النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 395]
السنة التاسعة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة خمس وتسعين
وثلثمائة.
فيها حجّ بالعراقيّين أبو جعفر [بن «3» ] شعيب، ولحقهم عطش كبير في
طريقهم فهلك خلق كثير.
(4/211)
وفيها قتل الحاكم صاحب مصر جماعة بمصر من
أعيانها صبرا.
وفيها كانت وقعة بين بهاء الدولة «1» بن بويه وبين عميد الجيوش، انكسر
فيها عميد الجيوش وانهزم أقبح هزيمة.
وفيها خرج أبو ركوة «2» على الحاكم، وتعاظم أمره حتّى عزم الحاكم على
الخروج إلى الشام، وبرز إلى بلبيس بالعساكر والأموال، فأشير عليه
بالعود إلى مصر فعاد وجهّز إليه جيشا فواقعوه غير مرّة حتّى هزموه، حسب
ما ذكرناه في أصل ترجمة الحاكم من هذا المحلّ، ونذكره أيضا في السنة
الآتية.
وفيها توفّى أحمد بن محمد البشرىّ «3» الصوفىّ المحدّث، رحل في طلب
الحديث وجاور بمكة مدّة وصار شيخ الحرم، ثمّ عاد إلى مصر فتوفّى
بالطريق بين مصر ومكّة، وكان صالحا ثقة.
وفيها توفّى أحمد بن فارس بن زكريّاء بن محمد بن حبيب أبو الحسين
الرازىّ، وقيل: القزوينى المعروف بالرازىّ المالكىّ اللغوىّ نزيل
همذان، وصاحب" المجمل" فى اللغة. سمع الحديث وروى عنه جماعة، وولد
بقزوين ونشأ بهمذان، وكان أكثر مقامه بالرّىّ، وكان كاملا في الأدب
فقيها مالكيا مناظرا في الكلام
(4/212)
وينصر أهل السّنة، وطريقته في النحو طريقة
الكوفيين. وله مصنّفات بديعة.
ومن شعره قوله:
[السريع]
مرّت بنا هيفاء مجدولة ... تركيّة تنمى لتركىّ
ترنو بطرف فاتن فاتر ... أضعف من حجّة نحوىّ
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن أحمد بن عمر الزاهد أبو الحسين بن أبى نصر
النّيسابورىّ الخفّاف. قال الحاكم «1» : كان مجاب الدعوة، وسماعاته
صحيحة بخطّ أبيه من أبى العباس «2» السرّاج وأقرانه، وبقى واحد عصره في
علوّ الإسناد؛ ومات في شهر ربيع الأوّل. قال الحاكم: وصلّيت عليه وله
ثلاث وتسعون سنة.
وفيها توفّى محمد بن إسحاق بن محمد بن يحيى بن مندة- واسم مندة إبراهيم
بن الوليد ابن سيدة- الحافظ الكبير أبو عبد الله العبدىّ الأصبهانىّ
المعروف بابن مندة؛ رحل وطوّف الدنيا، وجمع وصنّف وكتب ما لا ينحصر.
وحدّث عن أبيه وعمّ أبيه عبد الرّحمن بن يحيى وخلق كثير، وروى عنه
جماعة. قال أبو نعيم «3» - وهو معاصره-:
ابن مندة حافظ من أولاد المحدّثين، توفّى في سلخ ذى القعدة، واختلط في
آخر عمره.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم سبع أذرع وخمس عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث أصابع.
(4/213)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 396]
السنة العاشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة ستّ وتسعين
وثلثمائة.
فيها حجّ بالناس من العراق محمد بن محمد بن عمر العلوىّ، وخطب بالحرمين
للحاكم صاحب مصر على العادة، وأمر الناس بالحرمين بالقيام عند ذكر
الحاكم، وفعل مثل ذلك بمصر وغيرها؛ فكان إذا ذكر قاموا وسجدوا في السوق
وفي مواضع الاجتماع.
وفيها جلس الخليفة القادر بالله العباسىّ لأبى المنيع قرواش بن أبى
حسّان ولقّبه بمعتمد الدولة؛ وتفرّد قرواش المذكور بالإمارة وحده.
وفيها توفّى إسماعيل بن أحمد بن إبراهيم بن إسماعيل أبو سعد الجرجانىّ،
كان عالما بفنون العلم «1» والحديث والفقه والعربية، ودخل بغداد وعقد
مجلس المناظرة، وحضره أبو الطيّب الطّبرىّ وأبو حامد الإسفراينى.
وفيها توفّى عبد الوهاب بن الحسن بن الوليد بن موسى الكلابىّ المحدّث
أبو الحسين الدمشقىّ، يعرف بأخى تنوك، سمع الكثير وروى عنه الناس.
قال عبد العزيز الكتّانى «2» : كان ثقة نبيلا مأمونا. وكانت وفاته في
شهر ربيع الأوّل، ومات وهو مسند وقته.
الذين ذكر الذهبىّ وفاتهم في هذه السنة، قال: وفيها توفّى الحافظ أبو
عمر أحمد بن عبد الله بن محمد بن على بن الباجىّ «3» فى المحرّم. وأبو
الحسن أحمد بن محمد بن
(4/214)
عمران بن الجندىّ، وهو ضعيف. وأبو سعد
إسماعيل بن أبى بكر الإسماعيلىّ شيخ الشافعية. وأبو الحسين عبد الوهاب
بن الحسن الكلابىّ في [شهر] ربيع الأول، وله تسعون سنة. والقاضى أبو
الحسن على بن محمد بن إسحاق الحلبىّ بمصر. وأبو بكر محمد ابن [الحسن
«1» بن] الفضل بن المأمون. وأبو بكر محمد بن على بن النضر «2»
الدّيباجىّ.
وأبو بكر محمد بن عمر بن زنبور الورّاق.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وعشر أصابع. مبلغ
الزيادة ست عشرة ذراعا وست عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 397]
السنة الحادية عشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة سبع وتسعين
وثلثمائة.
فيها دخل بهاء الدولة البصرة وملكها واستولى على ذخائر ابن واصل «3» .
وفيها استفحل أمر أبى ركوة الذي خرج على الحاكم، وذكرنا أمره في
الماضية، ودعا لعمّه هشام الأموىّ. وأبو ركوة المذكور اسمه الوليد، وهو
من ذريّة هشام ابن عبد الملك بن مروان؛ وعظم أمره وانضم عليه الخلائق
واستولى على برقة وغيرها، وكسر عسكر الحاكم، وضرب السّكّة، وصعد المنبر
وخطب خطبة بليغة، ولعن الحاكم وآباءه، وصلّى بالناس وعاد إلى دار
الإمارة، وقد استولى على جميع ما كان فيها.
وعرف الحاكم بما جرى فانزعج وكفّ عن القتل وانقطع عن الركوب الذي كان
(4/215)
يواصله؛ ثم جهّز الحاكم إلى حرب أبى ركوة
قائدا من الأتراك يقال له ينّال الطويل، وأرسل معه خمسة آلاف فارس-
وكان معظم جيش ينّال [من] كتامه، وكانت مستوحشة من ينال فإنه قتل كبار
كتامة بأمر الحاكم- فتوجّه ينّال وواقع أبا ركوة فهزمه أبو ركوة وأخذه
أسيرا، وقال له: العن الحاكم، فبصق في وجه أبى ركوة؛ فأمر أبو ركوة به
فقطّع إربا إربا. وأخذ أبو ركوة مائة ألف دينار كانت مع ينال وجميع ما
كان معه، فقوى أمره أكثر ما كان. واشتدّ الأمر على الحاكم أكثر وأكثر
بكسر ينال؛ وبعث إلى الشام واستدعى الغلمان الحمدانيّة والقبائل وأنفق
عليهم الأموال وجهّزهم، وجعل عليهم الفضل بن عبد الله؛ فطرقهم أبو ركوة
وكسرهم وساق خلفهم حتّى نزل عند الهرمين بالجيزة؛ وغلّق الحاكم أبواب
القاهرة؛ ثمّ عاد أبو ركوة إلى عسكره. فندب الحاكم العساكر ثانيا، فسار
بهم الفضل في جيوش كثيرة، والتقى مع أبى ركوة فهزمه وقتل من عسكره نحو
ثلاثين ألفا. ثم ظفر الفضل بأبى ركوة وسار به مكرما إلى الحاكم. وسبب
إكرامه له خوفه عليه من أن يقتل نفسه، وقصد الفضل أن يأتى به الحاكم
حيّا. فأمر الحاكم أن يشهّر أبو ركوة على جمل ويطاف به. وكانت القاهرة
قد زيّنت أحسن زينة، وكان بها شيخ يقال له الأبزارىّ، إذا خرج خارجىّ
صنع له طرطورا وعمل فيه ألوان الخرق المصبوغة وأخذ قردا ويجعل في يده
درّة ويعلّمه [أن] يضرب بها الخارجىّ من ورائه، ويعطى مائة دينار وعشر
قطع قماش. فلمّا قطع أبو ركوة الجيزة أمر به الحاكم، فأركب جملا
بسنامين وألبس الطّرّطور وأركب الأبزارىّ خلفه والقرد بيده الدّرّة وهو
يضربه والعساكر حوله، وبين يديه خمسة عشر فيلا مزيّنة؛ ودخل القاهرة
على هذا الوصف ورءوس أصحابه بين يديه على الخشب والقصب؛ وجلس الحاكم فى
منظرة على باب الذهب، والترك والديلم عليهم السلاح وبأيديهم اللّتوت
وتحتهم
(4/216)
الخيول بالتّجافيف «1» حول أبى ركوة؛ وكان
يوما عظيما، وأمر به الحاكم أن يخرج إلى ظاهر القاهرة ويضرب عنقه على
تلّ بإزاء مسجد «2» ريدان خارج القاهرة. فلمّا حمل إلى هناك أنزل فإذا
به ميّت فقطع رأسه وحمل به إلى الحاكم؛ فأمر بصلب جسده. وارتفعت منزلة
الفضل عند الحاكم بحيث إنّه مرض فعاده مرّتين أو ثلاثا، وأقطعه إقطاعات
كثيرة ثم عوفى من مرضه، وبعد أيام قبض عليه الحاكم وقتله شرّ قتلة.
وفيها كسا الحاكم الكعبة القباطىّ البيض، وبعث مالا لأهل الحرمين.
وفيها توفّى عبد الصمد بن عمر بن محمد بن إسحاق أبو القاسم الدّينورىّ
الواعظ الزاهد، كان فقيها زاهدا عابدا محدّثا منقطعا عن الناس، وهو من
كبار الشيوخ رحمه الله.
وفيها توفّى الشيخ الإمام العالم الحافظ أبو الحسن على بن عمر القصّار
«3» المالكىّ ببغداد.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع وأربع أصابع. مبلغ
الزيادة أربع عشرة ذراعا وستّ عشرة إصبعا.
(4/217)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 398]
السنة الثانية عشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة ثمان وتسعين
وثلثمائة.
فيها في يوم عاشوراء عمل أهل الكرخ [ما جرت به «1» ] العادة من النّوح
وغيره.
واتفق يوم عاشوراء يوم المهرجان؛ فأخّره عميد الجيوش إلى اليوم الثانى
مراعاة لأجل الرافضة، هذا ما كان «2» ببغداد. فأمّا مصر فإنه كان يفعل
بها في يوم عاشوراء من النوح والبكاء والصّراخ وتعليق المسوح أضعاف ذلك
لا سيّما أيّام خلفاء مصر بنى عبيد، فإنّهم كانوا أعلنوا الرّفض وسبّ
الصحابة من غير تستّر ولا خيفة.
وفيها كانت فتنة عظيمة بين أهل السّنة والرافضة ببغداد.
وفيها زلزلت الدّينور فهدمت المنازل وأهلكت ستة عشر ألف إنسان، وخرج من
سلم إلى الصحراء وبنوا لهم أكواخا من القصب، وذهب من الأموال ما لا
يعدّ ولا يخصى.
وفيها هدم الحاكم بيعة «3» قمامة التى ببيت المقدس وغيرها من الكنائس
بمصر والشام، وألزم أهل الذمّة بما ذكرناه في ترجمة الحاكم.
وفيها توفّى أحمد بن الحسين بن يحيى بن سعيد أبو الفضل الهمذانىّ
الملقّب ببديع الزمان، صاحب الرسائل الرائقة، وصاحب المقامات [الفائقة
«4» ] ؛ التى على منوالها نسج الحريرىّ مقاماته، واعترف له بالفضل
عليه. وكان إمام وقته في المنثور
(4/218)
والمنظوم. ومن كلامه النثر: الماء إذا طال
مكثه، ظهر خبثه؛ وإذا سكن متنه، تحرّك نتنه. و [له من «1» تعزية] :
الموت خطب قد عظم حتّى هان، ومسّ [قد «2» ] خشن حتّى لان؛ والدنيا [قد
«3» ] تنكّرت حتّى صار الموت أخفّ خطوبها، وجنّت حتّى صار أصغر ذنوبها.
وله من هذا أشياء كثيرة. وأمّا شعره فجيّد إلى الغاية.
من ذلك قوله من جملة قصيدة: [البسيط]
وكاد يحكيك صوب الغيث منسكبا ... لو كان طلق المحيّا يمطر الذّهبا
والدهر لو لم يخن والشمس لو نطقت ... والليث لو لم يصد والبحر لو عذبا
وكانت وفاته في هذه السنة بمدينة هراة.
وفيها توفّى عبد الواحد «4» بن نصر بن محمد أبو الفرج المخزومىّ
النّصيبىّ الشاعر المشهور المعروف بالببّغاء والببّغاء هو الطير
المعروف بالدّرّة، وقيل غيرها. خدم الببغاء المذكور سيف الدولة بن
حمدان ومدحه؛ وكان شاعرا مجيدا وكاتبا مترسّلا، جيّد المعانى حسن القول
في المدائح. ومن شعره: [الكامل]
وكأنّما نقشت حوافر خبله ... للناظرين أهلّة في الجلمد
وكأنّ طرف الشمس مطروف وقد ... جعل الغبار له مكان الإثمد
وفيها توفّى عبد الله بن محمد أبو محمد البخارىّ الخوارزمىّ الفقيه
الشافعى، كان فقيها فصيحا أديبا يرتجل الخطب الطّوال ويقول الشعر على
البديهة. ومن شعره:
[الخفيف]
كم حضرنا وليس يقضى التلاقى ... نسأل الله غير هذا الفراق
إن أغب لم تغب وإن لم تغب غبت ... كأنّ افتراقنا باتفاق
(4/219)
وفيها توفّى أبو منصور بن بهاء الدولة،
وقيل: إنّ اسمه بويه. كان أبوه بهاء الدولة يخافه، ومنع الخدم «1» من
الكلام معه وضيّق عليه. ولمّا مات وجد عليه وجدا عظيما، وليس السواد،
وواصل البكاء والحزن إلى أن اجتمع إليه وجوه الديلم وسألوه أن يرجع إلى
عادته.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم خمس أذرع سواء. مبلغ الزيادة
أربع عشرة ذراعا وتسع أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 399]
السنة الثالثة عشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة تسع وتسعين
وثلثمائة.
فيها لحق الحاجّ عند عودهم من مكة الأصيفر الأعرابىّ، وقرّر عليهم أبو
الحارث محمد بن محمد بن عمر العلوىّ أمير الحاجّ مالا فأوردوه، ودخلوا
الكوفة بعد أن لاقوا مشقّة شديدة، وأقاموا بها حتّى أرسل إليهم أبو
الحسن على بن مزيد «2» أخاه حمّادا فحملهم إلى المدائن، ثمّ دخلوا
بغداد.
وفيها صرف أبو عمر «3» عبد الواحد عن قضاء البصرة، ووليها أبو الحسن بن
أبى الشّوارب. فقال العصفرىّ «4» الشاعر في هذه المعنى:
[المجتث]
عندى حديث ظريف ... بمثله يتغنّى
من قاضيين يعزّى ... هذا وهذا يهنّى
(4/220)
فذا يقول اكرهونا ... وذا يقول استرحنا
ويكذبان جميعا ... ومن يصدّق منّا
وفيها ولّى الحاكم القائد أبا الجيش حامد بن ملهم أميرا على دمشق بعد
علىّ بن جعفر بن فلاح، فوليها سنة وأربعة أشهر، ثم عزل بمحمد «1» بن
بزال.
وفيها لم يحجّ أحد من العراق خوفا من العطش والعرب، وخرجوا ثمّ عادوا.
وفيها توفّيت يمنى أمّ القادر. كانت مولاة عبد الواحد بن الخليفة
المقتدر، وكانت من أهل الدين والصلاح. وصلّى عليها القادر في داره
وكبّر أربعا، وحملت إلى الرّصافة في طيّار فدفنت بها.
وفيها توفّى الأمير لؤلؤ غلام سيف الدولة بن حمدان صاحب حلب والذي كان
واقع العزيز نزارا والد الحاكم؛ وقد تقدّم ذكر ذلك في ترجمة العزيز
مفصّلا. كان لؤلؤ شجاعا مقداما. ولما مات لؤلؤ تولّى الملك بعده ابنه
مرتضى الدولة، وهرب بعد ذلك إلى الروم.
وفيها توفّى هشام بن الحكم بن عبد الرّحمن الأموىّ صاحب الأندلس، ولقبه
المؤيّد، وهو من ذرّية مروان بن الحكم الأموىّ وهو عمّ أبى ركوة الذي
كان خرج على الحاكم المقدّم ذكره، وباسمه كان يخطب أبو ركوة المذكور.
ولى هشام هذا الملك وله تسع سنين، وأقام واليا على الأندلس تسعا
وثلاثين سنة.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ذراعان وستّ عشرة إصبعا. مبلغ
الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
(4/221)
*** [ما وقع من
الحوادث سنة 400]
السنة الرابعة عشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة أربعمائة.
فيها أرجف بموت الخليفة القادر، فجلس للناس «1» بعد صلاة الجمعة ودخل
عليه القضاة والأشراف، وعليه أبّهة الخلافة، وقبّل أبو حامد الإسفراينى
يده.
وفيها أرسل الحاكم إلى المدينة إلى دار جعفر الصادق من فتحها وأخذ منها
ما كان فيها، وكان فيها مصحف وسرير وآلات، وكان الذي فتحها ختكين
العضدىّ الداعى، وحمل معه رسوم الأشراف، وعاد إلى مصر بما وجد في
الدار؛ وخرج معه من شيوخ العلويّين جماعة؛ فلمّا وصلوا إلى الحاكم أطلق
لهم نفقات قليلة [وردّ «2» عليهم السرير] وأخذ الباقى، وقال: أنا أحقّ
به؛ فانصرفوا داعين عليه.
وشاع فعله «3» فى الأمور التى خرق العادات فيها، ودعى عليه في أعقاب
الصلوات وظوهر بذلك، فأشفق فخاف؛ وأمر بعمارة دار العلم وفرشها، ونقل
إليها الكتب العظيمة وأسكنها من شيوخ السنّة شيخين، يعرف أحدهما بأبى
بكر الأنطاكىّ، وخلع عليهما وقرّبهما ورسم لهما بحضور مجلسه وملازمته
«4» ، وجمع الفقهاء والمحدّثين إليها، وأمر أن يقرأ بها فضائل الصحابة،
[ورفع عنهم «5» الاعتراض في ذلك] وأطلق صلاة التراويح والضحى، وغيّر
الأذان وجعل مكان" حىّ على خير العمل"" الصلاة خير من النوم"؛ وركب
بنفسه الى جامع عمرو بن العاص وصلّى فيه الضحى، وأظهر الميل الى مذهب
الإمام مالك والقول به، ووضع للجامع تنّورا من فضة
(4/222)
يوقد فيه ألف ومائتا فتيلة، واثنين آخرين
من دونه. وزفّهم بالدبادب والبوقات والتهليل والتكبير، ونصبهم ليلة
النصف من شعبان؛ وحضر أوّل يوم من رمضان الى الجامع الذي بالقاهرة،
وحمل إليه الفرش الكثيرة وقناديل الذهب والفضة، فكثر الدعاء له؛ ولبس
الصوف في هذه السنة يوم الجمعة عاشر شهر رمضان، وركب الحمار وأظهر
النسك وملأ كمّه دفاتر، وخطب بالناس يوم الجمعة وصلّى بهم؛ ومنع من أن
«1» يخاطب يا مولانا ومن تقبيل الأرض بين يديه؛ وأقام الرواتب لمن يأوى
المساجد من الفقراء «2» والقرّاء والغرباء وأبناء السبيل، وأجرى لهم
الأرزاق؛ وصاغ محرابا عظيما من فضة وعشرة قناديل؛ ورصّع المحراب
بالجوهر ونصبه بالمسجد الجامع. وأقام على ذلك ثلاث سنين يحمل الطّيب
والبخور والشموع إلى الجوامع، وفعل ما لم يفعله أحد. ثم بدا له بعد ذلك
فقتل الفقيه أبا بكر الأنطاكى والشيخ الآخر وخلقا كثيرا أخر من أهل
السنّة لا لأمر يقتضى ذلك؛ وفعل ذلك كلّه في يوم واحد. وأغلق دار
العلم، ومنع من جميع ما كان فعله؛ وعاد إلى ما كان عليه أوّلا من قتل
العلماء والفقهاء وأزيد؛ ودام على ذلك حتّى مات قتيلا حسب ما ذكرناه.
وفيها توفّى الحسين بن موسى بن محمد بن إبراهيم بن موسى بن جعفر الصادق
الشريف أبو أحمد الموسوى، والد الشريف الرضى والمرتضى. مولده في سنة
أربع وثلثمائة. وكان سيّدا عظيما مطاعا، كانت هيبته أشدّ من هيبة
الخلفاء؛ خاف منه عضد الدولة فاستصفى أمواله. وكانت منزلته عند بهاء
الدولة أرفع المنازل، ولقّبه بالطاهر والأوحد وذى المناقب، وكان فيه
كلّ الخصال الحسنة إلا أنّه كان رافضيّا هو وأولاده على مذهب القوم.
ومات ببغداد عن سبع وتسعين سنة، وصلى
(4/223)
عليه ابنه المرتضى، ودفن في داره ثم نقل
إلى مشهد الحسين، ورثاه ولده المرتضى.
وفيها توفّى أبو الحسين بن الرفّاء القارئ المجيد الطيّب الصوت الذي
ذكرنا قصته مع الأصيفر الأعرابىّ عند ما اعترض الحاجّ في سنة أربع
وتسعين؛ وكانت وفاته ببغداد.
وفيها توفّى أبو عبد الله القمّى التاجر المصرىّ، كان بزّاز خزانة
الحاكم؛ مات فى ذى القعدة بين مصر ومكة، وحمل إلى البقيع «1» ودفن به،
وكان ذا مال عظيم؛ خرج في هذه السنة مع حجّاج مصر بعد أن اشتملت وصيّته
على ألف ألف دينار غير المتاع والقماش والجوهر.
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع سواء. مبلغ الزيادة
ستّ عشرة ذراعا وثلاث وعشرون إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 401]
السنة الخامسة عشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة إحدى
وأربعمائة.
فيها خطب أبو المنيع قرواش بن المقلّد الملقّب بمعتمد الدولة للحاكم
صاحب مصر بالموصل. وكان الحاكم قد استماله؛ فجمع معتمد الدولة أهل
الموصل وأظهر طاعة الحاكم، فأجابوه وفي القلوب ما فيها؛ فأحضر الخطيب
يوم الجمعة رابع المحرّم و [خلع «2» ] عليه قباء دبيقيّا وعمامة صفراء
وسراويل ديباج أحمر وخفّين أحمرين، وقلّده سيفا، وأعطاه نسخة ما يخطب
به وأوّلها:
(4/224)
«الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله،
والله أكبر ولله الحمد. الحمد لله الذي انجلت بنوره غمرات الغضب،
وانهدّت بقدرته أركان النصب، وأطلع بقدره شمس الحقّ من الغرب «1» ؛
الذي محا بعدله جور الظّلمة، وقصم بقوّته ظهر الغشمة «2» ؛ فعاد الأمر
إلى نصابه، والحقّ إلى أربابه؛ البائن بذاته، المنفرد بصفاته، الظاهر
بآياته، المتوحّد بدلالاته؛ لم تفنه الأوقات فتسبقه الأزمنة، ولم يشبه
الصور فتحويه الأمكنة، ولم تره العيون فتصفه الألسنة؛ سبق كلّ موجود
وجوده، وفات كلّ جود جوده؛ واستقرّ في كلّ عقل توحيده، وقام في كلّ
مرأى شهيده.
أحمده كما يجب على أوليائه الشاكرين تحميده، وأستعينه على القيام بما
يشاء ويريده، وأشهد له بما شهد أصفياؤه وشهوده. وأشهد أن لا إله إلا
الله وحده لا شريك له شهادة لا يشوبها دنس الشرك، ولا يعتريها «3» وهم
الشكّ؛ خالصة من الإدهان، قائمة بالطاعة والإذعان.
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم، اصطفاه واختاره لهداية
الخلق، وإقامة الحق؛ فبلّغ الرسالة وأدّى الأمانه، وهدى من الضلاله؛
والناس حينئذ عن الهدى غافلون، وعن سبيل الحقّ ضالّون؛ فأنقذهم من
عبادة الأوثان، وأمرهم بطاعة الرّحمن؛ حتى قامت حجج الله وآياته، وتمّت
بالتبليغ كلماته؛ صلى الله عليه وعلى أوّل مستجيب إليه علىّ أمير
المؤمنين، وسيّد الوصيّين؛ أساس الفضل والرحمة، وعماد العلم والحكمة؛
وأصل الشجرة الكرام البررة، النابتة [فى «4» ] الأرومة المقدّسة
المطهّرة؛ وعلى خلفائه الأغصان البواسق [من تلك «5» الشجرة] ، وعلى ما
خلص منها وزكا من الثمرة.
(4/225)
أيّها الناس، اتقوا الله حقّ تقاته،
وارغبوا في ثوابه واحذروا من عقابه، فقد تسمعون ما يتلى عليكم من
كتابه؛ قال الله عزّ وجلّ: (يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ
بِإِمامِهِمْ)
. فالحذر ثمّ الحذر، فكأنّى وقد أفضت بكم الدنيا إلى الآخرة، وقد بان
أشراطها، ولاح سراطها؛ ومناقشة حسابها، والعرض «1» على كتابها؛ (فَمَنْ
يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ
ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ)
. اركبوا سفينة نجاتكم قبل أن تغرقوا، (وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ
جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا)
؛ وأنيبوا إليه خير الإنابة، وأجيبوا داعى الله على باب الإجابة؛ قبل
(أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ
اللَّهِ ...
- إلى قوله:- فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)
. تيقّظوا من الغفلة والفترة، قبل الندامة والحسره؛ وتمنّى الكرّ
والتماس الخلاص، ولات حين مناص؛ وأطيعوا إمامكم ترشدوا، وتمسّكوا بولاة
العهود تهتدوا؛ فقد نصب الله لكم علما لتهتدوا به، وسبيلا لتقتدوا به؛
جعلنا الله وإياكم ممن تبع مراده، وجعل الإيمان زاده، والهمّة تقواه
ورشاده؛ أستغفر الله العظيم لى ولكم ولجميع المؤمنين» . ثم جلس وقام
وقال:
«الحمد لله ذى الجلال والإكرام، وخالق الأنام ومقدّر الأقسام، المنفرد
بحقيقة البقاء والدوام؛ فالق الإصباح، وخالق الأشباح، وفاطر الأرواح؛
أحمده أوّلا وآخرا، وأشكره باطنا وظاهرا، وأستعين به إلها قادرا، و
[أستنصره «2» ] وليّا ناصرا.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدا عبده ورسوله،
شهادة من أقرّ بوحدانيته إيمانا، واعترف بربوبيته إيقانا؛ وعلم برهان
ما يدعو إليه، وعرف حقيقة الدلالة عليه. اللهمّ وصلّ على وليّك الأزهر،
وصديقك الأكبر؛ علىّ بن أبى طالب أبى الخلفاء الراشدين المهديّين.
اللهمّ وصلّ على السّبطين الطاهرين
(4/226)
الحسن والحسين؛ وعلى الأئمة الأبرار،
والصفوة الأخيار؛ من أقام منهم وظهر، ومن خاف فاستتر. اللهمّ وصلّ على
الإمام المهدىّ بك، والذي بلّغ «1» بأمرك، وأظهر حجّتك؛ ونهض بالعدل في
بلادك، هاديا لعبادك. اللهمّ وصلّ على القائم بأمرك، والمنصور بنصرك،
اللذين بذلا نفوسهما في رضائك، وجاهدا أعداءك. اللهمّ وصلّ على المعزّ
لدينك، المجاهد في سبيلك؛ المظهر للآيات الخفيّه، والحجج الجلية.
اللهمّ وصلّ على العزيز بك الذي مهّدت به البلاد، وهديت به العباد.
اللهمّ واجعل نوامى صلواتك، وزواكى بركاتك؛ على سيّدنا ومولانا إمام
الزمان، وحصن الإيمان؛ وصاحب الدعوة العلويّه، [و «2» ] الملّة
النبويه؛ عبدك ووليّك المنصور أبى علىّ الحاكم بأمر الله أمير
المؤمنين؛ كما صلّيت على آبائه الراشدين، وأكرمت أجداده المهديّين.
اللهمّ وفّقنا لطاعته، واجمعنا على كلمته ودعوته؛ واحشرنا في حزبه
وزمرته. اللهمّ وأعنه على ما ولّيته، واحفظه فيما استرعيته، وبارك له
«3» فيما آتيته؛ وانصر جيوشه و [أعل] أعلامه في مشارق الأرض ومغاربها؛
إنك على كل شىء قدير» .
فلما سمع الخليفة القادر ذلك أزعجه وأرسل عميد الجيوش في تجهيز
العساكر.
فلما بلغ قرواشا ذلك أرسل يعتذر للخليفة، وأبطل دعوة الحاكم من بلاده
وأعادها للقادر على العادة.
وفيها لم يحجّ أحد من العراق خوفا من الأعراب، وحجّ الناس من مصر
وغيرها.
وفيها ولّى الحاكم لؤلؤ بن عبد الله الشيرازىّ «4» دمشق، ولقّبه بمنتخب
الدولة؛ فقدم إليها في جمادى الآخرة من الرقّة، ثم عزله عنها في يوم
عيد الأضحى، وولّى عوضه
(4/227)
أبا المطاع ذا القرنين «1» بن حمدان، وكان
يوم الجمعة فصلّى لؤلؤ بالناس العيد وأبو المطاع الجمعة. وحمل لؤلؤ الى
بعلبك، فقتل بها بأمر الحاكم.
وفيها توفّى أبو على الأمير عميد الجيوش واسمه الحسين بن [أبى «2» ]
جعفر. كان أبوه من حجّاب عضد الدولة بن بويه؛ وجعل ابنه هذا برسم صمصام
الدولة، فخدم المذكور صمصام الدولة وبهاء الدولة؛ فولّاه بهاء الدولة
العراق، فقدمها والفتن قائمة، فقتل وصلب وغرّق حتى بلغ من هيبته أنه
أعطى غلاما له صينيّة فضّة فيها دنانير، فقال: خذها على رأسك وسر من
النجمى الى الماصر الأعلى، فإن اعترضك معترض فأعطه إياها واعرف المكان؛
فجاء الغلام وقد انتصف الليل، وقال مشيت الحدّ جميعه فلم يلقنى أحد.
وفيها توفّى أحمد بن محمد بن عبد الرّحمن أبو عبيد الهروىّ اللغوىّ
المؤدّب، مصنّف الغريبين في اللغة، لغة القرآن ولغة الحديث، ومات في
شهر رجب.
وفيها توفّى علىّ بن محمد أبو الفتح البستى «3» الكاتب الشاعر. قال
الحاكم: «هو واحد عصره، وحدّثنى أنه سمع الكثير من أبى حاتم بن حبّان»
. انتهى. قلت:
وهو صاحب النظم الرائق، والنثر الفائق. ومن كلامه النثر: من أصلح
فاسده، أرغم حاسده. عادات السادات، سادات العادات. ومن شعره رحمه الله
تعالى:
(4/228)
[الوافر]
أعلّل بالمنى روحى لعلّى ... أروّح بالأمانى الهمّ عنى
وأعلم أنّ وصلك لا يرجّى ... ولكن لا أقلّ من التمنّى
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم أربع أذرع وثمانى عشرة إصبعا.
مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وثمانى عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 402]
السنة السادسة عشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة اثنتين
وأربعمائة.
فيها في شهر ربيع الآخر كتب الخليفة القادر العباسىّ محضرا في معنى
الخلفاء المصريّين والقدح في أنسابهم وعقائدهم، وقرئت النسخ ببغداد،
وأخذت فيها خطوط القضاة والأئمة والأشراف بما عندهم من العلم بمعرفة
نسب الديصانيّة؛ قالوا:" وهم منسوبون الى ديصان بن سعيد الخرّمى «1»
إخوان الكافرين، ونطف الشياطين؛ شهادة يتقرّبون «2» بها الى الله،
ومعتقدين ما أوجب الله على العلماء أن ينشروه للناس؛ فشهدوا جميعا «3»
أن الناجم بمصر وهو منصور بن نزار الملقب بالحاكم- حكم الله عليه
بالبوار والخزى والنكال- ابن معدّ بن إسماعيل بن عبد الرّحمن بن سعيد-
لا أسعده الله- فإنه لمّا صار الى المغرب تسمّى بعبيد الله وتلقّب
بالمهدىّ، هو ومن تقدّمه «4» من سلفه الأرجاس الأنجاس- عليه وعليهم
اللعنة- أدعياء
(4/229)
خوارج لا نسب لهم في ولد علىّ بن أبى طالب،
وأن ذلك باطل وزور، وأنهم لا يعلمون «1» أن أحدا من الطالبيّين توقّف
عن إطلاق القول في هؤلاء الخوارج إنهم أدعياء. وقد كان هذا الإنكار
شائعا بالحرمين في أوّل أمرهم بالمغرب، منتشرا انتشارا يمنع من أن
يدلّس على أحد كذبهم، أو يذهب وهم الى تصديقهم؛ وأن هذا الناجم بمصر هو
وسلفه «2» كفّار وفسّاق فجّار زنادقة، ولمذهب الثنويّة «3» والمجوسيّة
معتقدون؛ قد عطّلوا الحدود، وأباحوا الفروج، وسفكوا الدماء، وسبّوا
الأنبياء، ولعنوا السلف، وادّعوا الربوبيّة. وكتب في [شهر] ربيع الآخر
سنة اثنتين وأربعمائة» . وكتب خلق كثير في المحضر المذكور منهم الشريف
الرضى والمرتضى أخوه، وابن الأزرق الموسوىّ، ومحمد بن محمد بن عمر بن
أبى يعلى العلويّون، والقاضى أبو محمد عبد الله بن الأكفانىّ، والقاضى
أبو القاسم الجزرىّ، والإمام أبو حامد «4» الإسفراينى، والفقيه أبو
محمد الكشفلى «5» ، والفقيه أبو الحسين القدورىّ «6» الحنفىّ، والفقيه
أبو على بن حمكان «7» وأبو القاسم «8» التنوخىّ، والقاضى أبو عبد الله
(4/230)
الصّيمرىّ «1» . انتهى أمر المحضر باختصار.
فلما بلغ الحاكم قامت قيامته وهان فى أعين الناس لكتابة هؤلاء العلماء
الأعلام في المحضر.
وفيها حجّ بالناس من العراق أبو الحارث محمد بن محمد بن عمر العلوىّ،
وهبّت عليهم ريح سوداء وفقدوا الماء ولقوا شدائد.
وفيها توفّى أحمد بن مروان أبو نصر، وقيل: أبو منصور، ممهّد الدولة
الكردىّ صاحب ميّافارقين. وقد ذكرنا مقتل الحسن «2» بن مروان على باب
آمد، وأنهم من غير بيت في الرياسة، وأنهم وثبوا على ديار بكر وملكوها.
ووقع لأحمد هذا أمور ووقائع وحروب.
وفيها توفّى عبد الرّحمن بن محمد بن عيسى بن فطيس بن أصبغ بن فطيس أبو
المطرّف الإمام قاضى الجماعة بقرطبة، سمع الحديث وروى عنه جماعة، وكان
من الحفّاظ وكبار العلماء، عارفا بعلل الحديث والرجال، وله مشاركة في
سائر العلوم.
وفيها توفّى محمد بن أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرّحمن بن يحيى بن
جميع أبو الحسين الصّيداوىّ الغسّانىّ. رحل [إلى] البلاد وسمع الكثير،
وروى عنه غير واحد. ولد سنة خمس وثلثمائة، وكان ثقة محدّثا كبير الشأن،
ووفاته فى شهر رجب.
وفيها توفّى محمد بن عبد الله بن الحسن أبو الحسين بن اللبّان البصرىّ
العلامة صاحب الفرائض، سمع الحديث وبرع في الفرائض حتى إنه كان يقول:
ليس في الدنيا فرضىّ إلّا من أصحابى وأصحاب أصحابى «3» أو لا يحسن
شيئا.
(4/231)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم
ذراعان وثمانى أصابع. مبلغ الزيادة ستّ عشرة ذراعا وعشر أصابع.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 403]
السنة السابعة عشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة ثلاث
وأربعمائة.
فيها في يوم الجمعة سادس عشر المحرّم قلّد الشريف الرضى نقابة
الطالبييّن بسائر الممالك.
وفيها أرسل الحاكم صاحب الترجمة كتابا إلى السلطان محمود بن سبكتكين
صاحب غزنة يدعوه الى طاعته، فبعث محمود بالكتاب إلى القادر بعد أن خرقه
وبصق في وسطه.
وفيها لم يحجّ أحد من العراق.
وفيها توفّى الحسن بن حامد بن على بن مروان أبو عبد الله الفقيه
الحنبلىّ الورّاق، كان مدرّس الحنابلة وفقيههم، وله مصنّفات، منها
كتاب" الجامع" أربعمائة جزء.
وهو شيخ القاضى أبى يعلى «1» الفرّاء، وكان معظّما في النفوس مقدّما
عند السلطان، وكان زاهدا ورعا، ينسخ بالأجرة ويتقوّت منه.
وفيها توفّى السلطان فيروز أبو نصر بهاء الدولة بن عضد الدولة بويه بن
ركن الدولة حسن بن بويه [بن] فنّاخسرو الديلمىّ، وقيل: اسمه خاشاد.
وبهاء الدولة هذا هو الذي قبض على الخليفة الطائع وخلعه من الخلافة،
وولّى القادر الخلافة
(4/232)
عوضه، وقد ذكرنا ذلك في وقته. وكان بهاء
الدولة ظالما غشوما سفّاكا للدماء، حتى إنه كان خواصّه يهربون من قربه.
وجمع من المال ما لم يجمعه أحد من بنى بويه إلا إن كان عمه فخر الدولة
المقدّم ذكره. ولم يكن في ملوك بنى بويه أظلم منه ولا أقبح سيرة. وكان
به مرض الصرع يصرع في دست الملك؛ ورث ذلك عن أبيه، ومات به في أرّجان
في يوم الاثنين خامس جمادى الاخرة. وكانت مدّة سلطنته أربعا وعشرين سنة
وتسعة أشهر وأياما، ومات وله اثنتان وأربعون سنة وتسعة أشهر، وحمل من
أرّجان إلى الكوفة. وتولّى الملك من بعده ولده أبو شجاع بعهد منه.
وفيها توفّى قابوس بن وشمكير أمير الجبال بنيسابور وغيرها. كان أيضا
سيّئ السيرة، قتل جماعة من خواصّه وحجّابه ففسدت القلوب عليه، ودبّروا
في قتله وقصدوا ابنه منوجهر، ولا زالوا به حتى قبض على أبيه قابوس هذا
وقتله بالبرد «1» ، ثم قتل منوجهر جماعة ممن أشار عليه بقتل أبيه، وندم
حين لا ينفع الندم.
وفيها توفّى الشريف محمد بن محمد بن عمر العلوىّ أبو الحارث نقيب
الطالبيّين بالكوفة. كان شجاعا جوادا ديّنا رئيسا، كانت إليه النقابة
مع تسييرا لحاجّ، حجّ بالناس عشر «2» سنوات، وكان ينفق عليهم [من ماله
«3» ] ويحمل المنقطعين رحمه الله. ومات بالكوفة في جمادى الآخرة.
وفيها توفّى علىّ بن محمد بن خلف الإمام أبو الحسن المعافرىّ القروىّ
القابسىّ «4» الفقيه المالكىّ. كان عالم أهل إفريقيّة حجّ وسمع جماعة،
وأخذ بإفريقيّة عن
(4/233)
ابن مسرور «1» الدبّاغ وغيره، وكان حافظا
للحديث وعلله، فقيها أصوليّا متكلّما مصنّفا صالحا، وكان أعمى لا يرى
شيئا، وهو مع ذلك من أصحّ الناس كتبا وأجودهم تقييدا، يضبط كتبه ثقات
أصحابه؛ والذي ضبط له صحيح البخارىّ بمكة رفيقه أبو محمد الأصيلىّ «2»
.
وفيها توفّى محمد بن الطيّب بن محمد بن جعفر بن القاسم القاضى أبو بكر
الباقلانى البصرىّ صاحب التصانيف في علم الكلام، سكن بغداد وكان في
وقته أوحد زمانه، صنّف في الردّ على الرافضة والمعتزلة والخوارج
والجهميّة «3» . وذكره القاضى عياض فى طبقات الفقهاء المالكية فقال:
«هو الملقّب بسيف السنّة، ولسان الأمّة، المتكلّم على لسان أهل الحديث،
وطريق أبى الحسن الأشعرىّ، وإليه انتهت رياسة المالكية» .
وفيها توفّى محمد بن موسى أبو بكر الخوارزمىّ الحنفىّ شيخ الحنفيّة
وعالمهم ومفتيهم، انتهت إليه رياسة الحنفية في زمانه، وكان تفقّه على
أبى بكر أحمد بن علىّ الرازىّ، وسمع الحديث من أبى بكر الشافعىّ، وروى
عنه أبو بكر البرقانىّ «4» . قال القاضى أبو عبد الله الصّيمرىّ بعد ما
أثنى عليه: «وما شاهد الناس مثله في حسن الفتوى [والإصابة فيها «5» ]
وحسن التدريس. وقد دعى إلى ولاية الحكم مرارا فامتنع تورّعا» . ومات في
جمادى الأولى.
(4/234)
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم
ذراعان وثلاث وعشرون إصبعا.
مبلغ الزيادة سبع عشرة ذراعا واثنتا عشرة إصبعا.
*** [ما وقع من الحوادث سنة 404]
السنة الثامنة عشرة من ولاية الحاكم منصور على مصر وهى سنة أربع
وأربعمائة.
فيها قلّد فخر الملك الأمر، ولقّبه الخليفة القادر سلطان الدولة وعقد
لواءه بيده، وقرئ تقليده، وكتب القادر خطّه عليه.
وفيها أبطل الحاكم المنجّمين من بلاده، وأعتق أكثر مماليكه، وجعل ولىّ
عهده ابن عمه عبد الرّحيم بن إلياس وخطب له بذلك؛ وأمر بحبس النساء «1»
فى البيوت، وصلحت سيرته.
وفيها حجّ بالناس من العراق أبو «2» الحسن محمد بن الحسن، وكذلك في سنة
خمس «3» .
وفيها كانت الملحمة الهائلة بين ملك الترك طغان وبين ملك الصين، فقتل
فيها من الكفّار نحو من مائة ألف، ودامت الحرب بينهم أياما، ثم انتصر
المسلمون (أعنى الترك) ولله الحمد.
وفيها استولى الحاكم على حلب وزال ملك بنى حمدان منها.
(4/235)
وفيها توفّى إبراهيم بن عبد الله بن حصن أبو إسحاق الغافقىّ محتسب دمشق
من قبل الحاكم، وكان شهما في الحسبة؛ أدّب رجلا، فلما ضربه درّة، قال
المضروب:
هذه في قفا أبى بكر؛ فلمّا ضربه أخرى قال: هذه في قفا عمر؛ فضربه أخرى
فقال: هذه في قفا عثمان؛ ثم ضربه أخرى فسكت. فقال له الغافقىّ: أنت ما
تعرف ترتيب الصحابة، أنا أعرّفك، وأفضلهم أهل بدر، لأصفعنّك على عددهم
فصفعه ثلثمائة وستّ عشرة درّة؛ فحمل من بين يديه فمات بعد أيام. قلت:
الى سقر. وبلغ الحاكم ذلك، فأرسل يشكره ويقول: هذا جزاء من ينتقص السلف
الصالح. قلت: لعلّ هذه الواقعة كانت صادفت من الحاكم أيام صلاحه
وإظهاره الزهد والتفقّه.
وفيها توفّى الحسين بن أحمد بن جعفر أبو عبد الله، كان زاهدا عابدا لا
ينام إلا عن غلبة، وكان لا يدخل الحمّام، ويأكل خبز الشعير؛ ومات في
شعبان.
وفيها توفّى على بن سعيد الإصطخرىّ أحد شيوخ المعتزلة، صنّف للقادر"
الردّ على الباطنية" وأجرى عليه القادر جراية سنيّة وحبسها من بعده على
بنيه «1» .
أمر النيل في هذه السنة- الماء القديم ثلاث أذرع سواء. مبلغ الزيادة
سبع عشرة ذراعا سواء. |