النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 385]
السنة العشرون من ولاية العزيز نزار على مصر وهى سنة خمس وثمانين
وثلثمائة.
فيها تحرّكت القرامطة على البصرة، فجهّز بهاء الدولة إليهم جيشا فرجعوا
عنها.
وفيها زلزلت الدنيا زلزلة عظيمة، مات فيها تحت الهدم خلق كثير.
وفيها أمر صمصام الدولة بقتل من كان بفارس من «1» الأتراك، كلّ ذلك ولم
ينتج أمر صمصام الدولة.
وفيها توفّى طغان صاحب بهاء الدولة الذي كان ندبه لقتال صمصام الدولة
بشيراز.
وفيها حجّ بالناس أحمد بن محمد بن عبد الله العلوىّ من العراق، وبعث
بدر «2» بن حسنويه الكردىّ خمسة «3» آلاف دينار إلى الأصفر الأعرابىّ
الذي كان يقطع الطريق على الحاجّ عوضا عما كان يأخذه من الحاجّ، وجعل
ذلك رسما عليه في كل سنة من ماله، رحمه الله.
وفيها توفّى الوزير الصاحب إسماعيل بن عبّاد بن العباس أبو القاسم وزير
مؤيّد الدولة بن ركن الدولة الحسن بن بويه، ثمّ وزر لأخيه فخر الدولة.
كان أصله
(4/169)
من الطالقان، وكان نادرة زمانه وأعجوبة
عصره في الفضائل والمكارم. أخذ الأدب عن الوزير أبى الفضل بن العميد
وزير ركن الدولة بن بويه، وسمع الحديث من أبيه ومن غير واحد، وحدّث
باليسير. وهو أوّل وزير سمّى بالصاحب لأنه صحب مؤيد الدولة من الصّبا
فسمّاه الصاحب، فغلب عليه، ثمّ سمّى به كلّ من ولى الوزارة حتى حرافيش
زماننا حملة اللحم وأخذة المكوس! وقيل: إنه كان يصحب ابن العميد فقيل
له صاحب ابن العميد، ثم خفّف فقيل الصاحب. ولمّا ولى الوزارة قال فيه
أبو سعيد الرّستمىّ «1» :
[الكامل]
ورث الوزارة كابرا عن كابر ... موصولة الإسناد بالإسناد
يروى عن العباس عبّاد وزا ... رته وإسماعيل عن عبّاد
ولمّا مات مؤيّد الدولة تولّى السلطنة أخوه فخر الدولة، فأقرّ الصاحب
هذا على وزارته؛ فعظم أمره أكثر ما كان؛ وبقى في الوزارة ثمانية عشر
عاما، وفتح خمسين قلعة وسلّمها إلى فخر الدولة. وكان عالما بفنون
كثيرة. وأما الشعر فإليه المنتهى فيه. ومن شعره:
[الكامل]
(4/170)
رقّ الزّجاج وراقت الخمر ... وتشابها فتشا
كل الأمر
فكأنما خمر ولا قدح ... وكأنّما قدح ولا خمر
وله القصيدة التى أوّلها:
[الوافر]
تبسّم إذ تبسّم عن أقاحى ... وأسفر حين أسفر عن صباح
وقيل: إنّ القاضى العميرىّ أرسل الى الصاحب كتبا كثيرة، وكتب معها
يقول:
[الخفيف]
العميرىّ عبد كافى الكفاة «1» ... وإن اعتدّ في وجوه القضاة
خدم المجلس الرفيع بكتب ... مفعمات «2» من حسنها مترعات
فأخذ منها الصاحب بن عبّاد كتابا واحدا، وكتب معها:
قد قبلنا من الجميع كتابا ... ورددنا لوقتها الباقيات
لست أستغنم الكثير فطبعى ... قول «خذ» ليس مذهبى قول «هات»
ومات الصاحب بالرّىّ عشيّة ليلة الخميس خامس عشرين صفر، وأغلقت له
مدينة الرّىّ، وحضر مخدومه فخر الدولة وجميع أعيان مملكته، وقد غيّروا
لباسهم.
فلمّا خرج نعشه صاح الناس صيحة واحدة، وقبّلوا الأرض لنعشه، ومشى فخر
الدولة أمام نعشه، وقعد للعزاء أيّاما، ورثاه الشعراء بعدّة قصائد.
قلت: وأخبار ابن عبّاد كثيرة، وقد استوعبنا أمره في كتاب «الوزراء» .
وليس هذا محلّ الإطناب في التراجم سوى تراجم ملوك مصر التى بسببها صنّف
هذا الكتاب.
(4/171)
وفيها توفّى علىّ بن عمر بن أحمد بن مهدىّ
بن مسعود بن النعمان بن دينار بن عبد الله أبو الحسن البغدادىّ
الدّارقطنىّ، الحافظ المشهور صاحب التصانيف.
سمع من أبى القاسم البغوىّ وخلق كثير ببغداد والكوفة والبصرة وواسط،
ورحل فى كهولته الى الشام ومصر، فسمع القاضى أبا الطاهر «1» الذّهلىّ
وطبقته؛ وروى عنه أبو حامد الإسفراينى وأبو عبد الله الحاكم وعبد الغنى
بن سعيد المصرىّ وخلق سواهم قال الخطيب أبو بكر: كان الدارقطنىّ فريد
عصره، ووحيد دهره، ونسيج وحده، وإمام وقته؛ انتهى إليه علم الأثر
والمعرفة بعلل الحديث وأسماء الرجال [وأحوال الرواة «2» ] ، مع الصّدق
والثقة، وصحة الاعتقاد. وكانت وفاته في ثامن ذى القعدة.
وفيها توفّى عمر بن أحمد بن عثمان بن أحمد بن أيوب بن أزداد «3» الشيخ
أبو حفص بن شاهين الحافظ الواعظ محدّث بغداد ومفيدها، سمع الكثير
وحدّث؛ ومولده سنة سبع وتسعين ومائتين. قال ابن ماكولا: كان ثقة
مأمونا، سمع بالشام والعراق والبصرة وفارس، وجمع الأبواب والتراجم،
وصنّف كثيرا.
وفيها توفى أبو الحسن عبّاد بن العباس والد الصاحب بن عبّاد المقدّم
ذكره، مات بعد ابنه بمدّة يسيرة. وكان فاضلا جليلا، سمع الحديث، وصنّف
كتاب" أحكام القرآن". وقد تقدّم أن أصلهم من «الطّالقان» وهى قرية
كبيرة بين قزوين وأبهر، وحولها عدّة قرى؛ وقيل: هو إقليم يقع عليه هذا
الاسم. وبخراسان مدينة يقال لها «طالقان» غير هذه.
(4/172)
وفيها توفّى بشر بن هارون أبو نصر
النصرانىّ الكاتب، كان شاعرا هجّاء خبيث اللسان كتب مرّة إلى إبراهيم
الصابئ:
[السريع]
حضرت بالجسم وقد كنت بالن ... فس وإن لم ترنى حاضرا «1»
أنطقنى بالشعر حبّى لكم ... ولم أكن من قبلها شاعرا
فكتب إليه الصابئ تحت خطّه: «ولا بعدها» .
وفيها توفّى الحسن بن حامد بن الحسن بن حامد بن الحسن بن حامد أبو محمد
الأديب الشاعر، كان فاضلا يتّجر وله مال كثير. ولمّا قدم المتنبّى
بغداد خدمه؛ فقال له المتنبى: لو كنت مادحا تاجرا لمدحتك.
وفيها توفّى عقيل بن محمد «2» أبو الحسن الأحنف العكبرىّ الأديب
الشاعر.
ومن شعره:
[الرمل]
من أراد الملك والرا ... حة من همّ طويل
فليكن فردا من النا ... س ويرضى بالقليل
وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن سكّرة «3» أبو الحسن الهاشمىّ
البغدادىّ الشاعر المشهور، ويعرف بابن رابطة «4» . هو من ولد علىّ بن
المهدىّ من بنى العباس.
كان شاعرا ظريفا فصيحا؛ وشعره في غاية الجودة والرقّة. من ذلك قوله:
(4/173)
[المنسرح]
فى وجه إنسانة «1» كلفت بها ... أربعة ما اجتمعن في أحد
الوجه بدر والصّدغ غالية ... والرّيق خمر والثغر من برد
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 386]
السنة الحادية والعشرون من ولاية العزيز يزار على مصر- وفيها مات- وهى
سنة ستّ وثمانين وثلثمائة.
فيها في المحرّم ادّعى أهل البصرة أنهم كشفوا عن قبر عتيق فوجدوا فيه
ميتا [طريّا «2» ] بثيابه وسيفه، وأنه الزّبير بن العوّام؛ فأخرجوه
وكفّنوه ودفنوه بالمربد؛ وبنى عليه أبو المسك عنبر بناء «3» وجعله
مشهدا، وأوقف عليه أوقافا ونقل إليه القناديل والآلات. قال الذهبىّ:
فالله أعلم من ذلك الميّت.
وفيها توفّى أحمد بن علىّ بن أحمد أبو علىّ المدائنى، ويلقب بالهائم.
روى عن السّرىّ الرفّاء ديوان شعره. وكان شاعرا ماهرا. ومن شعره في
كوسج «4» :
[المنسرج]
وجه اليمانىّ من تأمّله ... أبصر فيه الوجود والعدما
قد شاب عثنونه وشاربه ... وعارضاه لم يبلغا الحلما
(4/174)
وفيها توفّى محمد بن علىّ بن عطيّة أبو
طالب الحارثىّ، مصنّف كتاب" قوت القلوب «1» ". كان من أهل الجبل ونشأ
بمكة وتزهّد، وكان له لسان حلو في الوعظ والتصوّف.
وفيها توفى محمد بن إبراهيم بن أحمد أبو بكر السّوسىّ شيخ الصوفيّة
بدمشق، كان زاهدا عابدا، ما عقد على درهم ولا دينار، ولا اغتسل من حلال
ولا حرام، حدّث عن أحمد بن عطاء الرّوذبارىّ «2» وأقرانه، ولقى
المشايخ.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى أبو حامد «3»
أحمد بن عبد الله النّعيمىّ بهراة في شهر ربيع الأوّل. وأبو أحمد عبد
الله بن الحسين بن حسنون السّامرّىّ. وأبو أحمد عبيد الله بن يعقوب بن
إسحاق الأصبهانى، روى عن جدّه مسند أحمد بن منيع. وأبو الحسن علىّ بن
عمر الحربىّ السّكّرى «4» فى شوّال وله تسعون سنة. وأبو عبد الله الختن
«5» شيخ الشافعيّة محمد بن الحسن الأسترآباذي «6» .
وأبو طالب محمد بن علىّ بن عطيّة المكىّ صاحب" القوت" في جمادى الآخرة.
والعزيز نزار بن المعزّ العبيدىّ في رمضان عن ثلاث وأربعين سنة.
(4/175)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث
أذرع وخمس أصابع. مبلغ الزيادة خمس عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
ذكر ولاية الحاكم بأمر الله على مصر
هو أبو علىّ منصور الحاكم بأمر الله بن العزيز بالله نزار بن المعزّ
بالله معدّ بن المنصور بالله إسماعيل بن القائم بأمر الله محمد بن
المهدىّ عبيد الله، العبيدىّ الفاطمىّ المغربىّ الأصل، المصرىّ المولد
والدار والمنشأ، الثالث من خلفاء مصر من بنى عبيد والسادس منهم ممن ولى
من أجداده بالمغرب، وهم: المهدىّ والقائم والمنصور المقدّم ذكرهم.
مولده يوم الخميس لأربع ليال بقين من شهر ربيع الأوّل سنة خمس وسبعين
وثلثمائة بالقاهرة؛ وقيل: فى الثالث والعشرين منه. وولّاه أبوه العزيز
عهد الخلافة فى شعبان سنة ثلاث وثمانين وثلثمائة، وبويع بالخلافة يوم
مات أبوه يوم الثلاثاء لليلتين بقيتا من شهر رمضان سنة ستّ وثمانين
وثلثمائة؛ فولى الخلافة وله إحدى عشرة سنة ونصف، وقيل: عشر سنين ونصف
وستّة أيام، وقيل غير ذلك.
قال العلّامة أبو المظفّر بن قزأوغلى في تاريخه: «وكانت خلافته متضادّة
بين شجاعة وإقدام، وجبن وإحجام، ومحبّة للعلم وانتقام من العلماء، وميل
الى الصلاح وقتل الصلحاء. وكان الغالب عليه السخاء؛ وربّما بخل بما لم
يبخل به أحد قطّ.
وأقام يلبس الصوف سبع سنين، وامتنع من دخول الحمام؛ وأقام سنين يجلس فى
الشمع ليلا ونهارا، ثمّ عنّ له أن يجلس في الظّلمة فجلس فيها مدّة.
وقتل من العلماء والكتّاب والأماثل ما لا يحصى؛ وكتب على المساجد
والجوامع سبّ أبى بكر وعمر وعثمان وعائشة وطلحة والزّبير ومعاوية وعمرو
بن العاص رضى الله عنهم
(4/176)
فى سنة خمس وتسعين وثلثمائة، ثمّ محاه في
سنة سبع وتسعين؛ وأمر بقتل الكلاب وبيع الفقّاع «1» ، ثم نهى عنه؛ ورفع
المكوس عن البلاد وعمّا يباع فيها؛ ونهى عن النجوم، وكان ينظر فيها؛
ونفى المنجّمين وكان يرصدها «2» ؛ ويخدم زحل وطالعه المرّيخ، ولهذا كان
يسفك الدّماء. وبنى جامع «3» القاهرة، وجامع راشدة «4» على النيل بمصر،
ومساجد كثيرة، ونقل إليها المصاحف المفضّضة والستور الحرير وقناديل
الذهب والفضّة؛ ومنع من صلاة التراويح عشر سنين، ثم أباحها؛ وقطع
الكروم ومنع من بيع العنب، ولم يبق في ولايته كرما؛ وأراق خمسة آلاف
جرّة من عسل فى البحر خوفا من أن تعمل نبيذا؛ ومنع النساء من الخروج من
بيوتهنّ ليلا ونهارا؛ وجعل لأهل الذمّة علامات يعرفون بها، وألبس
اليهود العمائم السّود، وأمر ألّا يركبوا مع المسلمين في سفينة، وألّا
يستخدموا غلاما مسلما، ولا يركبوا حمار مسلم، ولا يدخلوا مع المسلمين
حمّاما، وجعل لهم حمامات على حدة؛ ولم يبق فى ولايته ديرا ولا كنيسة
إلّا هدمها؛ ونهى عن تقبيل الأرض بين يديه والصلاة
(4/177)
عليه في الخطب والمكاتبات؛ وجعل مكان
الصلاة عليه: السلام على أمير المؤمنين، ثمّ رجع عن ذلك؛ وأسلم خلق من
أهل الذّمّة خوفا منه ثم ارتدّوا؛ وأعاد الكنائس إلى «1» حالها» .
انتهى كلام أبى المظفر.
قال الحافظ أبو عبد الله الذهبىّ في تاريخه: «كان جوادا سمحا، خبيثا
ماكرا، ردىء الاعتقاد، سفّاكا للدّماء؛ قتل عددا كبيرا من كبراء دولته
صبرا؛ وكان عجيب السيرة، يخترع كلّ وقت أمورا وأحكاما يحمل الرعيّة
عليها؛ فأمر بكتب سبّ الصحابة على أبواب المساجد والشوارع، وأمر
العمّال بالسبّ في الأقطار في سنة خمس وتسعين وثلثمائة، وأمر بقتل
الكلاب في مملكته وبطّل الفقّاع والملوخيّا؛ ونهى عن السمك، وظفر بمن
باع ذلك فقتلهم؛ ونهى في سنة اثنتين وأربعمائة عن بيع الرطب ثمّ جمع
منه شيئا عظيما فأحرق الكلّ؛ ومنع من بيع العنب وأباد كثيرا من الكروم؛
وأمر النصارى بأن تعمل في أعناقهم الصّلبان، وأن يكون طول الصليب ذراعا
وزنته خمسة أرطال بالمصرىّ؛ وأمر اليهود أن يحملوا في أعناقهم قرامى
الخشب في زنة الصلبان أيضا، وأن يلبسوا العمائم السّود، ولا يكتروا من
مسلم بهيمة، وأن يدخلوا الحمّام بالصّلبان، ثمّ أفرد لهم حمّامات. وفي
العام أمر بهدم الكنيسة المعروفة بالقمامة «2» . ولّما أرسل إليه ابن
باديس «3» ينكر عليه أفعاله، أراد»
استمالته فأظهر التفقه وحمل في كمّه الدفاتر وطلب إليه فقيهين وأمر هما
بتدريس مذهب مالك في الجامع؛ ثمّ بدا له فقتلهما صبرا؛ وأذن للنصارى
الذين أكرههم إلى الإسلام في الرجوع إلى الشّرك. وفي سنة أربع
وأربعمائة منع النساء من الخروج
(4/178)
فى الطريق، ومنع من عمل الخفاف لهنّ؛ فلم
يزلن ممنوعات سبع سنين وسبعة أشهر حتّى مات. ثمّ إنّه بعد مدّة أمر
بيناء ما كان أمر بهدمه من الكنائس. وكان أبوه العزيز قد ابتدأ بيناء
جامعه الكبير بالقاهرة (يعنى الذي هو داخل باب النصر) فتممّه هو. وكان
على بنائه ونظره الحافظ «1» عبد الغنى بن سعيد. وكان الحاكم يفعل الشيء
ثمّ ينقضه. وخرج عليه أبو ركوة الوليد بن هشام العثمانىّ الأموىّ
الأندلسىّ بنواحى برقة فمال إليه خلق عظيم؛ فجهّز الحاكم لحربه جيشا
فانتصر عليهم أبو ركوة وملك؛ ثمّ تكاثروا عليه وأسروه؛ ويقال: إنه قتل
من أصحابه مقدار سبعين ألفا.
وحمل أبو ركوة إلى الحاكم فذبحه في سنة سبع وتسعين» . انتهى كلام
الذهبىّ باختصار.
قلت: ونذكر واقعته مع عسكر الحاكم وكيف ظفر به الحاكم وقتله مفصّلا فى
سنة سبع وتسعين المذكورة في الحوادث بأوسع من هذا، إن شاء الله تعالى؛
لأن قصّته غريبة فتنظر هناك.
وقال ابن خلّكان: «وكان أبو الحسن علىّ المعروف بابن يونس المنجّم قد
صنع له" الزّيج" المعروف بالحاكمىّ وهو زيج كبير مبسوط. قال: نقلت من
خطّ الحافظ أبى طاهر أحمد بن محمد السّلفىّ رحمه الله تعالى أن الحاكم
المذكور كان جالسا في مجلسه العام وهو حفل بأعيان دولته، فقرأ بعض
الحاضرين:
(فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ
بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا
قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً)
، والقارئ في أثناء ذلك كلّه يشير إلى الحاكم. فلمّا
(4/179)
فرغ من القراءة قرأ شخص يعرف بابن المشجّر
(والمشجّر بضم الميم وفتح الشين المعجمة والجيم المشدّدة وبعدها راء
مهملة) وكان ابن المشجّر رجلا صالحا فقرأ:
(يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ
الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً
وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا
يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ ما قَدَرُوا
اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ)
. فلمّا انتهت قراءته تغيّر وجه الحاكم، ثمّ أمر لابن المشجّر المذكور
بمائة دينار، ولم يطلق للآخر شيئا. ثمّ إنّ بعض أصحاب ابن المشجّر، قال
له: أنت تعرف خلق الحاكم وكثرة استحالاته وما تأمن أن يحقد عليك [وأنّه
«1» لا يؤاخذك في هذا الوقت] ثم يؤاخذك بعدها فالمصلحة عندى أن تغيب
عنه. فتجهّز ابن المشجّر إلى الحجّ وركب فى البحر وغرق. فرآه صاحبه في
النوم [فسأله عن «2» حاله] فقال: ما قصّر الرّبان معنا، أرسى بنا على
باب الجنّة» . انتهى كلام ابن خلكّان رحمه الله.
وقال ابن الصابئ «3» : «كان الحاكم يواصل الركوب ليلا ونهارا، ويتصدّى
له الناس على طبقاتهم، فيقف عليهم ويسمع منهم، فمن أراد قضاء حاجته
قضاها فى وقته، ومن منعه سقطت المراجعة في أمره. وكان المصريّون
موتورين منه؛
(4/180)
فكانوا يدسّون إليه الرّقاع المختومة
بالدعاء عليه والسبّ له ولأسلافه، والوقوع فيه وفي حرمه، حتى انتهى
فعلهم الى أن عملوا تمثال امرأة من قراطيس بخفّ وإزار، ونصبوها في بعض
الطّرق وتركوا في يدها رقعة كأنها ظلامة؛ فتقدّم الحاكم وأخذها من
يدها. فلمّا فتحها رأى في أوّلها ما استعظمه، فقال: انظروا هذه المرأة
من هى؟ فقيل له: إنها معمولة من قراطيس؛ فعلم أنهم قد سخروا منه، وكان
في الرقعة كلّ قبيح. فعاد من وقته إلى القاهرة، ونزل في قصره واستدعى
القوّاد والعرفاء، وأمرهم بالمسير إلى مصر وضربها بالنار ونهبها، وقتل
من ظفروا به من أهلها؛ فتوجّه إليها العبيد والروم والمغاربة وجميع «1»
العساكر. وعلم أهل مصر بذلك فاجتمعوا وقاتلوا عن نفوسهم، وأوقعوا النار
فى أطراف البلد؛ فاستمرّت الحرب بين العبيد والعامّة والرعيّة ثلاثة
أيّام، والحاكم يركب في كلّ يوم إلى القرافة، ويطلع إلى الجبل ويشاهد
النار ويسمع الصّياح ويسأل عن ذلك، فيقال له: العبيد يحرقون مصر
وينهبونها، فيظهر التوجّع، ويقول: لعنهم الله! من أمرهم بهذا. فلمّا
كان اليوم الرابع «2» اجتمع الأشراف [والشيوخ «3» ] إلى الجوامع ورفعوا
المصاحف وضجّوا بالبكاء وابتهلوا إلى الله تعالى بالدعاء، فرحمهم
الأتراك ورّقوا لهم وانحازوا اليهم وقاتلوا معهم، وكان أكثرهم مخالطا
لهم ومداخلا ومصاهرا، وانفرد العبيد وصار القتال معهم؛ وعظمت القصّة
وزادت الفتنة، واستظهرت كتامة والأتراك عليهم، وراسلوا الحاكم، وقالوا:
نحن عبيد ومماليك، وهذا البلد بلدك وفيه حرمنا وأموالنا وأولادنا
وعقارنا، وما علمنا أنّ أهله جنوا جناية تقتضى سوء المقابلة، وتدعو إلى
مثل
(4/181)
هذه المعاملة. فإن كان هناك باطن لا نعرفه
فأخبرنا به، وانتظرنا حتّى نخرج بعيالنا وأموالنا منه. وإن كان ما عليه
هؤلاء العبيد مخالفا لرأيك فأطلقنا في معاملتهم بما يعامل به المفسدون
والمخالفون. فأجابهم بأنه ما أراد ذلك، ولعن الفاعل له والآمر به،
وقال: أنتم على الصواب في الذبّ عن المصرييّن، وقد أذنت لكم فى نصرتهم،
والإيقاع بمن تعرّض لهم. وأرسل إلى العبيد سرّا يقول: كونوا على أمركم؛
وحمل إليهم سلاحا قوّاهم به. وكان غرضه في هذا أن يطرح بعضهم على بعض،
وينتقم من فريق بفريق. وعلم القوم بما يفعل، فراسلته كتامة والأتراك:
قد عرفنا غرضك، وهذا هلاك هذه البلدة وأهلها وهلا كنا معهم؛ وما يجوز
أن نسلّم نفوسنا والمسلمين «1» لفتك الحريم وذهاب المهج. ولئن لم
تكفّهم لنحرقنّ القاهرة، ونستنفرنّ «2» العرب وغيرهم؟ فلمّا سمع
الرسالة. وكانوا قد استظهروا على العبيد.
ركب حماره ووقف بين الصّفّين وأوما للعبيد بالانصراف فانصرفوا، واستدعى
كتامة والأتراك ووجوه المصريّين واعتذر إليهم، وحلف أنه برىء مما فعله
العبيد؛ وكذب في يمينه؛ فقبّلوا الأرض بين يديه وشكروه، وسألوه الأمان
لأهل مصر، فكتب لهم، وقرئ الأمان على المنابر، وسكنت الفتنة وفتح الناس
أسواقهم وراجعوا معايشهم. واحترق من مصر مقدار ثلثها، ونهب نصفها.
وتتبّع المصريّون من أخذ أزواجهم وبناتهم وأخواتهم، وابتاعوهنّ من
العبيد بعد أن فضحوهنّ، وقتل بعضهنّ نفوسهنّ خوفا من العار. واستغاث
قوم من العلوييّن الأشراف إلى الحاكم، وذكروا أنّ بعض بناتهم في أيدى
العبيد على أسوأ حال، وسألوه أن يستخلصهنّ؛ فقال الحاكم: [انظروا «3» ]
ما يطالبونكم به عنهنّ لأطلقه لكم؛
(4/182)
فقال له بعضهم: أراك الله في أهلك وولدك
مثل ما رأينا في أهلنا وأولادنا، فقد اطّرحت الدّيانة والمروءة بأن
رضيت لبنات عمّك بمثل هذه الفضيحة، ولم يلحقك منهنّ امتعاض «1» ولا
غيرة. فحلم عنه الحاكم وقال له: أنت أيها الشريف محرج «2» ونحن حقيقون
باحتمالك وإلا غضبنا عليك وزاد الأمر على الناس فيما يفجؤهم به حالا
بعد حال من كلّ ما تنخرق به العادات وتفسد الطاعات.
ثم عنّ له أن يدّعى الرّبوبيّة، وقرّب رجلا يعرف بالأخرم ساعده على
ذلك؛ وضمّ إليه طائفة بسطهم للأفعال الخارجة عن الدّيانة. فلمّا كان في
بعض الأيام خرج الأخرم من القاهرة راكبا في خمسين رجلا من أصحابه، وقصد
مصر ودخل الجامع راكبا دابّته، ومعه أصحابه على دوابّهم وقاضى القضاة
ابن [أبى «3» ] العوّام جالس فيه ينظر في الحكم، فنهبوا الناس وسلبوهم
ثيابهم وسلّموا للقاضى رقعة فيها فتوى، وقد صدّرت باسم الحاكم الرّحمن
الرّحيم. فلمّا قرأها القاضى رفع صوته منكرا، واسترجع وثار الناس
بالأخرم وقتلوا أصحابه وهرب هو. وشاع الحديث فى دعواه الرّبوبيّة،
وتقرّب إليه جماعة من الجهّال، فكانوا إذا لقوه قالوا: السلام عليك يا
واحد يا أحد يا محيى يا مميت، وصارت له دعاة يدعون أوباش الناس، ومن
سخف عقله إلى اعتقاد ذلك، فمال إليه خلق [كثير «4» ] طمعا في الدنيا
والتقرّب اليه. وكان اليهودىّ والنّصرانىّ إذا لقيه يقول: إلهى قد رغبت
في شريعتى الأولى، فيقول الحاكم: افعل ما بدا لك، فيرتدّ عن الإسلام.
وزاد هذا الأمر بالناس.
(4/183)
وقال الشيخ شمس الدين في تاريخه مرآة
الزمان: «رأيت في بعض التواريخ بمصر أنّ رجلا يعرف بالدّرزىّ «1» قدم
مصر، وكان من الباطنيّة القائلين بالتناسخ؛ فاجتمع بالحاكم وساعده على
ادّعاء الربوبيّة وصنّف له كتابا ذكر فيه أنّ روح آدم عليه السلام
انتقلت إلى علىّ بن أبى طالب، وأن روح علىّ انتقلت الى أبى الحاكم، ثمّ
انتقلت إلى الحاكم. فنفق «2» على الحاكم وقرّبه وفوّض الأمور إليه،
وبلغ منه أعلى المراتب، بحيث إنّ الوزراء والقوّاد والعلماء «3» كانوا
يقفون على بابه ولا ينقضى لهم شغل إلّا على يده. وكان قصد الحاكم
الانقياد الى الدرزى المذكور فيطيعونه.
فأظهر الدّرزىّ الكتاب الذي فعله وقرأه بجامع القاهرة؛ فثار الناس عليه
وقصدوا قتله، فهرب منهم؛ وأنكر الحاكم أمره خوفا من الرعيّة، وبعث إليه
في السرّ مالا، وقال: اخرج إلى الشام وانشر الدعوة في الجبال، فإنّ
أهلها سريعو الانقياد.
فخرج الى الشام، ونزل بوادى تيم الله بن ثعلبة، غربىّ دمشق من أعمال
بانياس «4» ، فقرأ الكتاب على أهله، واستمالهم إلى الحاكم وأعطاهم
المال، وقرّر في نفوسهم الدّرزىّ التناسخ، وأباح لهم شرب الخمر والزناء
وأخذ مال من خالفهم في عقائدهم وإباحة دمه؛ وأقام عندهم يبيح [لهم «5»
] المحظورات إلى أن انتهى «6» » .
وقال الذهبىّ: «وكان يحبّ العزلة- يعنى الحاكم- ويركب على بهيمة وحده
في الأسواق، ويقيم الحسبة بنفسه، وكان خبيث الاعتقاد، مضطرب العقل.
يقال: إنّه أراد أن يدّعى الإلهية وشرع في ذلك؛ فكلّمه أعيان دولته
وخوّفوه،
(4/184)
بخروج الناس كلّهم عليه فانتهى. [واتّفق
«1» أنّه خرج ليلة في شوّال سنة إحدى عشرة] من القصر إلى ظاهر القاهرة،
فطاف ليلته كلّها، ثم أصبح فتوجّه إلى شرقىّ حلوان ومعه ركابيّان «2» ،
فردّ أحدهما مع تسعة من العرب السّويديين «3» ، ثم أمر الآخر
بالانصراف. فذكر أنه فارقه عند قبر الفقاعىّ «4» ، فكان آخر العهد به
(يعنى الحاكم) » انتهى كلام الذهبىّ.
ونذكر أمر موته بأطول من هذا من طرق عديدة.
قال ابن الصابئ وغيره: «إنّ الحاكم لمّا بدت عنه هذه الأمور الشنيعة
استوحش الناس منه. وكان له أخت يقال لها ستّ الملك، من أعقل النساء
وأحزمهنّ، فكانت تنهاه وتقول: يا أخى، احذر أن يكون خراب هذا البيت على
يديك.
فكان يسمعها غليظ الكلام ويتهدّدها بالقتل. وبعث إليها يقول: رفع إلىّ
أصحاب الأخبار أنّك تدخلين الرجال إليك وتمكّنينهم من نفسك، وعمل «5»
على إنفاذ القوابل لاستبرائها، فعلمت أنّها هالكة معه. وكان بمصر سيف
الدولة بن دوّاس «6» من شيوخ كتامة، وكان شديد الحذر من الحاكم،
وممتنعا من دخول قصره ولقائه إلّا في المواكب على ظهر فرسه، واستدعاه
الحاكم مرّة إلى قصره فامتنع.
(4/185)
فلمّا كان يوم الموكب عاتبه الحاكم على
تأخّره، فقال له سيف الدولة المذكور: قد خدمت أباك ولى عليكم حقوق
كثيرة يجب لمثلها المراعاة، وقد قام في نفسى أنّك قاتلى، فأنا مجتهد في
دفعك بغاية جهدى، وليس لك حاجة إلى حضورى في قصرك، فإن كان باطن رأيك
في مثل ظاهره فدعنى على حالى، فإنّه لا ضرر عليك في تأخّرى عن حضور
قصرك. وإن كنت تريد بى سوءا فلأن تقتلنى في دارى بين أهلى وولدى
يكفّنوننى ويتولّوننى أحبّ إلىّ من أن تقتلنى في قصرك وتطرحنى تأكل
الكلاب لحمى؛ فضحك الحاكم وأمسك عنه. وراسلت ستّ الملك أخت الحاكم ابن
دوّاس هذا مع بعض خدمها وخوّاصها، وهى تقول له: لى إليك أمر لا بدّ لى
فيه من الاجتماع بك؛ فإمّا تنكّرت وجئتنى ليلا، أو فعلت أنا ذلك. فقال:
أنا عبدك والأمر لك. فتوجّهت إليه ليلا في داره متنكرة؛ ولم تصحب معها
أحدا.
فلمّا دخلت عليه قام وقبّل الأرض بين يديها دفعات ووقف في الخدمة،
فأمرته بالجلوس، وأخلى المكان. فقالت: يا سيف الدولة. قد جئت في أمر
أحرس به نفسى ونفسك والمسلمين، ولك فيه الحظّ الأوفر، وأريد مساعدتك
فيه؛ فقال:
أنا عبدك. فاستحلفته واستوثقت منه، وقالت له: أنت تعلم ما يقصده أخى
فيك، وأنّه متى تمكّن منك لم يبق عليك، وكذا أنا، ونحن على خطر عظيم.
وقد انضاف [إلى «1» ] ذلك [تظاهره «2» ] بادّعائه الإلهية وهتكه ناموس
الشريعة وناموس آبائه؛ وقد زاد جنونه. وأنا خائفة أن يثور المسلمون
عليه فيقتلوه ويقتلونا معه، وتنقضى هذه الدولة أقبح انقضاء. فقال سيف
الدولة: صدقت يا مولاتنا، فما الرأى؟
قالت: قتله ونستريح منه، فإذا تمّ لنا ذلك أقمنا ولده موضعه وبذلنا
الأموال؛ وكنت أنت صاحب جيشه ومدبّره، وشيخ الدولة والقائم بأمره؛ وأنا
امرأة من
(4/186)
وراء حجاب، وليس غرضى إلّا السلامة منه،
وأنى أعيش بينكم آمنة من الفضيحة.
ثم أقطعته إقطاعات كثيرة، ووعدته بالأموال والخلع والمراكب [السنية «1»
] . فقال لها عند ذلك: مرى بأمرك؛ قالت: أريد عبدين من عبيدك تثق بهما
في سرّك، وتعتمد عليهما في مهمّاتك. فأحضر عبدين ووصفهما بالشهامة؛
فاستحلفتهما ووهبتهما ألف دينار، ووقّعت لهما بثياب وإقطاعات وخيل وغير
ذلك، وقالت لهما: أريد منكما أن تصعدا غدا إلى الجبل، فإنّها نوبة
الحاكم في الركوب، وهو ينفرد ولا يبقى معه غير القرافىّ الرّكابىّ،
وربّما ردّه، ويدخل الشّعب وينفرد بنفسه؛ فاخرجا عليه فاقتلاه واقتلا
القرافىّ والصبىّ إن كانا معه؛ وأعطتهما سكّينين من عمل المغاربة تسمى
[الواحدة «2» منهما:] " يافورت" ولهما رأس كرأس المبضع الذي يفصد به
الحجّام، ورجعت إلى القصر وقد أحكمت الأمر وأتقنته. وكان الحاكم [ينظر
«3» فى النجوم فنظر مولده وكان] قد حكم عليه بالقطع في هذا الوقت، فإن
تجاوزه عاش نيّفا وثمانين سنة. وكان الحاكم لا يترك الركوب بالليل وطوف
القاهرة. فلما كان تلك الليلة قال لوالدته: علىّ في هذه الليلة وفي غد
قطع عظيم، والدليل عليه علامة تظهر في السماء طلوع «4» نجم سمّاه،
وكأنى بك وقد انتهكت وهلكت مع أختى، فإنّى ما أخاف عليك أضرّ منها.
فتسلّمى هذا المفتاح فهو لهذه الخزانة، وفيها صناديق تشتمل على ثلثمائة
ألف دينار، خذيها وحوّليها إلى قصرك تكون ذخيرة لك. فقبّلت الأرض
وقالت: إذا كنت تتصور هذا فارحمنى واقض حقّى ودع ركوبك الليلة، وكان
يحبّها، فقال: أفعل، ولم يزل يتشاغل حتّى مضى صدر
(4/187)
من الليل، وكان له قوم ينتظرونه كلّ ليلة
على باب القصر، فإذا ركب ركبوا معه ويتبعه أبو عروس صاحب العسس. ومن
رسمه أن يطوف كلّ ليلة حول القصر في ألف رجل بالطبول الخفاف والبوقات
البحرية. فإذا خرج الحاكم من باب القاهرة قال له: ارجع وأغلق الأبواب؛
فلا يفتحها حتّى يعود. وضجر الحاكم من تأخّره عن الركوب في تلك الليلة،
ونازعته نفسه إليه؛ فسألته أمّه وقالت: نم ساعة، فنام ثمّ انتبه وقد
بقى من الليل ثلثه، وهو ينفخ ويقول:
إن لم أركب الليلة وأتفرّج وإلّا خرجت روحى. ثمّ قام فركب حماره، وأخته
تراعى ما يكون من أمره، وكان قصرها مقابل قصره، فإذا ركب علمت. ولمّا
ركب سار في درب يقال له درب السباع «1» ، وردّ صاحب العسس ونسيما
الخادم صاحب السّتر والسيف، وخرج إلى القرافة ومعه القرافىّ الرّكابىّ
والصبىّ. فحكى أبو عروس صاحب العسس أنه لما صعد الجبل وقف على تلّ كبير
ونظر إلى النجوم وقال: إنّا لله وإنّا إليه راجعون! وضرب بيد على يد،
وقال: ظهرت يا مشئوم «2» ! ثمّ سار في الجبل، فعارضه عشرة فوارس من بنى
قرّة، وقالوا: قد طال مقامنا على الباب، وبنا من الفاقة والحاجة ما
نسأل معه حسن النظر والإحسان؛ فأمر الحاكم القرافىّ أن يحملهم إلى صاحب
بيت المال ويأمره أن يعطيهم عشرة آلاف درهم؛ فقالوا له: لعلّ مولانا
ينكر تعرّضنا له في هذا المكان فيأمر بنا بمكروه، ونحن نريد الأمان قبل
الإحسان، فما وقفنا إلّا من الحاجة؛ فأعطاهم الأمان وردّ القرافىّ
معهم؛ وبقى هو والصبىّ، فسار إلى الشّعب الذي جرت عادته بدخوله،
(4/188)
وقد كمن العبدان الأسودان له، وقد قرب
الصّباح، فوثبا عليه وطرحاه إلى الأرض، فصاح: ويلكما! ما تريدان؟ فقطعا
يديه من رأس كتفيه، وشقّا جوفه وأخرجا ما فيه، ولفاه في كساء، وقتلا
الصبىّ، وحملا الحاكم إلى ابن دوّاس بعد أن عرقبا الحمار؛ فحمله ابن
دوّاس مع العبدين إلى أخته ستّ الملك، فدفنته في مجلسها وكتمت أمره،
وأطلقت لابن دوّاس والعبدين مالا كثيرا وثيابا. وأحضرت خطير «1» الملك
الوزير وعرّفته الحال، واستكتمته واستحلفته على الطاعة والوفاء، ورسمت
له بمكاتبة ولىّ العهد، وكان مقيما بدمشق نيابة عن الحاكم، بأن يحضر
إلى الباب، فكتب إليه بذلك. وأنفذت علىّ بن داود أحد القوّاد إلى
الفرما (وهى مدينة على ساحل البحر) فقالت له: إذا دخل ولىّ العهد فاقبض
عليه، واحمله إلى تنيس، وقيل غير ذلك، كما سيأتى ذكره. ثمّ كتبت إلى
عامل تنيّس عن الحاكم بإنفاذ ما عنده من المال، فأنفذه وهو ألف ألف
دينار وألف ألف درهم، خراج ثلاث سنين.
وجاء ولىّ العهد إلى الفرما، فقبض عليه وحمل إلى تنّيس. وفقد الناس
الحاكم فى اليوم الثانى، ومنع أبو عروس من فتح أبواب القاهرة انتظارا
للحاكم، على حسب ما أمره به. ثمّ خرج الناس في اليوم الثالث إلى
الصحراء وقصدوا الجبل فلم يقفوا له على أثر. وأرسل القوّاد إلى أخته
وسألوها عنه؛ فقالت: ذكر لى أنّه يغيب سبعة أيام، وما هنا إلّا الخير،
فأنصرفوا على سكون وطمانينة. ولم تزل أخته في هذه الأيّام ترتّب الأمور
وتفرّق الأموال وتستحلف الجند؛ ثمّ بعثت إلى ابن دوّاس المذكور وأمرته
أن يستحلف الناس لابن الحاكم كتامة وغيرها، ففعل ذلك. فلمّا كان
(4/189)
فى اليوم السابع ألبست أبا الحسن علىّ بن
الحاكم أفخر الملابس واستدعت ابن دوّاس وقالت له: المعوّل في قيام هذه
الدولة عليك، وتدبيرها موكل إليك، وهذا الصبىّ ولدك، فابذل في خدمته
وسعك؛ فقبّل الأرض ووعدها بالطاعة. ووضعت التاج على رأس الصبىّ، وهو
تاج عظيم فيه من الجواهر مالا يوجد في خزانة خليفة، وهو تاج المعزّ جدّ
أبيه، وأركبته مركبا من مراكب الخليفة، وخرج بين يديه الوزير وأرباب
الدولة. فلمّا صار إلى باب القصر صاح خطير الملك الوزير: يا عبيد
الدولة، مولاتنا السيدة تقول لكم هذا مولاكم فسلّموا عليه؛ فقبّلوا
الأرض بأجمعهم، وارتفعت الأصوات بالتكبير والتهليل، ولقّبوه الظاهر
لإعزاز دين الله، وأقبل الناس أفواجا فبايعوه، وأطلق المال وفرح الناس
وأقيم العزاء على الحاكم ثلاثة أيّام.
وقال القضاعىّ في قتله وجها آخر، قال: «خرج الحاكم إلى الجبل المعروف
بالمقطم ليلة الاثنين السابع والعشرين من شوّال هذه السنة (يعنى سنة
إحدى عشرة وأربعمائة) فطاف ليلته كلّها، وأصبح عند قبر الفقّاعىّ، ثمّ
توجه شرقىّ حلوان: موضع بالمقطم، ومعه ركابيّان؛ فردّ أحدهما مع تسعة
نفر من العرب، كانت لهم رسوم، ويقال لهم السّويديّون، إلى بيت المال
وأمر لهم بجائزة، ثمّ عاد الرّكابىّ الآخر؛ وذكر أنّه فارقه عند قبر
الفقّاعىّ والقصبة «1» ، وأصبح الناس على وسمهم؛ فخرجوا ومعهم الموكب
«2» والقضاة والأشراف والقوّاد فأقاموا عند الجبل إلى آخر النهار، ثمّ
رجعوا إلى القاهرة ثمّ عادوا؛ ففعلوا ذلك ثلاثة أيام. فلمّا كان يوم
الخميس سلخ شوّال خرج مظفّر صاحب المظلّة ونسيم صاحب السّتر و [ابن «3»
]
(4/190)
مسكين صاحب الرّمح وجماعة من الأولياء
الكتاميّين والأتراك والقضاة والعدول وأرباب الدولة، فبلغوا دير القصير
«1» (المكان المعروف بحلوان) ، وأمعنوا في الجبل؛ فبينما هم كذلك بصروا
بالحمار الذي كان راكبه على قرن الجبل قد ضربت يداه بسيف فقطعتا، وعليه
سرجه ولجامه، فتتّبعوا الأثر فإذا أثر راجل خلف أثر الحمار، وأثر راجل
قدّامه فقصّوا [الأثر «2» ] حتّى أتوا إلى البركة التى شرقىّ حلوان؛
فنزلها بعض الرجالة فوجد فيها ثيابه، وهى سبع جباب مزرّرة لم تحلّ
أزرارها، وفيها أثر السكاكين فتيقّنوا قتله. وكان عمره ستا وثلاثين سنة
وسبعة أشهر، وولايته على مصر خمسا وعشرين سنة وشهرا واحدا.
قال ابن خلكان بعد ما ذكر قتلته بنحو ما ذكرناه هنا: «مع أنّ جماعة من
الغالين في حبّهم السّخيفى العقول يظنّون حياته، وأنه لا بدّ أن يظهر،
ويحلفون بغيبة الحاكم، وتلك خيالات هذيانية» . انتهى.
قال القضاعىّ بعد ما ساق سبب قتله بنحو ما ذكرناه إلى أن قال: «ثمّ
أمرت ستّ الملك بخلع عظيمة ومال كثير ومراكب ذهب وفضة للأعيان، وأمرت
ابن دوّاس أن يشاهدها في الخزانة، وقالت له: غدا نخلع عليك، فقبّل ابن
دوّاس الأرض وفرح وأصبح من الغد، فجلس عند الستر ينتظر الإذن حتّى يأمر
وينهى؛ وكان للحاكم مائة عبد يختصّون بركابه، ويحملون السيوف بين يديه،
ويقتلون من
(4/191)
يأمرهم بقتله، فبعثت بهم ستّ الملك إلى ابن
دوّاس ليكونوا في خدمته، فجاءوا فى هذا اليوم ووقفوا بين يديه، فقالت
ستّ الملك لنسيم صاحب السّتر: اخرج قف بين يدى ابن دوّاس، وقل للعبيد:
يا عبيد، مولاتنا تقول لكم هذا قاتل مولانا الحاكم فاقتلوه، فخرج نسيم
فقال لهم ذلك فمالوا على ابن دوّاس بالسيوف فقطّعوه، وقتلوا العبدين
اللذين قتلا الحاكم؛ وكلّ من اطلع على سرّها قتلته، فقامت لها الهيبة
فى قلوب الناس» . انتهى كلام القضاعى.
وقال ابن الصابئ: لما قتلت ستّ الملك ابن دوّاس قتلت الوزير الخطير ومن
كانت تخاف منه ممّن عرف بأمرها.
وأمّا ما خلّفه الحاكم من المال فشىء كثير. قيل: إنّه ورد عليه أيّام
خلافته رسول ملك الرّوم، فأمر الحاكم بزينة القصر. قالت السّيدة رشيدة
عمّة الحاكم:
فأخرج أعدالا مكتوبا على بعضها: الحادى والثلاثون والثلاثمائة، وكان في
الأعدال الديباج المغرّز بالذهب، فأخرج ذلك وفرش الإيوان وعلّق في
حيطانه حتّى صار الإيوان يتلألأ بالذّهب، وعلّق في صدره العسجدة، وهى
درقة من ذهب مكلّلة بفاخر الجوهر يضيء لها ما حولها، إذا وقعت عليها
الشمس لا تطبق العيون النظر إليها. وأيضا ممّا يدلّ على كثرة ماله ما
خلّفته ابنته ستّ مصر بعد موتها، فخلّفت شيئا كثيرا يطول الشرح في
ذكره، من ذلك ثمانية آلاف جارية- قاله المقريزى وغيره- ونيّف وثمانون
زيرا صينيّا مملوءة «1» جميعا مسكا؛ ووجد لها جوهر نفيس، من جملته قطعة
ياقوت زنتها عشرة مثاقيل. وكان إقطاعها في السنة خمسين ألف دينار،
وكانت مع ذلك كريمة سمحة، والشيء بالشيء يذكر.
(4/192)
وماتت في أيّام الحاكم عمّته السيدة رشيدة
بنت المعزّ؛ فخلّفت ما قيمته ألف ألف وسبعمائة ألف دينار؛ ومن جملة ما
وجد لها في خزائن كسوتها ثلاثون ألف ثوب خزّ، واثنا عشر ألفا من للثياب
المصمتة ألوانا «1» ، ومائة قطرميز «2» مملوءة كافورا، وكانت مع ذلك
ديّنة تأكل من غزلها لا من مال السلطان. وماتت أختها عبدة بنت المعزّ
بعدها بثلاثة أيّام، وكانتا قد ولدتا برقّادة من عمل القيروان.
وتركت أيضا عبدة المذكورة مالا يحصى، من ذلك: أنّه ختم على موجودها
بأربعين رطل شمع مصريّة «3» ؛ ومن جملة «4» ما وجد لها ألف وثلثمائة
[قطعة «5» ] مينا فضة، زنة كلّ مينا عشرة آلاف درهم، وأربعمائة سيف
محلّى بذهب، وثلاثون ألف شقّة صقليّة، ومن الجوهر «6» اردبّ زمرّد؛
وكانت لا تأكل عمرها إلّا الثريد. وقد خرجنا عن المقصود ونعود إلى ما
يتعلق بالحاكم وأسبابه.
وأمّا ولىّ العهد الذي كان بدمشق وكتبت بحضوره فاسمه الياس، وقيل:
عبد الرّحيم، وقيل: عبد الرّحمن بن أحمد؛ وكنيته أبو القاسم ويلقّب
بالمهدىّ، ولّاه الحاكم العهد سنة أربع وأربعمائة. وقد قدّمنا من ذكره
أنه كان وصل إلى تنّيس، وقبض عليه صاحب تنّيس، وبعث به إلى ستّ الملك،
فحبسته في دار وأقامت له الإقامات، ووكلت بخدمته خواصّ خدمها، وواصلته
بالملاطفات والافتقادات فلمّا مرضت ويئست من نفسها أحضرت الظاهر لإعزاز
دين الله (أعنى ابن
(4/193)
أخيها الحاكم) وقالت له: قد علمت ما عاملتك
به، وأقلّه حراسة نفسك من أبيك، فإنّه لو تمكّن منك لقتلك، وما تركت لك
أحدا تخافه إلّا ولىّ العهد؛ فبكى بين يديها هو ووالدته؛ وسلّمت إليهما
مفاتيح الخزائن، وأوصتهما بما أرادت.
وقالت لمعضاد الخادم: امض إلى ولىّ العهد وتفقّد خدمته، فإذا دخلت عليه
فانكبّ كأنّك تسائله بعد أن توافق الخدم على ضربه بالسكاكين؛ فمضى إليه
معضاد فقتله ودفنه وعاد فأخبرها، فأقامت بعد ذلك ثلاثة أيام وماتت.
وتولّى أمر الدولة معضاد الخادم المذكور ورجل آخر علوىّ من أهل قزوين
وآخرون.
وذكر القضاعىّ في قصّة ولىّ العهد شيئا غير ذلك، قال: إن ستّ الملك
لمّا كتبت إلى دمشق بحمل ولىّ العهد إلى مصر لم يلتفت إلى ذلك؛ واستولى
على دمشق، ورخّص للناس ما كان الحاكم حظره عليهم من شرب الخمر، وسماع
الملاهى، فأحبّه أهل دمشق. وكان بخيلا ظالما، فشرع في جمع المال
ومصادرة الناس، فأبغضه الجند وأهل البلد. فكتبت أخت الحاكم إلى الجند
فتتبّعوه حتّى مسكوه وبعثوا به مقيّدا إلى مصر، فحبس في القصر مكرما،
فأقام مدّة. وحمل إليه يوما بطّيخ ومعه سكّين فأدخلها «1» فى سرّته حتى
غابت. وبلغ ابن عمّه الظاهر بن الحاكم فبعث إليه القضاة والشهود؛ فلمّا
دخلوا عليه اعترف أنّه الذي فعل ذلك بنفسه. وحضر الطبيب فوجد طرف
السكين ظاهرا، فقال لهم: لم تصادف مقتلا. فلمّا سمع ولىّ العهد ذلك وضع
يده عليها، فغيّبها في جوفه فمات.
وقال ابن الصابئ: «وكان على حلب عند هلاك الحاكم عزيز الدولة فاتك
الوحيدىّ، وقد استفحل أمره وعظم شأنه وحدّث نفسه بالعصيان؛ فلاطفته
(4/194)
ستّ الملك وراسلته وآنسته، وبعثت إليه
بالخلع والخيل بمراكب الذهب وغيرها، ولم تزل تعمل عليه [الحيل «1» ]
حتّى أفسدت غلاما له يقال له بدر، وكان مالك أمره، وغلمانه تحت يده،
وبذلت له العطاء الجزيل، [على الفتك به، ووعدته أن تولّيه مكانه «2» ]
. وكان لفاتك غلام هندىّ يهواه، فاستغواه بدر المذكور وقال:
قد عرفت من مولاك ملالك، وتغيّر نيّته فيك، وعزم على قتلك، ودافعته عنك
دفعات، وأنا أخاف عليك. ثم تركه بدر أياما، ووهب له دنانير وثيابا؛ ثم
أظهر له المحبّة وقال: إن علم بنا الأمير قتلنا؛ فقال الهندىّ: فما
أفعل؟ فاستحلفه بدر واستوثق منه، وقال: إن قبلت ما أقول أعطيتك مالا
وأغنيتك وعشنا جميعا فى أطيب عيش. قال: فما تريد؟ قال: تقتله ونستريح
منه؛ فأجابه وقال: الليلة يشرب وأنا أسقيه وأميل عليه، فإذا سكر
فأقتله. وجلس فاتك المذكور على الشّرب، فلمّا قام إلى مرقده حمل
الهندىّ سيفه، وكان ماضيا، ثمّ دخل في اللّحاف وبدر على باب المجلس
واقف. فلمّا ثقل فاتك في نومه غمز بدر الهندىّ فضربه بالسيف فقطع رأسه؛
فصاح بدر واستدعى الغلمان وأمرهم بقتل الهندىّ فقتلوه. واستولى بدر على
القلعة وما فيها؛ وكتب إلى أخت الحاكم بما جرى؛ فأظهرت الوجد على فاتك
فى الظاهر، وشكرت بدرا في الباطن على ما كان منه من حفظ الخزائن، وبعثت
إليه بالخلع، ووهبت له جميع ما خلّفه مولاه، وقلّدته موضعه. ونظرت ستّ
الملك في أمور الدولة بعد قتل الحاكم أربع سنين، أعادت الملك فيها الى
غضارته، وعمّرت الخزائن بالأموال، واصطنعت الرجال. ثم اعتلّت علّة
لحقها فيها ذرب فماتت منه.
وكانت عارفة مدبّرة غزيرة العقل» . وقد خرجنا عن المقصود على سبيل
الاستطراد.
(4/195)
وكانت وفاة الحاكم ليلة الثلاثاء لليلتين
بقيتا من شوّال سنة إحدى عشرة وأربعمائة، وكان فيه كسوف الشمس. وكانت
مدّة عمره ستا وثلاثين سنة وسبعة أشهر، وقيل: سبعا وثلاثين سنة. وكانت
ولايته على مصر خمسا وعشرين سنة وشهرا واحدا، قاله القضاعىّ. وتولّى
الملك من بعده ابنه الظاهر لإعزاز دين الله علىّ بن الحاكم، وقام
بتدبير مملكته عمته ستّ الملك المقدّم ذكرها إلى أن ماتت، حسب ما
ذكرناه.
انتهت ترجمة الحاكم. ونذكر أيضا من أحواله نبذة كبيرة في الحوادث
المتعلّقة بأيّامه مرتبة على السنين، فيها عجائب وغرائب. وأمّا ما ينسب
إليه من الشعر- وقيل: هو للآمر العبيدىّ الآتى ذكره- فهو قوله:
دع اللّوم عنّى لست منّى بموثق ... فلا بدّ لى من صدمة المتحنّق
وأسقى جيادى من فرات ودجلة ... وأجمع شمل الدّين بعد التفرّق
***
[ما وقع من الحوادث سنة 387]
السنة الأولى من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة سبع وثمانين
وثلثمائة.
فيها استولى الحاكم صاحب الترجمة خليفة مصر على السواحل والشامات.
وفيها حجّ بالناس أبو عبد الله العلوىّ.
وفيها توفّى الحسن بن عبد الله بن سعيد أبو أحمد العسكرىّ العلّامة
الرّاوية، صاحب التصانيف الحسان في اللغة والأدب والأمثال.
وفيها توفّى الحسن بن مروان أبو علىّ الكردىّ الأمير صاحب ميّافارقين.
قد ذكرنا مبدأ «1» أمره وكيف تغلّب على ديار بكر وملك حصونها. مات
قتيلا على باب آمد.
(4/196)
وفيها توفّى صندل الخادم مولى بهاء الدولة
وصاحب خيله (أعنى أمير اخوره «1» ) وقام الأمير أبو المسك عنبر مقامه.
وفيها توفّى السلطان فخر الدولة أبو الحسن علىّ ابن السلطان ركن الدولة
الحسن ابن بويه بن فنّاخسرو الديلمىّ، مات بالرىّ، وكان ابن أخيه بهاء
الدولة بواسط، فجلس للعزاء وجلس ابنه أبو منصور ببغداد. وقيل: إنّ فخر
الدولة سمّ وسمّ ولداه من بعده فمات الكلّ في هذه السنة؛ فملك أبو
الحسن «2» قابوس بن وشمكير من بعده طبرستان وجرجان؛ فإنّهما كانا في
مملكته، وأخذهما منه مؤيّد الدولة أخو فخر الدولة هذا المقدّم ذكره.
وكان فخر الدولة شجاعا، لقّبه الخليفة الطائع ب" ملك الأمّة" أو ب" فلك
الأمّة". وكانت وفاته في عاشر شعبان، وله ستّ وأربعون سنة وخمسة أيّام.
وكانت مدّة ملكه ثلاث عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة وعشرين يوما.
وخلّف مالا كثيرا.
قال ابن الصابئ بعد ما عدّد ما خلّفه من المتاع وغيره، قال: «وخلّف
ألفى ألف وثمانمائة ألف وخمسة وسبعين ألفا ومائتين وأربعة وثمانين
دينارا، ومن الورق والنّقرة «3» والفضّة مائة ألف ألف وثمانمائة ألف
وستين ألفا وسبعمائة وتسعين درهما، ومن الجواهر واليواقيت الحمر
والصّفر والحلىّ واللؤلؤ والبلخش «4» والماس وغيره أربعة عشر ألفا
وخمسمائة وعشرين قطعة، قيمتها ثلاثة آلاف ألف دينار، ومن أوانى الذهب
«5» ما وزنه ثلاثة آلاف ألف دينار، ومن البلّور والصينى ونحوه
(4/197)
ثلاثة آلاف، ومن السلاح والثّياب والفرش
ثلاثة آلاف حمل» . وقيل: إنّه خلّف من الخيل والبغال والجمال ثلاثين
ألف رأس، ومن الغلمان والمماليك خمسة آلاف، ومن السّرارى خمسمائة؛ ومن
الخيام عشرة آلاف خيمة. وكان شحيحا.
كانت مفاتيح خزائنه في الكيس الحديد مسمّرا بالمسامير لا يفارقه. وملك
بعده آبنه أبو طالب رستم وعمره أربع سنين.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن إسماعيل بن عنبس أبو الحسين البغدادىّ
الواعظ، ويعرف بابن سمعون «1» ، وكان يسمّى الناطق بالحكمة. قال أبو
عبد الرّحمن السّلمىّ: هو من مشايخ بغداد، له لسان عال في العلوم، لا
ينتمى إلى أستاذ، وهو لسان الوقت المرجوع إليه في آداب «2» المعاملات.
وفيها توفّى نوح بن منصور بن نوح أبو القاسم السّامانىّ. كان هو وآباؤه
من ملوك ما وراء النهر وسمرقند. وولى نوح هذا وله ثلاث عشرة سنة،
وتعصّب له عضد الدولة بن بويه، وأخذ له من الخليفة الطائع العهد على
خراسان والخلع؛ فأقام على خراسان إحدى وعشرين سنة، ومات في شهر رجب.
وفيها توفّى صمصام الدولة المرزبان، وكنيته أبو كاليجار بن عضد الدولة
بن بويه بن ركن الدولة الحسن بن بويه الديلمىّ. ولى المملكة بعد موت
أبيه عضد الدولة، فلم ينجح أمره، وغلب عليه أخوه شرف الدولة وقهره
وحبسه وأخذ بغداد منه وأكحله. فدام في الحبس إلى أن مات أخوه شرف
الدولة، ونزل من الحبس وهو أعمى. وانضمّ إليه الناس، وسار إلى فارس
وملك شيراز. ووقع له
(4/198)
أمور مع أولاد أخيه وحروب. وأقام بشيراز
إلى أن قتل بها في هذه السنة؛ وقيل:
فى السنة الآتية، وهو الأصحّ.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وإصبع واحدة.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 388]
السنة الثانية من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة ثمان وثمانين
وثلثمائة.
فيها توفّى محمد «1» بن أحمد بن إبراهيم أبو الفرج المقرئ الشّنّبوذىّ،
مولده في سنة ثلثمائة. كان يقول: أحفظ خمسين ألف بيت من الشعر من شواهد
القرآن.
ومات ببغداد، وبها كان مولده.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن إبراهيم بن خطّاب الإمام أبو سليمان
الخطّابىّ البستىّ، الفقيه الأديب، مصنّف كتاب" معالم السنن" وكتاب"
غريب الحديث" وكتاب" شرح أسماء الله الحسنى" وكتاب" الغنية" «2» عن
الكلام وأهله" وكتاب" العزلة" وغير ذلك.
وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن محمد بن زكريّاء الحافظ أبو بكر
الشّيبانىّ الجوزقى المعدّل، شيخ نيسابور ومحدّثها وابن أخت محدّثها
أبى إسحاق إبراهيم بن محمد- وجوزق: من قرى نيسابور- كان حافظا إماما،
صنّف" المسند الصحيح" على كتاب مسلم. ومات في شوّال عن اثنتين وثمانين
سنة.
(4/199)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث
أذرع واثنتا عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وسبع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 389]
السنة الثالثة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة تسع وثمانين
وثلثمائة.
فيها حجّ بالناس محمد بن محمد بن عمر من العراق وكان في الحجّ
الشريفان: الرضىّ والمرتضى؛ فاعترض ركب الحاجّ أبو الجرّاح الطائىّ،
فأعطياه تسعة آلاف دينار من أموالهما حتى أطلق الحاجّ.
وفيها استولى الأمير أبو القاسم محمود بن سبكتكين على أعمال خراسان بعد
أن هزم الأمير عبد «1» الملك بن نوح السّامانىّ، وأزال السامانيّة
منها؛ وأقام الدعوة للخليفة القادر بعد أن كانت للطائع الذي خلع.
وفيها توفّى زاهر بن أحمد بن محمد بن عيسى أبو علىّ السّرخسىّ الفقيه
الشافعىّ المقرئ المحدّث. سمع الكثير وروى عنه غير واحد. ومات في شهر
ربيع الآخر وله ستّ وتسعون سنة.
وفيها توفّى عبد الله بن أبى زيد عبد الرّحمن الفقيه أبو محمد
القيروانىّ شيخ المالكيّة بالمغرب. جمع مذهب الإمام مالك رضى الله عنه
وشرح أقواله. وكان واسع العلم كثير الحفظ ذا صلاح وعفّة وورع. قال
القاضى عياض بن موسى بن عياض: حاز رياسة الدّين والدنيا، ورحل إليه من
الأمصار.
(4/200)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع
أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 390]
السنة الرابعة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة تسعين وثلثمائة.
فيها ظهر بسجستان معدن الذهب، فكانوا يصفّون»
من التراب الذهب الأحمر.
وفيها ولّى الحاكم صاحب مصر على نيابة الشام فحل بن تميم، فمرض ومات
بعد أشهر؛ فولّى الحاكم عوضه على دمشق علىّ بن جعفر بن فلاح.
وفيها حجّ بالناس من العراق أبو الحارث العلوىّ.
وفيها توفّى الحسين بن محمد بن خلف أبو عبد الله الفرّاء «2» والد
القاضى أبى يعلى.
كان إماما فقيها على مذهب الإمام الأعظم أبى حنيفة، وسمع الحديث وتفقّه
وبرع. ومات في شعبان ببغداد.
وفيها توفّى المعافى بن زكريّاء بن يحيى بن حميد بن حمّاد بن داود أبو
الفرج النّهروانىّ «3» ، ويعرف بابن طرارى «4» . ولد سنة ثلاث
وثلثمائة، وقيل: سنة خمس وثلثمائة. وكان إماما في النحو واللغة وأصناف
الآداب، وكان يتفقّه على مذهب محمد بن جرير الطبرىّ. وصنّف كتاب"
الجليس والأنيس". قال المعافى المذكور:
حججت فكنت بمنّى فسمعت مناديا ينادى: يا أبا الفرج؛ فقلت: لعلّه غيرى.
(4/201)
ثم نادى يا أبا الفرج المعافى؛ فهممت أن
أجيبه. ثم إنه رجع فنادى: يا أبا الفرج المعافى بن زكريّاء
النّهروانىّ؛ فقلت عند ذلك: هأنا: فما تريد؟ قال: لعلك من نهروان
الشرق؟ قلت نعم؛ قال: نحن نريد نهروان الغرب. قال: فعجبت من هذا
الاتفاق. قلت: وهذا من الغرائب كونه طابق اسمه واسم أبيه والكنية
والشهرة ويكون هذا من نهروان الشرق، وذاك من نهروان الغرب. وكانت وفائه
فى ذى الحجّة وله خمس وثمانون سنة.
وفيها توفّى ناجية بن محمد بن سليمان أبو الحسن الكاتب البغدادىّ، نادم
الخلفاء والأكابر، وكان شجاعا شاعرا فصيحا. ومن شعره قوله:
[الطويل]
ولمّا رأيت الصبح قد سلّ سيفه ... وولّى انهزاما ليله وكواكبه
ولاح احمرار قلت قد ذبح الدجى ... وهذا دم قد ضمّخ الافق ساكبه
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع وأربع عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وإصبعان.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 391]
السنة الخامسة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة إحدى وتسعين
وثلثمائة.
فيها جلس الخليفة القادر بأبّهة الخلافة، ودخل عليه الحجّاج بعد عودهم
من الحج والقضاة والأشراف؛ فأعلمهم أنه قد جعل الأمر في ولده أبى
الفضل، ولقّبه الغالب بأمر الله، وعمره ثمانى سنين وأربعة أشهر وأيام.
وفيها حجّ من العراق بالناس أبو الحارس محمد بن محمد بن عمر العلوىّ.
(4/202)
وفيها توفّى جعفر بن الفضل بن جعفر بن محمد
بن الفرات، الوزير المحدّث أبو الفضل المعروف بابن حنزابة «1» . كان
أبوه قد وزر للمقتدر سنة خلع. وسافر هو إلى مصر، وتقلّد الوزارة لكافور
الإخشيذىّ، وسمع الحديث بمصر ورواه، ومات بمصر.
وفيها توفّى المقلّد بن المسيّب بن رافع حسام الدولة أبو حسّان
العقيلىّ صاحب الموصل. كان أخوه أبو الذّوّاد «2» أوّل من تغلّب على
الموصل وملكها في سنة ثمانين وثلثمائة؛ وملك حسام الدولة هذا الموصل
بعده؛ وكان حسن التدبير، واتسعت مملكته. وأرسل إليه الخليفة القادر
اللّواء والخلع. وكان له شعر، وفيه رفض فاحش.
قتله غلام له تركىّ في صفر. قلت: لا شلّت يداه!. يقال: إنّه قتله لأنّه
سمعه يوصى رجلا من الحاجّ أن يسلّم على رسول الله صلى الله عليه وسلم
ويقول له:
لولا صاحباك لزرتك. وذكر الذهبىّ هذه الحكاية بإسناد إلى جماعة إلى أن
قال عن الرجل الذي قال له المقلّد هذا «3» بالسلام إنّه قال: فأتيت
المدينة ولم أقل ذلك إجلالا؛ فنمت فرأيت النّبيّ صلى الله عليه وسلم في
منامى، فقال: يا فلان لم لم تؤد الرسالة؟ فقلت: يا رسول الله أجللتك؛
فرفع رأسه إلى رجل قائم فقال له:
خذ هذا الموسى واذبحه به (يعنى المقلّد) . ثم رجعنا فوافينا العراق،
فسمعت أنّ الأمير المقلّد ذبح على فراشه ووجد الموسى عند رأسه؛ فذكرت
للناس الرؤيا فشاعت؛ فأحضرنى ابنه (يعنى ابن المقلد) الذي ولى بعده،
واسمه قرواش «4» ، فحدّثته؛ فقال:
أتعرف الموسى؟ فقلت نعم؛ فأحضر طبقا مملوءا مواسى فأخرجته منها؛ فقال:
(4/203)
صدقت، هذا وجدته عند رأسه وهو مذبوح. قلت:
هذا ما جوزى به في الدنيا، وأمّا في الأخرى فجهنّم وبئس المصير، هو
وكلّ من يعتقد معتقده إن شاء الله تعالى.
وفيها توفّى جيش بن محمد بن صمصامة أبو الفتوح القائد المغربىّ ابن أخت
أبى محمود الكتامى «1» أمير أمراء جيوش المغرب ومصر والشام، وتولّى
نيابة دمشق غير مرّة، وكان ظالما سفّاكا للدماء؛ ظلم الناس فاجتمع
الصلحاء والزّهاد ودعوا عليه، فسلّط الله عليه الجذام حتّى رأى في نفسه
العبر، ولم ينته حتّى أخذه الله.
وفيها توفّى الحسين بن أحمد بن الحجّاج أبو عبد الله الشاعر، كان من
أولاد العمّال والكتّاب ببغداد، وتولّى حسبة بغداد لعز الدولة بختيار
بن «2» بويه، فتشاغل بالشعر والسّخف والخلاعة عمّا هو بصدده. قلت: وابن
الحجّاج هذا يضرب به المثل في السخف والمداعبة والأهاجى. وغالب شعره في
الفحش والأهاجى والهزل؛ من ذلك قوله:
[المجتث]
المستعان بربّى ... من كسّ ستّى وزبّى
قد كلّفانى نيكا ... قد كاد يقصف صلبى
وقال ابن خلكان: الشاعر المشهور ذو المجون والخلاعة في شعره. كان فرد
زمانه في فنّه، فإنه لم يسبق إلى تلك الطريقة مع عذوبة ألفاظه وسلامة
شعره من التكلف؛ ومدح الملوك والأمراء والوزراء. وديوانه كبير أكثر ما
يوجد في عشرة مجلدات. والغالب عليه الهزل، وله في الجدّ أيضا. ويقال:
إنّه في الشعر [فى «3» ] درجة
(4/204)
امرئ القيس وإنه لم يكن بينهما مثلهما،
لأنّ كلّ واحد منهما مخترع طريقة. ولمّا مات رثاه الشريف الرضى. انتهى
كلام ابن خلّكان باختصار.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وإصبعان. مبلغ الزيادة
ستّ عشرة ذراعا وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 392]
السنة السادسة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة اثنتين وتسعين
وثلثمائة.
فيها في المحرّم غزا السلطان محمود بن سبكتكين الهند؛ فالتقاه صاحبها
الملك جيپال «1» ومعه ثلثمائة فيل؛ فنصر الله ابن سبكتكين وقتل من
الكفّار خمسة آلاف ومن الفيلة خمسة عشر فيلا.
وفيها ولّى الحاكم على دمشق أبا منصور ختكين القائد، فظلم وأساء
السّيرة.
وفيها توفّى عثمان بن جنّى العلّامة أبو الفتح النحوىّ اللغوىّ
الموصلىّ صاحب المصنّفات، منها" اللمع" و" [الكافى «2» فى] شرح
القوافى" و" المذكر والمؤنث" و" سرّ الصناعة" و" الخصائص" و" شرح
المتنبّى" وغير ذلك. وكان أبوه جنّى مملوكا روميّا لسليمان بن فهد بن
أحمد الأزدىّ الموصلىّ. وسكن ابن جنّى المذكور بغداد ودرّس بها وأقرأ
حتّى مات في صفر.
وفيها توفّى علىّ بن عبد العزيز أبو الحسن الجرجانى قاضى الرّى. سمع
«3» الحديث الكثير وترقّى في العلوم حتّى برع في الفقه والشعر والنحو
وغير ذلك من العلوم.
(4/205)
وفيها توفّى محمد بن محمد بن جعفر أبو بكر
القاضى الشافعىّ، ويعرف بابن الدّقّاق، صاحب الأصول، كان معدودا من
الفضلاء، مات ببغداد.
وفيها توفّى الوليد بن بكر بن مخلد «1» بن أبى زياد أبو العباس
الأندلسىّ، رحل فى طلب العلم إلى مصر والشام والعراق والحجاز وخراسان
وما وراء النهر، وسمع الكثير. وكان إماما عالما بالفقه والنحو والحديث
والأدب والشعر. ومن شعره قوله:
[المتقارب]
لأىّ بلائك لا تدّكر ... وماذا يضرّك لو تعتبر
فبان الشّباب وحلّ المشيب ... وحان الرحيل فما تنتظر
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ست أذرع وسبع أصابع. مبلغ
الزيادة سبع عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 393]
السنة السابعة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة ثلاث وتسعين
وثلثمائة.
فيها منع عميد الجيوش يوم عاشوراء من النّوح وتعليق المسوح ببغداد
وغيرها، ثم منع أهل السنة ممّا كانوا ابتدعوه أيضا في مقابلة الرافضة
من التوجّه إلى قبر مصعب بن الزّبير وغيره، وسكنت الفتنة لذلك.
(4/206)
وفي [شهر] ربيع الآخر منها أمر نائب دمشق
من قبل الحاكم صاحب مصر تمصولت «1» الأسود الحاكمىّ [بمغربى «2» ] فضرب
وطيف به على حمار، ونودى عليه:
هذا جزاء من يحبّ أبا بكر وعمر؛ ثم أمر به فضربت عنقه. رحمه الله
تعالى.
وفيها نازل السلطان محمود بن سبكتكين سجستان وأخذها من صاحبها خلف ابن
أحمد بالأمان.
وفيها لم يحجّ أحد من العراق خوفا من الأصيفر الأعرابىّ.
وفيها زلزل الشام والعواصم والثغور، فمات تحت الهدم خلائق كثيرة.
وفيها توفّى إسماعيل بن حمّاد أبو نصر الجوهرىّ، مصنّف كتاب" الصّحاح"
فى اللغة. كان أصله من فاراب أحد بلاد الترك، وكان يضرب المثل به في
حفظ اللغة وحسن الكتابة؛ وخطّه يذكر مع خط ابن مقلة ومهلهل واليزيدىّ.
وكان يؤثر الغربة على الوطن، دخل بلاد ربيعة ومضر في طلب العلم واللغة.
وفي كتابه الصحاح يقول إسماعيل «3» بن محمد النيسابورىّ:
(4/207)
[المنسرح]
هذا كتاب الصّحاح سيّد ما «1» ... صنّف قبل الصحاح في الأدب
يشمل أنواعه ويجمع ما ... فرّق في غيره من الكتب
مات الجوهرىّ متردّيا من سطح داره «2» بنيسابور.
وفيها توفّى أمير المؤمنين الطائع لله أبو بكر عبد الكريم ابن الخليفة
المطيع لله الفضل ابن الخليفة المقتدر بالله جعفر ابن الخليفة المعتضد
بالله أحمد الهاشمىّ العباسى البغدادىّ. وأمّه أمّ ولد. ولى الخلافة
بعد أن خلع والده المطيع نفسه لمرض تمادى به في ذى القعدة سنة ثلاث
وستين وثلثمائة؛ فدام في الخلافة إلى أن خلع بعد القبض عليه في شعبان
سنة إحدى وثمانين وثلثمائة، وبويع القادر بالله بالخلافة.
واستمرّ الطائع محبوسا في دار عند القادر مكرّما إلى أن مات في هذه
السنة في ليلة عيد الفطر؛ وصلّى عليه القادر وكبّر عليه خمسا. ومات
الطائع وله ثلاث «3» وسبعون سنة.
وفيها توفّى محمد بن عبد الرّحمن بن العباس بن عبد الرّحمن بن زكرياء
الحافظ أبو طاهر البغدادىّ الذهبىّ المخلّص محدّث العراق. قال الخطيب
أبو بكر: كان ثقة. مولده في شوّال سنة خمس وثلثمائة، وسمع الكثير وروى
عنه غير واحد.
(4/208)
وفيها توفّى إبراهيم بن أحمد [بن محمد أبو
إسحاق «1» ] الطبرىّ المقرئ شيخ الشهود ومقدّمهم ببغداد والبصرة
والكوفة ومكة والمدينة. قرأ القرآن وسمع الكثير، وكان مالكىّ المذهب،
وحجّ فأمّ بالناس بالمسجد الحرام أيّام الموسم؛ وما تقدّم فيه إمام ليس
بقرشىّ سواه. وقرأ عليه الرضىّ الموسوىّ القرآن. وسكن بغداد وحدّث بها
إلى أن توفّى بها رحمه الله.
وفيها توفّى محمد بن عبد «2» الله [بن محمد بن محمد «3» ] بن حليس «4»
السّلامىّ الشاعر المشهور، كان فصيحا بليغا. ومن شعره وهو في المكتب
وهو أوّل قوله:
[المنسرح]
بدائع الحسن فيه مفترقه ... وأعين «5» الناس فيه متّفقه
سهام ألحاظه مفوّقة ... فكلّ من رام وصله «6» رشقه
قال الثعالبىّ في حقّه: هو من أشعر أهل العراق قولا بالإطلاق، وشهادة
بالاستحقاق. ثم قال بعد ما أثنى عليه: وقال الشعر وهو ابن عشر «7»
سنين.
وفيها توفّيت ميمونة بنت ساقولة الواعظة البغدادية، كان لها لسان حلو
في الوعظ.
قالت: هذا قميصى له اليوم سبع وأربعون سنة ألبسه وما تخرّق، غزلته لى
أمّى؛ الثوب إذا لم يعص الله فيه لا يتخرّق.
(4/209)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس
أذرع وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة ست عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 394]
السنة الثامنة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة أربع وتسعين
وثلثمائة.
فيها قلّد بهاء الدولة الشريف أبا أحمد الحسين بن موسى الموسوىّ قضاء
القضاة والحجّ والمظالم ونقابة الطالبيين، ولقّبه [الطاهر «1» ] الأوحد
ذا المناقب؛ فلم ينظر في القضاء لامتناع الخليفة القادر بالله من الإذن
له في ذلك.
وفيها حجّ بالناس من العراق أبو الحارث محمد العلوىّ؛ فاعترض الركب
الأصيفر الشّيعىّ الأعرابىّ، وعوّل على نهبهم؛ فقالوا: من يكلّمه
ويقرّر له ما يأخذه من الحاجّ؟ فقدّموا أبا الحسين بن الرّفّاء «2»
وأبا عبد الله بن الدّجاجىّ، وكانا من أحسن الناس قراءة؛ فدخلا عليه
وقرأ بين يديه؛ فقال لهما: كيف عيشكما ببغداد؟
قالا: نعم العيش، تصلنا الخلّع والصّلات. فقال: هل وهبوا لكما ألف ألف
دينار في مرّة واحدة؟ قالا: لا، ولا ألف دينار؛ فقال: قد وهبت لكما
الحاجّ وأموالهم؛ فدعوا له وانصرفوا وفرح الناس. ولمّا قرأ بعرفات قال
أهل مصر والشام: ما سمعنا عنكم تبذيرا «3» مثل هذا، يكون عندكم شخصان
مثل هذين فتصحبوئهما معكم معا، فإن هلكا فبأىّ شىء تتجمّلون بعد ذلك!.
ومن حسن قراءتهما وطيب
(4/210)
صوتهما اخذهما أبو الحسن بن بويه مع أبى عبد الله بن البهلول «1» ،
فكانوا يصلّون به بالنوبة التراويح، وهم أحداث السنّ.
وفيها توفّى الحسن بن محمد بن إسماعيل أبو علىّ الإسكافىّ الملقّب
بالموفّق.
كان بهاء الدولة قد فوّض إليه أموره وقام بتدبير ملكه. وكان شجاعا
مقداما، لا يتوجّه في أمر إلّا وينصر. وارتفع أمره حتّى قال رجل أبهاء
الدولة: يا مولانا، زينّك الله في عين الموفّق. ولا زال الناس به حتّى
قبض عليه بهاء الدولة وخنقه.
وفيها توفّى خلف بن القاسم بن سهل الحافظ أبو القاسم الأندلسىّ، كان
يعرف بابن الدبّاغ، مولده سنة خمس وعشرين وثلثمائة، كان حافظا مكثرا
جمع مسند الإمام مالك بن أنس رضى الله عنه، وحديث شعبة بن الحجّاج،
وأسامى «2» المعروفين بالكنى من الصحابة والتابعين وسائر المحدّثين،
وكان أعلم الناس برجال الحديث والتواريخ والتفسير.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع سواء. مبلغ الزيادة
سبع عشرة ذراعا وخمس عشرة إصبعا. |