين دار سعيد
(4/50)
السعداء ودار الوزارة في السكن لكثرة حشمه،
وصار يمشى في السرداب من الدار الواحدة إلى الأخرى.
الحجر «1» - وهى قريبة من باب النصر قديما على يمين الخارج من القاهرة،
وكان يأوى فيها جماعة من الشباب يسمّون صبيان الحجر يكونون في جهات
متعددة.
الوزيرية «2» - منسوبة إلى الوزير أبى الفرج يعقوب بن كلّس وزير العزيز
بالله نزار العبيدىّ، وكان الوزير هذا يهودىّ الأصل ثمّ إنّه أسلم
وتنقّل في الخدم إلى أن ولى الوزارة.
الجودرية «3» - منسوبة إلى جماعة يعرفون بالجودريّة اختطوها، وكانوا
أربعمائة رجل. منسوبون إلى جودر خادم المهدىّ.
سوق السّراجين- استجدّ في أيّام المعزّ أيبك التركمانىّ سنة ثلاث
وخمسين وستمائة.
(4/51)
سقيفة العدّاسين «1» - هى الآن معروفة
بالأساكفة وبالبندقانيين، وكانت تلك الناحية كلّها تعرف بسقيفة
العدّاسين.
حارة الأمراء- هى درب شمس الدولة «2» .
العدوية «3» - هى من أوّل باب الخشيبة إلى أوّل حارة زويلة.
درب الصقالبة «4» - هو درب من جملة حارة زويلة.
حارة زويلة «5» - اخطتها امرأة تعرف بزويلة، وهى صاحبة البئر وبابى
زويلة، لا أعرف من حالها شيئا.
باب الزهومة «6» - كان بابا من أبواب القصر أعنى [قصر] القاهرة.
(4/52)
الصاغة بالقاهرة «1» - كانت مطبخا للقصر
يخرج إليه من باب الزهومة.
درب السلسلة «2» - هو الملاصق للسيوفيين.
دار الضرب «3» - بنيت في أيام الوزير المأمون بن البطائحىّ المقدّم
ذكره، وهى بالقشاشين «4» قبالة البيمارستان المنصورىّ «5» .
الصالحية «6» - هى منسوبة للوزير الملك الصالح طلائع بن رزّيك المقدّم
ذكره لأنّ غلمانه- أعنى مماليكه- كانوا ينزلون بها.
المقس «7» - قال القضاعى: كانت ضيعة تعرف بأمّ دنين، وإنّما سميّت
المقس لأنّ العشّار وهو المكّاس كان فيها يستخرج الأموال، فقيل له
المكس، ثم قيل المقس.
(4/53)
المسجد المعلق- كان هناك مساجد ثلاثة «1»
معلقة بناها الحاكم بأمر الله فى أيام خلافته.
وأمّا هذه المبانى التى هى الآن خارج القاهرة فكلّها تجدّدت في الدولة
التركية، ومعظمها في دولة الملك الناصر محمد بن قلاوون ومن بعده، من
سدّ مصر إلى باب زويلة طولا وعرضا. يأتى ذكر ذلك كلّه إن شاء الله
تعالى في تراجم من جدّد الكورة والقناطر والجوامع والمدارس وغيرهم من
السلاطين والملوك، كلّ واحد على جدته بحسب ما يقتضيه الحال.
ترجمة القائد جوهر وما يتعلق به من بنيان
القاهرة وغيرها
قد تقدّم الكلام أن جوهر القائد هذا غير خصىّ، وولده القائد الحسين بن
جوهر كان من كبار قوّاد الحاكم بأمر الله، وجوهر هذا هو صاحب الجامع
الأزهر.
وقد تقدّم ذكر ذلك كلّه؛ غير أننا ذكرناه هنا ثانيا تنبيها لمن نظر في
ترجمة جوهر القائد المذكور، لئلا يلتبس عليه بشىء آخر.
(4/54)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 359]
السنة الأولى من ولاية جوهر الرومىّ المعزّى القائد على مصر، وهى سنة
تسع وخمسين وثلثمائة.
فيها أقامت الرافضة المأتم على الحسين بن علىّ ببغداد في يوم عاشوراء
على عادتهم وفعلهم القبيح في كلّ سنة.
وفيها ورد الخبر في المحرّم بأن تقفور ملك الروم خرج بالروم إلى جهة
أنطاكية ونازلها وأحاط بها وقاتل أهلها حقى ملكها بالأمان؛ ثم أخرج
أهلها منها وأطلق العجائز والشيوخ والأطفال، وقال لهم: امضوا حيث شئتم،
ثم أخذ الشباب والصبيان والغلمان سيا؛ فكانوا أكثر من عشرين ألفا. وكان
تقفور المذكور قد طغى وتجبّر وقهر العباد وملك البلاد وعظمت هيبته في
قلوب الناس، واشتغل عنه الملوك بأضدادهم فاستفحل أمر تقفور بذلك. ثم
تزوّج تقفور المذكور بامرأة الملك الذي كان قبله على كره منها؛ وكان
لها ولدان، فأراد تقفور أن يخصيهما ويهديهما للبيعة ليستريح منهما لئلا
يملكا الروم في أيامه أو بعده؛ فعلمت زوجته أمّهما بذلك، فأرسلت الى
الدمستق ليأتى إليها في زىّ النساء ومعه جماعة «1» فى زى النساء؛
فجاءوا وباتوا عندها ليلة الميلاد، فوثبوا عليه وقتلوه؛ وأجلس فى الملك
بعده ولدها الأكبر، وتّم لها ما أرادت. ولله الحمد على موت هذا
الطاغية.
وفيها في ذى الحجة انقضّ بالعراق كوكب عظيم أضاءت منه الدنيا حتى صار
كأنّه شعاع الشمس وسمع في انقضاضه صوت كالرعد الشديد، فهال «2» ذلك
الناس وارتعجوا «3» له.
(4/55)
وفيها حجّ بالناس من العراق الشريف النقيب
أبو أحمد الموسوىّ والد الرضى والمرتضى والثلاثة رافضة، وهم محطّ رحال
الشيعة في زمانهم.
وفيها توفّى الأمير صالح بن عمير العقيلىّ أمير دمشق، ولى إمرة دمشق
خلافة عن الحسن بن عبيد الله بن طغج [ابن «1» ] أخى الإخشيذ في دولة
أحمد بن على ابن الإخشيذ في سنة سبع وخمسين وثلثمائة، ووقع له في
ولايته على دمشق أمور وحروب. ولما انهزم الأستاذ فاتك الكافورىّ من
القرمطىّ وغلب القرمطىّ على الشام خرج منها صالح هذا وغاب عنها مدّة
أيّام، ثم عاد إليها بعد خروج القرمطىّ منها، ودام بها وأصلح أمورها؛
فلم تطل مدّته ومات بعد مدّة يسيرة. وكان شجاعا جوادا مقداما. وهو آخر
من ولى دمشق من قبل الإخشيذ محمد وبنيه.
وفيها توفّى الأمير أبو شجاع فاتك الإخشيذىّ الخازن، ولى إمرة دمشق
أيضا قبل تاريخه من قبل أنوجور الإخشيذىّ، وكان شجاعا مقداما جوادا،
ولى عدّة بلاد، وطالت أيّامه في السعد. وهو غير فاتك المجنون الذي مدحه
المتنبىّ ورثاه؛ لأنّ فاتكا المذكور كان بمصر في دولة خشداشه «2» كافور
الإخشيذىّ؛ ووفاة هذا كانت بدمشق.
وفيها هلك تقفور طاغية الروم: لم يكن أصله من أولاد ملوك الروم بل قيل
إنه كان ولد رجل مسلم من أهل طرسوس يعرف بابن الفقّاس «3» ، فتنصّر
وغلب على الملك؛ وكان شجاعا مدبّرا سيوسا لم ير مثله من عهد إسكندر ذى
القرنين؛ وهو الذي
(4/56)
افتتح حلب وأخذها من سيف الدولة بن حمدان؛
ولم يأخذ حلب أحد قبله من ملوك الروم؛ فعظم بذلك في أعين ملوك الروم
وملّكوه عليهم إلى أن قتل. وقد تقدّم قتله في حوادث هذه السنة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أحمد بن
بندار ابن إسحاق الشعّار «1» . وأبو بكر أحمد بن يوسف بن خلّاد في صفر.
وأبو القاسم حبيب بن الحسن القزّاز. ومحمد بن أحمد بن الحسن أبو علىّ
الصوّاف. ومحمد بن على بن حبيش «2» الناقد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وتسع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 360]
السنة الثانية من ولاية جوهر الرومىّ المعزىّ القائد على مصر، وهى سنة
ستين وثلثمائة.
فيها عمل الرافضة المأتم ببغداد في يوم عاشوراء على العادة في كلّ سنة
من النوح واللّطم والبكاء وتعليق المسوح وغلق الأسواق، وعملوا العيد
والفرح يوم الغدير «3» وهو ثامن عشر ذى الحجة.
وفيها في أوّل المحرّم لحق الخليفة المطيع لله سكتة آل الأمر فيها إلى
استرخاء جانبه الأيمن وثقل لسانه.
(4/57)
وفيها في صفر أعلن المؤذّنون بدمشق: ب" حىّ
على خير العمل" بأمر القائد جعفر بن فلاح نائب دمشق للمعزّ لدين الله
العبيدىّ، ولم يجسر أحد على مخالفته؛ ثمّ في جمادى الآخرة أمرهم ابن
فلاح المذكور بذلك في الإقامة؛ فتألّم الناس لذلك، فهلك ابن فلاح في
عامه.
وفيها في شهر ربيع الأوّل وقع الصلح بين أبى المعالى بن سيف الدولة بن
حمدان وبين قرعويه «1» ، وكان بينهما حروب منذ مات سيف الدولة إلى
اليوم، فأقاما الخطبة بحلب للمعزّ لدين الله العبيدىّ؛ وأرسل إليهما
جوهر القائد من مصر بالأموال والخلع.
وفيها سار أبو محمد الحسن بن أحمد القرمطىّ إلى الشام في قبائل العرب
وحاصر دمشق؛ فخرج إليه من مصر القائد جعفر بن فلاح بعساكره من المغاربة
واقتتلوا أيّاما إلى أن حمل القرمطىّ بنفسه على جعفر بن فلاح فقتله
وقتل عامّة عسكره، وملك دمشق وولّى عليها ظالم بن موهوب «2» العقيلىّ،
ثمّ عاد القرمطىّ إلى بلاد هجر؛ فلم يثبت ظالم بعده بدمشق، وخرج منها
بعد مدّة يسيرة.
وفيها حجّ بالناس النقيب الشريف أبو أحمد الموسوىّ من بغداد.
وفيها توفّى الأمير جعفر بن فلاح أحد قوّاد المعزّ لدين الله العبيدىّ؛
كان مقدّم عساكر القائد جوهر، وبعثه جوهر إلى دمشق لمحاربة الحسن بن
عبيد الله بن
(4/58)
طغج؛ فحاربه وأسره «1» ومهّد البلاد، وولى
دمشق وأصلح أمورها، إلى أن قدم عليه القرمطىّ وحاربه وظفر به وقتله.
وهو أوّل أمير ولى إمرة دمشق لبنى عبيد المغربىّ.
والعجب أنّ القرمطىّ لمّا قتله بكى عليه ورثاه؛ لأنّهما يجمع التشيّع
بينهما وإن كانا عدوّين. وكان جعفر بن فلاح المذكور أديبا شاعرا فصيحا.
كتب مرّة إلى الوزير يعقوب يقول له:
ولى صديق ما مسّنى عدم ... مذ نظرت عينه إلى عدمى
أعطى وأقنى «2» ولم يكلّفنى ... تقبيل كفّ له ولا قدم
وفيها توفّى سليمان بن أحمد بن أيّوب الحافظ أبو القاسم الطّبرانىّ
اللّخمىّ. ولخم:
قبيلة من العرب قدموا من اليمن إلى بيت المقدس ونزلوا بالمكان الذي ولد
فيه عيسى عليه السلام، وبينه وبين بيت المقدس فرسخان، والعامّة تسمّيه
«بيت لحم» (بالحاء المهملة) وصوابه «بيت لخم» (بالخاء المعجمة) . وكان
مولده بعكّا في سنة ستين ومائتين؛ وهو أحد الحفّاظ المكثرين الرحّالين،
سمع الكثير وصنّف المصنّفات الحسان، منها «المعجم الكبير في أسامى
الصحابة» و «المعجم الأوسط في غرائب شيوخه» ، و «المعجم الأصغر في
أسامى شيوخه» ، و «كتاب الدعاء» و «كتاب عشرة النساء» و «كتاب حديث
الشاميّين» و «كتاب المناسك» و «كتاب الأوائل» و «كتاب السنة» و «كتاب
النوادر» و «مسند أبى هريرة» و «كتاب التفسير» و «كتاب دلائل النبوّة»
وغير ذلك. ومات في ذى القعدة. وذكر الحافظ سليمان ابن إبراهيم
الأصبهانىّ أن أبا أحمد العسّال قاضى أصبهان قال: أنا سمعت من
(4/59)
الطّبرانىّ عشرين ألف حديث، وسمع منه
إبراهيم بن محمد بن حمزة ثلاثين ألفا، وسمع منه أبو الشيخ أربعين ألفا.
وفيها توفّى محمد بن الحسين بن عبد الله الحافظ أبو بكر الآجرّىّ «1»
البغدادىّ، كان محدّثا ديّنا صالحا ورعا مصنّفا، صنّف كتاب «العزلة»
وغيره. ومات فى هذه السنة.
وفيها توفّى محمد بن أبى عبد الله الحسين «2» بن محمد الكاتب أبو الفضل
المعروف بابن العميد- هو كان لقب والده- كان فيه فضل وأدب وترسّل؛ وزر
لركن الدولة الحسن بن بويه بعد موت أبيه. ومن بعض أصحاب أبيه الصاحب بن
عبّاد. قال الثعالبىّ في كتابه اليتيمة: «وكان «3» يقال: بدئت الكتابة
بعبد الحميد، وختمت بابن العميد» . وكان «4» الصاحب بن عبّاد قد سافر
إلى بغداد؛ فلمّا عاد إليه قال له ابن العميد: كيف وجدتها؟ قال: بغداد
في البلاد، كالأستاذ في العباد.
وكان ابن العميد سيوسا مدبّرا قائما بحقوق المملكة، وقصده الشعراء من
الآفاق، ومدحه المتنبىّ وابن نباتة السعدىّ وغيرهما. ومن شعر ابن
العميد قوله:
آخ الرجال من الأبا ... عد والأقارب لا تقارب
إنّ الأقارب كالعقا ... رب بل أضرّ من العقارب
(4/60)
وقيل: إنّ الصاحب بن عبّاد اجتاز بدار ابن
العميد بعد وفاته فلم ير هناك أحدا بعد أن كان الدّهليز يغصّ من زحام
الناس؛ فقال:
أيّها الرّبع «1» لم علاك اكتئاب ... أين «2» ذاك الحجاب والحجّاب
أين من كان يفزع الدهر منه ... فهو اليوم في التراب تراب
وقال علىّ بن سليمان: رأيت بالرىّ دار قوم «3» لم يبق منها سوى بابها-
يعنى دار ابن العميد- وعليها مكتوب:
اعجب لصرف الدهور معتبرا ... فهذه الدار من عجائبها
عهدى بها بالملوك زاهية ... قد سطع «4» النور من جوانبها
تبدّلت وحشة بساكنها ... ما أوحش الدار بعد صاحبها
وكان ابن العميد قبل أن يقتل بمدّة قد لهج بإنشاد هذين البيتين، وهما:
دخل الدنيا أناس قبلنا ... رحلوا عنها وخلّوها لنا
ونزلناها كما قد نزلوا ... ونخلّيها لقوم بعدنا
وكانت وفاته في صفر.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى جعفر بن فلاح
أوّل من حكم على الشام لبنى عبيد، قتله أبو علىّ «5» القرمطىّ. وسليمان
بن أحمد بن أيّوب الطّبرانىّ في ذى القعدة وله مائة سنة وعشرة أشهر.
وأبو علىّ عيسى بن محمد
(4/61)
الطّومارىّ. وأبو بكر محمد بن جعفر بن محمد
بن الهيثم الأنبارى. وأبو عمرو «1» محمد بن جعفر بن محمد بن مطر
النّيسابورىّ. وأبو الفضل محمد بن الحسين بن العميد وزير ركن الدولة بن
بويه. وأبو بكر محمد بن الحسين الآجرّىّ في المحرّم.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة سبع
عشرة ذراعا وإحدى وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 361]
السنة الثالثة من ولاية جوهر القائد على مصر، وهى سنة إحدى وسنين
وثلثمائة.
فيها عملت الرافضة مأتم الحسين بن علىّ رضى الله عنهما ببغداد على
العادة فى يوم عاشوراء.
وفيها عاد الهجرىّ كبير القرامطة من الموصل إلى الشام، وانصرفت
المغاربة- أعنى عسكر العبيديّة- إلى مصر، ودخل القرمطىّ إلى دمشق وسار
إلى الرملة.
وفيها وقع الصلح بين منصور بن نوح السامانىّ صاحب خراسان وبين ركن
الدولة الحسن بن بويه وبين ولده عضد الدولة بن ركن الدولة المذكور بأن
يحمل ركن الدولة إلى منصور بن نوح السامانىّ في كلّ سنة مائة ألف
دينار، ويحمل ابنه عضد الدولة خمسين ألف دينار.
وفيها اعترض بنو هلال الحاج البصرىّ «2» والخراسانىّ ونهبوهم وقتلوا
منهم خلقا، ولم يسلم منهم إلّا من مضى مع الشريف أبى أحمد الموسوىّ
أمير الحاجّ، فإنّه مضى بهم على طريق المدينة، فحجّ وعاد.
(4/62)
وفيها توفّى سعيد بن أبى سعيد أبو القاسم
الجنّابىّ القرمطىّ الهجرىّ، عليه وعلى أقاربه اللعنة والخزى. ولم يبق
من أولاد أبى سعيد غيره وغير أخيه يوسف، وقام بأمر القرامطة بعده مكانه
أخوه يوسف المذكور. وعقد القرامطة بعد يوسف لستة نفر من أولادهم على
وجه الشركة بينهم لا يستبدّ أحد منهم بشىء دون الآخر.
قلت: وهذا يدلّ على قطع أثرهم واضمحلال أمرهم وزوال ملكهم، إلى جهنم
وبئس المصير؛ فإنّهم كانوا أشرّ خلق الله وأقبحهم سيرة وأظلمهم سطوة،
هذا مع الفسق وقلّة الدين وسفك الدماء وانتهاك المحارم، وقتل الأشراف
وأخذ الحجّاج ونهبهم، والاستخفاف بأمر الشرع والسنة وهتك حرمة البيت
العتيق واقتلاع الحجر الأسود منه؛ حسب ما تقدّم ذكر ذلك كله في حوادث
السنين «1» السابقة. وقد طال أمرهم وقاسى المسلمون منهم شدائد؛ وخرّب
في أيّامهم ممالك وبلاد. ألا لعنة الله على الظالمين.
وفيها توفّى علىّ بن إسحاق بن خلف أبو القاسم «2» الزاهى الشاعر
البغدادىّ، كان وصّافا محسنا كثير الملح حسن الشعر في التشبيهات، وكان
قطّانا، وكانت دكّانه في قطيعة الربيع «3» الحاجب. ومن شعره وأجاد إلى
الغاية من قصيدة:
وبيض بألحاظ العيون كأنّما ... هززن سيوفا واستللن خناجرا
تصدّين لى يوما بمنعرج اللّوى ... فغادرن قلبى بالتصبّر غادرا
(4/63)
سفرن بدورا وانتقبن أهلة ... ومسن غصونا
والتفتن جآذرا
وأطلعن في الأجياد بالدرّ أنجما ... جعلن لحبّات القلوب ضرائرا
هذا مثل قول المتنبى، ومذهب الزاهى زها عليه. وقول المتنبى:
بدت قمرا ومالت خوط بان ... وفاحت عنبرا ورنت غزالا
وذكر الثعالبىّ لبعض شعرا عصره على هذا الأسلوب في وصف مغنّ:
فديتك يا أتمّ الناس ظرفا ... وأصلحهم لمتّخذ حبيبا
فوجهك نزهة الأبصار حسنا ... وصوتك متعة الأسماع طيبا
وسائلة تسائل عنك قلنا ... لها في وصفك العجب العجيبا
رنا ظبيا وغنّى عندليبا ... ولاح شقائها ومشى قضيبا
ومات الزاهى ببغداد. ومن شعره أيضا قوله:
قم فهنئ عاشقين ... أصبحا مصطلحين
جمعا بعد فراق ... فجعا منه ببين
ثم عادا في سرور ... من صدود آمنين
فهما روح ولكن ... ركّبا في بدنين
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحسن «1» بن
الخضر الأسيوطى. وخلف بن محمد بن إسماعيل ببخارى. وعثمان بن عثمان «2»
بن خفيف الدرّاج.
ومحمد بن الحارث بن أسد القيروانىّ أبو عبد الله «3» الفقيه الحافظ.
(4/64)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع
أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 362]
السنة الرابعة من ولاية جوهر القائد على مصر، وهى سنة اثنتين وستين
وثلثمائة.
فيها لم تعمل الرافضة المأتم ببغداد بسبب ما جرى على المسلمين من
الروم، وكان عزّ الدولة بختيار بن بويه بواسط والحاجب سبكتكين ببغداد،
وكان سبكتكين المذكور يميل إلى السّنّة فمنعهم من ذلك.
وفيها حشدت الروم وأخذوا نصيبين واستباحوا وقتلوا وسبوا، وقدم بغداد من
نجا منهم؛ واستنفروا الناس في الجوامع، وكسروا المنابر ومنعوا الخطيب،
وحاولوا الهجوم على الخليفة المطيع لله، واقتلعوا بعض شبابيك دار
الخلافة حتى غلقّت أبوابها، ورماهم الغلمان بالنّشّاب من الرّواشن،
وخاطبوا الخليفة بالتعنيف وبأنّه عاجز عمّا أوجبه الله عليه من حماية
حوزة الإسلام وأفحشوا القول. ووافق ذلك غيبة السلطان عزّ الدولة بختيار
بن معزّ الدولة أحمد بن بويه في الكوفة؛ فخرج إليه أهل العقل والدين من
بغداد، وفيهم الإمام أبو بكر الرازىّ الفقيه وأبو الحسن علىّ بن عيسى
النّحوىّ وأبو القاسم «1» الدّاركىّ وابن الدّقاق «2» الفقيه، وشكوا
إليه ما دهم الإسلام من هذه الحادثة العظمى؛ فوعدهم عزّ الدولة بالغزو،
ونادى بالنفير في الناس؛ فخرج من العوامّ
(4/65)
خلق مثل عدد الرمل ثمّ جهّز جيشا وغزوا،
فهزموا الروم وقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا أميرهم وجماعة من
بطارقته، وأنفذت رءوس القتلى إلى بغداد؛ وفرح المسلمون بنصر الله
تعالى.
وفيها في شهر رمضان دخل المعزّ لدين الله أبو تميم معدّ العبيدى إلى
مصر بعد أن بنيت له القاهرة ومعه توابيت آبائه، وكان قد مهّد له ملك
الديار المصرية مولاه جوهر القائد، وبنى له القاهرة وأقام له بها دار
الإمارة والقصر «1» .
وفيها وزر ببغداد أبو طاهر بن بقيّة ولقّب بالناصح، وكان سمحا كريما،
له راتب كلّ يوم من الثلج ألف رطل، وراتبه من الشّمع في كلّ شهر ألف
منّ؛ وكان أبو طاهر من صغار الكتّاب يكتب على المطبخ لمعزّ الدولة؛ فآل
الأمر إلى الوزارة.
فقال الناس: من الغضارة إلى الوزارة! وكان كريما فغطّى كرمه عيوبه.
وفيها زلزلت بلاد الشام وهدمت الحصون ووقع من أبراج أنطاكية عدّة، ومات
تحت الردم خلق كثير.
وفيها حجّ بالناس النقيب أبو أحمد الموسوىّ. وفيها ضاق الأمر على عزّ
الدولة بختيار بن بويه، فبعث إلى الخليفة وطلب إسعافه على قتال الروم؛
فباع الخليفة المطيع ثيابه وأنقاض داره من ساج ورصاص، وجمع من ذلك
أربعمائة ألف درهم وبعث بها إليه.
(4/66)
وفيها توفّى السّرىّ بن أحمد بن السّرىّ
أبو الحسن الكندىّ الرفّاء الشاعر المشهور، كان في صباه يرفو ويطرّز في
دكّان بالموصل ومع ذلك يتولّع [بالأدب وينظم الشعر «1» ] ، ولم يزل على
ذلك حتى جاد شعره ومهر فيه؛ وقصد سيف الدولة ابن حمدان بحلب ومدحه
وأقام عنده [مدّة «2» ] ، ثمّ بعد وفاته قدم بغداد ومدح الوزير
المهلبىّ وغيره، وكان بينه وبين أبى بكر محمد وأبى عثمان سعيد ابنى
هاشم الخالديّين الموصليّين الشاعرين المشهورين معاداة، فادّعى عليهما
سرقة شعره وشعر غيره.
وكان شاعرا مطبوعا عذب الألفاظ، كثير الافتنان في التشبيهات والأوصاف؛
وكان لا يحسن من العلوم شيئا غير قول الشعر. ومن شعره [أبيات «3» ]
يذكر فيها صناعته:
وكانت الإبرة فيما مضى ... صائنة وجهى وأشعارى
فأصبح الرزق بها ضيّقا ... كأنّه من ثقبها جارى
ومن محاسن شعره في المديح:
يلقى الندى برقيق وجه مسفر ... فإذا التقى الجمعان عاد صفيقا
رحب المنازل ما أقام فإن سرى ... فى جحفل ترك الفضاء مضيقا
ومن غرر شعره في النسيب قوله وهو في غاية الحسن:
بنفسى من أجود له بنفسى ... ويبخل بالتحية والسلام
وحتفى كامن في مقلتيه ... كمون الموت في حدّ الجسام
وفيها توفّى محمد بن هانئ أبو القاسم، وقيل: أبو الحسن، الأزدىّ
الأندلسىّ الشاعر المشهور؛ قيل: إنّه من ولد يزيد بن حاتم بن قبيصة بن
المهلّب بن أبى صفرة؛ وقيل: بل هو من ولد أخيه روح بن حاتم. وكان أبوه
هانئ من قرية
(4/67)
من قرى المهديّة بإفريقيّة. وكان شاعرا
أديبا، كان ماهرا في الأدب، حافظا لأشعار العرب وأخبارهم، واتّصل بصاحب
إشبيلية وحظى عنده؛ وكان كثير الانهماك في اللذات متّهما بمذهب
الفلاسفة؛ ولمّا اشتهر عنه ذلك نقم عليه أهل إشبيلية، واتّهم الملك
بمذهبه، فأشار عليه الملك بالغيبة عن البلد مدّة [ينسى «1» فيها خبره]
؛ فانفصل وعمره يومئذ سبع وعشرون سنة. وقصّته طويلة إلى أن قتل ببرقة
في عوده إلى المغرب من مصر بعد أن مدح المعزّ العبيدىّ بغرر المدائح
«2» . وكان عوده إلى المغرب لأخذ عياله وعوده بهم إلى مصر. وتأسّف
المعزّ عليه كثيرا. ومن شعره قصيدته النونيّة في مدح المعزّ لدين الله
المذكور، منها:
بيض وما ضحك الصباح وإنّها ... بالمسك من طرر الحسان لجون
أدمى لها المرجان صفحة خدّه ... وبكى عليها اللؤلؤ المكنون
وكان ابن هانئ هذا في المغرب مثل المتنبىّ في المشرق، وكان موته في شهر
رجب. وهو صاحب القصيدة المشهورة التى أوّلها:
فتقت لكم ريح الشّمال عبيرا وفيها توفّى الوزير عبّاس بن الحسين أبو
الفضل الشيرازىّ، كان جبّارا ظالما، قتل بالكوفة بسقى الذّراريح «3» ،
ودفن بمشهد علىّ عليه السلام. وممّا يحكى عن ظلمه أنّه قتل ببغداد رجل
من أعوان الوالى، فبعث أبو الفضل الشيرازىّ هذا من طرح النار من
النحّاسين الى السمّاكين، فاحترق ببغداد حريق عظيم لم يعهد مثله،
وأحرقت أموال عظيمة وجماعة كثيرة من النساء والرجال والصبيان والأطفال،
فأحصى
(4/68)
ما أحرق ببغداد فكان سبعة عشر [ألف «1»
إنسان] وثلثمائة دكان وثلثمائة وعشرين دارا؛ أجرة ذلك في الشهر ثلاثة
وأربعون [ألف دينار «2» ] . فلمّا وقع ذلك قال له رجل:
أيّها الوزير أريتنا قدرتك ونحن نأمل من الله أن يرينا قدرته فيك! فبعد
قليل قبض عليه عزّ الدولة وصادره وعاقبه، ثم سقى ذراريح فتقرّحت مثانته
وهلك فى ذى الحجة.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو إسحاق
إبراهيم ابن محمد بن يحيى المزكّى. وأبو العباس. اسماعيل بن عبد الله
«3» بن محمد بن ميكال.
وأبو بحر محمد بن الحسن بن كوثر «4» البربهارىّ، وأبو جعفر محمد بن عبد
الله البلخىّ شيخ الحنفية ببخارى في ذى الحجة، كان إمام عصره بلا
مدافعة. وأبو عمر «5» محمد بن موسى بن فضالة. وأبو الحسن محمّد بن هانئ
شاعر الأندلس
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وسبع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا وإصبعان.
ذكر ولاية المعزّ العبيدى على مصر
هو أبو تميم معدّ بن المنصور إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن
المهدىّ عبيد الله العبيدىّ الفاطمىّ المغربىّ الملقّب بالمعزّ لدين
الله، والذي تنسب إليه القاهرة
(4/69)
المعزّيّة. مولده بالمهديّة في يوم الاثنين
حادى عشر شهر رمضان سنة تسع عشرة وثلثمائة؛ وبويع بالخلافة في الغرب
يوم الجمعة التاسع والعشرين من شوّال سنة إحدى وأربعين وثلثمائة بعد
موت أبيه. يأتى ذكر نسبه وأقوال الناس فيه بعد أن نذكر قدومه إلى
القاهرة وما وقع له مع أهلها ثم مع القرمطىّ.
وقال ابن خلكان: «وكان المعزّ قد بويع بولاية العهد في حياة أبيه
المنصور إسماعيل، ثم جدّدت له البيعة [بعد «1» وفاته] فى يوم الأحد
سابع ذى الحجة سنة إحدى وأربعين وثلثمائة» . قلت: هو أوّل خليفة كان
بمصر من بنى عبيد.
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ في تاريخ الإسلام: «وهو أوّل من تملّك
ديار مصر من بنى عبيد [الرافضة «2» ] المدّعين أنهم علويّون. وكان ولىّ
عهد أبيه إسماعيل، فاستقل بالأمر [فى آخر «3» ] سنة إحدى وأربعين
وثلثمائة، وسار في نواحى إفريقيّة ليمهّد مملكته، فأذلّ العصاة واستعمل
على المدن غلمانه واستخدم الجند. ثم جهّز مولاه جوهرا القائد في جيش
كثيف؛ فسار فافتتح سجلماسة، وسار حتى وصل إلى البحر المحيط وصيدله من
سمكه، وافتتح مدينة فاس، وأرسل بصاحبها وصاحب سبتة «4» أسيرين إلى
المعزّ؛ ووطّأ له جوهر من إفريقيّة إلى البحر سوى مدينة سبتة فإنّها
بقيت لبنى أميّة أصحاب الأندلس» .
وقال الشيخ شمس الدين أبو المظفّر في تاريخه مرآة الزمان: «وكان مغرّى
بالنجوم (يعنى المعزّ) والنظر فيما يقتضيه الطالع؛ فنظر في مولده
وطالعه فحكم له بقطع فيه، فاستشار منجّمه فيما يزيله عنه؛ فأشار عليه
أن يعمل سردابا تحت
(4/70)
الأرض ويتوارى فيه إلى حين جواز الوقت؛
فعمل [على «1» ] ذلك، وأحضر قوّاده وكتّابه وقال لهم: إن بينى وبين
الله عهدا في وعد وعدنيه و [قد «2» ] قرب أوانه، وقد جعلت نزارا ولدى
ولىّ عهدى بعدى، ولقّبته العزيز بالله، واستخلفته عليكم وعلى تدبير
أموركم مدّة «3» غيبتى، فالزموا الطاعة له واتركوا المخالفة واسلكوا
الطريق السديدة «4» ؛ فقالوا: الأمر أمرك، ونحن عبيدك وخدمك؛ ووصّى
العزيز ولده بما أراد، وجعل القائد جوهرا مدبّره والقائم بأمره بين
يديه؛ ثم نزل إلى سرداب اتخذه وأقام فيه سنة؛ وكانت المغاربة إذا راوا
غماما سائرا ترجّل الفارس منهم إلى الأرض، وأومأ بالسلام يشير [إلى] أن
المعزّ فيه؛ ثمّ خرج المعزّ بعد ذلك وجلس للناس، فدخلوا عليه على
طبقاتهم ودعوا له، فأقام على ما كان عليه» . انتهى.
وقيل: إنّه دخل مصر ومعه خمسمائة جمل موسوقة ذهبا عينا وأشياء كثيرة
غير ذلك.
وقال القفطىّ: «إنّ المعزّ كان قد عزم على تجهيز عسكر إلى مصر؛ فسألته
أمّه تأخير ذلك لتحجّ خفية، فأجابها وحجّت. فلمّا وصلت إلى مصر أحسّ
بها كافور الإخشيذىّ الأستاذ فحضر إليها وخدمها وحمل إليها هدايا وبعث
في خدمتها أجنادا، فلمّا رجعت من حجّها منعت ولدها من غزو بلاده. فلمّا
توفّى كافور بعث المعزّ جيوشه فأخذوا مصر» . انتهى.
ولمّا أرسل المعزّ القائد جوهرا إلى مصر وفتحها وبلغه ذلك سار بنفسه
إلى المهديّة في الشتاء فأخرج من قصور آبائه من الأموال خمسمائة حمل،
ثم سار نحو الديار المصريّة بعد أن مهّد له جوهر القائد وبنى له
القاهرة. وكان صادف مجىء
(4/71)
جوهر إلى مصر الغلاء والوباء، فلم يلتفت
إلى ذلك وافتتحها؛ ثم افتتح الحجاز «1» والشام، وأرسل يعرّف المعزّ.
وقد ذكرنا شيئا من ذلك في ترجمة جوهر القائد.
وخرج المعزّ من المغرب في سنة إحدى وستين وثلثمائة بعد أن استخلف على
إفريقيّة [يوسف «2» ] بلكّين بن زيرى الصّنهاجى، وجدّ المعزّ في السير
في خزائنه وجيوشه حتى دخل الإسكندريّة في شعبان سنة اثنتين وستين
وثلثمائة؛ فتلقّاه قاضى مصر أبو طاهر «3» الذّهلى والأعيان، وطال
حديثهم معه، وأعملهم بأنّ قصده القصد المبارك من إقامة الجهاد والحقّ
وأن يختم عمره بالأعمال الصالحة، وأن يعمل بما أمره به جدّه رسول الله
صلى الله عليه وسلّم، ووعظهم وطوّل حتى أبكى بعضهم وخلع على جماعة. ثمّ
نزل بالجيزة وأخذ جيشه في التعدية إلى مصر ثمّ ركب هو ودخل القاهرة؛
وقد بنيت له بها دور الإمارة، ولم يدخل مدينة مصر، وكانوا قد احتفلوا
وزيّنوا مصر بأحسن زينة. فلمّا دخل القصر خرّ ساجدا وصلّى ركعتين.
وقال عبد الجبّار البصرىّ: «وكان السبب في مجيئه إلى مصر؛ أنّ الرّوم
كانوا قد استولوا على الشام والثغور وطرسوس وأنطاكية وأذنة [وعين «4»
زربة] والمصّيصة وغيرها وفرح بمصاب المسلمين؛ وبلغه أن بنى بويه قد
غلبوا على بنى العباس وأنهم لا حكم لهم معهم؛ فاشتدّ طمعه في البلاد؛
وكان له بمصر شيعة فكاتبوه يقولون: إذا زال الحجر الأسود ملك مولانا
المعزّ الدنيا كلّها، ويعنون بالحجر الأسود الأستاذ كافورا الإخشيذىّ
الخصىّ، وكان كافور يومئذ أمير مصر
(4/72)
نيابة عن ابن الإخشيذ وعن الحسن بن عبيد
الله بن طغج أمير الشام، وكان الحسن قد دخل مع الشّيعة في الدعوة، وكان
الحسن ضعيفا رخوا؛ ولذلك كان كافور هو المتكلّم عنه لأنّ الجند كانوا
قد طمعوا فيه (أعنى الحسن) وكرهوه وكرههم؛ فقال له أبو جعفر بن نصر،
وكان من دعاة المعزّ بالقاهرة: هؤلاء القوم قد طمعوا فيك، والمعزّ لك
مثل الوالد، فإن شئت كاتبته ليشدّ منك ويكون من وراء ظهرك؛ فقال الحسن:
إى والله قد أحرقوا قلبى!. فكتب إلى المعزّ يخبره؛ فبعث المعزّ القائد
جوهرا، وهو عبد رومىّ غير خصىّ؛ فجاء جوهر إلى مصر في مائة ألف مقاتل،
فدخل مصر في سنة ثمان وخمسين وثلثمائة، حسب ما ذكرناه، وأخرج الحسن
المذكور بعد أن قاتله؛ واستولى جوهر على الخزائن والأموال والذخائر.
وتوجّه الحسن إلى الرملة ثم ظفر به جوهر وبعث به إلى المعزّ إلى الغرب؛
فلمّا دخل عليه الحسن قرّ به المعزّ و؟؟؟ بشّ «1» به، وقال: أنت ولدى؛
وكاتبتنى على دخول مصر وإنّما بعثت جوهرا لينصرك، ولقد لحقنى بتجهيز
«2» الجيوش إلى مصر أربعة آلاف ألف [وخمسمائة «3» ألف] دينار. فظنّ
الحسن أنّ الأمر كما قال المعزّ، ولم يدر أنه خدعه؛ فسعى إليه بجماعة
من قوّاد مصر والأمراء وأرباب الأموال وعرّفه حال المصريّين، وكان كلّ
واحد من هؤلاء الذين دلّ الحسن المعزّ عليهم مثل قارون في الغنى؛ فكتب
المعزّ إلى جوهر باستئصالهم ومصادرتهم [وأن «4» يبعث بهم إليه] ثمّ
حبسهم مع الحسن؛ فكان ذلك آخر العهد بهم» . فقال الذهبىّ: هذا قول منكر
بل أخرج الحسن بن عبيد الله من مصر وبايع للمعزّ، ثم قدم بعد ذلك ووقعت
الوحشة بينهم.
(4/73)
ولمّا دخل المعزّ إلى القاهرة احتجب في
القصر فبعث عيونه ينقلون إليه أخبار الناس وهو متوفّر في النعم
والأغذية المسمنة والأطلية التى تنقّى البشرة وتحسّن اللّون. ثمّ ظهر
للناس بعد مدّة وقد لبس الحرير الأخضر وجعل على وجهه اليواقيت والجواهر
تلمع كالكواكب. وزعم أنّه كان غائبا في السماء وأنّ الله رفعه إليه؛
فامتلأت قلوب العامّة والجهّال منه رعبا وخوفا، وقطع ما كان على ابن
الإخشيذ في كلّ سنة من الأتاوة للقرامطة، وهى ثلثمائة ألف دينار. ولمّا
بلغ القرمطىّ ذلك عظم عليه؛ لأنّ المعزّ كان يصافيه لمّا كان بالمغرب
ويهاديه، فلمّا وصل إلى مصر قطع ذلك عنه. وسار القرمطىّ، واسمه الحسن
بن أحمد بن أبى سعيد الحسن بن بهرام القرمطىّ، إلى بغداد وسأل الخليفة
المطيع بالله العباسىّ على لسان عزّ الدولة بختيار أن يمدّه بمال ورجال
ويولّيه الشام ومصر ليخرج المعزّ منها؛ فامتنع الخليفة المطيع بالله من
ذلك، وقال: كلّهم قرامطة وعلى دين واحد؛ فأمّا المصريون (يعنى بنى
عبيد) فأماتوا السنن وقتلوا العلماء؛ وأمّا هؤلاء (يعنى القرامطة)
فقتلوا الحاجّ، وقلعوا الحجر الأسود، وفعلوا ما فعلوا. فقال عزّ الدولة
بختيار للقرمطىّ: اذهب فافعل ما بدالك. وقيل: إنّ بختيار أعطاه مالا
وسلاحا. فسار القرمطىّ إلى الشام ومعه أعلام سود، وأظهر أنّ الخليفة
المطيع ولّاه وكتب على الأعلام اسم المطيع عبد الكريم، وتحته مكتوب"
السادة الراجعون إلى الحقّ" وملك القرمطىّ الشام ولعن المعزّ هذا على
منبر دمشق وأباه؛ وقال: هؤلاء من ولد القدّاح كذّابون مخترقون أعداء
الإسلام، ونحن أعلم بهم؛ ومن عندنا خرج جدّهم القدّاح. ثم أقام
القرمطىّ الدعوة لبنى العباس وسار إلى مصر بعساكره. ولمّا بلغ المعزّ
مجيئه تهيّأ لقتالهم؛ فنزل القرمطىّ بمشتول «1» الطواحين، وحصل
(4/74)
بينه وبين المعزّ مناوشات، ثم تقهقر المعزّ
ودخل القاهرة وانحصر بها إلى أن أرضى القرمطىّ بمال وخدعه، وانخدع
القرمطىّ وعاد إلى نحو الشام، فمات بالرّملة في شهر رجب، وأراح الله
المسلمين منه، وصفا الوقت للمعزّ فإنّ القرمطىّ كان أشدّ عليه من جميع
الناس للرّعب الذي سكن في قلوب الناس منه؛ فكانت القرامطة إذا كانوا فى
ألف حطّموا «1» مائة ألف وانتصفوا. خذلان من الله تعالى لأمر يريده.
ذكر ما قيل في نسب المعزّ وآبائه
قال القاضى عبد الجبّار البصرىّ: «اسم جدّ الخلفاء المصرييّن سعيد،
ويلقّب بالمهدىّ، وكان أبوه يهوديّا حدّادا بسلمية؛ ثم زعم سعيد هذا
أنّه ابن الحسين بن أحمد «2» بن عبد الله بن ميمون القدّاح. وأهل
الدعوة أبو القاسم الأبيض العلوىّ وغيره يزعمون أنّ سعيدا إنّما هو من
امرأة الحسين المذكور، وأنّ الحسين ربّاه وعلّمه أسرار الدعوة، وزوجته
بنت أبى الشلغلغ «3» ، فجاءه ابن فسمّاه عبد الرّحمن. فلمّا دخل الغرب
وأخذ سجلماسة تسمّى بعبيد الله ثمّ تكنّى بأبى محمد، وسمّى ابنه الحسن،
وزعمت المغاربة أنّه يتيم ربّه وليس بابنه ولا بابن زوجته؛ وكناه أبا
القاسم وجعله ولىّ عهده» . انتهى.
وقال القاضى أبو بكر بن الباقلانى: «القدّاح جدّ عبيد الله كان مجوسيا،
ودخل عبيد الله المغرب وادّعى أنه علوىّ ولم يعرفه أحد من علماء النسب،
وكان باطنيا
(4/75)
خبيثا حريصا على إزالة ملّة الإسلام؛ أعدم
الفقه والعلم ليتمكّن من إغراء الخلق؛ وجاء أولاده أسلوبه وأباحوا
الخمر والفروج وأشاعوا الرّفض، وبثّوا دعاة فأفسدوا عقائد جبال الشام،
كالنّصيرية «1» والدّروزيّة «2» . وكان القدّاح كاذبا مخترقا، وهو أصل
دعاة القرامطة» . انتهى.
وقال ابن خلكان: «اختلف في نسبهم، فقال صاحب تاريخ القيروان: هو عبيد
الله بن الحسن «3» بن علىّ بن محمد بن علىّ بن موسى بن جعفر بن محمد بن
علىّ بن الحسين بن علىّ بن أبى طالب رضى الله عنهم» . انتهى. وقال
غيره: هو عبيد الله ابن محمد بن إسماعيل بن جعفر المذكور في قول صاحب
تاريخ القيروان. وقيل:
هو علىّ بن الحسين بن أحمد بن عبد الله بن الحسن بن محمد بن علىّ بن
الحسين بن على بن أبى طالب رضى الله عنهم. وقيل: هو عبيد الله بن
التقىّ بن الوفىّ بن الرضىّ، وهؤلاء الثلاثة يقال لهم المستورون في ذات
الله. والرضىّ المذكور هو ابن محمد بن إسماعيل بن جعفر. واسم التقىّ
الحسين. واسم الوفىّ أحمد. واسم الرضىّ عبد الله. وإنّما استتروا خوفا
على أنفسهم لأنّهم كانوا مطلوبين من جهة الخلفاء من بنى العباس، لأنّهم
علموا أنّ فيهم من يروم الخلافة؛ [أسوة غيرهم من العلوييّن، وقضاياهم
ووقائعهم في ذلك مشهورة «4» ] . وإنّما تسمّى المهدىّ عبيد الله
استتارا.
هذا عند من يصحّح نسبه ففيه اختلاف كثير. وأهل العلم بالأنساب من
المحقّقين ينكرون دعواه في النسب. وقيل: هو عبيد الله بن الحسين بن
علىّ بن محمد بن على
(4/76)
الرضى بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق.
وقيل: هو علىّ بن الحسين بن أحمد ابن عبد الله بن الحسين بن محمد بن
زين العابدين بن محمد بن الحسين، وإنّما سمّى نفسه [عبيد «1» الله]
استتارا. وهذا أيضا على قول من يصحّح نسبهم. والذي ينكر نسبه يقول:
اسمه سعيد، ولقبه عبيد الله، وزوج أمّه الحسين بن أحمد القدّاح، كان
كحّالا يقدح العين إذا نزل فيها ماء.
وقال ابن خلكان: «وجاء المعزّ من إفريقيّة وكان يطعن في نسبه. فلمّا
قرب من البلد (يعنى مصر) وخرج الناس للقائه، اجتمع به جماعة من
الأشراف؛ فقال له من بينهم الشريف عبد الله بن طباطبا: إلى من ينتسب
مولانا؟ فقال له المعزّ:
سنعقد مجلسا ونسرد عليكم نسبنا. فلمّا استقرّ المعزّ بالقصر جمع الناس
في مجلس عامّ وجلس لهم وقال: هل بقى من رؤسائكم أحد؟ فقالوا: لم يبق
معتبر، فسلّ [عند ذلك نصف «2» ] سيفه وقال: هذا نسبى! ونثر عليهم ذهبا
كثيرا، وقال: هذا حسبى! فقالوا جميعا: سمعنا وأطعنا» . قلت: وفي نسب
المعزّ أقوال كثيرة أخر أضربت عن ذكرها خوف الإطالة. والظاهر أنه ليس
بشريف، وأنّه مدّع. والله أعلم.
واستمر بالقاهرة إلى أن مرض بها وتوفّى يوم الجمعة السابع عشر من شهر
ربيع الأوّل سنة خمس وستين وثلثمائة، وله ست وأربعون سنة؛ وقام ولده
العزيز نزار بعده بالأمر «3» . وأقام المعزّ واليا ثلاثا وعشرين سنة
وخمسة أشهر وسبعة وعشرين يوما، منها بمصر ثلاث سنين، وباقى ولايته كانت
بالمغرب:
وخلّف عشرة أولاد: نزارا الذي ولى مصر بعده وعبد الله وعقيلا وسبع
بنات.
(4/77)
وأقام بتدبير مملكة ولده العزيز جوهرا
القائد بانى القاهرة وصاحب جامع الأزهر المقدّم ذكره.
قال ابن خلّكان: إنّه توفّى يوم الجمعة الحادى عشر من شهر ربيع الآخر.
وقيل: الثالث عشر [وقيل لسبع «1» خلون] منه. فخالف ما قلنا «2» فى
اليوم والشهر إلّا أنّه وافق في السنة. قال: و (معدّ بفتح الميم والعين
المهملة وتشديد الدال المهملة) .
انتهى. قلت: وكان المعزّ عاقلا حازما أديبا جوادا ممدّحا، فيه عدل
وإنصاف للرعية، فمن عدله [ما] حكى عنه أنّ زوجة الإخشيذ الذي كان ملك
مصر لمّا زالت دولتهم أودعت عند يهودىّ بغلطاقا «3» كلّه جوهر، ثمّ
فيما بعد طالبته فأنكر؛ فقالت: خذكمّ البغلطاق وأعطنى ما فضل فأبى؛ فلم
تزل به حتّى قالت: هات الكمّ وخذ الجميع فلم يفعل؛ وكان في البغلطاق
بضع عشرة درّة؛ فأتت المرأة إلى قصر المعزّ فأذن لها فأخبرته بأمرها،
فأحضره وقرّره فلم يقرّ؛ فبعث إلى داره من خرّب حيطانها فظهرت جرّة
فيها البغلطاق؛ فلما رآه المعزّ تحيّر من حسنه، ووجد اليهودىّ قد أخذ
من صدره درّتين، فآعترف أنه باعهما بألف وستمائة دينار؛ فسلّمه المعز
بكماله للمرأة.
فاجتهدت أن يأخذه المعزّ هديّة أو بثمن فلم يفعل؛ فقالت: يا مولاى، هذا
كان يصلح لى وأنا صاحبة مصر، وأمّا اليوم فلا؛ فلم يقبله المعزّ وأخذته
وانصرفت.
(4/78)
وكان المعزّ قد أتقن فنونا من العلم
والأدب. ومن شعره قوله:
لله ما صنعت بنا ... تلك المحاجر في المعاجر»
أمضى وأقضى في النفو ... س من الخناجر في الحناجر
ولقد تعبت ببينكم ... تعب المهاجر في الهواجر
ذكر ركوب الخلفاء الفاطميين في أوّل العام من كلّ سنة
والمعزّ هذا هو الذي استسنّ ذلك كلّه، فكان أمره إذا كان أواخر ذى
الحجّة من كلّ سنة انتصب كلّ من المستخدمين في الأماكن الآتى ذكرها
لإخراج آلات الركوب:
فيخرج من خزائن الأسلحة ما يحمله صبيان الرّكاب «2» حول الخليفة، وهو
الصّماصم «3» المصقولة المذهّبة، [مكان «4» السيوف] ، والدبابيس
الملبّسة الكيمخت «5» الأحمر والأسود مدوّرة الرأس مضرّسة؛ ولتوت «6»
رءوسها مستطيلة؛ وآلات يقال لها المستوفيات، وهى عمد حديد طول ذراعين
مربّعة الشكل، لها مقابض مدوّرة فى اليد، وعدد معلومة أيضا من كلّ صنف
يتسلّمها نقباؤهم؛ وستّمائة حربة بأسنّة مصقولة تحتها جلب «7» فضّة، كل
اثنتين في شرّابة تعطى لثلثمائة عبد [من] السودان الشباب يقال لهم
أرباب السلاح الصغير «8» ويعطى لكل منهم درقة. هذا من خزائن السلاح.
(4/79)
ثمّ يخرج من خزائن التجمّل، وهى من حقوق
خزائن السلاح، القضب الفضة [برسم «1» ] تشريف الوزير وأرباب الرتب من
الأمراء والعساكر من الرّجالة والمشاة، وهى رماح ملبّسة بأنابيب الفضة
المنقوشة بالذهب سوى ذراعين منها، فإنّها مشدودة بالمعاجر الشرب «2»
الملوّنة، وتبقى أطرفها المرقومة مسبلة كالسناجق «3» ، وبرأس كلّ رمح
رمامين فضة منفوخة وأهلّة مجوّفة وفيها جلاجل لها حسّ إذا تحرّكت،
وعدّتها مائة رمح.
ومن العماريّات «4» وهى شبه الكجاوات «5» مائة عماريّة ملبّسة بالديباج
الأحمر والأصفر والسقلاطون «6» مبطّنة «7» مضبوطة بزنانير من حرير،
وعلى دائر التربيع مناطق بكوامخ «8» فضّة مسمورة في جلد.
ويخرج للوزير لواءان على رمحين ملفوفين غير منشورين، فيسيران أمام
الوزير.
ثمّ يسير للأمراء أرباب الرتب في الخدم، أوّلهم صاحب الباب «9» عشر
«10» قصبات وعشر
(4/80)
عماريّات. وللإسفهسالار «1» مثل ذلك عدّة
عماريّات بألوان مختلفة؛ ومن سواهما من الأمراء خمس «2» .
ثمّ يخرج من البنود الخاصّ الدّبيقىّ «3» المرقوم الملوّن برماح ملبّسة
بالأنابيب، على رءوسها الرمامين والأهلة للوزير أيضا خاصّة. ودون هذه
البنود مما هو حرير على رماح غير ملبّسة، رءوسها ورمامينها نحاس مجوّف
مذهّب، أمام الأمراء المذكورين.
ثمّ يخرج لقوم يقال لهم السبربرية «4» سلاح، كلّ قطعة طول ثلاث أدرع
برأسها طلعة مصقولة وهى من خشب القنطارية داخلة في الطلعة، وفي عقبها
حديد مدوّر السّفل، فهى في كفّ حاملها الأيمن، وهو يفتلها فتلا متدارك
الدوران؛ وفي يده اليسرى نشّابة كبيرة يخطر بها.
ثمّ يخرج من النّقّارات حمل خمسين «5» بغلا على خمسين بغلا، على كلّ
بغل خمس مثل الكوسات يقال لها طبول. قلت: ولها حسّ مستحسن. ويسيرون في
المواكب ثلاثا «6» . ثمّ يخرج لقوم متطوّعين ليس لهم جراية ولا نفقة،
وعدّتهم مائة رجل،
(4/81)
لكل واحد درقة من درق اللّمط «1» واسعة
وسيف؛ ويسيرون رجّالة. هذا ما يخرج من خزائن السلاح.
ثمّ يحضر حامى خزائن السروج، وهو من الأستاذين «2» المحنّكين، إليها مع
مشارفها وهو من الشهود المعدّلين «3» ، فيخرج منها من «4» خاصّ الخليفة
من الرّكاب المحلّى ما هو برسم ركوبه، وما يجنب في الموكب مائة سرج
تشدّ على عدّة حصن. ويقال: كلّ مركب مصوغ من ذهب وفضّة، أو من ذهب
منزّل فيه المينا، وروادفها وقرابيسها من نسبتها. ومنها مرصّع بحبّ
اللؤلؤ الفائق. والخيل مطوّقة بأعناق الذهب وقلائد العنبر، وفي أيدى
أكثرها خلاخل مسطّحة بالذهب، ومكان الجلد من السروج الديباج الأحمر
والأصفر وغيرهما من الألوان المنقوشة؛ قيمة كلّ دابّة وما عليها ألف
دينار. فيشرّف الوزير منها بعشرة لركوبه وأولاده ومن يشاء من أقاربه.
ويتسلّم ذلك كلّه عرفاء الإصطبلات.
(4/82)
ثمّ يخرج من الخزانة أيضا لأرباب الدواوين
المرتّبين في الخدم مراكب على مقدارهم، عليها من العدّة دون «1» ما
تقدّم ذكرهم، وعدّتهم ثلثمائة خيل وبغال. ثم ينتدب حاجب يفرّق لأرباب
الخدم كلّ واحد سيفا وقلما؛ فيحضر سحر اليوم المذكور إلى منازل أرباب
الخدم بالقاهرة ومصر، ولهم رسوم من الرّكاب من دينار إلى نصف دينار إلى
ثلث دينار. فإذا تكمّل ما وصفنا وتسلّمه أربابه من العرفاء يجلس «2»
الخليفة في الشبّاك لعرض الخيل الخاصّ المقدّم ذكرها، ويقال له يوم عرض
الخيل، فيستدعى الوزير بصاحب الرسالة، وهو من كبار الأستاذين
المحنّكين، فيمضى مسرعا على حصان دهراج «3» ، فيعود ويعلم باستدعاء
الوزير؛ فيخرج الخليفة من مكانه راكبا في القصر والناس بين يديه مشاة،
فينزل بمكان «4» لا بدهليز باب الملك الذي فيه الشباك، وعليه ستر؛ فيقف
زمام «5» القصر من جانبه الأيمن وصاحب بيت المال «6» من جانبه الأيسر.
فيركب الوزير من داره وبين يديه الأمراء. فيترجّل الأمراء من باب القصر
والوزير راكب، ويدخل من باب العيد في هذا اليوم، وينزل عند أوّل
الدّهاليز الطّوال، ويمشى وحوله حاشيته وأقاربه إلى الشبّاك، فيجلس على
كرسىّ جيّد ورجلاه تطأ الأرض. فعند ما يجلس يرفع الأستاذان جانبى الستر
الذي «7» على الخليفة. فإذا رأى الوزير الخليفة وقف وسلّم وخدم بيده
إلى الأرض خمس «8» مرّات. ثم يؤذن له في الجلوس على كرسيّه،
(4/83)
ويقرأ القرّاء آيات لائقة بذلك الحال نصف
ساعة. ثم تعرض الخيول كالعرائس بأيدى شدّاديها، فيقرأ القرّاء عند تمام
العرض ويرخى جنبات الستر. ويقوم الوزير فيدخل ويقبّل يد الخليفة ورجله؛
ثمّ ينصرف فيركب من مكان نزوله والأمراء فى ركابه ركبانا ومشاة إلى
قريب من داره. فإذا صلّى الإمام الظهر جلس الخليفة لعرض ما يلبسه في
الغد من خزائن الكسوة الخاصّة، ويكون لباسه البياض، فيعين منديلا خاصّا
وبدلة. ويتسلّم المنديل شادّ التاج الشريف، ويقال له شدّ «1» الوقار،
وهو من الأستاذين المحنّكين وله ميزة، فيشدّها شدّة غريبة لا يعرفها
سواه، شكل الإهليلجة.
ثم يحضر إليه اليتيمة، وهى جوهرة عظيمة لا تعرف لها قيمة، فتنظم وحولها
ما هو دونها من الجواهر؛ وهى موضوعة في هلال من ياقوت أحمر ليس له مثال
في الدنيا، زنته أحد عشر مثقالا، وقيل أكثر، يقال له الحافر، فتنظم في
خرقة حرير أحسن ما يمكن من الوضع، ويخاط على «2» التاج بخياطة خفيفة،
فيكون ذلك بأعلى جبهة الخليفة، وبدائرها قصب الزّمرذ الذّبابىّ «3»
العظيم القدر.
ثمّ يؤمر بشدّ المظلّة التى تشاكل تلك البدلة، وهى اثنا عشر شوزكا «4»
، عرض أسفل كلّ شوزك شبر وطوله ثلاث أذرع وثلث؛ وآخر الشوزك من فوق
دقيق جدا. فيجتمع ما بين الشوازك في رأس عمودها دائرة «5» . والعمود من
الزان ملبّس بأنابيب الذهب «6» . وفي آخر أنبوبة تلى الرأس فلكة بارزة
قدر عرض إبهام. فيشدّ
(4/84)
آخر الشوازك في حلقة ذهب. وللمظلة أضلاع من
خشب الخلنج «1» مربّعات مكسوّة بالذهب على عدد الشوازك خفاف بطول
الشوازك. وفيها خطاطيف لطاف، وحلق يمسك بعضها بعضا تنضمّ وتنفتح،
ورأسها كالرمّانة، ويعلوه أيضا رمّانة صغيرة كلها ذهب مرصّع بجوهر،
ولها رفرف دائر عرضه أكثر من شبر ونصف، وتحت الرّمانة عنق مقدار ستّ
«2» أصابع. فاذا أدخلت الحلقة الذهب الجامعة لآخر الشوازك في رأس
العمود ركّبت عليها الرمانة ولفّت في عرضى «3» دبيقىّ مذهب، فلا يكشفها
منه إلّا حاملها عند تسليمها وقت الركوب.
ثمّ يؤمر بشدّ لواءى الحمد المحتصّين بالخليفة، وهما رمحان [طويلان «4»
ملبّسان بمثل أنابيب عمود المظّلّة إلى حدّ نصفهما] برأسهما لواءان
حريرا أبيض مرقوما بالذهب ملفوفين على رماحهما، ويخرجان بخروج المظّلة،
فيحملهما أميران.
ثمّ يخرج إحدى وعشرون راية لطيفة من حرير مرقوم، ملوّنة بكتابة «5» فى
كلّ واحدة بما يخالف لونها [ونص «6» كتابتها] : (نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ
وَفَتْحٌ قَرِيبٌ)
. طول كلّ راية ذراعان في ذراع ونصف، فتسلّم لواحد وعشرين رجلا.
ثمّ يخرج رمحان في رءوسهما أهلّة من ذهب في كلّ واحد سبع من ديباج أحمر
وأصفر، وفي فمه طارة «7» مستديرة، يدخل فيها الريح فينفتحان فيظهر
شكلهما، ويتسلمهما فارسان يسيران أمام الرايات.
(4/85)
ثمّ يخرج السيف الخاصّ، وجلبته [ذهب «1» ]
مزصّعة بالجواهر، فى خريطة مرقومة بالذهب، لا يظهر سوى رأسه، فيخرج مع
المظّلة، وحامله أمير، عظيم القدر، وهو أكبر حامل.
ثمّ يخرج الرمح، وهو رمح لطيف، فى غلاف منظوم من لؤلؤ، وله سنان مختصر
بحلية ذهب [وله شخص مختص بحمله «2» ] . ودرقة بكوامخ ذهب وسيعة، تنسب
إلى حمزة بن عبد المطّلب، في غشاء حرير، فيحملها «3» أمير مميّز له
جلالة. ثمّ يعلم الناس سلوك الموكب. والموكب دورتين «4» ؛ إحداهما
كبرى، وهى من باب القصر إلى باب النصر، مارّا إلى الحوض حوض «5» عزّ
الملك. ثمّ ينعطف على اليسار إلى باب الفتوح إلى القصر. والأخرى هى
الصغرى، إذا خرج من باب النصر سار حول السور ودخل من باب الفتوح إلى
القصر. فكان إذا ركب ساروا بين يديه بغير اختلال ولا تبديل. فإذا أصبح
الصبح يوم غرّة العام اجتمع أرباب الرتب من القاهرة ومصر وأرباب السيوف
والأقلام، فصفّوا بين القصرين، ولم يكن فيه بناء كاليوم بل كان خلاء.
ويبكّر الأمراء إلى دار الوزير؛ فيركب الوزير من غير استدعاء، ويسير
أمامه تشريفه المقدّم ذكره «6» ، والأمراء بين يديه ركّابا ومشاة،
وأمامه بنوه وإخوته، وكلّ منهم يرخى الذؤابة بغير حنك «7» ؛ وهو في
أبّهة عظيمة من الثياب الفاخرة والمنديل
(4/86)
بالحنك، متقلدا سيفا مذهّبا؛ فيدخل أهله
عند القصر في أخصّ مكان لا يصل الأمراء إليه؛ ويدخل الوزير من باب
القصر راكبا وحده إلى دهليز العمود، فينزل على مصطبة هناك ويمشى إلى
القاعة ويجلس بها. فإذا دخلت الدّابة لركوب الخليفة وأسندت إلى الكرسىّ
الذي يركب عليه الخليفة من باب المجلس أخرجت المظلّة إلى حاملها،
فيكشفها بإعانة جماعة من الصقالبة «1» برسم خدمتها، فيركزها في آلة من
حديد متّخذة شكل القرن المصطحب «2» ، وهو مشدود في ركاب حاملها الأيمن
بقوّة وتأكيد بعقبها، فيمسك العمود بحاجز فوق يده فيبقى وهو منتصب لا
يضطرب فى ريح عاصف.
ثمّ يخرج السيف فيتسلّمه حامله، ويرخى له ذؤابة «3» ما دام حاملا له.
ثمّ تخرج الدواة فيتسلّمها حاملها، وهو من الأستاذين المحنّكين، وهى
الدواة التى كانت من أعاجيب الزمان، وهى من الذهب، وحليتها من المرجان،
تلفّ في منديل شرب بياض مذهب. وفيها يقول بعض الشعراء:
ألين لداود الحديد كرامة ... فقدّره في السّرد كيف يريد
ولان «4» لك المرجان وهو حجارة ... على أنّه صعب المرام شديد
ثمّ يخرج الوزير ومن معه وينضمّ إليه الأمراء، فيقف إلى جانب الدّابة،
فيرفع صاحب [المجلس «5» ] السّتر، فيخرج منه الخليفة بالهيئة المشروحة
قبل تاريخه: من
(4/87)
الثياب والمنديل الحامل لليتيمة بأعلى
جبهته، وهو محنّك مرخى الذؤابة مما يلى جانبه الأيسر، متقلّد سيفا
عربيا «1» وبيده قضيب الملك، وهو طول شبر ونصف، من عود مكسوّ بالذهب
المرصّع بالجوهر؛ فيسلّم على الوزير قوم مرتّبون لذلك، ويسلّمون على
أهله وعلى الأمراء بعدهم.
ثمّ يخرجون شيئا بعد شىء إلى أن يبقى الوزير فيخرج بعدهم، ويركب ويقف
قبالة باب القصر إلى أن يخرج الخليفة وحوله الأستاذون، ودابّته تمشى
على بسط مفروشة خيفة أن تزلق على الرّخام. فعند ما يقرب من الباب يضرب
رجل ببوق من ذهب لطيف معوجّ الرأس، يقال له العربانة «2» ، بصوت عجيب
يخالف أصوات البوقات، فتضرب أبواق الموكب وتنشر المظلّة، ويخرج الخليفة
من الباب فيقف مقدار ما يركب الأستاذون المحنّكون وأرباب الرتب الذين
كانوا بالقاعة.
ثمّ يسيرون والمظلّة على يسار الخليفة وصاحبها يبالغ ألّا يزول عنه
ظلّها، وصبيان الركاب، منهم جماعة كبيرة من الشكيمتين، وجماعة أخرى في
عنق الدّابة، وجماعة أخرى في ركابيه. فالأيمن مقدّم المقدّمين، وهو
صاحب المقرعة التى يناولها [للخليفة ويتناولها منه «3» ] ، ويؤدّى عن
الخليفة الأوامر والنواهى مدّة ركوبه.
ويسير «4» الموكب وبأوّله أخلاط بعض العسكر، ثمّ الأماثل، ثمّ أرباب
المناصب، ثم أرباب الأطواق، ثمّ الأستاذون المحنّكون، ثمّ حاملا لواءى
الحمد من الجانبين،
(4/88)
ثمّ حامل الدّواة، وموضعها من حاملها بينه
وبين قربوس السّرج، ثمّ صاحب السيف وهما في الجانب الأيسر. وكلّ ممّن
تقدّم ذكره بين «1» العشرة والعشرين من أصحابه.
وأهل الوزير من الجانب الأيمن بعد الأستاذين المحنّكين؛ ثمّ الخليفة
وحوله صبيان الرّكاب المذكورة تفرقة «2» السلاح [فيهم] ، وهم ما يزيد
على ألف رجل، وعليهم المناديل الطبقيّات يتقلّدون بالسيوف، وأوساطهم
مشدودة بمناديل، والسلاح مشهور بأيديهم، من جانبى الخليفة كالجناحين،
وبينهم فرجة لوجه الدّابة ليس فيها أحد.
وبقرب من رأس الدّابة صقلبيّان محمّلان مذبّتين، كلّ واحدة، كالنخلتين،
لما يسقط من طائر وغيره؛ وهو سائر على تؤدة ورفق. وبطول «3» الموكب
والى القاهرة رائح وعائد يفسح الطرقات ويسيّر الفرسان، فيلقى في عوده
الإسفهسالار كذلك «4» فى حثّ الأجناد في الحركة وينكر على المزاحمين.
ويلقى أيضا في عوده صاحب الباب بمن في زمرة الخليفة إلى أن يصل إلى
الإسفهسالار، فيعود لترتيب الموكب، وبيد كلّ منهم دبّوس. وخلف دابة
الخليفة قوم من صبيان الركاب لحفظ أعقابه، وخلفهم أيضا أخر يحمل كلّ
واحد سيفا في خريطة ديباج أحمر وأصفر بشراريب، يقال لها «سيوف الدم»
لضرب الأعناق. ثمّ صبيان السلاح الصغير أرباب الفرنجيات [المقدّم ذكرهم
«5» ] أوّلا.
ثمّ يأتى الوزير وفي ركابه قوم من أصحابه وقوم يقال لهم صبيان الزّرد
من أقوياء الأجناد، يختارهم «6» لنفسه نحو من خمسمائة رجل من جانبيه،
كأنّه على قلق من
(4/89)
حراسة الخليفة، ويجتهد ألّا يغيب عن نظره
«1» ، وخلفه الطّبول والصّنوج والصفافير، بحيث تدوّى منهم الدنيا في
عدد كثير. ثمّ يأتى حامل الدّرقة والرمح. ثمّ طوائف «2» الراجل «3» من
الركابيّة والجيوشيّة وقبلهما المصامدة، ثمّ الفرنجية، ثمّ الوزيريّة
زمرة بعد زمرة في عدد وافر يزيد على أربعة آلاف نفر، ثمّ أصحاب
الرايات، ثمّ طوائف العساكر من الامريّة والحافظيّة والحجريّة الكبار
والحجريّة الصّغار والصّقلّيّة «4» ، ثمّ الأتراك المصطنعون «5» ، ثمّ
الديلم، ثم الأكراد والغزّ المصطنعة وهم البحريّة. ويقدم هذه الفرسان
عدّة وافرة من المترجّلة أرباب قسىّ اليد وقسىّ الرّجل في نيّف
وخمسمائة نفر، وهم المعدّون للأساطيل، وجملتهم نحو ثلاثة آلاف وأكثر.
وهؤلاء الذين ذكرناهم بعض من كلّ لا جميع عسكر الخليفة. ثمّ يدخلون من
باب الفتوح ويقفون بين القصرين كما كانوا.
فإذا وصل الخليفة إلى موضع جامع الأقمر الآن وقف وقفة وانفرج الموكب،
فيمرّ الموكب بالخليفة، ويسكع «6» الوزير ليظهر للناس خدمته، ويشير
إليه الخليفة
(4/90)
بالسلام إشارة خفيفة؛ وهذه أعظم مكارمة
تصدر عن الخليفة، وهى للوزير صاحب السيف خاصّة؛ فيسبق إذا لدخول الباب
بالقصر راكبا إلى موضعه على العادة، خاصّة له، والأمراء مشاة. فيصل
الخليفة إلى الباب وقد ترجّل الوزير وقبله الأستاذون المحنّكون،
فيحدقون به، والوزير أمام الدّابة إلى أن ينزل الخليفة؛ فيخرج الوزير
ويركب من مكانه، والأمراء في خدمته وأقاربه بين يديه، فيسيرون إلى داره
فيسلّمون وينصرفون إلى أماكنهم، فيجدون قد أحضر إليهم المقرر من
الخليفة، يأمر بضرب دنانير ورباعيّة ودراهم في العشر الأخير من ذى
الحجة، عليها تاريخ السنة التى ركب فيها؛ فيحمل للوزير منها شىء كثير
وإلى أولاده وأقاربه، ثم إلى أرباب الرتب من أرباب السيوف والأقلام، من
عشرة دنانير إلى رباعىّ إلى قيراط وإلى دينار واحد، فيقبلون ذلك
تبرّكا.
ولا ينقطع «1» الركوب من أوّل العام إلّا متى شاء، ولا يتعدّى ما
ذكرناه في يومى السبت والثلاثاء. فإذا عزم على الركوب في هذه الأيّام
أعلم بذلك، وعلامته إنفاق الأسلحة في صبيان الركاب من خزائن السلاح.
وكان أكثر ركوبه إلى مصر. فإذا ركب ركب الوزير وراء الخليفة في أقلّ
جمع مما تقدّم ذكره في ركوب أوّل العام. فيشقّ الخليفة القاهرة إلى
جامع أحمد بن طولون إلى المشاهد «2» إلى درب «3»
(4/91)
الصّفا، ويقال له الشارع، الأعظم إلى دار
الأنماط «1» إلى جامع مصر، فيجد ببابه الشريف الخطيب واقفا على مصطبة
فيها محراب مفروش بحصير معلّق عليه سجادة، وفي يده مصحف، يقال: إنه بخط
علىّ بن أبى طالب رضى الله عنه، وهو من خاصله «2» ، فيناول الشريف
الخليفة المصحف فيأخذه ويقبّله ويتبارك به، ويعطيه صاحب الخريطة
المقرّر «3» للصلاة ثلاثين دينارا، وهى رسمه كلّما مرّ به الخليفة،
فيعطيها الشريف إلى مشارف الجامع، فيأخذ منها أربعة عشر دينارا، ويفرّق
الباقى على «4» القامة والمؤذنين خاصّة.
ثمّ يسير الخليفة إلى دار «5» الملك، فينزلها والوزير معه؛ وكلّما مرّ
من القصر إلى دار الملك بمسجد أعطى قيّمه دينارا. ثمّ تأتى المائدة من
القصر وعدّتها خمسون
(4/92)
شدّة «1» على رءوس الفرّاشين مع صاحب
المائدة، وهو أستاذ جليل إلّا أنّه ليس بمجنّك؛ وفي كلّ شدّة طيفور «2»
، فيه الأوانى الخاصّ، فيها من الأطعمة الخاصّ من كلّ نوع شهىّ وكلّ
صنف من المطاعم العالية، وله روائح عبقة مسك «3» أرخية وعلى كلّ شدّة
طرحة حرير تعلو الشدّة. فيحمل الخليفة إلى الوزير منها جزءا وافرا،
ويعطى الأمراء ومن حضر، ثم يوصل إلى أهل مصر من ذلك كثيرا من الفضلات.
ثمّ يصلّى الخليفة العصر ويتحرّك إلى العود، والناس في الطريق جلوس
لنظره. وزيّه في هذه الأيام لبس الثياب البياض المذهّبة والملوّنة، وهى
العمامة، والمنديل مشدود، وشدّته مفردة عن شدّات الرعيّة وذؤابته تقرب
من الجانب الأيسر؛ ويتقلّد السيف العربىّ «4» المجوهر بغير حنك ولا
مظلّة ولا يتيمة، ولذلك أوقات مخصوصة، فلا يمرّ بمسجد في طريقه إلّا
ويعطى قيّمه دينارا، كما جرى فى الرّواح. وينعطف من [باب «5» ] الخرق،
فيدخل من بابى زويلة، ويشقّ القاهرة إلى القصر. ويكون ذلك من المحرّم
إلى شهر رمضان؛ كما مرّ في أوّل العام.
(4/93)
وكان إذا ركب في أوّل العام يكتب إلى ولاة
الأعمال والنوّاب سجلات مخلّقة يذكر فيها ركوب الخليفة. وهذا كلّه سوى
ركوبه في شهر رمضان إلى الخطبة، على ما سنذكر إن شاء الله تعالى.
ذكر ركوب الخليفة في يومى عيد الفطر والنّحر
إذا تكمّلت عدّة شهر رمضان، وهى عندهم أبدا ثلاثون يوما، وتهيّأت
الأمور، كما تقدّم ذكره، ركب الخليفة بالمظلّة «1» واليتيمة «2» ،
ولباسه في هذا اليوم الثّياب البياض الموشّحة، وهى أجلّ لباسهم؛
والمظلّة أبدا زيّها تابع لزىّ ثياب الخليفة. ويخرج الخليفة من باب
العيد إلى المصلّى «3» ، وعساكره وأجناده من الفرسان والرجّالة زائدة
على العادة موفورة العدد، فيقفون صفّين من باب العيد إلى المصلّى.
[ويكون صاحب بيت المال قد تقدّم «4» على الرسم لفرش المصلّى، فيفرش
الطرّاحات على رسمها فى المحراب مطابقة؛ ويعلّق سترين يمنة ويسرة] ،
على الستر الأيمن الفاتحة وسبّح اسم ربّك الأعلى، وعلى الأيسر الفاتحة
وهل أتاك حديث الغاشية؛ ويركز
(4/94)
فى جانبى المصلّى لواءين مشدودين على رمحين
قد لبّست أنابيبهما من الفضّة، ويرخيهما. فيدخل الخليفة من شرقىّ
المصلّى إلى مكان يستريح فيه قليلا، ثم يخرج محفوظا كما يخرج للجمعة،
فيصلّى بالتكبيرات المسنونة والقوم من ورائه على ترتيبهم في صلاة
الجمعة. ويقرأ في الأولى بعد الفاتحة سبّح اسم ربّك الأعلى، وفي الأخرى
الغاشية؛ ثم يصعد إلى ذروة المنبر وعليها طرّاحة سامان «1» أو دبيقىّ
«2» ، وباقى درجه مستور بالأبيض. ويقف الوزير أسفل المنبر ومعه قاضى
القضاة وصاحب الباب [و] إسفهسالار «3» العساكر وصاحب السيف وصاحب
الرّسالة وزمام القصر «4» وصاحب دفتر المجلس وصاحب المظلّة وإمام «5»
الأشراف الأقارب وصاحب بيت المال وحامل الرمح ونقيب الأشراف الطالبيين.
فيشير الخليفة إلى الوزير فيصعد ويقبّل رجله بحيث يراه الناس، ثمّ يقف
على يمينه. ثمّ يشير إلى القاضى فيصعد إلى سابع «6» درجة، فيشير إليه
الخليفة فيخرج من كمّه درجا «7» أحضر إليه أمس من ديوان الإنشاء قد عرض
على الخليفة والوزير؛ فيقرؤه معلنا؛ وأوّله البسملة ويليها «ثبت «8»
بمن شرّف بصعوده المنبر الشريف فى يوم كذا من سنة كذا من عبيد أمير
المؤمنين، صلوات الله عليه وعلى آبائه الطاهرين وأبنائه الأكرمين، بعد
صعود السيّد الأجل ... » ويذكر الوزير بألقابه
(4/95)
ونعوته. ومرّة يشرّف الخليفة أحدا «1» من
أقارب الوزير، فيستدعيه القاضى.
ثمّ يتلو «2» ذلك ذكر القاضى [وهو القارئ «3» ] فلا يسع القاضى أن يقول
نعوت نفسه بل يقول [المملوك «4» ] فلان [بن فلان «5» ] . وقرأه [مرّة
«6» ] ابن [أبى «7» ] عقيل القاضى فقال «8» عن نفسه: العبد الذليل،
المعترف بالصنع الجميل، فى المقام الجليل، أحمد بن عبد الرّحمن بن
[أبى] عقيل. أو غير ذلك بحسب ما يكون اسم القاضى. ثمّ يستدعى من ذكرنا
وقوفهم على باب المنبر، فيصعدون، وكّل له مقام يمنة أو يسرة؛ ثمّ يشير
إليهم الوزير فيأخذ كلّ واحد نصيبا من اللواء الذي يحاذيه، فيسترون
الخليفة ويستترون؛ ثمّ يخطب الخليفة خطبة بليغة. فإذا فرغ كشفوا ما
بأيديهم من الألوية وينزلون أوّلا بأوّل القهقرى.
ثمّ ينزل الخليفة إلى مكانه الذي خرج منه، ويركب في زيّه المفخّم إلى
قريب من القصر؛ فيتقدّمه الوزير، كما ذكرنا، ويدخل من باب العيد، فيجلس
فى الشّباك، وقد نصب منه إلى فسقية كانت في وسط الإيوان سماط طوله
عشرون قصبة، عليه من الخشكنان «9» والبستندود «10» والبرماورد «11» مثل
الجبل الشاهق، وفيه «12» كلّ قطعة منها ربع قنطار فما دون ذلك إلى رطل؛
فيدخل الناس فيأكلون
(4/96)
ولا منع ولا حجر، فيمرّ ذلك بأيدى الناس
وليس هذا ممّا يعتدّ به، بل يفرّق إلى الناس، ويحمل إلى دورهم. ونذكر
مصروفها في ترجمة العزيز؛ فإنّه أوّل من رتّبها فى عيد الفطر خاصّة.
*** وأمّا سماط الطعام [ففى يوم عيد «1» الفطر اثنتان] أولى وثانية،
وفي عيد النحر مرّة واحدة. ويعبّى السّماط في الليل، وطوله ثلثمائة
ذراع في عرض سبع أذرع، وعليه من أنواع المأكل أشياء كثيرة. فيحضر إليه
الوزير أوّل صلاة الفجر والخليفة جالس في الشبّاك، ومكّنت الناس منه
فاحتملوا ونهبوا ما لا يأكلونه، ويبيعونه ويدّخرونه. وهذا قبل صلاة
العيد. فإذا فرغ من صلاة العيد مدّ السّماط المقدّم ذكره فيؤكل، ثمّ
يمدّ سماط ثان من فضّة، يقال له المدوّرة، عليها أوانى الفضّة والذهب
والصّينى، فيها من الأطعمة الخاصّ ما يستحى من ذكره. والسّماط بطول
القاعة؛ وهو خشب مدهون شبه الدكك اللاطية، عرضه عشر أذرع. ويحطّ في وسط
السماط واحد وعشرون طبقا في كلّ طبق واحد وعشرون خروفا؛ ومن الدجاج
ثلثمائة وخمسون طائرا، ومن الفراريح مثلها، ومن فراخ الحمام مثلها.
وتتنوّع الحلوى أنواعا؛ ثم يمدّ بخلل تلك الأطباق أصحن خزفيّات في
جنبات السّماط، فى كلّ صحن تسع دجاجات في ألوان فائقة من الحلوى،
والطّباهجة «2» المفتقة بالمسك الكثير. وعدّة الصحون خمسمائة صحن،
مرتّب كلّ ذلك أحسن ترتيب. ثم يؤتى بقصرين من حلوى قد عملا بدار
الفطرة، زنة كلّ واحد سبعة عشر قنطارا؛ فيمضى بواحد من طريق
(4/97)
قصر الشوك «1» إلى باب الذهب، ويشقّ بالآخر
من الجانب «2» الآخر، فينصبان أوّل السّماط وآخره. ثمّ يخرج الخليفة
راكبا فينزل على السرير الذي عليه المدوّرة الفضّة، وعلى رأسه أربعة من
كبار الأستاذين المحنّكين، وأربعة من خواصّ الفرّاشين.
ثمّ يستدعى الوزير فيجلس عن يمينه، والأمراء ومن دونهم [فيجلسون «3» ]
على السّماط؛ فيتداول الناس السّماط، ولا يردّ أحد عنه حتّى يذهب عن
آخره؛ فلا يقوم الخليفة إلّا قريب «4» الظهر. ثم يخرج الوزير ويذهب إلى
داره؛ ويعمل سماط يقارب سماط الخليفة. وهكذا يقع في عيد النحر في أوّل
يوم منه. انتهى الركوب في عيد الفطر.
*** وأمّا ركوب الخليفة في عيد الأضحى، فهو أيضا بالزّىّ المقدّم ذكره
والصلاة كذلك، إلّا أنّ الركوب يكون في أيّام متتابعة، أوّلها يوم
العيد إلى المصلى، ثمّ يركب ثانى يوم ثم ثالث يوم من باب الرّيح، وهو
في «5» ركن القصر، والباب مقابل سعيد السعداء؛ وكان الموضع المذكور
فضاء لا عمارة فيه؛ فيخرج الخليفة من باب الريح «6» ، فيجد الوزير
واقفا فيمشى بين يديه إلى المنحر «7» ، فينحر فيه ماشاء الله أن ينحر،
ويعطى الرسوم. ورسوم الأضحية كرسوم ركوب الخليفة أوّل العام،
(4/98)
ويفرّق الضحايا إلى المساجد وجوامع القاهرة
وغيرها. فإذا انقضى ذلك خلع الخليفة على الوزير ثيابه الحمر التى كانت
عليه، ومنديلا آخر بغير اليتيمة [و] العقد المنظوم عند ما يطلع من
المنحر؛ فيشقّ الوزير بذلك القاهرة إلى باب زويلة، ويسلك على الخليج
إلى باب القنطرة؛ ويدخل دار الوزارة؛ فلذلك يفضّل عيد النحر على عيد
الفطر لكونه يخلع فيه على الوزير.
*** وأمّا الركوب لفتح خليج السدّ «1» عند وفاء النيل، فهو يضاهى
ركوبّهم في أوّل العام. نذكر منه على سبيل الاختصار نبذة يسيرة. إذا
كان ليالى الوفاء حمل إلى المقياس «2» من المطابخ نحو عشرة قناطير خبز،
وعشرة خراف مشويّة، وعشر جامات حلوى، وعشر شمعات، وتوجّه القرّاء
وأرباب الجوامع فيقرءون تلك الليلة بجامع المقياس «3» حتّى يكون
الوفاء؛ فيهتم الخليفة لذلك ويركب ويستدعى الوزير على العادة، ويسير
بالزىّ المقدّم من غير مظلّة، وينزل بالصناعة «4» ؛ ثمّ يركب
(4/99)
العشارى، ويدخل البيت المذهّب في العشارى
«1» ، ومعه من شاء من المحنّكين ولا تزيد عدّتهم على أربعة نفر. ويطلع
إلى العشارى خواصّ الخليفة وخواصّ الوزير؛ وهم اثنان أو ثلاثة؛ والناس
كلّهم فيه قيام إلّا الوزير فإنّه يجلس. ثمّ يمرّ العشارى إلى المقياس؛
ثم تساق أشياء من التجمّل يطول شرحها من جنس ركوبه أوّل العام «2» .
ثمّ يخرج بعد فراغه من تخليق «3» المقياس ويركب العشارى ويعود إلى دار
الملك بمصر وتارة إلى المقس، ومن أحدهما إلى القاهرة في زىّ مهول من
كثرة ما يهتمّ له من العساكر والزينة والسلاح. ويكون هذا الركوب أولى
وثانية؛ فالأولى في ليلة يتوجّه القرّاء، والثانية يوم فتح الخليج.
وعند ما يفتح الخليج ينشده الشعراء في المعنى. فمن ذلك:
فتح الخليج فسال منه الماء ... وعلت عليه الراية البيضاء
فصفت موازده لنا فكأنّه ... كفّ الإمام فعرفها الإعطاء
(4/100)
*** وأمّا ركوبهم في المواكب في يومى
الاثنين والخميس وغير ذلك، فأمر عظيم. فأوّل الركوب ركوب [متولّى «1» ]
دفتر المجلس بالقصر الباطن. ويتضمّن هذا الركوب الإنعام بالعطاء بأداء
الرسوم والعطايا المفترقة في غرّة السنة، ثم يأتى ركوب وثالث ورابع
وخامس.
*** وأمّا خزانة الكتب «2» ، فكانت في أحد مجالس البيمارستان «3»
العتيق اليوم، كان فيها ما يزيد على مائة «4» ألف مجلد في سائر العلوم،
يطول الأمر في عدّتها.
(4/101)
وقد اختصرنا من أمور الفاطميين نبذة كثيرة
خشية الإطالة والخروج عن المقصود، وفيما ذكرناه كفاية، ويعلم به أيضا
أحوالهم بالقياس «1» . وربّما يأتى ذكرهم في عدة تراجم أيضا؛ فإنّهم
ثلاثة عشر خليفة بمصر، نذكرهم إن شاء الله فى هذا الكتاب كلّ واحد على
حدته.
*** وأمّا خطبة الخليفة في شهر رمضان، فنذكرها من قول ابن عبد الظاهر.
قال: «وأمّا عظم الخليفة في أيّامه وما كانت قاعدته وطريقته التى
رتّبها ودامت من بعده عادة لكل خليفة فشىء كثير؛ من ذلك: أنّه كان يخطب
في شهر رمضان ثلاث خطب ويستريح فيه جمعة، وكانوا يسمّونها جمعة الراحة
«2» . وكان إذا أراد أن يخطب يتقدّم متولّى خزانة الفرش إلى الجامع
ويغلق المقصورة التى برسم الخليفة والمنظرة وأبواب مقاصيرها وبادهنج
«3» المنبر ثمّ يركب متولّى بيت المال، وعلى يد كلّ واحد منهما تعليقه
«4» وفرشه، وهى عدّة سجّادات مفروزة «5» منطّقة وبأعلاها سجادة لطيفة،
لا تكشف إلّا عند توجّه الخليفة إلى المحراب. ثم يفرش الجامع بالحصر
المحاريب «6» المفروزة ممّا يلى المحراب- وكان ذلك بجامع الأزهر قبل أن
يبنى الحاكم جامعه، ثمّ صار بعد ذلك بجامع الحاكم- ثم يهيّأ للداخل
للجامع مثل ذلك، ثم يطلق البخور، وتغلق أبواب الجامع ويجعل عليها
الحجّاب والبوّابون؛ ولا يمكّن
(4/102)
أحد أن يدخله إلّا من هو معروف من الخواصّ
والأعيان. فإذا كان حضور الخليفة إلى الجامع ضربت السلسلة من ركن
الجامع إلى الوجه الذي قبالته، ولا يمكّن أحد من الترجّل «1» عندها.
ثمّ يركب الخليفة، ويسلّم لكلّ واحد من مقدّمى الرّكاب فى الميمنة
والميسرة أكياس الذهب والورق سوى الرسوم المستقرّة والهبات والصدقات في
طول الطريق. ويخرج الخليفة من باب الذهب والمظلّة بمشدّة الجوهر على
رأسه، وعلى الخليفة الطّيلسان «2» . فعند ذلك يستفتح المقرئون بالقراءة
فى ركابه بغير رهجيّة «3» ، والدكاكين مزيّنة مملوءة بأوانى الذهب
والفضّة؛ فيسير الخليفة إلى أن يصل إلى وجه الجامع، ووزيره بين يديه،
فتحطّ السلسلة ويتمّ الخليفة راكبا إلى باب جامع الأزهر الذي تجاه درب
الأتراك «4» ، فينزل ويدخل من باب الجامع إلى الدّهليز الأول الصغير
ومنه إلى القاعة المعلّقة التى كانت برسم جلوسه، فيجلس فى مجلسه وترخى
المقرمة «5» الحرير، ويقرأ المقرئون وتفتح أبواب الجامع حينئذ.
فإذا استحقّ الأذان أذّن مؤذنو القصر كلّهم على باب مجلس الخليفة ورئيس
الجامع على باب المنبر وبقيّة المؤذّنين في المآذن. فعند ما يسمع قاضى
القضاة الأذان يتوجّه إلى المنبر فيقبّل أوّل درجة، وبعده متولّى بيت
المال ومعه المبخرة وهو يبخّر، ولم يزالا يقبّلان درجة بعد درجة إلى أن
يصلا ذروة المنبر؛ فيفتح القاضى بيده التزرير ويرفع السّتر، ويتناول من
متولّى بيت المال المبخرة ويبخّر هو أيضا، ثم يقبّلان الدّرج أيضا وهما
نازلان. وبعد نزولهما يخرج الخليفة والمقرئون بين يديه بتلك الأصوات
الشجيّة إلى أن يصل إلى المنبر ويصعد عليه. فإذا صار بأعلاه
(4/103)
أشار للوزير بالطلوع فيطلع إليه وهو يقبّل
الدرج حتّى يصلّ إليه فيزر عليه القبّة، ثمّ ينزل الوزير ويقف على
الدرجة الأولى ويجهر المقرئون بالقراءة، ثم يكبّر المؤذّنون ثمّ يشرع
المؤذّنون في الصمت، ويخطب الخليفة؛ حتّى إذا فرغ من الخطبة طلع إليه
الوزير وحلّ الأزرار فينزل الخليفة، وعن يمينه الوزير وعن يساره القاضى
والداعى بين يديه- والقاضى والداعى هما اللذان يوصّلان الأذان إلى
المؤذّنين- حتّى يدخل المحراب ويصلّى بالناس ويسلّم. فإذا انقضت الصلاة
أخذ لنفسه راحة بالجامع بمقدار ما تعرض عليه الرسوم وتفرّق؛ وهى للنائب
في الخطابة ثلاثة دنانير، وللنائب فى صلوات الخمس ثلاثة دنانير،
وللمؤذّنين أربعة دنانير، ولمشارف خزانة الفرش وفرّاشها ومتولّيها لكلّ
ثلاثة دنانير، ولصبيان بيت المال ديناران، ولمعبّى الفاكهة ديناران.
وأمّا القرّاء فكان لهم رسوم غير ذلك. ومن حين يركب الخليفة من القصر
إلى الجامع حتى يعود، الصدقات تعمّ الناس» .
قلت: وأظنّ أنّ الدينار كان غير دينار زماننا هذا؛ فإنّه قال- بعد ما
ذكر لمعبّى الفاكهة دينارين-: فأمّا الفواكه التى كانت تعبى بالجامع
فإنّها كانت تباع بجملة كثيرة ويتزاحم الناس على شرائها لبركاتها ويقسم
ثمنها بين الإمام والمؤذّنين.
قلت: ولعلّ هذا كان رسما للمعبىّ غير ثمن الفاكهة. والله أعلم.
ودام هذا الترتيب إلى آخر وقت، إلى أيّام العاضد آخر خلفاء مصر من بنى
عبيد. ونذكر أيضا في ترجمة الامر بأحكام الله من العبيديين كيفية خروج
الخليفة إلى الجامع بأزيد من هذا عند ما نحكى ما كان يقع له من الوجد
في خطبته، إن شاء الله تعالى.
انتهى ترجمة المعز لدين الله، رحمه الله تعالى.
(4/104)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 363]
السنة الاولى من ولاية المعزّ معدّ على مصر، وهى سنة ثلاث وستين
وثلثمائة.
فيها أعاد عزّ الدولة بختيار النّوح في يوم عاشوراء إلى ما كان عليه.
وفيها أظهر الخليفة المطيع ما كان يستره من علّته. وثقل لسانه وتعدّر
الحركة عليه للفالج الذي كان ناله قديما، وانكشف ذلك لسبكتكين، فدعا
الخليفة المطيع إلى خلع نفسه وتسليم الأمر إلى ولده الطائع لله عبد
الكريم ففعل ذلك؛ وعقد له الأمر في يوم الأربعاء لثلاث عشرة خلت من ذى
القعدة من السنة المذكورة.
فكانت خلافته إلى أن خلع نفسه تسعا وعشرين سنة وأربعة أشهر وأربعة
وعشرين يوما. وصورة ما كتب:
«هذا ما أشهد على متضمّنه أمير المؤمنين الفضل المطيع لله ابن المقتدر
بالله، حين نظر لدينه ورعيّته وشغل بالعلّة الدائمة عمّا كان يراعيه من
الأمور الدينية اللازمة، وانقطع إفصاحه عما يجب عليه لله في ذلك، فرأى
اعتزال ما كان عليه من هذا الأمر وتسليمه إلى ناهض به قائم بحقّه [ممّن
يرى له «1» الرأى] .
عقده له وأشهد بذلك طوعا» وذكر التاريخ المذكور. وفي آخره بخط القاضى
أبى الحسن محمد بن صالح: «شهد عندى بذلك أحمد بن حامد «2» بن محمد،
وعمر بن محمد ابن أحمد، وطلحة بن محمد بن جعفر» . قلت: وانقطع المطيع
بداره، وكان يسمّى بعد ذلك الشيخ الصالح إلى أن مات في سنة أربع وستين
وثلثمائة، على ما يأتى ذكره فى الآتية إن شاء الله تعالى.
وفيها توفّى عبد العزيز بن أحمد بن جعفر الفقيه الحنبلىّ العالم
المشهور، مولده سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وصنّف المصنّفات الكبيرة؛
منها كتاب" المقنع" مائة
(4/105)
جزء، وكتاب" الكافى" مائتى جزء، و" الشافى"
ثمانين جزءا، وأشياء غير ذلك، ومات فى شوّال.
وفيها توفّى أبو الفتح على بن محمد بن أبى الفتح البستى الشاعر
المشهور، وكان إماما فاضلا، يعانى الجناس. ومن شعره قوله:
يأيّها الذاهب في مكره ... مهلا «1» فما المكر من المكرمات
عليك بالصحة فهى المنى ... يحيا محيّاك إذا المكرمات
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن سهل أبو بكر الرّملىّ [المعروف «2» بابن]
النابلسى الزاهد المشهور.
بعث إليه كافور الإخشيذىّ بمال؛ فردّه وقال للرسول: قل لكافور قال الله
تعالى:
(إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)
فالاستعانة بالله وكفى. فردّ كافور الرسول بالمال وقال قل له: (لَهُ ما
فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ وَما بَيْنَهُما وَما تَحْتَ
الثَّرى)
فأين ذكر كافور ها هنا! الملك والمال لله.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى جمح بن
القاسم المؤذّن. وأبو بكر عبد العزيز بن أحمد بن جعفر «3» صاحب
الخلّال. وأبو بكر محمد ابن أحمد بن سهل الرملىّ ابن النابلسى الشهيد.
وأبو العباس محمد بن موسى [ابن «4» ] السمسار. ومظفّر بن حاجب بن
أرّكين «5» . والنّعمان بن محمد أبو حنيفة المغربىّ الباطنىّ «6»
(4/106)
قاضى مملكة المعزّ، وكان حنفىّ المذهب لأنّ
الغرب كان يوم ذاك غالبه حنفية، إلى أن حمل الناس على مذهب مالك فقط
المعزّ بن باديس الآتى ذكره.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة ستّ
عشرة ذراعا وأربع عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 364]
السنة الثانية من ولاية المعزّ معدّ على مصر، وهى سنة أربع وستين
وثلثمائة.
فيها في المحرّم أوقع العيّارون «1» ببغداد «2» حريقا من الخشّابين إلى
باب «3» الصغير، فاحترق أكثر هذا السوق، وهلك شىء كثير. واستفحل أمر
العيّارين ببغداد حتى ركبوا الجند وتلقّبوا بالقوّاد وغلبوا على
الأمور، وأخذوا الحفارة عن الأسواق والدروب. وكان فيهم أسود يقال له
الزّبد، كان يأوى" قنطرة الزّبد «4» " يشحذ وهو عريان. فلمّا كثر
(4/107)
الفساد رأى هذا الأسود من هو أضعف منه قد
أخذ بالسيف، فطلب الأسود سيفا ونهب وأغار، وحفّ به طائفة وتقوّى وأخذ
أموال الناس، وتموّل حتى اشترى جارية بألف دينار؛ فراودها فتمنعت؛
فقال: ما تكرهين منّى؟ قالت: أكرهك كلّك؛ قال: ما تحبّين؟ قالت:
تبيعنى؛ قال: أو [أفعل «1» ] خيرا لك من ذلك؛ فحملها إلى القاضى
وأعنقها ووهبها ألف دينار؛ فتعجّب الناس من سماحته.
ثمّ خرج إلى الشام فهلك هناك.
وفيها خرج الخليفة الطائع ومعه سبكتكين من بغداد في المحترم يريدان
واسطا لقتال بختيار؛ فمات الخليفة المطيع الفضل في يوم الاثنين لثمان
بقين من المحرّم، وكان المطيع قد خرج مع ولده الخليفة الطائع يريد
واسطا، فردّه ولده في تابوت إلى بغداد فدفن بها، ثمّ مات سبكتكين بعده
بيوم واحد، فحمل أيضا إلى بغداد. وكان أصل سبكتكين من مماليك عزّ
الدولة الأتراك، وخلع عليه الخليفة الطائع بالإمارة عوضا عن أستاذه عزّ
الدولة، وخرجا لقتاله فمات. وكانت مدّة إمارته شهرين وثلاثة عشر يوما.
ولمّا مات سبكتكين عقد الأتراك لأفتكين «2» الرّامى مولى معزّ الدولة،
وكان أعور، وأطاعوه. وعرض عليه الطائع اللّقب فامتنع واقتصر على
الكنية. وعمل على لقاء عزّ الدولة؛ فاستنجد عزّ الدولة بابن عمّه عضد
الدولة فنجده؛ وقاتل الأتراك وكسرهم بعد حروب كثيرة. ثمّ طمع عضد
الدولة في الإمارة وعزله عزّ الدولة، وخلع عليه الخليفة الطائع مكانه؛
وعظم أمر عضد الدولة بعد ذلك.
وفيها توفّى الخليفة المطيع لله أبو القاسم الفضل أمير المؤمنين
المقدّم ذكر وفاته لمّا خرج مع ولده الطائع. وهو ابن الخليفة المقتدر
جعفر ابن الخليفة المعتضد
(4/108)
أبى العباس أحمد الهاشمىّ العباسىّ. وأمّه أمّ ولد اسمها مشعلة «1» .
بويع بالخلافة بعد المستكفى في سنة أربع وثلاثين وثلثمائة. وكان مولده
سنة إحدى وثلثمائة. وخلع نفسه من الخلافة غير مكره لذلك، حسب ما ذكرناه
في السنة الماضية؛ ونزل عن الخلافة لولده الطائع، ومات في المحرّم في
هذه السنة، كما تقدّم.
وفيها توفّى الأمير محمد بن بدر الحمّامى، وكنيته أبو بكر. كان والده
بدر الحمّامىّ مولى أحمد بن طولون، وكان أميرا على فارس فمات؛ فقام
ولده هذا بعده. قال أبو نعيم: وكان ثقة، مات ببغداد.
الذين ذكر الذهبى وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو بكر أحمد
بن محمد بن إسحاق الدّينورىّ بن السّنّى. وأبو هاشم عبد الجبّار بن عبد
الصمد السّلمىّ.
والمطيع لله الفضل بن المقتدر. ومحمد بن بدر الحمّامىّ أمير فارس.
ومحمد بن عبد الله ابن إبراهيم السّليطىّ أبو الحسن.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع سواء. مبلغ الزيادة ست
عشرة ذراعا وعشرون إصبعا. |